الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
[قُرِئ على أبي جعفرٍ محمدِ بنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ، في سنةِ ستٍّ وثلاثِمائةٍ، قال]
(2)
:
الحمدُ للَّهِ الذي حَجَّت
(3)
الألبابَ بَدائعُ حُكْمِه
(4)
، وخصَمَت العقولَ لَطائفُ حُجَجِه، وقَطعَت عُذْرَ المُلْحِدِين عَجائبُ صُنْعِه، وهتَف
(5)
في أسماعِ العالمين ألْسُنُ أدلَّتِه، شاهدةً أنه اللَّهُ الذي لا إلهَ إلَّا هو، الذي لا عِدْلَ له مُعادِلٌ
(6)
، ولا مِثْلَ له مُماثِلٌ، ولا شريكَ له مُظاهِرٌ، ولا ولدَ له ولا والدٌ، ولم يَكُنْ له صاحبةٌ، ولا كُفُوًا أحدٌ، وأنه الجبارُ الذي خضَعَت لجَبروتِه الجَبابرةُ، والعزيزُ الذي ذلَّت لعزَّتِه الملوكُ الأعِزَّةُ، وخشَعَت لمَهابةِ سَطْوتِه
(7)
ذَوُو المَهابةِ، وأذْعَن له جميعُ الخلقِ بالطاعةِ، طَوْعًا وكَرْهًا، كما قال جلَّ ثناؤه وتقدَّسَتْ أسماؤه:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15].
* الأرقام التي بين المعقوفين أرقام المخطوط المشار له بالرمز ت 1، وهو أحد نسخ مكتبة الفاتح التي حصلنا عليها من مكتبة آياصوفيا.
(1)
بعده في ص: "رب تمم برحمتك"، وفي م:"وبه ثقتي وعليه اعتمادي رب يسر"، وفي ت 1:"وبه نستعين".
(2)
في ص: "قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله"، ومثله في ت 1 دون قوله:"الإمام".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"حجبت".
(4)
في ت 2: "حكمته".
(5)
في ت 1، ت 2:"هتفت".
(6)
سقط من: ر، ت 2.
(7)
في ت 2: "سطواته".
فكلُّ موجودٍ إلى وَحْدانيتِه داعٍ، وكلُّ مَحْسوسٍ إلى ربُوبيتِه هادٍ، بما وسَمهم به مِن آثارِ الصَّنْعةِ؛ مِن نقصٍ وزيادةٍ، وعجزٍ وحاجةٍ، وتصَرُّفٍ في عاهاتٍ عارضةٍ
(1)
، ومُقارَنةِ أحداثٍ لازمةٍ؛ لِتَكونَ له الحُجَّةُ البالغةُ، ثم أرْدَف ما شهِدت به مِن ذلك أدلتُه، وأكَّد ما اسْتَنارت في القلوبِ منه بهجتُه، برسلٍ ابْتَعَثهم إلى
(2)
عبادِه، دُعاةً إلى ما اتَّضَحَت لديهم صحتُه، وثبَتَت في العقولِ حُجَّتُه؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. ولِيَذَّكَّرَ أولو النُّهَى والحِلْمِ، فأمَدَّهم بعونِه، وأبانَهم مِن سائرِ خلقِه، بما دلَّ به على صدقِهم مِن الأدلةِ، وأيَّدَهم به مِن الحُجَجِ البالغةِ، والآيِ المُعْجِزةِ؛ لئلا يقولَ القائلُ منهم
(3)
: {مَا هَذَا
(4)
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33، 34].
فجعَلهم سُفَراءَه
(5)
بينَه وبينَ خلقِه، وأُمناءَه على وَحْيِه، واخْتَصَّهم بفضلِه، واصْطَفاهم برسالتِه، ثم جعَلهم فيما خصَّهم به مِن مَواهبِه، ومَنَّ به عليهم مِن كَراماتِه - مَراتبَ مُختلفةً، ومَنازلَ مُفْتَرقةً، ورفَع بعضَهم فوقَ بعضٍ دَرَجاتٍ مُتَفاضِلاتٍ مُتَبايِناتٍ؛ فكرَّم بعضَهم بالتَّكْليمِ والنَّجْوَى، وأيَّد بعضَهم برُوحِ القُدُسِ، وخصَّه بإحياءِ الموتى، وإبْراءِ أُولِي العاهةِ والعَمَى، وفضَّل نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن الدرجاتِ بالعُلْيا، ومِن المراتبِ بالعُظْمَى، فحَباه مِن أقسامِ كَرامتِه بالقسمِ الأفْضلِ، وخصَّه مِن درجاتِ النبوَّةِ بالحظِّ الأجْزَلِ، ومِن الأتْباعِ والأصحابِ بالنصيبِ الأوْفرِ، وابْتَعَثه بالدَّعوةِ التامَّةِ، والرسالةِ العامةِ، وحاطه
(1)
في ر: "المعارضة".
(2)
بعده في م، ت 1:"من يشاء من".
(3)
في م "فيهم".
(4)
في ص: "هؤلاء"، وفي ر، ت 2:"هو".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2:"سفراء".
وحيدًا، وعصَمه
(1)
فَريدًا، مِن كلِّ جبارٍ عاندٍ، وكلِّ شيطانٍ ماردٍ، حتى أظْهَر به الدينَ، وأوْضَح به السبيلَ، وأنْهَج
(2)
به مَعالمَ الحقِّ، ومحَق به مَنارَ الشركِ، وزهَق به الباطلُ، واضْمَحَلَّ به الضلالُ، وخُدَعُ الشيطانِ، وعبادةُ الأصنامِ والأوْثانِ، مُؤَيَّدًا بدَلالةٍ على الأيامِ باقيةٍ، وعلى الدُّهورِ والأزْمانِ ثابتةٍ، وعلى مرِّ
(3)
الشهورِ والسنينَ دائمةٍ، يَزدادُ ضِياؤُها على كَرِّ الدُّهورِ إشْراقًا، وعلى مرِّ الليالي والأيامِ ائْتِلاقًا
(4)
، خِصِّيصَى
(5)
مِن اللَّهِ له بها دونَ سائرِ رسلِه الذين قهَرَتهم الجبَابرةُ، واسْتَذَلَّتهم الأممُ الفاجرةُ، فتعفَّت بعدَهم منهم الآثارُ، وأخْمَلَت ذكرَهم الليالي والأيامُ، ودونَ مَن كان منهم مُرْسَلًا إلى أمةٍ دونَ أمةٍ، وخاصةٍ دونَ عامَّةٍ، وجماعةٍ دون كافَّةٍ.
فالحمدُ للَّهِ الذي كرَّمَنَا بتصديقِه، وشرَّفَنا باتِّباعِه، وجعَلَنا مِن أهلِ الإِقْرارِ والإيمانِ به، وبما دعا إليه وجاء به، صلى اللَّهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم، أزْكَى صَلواتِه، وأفضلَ سلامِه، [وأتمَّ تحيّاتِه]
(6)
.
ثُمَّ أمَّا بعدُ، فإن مِن جَسيمِ ما خصَّ اللَّهُ به أمَّةَ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن الفَضيلةِ، وشرَّفهم به على سائرِ الأممِ مِن المنازلِ الرفيعةِ، وحَبَاهم به مِن الكرامةِ السَّنِيّةِ، حِفْظَه ما حفِظ عليهم جل ذكرُه وتقدَّست أسماؤُه، مِن وحيِه وتَنْزِيلِه، الذي جعَله على
(1)
سقط من: ر.
(2)
في ر، ت 2:"أبهج".
(3)
في م: "ممر".
(4)
في ر، ت 2:"انفلاقًا".
(5)
في م: "تخصيصا". يقال: خصه بالشيء، خصًّا وخصوصًا وخصوصية وخصيصى، ويمد: إذا فضله دون غيره.
(6)
زيادة من: م.
حقيقةِ نُبُوَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم دَلالةً، وعلى ما خصَّه به مِن الكرامةِ علامةً واضحةً، وحُجَّةً بالغةً، أبانه به مِن كلِّ كاذبٍ ومُفْتَرٍ، وفصَل به بينَهم وبينَ كلِّ جاحدٍ ومُلْحِدٍ، وفرَق به بينَهم وبينَ كلِّ كافرٍ ومشركٍ، الذي لو اجْتَمَع جميعُ مَن بينَ أقطَارِها؛ مِن جِنِّها وإنْسِها، وصغيرِها وكبيرِها، على أن يأتوا بسورةٍ من مثلِه، لم يأتوا بمثلِه ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظَهيرًا
(1)
، فجعَله لهم في دُجَى الظُّلَمِ نورًا ساطعًا، وفي سُدَفِ
(2)
الشُّبَهِ
(3)
شِهابًا لامعًا، وفي مَضَلَّةِ المَسَالكِ دليلًا هاديًا، وإلى سُبُلِ النجاةِ والحقِّ حاديًا، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]. حرَسه بعينٍ منه لا تَنامُ، وحاطه برُكْنٍ منه لا يُضامُ، لا تَهِي على الأيامِ دَعائمُه، ولا تَبِيدُ على طولِ الأزمانِ مَعالمُه، ولا يَجورُ
(4)
عن قصدِ المَحَجَّةِ تابعُه، ولا يَضِلُّ عن سُبُلِ الهُدَى مُصاحِبُه، مَن اتَّبَعه فاز وهَدَى، ومَن حاد عنه ضلَّ وغَوَى، فهو مَوْئِلُهم الذي إليه عندَ الاخْتلافِ يَئِلون، ومَعْقِلُهم الذي إليه في النَّوازل يَعْتَقِلون
(5)
، وحِصْنُهم الذي به مِن وَساوسِ الشيطانِ يَتَحَصَّنون، وحِكْمةُ ربِّهم التي إليها يَحْتَكِمون، وفَصْلُ قَضائِه بينَهم الذي إليه يَنْتَهون، وعن الرِّضا به يَصْدُرون، وحَبْلُه الذي بالتَّمَسُّكِ
(6)
به مِن الهَلَكةِ يَعْتَصِمون.
اللهم فوفِّقْنا لإصابةِ صَوابِ القولِ في مُحْكَمِه ومُتَشابِهِه، وحَلالِه وحَرامِه،
(1)
اقتباس من الآية 88 من سورة الإسراء.
(2)
السدف، واحدها سدفة: وهي ظلمة الليل يخالطها بعض الضوء، وتكون في أول الليل وآخره. ينظر تاج العروس (س د ف).
(3)
في ص، ت 1:"الشبهة".
(4)
في ر: "يجوز".
(5)
في ر: "يعقلون".
(6)
في ر: "يتمسك".
وعامِّه وخاصِّه، ومُجْمَلِه ومُفَسَّرِه، وناسخِه ومَنْسوخِه، وظاهرِه وباطنِه، وتأْويلِ آيِه، وتفسيرِ مُشْكِلِه، وألْهِمْنا التمسكَ به، والاعْتِصامَ بمُحْكَمِه، والثَّباتَ
(1)
على التسليمِ لمُتَشابِهِه، وأوْزِعْنا الشكرَ على ما أنْعَمْتَ به علينا، مِن حفظِه، والعلمِ بحُدودِه، إنك سميعُ الدعاءِ، قريبُ الإجابةِ، وصلى اللَّهُ على محمدٍ النبيِّ وآلِه، وسلَّم تسليمًا.
اعْلَموا عبادَ اللَّهِ، رحِمكم اللَّهُ، أن أحقَّ ما صُرِفت إلى علمِه العِنايةُ، وبُلِغت في معرفتِه الغايةُ، ما كان للَّهِ في العلمِ به رِضًا، وللعالمِ به إلى سبيلِ الرشادِ هُدًى، وأنّ أجْمَعَ ذلك لباغيه، كتابُ اللَّهِ الذي لا ريبَ فيه، وتَنْزيلُه الذي لا مِرْيةَ فيه، الفائزُ بجَزيلِ الذُّخْرِ وسَنِيِّ الأجرِ تاليه، الذي لا يَأْتيه الباطلُ مِن بينِ يديه ولا مِن خلفِه، تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ
(2)
.
ونحن في شرحِ تأويلِه وبيانِ ما فيه مِن معانيه، مُنْشِئون، إن شاء اللَّهُ ذلك، كتابًا مُسْتَوْعِبًا لكلِّ ما بالناسِ إليه الحاجةُ مِن علمِه، جامعًا، ومِن سائرِ الكتبِ غيرِه في ذلك كافيًا، ومُخْبِرون في كلِّ ذلك بما انْتَهَى إلينا مِن اتفاقِ الحجةِ فيما اتَّفَقَت عليه منه، واختلافِها فيما اختَلَفَت فيه منه، ومُبَيِّنو
(3)
عِلَلِ كلِّ مذهبٍ مِن مذاهبِهم، ومُوَضِّحو الصحيحِ لدينا مِن ذلك، بأوْجَزِ ما أمْكَن مِن الإيجازِ في ذلك، وأخْصَرِ ما أمْكَن مِن الاخْتِصارِ فيه، واللَّهَ أسْأَلُ
(4)
عونَه وتوفيقَه لما يُقَرِّبُ مِن مَحابِّه، ويُبْعِدُ مِن مَساخِطِه، وصلَّى اللَّهُ على صَفْوتِه مِن خلقِه وعلى آلِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
(1)
في ر: "البيان".
(2)
اقتباس من الآية 42 من سورة فصلت.
(3)
في ص: "مبينون"، وفي ر، ت 2:"مثبتو".
(4)
في ر: "يسأل"، وفي م:"نسأل"، وفي ت 2:"يسأله".
و
(1)
أولُ ما نَبْدَأُ به مِن القِيلِ في ذلك الإبانةُ عن الأسبابِ التي البِدايةُ بها أَوْلَى، وتقديمُها قبلَ ما عداها أحْرَى؛ وذلك البيانُ عما في آيِ القرآنِ مِن المعاني التي مِن قِبَلِها يَدْخُلُ اللَّبْسُ على مَن لم يُعانِ رِياضةَ العلومِ العربيةِ، ولم تَسْتَحْكِمْ معرفتُه بتَصاريفِ وُجوهِ مَنْطِقِ الألسنِ السَّلِيقيَّةِ الطبيعيةِ.
القولُ في البيانِ عن اتِّفاقِ مَعاني آيِ القرآنِ ومعاني مَنْطِقِ مَن نزَل بلسانِه مِن وجهِ البيانِ، والدَّلالةُ على أن ذلك مِن اللَّهِ - جل وعز - هو الحكمةُ البالغةُ، مع الإبانةِ
(2)
عن فضلِ المعنى الذي به بايَن القرآنُ سائرَ الكلامِ
قال أبو جعفرٍ: إن مِن عظيمِ
(3)
نعمِ اللَّهِ على عبادِه، وجَسيمِ مِنَّتِه
(4)
على خلقِه، ما منَحهم مِن فضلِ البَيانِ، الذي به عن ضمائرِ صُدورِهم يُبينون، وبه على عَزائمِ نفوسِهم يَدُلُّون، فذلَّل به منهم الألسنَ، وسهَّل به عليهم المُسْتَصْعبَ، فبه إياه يُوَحِّدون، وإياه به يُسَبِّحون ويُقَدِّسون، وإلى حاجاتِهم به يَتَوَصَّلون، وبه بينَهم يَتَحاوَرون، فيتَعارَفون ويَتَعامَلون.
ثم جعَلهم جل ذكرُه - فيما منَحهم مِن ذلك - طبقاتٍ، ورفَع بعضَهم فوقَ بعضٍ درجاتٍ، فبَيْنَ خَطيبٍ مُسْهِبٍ، وذَلِقِ اللسانِ مُهْذِبٍ، ومُفْحَمٍ عن نفسِه لا يُبِينُ، وعَيِيٍّ عن ضميرِ قلبِه لا يُعَبِّرُ، وجعَل أعْلاهم فيه رُتْبةً، وأرْفَعَهم فيه درجةً، أبْلَغَهم فيما أراد به بلاغًا، وأبينَهم عن نفسِه به بيانًا، ثم عرَّفهم في تنزيلِه ومُحْكَمِ
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2:"إن".
(2)
في ر: "الأمانة".
(3)
في ص، ر:"أعظم".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"مننه".
آيِ كتابِه، فضْلَ ما حَباهم به من البيانِ، على مَن فضَّلهم به عليه مِن ذي البَكَمِ والمُسْتَعْجِمِ اللسانِ، فقال تعالى ذكرُه:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
فقد وضَح إذن لذَوِي الأفْهامِ، وتبَيَّن لأُولي الألبابِ، أنَّ فضْلَ أهلِ البيانِ على أهلِ البَكَمِ والمُسْتَعْجِمِ اللسانِ، بفضلِ اقْتِدارِ هذا مِن نفسِه على إبانةِ ما أراد إبانتَه عن نفسِه ببيانِه، واسْتِعْجامِ لسانِ هذا عما حاوَل إبانتَه بلسانِه.
فإن كان ذلك كذلك، وكان المعنى الذي به بايَن الفاضلُ
(1)
المفضولَ في ذلك، فصار به فاضلًا، والآخرُ مفضولًا، هو ما وصَفْنا
(2)
مِن فضلِ إبانةِ ذي البيانِ عما قصَّر عنه المُسْتَعْجِمُ اللسانِ، وكان ذلك مُخْتَلِفَ الأقْدارِ، مُتَفاوِتَ الغاياتِ والنِّهاياتِ، فلا شكَّ أن أعْلَى منازلِ البيانِ دَرَجةً، وأسْنَى مَراتبِه مرتبةً، أبْلَغُه في حاجةِ المُبِينِ عن نفسِه، وأبينُه عن مرادِ قائلِه، وأقربُه
(3)
مِن فهمِ سامعِه، فإن تجاوَز ذلك المِقْدارَ، وارْتَفع عن وُسْعِ الأنامِ، وعجَز عن أن يأتِيَ بمثلِه جميعُ العبادِ، كان حُجَّةً وعَلَمًا لرسلِ الواحدِ القهارِ، كما كان حجةً وعَلَمًا لها إحياءُ الموتى وإبراءُ الأبْرصِ وذَوِي العَمَى، بارتفاعِ ذلك عن مقاديرِ أعلى منازلِ طبِّ المتطبِّبِين، وأرْفَعِ مراتبِ علاجِ المُعالجِين، إلى ما يَعْجِزُ عنه جميعُ العالَمِين، وكالذي كان لها حُجَّةً وعَلَمًا قطعُ مسافةِ شهرَيْن في الليلةِ الواحدةِ، بارتفاعِ ذلك عن وُسْعِ الأنامِ، وتعَذُّرِ مثلِه على جميعِ العبادِ، وإن كانوا على قطعِ القليلِ مِن المسافةِ قادرين، ولليسيرِ منه فاعلين.
(1)
بعده في ر: "و".
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2:"به".
(3)
في ر، ت 1:"بهم".
فإن كان ما وصَفْنا مِن ذلك كالذي وصَفْنا، فبَيِّنٌ ألا بيانَ أبْيَنُ، ولا حِكْمةَ أبلغُ، ولا مَنْطِقَ أعلى، ولا كلامَ أشرفُ، مِن بيانٍ ومَنْطِقٍ تحَدَّى به امرُؤٌ قومًا، في زمانٍ هما فيه رُؤساءُ صناعةِ الخُطَبِ والبلاغةِ، وقِيل الشعرِ والفَصاحةِ، والسَّجْعِ والكِهانة
(1)
، على
(2)
كلِّ
(3)
خطيبٍ منهم وبليغٍ، وشاعرٍ منهم وفَصيحٍ، وكلِّ ذي سَجْعٍ وكِهانةٍ - فسفَّه أحلامَهم، وقصَّر بعقولِهم
(4)
، وتبَرَّأ مِن دينِهم، ودعا جميعَهم إلى اتِّباعِه، والقَبولِ منه، والتَّصديقِ به، والإقرارِ بأنه رسولٌ إليهم مِن ربِّهم، وأخْبَرهم أنّ دَلالتَه على صدقِ مقالتِه، وحجّتَه على حقيقةِ نبوتِه، ما أتاهم به مِن البيانِ والحكمةِ والفُرْقانِ، بلسانٍ مثلِ ألسنتِهم، ومَنْطِقٍ موافقةٍ معانيه معانيَ مَنْطِقِهم، ثم أنْبَأ جميعَهم أنهم عن أن يأتوا بمثلِ بعضِه عَجَزةٌ، ومِن القُدْرةِ عليه نَقَصةٌ، قأقرَّ جميعُهم بالعجزِ، وأذْعَنوا له بالتَّصْديقِ، وشهِدوا على أنفسِهم بالنقصِ، إلا مَن تجاهَل منهم وتَعامَى، واسْتَكْبَر وتعاشَى، فحاوَل تكَلُّفَ ما قد علِم أنه عنه عاجزٌ، ورام ما قد تيَقَّن أنه عليه غيرُ قادرٍ، فأبْدَى مِن ضعفِ عقلِه ما كان مُسْتَتِرًا، ومن عِيِّ لسانِه ما كان مَصُونًا، فأتَى بما لا يَعْجِزُ عنه الضعيفُ الأخْرَقُ، والجاهلُ الأحمقُ، فقال
(5)
: والطاحناتِ طحنًا، والعاجناتِ عجنًا، فالخابزاتِ خبزًا، والثارداتِ ثَرْدًا، واللاقماتِ لَقْمًا. ونحو ذلك مِن الحَماقاتِ
(6)
المُشْبِهةِ دَعْواه الكاذبةَ.
(1)
إنما ضرب المثل بالكهان في السجع؛ لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، يستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع. اللسان (ك هـ ن).
(2)
زيادة من: ر.
(3)
سقط من: ص.
(4)
في م: "معقولهم".
(5)
يعني مسيلمة الكذاب. ينظر تاريخ المصنف 3/ 284، والبداية والنهاية 9/ 473.
(6)
في ص، ر:"الحمقات".
فإذْ كان تَفاضُلُ مراتبِ البَيانِ، وتَبايُنُ منازلِ دَرَجاتِ الكلامِ بما وصَفْنا قبلُ، وكان اللَّهُ تعالى ذِكْرُه وتقَدَّست أسماؤُه أحْكمَ الحُكماءِ، وأحْلَمَ الحُلماءِ، كان معلومًا أن أبينَ البيانِ بيانُه، وأفضلَ الكلامِ كلامُه، وأنَّ قدرَ فضلِ بيانِه جل ذكرُه على بيانِ
(1)
جميعِ خلقِه، كفضلِه على جميعِ عبادِه.
فإن كان ذلك كذلك، وكان غيرَ مُبِينٍ منا عن نفسِه مَن خاطَب غيرَه بما لا يَفْهَمُه عنه المخاطَبُ، كان معلومًا أنه غيرُ جائزٍ أن يُخاطِبَ جل ذكرُه أحدًا مِن خلقِه إلا بما يَفْهَمُه المخاطَبُ، ولا يُرْسِلَ إلى أحدٍ منهم رسولًا برسالةٍ إلا بلسانٍ وبيانٍ يَفْهَمُه المُرْسَلُ إليه؛ لأن [المُخاطَبَ و]
(2)
المُرْسَلَ إليه إن لم يَفْهَمْ ما خُوطِبَ به وأُرْسِل به إليه، فحالُه قبلَ الخطابِ وقبلَ مَجيءِ الرسالةِ إليه وبعدَه سَواءٌ، إذ لم يُفِدْه الخطابُ والرسالةُ شيئًا كان به قبلَ ذلك جاهلًا، واللَّهُ جل ذكرُه يَتَعالَى عن أن يُخاطِبَ خِطابًا أو يُرْسِلَ رسالةً لا تُوجِبُ فائدةً لمن خُوطِب أو أُرْسِلَت إليه؛ لأن ذلك فينا مِن فعلِ أهلِ النقصِ والعَبَثِ، واللَّهُ تعالى عن ذلك مُتَعالٍ، ولذلك قال جل ثناؤُه في مُحْكَمِ تَنْزيلِه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. وقال لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. فغيرُ جائزٍ أن يَكونَ به
(3)
مُهْتَدِيًا مَن كان بما
(4)
يُهْدَى إليه جاهلًا.
فقد تبَيَّنَ إذن - بما عليه دلَّلْنا مِن الدَّلالةِ - أن كلَّ رسولٍ للَّهِ جل
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
سقط من: ص.
(3)
سقط من: ر.
(4)
في م: "بها".
ثناؤُه أرْسَله إلى قومٍ، فإنما أرْسَله بلسانِ مَن أرْسَله إليه، وكلَّ كتابٍ أنْزَله على نبيٍّ، ورسالةٍ أرْسَلَها إلى أُمَّةٍ، فإنما أنْزَلَه بلسانِ مَن أنْزَلَه أو أرْسَله إليه. فاتَّضَح بما قلْنا ووصَفْنا أنَّ كتابَ اللَّهِ الذي أنْزَله إلى نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم[بلسانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذْ كان لسانُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم]
(1)
عربيًّا، فبَيِّنٌ أن القرآنَ عربيٌّ، وبذلك أيضًا نطَق مُحْكَمُ تنزيلِ ربِّنا، فقال جل ذكرُه:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]. وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]. وإذْ كانت واضحةً صحةُ ما قلْنا - بما عليه اسْتَشْهَدْنا مِن الشَّواهدِ، ودلَّلْنا عليه مِن الدَّلائلِ - فالواجبُ أن تكونَ معاني كتابِ اللَّهِ المُنَزَّلِ على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لمعاني كلامِ العربِ موافقةً، وظاهرُه لظاهرِ كلامِها ملائمًا، وإن بايَنه كتابُ اللَّهِ بالفَضيلةِ
(2)
التي فضَل بها سائرَ الكلامِ والبَيانِ، بما قد تقَدَّم وَصْفُناه
(3)
.
فإذْ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ - إذ كان موجودًا في كلامِ العربِ الإيجازُ والاخْتِصارُ، والاجْتِزاءُ
(4)
بالإخْفاءِ مِن الإظْهارِ، وبالقلةِ مِن الإكْثارِ في بعضِ الأحوالِ، واسْتِعْمالُ الإطالةِ والإكْثارِ، والتَّرْدادِ والتَّكْرارِ، وإظهارُ المعاني بالأسماءِ دونَ الكِنايةِ عنها
(5)
، والإسرارُ في بعضِ الأوقاتِ، والخبرُ عن الخاصِّ في المرادِ بالعامِّ الظاهرِ، وعن العامِّ في المرادِ بالخاصِّ الظاهرِ، وعن الكِنايةِ والمرادُ منه المُصَرَّحُ، وعن
(1)
سقط من: ص.
(2)
في ص: "بالفضلة".
(3)
في م، ت 2:"وصفنا".
(4)
في ص: "الإجزاء".
(5)
زيادة من: م.
الصفةِ والمرادُ الموصوفُ، وعن الموصوفِ والمرادُ الصفةُ، وتقديمُ
(1)
ما هو في المعنى مُؤَخَّرٌ، وتأخيرُ ما هو في المعنى مُقَدَّمٌ، والاكْتِفاءُ ببعضٍ مِن بعضٍ، وبما يَظْهَرُ عما يُحْذَفُ
(2)
، وإظهارُ ما حظُّه الحذفُ - أن يكونَ ما في كتابِ اللَّهِ المُنَزَّلِ على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن ذلك، في كلِّ ذلك له نَظيرًا، وله مِثْلًا وشَبيهًا
(3)
.
ونحن مُبَيِّنو جميعِ ذلك في أماكنِه، إن شاء اللَّهُ ذلك، وأيَّد
(4)
منه بعونٍ وقوةٍ.
القولُ في البَيانِ عن الأحْرُفِ التي اتَّفَقَت فيها ألفاظُ العربِ وأَلفاظُ غيرِها مِن بعضِ أجناسِ الأممِ
قال أبو جعفرٍ: إن سأَلَنا سائلٌ، فقال: إنك ذكَرْتَ أنه غيرُ جائزٍ أن يُخاطِبَ اللَّهُ أحدًا مِن خلقِه إلا بما يَفْهَمُه، وأن يُرْسِلَ إليه رسالةً إلا باللسانِ الذي يَفْقَهُه، فما أنت قائلٌ فيما حدَّثكم به محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا حَكَّامُ بنُ سَلْمٍ، قال: حدَّثنا عَنْبَسةُ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحْوَصِ، عن أبي موسى:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]. قال: الكِفْلان ضِعْفان مِن الأجرِ، بلسانِ الحبشةِ.
وفيما حدَّثكم به ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، قال حدَّثنا عَنْبَسةُ، عن أبي إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6].
(1)
في ص: "تقدير".
(2)
في ص: "يحد".
(3)
في ر: "تشبيها".
(4)
في م: "أمد".
قال: بلسانِ الحبشةِ إذا قام الرجلُ مِن الليلِ قالوا: نشَأ.
وفيما حدَّثكم به ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، قال. حدَّثنا عَنْبَسةُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي مَيْسَرةَ:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10]. قال: سبِّحي، بلسانِ الحبشةِ.
قال أبو جعفرٍ: وكُلُّ ما قلْنا في هذا الكتابِ: حدَّثكم. فقد حدَّثونا به.
وفيما حدَّثكم به محمدُ بنُ خالدِ بنِ خِداشٍ
(1)
الأزْدِيُّ، قال: حدَّثنا سَلْمُ
(2)
بنُ قُتَيْبةَ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن يوسفَ بنِ مِهْرانَ، عن ابنِ عباسٍ، رضي الله عنهما، أنه سُئِل عن قولِه:{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51]. قال: هو بالعربيةِ الأسدُ، وبالفارسيةِ شار
(3)
، وبالنَّبَطيةِ أريا، وبالحبشيةِ قَسْورةٌ.
وفيما حدَّثكم به ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرِ بنِ أبي المُغيرةِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: قالت قريشٌ: لولا أُنْزِل هذا القرآنُ
(4)
أعجميًّا وعربيًّا؟ فأنْزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]. فأنْزَل اللَّهُ بعدَ هذه الآيةِ في القرآنِ بكلِّ لسانٍ، فمنه
(5)
: {حِجَارَةً
(1)
في ص: "حداس"، وفي ر:"حداش"، وفي ت 2:"خراش". وينظر تهذيب الكمال 25/ 135.
(2)
في ر: "سالم"، وفي ت 2:"مسلم". وينظر تهذيب الكمال 11/ 232، 234.
(3)
كذا في النسخ، وفارسيته: شِيَر. ينظر المعجم الذهبي ص 381.
(4)
بعده في م، ت 2:"على رجل".
(5)
في ص، م، ت 1:"فيه".
مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]. قال: فارسيةٌ أُعْرِبَت "سنكَئْ وكَلْ"
(1)
.
وفيما حدَّثكم به محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: حدَّثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي مَيْسَرةَ، قال: في القرآنِ مِن كلِّ لسانٍ
(2)
.
وفيما أشْبَهَ ذلك مِن الأخْبارِ التي يَطُولُ بذكرِها الكتابُ، مما يَدُلُّ على أن فيه مِن غيرِ لسانِ العربِ؟
قيل له: إن الذي قالوه مِن ذلك غيرُ خارجٍ مِن معنى ما قلْنا - مِن أجلِ أنهم لم يقولوا: هذه الأحرفُ وما أشْبَهَها لم تَكُنْ للعربِ كلامًا، ولا كان ذاك لها مَنْطِقًا قبلَ نزولِ القرآنِ، ولا كانت بها العربُ عارفةً قبلَ مجيءِ الفُرْقانِ - فيكونَ ذلك قولًا لقولِنا خِلافًا، وإنما قال بعضُهم: حرفُ كذا بلسانِ الحبشةِ معناه كذا، وحرْفُ كذا بلسانِ العجمِ معناه كذا. ولم نَسْتَنْكِرْ أن يكونَ مِن الكلامِ ما يَتَّفِقُ فيه ألفاظُ جميعِ أجناسِ الأممِ المختلفةِ الألْسُنِ بمعنًى واحدٍ، فكيف بجنسَيْن منها؟ كما قد وجَدْنا اتفاقَ كثيرٍ منه فيما قد علِمْناه مِن الألسنِ المختلفةِ، وذلك كالدرهمِ والدينارِ والدَّوَاةِ والقلمِ والقِرْطاسِ، وغيرِ ذلك - مما يُتْعِبُ إحصاؤُه، ويُمِلُّ تَعدادُه، كرِهْنا إطالةَ الكتابِ بذكرِه - مما اتَّفَقَت فيه الفارسيةُ والعربيةُ باللفظِ والمعنى. ولعل ذلك كذلك في سائرِ الألسنِ التي يُجْهَلُ مَنْطِقُها، ولا يُعْرَفُ كلامُها.
فلو أن قائلًا قال فيما ذكَرْنا مِن الأشياءِ التي عدَدْنا، وأخْبَرْنا اتفاقَه في اللفظِ والمعنى بالفارسيةِ والعربيةِ، وما أشْبَه ذلك، مما سكَتْنا عن ذكرِه: ذلك كلُّه فارسيٌّ لا
(1)
سيأتي الكلام في سورة هود على هذه الكلمة.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 469 من طريق إسرائيل به، بلفظ: نزل القرآن بكل لسان. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى عبد بن حميد.
عربيٌّ، أو ذلك كلُّه عربيٌّ لا فارسيٌّ، أو قال: بعضُه عربيٌّ وبعضُه فارسيٌّ. أو قال: كان مَخْرَجُ أصلِه مِن عندِ العربِ، فوقَع إلى العجمِ فنطَقوا به. أو قال: كان مَخْرَجُ أصلِه مِن عندِ الفرسِ، فوقَع إلى العربِ فأعْرَبَته. كَانَ مُسْتَجْهَلًا؛ لأنَّ العربَ ليست بأوْلَى أن تكونَ كان مَخْرَجُ أصلِ ذلك منها إلى العجمِ، ولا العجمَ بأحقَّ أن تكونَ كان مخرجُ أصلِ ذلك منها إلى العربِ، إذْ كان استعمالُ ذلك بلفظٍ واحدٍ ومعنًى واحدٍ موجودًا في الجنسَيْن.
وإذْ كان ذلك موجودًا على ما وصَفْنا في الجنسَيْن، فليس أحدُ الجنسين بأَولى أن يكونَ أصلُ ذلك كان مِن عندِه مِات الجنسِ الآخرِ، والمُدَّعِي أنَّ مخرجَ أصلِ ذلك إنما كان من أحدِ الجنسين إلى الآخرِ - مُدَّعٍ
(1)
أمرًا لا يُوصَلُ إلى حقيقةِ صحَّتِه إلا بخبرٍ
(2)
يُوجِبُ العلمَ، ويُزِيلُ الشكَّ، ويَقْطَعُ العُذْرَ مَجِيئُه
(3)
.
بل الصوابُ في ذلك عندَنا أن يُسَمَّى عربيًّا أعْجميًّا، أو حبشيًّا عربيًّا؛ إذْ كانت الأُمَّتانِ له مستعملتَيْن في بيانِها ومنطلقِها، استعمالَ سائرِ مَنْطِقِها وبيانِها، فليس غيرُ ذلك مِن كلامِ كلِّ أمةٍ منهما بأولى أن يَكونَ إليها منسوبًا منه.
فكذلك سبيلُ كلِّ كلمةٍ واسمٍ اتَّفَقت ألفاظُ
(4)
أجناسِ أممٍ فيها وفي
(5)
معناها، ووُجِد ذلك مُسْتَعْمَلًا في كلِّ جنسٍ منها، استعمالَ سائرِ مَنْطِقِهم
(6)
، فسبيلُ
(1)
في ص: "يدعى".
(2)
في ر: "بخير"، وفي ت 1:"بمعنى".
(3)
في ص، م، ت 1:"صحته"، وفي ر:"جيئه". وجيئه ومجيئه بمعنًى.
(4)
سقط من: ر.
(5)
زيادة من: ر.
(6)
في ر: "منطقها".
إضافتِه إلى كلِّ جنسٍ منها سبيلُ ما وصَفْنا مِن الدرهمِ والدينارِ والدَّواةِ والقلمِ، التي اتَّفَقَت ألسنُ الفرسِ والعربِ فيها بالألفاظِ الواحدةِ، والمعنى الواحدِ، في أنه مُسْتَحِقٌّ إضافتَه إلى كلِّ جنسٍ مِن تلك الأجناسِ باجتماعٍ وافتراقٍ
(1)
.
وذلك هو معنى قولِ
(2)
مَن رَويْنا عنه القولَ في الأحرفِ التي مضَت في صدرِ هذا البابِ
(3)
، مِن نسبةِ بعضِهم بعضَ ذلك إلى لسانِ الحبشةِ، ونسبةِ بعضِهم بعضَ ذلك إلى لسانِ الفرسِ، ونسبةِ بعضِهم بعضَ ذلك إلى لسانِ الرومِ؛ لأنَّ مَن نسَب شيئًا مِن ذلك إلى ما نسَبه إليه، لم يَنْفِ - بنسبتِه
(4)
إياه إلى ما نسَبه إليه - أن يكونَ عربيًّا، ولا مَن قال منهم: هو عربيٌّ. نفَى ذلك أن يكون مُسْتَحِقًّا النسبةَ إلى مَن هو مِن كلامِه مِن سائرِ أجناسِ الأممِ غيرِها، وإنما يكونُ الإثباتُ دليلًا على النفيِ فيما لا يَجوزُ اجْتماعُه مِن المعاني، كقولِ القائلِ: فلانٌ قائمٌ. فيكونُ بذلك مِن قولِه دالًّا على أنه غيرُ قاعدٍ، ونحوِ ذلك مما يَمْتَنِعُ اجتماعُه لتنافيهما.
فأما ما جاز اجتماعُه، فهو خارجٌ مِن هذا المعنى، وذلك كقولِ القائلِ: فلانٌ قائمٌ مُكَلِّمٌ فلانًا. فليس في تَثْبيتِ القيامِ له ما دلَّ على نفيِ كلام آخرَ؛ لجوازِ اجتماعِ ذلك في حالٍ واحدةٍ مِن شخصٍ واحدٍ، فقائلُ ذلك صادقٌ إذا كان صاحبُه على ما وصَفه به.
فكذلك ما قلْنا في الأحرفِ التي ذكَرْنا، وما أشْبَهَها، غيرُ مستحيلٍ أن يكونَ عربيًّا بعضُها أعجميًّا، وحبشيًّا بعضُها عربيًّا؛ إذ كان موجودًا استعمالُ ذلك في كلتا الأُمَّتَيْنِ، فناسِبُ ما نسَب مِن ذلك إلى إحدى الأُمَّتَيْن أو كلتيهما مُحِقٌّ غيرُ مُبْطِلٍ.
(1)
في ر: "واقتران".
(2)
زيادة من: ر.
(3)
في ص: "الكتاب".
(4)
في ر: "بنسبه".
فإن ظنَّ ذو غَباءٍ أن اجتماعَ ذلك في الكلامِ مستحيلٌ - كما هو مستحيلٌ في أنسابِ بني آدمَ - فقد ظن جهلًا، وذلك أن أنسابَ بني آدمَ مَحصورةٌ على أحدِ الطرفَيْن دونَ الآخرِ، لقولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. وليس ذلك كذلك في المنطِقِ والبيانِ؛ لأن المنطِقَ إنما هو منسوبٌ إلى مَن كان به معروفًا استعمالُه.
فلو عُرِف استعمالُ بعضِ الكلامِ في أجناسٍ من الأممِ - جنسَيْن
(1)
أو أكثرَ - بلفظٍ واحدٍ ومعنًى واحدٍ، كان ذلك منسوبًا إلى كلِّ جنسٍ مِن تلك الأجناسِ، لا يَسْتَحِقُّ جنسٌ منها أن يكونَ به أولى مِن سائرِ الأجْناسِ غيرِه؛ كما لو أن أرضًا بينَ سَهْلٍ وجبلٍ، لها هواءُ السهلِ وهواءُ الجبلِ، أو بينَ برٍّ وبحرٍ، لها هواءُ البرِّ وهواءُ البحرِ، لم يَمْتَنِعْ ذو عقلٍ صحيحٍ أن يَصِفَها بأنها سُهْليةٌ جبليةٌ، أو بأنها بريةٌ بحريةٌ، إذ لم تَكُنْ نسبتُها إلى إحدى صفتَيْها [نافيةً حقَّها مِن النسبةِ إلى الأخرى، ولو أفْرَد لها مُفْرِدٌ إحدى صفتَيْها]
(2)
ولم يَسْلُبْها صفتَها الأخرى، كان صادقًا مُحِقًّا.
وكذلك القولُ في الأحرفِ التي تقَدَّم ذكرُناها
(3)
في أولِ هذا البابِ.
وهذا المعنى الذي قلْناه في ذلك، هو معنى قولِ مَن قال: في القرآنِ مِن كلِّ لسانٍ. عندَنا بمعنى - واللَّهُ أعلمُ - أن فيه مِن كلِّ لسانٍ اتَّفَق فيه لفظُ العربِ ولفظُ غيرِها مِن الأممِ التي تَنْطِقُ به، نظيرَ ما وصَفْنا مِن القولِ فيما مضَى.
وذلك أنه غيرُ جائزٍ أن يُتَوَهَّمَ على ذي فِطْرةٍ صحيحةٍ مُقِرٍّ بكتابِ اللَّهِ، ممَّن قد قرَأ القرآنَ، وعرَف حدودَ اللَّهِ، أن يَعْتَقِدَ أن بعضَ القرآنِ فارسيٌّ لا عربيٌّ، وبعضَه
(1)
في ر، ت 2:"خمسين".
(2)
سقط من: ر.
(3)
في ص: "ذكرها"، وفي م، ت 2:"ذكرنا لها".
نَبَطيٌّ لا عربيٌّ، بعضَه [روميٌّ لا عربيٌّ]
(1)
، وبعضَه حَبَشيٌّ لا عربيٌّ، بعدَ ما أخْبَر اللَّهُ تعالى ذكرُه عنه أنه جعَله قرآنًا عربيًّا؛ لأن ذلك إن كان كذلك، فليس قولُ القائلِ: القرآنُ حبشيٌّ أو فارسيٌّ. ولا نسبةُ مَن نسَبه إلى بعضِ ألسنِ الأممِ التي بعضُه بلسانِها دونَ العربِ، بأولى بالتَّطْويلِ
(2)
مِن قولِ القائلِ: هو عربيٌّ. ولا قولُ القائلِ: هو عربيٌّ. بأولى بالصحةِ والصوابِ مِن قولِ ناسِبِه إلى بعضِ الأجناسِ التي ذكَرْنا، إذ كان الذي بلسانِ غيرِ العربِ مِن سائرِ ألسنِ أجناسِ الأممِ فيه، نَظيرَ الذي فيه مِن لسانِ العربِ.
وإذْ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ إذن خطأُ قولِ مَن عَم أن القائلَ مِن السلفِ: في القرآنِ مِن كلِّ لسانٍ. إنما عنَى بقِيلِه ذلك أن فيه مِن البيانِ ما ليس بعربيٍّ، ولا جائزةً نسبتُه
(3)
إلى لسانِ العربِ.
ويقالُ لمَن أبَى ما قلْنا - ممَّن زعَم أن الأحرفَ التي قدَّمْنا ذكرَها في أولِ البابِ وما أشْبَهَها، إنما هي كلامُ أجناسٍ من
(4)
الأممِ سوى العربِ، وقَعَت إلي العربِ فعرَّبَتْه
(5)
-: ما برهانُك على صحةِ ما قلتَ في ذلك مِن الوجهِ الذي يَجِبُ التسليمُ له، فقد علِمْتَ مَن خالَفك في ذلك، فقال فيه خلافَ قولِك؟ وما الفرقُ بينَك وبينَ مَن عارَضك في ذلك، فقال: هذه الأحرفُ وما أشبهَها مِن الأحرفِ غيرِها
(1)
في النسخ: "عربي لا فارسي"، وهو خطأ لا يستقيم معه المعنى، والمثبت من تحقيق الشيخ شاكر.
(2)
في ر: "بالبطول"، وفي م، ت 1:"بالتطول"، وفي ت 2:"بالقول". والمراد االإطالة والتزيد في الكلام.
(3)
في ر، ت 1:"بسببه".
(4)
سقط من: م، ت 2.
(5)
بعده في م: "و".
أصلُها عربيٌّ، غيرَ أنها وقَعَت إلى سائرِ أجناسِ الأممِ غيرِها، فنطَقَت كلُّ أُمَّةٍ منها ببعضِ ذلك بألسنتِها، مِن الوجهِ الذي يَجِبُ التسليمُ له؟ فلن يَقولَ في شيءٍ مِن ذلك قولًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
فإن اعْتَلَّ في ذلك بأقوالِ السلفِ التي قد ذكَرْنا بعضَها وما أشبهَها، طُولِب مطالبتَنا مَن تأوَّل عليهم في ذلك تأويلَه، بالذي قد تقَدَّم في بيانِنا، وقيل له: ما أنْكَرْتَ أن يكونَ مَن نسَب شيئًا مِن ذلك منهم إلى مَن نسَبه مِن أجناسِ الأممِ سوى العربِ، إنما نسَبه إلى إحدى نسبتَيْه التي هو لها مُسْتَحِقٌّ، مِن غيرِ نفيٍ منه عنه النسبةَ الأخرى. ثم يقالُ له: أرأيتَ مَن قال لأرضٍ سُهْليةٍ جبليةٍ: هي سُهْليةٌ. ولم يُنْكِرْ أن تكون جبليةً. أو قال: هي جبليةٌ. ولم يَدْفَعْ أن تكونَ سُهْليةً، أَنافٍ عنها أن تكونَ لها الصفةُ الأخرى بقيلِه ذلك؟ فإن قال: نعم. كابَر عقلَه، وإن قال: لا. قيل له: فما أنْكَرْتَ أن يكونَ قولُ مَن قال في سجِّيل: هي فارسيةٌ. وفي القِسْطاسِ: هي روميةٌ. نظيرَ ذلك. وسُئِل الفَرْقَ بينَ ذلك، فلن يقولَ في أحدِهما قولًا إلَّا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
القولُ في اللغةِ التي نزَل بها القرآنُ مِن لُغاتِ العربِ
قال أبو جعفرٍ: قد دلَّلْنا على صحةِ القولِ، بما فيه الكفايةُ لمن وُفِّق لفهمِه، على أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه أنْزَل جميعَ القرآنِ بلسانِ العربِ دونَ غيرِها مِن ألسنِ سائرِ أجناسِ الأممِ، وعلى فسادِ قولِ مَن زعَم أن منه ما ليس بلسانِ العربِ ولغتِها
(1)
.
فنقولُ الآن - إذْ كان ذلك صحيحًا - في الدَّلالةِ عليه بأيِّ ألسنِ العربِ أُنْزِل: أبألسنِ جميعِها، أم بألسنِ بعضِها؟ إذ كانت العربُ، وإن جمَع جميعَها اسمُ أنهم
(1)
في ص: "لغاتها".
عربٌ، فهم مُخْتَلِفو الألسنِ بالبيانِ، مُتبايِنو المنطِقِ والكلامِ.
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان اللَّهُ جل ذكرُه قد أخْبَر عبادَه أنه قد جعَل القرآنَ عربيًّا، وأنه أُنْزِل بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، ثم كان ظاهرُه
(1)
مُحْتَمِلًا خُصوصًا وعُمومًا، لم يَكُنْ لنا السبيلُ إلى العلمِ بما عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه مِن خُصوصِه وعمومِه، إلا ببيانِ مَن جُعِل إليه بيانُ القرآنِ، وهو رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فإن كان ذلك كذلك، وكانت الأخبارُ قد تظاهَرت عنه صلى الله عليه وسلم بما حدَّثنا به خَلَّادُ بنُ أسلمَ، قال: حدَّثنا أنسُ بنُ عِياضٍ، عن أبي
(2)
حازمٍ، عن أبي سلمةَ، قال: لا أعْلَمُه إلا عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أُنْزِلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فالمِرَاءُ فِي القُرآنِ كُفْرٌ" ثلاثَ مراتٍ "فما عَرَفْتُم منه فاعْمَلُوا به، وما جَهِلْتُم منه فرُدُّوه إِلى عَالِمِه"
(3)
.
وحدَّثني عُبَيْدُ بنُ أسْباطَ بنِ محمدٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ عَلِيمٌ حَكِيمٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ"
(4)
.
وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثني عَبْدةُ بنُ سليمانَ، عن محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(5)
.
(1)
بعده في ر، ص، ت 1:"هذا القول ظاهرا".
(2)
في ح: "ابن"، وهو سلمة بن دينار، ينظر تهذيب الكمال 11/ 272.
(3)
أخرجه أحمد 13/ 369 (7989)، والنسائي في الكبرى (8093)، وأبو يعلى (6016)، وابن حبان (74)، وغيرهم من طريق أنس بن عياض به.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 516، وأحمد 14/ 120، 15/ 424 (8390، 9678)، وغيرهما من طريق محمد بن عمرو به.
(5)
أخرجه ابن حبان (743) من طريق عبدة به. وقوله: "عليم حكيم غفور رحيم". قال ابن حبان: قول محمد بن عمرو أدرجه في الخبر، والخبر إلى "سبعة أحرف" فقط.
وحدَّثنا محمدُ بنُ حُمَيدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا جَريرُ بنُ عبدِ الحميدِ، عن مُغيرةَ
(1)
، عن واصلِ بنِ حَيَّانَ، عمَّن ذكَره، عن أبي الأحْوَصِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لكُلِّ حَرْفٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، ولكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قَال: حدَّثنا مِهْرانُ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن إبراهيمَ الهَجَريِّ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ محمدُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ، قال: حدَّثنا عاصمٌ، عن زِرٍّ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: اخْتَلَف رجلان في سورةٍ، فقال هذا: أقْرَأَني النبيُّ صلى الله عليه وسلم. وقال هذا: أقْرَأَنِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَر بذلك، قال: فتغَيَّر وجهُه، وعندَه رجلٌ، فقال: اقرَءُوا كما عُلِّمْتُم - فلا أدْرِي أبشيءٍ أُمِر، أم بشيءٍ ابْتَدَعه مِن قِبَلِ نفسِه - فإنما أَهلَكَ مَن كان قبلَكم اخْتِلافُهم على
(1)
في ص: "معاوية". وهو مغيرة بن مقسم، ينظر تهذيب الكمال 28/ 397.
(2)
أخرجه أبو يعلى (5149)، والطحاوي في المشكل (3095)، والطبراني في الكبير (10107)، وفي الأوسط (773)، والبغوي في تفسيره 1/ 46 من طريق جرير به، مطولا ومختصرا، وسموا المبهم عبد اللَّه بن أبي الهذيل، وعند البغوي: عن أبي الهذيل. وينظر ضعيف الجامع (1338).
وينظر تعريف الحد والمطلع من كلام المصنف في ص 66، 67.
(3)
أخرجه الخطيب في الموضح 1/ 381 من طريق ابن حميد به مختصرا.
وأخرجه أيضًا 1/ 381، 382 من طريق سفيان به. وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 516، والبزار (2081)، وأبو يعلى (5403)، والطحاوي في المشكل (3077)، وابن حبان (75)، والطبراني في الكبير (10090) من طريق أبي إسحاق إبراهيم ابن مسلم الهجري به مختصرًا. والهجري لين الحديث رفع موقوفات. وقد اختلف في إسناد هذا الحديث. ينظر ما سيأتي في ص 40.
أنبيائِهم. قال: فقام كلُّ رجلٍ منا، وهو لا يَقْرَأُ على قراءةِ صاحبِه
(1)
. نحوَ هذا ومعناه.
حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى بنِ سعيدٍ الأُمويُّ، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا الأعمشُ، [وحدَّثني أحمدُ بنُ منيعٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ الأمويُّ، عن الأعمشِ]
(2)
، عن عاصمٍ، عن زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ، قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: تمارَيْنا في سورةٍ مِن القرآنِ، فقلْنا: خمسٌ وثلاثون، أو ستٌّ وثلاثون آيةً. قال: فانْطَلَقْنا إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فوجَدْنا عليًّا يُناجِيه
(3)
، قال: فقلنا: إنا اخْتَلَفْنا في القراءةِ، قال: فاحْمَرَّ وجهُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال: "إِنَّما هَلَكَ مَن كان قَبْلَكم باخْتِلَافِهم بَيْنَهم". قال: ثم أسَرَّ إلى عليٍّ شيئًا، فقال لنا عليٌّ: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُم أنْ تَقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتم
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا
(5)
عُبَيدُ اللَّهِ بنُ موسى، عن عيسى بنِ قِرْطاسٍ،
(1)
أخرجه أبو يعلى (5057) عن أبي كريب به. وأخرجه أحمد 7/ 88، 100 (3981، 3993) من طريق أبي بكر بن عياش به، مطولًا ومختصرًا.
وأصل الحديث عند البخاري من حديث النزال بن سبرة عن ابن مسعود مرفوعًا. وينظر مسند الطيالسي (387)، وعلل الدارقطني 3/ 71، وما سيأتي في ص 43.
(2)
سقط من: ر.
(3)
في ر، ت 1:"بناحية".
(4)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 2/ 199 (832)، وابن حبان (746) من طريق سعيد بن يحيى بن سعيد به، دون المرفوع منه. وأخرجه عبد الله بن أحمد - أيضًا - والبزار (449)، وابن حبان (747)، والحاكم 2/ 223، 224 من طريق يحيى بن سعيد به، نحوه،
وأخرجه أحمد 7/ 100، 345 (3992، 4322) من طريق عاصم به نحوه.
(5)
بعده في ر: "أبو". وينظر تهذيب الكمال 23/ 22.
[عن زيدٍ القَصَّارِ]
(1)
، عن زيدِ بنِ أَرْقمَ، قال: كنا معه في المسجدِ، فحدَّثنا ساعةً، ثم قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: أقْرَأَني عبدُ اللَّهِ بن مسعودٍ سورةً أقْرَأَنيها زيدٌ، وأقْرَأَنيها أُبَيُّ بنُ كعبٍ، فاخْتَلَفتْ قراءتُهم، فقراءةُ
(2)
أيِّهم آخُذُ؟ قال: فسكَت رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: وعليٌّ إلى جنبِه، فقال عليٌّ: لِيَقْرَأْ كلُّ إنسانٍ كما عُلِّم، كلٌّ حسنٌ جميلٌ
(3)
.
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني يونُسُ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: أخْبَرني عُرْوةُ بنُ الزبيرِ، أنَّ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمةَ وعبدَ الرحمنِ بنَ عبدٍ القارِيَّ، أخْبَراه أنهما سمِعا عمرَ بنَ الخطابِ يقولُ: سمِعْتُ هشامَ بنَ حَكيمٍ يَقْرَأُ سورةَ "الفرقانِ"
(4)
في حياةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فاسْتَمَعْتُ لقراءتِه، فإذا هو يَقْرَؤُها على حروفٍ كثيرةٍ لَمْ يُقْرئْنِيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كذلك
(5)
، فكِدْتُ أُساوِرُه
(6)
في الصلاةِ، فتصَبَّرْتُ حتى سلَّم، فلما سلَّم لبَّبْتُه
(7)
بردائِه، فقلتُ: مَن أقْرَأك هذه السورةَ التي سمِعْتُك تَقْرَؤُها؟ قال: أقْرَأَنِيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قال (5): فقلْتُ: كذبْتَ، فواللَّهِ إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هو
(8)
أقْرَأَنِي هذه السورةَ التي سمِعْتُك تَقْرَؤُها. فانْطَلَقْتُ به أَقُودُه إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إني سمِعْتُ
(1)
سقط من: ص، ر.
(2)
في ص، ر، ت 2:"بقراءة"، وفي م:"فبقراءة".
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير (5078) من طريق أبي كريب به. وقال الهيثمي في المجمع 7/ 153: فيه عيسى بن قرطاس، وهو متروك. اهـ. وزيد القصار هذا لم نجد له ترجمة، وينظر تعليق الشيخ أحمد شاكر عليه.
(4)
في م: "الدخان".
(5)
سقط من: م.
(6)
في ر، ت 1، ت 2:"أشاوره". وأساوره: أي: أواثبه وأقاتله.
(7)
يقال: أخذ بتلبيب فلان: إذا جمع عليه ثوبه الذي هو لابسه عند صدره وقبض عليه يجره. التاج (ل ب ب).
(8)
في ر، م:"لهو".
هذا يَقْرَأُ سورةَ الفُرْقانِ على حروفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيها، وأنت أقْرَأْتَنِي سورةَ "الفُرْقانِ"! قال: فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ". فقرَأ عليه القراءةَ التي سمِعْتُه يَقْرَؤُها، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هكذا أُنْزِلَتْ". ثم قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ يَا عُمَرُ". فقرَأْتُ القراءةَ التي أقْرَأَني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هكذا أُنْزِلَتْ". ثم قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذا القُرْآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا
(1)
"
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ منصورٍ، قال:[حدَّثنا عبدُ الصمدِ بنُ عبدِ الوارثِ، قال]
(3)
: حدَّثنا [حربُ بنُ أبي ثابتٍ]
(4)
مِن بني سُلَيْمٍ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحةَ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قرَأ رجلٌ عندَ عمرَ بنِ الخطابِ فعيَّر عليه، فقال: لقد قرَأْتُ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فلم يُغَيِّرْ عليَّ. قال: فاخْتَصَما عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، ألم تُقْرِئْني آيةَ كذا وكذا؟ قال:"بَلَى". قال: فوقَع في صدرِ عمرَ شيءٌ، فعرَف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهِه، قال: فضرَب صدرَه، وقال:"ابْعَدْ شَيْطَانًا". قالها ثلاثًا، ثم قال:"يَا عمرُ، إِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّه صَوابٌ، مَا لَم تَجْعَلْ رَحْمَةً عَذَابًا، أَوْ عَذَابًا رَحْمَةً"
(5)
.
(1)
في مصادر التخريج: "منه".
(2)
أخرجه المصنف في مسند عمر من تهذيب الآثار ص 776، والنسائي (937) عن يونس به.
وأخرجه مسلم (818) من طريق ابن وهب به. وأخرجه البخاري (2419، 4992، 5041)، ومسلم (818)، والترمذي (2943)، وغيرهم من طريق الزهري به. وينظر مسند الطيالسي (39).
(3)
سقط من: ص.
(4)
كذا في النسخ، والصواب: حرب بن ثابت. ينظر تعجيل المنفعة 1/ 438.
(5)
أخرجه أحمد 26/ 285 (16366) عن عبد الصمد به، دون قوله: فوقع في صدر عمر
…
وقال: "ابعد شيطانًا". وقال ابن كثير في فضائل القرآن ص: 73: إسناده حسن. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 1/ 218.
حدَّثنا عُبيدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الفِرْيابيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ مَيْمونٍ، قال: حدَّثنا عُبيدُ اللَّهِ - يعني ابنَ عمرَ - عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: سمِع عمرُ بنُ الخطابِ رجلًا يَقْرَأُ القرآنَ، فسمِع آيةً على غيرِ ما سمِع مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأتَى به عمرُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ هذا قرَأ آيةَ كذا وكذا. فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ"
(1)
.
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرني هشامُ بنُ سعدٍ، عن عليِّ بنِ أبي عليٍّ، عن زُبَيْدٍ، عن عَلْقمةَ النَّخَعيِّ، قال: لما خرَج عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ مِن الكوفةِ اجْتَمَع إليه أصحابُه فودَّعهم، ثم قال: لا تَنازَعوا في القرآنِ؛ فإنه لا يَخْتَلِفُ ولا يَتَلاشَى
(2)
، ولا يَتْفَهُ
(3)
لكثرةِ الردِّ، وإن شريعةَ الإسلامِ وحدودَه وفرائضَه فيه واحدةٌ، ولو كان شيءٌ مِن الحرفَيْن يَنْهَى عن شيءٍ يَأْمُرُ به الآخرُ، كان ذلك الاختلافَ، ولكنه جامعٌ ذلك كلَّه، لا تَخْتَلِفُ فيه الحدودُ ولا الفرائضُ، ولا شيءٌ مِن شرائعِ الإسلامِ، ولقد رأيْتُنا نَتَنازَعُ فيه عندَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فيَأْمُرُنا فنَقْرَأُ عليه، فيُخْبِرُنا أَنَّا كلَّنا مُحْسِنٌ، ولو أَعْلَمُ
(4)
أحدًا أعْلَمَ بما أنْزَلَ اللَّهُ على رسولِه منِّي لطلَبْتُه حتى أَزْدادَ عِلمَه إلى علمي، ولقد قرأْتُ من لسانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سبعين سورةً، وقد كنتُ علِمْتُ أنه يُعْرَضُ عليه القرآنُ في كلِّ رمضانَ، حتى كان عامُ قُبِض، فعُرِض عليه مرَّتَيْن، فكان إذا فرَغ أَقْرَأُ عليه، فيُخْبِرُني أنِّي مُحْسِنٌ، فمَن قرَأ على قراءتي فلا يَدَعَنَّها رغبةً عنها، ومَن قرَأ على شيءٍ مِن هذه
(1)
عزاه المتقي الهندي في الكنز (3094) إلى المصنف. وعبد الله بن ميمون القداح متروك.
(2)
في المسند: "ولا يُسْتَشَنُّ" - أي لا يخلَق - وفي تاريخ المدينة: "ولا ينسأن". وينظر تعليق الشيخ شاكر.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2:"يتغير".
(4)
بعده في ر: "أن".
الحروفِ فلا يَدَعَنَّه رغبةً عنه، فإنه مَن جحَد بآيةٍ جحَد به كلِّه
(1)
.
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أنْبَأَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرني يونُسُ، وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا رِشْدينُ بنُ سعدٍ، عن عُقَيْلِ بنِ خالدٍ، جميعًا عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثني عُبيدُ اللَّهِ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ، أن ابنَ عباسٍ حدَّثه، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ على حَرْفٍ، فَراجَعْتُه، فلم أزَلْ أَسْتَزِيدُه فَيَزِيدُنِي، حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". قال ابنُ شِهابٍ: بلَغَني أن تلك السبعةَ الأحرفِ إنما هي في الأمرِ االذى يَكونُ واحدًا، لا يَخْتَلِفُ في حلالٍ ولا حرامٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ أبي مَخْلَدٍ الواسطيُّ ويونسُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّدَفيُّ، قالا: حدَّثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ، عن عُبيدِ اللَّهِ، أخْبَره أبوه، أن أمَّ أيوبَ أخْبَرَته، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "نزلَ
(3)
القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، أَيَّهَا قَرَأْتَ
(1)
إسناده ضعيف جدًّا؛ علي بن أبي علي اللهبي منكر الحديث، وزييد لم يدرك علقمة.
وأخرجه عمر بن شبة في تاريخ المدينة 3/ 1008، وابن عساكر في تاريخه 39/ 92 (طبعة مجمع اللغة بدمشق) من طريق زبيد، عن عبد الرحمن بن عابس، عن رجل، عن ابن مسعود، نحوه.
وأخرجه أحمد 6/ 395 (3845) - ومن طريقه ابن عساكر 39/ 92 - عن غندر، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن عابس به، نحوه. وسيأتي جزء منه في ص 46 من طريق آخر عن شعبة.
وقوله: لا أعلم أحدًا أعلم بما أنزل اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم مني .... سيأتي نحوه في ص 75.
وقوله: لقد قرأت من لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبعين سورة .... أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وينظر مسند الطيالسي (405).
وقوله: وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان .... أخرجه البخاري (4998) من حديث أبي هريرة.
وقوله: من جحد بآية جحد به كله. سيأتي في ص 49 من وجه آخر عن ابن مسعود.
(2)
أخرجه الطحاوي في المشكل (3116) عن يونس بن عبد الأعلى به.
وأخرجه مسلم (819) من طريق ابن وهب به. وأخرجه البخاري (3219) من طريق يونس بن يزيد، (4991) من طريق عقيل، كلاهما عن الزهري به.
(3)
في ص، م:"أنزل".
أَصَبْتَ"
(1)
.
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ موسى السُّدِّيُّ
(2)
، قال: أنْبَأَنا شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن سليمانَ بنِ صُرَدَ يَرْفَعُه قال:"أَتَاني مَلَكَانِ فقال أَحدُهما: اقْرَأْ. قَالَ: عَلَى كم؟ قال: على حَرْفٍ. قال: زِدْهُ. حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
(3)
.
حدَّثنا ابنُ البَرْقِيَّ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي مَرْيمَ، قال: حدَّثنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: حدَّثني عُقَيْلُ بنُ خالدٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ عباسٍ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَاسْتَزَدْتُه فزَادَنِي، ثم اسْتَزَدْتُه فَزَادَنِي، حتَّى انْتَهَى إلى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
(4)
.
حدَّثني الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: حدَّثنا أسدُ بنُ موسى، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ أبي يَزيدَ، عن أبيه، أنه سمِع أمَّ أيوبَ تُحَدِّثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكَر نحوَه. [يعني نحوَ حديث ابنِ أبي مَخْلَدٍ]
(5)
.
(1)
أخرجه الطحاوي في المشكل (3100) عن يونس بن عبد الأعلى به.
وأخرجه الحميدي (340)، وسعيد بن منصور في سننه (32 - تفسير)، وابن أبي شيبة 10/ 515، 516، وأحمد 6/ 433 (الميمنية)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3320) من طريق ابن عيينة به. وقال ابن كثير في فضائل القرآن ص 64: هذا إسناد صحيح.
(2)
قال الحافظ في التقريب: نسيب السدي، أو ابن بنته، أو ابن أخته. وينظر تهذيب التهذيب 1/ 336.
(3)
أخرجه الطحاوي في المشكل (3114) من طريق إسماعيل بن موسى به.
وأخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 5/ 125 (الميمنية) من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب. وأخرجه الطحاوي (3115)، والطبراني في الأوسط (1167) من طريق أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد. بدون ذكر أُبي. وسيأتي حديث أُبيّ والخلاف فيه.
(4)
تقدم في الصفحة السابقة.
(5)
زيادة من: م، ت 2، وفي ت 1:"مثل الحديث الذي تقدم عن الربيع".
حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: حدَّثنا أسدُ بنُ مُوسى، قال: حدَّثنا أبو الربيعِ السَّمَّانُ، قال: أخبرني [عُبَيدُ اللَّهِ]
(1)
بنُ أبي يزيدَ، عن أبيه، عن أمِّ أيوبَ، أنها سمِعَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَمَا قَرَأْتَ أَصَبْتَ".
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ آدمَ، قال: حدَّثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن فلانٍ العَبْديِّ - قال أبو جعفرٍ: ذهَب عني اسمُه - عن سليمانَ بنِ صُرَدَ، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، قال: رُحْتُ إلى المسجدِ، فسمِعْتُ رجلًا يَقْرَأُ، فقلتُ: مَن أَقْرَأَك؟ فقال: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فانْطَلَقْتُ به إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: اسْتَقْرِئْ هذا. قال: فقرَأ، فقال:"أَحْسَنْتَ". قال: فقلتُ: إنك
(2)
أقْرَأْتَني كذا وكذا. فقال: "وَأَنْتَ قَدْ أَحْسَنْتَ". قال: فقلتُ: قد أحسَنْتَ! قد أحسَنْتَ! قال: فضرَب بيدِه على صدري، ثم قال:"اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْ أُبَيٍّ الشَّكَّ". قال: ففِضْتُ عرفًا، وامْتَلأ جوفي فَرَقًا
(3)
، ثم قال: "إِنَّ المَلَكَيْنِ أتَيَاني، فقال أحَدُهما: اقْرَإِ الْقُرْآنَ على حَرْفٍ. وقال الآخَرُ: زِدْهُ. قال: فَقُلْتُ
(4)
: زِدْنِي. قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، [فقال: اقْرَأْ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ]
(5)
"
(6)
.
(1)
في ص: "عبد اللَّه".
(2)
في ص، ت 1:"فإنك".
(3)
بعده في ص، ر:"قال". والفرق: الخوف. اللسان (ف ر ق).
(4)
في ص، ر، ت 1:"قلت".
(5)
سقط من: ص.
(6)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 202، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 5/ 124 (الميمنية)، وابن عبد البر في التمهيد 8/ 285، وابن عساكر في تاريخه 7/ 329 من طريق إسرائيل به. وعندهم: سقير العبدي. وهو مجهول، وينظر تعجيل المنفعة 1/ 594. وأخرجه أبو عبيد ص 201، والنسائي في الكبرى (10506) من طريق يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن أُبي. =
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ مَيْمونٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، جميعًا عن حُمَيْدٍ الطَّويلِ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن أبيِّ بنِ كعبٍ، قال: ما حاك
(1)
في صدري شيءٌ منذ أسْلَمْتُ، إلا أني [قرَأْتُ آيةً]
(2)
، فقرَأها رجلٌ غيرَ قِراءتي، فقلتُ: أقْرَأَنيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فقال الرجلُ: أقْرَأَنيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فأتَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: أقْرَأْتَني آيةَ كذا وكذا؟ قال: "بَلَى". قال الرجلُ: ألم تُقْرِئْني آيةَ كذا وكذا؟ قال: "بَلَى، إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي، فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمينِي وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي، فقال جِبْرِيلُ: اقْرَإِ القُرْآنَ على [حَرْفٍ وَاحِدٍ]
(3)
، وقال مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ. قال جِبْرِيلُ: اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ. فقال مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ. حَتَّى بلَغ ستةً أو سبعةً"
(4)
الشكُّ من أبي كُرَيْبٍ. وقال ابنُ بَشَّارٍ في حديثِه: "حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ - ولم يَشُكَّ
(5)
فيه - وَكُلٌّ شَافٍ كَافٍ". ولفظُ الحديثِ لأبي كُريبٍ
(6)
.
= وأخرجه أحمد بن منيع في مسنده - كما في فضائل القرآن لابن كثير ص 61 - والنسائي في الكبرى (10507)، والبيهقي في الدلائل 6/ 188 من طريق إسحاق الأزرق وفي يزيد بن هارون، عن العوام، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، قال: أتى أُبي بن كعب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برجلين. فذكره.
وقال ابن كثير: فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب، والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي شاهد ذلك، واللَّه أعلم.
(1)
في ص: "حال".
(2)
في ت 1: "قرأنا به".
(3)
في ص، ر:"حرف"، وفي ت 2:"حرفين".
(4)
بعده في ت 1: "أحرف".
(5)
في ر، ت 1، ت 2:"يشكك".
(6)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 201، وابن أبي شيبة 10/ 517، وأحمد 5/ 114، 122 (الميمنية)، وعبد بن حميد (164)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 5/ 122 (الميمنية)، والنسائي (940)، والطحاوي في المشكل (3111)، وابن حبان (737) من طرق عن حميد به.
وحدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرني يحيى بنُ أيوبَ، عن حُميدٍ الطويلِ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه. وقال في حديثِه: "حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ
(1)
أَحْرُفٍ، قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلٌّ شَافٍ كَافٍ".
حدَّثنا محمدُ بنُ مرزوقٍ، قال: حدَّثنا أبو الوليدِ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن حميدٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن عُبادةَ بنِ الصامتِ، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا حسينُ بنُ عليٍّ وأبو أسامةَ، عن زائدةَ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن أُبيٍّ، قال: لقِي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عندَ أحْجارِ المِرَاءِ
(3)
، فقال: "إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الغُلَامُ والْخَادِمُ والشَّيْخُ العاسي
(4)
والعَجُوزُ". فقال جِبْريلُ: فَلْيَقْرَءوا القرآنَ على سبعةِ أحرفٍ. ولفظُ الحديثِ لأبي أسامةَ
(5)
.
(1)
في ت 1، ت 2:"سبعة".
(2)
أخرجه أحمد 5/ 114 (الميمنية)، والطحاوي في المشكل (3096، 3097)، وابن حبان (742)، والطبراني في الأوسط (5250)، وابن عدي 2/ 679، وتمام في الفوائد (1322 - الروض البسام) من طرق عن حماد بن سلمة به. وقد تفرد حماد بذكر عبادة في إسناده.
(3)
المراء - بكسر الميم -: قباء. النهاية 4/ 323.
(4)
في ص: "العاشي"، وفي م، وجامع المسانيد 1/ 67:"الفاني"، وفي المسند:"العاصي"، وفي الترمذي:"الكبير". والعاسي بمعنى ما في هذه المصادر.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 518 - ومن طريقه ابن حبان (739) - وأحمد 5/ 132 (الميمنية) عن حسين بن علي به. وأخرجه أحمد من طريق زائدة به. وأخرجه الطيالسي (545)، والترمذي (2944)، والبزار (2909)، والطحاوي في المشكل (3098) من طريق عاصم به. وقال الترمذي: حسن صحيح. =
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، وحدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ القَنَّادُ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ يزيدَ الواسطيُّ، عن إسماعيلَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عيسى بنِ
(1)
عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن جدِّه، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، قال: كنتُ في المسجدِ، فدخَل رجلٌ يُصَلِّي، فقرَأ قراءةً أنْكَرْتُها عليه
(2)
، ثم دخَل رجلٌ آخرُ، فقرَأ قراءةً غيرَ قراءةِ صاحبِه، فدخَلْنا جميعًا على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قال: فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنّ هذا قرَأ قراءةً أنْكَرْتُها عليه، ثم دخَل هذا فقرَأ قراءةً غيرَ قراءةِ صاحبِه. فأمَرهما رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأا، فحسَّن رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شأنَهما، فوقَع في نفسي مِن التكذيبِ ولا إذ كنتُ في الجاهليةِ، فلما رأَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما غشِيني ضرَب في صدري، ففِضْتُ عرقًا، كأنما أَنْظُرُ إلى اللَّهِ فَرَقًا، فقال لي: "يَا أُبَيُّ، أُرْسِلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ عليه: أنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي. فَرَدَّ عَلَيَّ في الثَّانِيَةِ: أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَرَدَدْتُ عليه: أنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي. فَرَدَّ عَلَيَّ فِي الثَّالِثَةِ: أَنِ اقْرَأْهُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، ولك بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكها
(3)
مَسْأَلَةٌ تَسْألُنِيهَا. فقلْتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي. وأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ ليَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ فيه الخَلْقُ كُلُّهم حتى إِبْراهِيمُ". إلا أن ابنَ بَيانٍ قال في حديثِه: فقال لهم
(4)
النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "قد أصَبْتُم وأحْسَنْتُم". وقال أيضًا: فارفضَضْتُ
(5)
عرقًا
(6)
.
= ورُوي عن عاصم، عن زر، عن حذيفة. أخرجه أحمد 5/ 391، 405 (الميمنية)، والبزار (2908)، والطحاوي في المشكل (3098)، وابن قانع في معجمه 1/ 191، 192، والطبراني في الكبير (3018).
(1)
في ت 1: "عن". وينظر تهذيب الكمال 15/ 412.
(2)
بعده في ص، ت 1:"قال".
(3)
في ص، م:"رددتها".
(4)
في ص، ت 1:"لهما".
(5)
ارفض عرقا: جرى عرقه وسال. انظر النهاية 2/ 243.
(6)
أخرجه مسلم (820) - ومن طريقه البغوي في شرح السنة (1227) - من طريق ابن نمير به. =
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، بإسنادِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه
(1)
، وقال: قال لي: "أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِن الشَّكِّ والتَّكْذِيبِ". وقال أيضًا: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ القُرْآنَ على حَرْفٍ، فقُلْتُ: اللَّهُمَّ رَبِّ خَفِّفْ عن أُمَّتِي. فقال: اقْرَأْهُ على حَرْفَيْنِ. فأمَرَنِي
(2)
أن أقْرَأَهُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، مِن سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنَ الجَنَّةِ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ".
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا وَكيعٌ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عيسى بنِ أبي ليلى، عن ابنِ أبي ليلى، [وعن ابنِ أبي ليلى]
(3)
، عن الحكمِ، عن ابنِ أبي ليلى، عن أُبَيٍّ، قال: دخَلْتُ المسجدَ فصلَّيْتُ، فقرَأْتُ "النحلَ"، ثم جاء رجلٌ آخرُ، فقرَأها على غيرِ قراءتي، ثم جاء رجلٌ آخرُ فقرَأ خلافَ قراءتِنا، فدخَل
(4)
نفسي مِن الشكِّ والتكذيبِ أشدُّ مما كان في الجاهليةِ، فأخَذْتُ بأيديهما، فأتَيْتُ بهما النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، اسْتَقْرِئْ هذين. فقرَأ أحدُهما، فقال:"أَصَبْتَ". قال: ثم اسْتَقْرَأ الآخرَ، فقال:"أَصَبْتَ". فدخَل قلبي أشدُّ مما كان في الجاهليةِ مِن الشكِّ والتكذيبِ، فضرَب رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
= وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 516، وأحمد 5/ 127 (الميمنية)، ومسلم (820)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 5/ 128 (الميمنية)، وابن حبان (740)، والبيهقي 2/ 383 من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به.
(1)
أعاده المصنف في ص 63، وفيه: عن عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن جده، عن أبي. وهكذا ذكره ابن كثير في فضائل القرآن ص 56 عنه.
(2)
في ت 1: "وأمرني".
(3)
سقط من: ص، ر، ت 2. وابن أبي ليلى الذي يروي عنه عبد الله بن عيسى والحكم هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، والذي يروي عن الحكم هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
(4)
بعده في م: "في".
صدري، وقال:"أعَاذَكَ اللَّهُ مِن الشَّكِّ، وَأَخْسَأَ عَنك الشَّيْطانَ". قال إسماعيلُ: ففِضْتُ عرقًا. ولم يَقُلْه ابنُ أبي ليلى. قال: فقال: "أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. فَقُلْتُ: إِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. حَتَّى قَالَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فقال لي: اقْرَأْ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رُدِدْتَها مسألةٌ". قال: "فَاحْتَاجَ إِلَيَّ فِيهَا الْخَلَائِقُ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ".
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ
(1)
، عن ابنِ أبي ليلى، عن الحكمِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن أُبَيٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطُّوسيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ الصمدِ، قال:[حدَّثني أبي، قال]
(2)
: حدَّثنا محمدُ بنُ جُحَادةَ، عن الحكمِ بنِ عُتَيْبةَ
(3)
، عن مجاهدٍ، عن ابنِ أبي ليلى، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ، قال: أتَى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو عندَ أَضَاةِ بني غِفارٍ
(4)
، فقال: إن اللَّهَ تبارك وتعالى يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على سبعةِ أحرفٍ، فمَن قرَأ منها حرفًا فهو كما قرَأ
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن
(1)
في ر، ت 1، ت 2:"عبيد اللَّه". والظاهر أنه عبد اللَّه بن نمير، فهو يروي عن ابن أبي ليلى كما في المسند 5/ 22 (2808)، ويروي عنه أبو كريب كما تقدم في ص 32.
(2)
سقط من: ر.
(3)
في ت 1، ت 2:"عيينة".
(4)
أضاة بني غفار: موضع بالمدينة. معجم ما استعجم 1/ 164.
(5)
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 5/ 128 (الميمنية) - وعنه الطبراني في الكبير (535)، والقطيعي في جزء الألف دينار (28) - وابن حبان (738) من طريق عبد الوارث بن سعيد به. وسيأتي في ص 40، 41 من طريق آخر عن عبد الوارث.
الحكمِ، عن مُجاهدٍ، عن ابنِ أبي ليلى، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان عندَ أضاةِ بني غِفارٍ، قال: فأتاه جبريلُ، فقال: إنّ اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على حرفٍ. قال: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَه ومَغْفِرَتَه، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذلك". قال: ثم أتاه الثانيةَ، فقال: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على حرفين. قال: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَه ومَغْفِرَتَه، وإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذلك". ثم جاءه الثالثةَ، فقال: إن اللَّهَ يَأْمُرُك، أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على ثلاثةِ أحرفٍ. قال:"أسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَه ومَغْفِرَتَه، وإِن أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذلك". ثم جاءه الرابعةَ، فقال: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على سبعةِ أحرفٍ، فأيَّما حرفٍ قرَءوا عليه فقد أصابوا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عدِيٍّ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ أبي ليلى قال: أتَى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندَ أَضاةِ بني غِفارٍ. فذكَر نحوَه.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا موسى بنُ داودَ، قال: حدَّثنا شعبةُ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: حدَّثنا شَبَابةُ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ أبي ليلى، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (821)، وأبو داود (1478) عن محمد بن المثنى به.
وأخرجه أحمد 5/ 127 (الميمنية)، ومسلم (821)، والنسائي (938)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند 5/ 128 (الميمنية) من طريق محمد بن جعفر به. وأخرجه الطيالسي (559)، والطحاوي في المشكل (3117)، والبيهقي 2/ 384 من طريق شعبة به. وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 202 عن حجاج بن محمد، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، ليس فيه: عن مجاهد. وقال النسائي: هذا الحديث خولف فيه الحكم، خالفه منصور بن المعتمر، رواه عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، مرسلا.
(2)
أخرجه الطحاوي في المشكل (3117) من طريق شبابة به.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَني هشامُ بنُ سعدٍ، عن [عُبَيدِ اللَّهِ]
(1)
بنِ عمرَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ أنه قال: سمِعْتُ رجلًا يَقْرَأُ في سورةِ "النحلِ" قراءةً تُخالِفُ قراءتي، ثم سمِعْتُ آخرَ يَقْرَؤُها [قراءةً تُخالِفُ ذلك]
(2)
، فانْطَلَقْتُ بهما إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إني سمِعْتُ هذين يَقْرَأان في سورةِ "النحلِ"، فسأَلْتُهما مَن أقْرَأَهما؟ فقالا: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقلت: لَأَذْهَبَنَّ بكما إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذ خالفْتُما ما أقْرَأَني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأحدِهما:"اقْرَأْ". فقرَأ، فقال:"أَحْسَنْتَ". ثم قال للآخرِ: "اقْرَأْ". فقرأ، فقال:"أَحْسَنْتَ". قال أُبيٌّ: فوجَدْتُ في نفسي وَسْوسةَ الشيطانِ، حتى احْمَرَّ وجهي، فعرَف ذلك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في وجهي، فضرَب بيدِه في صدري، ثم قال: "اللَّهُمَّ أَخْسِئِ الشَّيْطَانَ عنه، يا أُبَيُّ أَتَاني آتٍ مِن رَبِّي، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُك أن تَقْرَأَ القُرْآنَ على حَرْفٍ واحِدٍ. فقُلْتُ: رَبِّ، خَفِّفْ عَنِّي
(3)
. ثم أَتَانِي الثَّانِيَةَ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُك أن تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى [حَرْفٍ وَاحِدٍ]
(4)
. فَقُلْتُ: رَبِّ، خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي. ثُمَّ أَتَانِيَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقُلْتُ مثلَ ذلك، ثُمَّ أَتَانِيَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، ولك بِكُلِّ رَدَّةٍ مَسْأَلَةٌ، فَقُلْتُ:
(1)
في ص: "عبد الله".
(2)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"فخالف".
(3)
في فضائل القرآن: "عن أمتي". وفي نسخة منه كالذي هنا. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 1/ 194.
(4)
في الفضائل: "حرفين". وفي نسخة منه كالذي هنا.
يَا رَبِّ اغْفِرْ لِأُمَّتي، [يَا رَبِّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي]
(1)
، [وَاخْتَبَأْتُ الثَّالِثَةَ شفاعةَ لِأُمَّتِي]
(2)
يَوْمَ القِيَامَةِ"
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّنْعانيُّ، قال: حدَّثنا المُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ عُبَيدَ اللَّهِ بنَ عمرَ، عن سَيَّارٍ
(4)
أبي الحكمِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، رفَعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ذكر أن رجلين اخْتَصَما في آيةٍ مِن القرآنِ، وكلٌّ يَزْعُمُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقْرَأه، فتَقَارأا إلى أُبيٍّ، فخالَفَهما أبيٌّ، فَتَقارَءوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال
(5)
: يا نبيَّ اللَّهِ، اخْتَلَفْنا في آيةٍ مِن القرآنِ، وكلُّنا يَزْعُمُ أنك أقْرَأْتَه. فقال لأحدِهما:"اقْرَأْ". قال: فقرَأ، فقال:"أَصَبْتَ". وقال للآخرِ: "اقْرَأْ". فقرَأ خلافَ ما قرَأ صاحبُه، فقال:"أَصَبْتَ". وقال لأُبيٍّ: "اقْرَأْ". فقرَأ فخالَفهما، فقال:"أَصَبْتَ". قال أُبيٌّ: فدخَلَني مِن الشكِّ في أمرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما دخَل فيَّ مِن أمرِ الجاهليةِ. قال: فعرَف رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي في وجهي، فرفَع يدَه، فضرَب صدري، وقال:"اسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". قال: ففِضْتُ عرقًا، وكأنِّي أَنْظُرُ إلى اللَّهِ فَرَقًا، وقال: "إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ مِن
(6)
رَبِّي، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ على حَرْفٍ وَاحِدٍ. فقُلْتُ: رَبِّ خَفِّفْ عن أُمَّتِي". قال: "ثم جَاءَ الثَّانيةَ
(7)
،
(1)
سقط من: ر، ت 2.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
إسناده منقطع. ذكره ابن كثير في فضائل القرآن ص 56، 57 عن المصنف. وعلقه ابن عبد البر في التمهيد 8/ 288 عن الليث، عن هشام به.
وصحح إسناده ابن كثير، وقال الحربي - كما في تهذيب التهذيب 7/ 40 - : عبيد اللَّه لم يدرك عبد الرحمن بن أبي ليلى. وقد روى عنه بواسطة كما في الطريق الآتي.
(4)
في ت 1: "سنان".
(5)
في ص: "فقالوا".
(6)
في ص: "عن".
(7)
زيادة من: ت 1.
فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُك أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ على حَرْفٍ وَاحِدٍ. فَقُلْتُ: رَبِّ خَفِّفْ عن أُمَّتِي". قال: ["ثُمَّ جَاء الثَّالِثَةَ، فقال: إِنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ على حَرْفٍ وَاحِدٍ. فَقُلْتُ: رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي". قال:]
(1)
"ثم جَاءَني الرَّابِعَةَ، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، ولك بِكُلِّ رَدَّةٍ مسْألةٌ". قال: "قُلْتُ: رَبِّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، رِب اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَاخْتَبَأْتُ الثَّالِثَةَ شَفَاعَةً لِأُمَّتِي، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمنِ لَيَرْغَبُ فِيهَا"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، عن حمادِ بنِ سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ
(3)
، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بَكْرةَ، عن أبيه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قال
(4)
جِبْرِيلُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ. فَقَالَ: عَلَى حَرْفَيْنِ. حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَو سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فقال: كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، ما لم تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ [بآيةِ رحمةٍ]
(5)
، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ [بآيةِ عذابٍ]
(6)
، كقولك: هَلُمَّ وتَعَالَ"
(7)
.
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَني سليمانُ
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 329 من طريق ابن وهب، عن عمرو، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن أبي الحكم، عن أبي بن كعب، نحوه.
(3)
في ت 1: "يزيد".
(4)
بعده في ر: "لي".
(5)
في م: "برحمة".
(6)
في م: "بعذاب".
(7)
أخرجه أحمد 5/ 41، 51 (الميمنية)، والطحاوي في المشكل (3118) من طريق حماد به. وعزاه الهيثمي في المجمع 7/ 151 إلى الطبراني.
ابنُ بلالٍ، عن يَزيدَ بنِ خُصَيْفةَ، عن بُسْرِ
(1)
بنِ سعيدٍ، أن أبا جُهَيْمٍ
(2)
الأنصاريَّ أخْبَرَه أن رجلَيْن اخْتَلَفا في آيةٍ مِن القرآنِ، فقال هذا: تلَقَّيْتُها مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال الآخرُ: تلَقَّيتُها من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فسألا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنها، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فلا تَمَارَوْا في القُرْآنِ، فَإِنَّ المِرَاءَ فيه كُفْرٌ"
(3)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخْبَرَنا سفيانُ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كلُّها شَافٍ كَافٍ"
(4)
.
حدَّثني يونسُ، [قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ]
(5)
، قال
(6)
: أخْبَرني سليمانُ بنُ بلالٍ، عن أبي عيسى بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن
(7)
عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أُمِرْتُ أَنْ أقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلٌّ كَافٍ شَافٍ"
(8)
.
(1)
في ر، م، ت 1، ت 2:"بشر". وينظر تهذيب الكمال 32/ 172.
(2)
في ر، م:"جهم". وينظر تهذيب الكمال 33/ 209.
(3)
أخرجه الطحاوي في المشكل (3099) عن يونس به. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 8/ 282 من طريق ابن وهب به. وأخرجه أحمد 29/ 85 (17542) من طريق سليمان بن بلال به. وقال ابن كثير في فضائل القرآن ص 64: هذا إسناد صحيح. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 1/ 207.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (33 - تفسير)، وابن أبي شيبة 10/ 516 عن ابن عيينة به.
(5)
سقط من: ت 1.
(6)
سقط من: م.
(7)
زيادة من: ر. وهذا إسناد مشكل كما قال الشيخ أحمد شاكر، ومن بعده الشيخ الألباني في الصحيحة 2/ 424 (844). ولم نهتد إلى معرفة مَن أبو عيسى هذا. ولعله أبو العميس عتبة بن عبد اللَّه بن عتبة بن عبد اللَّه بن مسعود، ثقة، مات في حدود سنة 150، مترجم في تهذيب الكمال 19/ 309، وذكر روايته عن أبيه.
(8)
عزاه السيوطي في الجامع الكبير (4432)، والمتقى الهندي في الكنز (3092) إلى المصنف.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: حدَّثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: حدَّثنا أبو خَلْدةَ، قال: حدَّثني أبو العاليةِ، قال: قرَأ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن كلِّ خمسٍ رجلٌ، فاخْتَلَفوا في اللغةِ، فرضِي قراءتَهم كلِّهم، فكان بنو تَميمٍ أعْرَبَ
(1)
القومِ.
حدَّثنا عمرُو بنُ عثمانَ
(2)
العُثمانيُّ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي أُوَيْسٍ
(3)
، قال: حدَّثنا أخي، عن سليمانَ بنِ بلالٍ، عن محمدِ بنِ عَجْلانَ، عن المَقْبُريِّ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. فَاقْرَءُوا وَلَا حَرَجَ، وَلَكِنْ لَا تَخْتِمُوا
(4)
ذِكْرَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، وَلَا ذِكْرَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ"
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ مرزوقٍ
(6)
، قال: حدَّثنا أبو مَعْمَرٍ
(7)
عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ أبي
(8)
الحجاجِ
(9)
، قال: حدَّثنا [عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ]
(10)
، [قال: حدَّثنا محمدُ]
(11)
بنُ
(1)
في ر: "أعرف".
(2)
في ص، ت 1:"محمد".
(3)
في ص: "إدريس".
(4)
في ت 1: "تجمعوا".
(5)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 8/ 288 من طريق إسماعيل بن أبي أويس به.
وأخرجه الطحاوي في المشكل (3101) من طريق ابن عجلان به.
واختلف فيه على ابن أبي أويس، فأخرجه البزار، وأبو يعلى، وابن حبان، وغيرهم من طرق عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن ابن عجلان، عن أبي إسحاق إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود. وقد تفرد به ابن عجلان عن الهجري. وقد تقدم من وجه آخر عن الهجري في ص 22.
(6)
في ت 2: "يوسف".
(7)
بعده في ت 2: "عن".
(8)
سقط من: ص.
(9)
في ت 1: "العجاج".
(10)
سقط من: ص.
(11)
في ت 2: "يعني".
جُحادةَ
(1)
، عن الحكمِ بنِ عُتَيْبةَ
(2)
، عن مُجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم جبريلُ وهو بأَضَاةِ بني غِفارٍ، فقال: إن اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على حرفٍ واحدٍ. قال: فقال: "أَسْأَلُ اللهَ مَغْفِرَتَهُ وَمُعَافَاتَهُ -[أو قال: مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ]
(3)
- سَلِ اللَّهَ لَهُمُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّهم لَا يُطِيقُونَ ذلك". فَانْطَلَقَ ثُمَّ رَجَعَ، فقال: إن اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على حرفين. فقال: "أَسأَلُ اللَّهَ مَغْفِرَتَهُ وَمُعَافَاتَهُ -[أو قال: مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ]
(3)
- إِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ ذلك، فَسَلِ اللَّهَ لهم التَّخْفِيفَ". فانْطَلَق ثم رجَع. فقال: إن اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمتَك القرآنَ على ثلاثةِ
(4)
أحرفٍ. [فقال: "أَسْأَلُ اللَّهَ مَغْفِرَتَهُ وَمُعَافَاتَهُ - أو قال
(5)
: مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ - إِنَّهم لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، [سَلِ اللَّهَ]
(6)
لهم التَّخْفِيفَ". فانْطَلَق ثم رجَع، فقال: إن اللَّهَ يَأْمُرُك أن تُقْرِئَ أمَّتَك القرآنَ على سبعةِ أحرفٍ]
(3)
، فمَن قرَأ منها بحرفٍ فهو كما قرَأ
(7)
.
قال أبو جعفرٍ: صحَّ وثبَت أن الذي نزَل به القرآنُ مِن ألسنِ العربِ، البعضُ منها دونَ الجميعِ؛ إذ كان معلومًا أن ألسنتَها ولُغاتِها أكثرُ مِن سبعةٍ، بما يُعْجَزُ عن إحصائِه.
فإن قال: وما برهانُك على أن معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". وقولِه: "أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبعَةِ أَحْرُفٍ". هو ما ادَّعَيْتَه - مِن أنه
(1)
في ت 2: "حجارة".
(2)
في ت 1، ت 2:"عيينة".
(3)
سقط من: ص، ت 2.
(4)
في ص، ت 2:"سبعة".
(5)
زيادة من: م.
(6)
سقط من: ت 1.
(7)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 8/ 287 من طريق أبي معمر به.
نزَل بسبعِ لغاتٍ، وأُمِر بقراءتِه على سبعةِ ألسُنٍ - دونَ أن يكونَ معناه ما قاله مخالفوك، مِن أنه نزَل بأمرٍ، وزجْرٍ، وتَرْغيبٍ، وترهيبٍ، وقَصَصٍ، ومَثَلٍ، ونحوَ ذلك مِن الأقوالِ، فقد علمتَ قائلَ ذلك مِن سلفِ الأمةِ وخيارِ الأئمةِ؟
قيل له: إن الذين قالوا ذلك لم يَدَّعُوا أن تأويلَ الأخبارِ التي تقَدَّم ذكرُناها هو ما زعمتَ أنهم قالوه في الأحرفِ السبعةِ التي نزَل بها القرآنُ دون غيرِه، فيكونَ ذلك لقولِنا مُخالِفًا، وإنما أخْبَروا أن القرآنَ نزَل على سبعةِ أحرفٍ، يَعْنون بذلك أنه نزَل على سبعةِ أوجهٍ. والذي قالوه مِن ذلك كما قالوا.
وقد رَوَيْنا بمثل الذي قالوا مِن ذلك، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن جماعةٍ مِن أصحابِه، أخبارًا قد تقدم ذكرُنا بعضَها، وسنَسْتَقْصِي [ذكرَ باقيها]
(1)
ببيانِه، إذا انتهَيْنا إليه إن شاء اللَّهُ.
فأما الذي تقَدَّم
(2)
ذِكْرُناه مِن ذلك، فخبرُ أُبيِّ بنِ كعبٍ، مِن روايةِ أبي كُرَيْبٍ، عن ابنِ فُضَيْلٍ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، الذي ذكَر فيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، مِن سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِن
(3)
الجَنَّةِ".
والسبعةُ الأحرفُ هو ما قلْنا مِن أنه الألسنُ السبعةُ. والأبوابُ السبعةُ مِن الجنةِ هي المعاني التي فيها؛ مِن الأمرِ والنهيِ، والترغيبِ والترهيبِ، والقَصَصِ والمَثَلِ، التي إذا عَمِل بها العاملُ، وانتهى إلى حدودِها المُنْتَهِي، اسْتَوْجَب به الجنةَ. وليس - والحمدُ للَّهِ - في قولِ مَن قال ذلك مِن المُتَقَدِّمِين خلافٌ لشيءٍ مما قلْناه.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"ذكرنا فيها".
(2)
تقدم في ص 33.
(3)
سقط من: م.
والدَّلالةُ على صحةِ ما قلْناه، مِن أن معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". إنما هو أنه نزَل بسبعِ لغاتٍ، كما تقَدَّم ذكرُنا مِن الرواياتِ الثابتةِ عن عمرَ بنِ الخطابِ، وعبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، وأُبيِّ بنِ كعبٍ، وسائرِ مَن قد قدَّمْنا الروايةَ عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أولِ هذا البابِ، أنهم تَمارَوْا في القرآنِ، فخالَف بعضُهم بعضًا في نفسِ التلاوةِ، دون ما في ذلك مِن المعاني، وأنهم احْتَكَموا فيه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاسْتَقْرَأ كلَّ رجلٍ منهم، ثم صوَّب جميعَهم في قراءتِهم على اختلافِها، حتى ارْتاب بعضُهم لتصويبِه إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عندَ تصويبِه جميعَهم:"إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".
ومعلومٌ أن تَمارِيَهم فيما تَمارَوْا فيه مِن ذلك، لو كان تَماريًا واختلافًا فيما دلَّت عليه تِلاواتُهم
(1)
؛ مِن التحليلِ والتحريمِ، والوعدِ والوَعيدِ، وما أشبهَ ذلك، لكان مستحيلًا أن يُصَوِّبَ
(2)
جميعَهم صلى الله عليه وسلم، ويَأْمُرَ
(3)
كلَّ قارئٍ منهم أن يَلْزَمَ قراءتَه في ذلك على النحوِ الذي هو عليه؛ لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحًا وجَب أن يَكونَ اللَّهُ جل ثناؤه قد أمَر بفعلِ شيءٍ بعينِه، وفرَضه في تلاوةِ مَن دلَّت تلاوتُه على فرضِه، ونهَى عن فعلِ ذلك الشيءِ بعينِه وزجَر عنه في تلاوةِ الذي دلَّت تلاوتُه على النهيِ والزجرِ عنه، وأباح وأطْلَق فِعْلَ ذلك الشيءِ بعينِه، وجعَل لمن شاء مِن عبادِه أن يَفْعَلَه فِعْلَه، ولمن شاء منهم أن يَتْرُكَه تَرْكَه، في تلاوةِ مَن دلَّت تلاوتُه على
(4)
التخييرِ!
وذلك مِن قائلِه - إن قاله - إثباتُ ما قد نفَى اللَّهُ جَلّ ثناؤه عن تنزيلِه وحكمِ
(1)
في ت 2: "تلاوتهم".
(2)
في ت 2: "تصوب".
(3)
في ت 2: "تأمر".
(4)
في م، ت 2:"عن".
كتابِه، فقال تعالى ذِكرُه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وفي نفْيِ اللَّهِ جل ثناؤه ذلك عن حكمِ كتابِه، أوضحُ الدليلِ على أنه لم يُنَزِّلْ كتابَه على لسانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا بحكمٍ واحدٍ مُتَّفِقٍ في جميعِ خلقِه، لا بأحكامٍ فيهم مختلفةٍ.
وفي صحةِ كونِ ذلك كذلك ما يُبْطِلُ دعوى مَن ادَّعى خلافَ قولِنا في تأويلِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". للذين تخاصَموا إليه عندَ اختلافِهم في قراءتِهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمَر جميعَهم بالثبوتِ على قراءتِه، ورضِي قراءةَ كلِّ قارئٍ منهم - على خلافِها قراءةَ خصومِه ومُنازِعيه فيها - وصوَّبها.
ولو كان ذلك منه تصويبًا فيما اخْتَلَفت فيه المعاني، وكان قولُه
(1)
صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ عَلَيَّ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". إعلامًا منه لهم أنه نزَل بسبعةِ أوجهٍ مختلفةٍ، وسبعةِ معانٍ مُفْتَرِقةٍ - كان ذلك إثباتًا لما قد نفَى اللَّهُ عن كتابِه مِن الاختلافِ، ونفيًا لما قد أوْجَب له مِن الائْتِلافِ.
مع أن في قيامِ الحجةِ بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَقْضِ في شيءٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ بحكمين مختلفين ولا أذِن بذلك لأمتهِ - ما يُغْنِي عن الإكثارِ في الدَّلالةِ على أن ذلك مَنْفيٌّ عن كتابِ اللَّهِ.
وفي انتفاءِ ذلك عن كتابِ اللَّهِ وجوبُ صحّةِ القولِ الذي قلْناه في معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". عندَ اخْتِصامِ المُخْتَصِمِين إليه فيما اخْتَلَفوا فيه مِن
(2)
تلاوةِ ما تَلَوْه مِن القرآنِ، وفسادِ تأويلِ قولِ مَن خالَف قولَنا في ذلك.
(1)
بعده في ر: "لهم".
(2)
في ص، ت 1:"في".
وأُخْرى
(1)
، أنَّ الذين تَمارَوْا فيما تمارَوْا فيه مِن قراءتِهم
(2)
فاحْتَكموا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يَكُنْ مُنْكَرًا عندَ أحدٍ منهم أن يَأْمُرَ اللَّهُ عبادَه جل ثناؤه في كتابِه وتنزيلِه بما شاء، ويَنْهَى عما شاء، ويَعِدَ فيما أحبَّ مِن طاعاتِه، ويُوعِدَ على مَعاصِيه، ويَحْتِمَ
(3)
لنبيِّه ويَعِظَه
(4)
فيه، ويَضْرِبَ فيه لعبادِه الأمثالَ، فيُخاصِمَ غيرَه على إنكارِه سماعَ ذلك مِن قارئِه؛ بل على الإقرارِ بذلك كلِّه كان إسلامُ مَن أسْلَم منهم. فما الوجهُ الذي أوْجَب له إنكارَ ما أنكر، إن لم يَكُنْ كان ذلك اختلافًا منهم في الألفاظِ واللغاتِ؟
وبعدُ، فقد أبان صحةَ ما قلنا الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نصًّا، وذلك الخبرُ الذي ذكَرْنا
(5)
: أن أبا كُرَيْبٍ حدَّثنا، قال: حدَّثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، عن حمادِ بنِ سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بَكْرةَ، عن أبيه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ مِيَكائِيلُ: اسْتَزِدْه. فقال: على حَرْفَيْنِ. حَتَّى بَلَغَ سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فقال: كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ يَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، كقَوْلِكَ: هَلُمَّ وَتَعَالَ".
فقد أوْضَح نصُّ هذا الخبرِ أن اختلافَ الأحرفِ السبعةِ إنما هو اختلافُ ألفاظٍ، كقولِك: هَلُمَّ وتعال. باتفاقِ المعاني، لا باختلافِ معانٍ مُوجِبةٍ اختلافَ أحكامٍ، وبمثلِ الذي قلْنا في ذلك صحَّت
(6)
الأخبارُ عن جماعةٍ مِن
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"أحرى".
(2)
في ص: "قراءاتهم".
(3)
في ر، م:"يحتج".
(4)
في ر، ت 1:"يعظ"، وفي ت 2:"بعضا".
(5)
تقدم في ص 38.
(6)
بعده في ص، ت 1:"به".
السلفِ والخلفِ.
حدَّثني أبو السائبِ سَلْمُ
(1)
بنُ جُنادةَ السُّوَائيُّ، قال: حدَّثنا أبو معاويةَ، وحدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن شعبةَ، جميعًا عن الأعمشِ، عن شَقيقٍ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: إني قد سمِعْتُ القَرَأةَ
(2)
فوجَدْتُهم مُتَقارِبِين، فاقْرَءُوا كما عُلِّمْتُم، وإياكم والتَّنَطُّعَ، فإنما هو كقولِ أحدِكم: هَلُمَّ وتَعالَ
(3)
.
وحدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدَّثنا أبو داودَ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عمَّن سمِع ابنَ مسعودٍ يقولُ: مَن قرَأ منكم على حرفٍ فلا يَتَحَوَّلَنَّ، ولو أَعْلَمُ أحدًا أعْلَمَ مني بكتابِ اللَّهِ لَأَتَيْتُه
(4)
.
وحدَّثنا ابنُ المثنى، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ قال: حدَّثنا شعبةُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عابسٍ، عن رجلٍ مِن أصحابِ عبدِ اللَّهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، قال: مَن قرَأ القرآنَ
(5)
على حرفٍ فلا يَتَحَوَّلَنَّ منه إلى غيرِه
(6)
.
فمعلومٌ أن عبدَ اللَّهِ لم يَعْنِ بقولِه هذا: مَن قرَأ ما في القرآنِ مِن الأمرِ والنهيِ فلا يَتَحَوَّلَنَّ منه إلى قراءةِ ما فيه مِن الوعدِ والوَعيدِ، ومَن قرَأ ما فيه مِن الوعدِ والوَعيدِ
(1)
في ر، م، ت 1:"سالم". وينظر تهذيب الكمال 11/ 218.
(2)
في ص: "إلى القرأة"، وفي ر:"إلى القراءة"، وفي م:"القرّاء".
(3)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 207، 217، وابن أبي شيبة 10/ 488 عن أبي معاوية به.
وأخرجه البيهقي 2/ 385 من طريق شعبة به. وسيأتي في سورة يوسف، الآية 23 من وجه آخر عن الأعمش.
(4)
رُوي من طرق عن ابن مسعود، وسيأتي تخريجه في ص 75.
(5)
زيادة من: م، ت 2.
(6)
أخرجه أحمد وغيره من طريق شعبة به. وهو جزء من أثر مطول تقدم في ص 26.
فلا يَتَحَوَّلَنَّ منه إلى قراءةِ ما فيه مِن القَصَصِ والمَثَلِ. وإنما عنَى رحمةُ اللَّهِ عليه أن مَن قرَأ بحرفِه - وحرفُه قراءتُه، وكذلك تقولُ العربُ لقراءةِ رجلٍ: حرفُ فلانٍ. وتقولُ للحرفِ مِن حروفِ الهِجاءِ المُقَطَّعةِ: حرفٌ. كما تقولُ لقصيدةٍ مِن قصائدِ الشاعرِ: كلمةُ فلانٍ - فلا يَتَحَوَّلَنَّ عنه إلى غيرِه رغبةً عنه. ومَن قرَأ بحرفِ أُبيٍّ، أو بحرفِ زيدٍ، أو بحرفِ بعضِ مَن قرَأ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ببعضِ الأحرفِ السبعةِ - فلا يَتَحَوَّلَنَّ عنه إلى غيرِه رغبةً عنه، فإن الكفرَ ببعضِه كفرٌ بجميعِه، والكفرُ بحرفٍ مِن ذلك كفرٌ بجميعِه. يعني بالحرفِ ما وصَفْنا مِن قراءةِ بعضِ مَن قرَأ ببعضِ الأحرفِ السبعةِ.
وقد حدَّثنا يحيى بنُ داودَ الواسطيُّ، قال: حدَّثنا أبو أسامةَ، عن الأعمشِ، قال: قرَأ أنسٌ هذه الآيةَ: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وأَصْوَبُ قِيلًا). فقال له بعضُ القومِ: يا أبا حمزةَ، إنما هي {وَأَقْوَمُ}. فقال:"أقومُ" و"أصوبُ" و"أهْيَأُ"
(1)
واحدٌ.
وحدَّثني محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ أنه كان يَقْرَأُ القرآنَ على خمسةِ أحرفٍ.
وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن سالمٍ، أن سعيدَ بنَ جُبيرٍ كان يَقْرَأُ القرآنَ على حرفين.
وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، قال: كان يزيدُ بنُ الوليدِ يَقْرَأُ القرآنَ على ثلاثةِ أحْرُفٍ.
(1)
في م: "أهدى"، وفي ت 2:"أهنى".
أفَتَرَى الزاعمَ أن تأويلَ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". إنما هو أنه نزَل
(1)
على الأوجهِ السبعةِ التي ذكَرْنا؛ مِن الأمرِ، والنهيِ، والوعدِ، والوَعيدِ، والجَدَلِ، والقَصَصِ، والمَثَلِ - كان يَرَى أن مُجاهِدًا وسعيدَ بنَ جُبيرٍ لم يقرأا مِن القرآنِ إلا ما كان مِن وجهيه أو وجوهِه الخمسةِ دون سائرِ مَعانيه؟ لئن كان ظنَّ ذلك بهما لقد ظنَّ بهما غيرَ الذي يُعْرفانِ به مِن منازِلِهما مِن القرآنِ، ومعرفتِهما بآيِ الفُرْقانِ.
وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا أيوبُ، عن محمدٍ، قال: نُبِّئْتُ أن جبرائيلَ وميكائيلَ أتَيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له جبرائيلُ: اقْرَإِ القرآنَ على حرفين. فقال له ميكائيلُ: اسْتَزِدْه. فقال: اقْرَإِ القرآنَ على ثلاثةِ أحرفٍ. فقال له ميكائيلُ: اسْتَزِدْه. قال: حتى بلَغ سبعةَ أحرفٍ. قال محمدٌ: لا تَخْتَلِفُ في حَلالٍ ولا حَرامٍ، ولا أمرٍ ولا نَهْيٍ، هو كقولك: تعالَ وهَلُمَّ وأقْبِلْ. قال: وفي قراءتِنا {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29]. وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (إن كانت إلا زَقْيةً واحدةً)
(2)
.
وحدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا شعيبٌ - يعني ابنَ الحَبْحابِ - قال: كان أبو العاليةِ إذا قرَأ عندَه رجلٌ لم يَقُلْ: ليس كما تقْرَأُ. وإنما يقولُ: أما أنا فأَقْرَأُ كذا وكذا. قال: فذكَرْتُ ذلك لإبراهيمَ النَّخَعيِّ، فقال: أُرَى
(1)
في ص، ت 1:"أنزل".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (55 - تفسير) من طريق أيوب وهشام عن ابن سيرين إلى قوله: حتى بلغ سبعة أحرف. وأخرج باقيه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 208، 209 عن ابن علية به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 262 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
صاحبَك قد سمِع أنه مَن كفَر بحرفٍ منه فقد كفَر به كلِّه
(1)
.
حدَّثنا يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أنْبَأنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثنا يونسُ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: أخْبَرَني سعيدُ بنُ المسيبِ أن الذي ذكَر اللَّهُ تعالى ذِكْرُه {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. إنما افتَتَن أنه كان يَكْتُبُ الوحيَ، فكان يُمْلِي
(2)
عليه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سمِيعٌ عليمٌ، أو عزيزٌ حكيمٌ، أو غير ذلك مِن خواتمِ الآيِ، ثم يَشْتَغِلُ عنه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو على الوحيِ، فيَسْتَفْهِمُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيقولُ: أعزيزٌ حكيمٌ، أو سميعٌ عليمٌ، أو عزيزٌ عليمٌ؟ فيقولُ له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أيَّ ذلك كتَبْتَ فهو كذلك". ففتَنه ذلك، فقال: إنَّ محمدًا وكَل ذلك إليَّ فأَكْتُبُ ما شئتُ. وهو الذي ذكَر لي سعيدُ بنُ المسيبِ مِن الحروفِ السبعةِ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللَّهِ قال: مَن كفَر بحرفٍ مِن القرآنِ أو بآيةٍ منه فقد كفَر به كلِّه
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: فإن قال لنا قائلٌ: فإذْ
(4)
كان تأويلُ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". عندَك ما وصَفْتَ، بما عليه اسْتَشْهَدْتَ، فأوْجِدْنا حرفًا في كتابِ اللَّهِ مَقْرُوءًا بسبعِ لغاتٍ، فنُحَقِّقَ بذلك قولَك، وإلَّا، فإن لم تَجِدْ ذلك كذلك، كان معلومًا بِعَدَمِكَهُ صحّةُ قولِ مَن زعَم أن تأويلَ ذلك أنه نزَل بسبعةِ مَعانٍ؛ وهو الأمرُ، والنهيُ، والوعدُ، والوَعيدُ، والجَدَلُ، والقَصَصُ، والمثَلُ، وفسادُ قولِك. أو تقولَ في ذلك: إن الأحرفَ السبعةَ لغاتٌ في القرآنِ سبعٌ، مُتَفَرِّقةٌ
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 18/ 174 من طريق ابن علية به.
وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 513 من طريق شعيب به. وينظر ما تقدم في ص 27.
(2)
في ص، ت 1:"يُمِلّ". وهما بمعنًى.
(3)
تقدم في ص 26، 27 ضمن أثر طويل من طريق آخر عن ابن مسعود.
(4)
في ص: "فإن"، وفي م:"فإذا".
في جميعِه، مِن لغاتِ أحياءٍ مِن قبائلِ العربِ مُخْتلفةِ الألسنِ، كما كان يقولُه بعضُ مَن لم يُنْعِمِ
(1)
النظرَ في ذلك، فيصيرُ بذلك إلى القولِ بما لا يَجْهَلُ فسادَه ذو عقلٍ، ولا يَلْتَبِسُ خطَؤُه على ذي لُبٍّ؛ وذلك أن الأخبارَ التي بها احْتَجَجْتَ لتصحيحِ مقالتِك في تأويلِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". وهي الأخبارُ التي روَيْتَها
(2)
عن عمرَ بنِ الخطابِ، وعبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، وأُبيِّ بنِ كعبٍ، رحمةُ اللَّهِ عليهم، وعمّن روَيْتَ ذلك عنه مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بأنهم تَمارَوْا في تلاوةِ بعضِ القرآنِ، فاخْتَلَفوا في قراءتِه دونَ تأويلِه، وأنْكَر بعضٌ قراءةَ بعضٍ، مع دعْوَى كلِّ قارئٍ منهم قراءةً منها أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقْرَأه ما قرَأ بالصفةِ التي قرَأ، ثم احْتَكموا
(3)
إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فكان مِن حكمِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بينَهم أن صوَّب قراءةَ كلِّ قارئٍ منهم، على خلافِها قراءةَ أصحابِه الذين نازعوه فيها، وأمَر كلَّ امرئٍ منهم أن يَقْرَأَ كما عُلِّم، حتى خالَط قلبَ بعضِهم الشكُّ في الإسلامِ؛ لما رأَى من تَصْويبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قراءةَ كلِّ قارئٍ منهم على اختلافِها، ثم جَلاه اللَّهُ عنه ببيانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن القرآنَ أُنْزِل على سبعةِ أحرفٍ.
فإن كانت الأحرفُ السبعةُ التي نزَل بها القرآنُ عندَك - كما قال هذا القائلُ - مُتَفَرِّقةً في القرآنِ، مُثْبَتةً اليومَ في مَصاحفِ أهلِ الإسلامِ، فقد بطَلَت معاني الأخبارِ التي روَيْتَها عمَّن رويتَ
(4)
عنه مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنهم اخْتَلَفوا في قراءةِ سورةٍ مِن القرآنِ، فاخْتَصَموا إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأمَر كلًّا أن يَقْرَأَ كما عُلِّم؛ لأن
(1)
في م: "يمعن"، وفي ت 2:"يعن".
(2)
في ت 2: "رويناها".
(3)
في ص، ت 1:"اختلفوا".
(4)
في م، ت 1:"رويتها".
الأحرفَ السبعةَ إذا كانت لغاتٍ متفرقةً في جميعِ القرآنِ، فغيرُ مُوجِبٍ حرفٌ مِن ذلك اختلافًا بينَ تاليه؛ لأن كلَّ تالٍ فإنما يَتْلُو ذلك الحرفَ تِلاوةً واحدةً، على ما هو به في المصحفِ، وعلى ما أُنْزِل.
وإذ كان ذلك كذلك، بطَل وجهُ اختلافِ الذين رُوِي عنهم
(1)
أنهم اخْتَلَفوا في قراءةِ سورةٍ، وفسَد معنى أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلَّ قارئٍ منهم أن يَقْرَأَه على ما عُلِّم؛ إذ كان لا معنى هنالك يُوجِبُ اخْتِلافًا في لفظٍ، ولا افتراقًا في معنًى، وكيف يَجوزُ أن يكونَ هنالك اختلافٌ بينَ القومِ، والمُعَلِّمُ واحدٌ، والعلمُ واحدٌ غيرُ ذي أوجهٍ؟ وفي صحةِ الخبرِ عن الذين رُوِي عنهم الاختلافُ في حروفِ القرآنِ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بأنهم اخْتَلفوا وتَحاكموا إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك، على ما تقَدَّم وَصْفُناه - أبينُ الدَّلالةِ على فسادِ القولِ بأن الأحرفَ السبعةَ إنما هي أحرفٌ سبعةٌ متفرقةٌ في سورِ القرآنِ، لا أنها لغاتٌ مختلفةٌ في كلمةٍ واحدةٍ باتفاقِ المعاني.
مع أن المُتَدَبِّرَ إذا تدَبَّر قولَ هذا القائلِ، في تأْويلِه قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". وادعائِه أن معنى ذلك أنها سبعُ لغاتٍ متفرقةٍ في جميعِ القرآنِ، ثم جمَع بينَ قِيله ذلك واعتلالِه لقِيله ذلك بالأخبارِ التي رُوِيَت عمَّن رُوِي ذلك عنه مِن الصحابةِ والتابعِين أنه قال: هو بمنزلةِ قولِك: تعالَ وهلمَّ وأقبلْ. وأن بعضَهم قال: هو بمنزلةِ قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (إلا زَقيَةً). وهي في قراءتِنا: {إِلَّا صَيْحَةً} . وما أشبه ذلك من حُجَجِه - علِم أن حججَه مُفْسِدةٌ في ذلك مقالتَه، وأن مقالتَه فيه مُضادَّةٌ حُجَجَه؛ لأن الذي نزَل به القرآنُ عندَه إحدى القراءتين: إمَّا {صَيْحَةً}
(2)
، وإمَّا (زقية)، وإما "تعالَ"، أو "أقبلْ"، أو "هَلُمّ"، لا جميعُ
(1)
في م: "منهم".
(2)
في م: "صحيحة".
ذلك؛ لأن كلَّ لغةٍ مِن اللغاتِ السبعِ عندَه في كلمةٍ أو حرفٍ مِن القرآنِ، غيرُ الكلمةِ أو الحرفِ الذي فيه اللغةُ الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك، بَطل اعتلالُه لقولِه بقولِ مَن قال: ذلك بمنزلةِ "هلُمَّ"، و"تعالَ"، و"أقبلْ"؛ لأن هذه الكلماتِ هي ألفاظٌ مختلفةٌ يَجْمَعُها في التأويلِ معنًى واحدٌ. وقد أبْطَل قائلُ هذا القولِ الذي حكَيْنا قولَه اجتماعَ اللغاتِ السبعِ في حرفٍ واحدٍ مِن القرآنِ، فقد تبَيَّن بذلك إفسادُه
(1)
حجتَه لقولِه بقولِه، وإفسادُه
(1)
قولَه بحجتِه.
فقيل له: ليس القولُ في ذلك بواحدٍ مِن الوجهين اللذين وصَفْتَ، بل الأحرفُ السبعةُ التي أَنْزَل اللَّهُ بها القرآنَ هن لغاتٌ سبعٌ، في حرفٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ، باختلافِ الألفاظِ واتفاقِ المعاني، كقولِ القائلِ:"هلم"، و"تَعالَ" و"أقْبِل"، و"إليَّ"، و"قَصْدي"، و"نحْوِي"، و"قُرْبِي"، ونحوِ ذلك مما تَخْتَلِفُ فيه الألفاظُ بضُروبٍ مِن المَنْطِقِ، وتَتَّفِقُ فيه المعاني، وإن اختلفتْ بالبيانِ به الألسنُ، كالذي رَوَينا آنفًا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وعمّن رَوَيْنا ذلك عنه مِن الصحابةِ، أن ذلك بمنزلةِ قولِه
(2)
: "هلم"، و"تعال"، و"أقبل". وقولِه:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً} ، و (إلا زَقْيَةً).
فإن قال: ففي أيِّ كتابِ اللَّهِ نَجِدُ حرفًا واحدًا مَقْروءًا بلغاتٍ سبعٍ مختلفاتِ الألفاظِ مُتَّفِقاتِ المعنى، فنُسَلِّمَ لك صحةَ ما ادَّعَيْتَ مِن التأويلِ في ذلك؟
قيل: إنا لم نَدَّعِ أن ذلك موجودٌ اليومَ، وإنما أخْبرْنا أن معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". على نحوِ ما جاءت به الأخبارُ التي تقَدَّم
(1)
في ص، ت 1:"إفساد".
(2)
في م: "قولك"، وفي ت 1:"قولهم".
ذِكْرُناها، وهو ما وصَفْنا، دون ما ادَّعاه مُخالِفونا في ذلك، للعللِ التي قد بيَّنَّا.
فإن قال
(1)
: فما بالُ الأحرفِ الأُخَرِ الستةِ غيرُ موجودةٍ، إن كان الأمرُ في ذلك على ما وصَفْتَ، وقد أقْرَأَهن رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أصحابَه، وأمَر بالقراءةِ بهن، وأنْزَلَهن اللَّهُ مِن عندِه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أنُسِخَت فرُفِعَت، فما الدَّلالةُ على نَسْخِها ورَفْعِها؟ أمْ نسِيَتْهن الأمةُ؟ فذلك تَضْييعُ ما قد أُمِروا بحفظِه، أم ما القصةُ في ذلك؟
قيل له: لم تُنْسَخْ فتُرْفَعَ، ولا ضيَّعَتْها الأمَّةُ وهي مأمورةٌ بحفظِها، ولكنَّ الأمَّةَ أُمِرَت بحفظِ القرآنِ، وخُيِّرَت في قراءتِه وحفظِه بأيِّ تلك الأحرفِ السبعةِ شاءَت، كما أُمِرَت إذا هي حنَثَتْ في يمينٍ وهي مُوسِرةٌ، أن تُكَفِّرَ بأيِّ الكفَّاراتِ الثلاثِ شاءت؛ إما بعتقٍ، أو إطعامٍ، أو كِسوةٍ، فلو أجْمَعَ جميعُها على التكفيرِ فيها
(2)
بواحدةٍ مِن الكفاراتِ الثلاثِ، دونَ حَظْرِها التكفيرَ فيها
(3)
بأيِّ الثلاثِ شاء المُكَفِّرُ، كانت مُصيبةً حُكْمَ اللَّهِ، مُؤَدِّيةٌ في ذلك الواجبَ عليها مِن حقِّ اللَّهِ. فكذلك الأمةُ أُمِرَت بحفظِ القرآنِ وقراءتِه، وخُيِّرَت في قراءتِه بأيِّ الأحرفِ السبعةِ شاءت، فرأَتْ -لعلةٍ مِن العللِ أوْجَبَت عليها الثباتَ على حرفٍ واحد- قراءتَه بحرفٍ واحدٍ، ورفْضَ القراءةِ بالأحرفِ الستةِ الباقيةِ، ولم تَحْظُرْ قراءتَه بجميعِ حروفِه على قارئِه، بما أُذِن له في قراءتِه به.
فإن قال: وما العلةُ التي أوْجَبَت عليها الثباتَ على حرفٍ واحدٍ دونَ سائرِ الأحرفِ الستةِ الباقيةِ؟
(1)
بعده في ر: "قائل".
(2)
زيادة من: ر.
(3)
سقط من: ص، وفي ت 1:"بها".
قيل: حدَّثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ الدَّرَاوَرْديُّ، عن عُمارةَ بنِ غَزِيَّةَ، عن ابنِ شِهابٍ، عن خارجةَ بنِ زيدِ بنِ ثابتٍ، عن أبيه زيدٍ، قال: لما قُتِل أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم باليَمامةِ، دخَل عمرُ بنُ الخطَّابِ علَى أبي بكرٍ، فقال: إن أصحابَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم باليمامةِ تَهافَتوا تَهافُتَ الفَراشِ في النارِ، وإني أَخْشَى ألا يَشْهَدوا موطنًا إلا فعَلوا ذلك حتى يُقْتَلوا - وهم حملةُ القرآنِ - فيَضِيعَ القرآنُ ويُنْسَى، فلو جَمَعْتَه وكتَبْتَه. فنفَر منها أبو بكرٍ، وقال: أَفْعَلُ ما لم يَفْعَلْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! فتَراجَعا في ذلك، ثم أرْسَل أبو بكرٍ إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال زيدٌ: فدخَلْتُ عليه، وعمرُ مُحْزَئِلٌّ
(1)
، فقال أبو بكرٍ: إن هذا قد دعاني إلى أمرٍ فأبَيْتُ عليه، وأنت كاتبُ الوحيِ، فإن تَكُنْ معه اتَّبَعْتُكما، وإن تُوافِقْني لا أَفْعَلْ. قال: فاقْتَصَّ أبو بكرٍ قولَ عمرَ، وعمرُ ساكتٌ، فنفَرْتُ مِن ذلك، وقلتُ: نَفْعَلُ ما لم يَفْعَلْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ إلى أن قال عمرُ كلمةً: وما عليكما لو فعَلْتُما ذلك؟ قال: فذهَبْنا نَنْظُرُ، فقلْنا: لا شيءَ، واللَّهِ ما علينا في ذلك شيءٌ. قال زيدٌ: فأمَرَني أبو بكرٍ فكتَبْتُه في قِطَعِ الأُدُمِ وكِسَرِ الأكْتافِ والعُسُبِ
(2)
، فلما هلَك أبو بكرٍ، وكان عمرُ، كتَب ذلك في صحيفةٍ واحدةٍ، فكانت عندَه، فلما هلَك كانت الصحيفةُ عندَ حفصةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم إن حذيفةَ بنَ اليمانِ قدِم مِن غزوةٍ كان غزاها في فرجِ
(3)
إرْمِينِيَةَ، فلم يَدْخُلْ بيتَه حتى أتَى عثمانَ بنَ عفانَ، فقال: يا أميرَ المؤمنين،
(1)
محزئل: أي منضم بعضه إلى بعضٍ، وقيل: مستوفز. النهاية 1/ 379.
(2)
الأُدُم، جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ. والأكتاف، جمع كتف: وهو عظم عريض خلف المنكب. والعُسُب، جمع عسيب: وهو جريدة النخل المستقيمة يكشف خوصها.
(3)
في ص: "مرج"، والفرج: الثغر المخوف.
وإرمينية جمهورية صغيرة من جمهوريات ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي، وتقع على حدود تركيا وإيران. ينظر: البلدان الإسلامية والأقليات الإسلامية في العالم المعاصر ص 577.
أدْرِكِ الناسَ. فقال عثمانُ، وما ذاك؟ قال: غزَوْتُ فرجَ إرْمِينِيَةَ، فحضَرها أهلُ العراقِ وأهلُ الشامِ، فإذا أهلُ الشامِ يَقْرَءون بقراءةِ أُبيِّ بنِ كعبٍ، فيَأْتُون بما لم يَسْمَعْ أهلُ العراقِ، فيُكَفِّرُهم أهلُ العراقِ، وإذا أهلُ العراقِ يَقْرَءون بقراءةِ ابنِ مسعودٍ، فيَأْتُون بما لم يَسْمَعْ أهلُ الشامِ، فيُكَفِّرُهم أهلُ الشامِ. قال زيدٌ: فأمَرَني عثمانُ بنُ عفانَ
(1)
أكْتُبُ له مصحفًا. وقال: إني مُدْخِلٌ معك رجلًا لَبيبًا فَصيحًا، فما اجْتَمَعْتُما عليه فاكْتُباه، وما اخْتَلَفْتُما فيه فارْفَعاه إليَّ. فجعَل
(2)
أبانَ بنَ سعيدِ بنِ العاصِ. قال: فلما بلغا: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248]. قال زيدٌ: فقلتُ: (التابوه). وقال أبانُ بنُ سعيدٍ: {التَّابُوتُ} . فرفَعْنا ذلك إلى عثمانَ فكتَب: {التَّابُوتُ} . قال: فلما فرَغْتُ عرَضْتُه
(3)
معه عَرْضةً، فلم أَجِدْ فيه
(4)
هذه الآيةَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . إلى قوِله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]. قال: فاسْتَعْرَضْتُ المهاجرين أَسْألُهم عنها، فلم أَجِدْها عندَ أحدٍ منهم، ثم اسْتَعْرَضْتُ الأنصارَ أَسْألُهم عنها، فلم أَجِدْها عندَ أحدٍ منهم، حتى وجَدْتُها عندَ خُزَيْمةَ بنِ ثابتٍ، فكتَبْتُها، ثم عَرَضتُه عَرْضَةً أخرى، فلم أَجِدْ فيه هاتين الآيتَيْن:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخرِ السورةِ. [التوبة: 128، 129] فاسْتَعْرَضْتُ المهاجرِين، فلم أَجِدْها عند أحدٍ منهم، [ثم اسْتَعْرَضْتُ الأنْصارَ أَسْأَلُهم عنها، فلم أَجِدْها عندَ أحدٍ منهم]
(5)
، حتى وجَدْتُها مع رجلٍ آخرَ يُدْعَى خزيمةَ أيضًا، فأثْبَتُّها في آخرِ "براءة"، ولو تَمَّتْ ثلاثَ آياتٍ لجعَلْتُها سورةً على حِدَةٍ، ثم
(1)
بعده في ت 1: "أن".
(2)
زيادة من: م.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"عرضت".
(4)
بعده في ر: "إلا".
(5)
سقط من: ر.
عرَضْتُه عَرْضةً أخرى فلم أَجِدْ فيه شيئًا، ثم أرْسَل عثمانُ إلى حفصةَ يَسْأَلُها أن تُعْطِيَه الصَّحيفةَ، وحلَف لها لَيَرُدَّنَّها إليها، فأعْطَتْه إياها، فعرَض المصحفَ عليها، فلم يَخْتَلِفا في شيءٍ، فردَّها إليها، وطابت نفسُه، وأمَر الناسَ أن يَكْتُبوا مَصاحفَ، فلما ماتت حفصةُ أرْسَل إلى عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ في الصَّحيفةِ بعَزْمةٍ، فأعطاهم إياها، فغُسِلَت غَسْلًا
(1)
.
وحدَّثني [به أيضًا]
(2)
يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: حدَّثنا نُعَيْمُ بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ، عن عُمارةَ بنِ غَزِيَّةَ، عن ابنِ شِهابٍ، عن خارجةَ بنِ زيدٍ، عن أبيه زيدِ بنِ ثابتٍ، بنحوِه سواءً
(3)
.
وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا أيوبُ، عن أبي قِلابَةَ، قال: لما كان في خِلافةِ عثمانَ، جعَل المُعَلِّمُ يُعَلِّمُ قراءةَ الرجلِ، والمُعَلِّمُ يُعَلِّمُ قراءةَ الرجلِ، فجعَل الغِلْمانُ يَلْتَقون فيَخْتَلِفون، حتى ارْتَفَع ذلك إلى المُعَلِّمِين، قال أيوبُ: فلا أَعْلَمُه إلا قال: حتى كفَر بعضُهم بقراءةِ بعضٍ. فبلَغ ذلك عثمانَ،
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (4844)، والخطيب في المدرج 1/ 397 من طريق الدراوردي به.
وأخرجه البخاري (4986 - 4988) من طريق ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، عن زيد بقصته مع أبي بكر وعمر، وعن أنس بقصة حذيفة مع عثمان، وعن خارجة بن زيد بقصة فقد الآية من سورة الأحزاب.
وقال الحافظ: هذا هو الصحيح عن الزهري .... وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال: عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه. وساق القصص الثلاث بطولها؛ قصة زيد مع أبي بكر وعمر، ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضًا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب، أخرجه الطبري، وبين الخطيب في المدرج أن ذلك وهم منه وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض. ينظر المدرج 1/ 399، 400، والفتح 9/ 11، 12، ومسند الطيالسي (609).
(2)
في ص: "أيضًا"، وفي م:"به".
(3)
أخرجه الطحاوي في المشكل (3118) عن يونس به.
فقام خطيبًا، فقال: أنتم عندي تَخْتَلِفون فيه وتَلْحَنون، فمَن نأَى
(1)
عني مِن أهلِ الأمصارِ أشدُّ فيه اخْتِلافًا، وأشدُّ لَحْنًا، اجْتَمِعوا [يا أصحابَ]
(2)
محمدٍ، فاكْتُبوا للناسِ إمامًا. قال أبو قِلابةَ: فحدَّثني [مالكٌ أبو أنسٍ]
(3)
، قال: كنتُ في مَن يُمْلَى عليهم، قال: فربما اخْتَلَفوا في الآيةِ، فيَذْكُرُون الرجلَ قد تَلَقَّاها مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكونَ غائبًا، أو في بعضِ البَوادِي، فيَكْتُبون ما قبلَها وما بعدَها، ويَدَعُون موضعَها حتى يَجِيءَ أو يُرْسَلَ إليه، فلما فرَغ مِن المصحفِ، كتَب عثمانُ إلى أهلِ الأمصارِ: إني قد صنَعْتُ كذا وكذا، ومحَوْتُ ما عندي، فامْحُوا ما عندَكم
(4)
.
حدَّثني يونُسُ بن عبدِ الأعلى، قال: حدَّثنا ابن وهبٍ، قال: أخْبَرني يونُسُ، قال: قال ابنُ شهابٍ: أخْبَرني أنسُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ، أنه اجْتَمَع لغزوةِ أَذْرَبِيجانَ وإرْمِينِيَةَ أهلُ الشامِ وأهلُ العراقِ، فتَذاكَروا القرآنَ، فاخْتَلَفوا فيه حتى كاد يَكونُ بينَهم فتنةٌ، فركِب حذيفةُ بنُ اليَمانِ لمَّا رأَى اختلافَهم في القرآنِ إلى عثمانَ، فقال: إن الناسَ قد اخْتَلَفوا في القرآنِ
(5)
، حتى إني واللَّهِ لَأَخْشَى أن يُصِيبَهم مثلُ ما أصاب اليهودَ والنصارى مِن الاختلافِ. قال: ففزِع لذلك فزعًا شديدًا، فأرْسَل إلى حفصةَ،
(1)
في ر: "غاب".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"بأصحاب".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2:"أنس بن مالك". وفي المصاحف لابن أبي داود - وعنه الكنز (4776) -: "مالك بن أنس - قال أبو بكر بن أبي داود: هذا مالك بن أنس جد مالك بن أنس".
والصواب ما أثبتنا كما في "ر". وهو مالك بن أبي عامر الأصبحي - وهكذا ذكره الحافظ في الفتح 9/ 19 عن ابن أبي داود - كان ممن قرأ في زمان عثمان، وكان يكتِّبه المصاحف. ينظر المصاحف ص 26، وجمهرة أنساب العرب ص 435، 436 وتهذيب الكمال 27/ 148.
(4)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 21 من طريق ابن علية به. وعزاه المتقي الهندي في الكنز (4776) إلى ابن الأنباري. وينظر المتفق والمفترق للخطيب 1/ 129، 130.
(5)
في ت 2: "القراءة".
فاسْتَخْرَج الصحفَ
(1)
التي كان أبو بكرٍ أمَر زيدًا بجمعِها، فنسَخ منها مَصاحفَ، فبعَث بها إلى الآفاقِ
(2)
.
حدَّثني سعيدُ بنُ الربيعِ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ، عن الزهريِّ، قال: قُبِض النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يَكُنِ القرآنُ جُمِع، وإنما كان في الكَرانيفِ
(3)
[والعُسُبِ والسَّعَفِ]
(4)
.
حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيعِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن مُجالِدٍ، عن الشعبيِّ، عن صَعْصَعةَ، أن أبا بكرٍ أولُ مَن ورَّث الكَلالةَ، وجَمَع المصحفَ
(5)
.
وما أشبهَ ذلك مِن الأخبارِ التي يَطولُ باستيعابِ جميعِها الكتابُ، والآثارِ الدالةِ على أن إمامَ المسلمين وأميرَ المؤمنين عثمانَ بنَ عفانَ رحمةُ اللَّهِ عليه، جَمَع المسلمين؛ نظرًا منه لهم، وإشْفاقًا منه عليهم، ورأفةً منه بهم، حِذارَ الرِّدَّةِ
(6)
مِن بعضِهم بعدَ الإسلامِ، و
(7)
الدخولِ في الكفرِ بعدَ الإيمانِ، إذ ظهَر مِن بعضِهم بمحضَرِه وفي عصرِه التكذيبُ ببعضِ الأحرفِ السبعةِ التي نزَل عليها القرآنُ، مع سَماعِ أصحابِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النهيَ عن التكذيبِ بشيءٍ منها، وإخبارِه إياهم أن المِراء فيها كفرٌ، فحمَلهم رحمةُ اللَّهِ عليه، إذ رأَى ذلك ظاهرًا بينَهم في عصرِه، وبحَداثةِ عهدِهم بنزولِ القرآنِ، وفِراقِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
في ص، وكتاب المصاحف ص 21:"الصحيفة"، وفي ت 1:"المصحف".
(2)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 18، 21 من طريق الزهري به.
(3)
الكرانيف: جمع كُرنافة، وهي أصل السعفة الغليظة. النهاية 4/ 168.
(4)
في ص، ت 1:"والسعف"، وفي م:"والعسب"، وفي ت 2:"والشعف".
والأثر أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 23 من طريق الزهري به نحوه.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 545 من طريق سفيان به.
(6)
بعده في م بين معكوفين: "بمحضره".
(7)
سقط من: م.
إياهم، بما أمِن عليهم معه عظيمَ البلاءِ في الدينِ؛ مِن تلاوةِ القرآنِ على حرفٍ واحدٍ، وجَمَعهم على مصحفٍ واحدٍ
(1)
، وخرَّق
(2)
ما عدا المصحف الذي جَمَعهم عليه، وعزَم على كلِّ مَن كان عندَه مصحفٌ مُخالِفٌ المصحفَ الذي جَمَعَهم عليه أن يُخَرِّقَه
(3)
، فاسْتَوْثَقَت له الأمةُ على ذلك بالطاعةِ، ورأَت أن فيما فعَل مِن ذلك الرشدَ والهدايةَ، فترَكَت القراءةَ بالأحرفِ الستةِ التي عزَم عليها إمامُها العادلُ في تركِها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسِها ولمن بعدَها مِن سائرِ أهلِ ملَّتِها، حتى دَرَسَت مِن الأمةِ معرفتُها، وتعَفَّت آثارُها، فلا سبيلَ اليومَ لأحدٍ إلى القراءةِ بها، لدُثورِها وعُفُوِّ آثارِها، وتتابعِ المسلمين على رفضِ القراءةِ بها، مِن غيرِ جُحودٍ منها
(4)
صحتَها وصحةَ شيءٍ منها، ولكن نظرًا منها لأنفسِها ولسائرِ أهلِ دينِها، فلا قراءةَ للمسلمين اليومَ إلا بالحرفِ الواحدِ الذي اخْتارَه لهم إمامُهم الشفيقُ الناصحُ، دونَ ما عداه مِن الأحرفِ الستةِ الباقيةِ.
فإن قال بعضُ مَن ضعُفَت معرفتُه: وكيف جاز لهم تركُ قراءةٍ أقْرَأَهموها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأمَرهم بقراءتِها؟
قيل: إن أمرَه إياهم بذلك لم يَكُنْ أمرَ إيجابٍ وفرضٍ، وإنما كان أمرَ إباحةٍ ورُخْصةٍ؛ لأن القراءةَ بها لو كانت فرضًا عليهم، لَوجَب أن يكونَ العلمُ
(5)
بكلِّ حرفٍ مِن تلك الأحرفِ السبعةِ عندَ مَن يَقومُ بنقلِه الحُجَّةُ، ويَقْطَعُ خبرُه العذرَ،
(1)
بعده في ص، م:"وحرف واحد".
(2)
في ر، م، ت 1:"حرق".
(3)
في ر، م، ت 1:"يحرقه". قال الحافظ في الفتح 9/ 20: في رواية الأكثر: "أن يخرق" بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة، ورواه الأصيلي بالوجهين، والمعجمة أثبت.
(4)
في ص، ر، ت 1:"منهم". ومنها: أي من الأمة.
(5)
بعده في ت 1: "بذلك".
ويُزِيلُ الشكَّ مِن قَرَأَةِ الأمةِ، وفي تركِهم نقلَ ذلك كذلك أوضحُ الدليلِ على أنهم كانوا في القراءةِ بها مُخَيَّرِين، بعدَ
(1)
أن يكونَ في نَقَلةِ القرآنِ مِن الأمَّةِ مَن تَجِبُ بنقلِه الحجةُ ببعضِ تلك الأحرفِ السبعةِ، فإذ
(2)
كان ذلك كذلك، لم يَكُنِ القومُ بتركِهم نقلَ جميعِ القراءاتِ السبعِ تارِكِين ما كان عليهم نقلُه، بل كان الواجبُ عليهم مِن الفعلِ ما فعَلوا، إذ كان الذي فعَلوا مِن ذلك، كان هو النَّظَرَ للإسلامِ وأهلِه، فكان القيامُ بفعلِ الواجبِ عليهم بهم أولى مِن فعلِ ما لو فعَلوه كانوا إلى الجنايةِ على الإسلامِ وأهلِه أقربَ منهم إلى السلامةِ مِن ذلك.
فأما ما كان مِن اختلافِ القرأةِ في رفعِ حرفٍ وجرِّه ونصبِه، وتَسْكينِ حرفٍ وتحريكِه، ونقلِ حرفٍ إلى آخرَ، مع اتفاقِ الصورةِ، فمِن معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أن أقْرَأَ الْقُرْآنَ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ" - بمَعْزِلٍ؛ لأنه معلومٌ أنه لا حرفَ مِن حروفِ القرآنِ مما اخْتَلَفَت القرأَةُ في قراءتِه بهذا المعنى يُوجِبُ المِراءُ به كفْرَ المُمارِي به في قولِ أحدٍ مِن علماءِ الأمةِ
(3)
.
وقد أوْجَب صلى الله عليه وسلم بالمراءِ فيه الكفرَ مِن الوجهِ الذي تَنازَع فيه المُتَنازِعون إليه، وتَظاهَرَت عنه بذلك الروايةُ، على ما قد قدَّمْنا ذكرَها في أولِ هذا البابِ
(4)
.
(1)
في ت 1: "بين".
(2)
في م: "فإذا".
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنزاع في أن القراءات السبعة المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا؟ فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول. مجموع الفتاوى 13/ 395.
(4)
في ت 2: "الكتاب".
فإن قال لنا قائلٌ: فهل لك مِن علمٍ بالألسنِ السبعةِ التي نزَل بها القرآنُ؟ وأيِّ الألسنِ هي مِن ألسنِ العربِ؟
قلْنا: أما الألسنُ الستةُ التي قد نزَلَت القراءةُ بها فلا حاجةَ بنا إلى معرفتِها؛ لأنا لو عرَفْناها لم نَقْرَأ اليومَ بها، مع الأسبابِ التي قدَّمْنا ذكرَها. وقد قيل: إن خمسةً منها لعَجُزِ هَوازنَ، واثنين منها لقريشٍ وخُزاعةَ.
رُوِي جميعُ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وليست الروايةُ به
(1)
عنه مِن روايةِ مَن يَجوزُ الاحتجاجُ بنقلِه، وذلك أن الذي روَى عنه أن خمسةً منها مِن لسانِ العَجُزِ مِن هَوازنَ، الكلبيُّ
(2)
عن أبي صالحٍ
(3)
، وأن الذي روَى عنه أن اللسانين الآخرَيْن لسانُ قريشٍ وخزاعةَ، قتادةُ، وقتادةُ لم يَلْقَهُ ولم يَسْمَعْ منه.
حدَّثني بذلك بعضُ أصحابِنا، قال: حدَّثنا صالحُ بنُ نصرٍ الخُزاعيُّ، قال: حدَّثنا الهيثمُ بنُ عديٍّ، عن سعيدِ بنِ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: نزَل القرآنُ بلسانِ قريشٍ ولسانِ خُزاعةَ، وذلك أن الدارَ واحدةٌ
(4)
.
وحدَّثني بعضُ أصحابِنا، قال: حدَّثنا صالحُ بنُ نصرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن أبي الأسودِ الدُّئليِّ، قال: نزَل القرآنُ بلسانِ الكعبَيْن؛ كعبِ بنِ عمروٍ، وكعبِ بنِ لُؤَيٍّ. فقال خالدُ بنُ سلَمةَ لسعدِ بنِ إبراهيمَ: ألا تَعْجَبُ مِن هذا
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
في ت 2: "الكلام".
(3)
ذكره أبو عبيد في فضائل القرآن ص 204 عن الكلبي به.
(4)
ذكره أبو عبيد في فضائل القرآن ص 204، قال: وكذلك يحدثون عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عمن سمع ابن عباس.
الأعْمَى
(1)
، يَزْعُمُ أن القرآنَ نزَل بلسانِ الكعبَيْن، وإنما نزَل بلسانِ قريشٍ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: والعَجُزُ مِن هَوازِنَ؛ سعدُ بنُ بكرٍ، وجُشَمُ
(3)
بنُ بكرٍ، ونصرُ بنُ معاويةَ، وثَقيفٌ.
وأما معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ ذكَر نزولَ القرآنِ على سبعةِ أحرفٍ: "إن كلَّها شافٍ كافٍ". فإنه كما قال جل ثناؤُه في وصفِه القرآنَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. جعَله اللَّهُ للمؤمنين شفاءً، يَسْتَشْفُون بمواعظِه مِن الأدواءِ العارضةِ لصدورِهم، مِن وَساوسِ الشيطانِ وخَطَراتِه
(4)
، فيَكْفِيهم ويُغْنِيهم عن كلِّ ما عداه مِن المواعظِ ببيانِ آياتِه.
القولُ في البيانِ عن معنى قولِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُنزِلَ القُرآنُ مِن سبعةِ أبوابِ الجَنَّةِ". وذكرُ الأخبارِ المرويةِ
(5)
بذلك.
قال أبو جعفرٍ: اختَلَفَت النَّقَلَةُ في ألفاظِ الخبرِ بذلك عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فرُوِي عن ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان الكِتابُ الأوَّلُ نَزَل مِن بَابٍ واحِدٍ، وعلى حَرْفٍ واحِدٍ، ونَزَل القُرآنُ مِن سبعةِ أبوابٍ، وعلى سبعةِ أحْرُفٍ؛ [زَاجِرٌ، وآمِرٌ]
(6)
، وحَلالٌ، وحَرامٌ، ومُحْكَمٌ، ومُتَشابِهٌ، وأمْثالٌ، فأحِلُّوا حلالَه، وَحَرِّمُوا حرامَه، وافْعَلُوا ما أُمِرْتُم به، وانْتَهُوا عما نُهِيتُم عنه، واعْتَبِرُوا بأمْثالِه
(1)
في ت 1: "الأعجمي".
(2)
قتادة لم يدرك أبا الأسود. وينظر تاريخ بغداد 5/ 173.
(3)
في م: "خيثم". وينظر جمهرة أنساب العرب ص 304، والتمهيد 8/ 280.
(4)
في ص، ت 1:"خطواته".
(5)
في ص، ت 1:"الواردة".
(6)
في م: "زجر وأمر".
واعْمَلُوا بمُحْكَمِه، وآمِنُوا بمُتَشابهِه، وقُولُوا: آمَنَّا به كلٌّ من عندِ رَبِّنا".
حدَّثني بذلك يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَني حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، عن عُقَيْلِ بنِ خالدٍ، عن سَلَمةَ بنِ أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، عن أبيه، عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ورُوِي عن أبي قِلابةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا غيرُ ذلك.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: حدَّثنا عَبّادُ بنُ زكريا، عن عوفٍ، عن أبي قِلابةَ، قال: بلَغَني أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُنزِلَ القُرْآنُ على سبعةِ أَحْرُفٍ؛ أمْرٌ، وزَجْرٌ، وتَرْغِيبٌ، وتَرْهِيبٌ، وجَدَلٌ، وقَصَصٌ، ومَثَلٌ"
(2)
.
ورُوِي عن أُبيٍّ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك ما حدَّثني به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن عبدِ
(3)
اللَّهِ بنِ عيسى بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن أبيه، عن جدِّه، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ، قال: قال لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ أَمَرَني أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ على حَرْفٍ واحِدٍ، فقُلْتُ: رَبِّ، خَفِّفْ عن أُمَّتِي. قال: اقْرَأْه على حَرْفَيْن. فقُلْتُ: رَبِّ، خَفِّفْ عن أُمَّتي. فأمَرَني أن أقْرَأَه على سبعةِ أَحْرُفٍ، من سَبْعَةِ أبْوابٍ من الجنَّةِ، كلُّها شافٍ كافٍ"
(4)
.
(1)
إسناده منقطع؛ أبو سلمة لم يلق ابن مسعود. وأخرجه ابن حبان (745)، والحاكم 1/ 553، 2/ 289، وابن عبد البر في التمهيد 8/ 275 من طريق ابن وهب به. وأخرجه الطحاوي في المشكل (3102) من طريق حيوة بن شريح به.
وهذا الحديث ضعفه الطحاوي وابن عبد البر وغيرهما. ورُوي موقوفا على ابن مسعود - كما سيأتي - وقال ابن كثير: هو أشبه. وينظر فضائل القرآن ص 66، والفتح 9/ 29، والسلسلة الصحيحة (587).
(2)
عزاه المتقي الهندي في الكنز (3096) إلى المصنف.
(3)
في م: "عبيد". وتقدم على الصواب في ص 32، وينظر تهذيب الكمال 15/ 412.
(4)
تقدم في ص 33.
ورُوِي عن ابنِ مسعودٍ مِن قِيلِه
(1)
خلافُ ذلك كلِّه، وهو ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا المُحارِبيُّ، عن الأحوصِ
(2)
بنِ حَكيمٍ، عن ضَمْرةَ بنِ حَبيبٍ، عن القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، قال: إن اللَّهَ أنْزَل القرآنَ على خمسةِ أحرُفٍ؛ حلالٌ، وحرامٌ، ومُحْكَمٌ، ومُتَشَابِهٌ، وأمثالٌ، فأحِلَّ الحلالَ، وحَرِّمِ الحَرامَ، واعْمَلْ بالمُحْكَمِ، وآمِنْ بالمتشابهِ، واعْتَبِرْ بالأمثالِ
(3)
.
وكلُّ هذه الأخبارِ التي ذكَرْناها عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقارِبةُ المعاني؛ لأن قولَ القائلِ: فلانٌ مُقيمٌ على بابٍ مِن أبوابِ هذا الأمرِ، وفلانٌ مقيمٌ على وَجْهٍ مِن وجوهِ هذا الأمرِ، وفلانٌ مقيمٌ على حرفٍ مِن هذا الأمرِ. سواءٌ، ألا تَرَى أن اللَّهَ تعالى ذكرُه وَصف قومًا
(4)
عبَدوه على وجهٍ مِن وجوهِ العباداتِ، فأخْبَر عنهم أنهم عبَدوه على حرفٍ فقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]. يعْني أنهم عبَدوه على وجهِ الشكِّ، لا على اليقينِ به
(5)
والتسليمِ لأمرِه.
فكذلك روايةُ مَن روَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نَزَل القُرآنُ مِن سَبعةِ أَبْوابٍ" و"نَزَل على سَبْعَةِ أَحْرْفٍ". سَواءٌ معناهما مُؤْتَلِفٌ، وتأويلُهما غيرُ مختلفٍ في هذا الوجهِ.
ومعنى ذلك كلِّه الخبرُ منه صلى الله عليه وسلم عما خصَّه اللَّهُ به وأمتَه مِن الفضيلةِ والكرامةِ
(1)
في م: "قبله".
(2)
في ر: "أبي الأحوص". وينظر تهذيب الكمال 2/ 289.
(3)
أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (129) من طريق ابن إدريس عن الأحوص، عن القاسم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 6 إلى ابن المنذر. والقاسم لم يدرك ابن مسعود.
(4)
بعده في ص، ت 1:"أنهم".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1.
التي لم يُؤْتِها أحدًا في تنزيلِه؛ وذلك أن كلَّ كتابٍ تقَدَّم كتابَنا نزولُه على نبيٍّ مِن أنبياءِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهم، فإنما نزَل بلسانٍ واحدٍ، متى حُوِّل إلى غيرِ اللسانِ الذي نزَل به كان ذلك له ترجمةً
(1)
وتفسيرًا، لا تلاوةً له على ما أنْزَله اللَّهُ، وأنْزَل كتابَنا بألسنٍ سبعةٍ، بأيِّ تلك الألسنِ السبعةِ تلاه التالي كان له تاليًا على ما أنْزَله اللَّهُ لا مُتَرْجِمًا ولا مُفَسِّرًا، حتى يُحَوِّلَه عن تلك الألسنِ السبعةِ إلى غيرِها، فيصيرَ فاعلُ ذلك حينَئذٍ - إذا أصاب معناه - له مترجِمًا، كما كان التالي بعضَ
(2)
الكتبِ التي أنْزَلها اللَّهُ بلسانٍ واحدٍ، إذا تلاه بغيرِ اللسانِ الذي نزَل به، له مترجِمًا، لا تاليًا على ما أنْزَله اللَّهُ به.
فذلك معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "كان الكِتابُ الأوَّلُ نَزَل على حَرْفٍ واحِدٍ، ونَزَل القُرآنُ على سبعةِ أحْرُفٍ".
وأما معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الكِتابَ الأوَّلَ نَزَل مِن بابٍ واحِدٍ، ونَزَل القُرآنُ مِن سبعةِ أبْوابٍ". فإنه صلى الله عليه وسلم عنَى بقولِه: "نَزَل الكِتابُ الأوَّلُ مِن بابٍ واحِدٍ" - واللَّهُ أعلمُ - ما نزَل مِن كتبِ اللَّهِ على مَن أنْزَله مِن أنبيائِه، خاليًا مِن الحدودِ والأحكامِ والحلالِ والحرامِ، كزَبورِ داودَ، الذي إنما هو تذكيرٌ ومَواعظُ، وإنجيلُ عيسى، الذي هو تَمْجيدٌ ومَحامدُ وحضٌّ على الصَّفْحِ والإعْراضِ، دونَ غيرِها مِن الأحكامِ والشرائعِ، وما أشْبَهَ ذلك مِن الكتبِ التي نزَلت ببعضِ المعاني السبعةِ التي يَحْوِي جميعَها كتابُنا الذي خصَّ اللَّهُ به نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه.
فلم يكنِ المتعبِّدون بإقامتِه يَجِدون لرِضَا اللَّهِ تعالى ذكرُه مَطْلَبًا يَنالُون به الجنةَ،
(1)
الترجمة هنا: البيان.
(2)
في ص، م:"لبعض".
ويسْتَوْجِبون به
(1)
منه القُرْبَةَ، إلا مِن الوجهِ الواحدِ الذي أُنْزِل به كتابُهم، وذلك هو البابُ الواحدُ مِن أبوابِ الجنةِ الذي نزَل منه ذلك الكتابُ. وخصَّ اللَّهُ - جلَّ وعزَّ - نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه بأن أَنْزَل عليهم كتابَه على أوجهٍ سبعةٍ مِن الوجوهِ التي يَنالُون بها رِضْوانَ اللَّهِ، ويُدْرِكون بها الفوزَ بالجنةِ إذا أقاموها، فكلُّ
(2)
وجهٍ مِن أوجُهِه السبعةِ بابٌ مِن أبوابِ الجنةِ الذي نزَل منه القرآنُ؛ لأن العاملَ بكلِّ وجهٍ مِن أوجُهِه
(3)
السبعةِ عاملٌ على
(4)
بابٍ مِن أبوابِ الجنةِ، وطالبٌ مِن قِبَلِه الفوزَ بها، فالعملُ بما أمَر اللَّهُ جلَّ ذكرُه في كتابِه بابٌ مِن أبوابِ الجنةِ، وتركُ ما نهَى اللَّهُ عنه فيه بابٌ آخرُ ثانٍ مِن أبوابِها، وتحليلُ ما حَلَّل اللَّهُ فيه بابٌ ثالثٌ مِن أبوابِها، وتحريمُ ما حرَّم اللَّهُ فيه بابٌ رابعٌ مِن أبوابِها، والإيمانُ بمُحْكَمِه المُبَيَّنِ بابٌ خامسٌ مِن أبوابِها، والتسليمُ لمُتَشابِهِه الذي اسْتَأْثَر اللَّهُ بعلمِه وحجَب علمَه عن خلقِه، والإقرارُ بأن كلَّ ذلك مِن عندِ ربِّه، بابٌ سادسٌ مِن أبوابِها، والاعتبارُ بأمثالِه والاتعاظُ بعِظاتِه بابٌ سابعٌ مِن أبوابِها.
فجميعُ ما في القرآنِ مِن حروفِه السبعةِ وأبوابِه السبعةِ التي نزَل منها، جعَله اللَّهُ لعبادِه إلى رِضوانِه هاديًا، ولهم إلى الجنةِ قائدًا، فذلك معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: "نزَل القُرآنُ مِن سبعةِ أبوَابٍ من
(5)
الْجَنَّةِ".
وأما قولُه صلى الله عليه وسلم في القرآنِ: "إنَّ لكلِّ حَرْفٍ منه حَدًّا"
(6)
. يعني الكلِّ وجهٍ مِن
(1)
سقط من: ص، م.
(2)
في م: "فلكل".
(3)
في ر، ت 1:"أوجهها".
(4)
في ص، م، ت 1:"في".
(5)
سقط من: ص، م.
(6)
تقدم في ص 22.
أوجُهِه السبعةِ حدًّا حده اللَّهُ جلَّ ثناؤُه، لا يَجوزُ لأحدٍ أن يَتَجاوَزَه.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ لكُلِّ حَرْفٍ منها ظَهْرًا وبَطْنًا". فظهرُه الظاهرُ في التلاوةِ، وبطنُه ما بطَن مِن تأويلِه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ لكُلِّ حَدٍّ من ذلك مُطَّلَعًا". فإنه يعني أن لكلِّ حدٍّ مِن حدودِ اللَّهِ التي حدَّها فيه، مِن حلالٍ وحرامٍ وسائرِ شرائعِه، مِقْدارًا مِن ثوابِ اللَّهِ وعقابِه يُعايِنُه في الآخرةِ، ويَطَّلِعُ عليه، ويُلاقِيه في القيامةِ، كما قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: لو أن لي ما في الأرضِ مِن صفراءَ وبيضاءَ لافْتَدَيْتُ به مِن هولِ المُطَّلَعِ
(1)
. يعْني بذلك ما يَطَّلِعُ عليه ويهجُمُ عليه مِن أمرِ اللَّهِ بعد وفاتِه.
القولُ في الوجوهِ التي مِن قِبَلِها يُوصَلُ إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ
قال أبو جعفرٍ: قد قلنا في الدَّلالةِ على أن القرآنَ كلَّه عربيٌّ، وأنه نزَل بألسنِ بعضِ العربِ دون ألسنِ جميعِها، وأن قراءةَ المسلمين اليومَ، ومَصاحفَهم التي هي بينَ أظهرِهم، ببعضِ الألسنِ التي نزَل بها القرآنُ دون جميعِها. وقلنا في البيانِ عما يَحْوِيه القرآنُ مِن النورِ والبُرْهانِ، والحِكْمةِ والتِّبيانِ
(2)
، التي أوْدَعها اللَّهُ إياه، مِن أمرِه ونهيِه، وحلالِه وحرامِه، ووعدِه ووَعيدِه، ومُحْكمِه ومُتَشابهِه، ولطائفِ حُكْمِه - ما فيه الكفايةُ لمَن وُفِّق لفهمِه.
ونحن قائلون في البيانِ عن وجوهِ مطالبِ تأويلِه:
قال اللَّهُ جل ثناؤُه وتقَدَّسَت أسماؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال أيضًا
(1)
أخرجه أبو يعلى (2731)، وعنه ابن حبان (6905). وينظر طبقات ابن سعد 3/ 354، 355.
(2)
في م: "البيان".
له
(1)
جل ذكرُه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فقد تبَيَّن ببيانِ اللَّهِ جل ذكرُه أن مما أنْزَل اللَّهُ مِن القرآنِ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما لا يُوصَلُ إلى علمِ تأويلِه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويلُ جميعِ ما فيه مِن وجوهِ أمرِه، واجبِه ونَدْبِه وإرشادِه، وصنوفِ نهيِه، ووظائفِ حقوقِه، وحدودِه، ومبالغِ فرائضِه، ومقاديرِ اللازمِ بعضَ خَلْقِه لبعضٍ، وما أشبه ذلك مِن أحكامِ آيهِ التي لم يُدْرَكْ علمُها إلا ببيانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه. وهذا وجهٌ له لا يجوزُ لأحدٍ القولُ فيه إلا ببيانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[له تأويلَه]
(2)
، بنصٍّ منه عليه، أو بدَلالةٍ قد نصبَها دالَّةٍ أمَّتَه على تأويلِه.
وأن منه ما لا يَعْلَمُ تأويلَه إلا اللَّهُ الواحدُ القَهَّارُ، وذلك ما فيه مِن الخبرِ عن آجالٍ حادثةٍ، وأوقاتٍ آتِيةٍ؛ كوقتِ قيامِ الساعةِ، والنَّفْخِ في الصُّورِ، ونُزولِ عيسى ابنِ مريمَ، وما أشْبَهَ ذلك، فإن تلك أوقاتٌ لا يَعْلَمُ أحدٌ حدودَها، ولا يَعْرِفُ أحدٌ مِن تأويلِها إلا [بالخبرِ عن أشراطِها]
(3)
، لاسْتِئْثارِ اللَّهِ بعلمِ ذلك على خلقِه.
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
في م، ت 1:"بتأويله"، وفي ت 2:"لتأويله".
(3)
في ص: "الخبر عن أشراطها"، وفي م، ت 1:"الخبر بأشراطها"، وفي ت 2:"الخبر عن اشتراطها".
وبذلك
(1)
أنْزَل رَبُّنا
(2)
مُحْكَمَ كتابِه، فقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]. وكان نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إذا ذكَر شيئًا مِن ذلك لَمْ يَدُلَّ عليه إلا بأشراطِه، دونَ تحديدِه بوقتِه
(3)
، كالذي رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابِه إذ ذكَر الدجالَ:"إن يَخْرُجْ وأنا فِيكم، فأنا حَجِيجُه، وإن يَخْرُجْ بَعْدِي، فاللَّهُ خَلِيفَتِي عليكم"
(4)
. وما أشْبَهَ ذلك مِن الأخبارِ التي يَطولُ باستيعابِها الكتابُ، الدالةِ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكنْ عندَه علمُ أوقاتِ شيءٍ منه بمقاديرِ السنينَ والأيامِ، وأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه إنما كان عرَّفه مجيئَه بأشراطِه، ووقْتَه بأدلتِه
(5)
.
وأن منه ما يَعْلَمُ تأويلَه كلُّ ذي علمٍ باللسانِ الذي نزَل به القرآنُ، وذلك إقامةُ إعرابِه، ومعرفةُ المُسَمَّياتِ بأسمائِها اللازمةِ غيرِ المُشْتَرَكِ فيها، والموصوفاتِ بصفاتِها الخاصةِ دون ما سواها، فإن ذلك لا يَجْهَلُه أحدٌ منهم، وذلك كسامعٍ منهم لو سمِع تاليًا يَتْلُو:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12]. لم يَجْهَلْ أن معنى الإفسادِ هو ما يَنْبَغِي تركُه مما هو مضَرَّةٌ، وأن الإصلاحَ هو ما يَنْبَغِي فِعْلُه مما فعلُه منفعةٌ، وإن جَهِل المعانيَ التي جعَلها اللَّهُ إفسادًا، والمعانيَ التي جعَلها اللَّهُ إصْلاحًا، فالذي يَعْلَمُه ذو اللسانِ الذي بلسانِه نزَل القرآنُ، مِن تأويلِ القرآنِ، هو ما
(1)
في م، ت 2:"كذلك".
(2)
بعده في م: "في".
(3)
في م: "بوقت".
(4)
أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان نحوه.
(5)
بعده في ت 1: "وأزمنة".
وصفتُ مِن معرفةِ أعيانِ المُسَمَّياتِ بأسمائِها اللازمةِ غيرِ المشترَكِ فيها، والموصوفاتِ بصفاتِها الخاصةِ، دونَ الواجبِ مِن أحكامِها وصفاتِها وهيئاتِها التي خصّ اللَّهُ بعلمِها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُدْرَكُ علمُه إلا ببيانِه، دونَ ما استَأْثر اللَّهُ بعلمِه دونَ خلقِه. وبمثلِ ما قلنا في
(1)
ذلك رُوِي الخبرُ عن ابنِ عباسٍ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: حدَّثنا مُؤَمَّلٌ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن أبي الزنادِ، قال: قال ابنُ عباسٍ: التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ؛ وجهٌ تَعْرِفُه العربُ مِن كلامِها، وتفسيرٌ لا يُعْذَرُ أحدٌ بجَهالتِه، وتفسيرٌ يَعْلَمُه العلماءُ، وتَفْسيرٌ لا يَعْلَمُه إلا اللَّهُ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا الوجهُ الرابعُ الذي ذكَره ابنُ عباسٍ مِن أن أحدًا لا يُعْذَرُ بجَهالتِه، معنًى غيرُ الإبانةِ عن وجوهِ مَطالبِ تأويلِه، وإنما هو خبرٌ عن أن مِن تأويلِه ما لا يَجوزُ لأحدٍ الجهلُ به. وقد رُوِي بنحوِ ما قلْنا في ذلك أيضًا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسنادِه نظرٌ.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّدَفيُّ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سمِعْتُ عمرَو بنَ الحارثِ يُحَدِّثُ عن الكلبيِّ، عن أبي صالحٍ مولى أمِّ هانئٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أُنْزِل القُرآنُ على أربعَةِ أَحْرُفٍ؛ حَلَالٌ وحَرَامٌ لا يُعْذَرُ أحَدٌ بِالجَهالَةِ به، وتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُه العَرَبُ، وتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُه العُلَماءُ، ومُتَشَابِهٌ لا يَعْلَمُه إلَّا اللَّهُ، وَمَن ادَّعَى عِلْمَه سِوَى اللَّهِ فهو كاذِبٌ"
(3)
.
(1)
في ر، م، ت 2:"من".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 18 عن المصنف. وأبو الزناد لم يدرك ابن عباس.
(3)
إسناده ضعيف جدًّا. ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 18 عن المصنف. وأخرجه ابن المنذر - كما في الدر المنثور 2/ 7 - من طريق الكلبي به، موقوفًا.
ذكرُ بعضِ الأَخبارِ التي رُوِيَت بالنهيِ عن القولِ في تأْويلِ القرآنِ بالرأْيِ
حدَّثنا يحيى بنُ طَلحةَ اليَرْبوعيُّ، قال: حدَّثنا شَريكٌ، عن عبدِ الأعلى، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قال في القُرآنِ برَأْيِه، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِن النَّارِ"
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، قال: حدَّثنا عبدُ الأعلى - هو ابنُ عامرٍ الثَّعْلبيُّ - عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن قال في القُرآنِ بِرَأْيِه - أو بما لا يَعْلَمُ - فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِن النَّارِ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ بشرٍ وقَبيصةُ، عن سفيانَ، عن عبدِ الأعلى، قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن قال في القُرآنِ بغَيْرِ عِلْمٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِن النَّارِ"
(3)
.
(1)
إسناده ضعيف؛ لضعف عبد الأعلى. وأخرجه أحمد 5/ 122، 155 (2974، 3024)، وأبو داود - في رواية ابن العبد، كما في التحفة 4/ 423 - والترمذي (2951)، وأبو يعلى (2585)، والطحاوي في المشكل (392) والبغوي في شرح السنة (117) من طرق عن عبد الأعلى به. وينظر تهذيب التهذيب 6/ 95، والسلسلة الضعيفة (1783).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (8085) عن محمد بن بشار به.
وأخرجه البيهقي في الشعب (2276) من طريق يحيى بن سعيد به.
وأخرجه أحمد 3/ 496، 4/ 250 (2069، 2429)، والترمذي (2950)، والنسائي في الكبرى (8084)، والطحاوي في المشكل (393)، والطبراني في الكبير (12392)، والبغوي في شرح السنة (118) من طرق عن سفيان الثوري به. وينظر مصنف ابن أبي شيبة 10/ 512.
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (8084) من طريق محمد بن بشر به.
وأخرجه البيهقي في الشعب (2275)، والبغوي في شرح السنة (119) من طريق قبيصة به.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا الحَكَمُ بنُ بَشيرٍ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ قيسٍ المُلائيُّ، عن عبدِ الأعلى، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: من قال في القرآنِ برأيِه، فلْيَتَبَوَّأْ مقعدَه مِن النارِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا جَريرٌ، عن ليثٍ، عن بكرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: مَن تكَلَّم في القرآنِ برأيِه، فلْيَتَبَوَّأْ مقعدَه مِن النارِ.
حدَّثني أبو السائبِ سلْمُ
(1)
بنُ جُنادةَ السُّوَائيُّ، قال: حدَّثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، عن الحسنِ بنِ عُبيدِ اللَّهِ، عن إبراهيمَ، عن أبي مَعْمَرٍ
(2)
، قال: قال أبو بكرٍ الصديقُ: أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني، إذا قلتُ في القرآنِ ما لا أعْلَمُ
(3)
!.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مُرَّةَ، عن أبي مَعْمَرٍ، قال: قال أبو بكرٍ الصديقُ: أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني، إذا قلتُ في [كتابِ اللَّهِ عز وجل]
(4)
برأيي. أو: بما لا أعْلَمُ
(5)
!
قال أبو جعفرٍ: وهذه الأخبارُ شاهدةٌ لنا على صحةِ ما قلنا؛ مِن أن ما كان مِن تأويلِ
(6)
القرآنِ الذي لا يُدْرَكُ عِلْمُه إلا بنصِّ بيانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أو بنَصْبِه الدَّلالةَ عليه، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ القِيلُ فيه برأيِه، بل القائلُ في ذلك برأيِه، وإن أصاب عينَ
(7)
(1)
في م: "سالم".
(2)
في ت 1: "أيوب".
(3)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1561) من طريق حفص به. وينظر سنن سعيد بن منصور (39 - تفسير)، وتفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 1/ 126، والفتح 13/ 271.
(4)
في م: "القرآن".
(5)
أخرجه مسدد في مسنده - كما في المطالب العالية (3883) - من طريق شعبة به.
(6)
بعده في ص، م، ت 1:"آي".
(7)
زيادة من: ر، ت 1.
الحقِّ فيه، فمُخْطِئٌ في
(1)
فِعلِه بقِيلِه
(2)
فيه برأيِه، ولأن إصابتَه ليست إصابةَ مُوقِنٍ أنه مُحِقٌّ، وإنما هو إصابةُ خارصٍ وظانٍّ، والقائلُ في دينِ اللَّهِ بالظنِّ قائلٌ على اللَّهِ ما لا يَعْلَمُ، وقد حرَّم اللَّهُ جلَّ ثناؤُه ذلك في كتابِه على عبادِه فقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فالقائلُ
(3)
في تأويلِ كتابِ اللَّهِ الذي لا يُدْرَكُ علمُه إلا ببيانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الذي جعَل اللَّهُ إليه بيانَه - قائلٌ ما
(4)
لا يَعْلَمُ، وإن وافَق قيلُه ذلك في تأويلِه ما أراد اللَّهُ به مِن معناه؛ لأن القائلَ فيه بغيرِ علمٍ قائلٌ على اللَّهِ ما لا عِلْمَ له به.
وهذا هو معنى الخبرِ الذي حدَّثنا به العباسُ بنُ عبدِ العظيمِ العَنْبَريُّ، قال: حدَّثنا حَبَّانُ بنُ هلالٍ، قال: حدَّثنا سُهَيْلٌ أخو
(5)
حزمٍ، قال: حدَّثنا أبو عِمرانَ الجَوْنيُّ
(6)
، عن جُنْدُبٍ، أن سولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن قَالَ في القُرآنِ بِرَأْيِه فأصابَ، فقد أخْطَأَ"
(7)
.
(1)
في م: "فيما كان من".
(2)
في ص، ت 2:"فقيله".
(3)
في ت 1: "والقائل".
(4)
في ص، ر، م، ت 2:"بما".
(5)
في م: "بن أبي". وهو سهيل أخو حزم ابن أبي حزم. ينظر تهذيب الكمال 12/ 217.
(6)
في م: "الجويني". وينظر تهذيب الكمال 18/ 297.
(7)
إسناده ضعيف؛ لضعف سهيل. وأخرجه الترمذي (2952)، والبغوي في شرح السنة (120) من طريق حبان بن هلال به. وأخرجه أبو داود (3652)، والنسائي في الكبرى (8086)، وأبو يعلى (1520)، والطبراني في الكبير (1672)، وفي الأوسط (5101)، وابن عدي 3/ 1288، والبيهقي في الشعب (2277) من طريق سهيل به.
قال أبو جعفرٍ: يعني صلى الله عليه وسلم أنه أخْطَأ في فعلِه، بقيلِه فيه برأيِه، وإن وافق قيلُه ذلك عينَ الصوابِ عندَ اللَّهِ؛ لأن قيلَه فيه برأيِه ليس بقيلِ عالمٍ [أن الذي]
(1)
قال فيه مِن قولٍ حقٌّ وصوابٌ، فهو قائلٌ على اللَّهِ ما لا يَعْلَمُ، آثمٌ بفعلِه ما قد نُهِي عنه وحُظِر عليه.
ذكرُ بعضِ الأخبارِ التي رُوِيَت في الحضِّ على العلمِ بتفسيرِ القرآنِ، ومَن كان يُفَسِّرُه مِن الصحابةِ
حدَّثنا محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسنِ بنِ شَقيقٍ المَرْوزِيُّ، قال: سمِعْتُ أبي يقولُ: حدَّثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، قال: حدَّثنا الأعمشُ، عن شَقيقٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: كان الرجلُ منا إذا تعَلَّم عشْرَ آياتٍ لَمْ يُجاوِزْهن حتى يَعْرِفَ مَعانِيَهن والعملَ بهن
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن أبي عبدِ الرحمنِ، قال: حدَّثنا الذين كانوا يُقْرِئُوننا أنهم كانوا يَسْتَقْرِئون مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعَلَّموا عشْرَ آياتٍ لم يُخَلِّفوها حتى يَعْمَلوا [بما فيها]
(3)
مِن العملِ، فتعَلَّمنا القرآنَ والعملَ جميعًا
(4)
.
(1)
في ر: "بأن الذي"، وفي ت 1:"بالذي".
(2)
سيأتي تصحيح المصنف له في ص 83.
(3)
في ت 2: "ما فيه".
(4)
أخرجه عبد الرزاق (6027)، وابن سعد 6/ 172، وابن أبي شيبة 10/ 460، وأحمد 5/ 410 (الميمنية) من طريق عطاء بن السائب به.
وأخرجه الحاكم 1/ 557، والبيهقي في الشعب (1953، 1954) من طريق شريك، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا جابرُ بنُ نُوحٍ، قال: حدَّثنا الأعمشُ، عن مُسْلمٍ، عن مَسْروقٍ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: والذي لا إلهَ غيرُه، ما نزَلَت آيةٌ في كتابِ اللَّهِ إلا وأنا أعْلَمُ فيمَ
(1)
نزَلَت، وأين نزَلَت
(2)
، ولو أعْلَمُ مكانَ أحدٍ أعْلَمَ بكتابِ اللَّهِ مني تَنالُه المَطايا لأتَيْتُه
(3)
.
وحدَّثنا يحيى بنُ إبراهيمَ المَسْعوديُّ، قال: حدَّثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمشِ، [عن مسلمٍ]
(4)
، عن مسروقٍ، قال: كان عبدُ اللَّهِ يَقْرَأُ علينا السورةَ، ثم يُحَدِّثُنا فيها ويُفَسِّرُها عامَّةَ النهارِ.
حدَّثني أبو السائبِ سلْمُ
(5)
بنُ جُنادةَ، قال: حدَّثنا أبو مُعاويةَ، عن الأعمشِ، عن شَقيقٍ، قال: اسْتَعْمَل عليٌّ ابنَ عباسٍ على الحجِّ. قال: فخطَب الناسَ خُطبةً لو سمِعها التركُ والرومُ لأسْلَموا، ثم قرَأ عليهم سورةَ النورِ، فجعَل يُفَسِّرها
(6)
.
وحدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي وائلٍ شَقيقِ بنِ سَلَمةَ، قال: قرَأ ابنُ عباسٍ سورةَ البقرةِ، فجعَل يُفَسِّرُها، فقال رجلٌ: لو سمِعَت هذا الدَّيْلَمُ لأَسْلَمَت
(7)
.
(1)
في ت 1، والبخاري:"في من".
(2)
بعده في م: "وأين أنزلت".
(3)
أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463) من طريق الأعمش به بنحوه. وينظر ما تقدم في ص 46.
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
في م: "سالم".
(6)
أخرجه أبو العباس السراج - كما في الإصابة 4/ 149 - ومن طريقه الحاكم 3/ 537 من طريق أبي معاوية به.
(7)
أخرجه الفسوي في تاريخه 1/ 495 من طريق سفيان به. وفيه أنه قرأ سورة النور.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ
(1)
يَمانٍ، عن أشعثَ بنِ إسحاقَ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: مَن قرَأ القرآنَ ثم لم يُفَسِّرْه، كان كالأعْجَمِيِّ
(2)
أو: كالأعْرابيِّ.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ذكَر أبو بكرِ بنُ عياشٍ الأعمشَ، قال: قال أبو وائلٍ: ولِي ابنُ عباسٍ الموسمَ، فخطَبهم فقرَأ على المِنْبرِ سورةَ النورِ، واللَّهِ لو سمِعها التركُ لأسْلَموا. فقيل له: حَدِّثْنا
(3)
به عن عاصمٍ. فسكَت
(4)
.
وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعْتُ الأعمشَ، عن شَقيقٍ، قال: شهِدْتُ ابنَ عباسٍ وولِي الموسمَ، فقرَأ سورةَ النورِ على المنبرِ، وفسَّرها، لو سمِعَت الرومُ لأَسْلَمَت.
قال أبو جعفرٍ: وفي حثِّ
(5)
اللَّهِ عز وجل عبادَه على الاعتبارِ بما في آيِ القرآنِ مِن المواعظِ والبيناتِ
(6)
- بقولِه جلّ ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وقولِه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27، 28]. وما أشْبَهَ ذلك مِن آيِ القرآنِ التي أمَر اللَّهُ عبادَه وحثَّهم فيها على الاعتبارِ بأمثالِ آيِ القرآنِ والاتِّعاظِ بمَواعظِه - ما يَدُلُّ على أن عليهم معرفةَ
(1)
في م: "أبو". وهو أبو زكريا يحيى بن يمان. ينظر تهذيب الكمال 32/ 55.
(2)
في ص، ر، م:"كالأعمى".
(3)
في ت 1: "حدثتنا".
(4)
ينظر الإصابة 4/ 149.
(5)
في ت 2: "حثيث".
(6)
في م، ت 2:"التبيان".
تأويلِ ما لَمْ يُحْجَبْ عنهم تأويلُه مِن آيِه
(1)
؛ لأنه مُحالٌ أن يُقالَ لمن لا يَفْهَمُ ما يُقالُ له، ولا يَعْقِلُ تأويلَه: اعْتَبِرْ بما لا فهمَ لك به ولا معرفةَ مِن القيلِ والبيانِ [والكلامِ]
(2)
. إلا على معنى الأمرِ بأن يَفْهَمَه ويَفْقَهَه، ثم يَتَدَبَّرَه ويَعْتَبِرَ به.
فأما قبلَ
(3)
ذلك فمستحيلٌ أمرُه بتدبرِه، وهو بمعناه جاهلٌ، كما مُحالٌ أن يُقالَ لبعضِ أصنافِ الأممِ الذين لا يَعْقِلون كلامَ العربِ ولا يَفْهَمونه
(4)
، لو أُنْشِدَ
(5)
قصيدةَ شعرٍ مِن أشعارِ بعضِ العربِ ذاتَ أمثالٍ ومَواعظَ وحِكَمٍ: اعْتَبِرْ بما فيها مِن الأمثالِ، وادَّكِرْ بما فيها مِن المواعظِ - إلَّا بمعنى الأمرِ له
(6)
بفهمِ كلامِ العربِ ومعرفتِه، ثم الاعتبارِ بما نبَّهَه عليه ما فيها مِن الحِكَمِ، فأما وهي جاهلةٌ بمعاني ما فيها مِن الكلامِ والمَنْطِقِ، فمُحالٌ أمرُها بما دلَّت عليه معاني ما حوَته مِن الأمثالِ والعِبَرِ، بل سواءٌ أمرُها بذلك وأمرُ بعضِ البهائمِ به، إلا بعدَ العلمِ بمعاني المَنْطِقِ والبيانِ الذي فيها.
فكذلك ما في آيِ كتابِ اللَّهِ مِن العبرِ والحِكمِ والأمثالِ والمَواعِظِ، لا يجوزُ أن يقالَ: اعْتَبِرْ بها. إلا لمَن كان بمعاني بيانِه عالمًا، وبكلامِ العربِ عارفًا، وإلا بمعنى الأمرِ لمن كان بذلك منه جاهلًا أن يَعْلَمَ معانيَ كلامِ العربِ، ثم يَتَدَبَّرَه بعدُ، ويَتَّعِظَ بحِكَمِه وصنوفِ عِبَرِه.
(1)
في م: "آيات".
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
في ت 1: "قيل".
(4)
في ت 1: "يفقهونه".
(5)
في م: "أنشدت".
(6)
في م: "لها".
فإذ
(1)
كان ذلك كذلك، وكان اللَّهُ جلَّ ثناؤُه قد أمَر عبادَه بتدبُّرِه وحثَّهم على الاعتبارِ بأمثالِه - كان معلومًا أنه لم يَأْمُرْ بذلك مَن كان بما يَدُلُّ عليه آيُه جاهلًا. وإذ لَمْ يَجُزْ أن يَأْمُرَهم بذلك إلا وهم بما يَدُلُّهم عليه عالِمون، صحَّ أنهم بتأويلِ ما لم يُحْجَبْ عنهم علمُه مِن آيِه الذي اسْتَأْثَر اللَّهُ بعلمِه منه دونَ خلقِه، الذي
(2)
قدَّمنا صفتَه آنفًا عارفون. وإذ صحَّ ذلك، فسَد قولُ مَن أنْكَر تفسيرَ المُفَسِّرِين مِن كتابِ اللَّهِ وتنزيلِه ما لَمْ يَحْجُبْ عن خلقِه تأويلَه.
ذكرُ
(3)
الأخبارِ التي غلِط في تأويلِها مُنْكِرو القولِ في تأويلِ القرآنِ
فإن قال لنا قائلٌ: فما أنت قائلٌ فيما حدَّثكم به العباسُ بنُ عبدِ العظيمِ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ خالدٍ ابنُ عَثْمةَ
(4)
، قال: حدَّثني جعفرُ بنُ محمدٍ الزُّبَيريُّ، قال: حدَّثني هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُ شيئًا مِن القرآنِ إلا آيًا بعَددٍ
(5)
، علَّمهنَّ إياه جبريلُ
(6)
.
حدَّثنا [أبو بكرٍ]
(7)
محمدُ بنُ يزيدَ الطَّرَسُوسيُّ، قال: أخْبَرَنا مَعْنُ [بنُ عيسى]
(7)
،
(1)
في م: "فإذا"، وفي ت 1:"فإن".
(2)
بعده في م: "قد".
(3)
بعده في م، ت 1:"بعض".
(4)
في م: "عتمة". وينظر تهذيب الكمال 25/ 143.
(5)
في م: "تعد"، وفي ت 2:"تعدد". والمثبت موافق لأكثر نسخ تفسير ابن كثير 1/ 133 - تحقيق أبي إسحاق الحويني - وقد ذكره عن المصنف.
(6)
حديث منكر. أخرجه البزار (2185 - كشف) عن محمد بن المثنى، عن محمد بن خالد ابن عثمة، عن حفص - أظنه ابن عبد الله - عن هشام به.
وأخرجه ابن شاهين في الجزء الخامس من الأفراد (31) من طريق جعفر بن محمد به.
(7)
زيادة من: ر.
عن جعفرِ
(1)
بنِ خالدٍ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: لم يكنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُ شيئًا مِن القرآنِ إلا آيًا بعَددٍ
(2)
، علَّمهن إياه جبريلُ عليه السلام
(3)
.
وحدَّثنا أحمدُ بنُ عَبْدةَ الضَّبِّيُّ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ زيدٍ، قال: حدَّثنا عُبيدُ اللَّهِ بنُ عمرَ، قال: لقد أدْرَكْتُ فُقهاءَ المدينةِ وإنهم لَيُعْظِمون القولَ في التفسيرِ؛ منهم سالمُ بنُ عبدِ اللَّهِ، والقاسمُ بنُ محمدٍ، وسعيدُ بنُ المسيَّبِ، ونافعٌ
(4)
.
وحدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عمرَ، قال: حدَّثنا مالكُ بنُ أنسٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قال: سمِعْتُ رجلًا يَسْألُ سعيدَ بنَ المسيَّبِ عن آيةٍ مِن القرآنِ، فقال: لا أقولُ في القرآنِ شيئًا
(5)
.
حدَّثنا يونُسُ، قال: حدَّثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَني مالكٌ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ أنه كان إذا سُئِل عن تفسيرِ آيةٍ مِن القرآنِ قال:[إنا لا نقولُ]
(6)
في القرآنِ شيئًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سمِعْتُ الليثَ يُحَدِّثُ عن
(1)
في ت 2: "حرمل".
(2)
في م: "تعد"، وفي ت 2:"تعدد".
(3)
أخرجه ابن شاهين في الجزء الخامس من الأفراد (31) من طريق معن بن عيسى به.
وأخرجه أبو يعلى (4528) من طريق معن، عن فلان بن محمد بن خالد، عن هشام به.
قال الهيثمي في المجمع 6/ 303: رواه أبو يعلى، والبزار بنحوه، وفيه راوٍ لم يحرر اسمه عند واحد منهما. وبقية رجاله رجال الصحيح. أما البزار فقال
…
فذكره. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 18 عن المصنف، وقال: حديث منكر غريب. وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث. اهـ. وقد قال المصنف عن جعفر هذا: لا يعرف في أهل الآثار. كما سيأتي في ص 83.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 17 عن المصنف.
(5)
أخرجه ابن سعد 2/ 381، 5/ 137 من طريق مالك به.
(6)
في ص، م، ت 2:"أنا لا أقول".
يحيى بنِ سعيدٍ، عن ابنِ المسيَّبِ أنه كان لا يَتَكَلَّمُ إلا في المعلومِ مِن القرآنِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حَكّامٌ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن هشامٍ، عن ابنِ سِيرينَ، قال: سألْتُ عَبِيدةَ السَّلْمانيَّ عن آيةٍ، قال: عليك بالسَّدادِ، فقد ذهَب الذين علِموا فيمَ أُنْزِل القرآنُ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ وابنِ عَوْنٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: سألْتُ عَبيدةَ عن آيةٍ مِن القرآنِ، فقال: ذهَب الذين كانوا يَعْلَمون فيم أُنْزِل القرآنُ، فاتَّقِ اللَّهَ وعليك بالسَّدادِ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن ابنِ أبي مُلَيْكةَ، أنَّ ابنَ عباسٍ سُئِل عن آيةٍ لو سُئِل عنها بعضُكم لَقال فيها، فأبَى أن يقولَ فيها
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن مَهْديِّ بنِ ميمونٍ، عن الوليدِ بنِ مسلمٍ، قال: جاء طَلْقُ بنُ حَبيبٍ إلى جُنْدُبِ بنِ عبدِ اللَّهِ فسأله عن آيةٍ مِن القرآنِ، فقال له: أُحَرِّجُ عليك إن كنتَ مسلمًا لَما قمتَ عني. أو قال: أن تُجالِسَني
(4)
.
حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخْبَرَني أبي، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ شَوْذَبٍ، قال: حدَّثني يزيدُ بنُ أبي يزيدَ، قال: كنا نَسْألُ سعيدَ بنَ المُسَيَّبِ عن الحلالِ والحرامِ، وكان أعلمَ الناسِ، فإذا سألْناه عن تفسيرِ آيةٍ مِن القرآنِ سكَت كأن لم
(1)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 228 من طريق الليث به.
(2)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 228، وسعيد بن منصور في سننه (44 - تفسير)، وابن أبي شيبة 10/ 511، والبيهقي في الشعب (2282) من طريق ابن عون به.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 16 عن المصنف، وقال: إسناد صحيح. وينظر فضائل القرآن لأبي عبيد ص 227، 228.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 17 عن المصنف.
يَسْمَعْ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: أخْبَرَنا شعبةُ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، قال: سأل رجلٌ سعيدَ بنَ المسيَّبِ عن آيةٍ مِن القرآنِ، فقال: لا تَسْألْني عن
(2)
القرآنِ، وسَلْ مَن يَزْعُمُ أنه لا يَخْفَى عليه شيءٌ منه. يعني عِكْرمةَ
(3)
.
وحدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ عامرٍ، عن شعبةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي السَّفَرِ، قال: قال الشعبيُّ: واللَّهِ ما مِن آيةٍ إلا قد سألْتُ عنها، ولكنَّها الروايةُ عن
(4)
اللَّهِ تعالى
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن صالحٍ - يعني ابنَ مسلمٍ
(6)
- قال: حدَّثني رجلٌ، عن الشعبيِّ، قال: ثلاثٌ لا أقولُ فيهنَّ حتى أموتَ؛ القرآنُ، والروحُ
(7)
، والرأيُ
(8)
.
وما أشبَه ذلك مِن الأخبارِ
(9)
؟
قيل له: أما الخبرُ الذي رُوِي عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه لم يكنْ يُفَسِّرُ مِن القرآنِ شيئًا إلا آيًا بعددٍ
(10)
، فإن ذلك مُصَحِّحٌ ما قلْنا مِن القولِ في البابِ الماضي قبلُ، وهو
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 17 عن ابن شوذب به.
(2)
بعده في م: "آية من"، وفي ت 2:"شيء من القرآن".
(3)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 228، وابن أبي شيبة 10/ 511 عن محمد بن جعفر به.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"على". وعند ابن عساكر: "ولكنها الرواية عن الله - أو قال: على الله".
(5)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 25/ 365 من طريق سعيد بن عامر به. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 17.
(6)
في ت 1: "سلم"، وفي ت 2:"أسلم". وينظر التاريخ الكبير 4/ 290.
(7)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"الزرع".
(8)
في ص، ر، ت 1:"الربا"، وفي ت 2:"الري".
(9)
هذا آخر السؤال الذي بدأه المصنف في ص 78.
(10)
في م: "تعد"، وفي ت 2:"تعدد".
أن مِن تأويلِ القرآنِ ما لا يُدْرَكُ علمُه إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وذلك تفصيلُ
(1)
جُمَلِ ما في آيِه، مِن أمرِ اللَّهِ ونهيِه، وحلالِه وحرامِه، وحدودِه وفَرائضِه، وسائرِ معاني شرائعِ دينِه، الذي هو مُجْمَلٌ في ظاهرِ التنزيلِ، وبالعبادِ إلى تفسيرِه الحاجةُ، لا يُدْرَكُ علمُ تأويلِه إلا ببيانٍ مِن عندِ اللَّهِ على لسانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وما أشبَه ذلك مما تَحْوِيه آيُ القرآنِ، مِن سائرِ حُكْمِه الذي جعَل اللَّهُ بيانَه لخلقِه إلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فلا يَعْلَمُ أحدٌ مِن خلقِ اللَّهِ تأويلَ ذلك إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا يَعْلَمُه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا بتعليمِ اللَّهِ ذلك إياه بوحيِه إليه، إما مع جبريلَ، أو مع مَن شاء مِن رسلِه إليه. فذلك هو الآيُ التي كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُها لأصحابِه بتعليمِ جبريلَ إياه، وهن لا شكَّ آيٌ ذواتُ عَدَدٍ.
ومِن آيِ القرآنِ ما قد ذكَرْنا أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه اسْتَأْثَر بعلمِ تأويلِه، فلم يُطْلِعْ على علمِه مَلَكًا مُقَرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلًا، ولكنهم يُؤْمِنون بأنه مِن عندِه، وأنه لا يَعْلَمُ تأويلَه إلا اللَّهُ.
فأما ما لا بُدَّ للعبادِ مِن علمِ تأويلِه، فقد بيَّن لهم نبيُّهم صلى الله عليه وسلم ببيانِ اللَّهِ ذلك له بوحيِه مع جبريلَ، وذلك هو المعنى الذي أمَره اللَّهُ ببيانِه
(2)
لهم، فقال له جلّ ذكرُه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
ولو كان تأويلُ الخبرِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يُفَسِّرُ مِن القرآنِ شيئًا إلا آيًا بعددٍ - هو ما يَسْبِقُ إليه أوهامُ أهلِ الغَباءِ مِن أنه لم يكنْ يُفَسِّرُ مِن القرآنِ إلا القليلَ
(1)
في م: "يفصل".
(2)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"بيانه".
مِن آيِه واليسيرَ مِن حروفِه، كان إنما أُنْزِل إليه صلى الله عليه وسلم الذكرُ ليتْرُكَ للناسِ
(1)
بيانَ ما نزِّل إليهم، لا ليُبَيِّنَ لهم ما أُنْزِل إليهم.
وفي أمرِ اللَّهِ جل ثناؤُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ببلاغِ ما أَنزَل إليه، وإعلامِه إياه أنه إنما نزَّل إليه ما أَنْزَل ليُبَيِّنَ للناسِ ما نُزِّل إليهم، وقيامِ الحجةِ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ [وأدَّى]
(2)
ما أمَره اللَّهُ ببلاغِه وأدائِه على ما أمَره به، وصحةِ الخبرِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ بقيلِه
(3)
: كان الرجلُ منا إذا تعَلَّم عشْرَ آياتٍ لم يُجاوِزْهن حتى يَعْلَمَ مَعانِيَهن والعملَ بهنَّ
(4)
- ما يُنْبِئُ عن جهلِ مَن ظنَّ أو توَهَّم أن معنى الخبرِ الذي ذكَرْنا عن عائشةَ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه لم يكنْ يُفَسِّرُ مِن القرآنِ شيئًا إلا آيًا بعددٍ، هو أنه لم يكنْ يُبَيِّنُ
(5)
لأمتِه مِن تأويلِه إلا اليسيرَ القليلَ منه.
هذا مع ما في الخبرِ الذي رُوِي عن عائشةَ مِن العلةِ التي في إسنادِه التي لا يَجوزُ معها الاحتجاجُ به لأحدٍ ممَّن علِم صحيحَ سندِ الآثارِ وفاسدَها في الدينِ؛ لأن راويَه ممَّن لا يُعْرَفُ في أهلِ
(6)
الآثارِ، وهو جعفرُ بنُ محمدٍ الزُّبيريُّ
(7)
.
وأما الأخبارُ التي ذكَرْناها عمَّن ذكَرْناها عنه مِن التابعين بإحْجامِه عن التأويلِ، فإن فعْلَ مَن فعَل ذلك منهم، كفعْلِ مَن أحْجَم منهم عن الفُتْيا في النَّوازلِ والحوادثِ، مع إقرارِه بأن اللَّهَ جلّ ثناؤُه لم يَقْبِضْ نبيَّه إليه إلا بعدَ إكمالِ
(8)
الدينِ به
(1)
في ر: "الناس".
(2)
في م: "فأدى".
(3)
في م: "لقيله".
(4)
تقدم تخريجه في ص 74.
(5)
في ر: "بين".
(6)
سقط من: ر.
(7)
ينظر ما تقدم في ص 79.
(8)
في ر: "كمال".
لعبادِه، وعلمِه بأن للَّهِ في كلِّ نازلةٍ وحادثةٍ حُكْمًا موجودًا بنصٍّ أو دَلَالةٍ، فلم يكنْ إحجامُه عن القولِ في ذلك إحجامَ جاحدٍ أن يكونَ للَّهِ فيه حكمٌ موجودٌ بينَ أظهرِ عبادِه، ولكن إحجامَ خائفٍ ألا يَبْلُغَ باجتهادِه
(1)
ما كلَّف اللَّهُ العلماءَ مِن عبادِه فيه.
فكذلك معنى إحجامِ مَن أحْجَم عن القِيلِ في تأويلِ القرآنِ وتفسيرِه مِن العلماءِ السلفِ، إنما كان إحجامُه عنه حِذارًا ألا يَبْلُغَ أداءَ ما كُلِّف مِن إصابةِ صوابِ القولِ فيه، لا على أن تأويلَ ذلك مَحْجوبٌ عن علماءِ الأمةِ، غيرُ موجودٍ بينَ أظْهُرِهم.
ذكرُ الأخبارِ عن بعضِ السلفِ في مَن كان مِن قُدماءِ المُفَسِّرين محمودًا علمُه بالتفسيرِ ومَن كان منهم مذمومًا علمُه به
(2)
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا وَكيعٌ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن سليمانَ، عن مسلمٍ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: نِعْمَ تُرْجمانُ القرآنِ ابنُ عباسٍ
(3)
.
حدَّثني يحيى بنُ داودَ الواسطيُّ، قال: حدَّثنا إسحاقُ الأزْرقُ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مَسْروقٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، قال: نعم [التُّرْجمانُ للقرآنِ]
(4)
ابنُ عباسٍ
(5)
.
(1)
في م: "في اجتهاده".
(2)
في م: "بذلك".
(3)
أخرجه أحمد في الفضائل (1558، 1860) من طريق سفيان به.
(4)
في م: "ترجمان القرآن".
(5)
أخرجه المصنف في مسند ابن عباس من تهذيب الآثار ص 173. وأخرجه أحمد في الفضائل (1562)، والفسوي في تاريخه 1/ 496، والحاكم 3/ 537 من طريقين عن سفيان به. وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وأخرجه ابن سعد 2/ 366، والفسوي 1/ 495 من طريق الأعمش به.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: حدَّثنا الأعمشُ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنحوِه
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ، عن عثمانَ المكيِّ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قال: رأيْتُ مجاهدًا يَسْألُ ابنَ عباسٍ عن تفسيرِ القرآنِ ومعه ألواحُه
(2)
، فيقولُ له ابنُ عباسٍ: اكْتُبْ. قال: حتى سأَلَه عن التفسيرِ كلِّه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا المُحارِبيُّ ويونسُ بنُ بُكَيْرٍ، قالا: حدَّثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن أبانِ بنِ صالحٍ، عن مجاهدٍ، قال: عرَضْتُ المصحفَ على ابنِ عباسٍ ثلاثَ عَرَضاتٍ، مِن فاتحتِه إلى خاتمتِه، أُوقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ منه وأسألُه عنها
(4)
.
حدَّثني عُبيدُ اللَّهِ بنُ يوسفَ الجُبَيْريُّ
(5)
، عن أبي بكرٍ الحَنَفيِّ، قال: سمِعْتُ سفيانَ الثوريَّ يقولُ: إذا جاءك التفسيرُ عن مجاهدٍ فحسْبُك به
(6)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سليمانُ أبو
(7)
داودَ، عن شعبةَ، عن
(1)
أخرجه المصنف في مسند ابن عباس من تهذيب الآثار ص 172. وأخرجه ابن أبي شيبة 12/ 111، وأحمد في الفضائل (1863) عن جعفر بن عون به. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 13: هذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وينظر الإصابة 4/ 146.
(2)
في م: "الواحد".
(3)
ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 13/ 369، وابن كثير في تفسيره 1/ 15 عن المصنف.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 279، وابن عساكر في تاريخه 16/ 252 (مخطوط) من طريق المحاربي وغيره، عن ابن إسحاق به. وحسن إسناده الذهبي في تذكرة الحفاظ 2/ 706.
وأخرجه ابن سعد 5/ 466، وابن أبي شيبة 10/ 559، وأحمد في الفضائل (1866) من طريقين عن مجاهد. وعند ابن سعد: ثلاثين عرضة.
(5)
في ر: "الحريري". وينظر تهذيب الكمال 19/ 179.
(6)
ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 13/ 369، وابن كثير في تفسيره 1/ 15 عن الثوري.
(7)
في ر: "ابن". وهو سليمان بن داود، أبو داود الطيالسي.
عبدِ الملكِ بنِ مَيْسَرةَ، قال: لم يَلْقَ الضَّحّاكُ ابنَ عباسٍ، وإنما لَقِي سعيدَ بنَ جُبَيْرٍ بالرَّيِّ، فأخَذ عنه التفسيرَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: حدَّثنا أبو داودَ، عن شعبةَ، عن مُشَاشٍ، قال: قلتُ للضحاكِ: سمِعْتَ مِن ابنِ عباسٍ شيئًا؟ قال: لا
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ إدريسَ، قال: حدَّثنا زكريا، قال: كان الشعبيُّ يَمُرُّ بأبي صالحٍ باذانَ، فيَأْخُذُ بأُذُنِه فيَعْرُكُها
(3)
، ويقولُ: تُفَسِّرُ القرآنَ وأنت لا تَقْرَأُ القرآنَ
(4)
!
حدَّثنا عبدُ
(5)
اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ شَبُّويَه، قال: حدَّثنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ واقدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا الأعمشُ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}
(6)
: قادرٌ على أن يَجْزِيَ بالحسنةِ الحسنةَ، وبالسيئةِ
(1)
أخرجه ابن معين في تاريخه 4/ 276 (4352)، والفسوي في تاريخه 2/ 109، والعقيلي 2/ 218، وابن أبي حاتم في المراسيل ص 95، وابن حبان في الثقات 6/ 480، وابن عدي 4/ 1414 من طريق أبي داود به. وينظر طبقات ابن سعد 6/ 301، وسؤالات البرذعي 2/ 682، 683، والجرح 4/ 458، 8/ 333.
(2)
أخرجه ابن سعد 6/ 301، وابن معين في تاريخه 4/ 276 (4351)، وابن أبي حاتم في المراسيل ص 94، والجرح 4/ 458، 459 من طريق أبي داود به. وينظر تاريخ الفسوي 2/ 108، 143، 148، والجعديات (21)، وضعفاء العقيلي 2/ 218، والكامل لابن عدي 4/ 1414.
(3)
عركه يعركه عركًا: دلكه. التاج (ع ر ك).
(4)
أخرجه الفسوي في تاريخه 2/ 785 من طريق عبد الله بن إدريس به. وأخرجه أيضًا 2/ 685 من طريق آخر عن الشعبي نحوه.
(5)
في م: "عبيد". وينظر الجرح 5/ 6.
(6)
بعده في م: "قال".
السيئةَ. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20]. قال الحسينُ: فقلتُ للأعمشِ: حدَّثني به الكلبيُّ إلا أنه قال: إن اللَّهَ قادرٌ أن يَجْزِيَ بالسيئةِ السيئةَ، وبالحسنةِ عشرًا. فقال الأعمشُ: لو أن الذي عندَ الكلبيِّ عندي، ما خرَج مني [إلا بخفيرٍ]
(1)
.
حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: حدَّثنا عليُّ بنُ حَكيمٍ الأوْديُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ بُكَيْرٍ، عن صالحِ بنِ مسلمٍ، قال: مرَّ الشعبيُّ على السُّدِّيِّ وهو يُفَسِّرُ، فقال: لأن يُضْرَبَ على استِك بالطَّبْلِ، خيرٌ لك مِن مجلسِك هذا
(2)
.
حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: حدَّثني عليُّ بنُ حَكيمٍ، قال: حدَّثنا شَريكٌ، عن سَلْمِ
(3)
بنِ عبدِ الرحمنِ النَّخَيِّ، قال: كنتُ مع إبراهيمَ، فرأى السُّدِّيَّ، فقال: أمَا إنه يُفَسِّرُ تَفسيرَ القومِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ البَرْقيِّ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ أبي سَلَمةَ، قال: سمِعْتُ سعيدَ بنَ بَشيرٍ يقولُ عن قتادةَ، قال: ما [بقِي أحدٌ]
(5)
يَجْرِي مع الكلبيِّ في التفسيرِ في عِنَانٍ.
قال أبو جعفرٍ: قد قلْنا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا في وجوهِ تأويلِ القرآنِ، وأن تأويلَ جميعِ القرآنِ على أوجهٍ ثلاثةٍ:
أحدُها: لا سبيلَ إلى الوصول إليه، وهو الذي اسْتَأْثَر اللَّهُ بعلمِه، وحجَب علمَه
(1)
في م: "بحقير". وخفير القوم: مجيرهم الذي يكونون في ضمانه ما داموا في بلاده. تاج العروس (خ ف ر).
(2)
أخرجه ابن عدي 1/ 274 من طريق عبد الله بن بكير به بنحوه.
(3)
في النسخ: "مسلم". والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 11/ 227.
(4)
أخرجه أحمد في العلل 1/ 70 (193)، وابن أبي حاتم في الجرح 2/ 184، وابن عدي 1/ 274 من طريق شريك به.
(5)
في م: "أرى أحدا".
عن جميعِ خلقِه، وهو أوقاتُ ما كان مِن آجالِ الأمورِ الحادثةِ التي أخْبَر اللَّهُ في كتابِه أنها كائنةٌ؛ مثلُ وقتِ قيامِ الساعةِ، ووقتِ نزولِ عيسى ابنِ مريمَ، ووقتِ طلوعِ الشمسِ مِن مَغْرِبِها، والنفخِ في الصُّورِ، وما أشبَهَ ذلك.
والوجهُ الثاني: ما خصَّ اللَّهُ [بعلمِ تأويلِه]
(1)
نبيَّه صلى الله عليه وسلم دونَ سائرِ أمّتِه، وهو ما فيه مما بعبادِه إلى علمِ تأويلِه الحاجةُ، فلا سبيلَ لهم إلى علمِ ذلك إلا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لهم تأويلَه.
والثالثُ منها: ما كان علمُه عندَ أهلِ اللسانِ الذي نزَل به القرآنُ، وذلك علمُ تأويلِ غريبِه
(2)
وإعرابِه، لا يُوصَلُ إلى علمِ ذلك إلا مِن قِبَلِهم.
فإذ
(3)
كان ذلك كذلك، فأحقُّ
(4)
المُفَسِّرين
(5)
بإصابةِ الحقِّ في تأويلِ القرآنِ الذي إلى علمِ تأويلِه للعبادِ السبيلُ، أوضحُهم حُجَّةً فيما تأوَّل وفسَّر، مما كان تأويلُه إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دونَ سائرِ أمّتِه، مِن أخبارِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثابتةِ عنه، إما مِن جهةِ
(6)
النقلِ المُسْتَفيضِ، فيما وُجِد فيه مِن ذلك عنه النقلُ المُسْتَفِيضُ، وإما مِن جهةِ
(6)
نقل العدولِ الأثباتِ، فيما لم يكنْ عنه فيه النقلُ المستفيضُ، أو مِن جهةِ
(6)
الدَّلَالةِ المنصوبةِ على صحتِه، وأوضحُهم
(7)
برهانًا فيما ترْجَم وبيَّن مِن ذلك مما كان مُدْرَكًا علمُه مِن جهةِ اللسانِ، إما بالشواهدِ مِن أشعارِهم السائرةِ، وإما مِن مَنْطِقِهم
(1)
سقط من: ر.
(2)
في م: "عربيته".
(3)
في م: "فإذا"، وفي ت 1:"فإن".
(4)
في ر: "وأحق".
(5)
في ت 1: "التفسيرين".
(6)
في م، ت 2:"وجه".
(7)
في ص، ت 1:"أصحهم".
ولغاتِهم المستفيضةِ المعروفةِ، كائنًا مَن كان ذلك المُتأوِّلُ والمُفَسِّرُ، بعد ألا يكونَ خارجًا تأويلُه وتفسيرُه ما تأوَّل وفسَّر مِن ذلك عن أقوالِ السلفِ مِن الصحابةِ والأئمةِ، والخلفِ مِن التابعين وعلماءِ الأمةِ.
القولُ في تأويلِ أسماءِ القرآنِ وسُوَرِه وآيِه
قال أبو جعفرٍ: إن اللَّهَ عز وجل سمَّى تنزيلَه الذي أنْزَله على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أسماءً أربعةً؛ منهن القرآنُ، فقال في تسميتِه إياه بذلك في تنزيل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]. وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76].
ومنهن الفرقانُ، قال جلّ ثناؤُه في وحيِه إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم مُسَمِّيَه
(1)
بذلك: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
ومنهن الكتابُ، قال تبارك اسمُه في تسميتِه إياه به
(2)
: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2].
ومنهن الذكرُ، فقال تعالى ذكرُه في تسميتِه إياه به:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولكل اسمٍ مِن أسمائِه الأربعةِ في كلامِ العربِ معنى ووجهٌ غيرُ معنى الآخَرِ ووجهِه.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"يسميه".
(2)
في ر: "بذلك".
فأما القرآنُ، فإن المفسرين اخْتَلَفوا في تأويلِه، والواجبُ أن يكونَ تأويلُه على قولِ ابنِ عباسٍ مِن التلاوةِ والقراءةِ، وأن يكونَ مصدرًا مِن قولِ القائلِ: قرأْتُ القرآنَ. كقولِك: الخُسْرانُ. مِن: خسِرْتُ، و: الغُفْرانُ. مِن: غفَر اللَّهُ لك، و: الكُفْرانُ. مِن: كفَرْتُك، و: الفرقانُ. مِن: فَرَق اللَّهُ بينَ الحقِّ والباطلِ.
وذلك أن يحيى بنَ عثمانَ
(1)
بنِ صالحٍ السَّهْميَّ حدَّثني، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} . يقولُ: بيَّنَّاه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]. يقولُ: اعْمَلْ به.
ومعنى قولِ ابنِ عباسٍ هذا: فإذا بيَّناه بالقراءةِ، فاعْمَلْ بما بيَّناه لك بالقراءةِ.
ومما يُوَضِّحُ صحةَ ما قلْنا في تأويلِ حديثِ ابنِ عباسٍ هذا ما حدَّثني به محمدُ ابنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]. قال: أن نُقْرِئَك فلا تَنْسَى، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} عليك، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. يقولُ: إذا تُلِي عليك فاتَّبِعْ ما فيه.
قال أبو جعفرٍ: فقد صرَّح هذا الخبرُ عن ابنِ عباسٍ أن معنى القرآنِ عندَه القراءةُ، [وأنه]
(2)
مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: قرأتُ. على ما بيّناه
(3)
.
وأما على قولِ قتادةَ، فإن الواجبَ أن يكونَ مصدرًا مِن قولِ القائلِ: قرأتُ
(1)
في ت 2: "عمر".
(2)
في م: "فإنه".
(3)
في م: "قد قلناه".
الشيءَ. إذا جمعْتَه وضمَمْتَ بعضَه إلى بعضٍ، كقولِك: ما قرأَتْ هذه الناقةُ سَلًى
(1)
قطُّ. تُرِيدُ بذلك أنها لم تَضُمَّ رَحِمًا على ولدٍ، كما قال عمرُو بنُ كُلْثُومٍ التَّغْلِبيُّ
(2)
:
تُرِيكَ إذا دخَلْتَ على خَلاءٍ
…
وقد أمِنَتْ عُيونَ الكاشِحِينا
(3)
ذراعَيْ عَيْطَلٍ
(4)
أدْماءَ
(5)
بِكْرٍ
…
هِجانِ
(6)
اللونِ لم تَقْرَأْ جَنِينا
(7)
يعني بقولِه: لم تَقْرَأْ جَنِينا. لم تَضْمُمْ رَحِمًا على ولدٍ.
وذلك أن بشرَ بنَ مُعاذٍ العَقَديَّ حدَّثنا، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ في قولِه تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . يقولُ: حفظَه
(8)
وتأليفَه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. يقولُ: اتَّبِعْ حلالَه، واجْتَنِبْ
(1)
السلى، والجمع أسلاء: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد، يكون ذلك للناس والخيل والابل، وقيل: هو في الماشية السلى، وفي الناس المشيمة. اللسان (س ل ى).
(2)
زيادة من: م، ت 1. والبيتان من معلقته المشهورة، وهما في شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري ص 377 - 379، وشرح القصائد التسع المشهورات لابن النحاس 2/ 782، وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 224.
(3)
الكاشحون؛ والواحد الكاشح: العدو المضمر العداوة، والعدو المبغض. تاج العروس (ك ش ح).
(4)
العيطل: الناقة الطويلة في حسن منظر وسمن. اللسان (ع ط ل).
(5)
الأدمة في الإبل: البياض مع سواد المقلتين. انظر اللسان (أ د م).
(6)
الهجان من الإبل: البيض الكرام. اللسان (هـ ج ن).
(7)
ورد هذا الشطر في شرح القصائد السبع وشرح القصائد العشر هكذا:
* تربعت الأجارع والمتونا *
وأورده الجوهري - كما في اللسان (ع ط ل):
* تربعت الأماعز والمتونا *
(8)
في ت 1: "لفظه".
حرامَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّنْعانيُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ ثَوْرٍ، قال: حدَّثنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ بمثلِه.
فرأى قتادةُ أن تأويلَ القرآنِ التأليفُ.
قال أبو جعفرٍ: ولكلا
(1)
القولين - أعْني قولَ ابنِ عباسٍ وقولَ قتادةَ - اللذين حكَيناهما، وجهٌ صحيحٌ في كلامِ العربِ، غيرَ أن أوْلَى قولَيْهما
(2)
بتأويلِ قولِ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . قولُ ابنِ عباسٍ؛ لأن اللَّهَ جل ثناؤُه أمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم في غيرِ آيةٍ مِن تنزيلِه باتباعِ ما أوحى إليه، ولم يُرَخِّصْ له في تركِ اتباعِ شيءٍ مِن أمرِه إلى وقتِ تأليفِه القرآنَ، فكذلك قولُه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . نظيرُ سائرِ ما في آيِ القرآنِ التي أمَره اللَّهُ فيها باتباعِ ما أوحى إليه في تنزيلِه، ولو وجَب أن يكونَ معنى قولِه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} : فإذا ألَّفْناه فاتَّبِعْ ما ألَّفْنا لك فيه - لَوجَب ألا يكونَ كان
(3)
لزِمه فرضُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. ولا فرضُ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2]. قبلَ أن يُؤَلَّفَ إلى ذلك غيرُه من القرآنِ، وذلك - إن قاله قائلٌ - خروجٌ
(4)
مِن قولِ أهلِ المِلَّةِ.
(1)
في ر: "لكل".
(2)
في ر: "قولهما".
(3)
في م: "كأن".
(4)
في ر، ت 2:"خرج".
وإذ صحّ أن حكمَ كلِّ آيةٍ مِن آيِ القرآنِ كان لازمًا النبيَّ
(1)
صلى الله عليه وسلم اتباعُه والعملُ به، مُؤَلَّفةً كانت إلى غيرِها أو غيرَ مُؤَلَّفةٍ - صحّ ما قال ابنُ عباسٍ في تأويلِ قولِه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . أنه مَعنيٌّ
(2)
به: فإذا بيَّناه لك بقراءتِنا، فاتَّبِعْ ما بيَّناه لك بقراءتِنا. دونَ قولِ مَن قال: معناه: فإذا ألَّفْناه فاتَّبِعْ ما ألَّفْناه.
وقد قيل: إن قولَ الشاعرِ
(3)
:
ضَحَّوْا بأشْمَطَ
(4)
عُنْوانُ
(5)
السُّجودِ به
…
يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبيحًا وقُرْآنا
يعني به قائلُه: تسبيحًا وقراءةً.
فإن قال قائلٌ: وكيف يجوزُ أن يُسَمَّى قرآنًا بمعنى القراءةِ، وإنما هو مَقْروءٌ؟
قيل: كما جاز أن يُسَمَّى المكتوبُ كتابًا، بمعنى كتابِ الكاتبِ، كما قال الشاعرُ في صفةِ
(6)
طَلاقٍ كتَبه لامرأتِه
(7)
:
تُؤَمِّلُ رَجْعةً مني وفيها
…
كتابٌ مثلَ ما لصِق الغِراءُ
يُرِيدُ
(8)
طلاقًا مكتوبًا، فجعَل المكتوبَ كتابًا.
وأما تأويلُ اسمِه الذي هو فُرْقانٌ، فإن تفسيرَ أهلِ التفسيرِ جاء في ذلك بألفاظٍ
(1)
في ر: "للنبي".
(2)
في م: "يعني".
(3)
هو حسان بن ثابت، والبيت في ديوانه ص 216، وينظر حاشيته، وعزاه إليه في العقد الفريد 3/ 81، 4/ 159، 284، 298، واللسان (ع ن ن)، ونسب أيضًا لأوس بن مغراء. ينظر خزانة الأدب 9/ 418.
(4)
الشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده. اللسان (ش م ط).
(5)
العنوان: الأثر، وكلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو له عنوان. اللسان (ع ن ن).
(6)
بعده في م: "كتاب".
(7)
البيت في التبيان 1/ 18.
(8)
بعده في ر، ت 1:"به".
مختلفةٍ، هي في المعاني مُؤْتَلِفةٌ.
فقال عكرمةُ فيما حدَّثنا به ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامُ بنُ [سَلْمٍ
(1)
، عن]
(2)
عَنْبَسَةَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ أنه كان يقولُ: هو النجاةُ.
وكذلك كان السُّدِّيُّ يَتأوَّلُه، حدَّثنا بذلك محمدُ بنُ الحسينِ، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ. وهو قولُ جماعةٍ غيرِهما.
وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: الفرقانُ المَخْرَجُ. حدَّثني بذلك يحيى بنُ عثمانَ بنِ صالحٍ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ.
وكذلك كان مجاهدٌ يقولُ في تأويلِه، حدَّثنا بذلك ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ.
وكان مجاهدٌ يقولُ في قولِ اللَّهِ جلّ ثناؤُه: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41]: يومٌ فرَق اللَّهُ فيه بينَ الحقِّ والباطلِ.
حدَّثني بذلك محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثني أبو عاصمٍ، عن عيسى بنِ مَيْمونٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ.
وكلُّ هذه التأويلاتِ في معنى الفرقانِ - على اختلافِ ألفاظِها - مُتَقارِباتُ المعاني؛ وذلك أن مَن جُعِل له مَخْرَجٌ مِن أمرٍ كان فيه، فقد جُعِل له ذلك المخرجُ منه
(1)
في ت 2: "سالم".
(2)
سقط من: ر. وينظر تهذيب الكمال 7/ 83.
نجاةً، وكذلك إذا نُجِّي منه، فقد نُصِر على مَن بَغَاه فيه سُوءًا، وفُرِق بينَه به
(1)
وبينَ باغيه السُّوءَ.
فجميعُ ما روَيْنا عمَّن روَيْنا عنه في معنى الفرقانِ قولٌ صحيحُ المعنى؛ لاتفاقِ معاني ألفاظِهم في ذلك.
وأصلُ الفرقانِ عندَنا الفرقُ بينَ الشيئَيْن والفصلُ بينَهما، وقد يكونُ ذلك بقضاءٍ
(2)
، واسْتِنْقاذٍ، وإظهارِ حُجَّةٍ، ونصرٍ
(3)
، وغيرِ ذلك مِن المعاني المُفَرِّقةِ بينَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ. فقد تبَيَّن
(4)
بذلك أن القرآنَ سُمِّي فرْقانًا؛ لفصلِه بحججِه
(5)
وأدلتِه [وحدودِ فَرائضِه]
(6)
وسائرِ معاني حُكْمِه، بينَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ. وفرقانُه بينَهما بنصرِه المُحِقَّ وتَخْذيلِه المُبْطِلَ، حكمًا وقضاءً.
وأما تأويلُ اسمِه
(7)
الذي هو كتابٌ، فهو مصدرٌ مِن قولِك: كتَبْتُ كتابًا. كما تقولُ: قمتُ قيامًا، وحسَبْتُ الشيءَ حسابًا.
والكتابُ هو خطُّ الكاتبِ حروفَ الكتابِ
(8)
المُعْجَمِ، مجموعةً ومُفْتَرِقةً، وسُمِّي كتابًا وإنما هو مكتوبٌ، كما قال الشاعرُ في البيتِ الذي اسْتَشْهَدْنا به:
................. وفيها
…
كتابٌ مثلَ ما لصِق الغِراءُ
(1)
سقط من: م.
(2)
في ر: "نقضا".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"تصرف".
(4)
في ر: "ترنوا".
(5)
في م: "بحجته".
(6)
في م: "حدوده وفرائضه".
(7)
سقط من: ر.
(8)
سقط من: م، ت 2.
يعني به مكتوبًا.
وأما تأويلُ اسمِه الذي هو ذكرٌ، فإنه مُحْتَمِلٌ معْنَيين؛ أحدُهما، أنه ذكرٌ مِن اللَّهِ جلّ ذكرُه، ذكَّر به عبادَه، فعرَّفهم فيه حدودَه وفَرائضَه وسائرَ ما أوْدَعه مِن حكمِه. والآخرُ، أنه ذِكْرٌ وشَرَفٌ وفخرٌ لمن آمَن به وصدَّق بما فيه، كما قال جلّ ثناؤُه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. يعني به أنه شرفٌ له ولقومِه.
[ثم لسوَرِ القرآنِ أسماءٌ سماهن بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: حدَّثنا أبو داودَ الطَّيالسيُّ، قال: حدَّثنا أبو العَوّامِ، وحدَّثني محمدُ بنُ خلفٍ العَسْقَلانيُّ، قال: حدَّثنا روّادُ
(2)
بنُ الجَرَّاحِ، قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ بَشيرٍ، جميعًا عن قتادةَ، عن أبي المَلِيحِ، عن واثلةَ بنِ الأسْقَعِ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أُعْطِيتُ مَكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطُّوَلَ، وأُعْطِيتُ مَكانَ الزَّبُورِ المِئِينَ، وأُعْطِيتُ مَكانَ الإنجِيلِ المثَانِيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفَصَّلِ"
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن أبي
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "داود". وينظر تهذيب الكمال 9/ 227.
(3)
أخرجه الطيالسي (1105)، ومن طريقه أحمد 28/ 188 (16982)، والطحاوي في المشكل (1379)، والنحاس في القطع والائتناف ص 81، والبيهقي في الدلائل 5/ 475.
وأخرجه الطبراني 22/ 75 (186)، والبيهقي في الشعب (2484) من طريق أبي العوام عمران القطان به.
وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 119، 120، والطبراني 22/ 76 (187)، والبيهقي (2485) من طريق سعيد بن بشير به.
وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 55 من رواية سعيد، وقال: هذا حديث غريب، وسعيد بن بشير فيه لين. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 2/ 41، والسلسلة الصحيحة (1480).
قِلابةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكانَ التَّوْراةِ، وأُعْطِيتُ المثَانِيَ مَكانَ الزَّبُورِ، وأُعْطِيتُ المِئِينَ مَكانَ الإنْجِيلِ، وفُضِّلْتُ بالمُفَصَّلِ"
(1)
. قال خالدٌ: كانوا يُسَمُّون المُفصَّلَ العربيَّ. قال خالدٌ: قال بعضُهم: ليس في العربيِّ سجدةٌ.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامُ بنُ سَلْمٍ
(2)
، عن عمرِو بنِ أبي قيسٍ، عن عاصمٍ، عن المسيَّبِ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: الطُّوَلُ كالتوراة، والمئِونَ كالإنجيلِ، والمثَاني كالزَّبورِ، وسائرُ القرآنِ بعدُ
(3)
فضلٌ على الكتبِ
(4)
.
حدَّثنا أبو عُبَيدٍ الوَصَّابيُّ
(5)
محمدُ بنُ حفصٍ، قال: أنْبأنا [ابنُ حِمْيرٍ]
(6)
، حدَّثنا الفَزاريُّ، عن ليثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ
(7)
، عن أبي بُرْدةَ، عن أبي المَلِيحِ، عن واثلةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه
(8)
قال: "أعْطانِي رَبِّي مَكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ الطُّوَلَ، ومَكانَ الإنْجِيلِ المثَانِيَ، ومَكانَ الزَّبُورِ المِئِينَ، وفَضَّلَنِي بالمُفَصَّلِ"
(9)
.
(1)
أخرجه ابن الضريس، في فضائل القرآن (157) من طريق خالد به بلفظ: وأعطيت المثاني مكان الإنجيل.
(2)
في ت 2: "سالم".
(3)
في ر: "يعد".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 101 إلى المصنف. والمسيب - هو ابن رافع - لم يلق ابن مسعود، وإنما يروى عن مجاهد ونحوه.
(5)
في ر: "الوجابي"، وفي م:"الوصاني قال حدثنا"، وفي ت 1:"الوصابي قال حدثنا". ومحمد بن حفص هو أبو عبيد الوصابي. ينظر الجرح 7/ 237.
(6)
في م: "أبو حميد". وهو محمد بن حمير، أبو عبد الله، أو أبو عبد الحميد. ينظر تهذيب الكمال 25/ 116.
(7)
في ر: "سلهم". وينظر تهذيب الكمال 24/ 282.
(8)
سقط من: م.
(9)
إسناده ضعيف؛ أبو عبيد الوصابي، قال ابن أبي حاتم: أردت قصده والسماع منه، فقال لي بعض أهل =
قال أبو جعفرٍ: والسبعُ الطُّوَلُ؛ البقرةُ، وآلُ عِمْرانَ، والنِّساءُ، والمائدةُ، والأنْعامُ، والأعْرافُ، ويونسُ، في قولِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ.
حدَّثني بذلك يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ.
وقد رُوِي عن ابنِ عباسٍ قولٌ يَدُلُّ على موافقتِه قولَ سعيدٍ هذا.
وذلك ما حدَّثنا به محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ ويحيى بنُ سعيدٍ ومحمدُ بنُ جعفرٍ وسهلُ بنُ يوسُفَ، قالوا: حدَّثنا عوفٌ، قال: حدَّثني يَزيدُ الفارسيُّ، قال: حدَّثني ابنُ عباسٍ، قال: قلتُ لعثمانَ بنِ عفانَ: ما حمَلَكم على أن عمَدْتُم إلى "الأنفالِ" وهي مِن المثاني، وإلى "براءةَ" وهي مِن المِئِينَ، فقرَنْتُم
(1)
بينَهما ولم تَكْتُبوا بينهما
(2)
سطرَ: بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ، ووضَعْتُموها في السبعِ الطُّوَلِ، ما حمَلكم على ذلك؟ قال عثمانُ: كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مما يَأْتِي عليه الزمانُ وهو تُنَزَّلُ عليه السُّوَرُ ذواتُ العددِ، فكان إذا نزَل
(3)
عليه الشيءُ
(4)
دعا ببعضِ مَن كان يَكْتُبُ فيقولُ: "ضَعُوا هؤلاء
(5)
الآيَاتِ في السُّورَةِ التي يُذْكَرُ فيها كذا
= حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته. وأخرجه الطبراني في الكبير (8003، 8004) من طريق ليث به من حديث أبي أمامة. وقال الهيثمي في المجمع 7/ 158: فيه ليث بن أبي سليم وقد ضعفه جماعة، ويعتبر بحديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(1)
في ت 2: "فقربتم"، وفي ت 1:"ففرقتم".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ر: "أنزل".
(4)
سقط من: ر.
(5)
في م، ت 2:"هذه".
وَكذا". وكانت "الأنفالُ" مِن أوائلِ ما أُنزل بالمدينةِ، وكانت "براءةُ" مِن
(1)
آخرِ القرآنِ
(2)
، وكانت
(3)
قصتُها شبيهةً بقصتِها، فظنَنْتُ أنها منها، فقُبِض رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولم يُبَيِّنْ
(4)
لنا أنها منها، فمِن أجلِ ذلك قرَنْتُ بينَهما ولم أكْتُبْ بينهما سطرَ: بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ، ووضَعْتُها
(5)
في السبعِ الطُّوَلِ
(6)
.
فهذا الخبرُ
(7)
يُنْبِئُ عن عثمانَ بنِ عفانَ، رحمةُ اللَّهِ عليه، أنه لم يكنْ تبَيَّن له أن "الأنفالَ" و"براءةَ" مِن السبعِ الطُّوَلِ، ويُصَرِّحُ عن ابنِ عباسٍ أنه لم يكنْ يَرَى ذلك منها.
وإنما سُمِّيَت هذه السُّوَرُ
(8)
السبعَ الطُّوَلَ
(9)
؛ لطولِها على سائرِ سورِ القرآنِ.
وأما المِئونَ، فهي ما كان مِن سُوَرِ القرآنِ عددُ آيِه مائةُ آيةٍ، أو تَزِيدُ عليها شيئًا أو
(1)
في ص، ر:"في".
(2)
بعده في م: "نزولًا".
(3)
في ر: "كان".
(4)
في ر: "ينهوا".
(5)
في م: "فوضعتهما".
(6)
حديث منكر؛ تفرد به يزيد الفارسي، وهو في عداد المجهولين، وهو غير يزيد بن هرمز. وأخرجه الترمذي (3086)، وابن أبي داود في المصاحف ص 30 عن محمد بن بشار به.
وأخرجه أحمد 1/ 459، 460 (399)، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة 3/ 1015، والنسائي في الكبرى (8007) من طريق يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر به.
وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 152، وأحمد 1/ 529 (499)، وأبو داود (786، 787)، وابن أبي داود ص 32، وابن حبان (43)، والحاكم 2/ 221، 330، والبيهقي 2/ 42 من طرق عن عوف به. وينظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على المسند 1/ 329 - 331 (399).
(7)
سقط من: ر.
(8)
في ر: "السورة".
(9)
في ر: "طوالا".
تَنْقُصُ منها شيئًا يسيرًا.
وأما المثَاني، فإنها ما ثنَّى المئين فتلاها، فكان المئون لها أوائلَ، وكان المثاني لها ثوانيَ. وقد قيل: إن المثانيَ سُمِّيَت مثانيَ؛ لتثنيةِ اللَّهِ جل ذكرُه فيها الأمثالَ والخبرَ والعبرَ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ.
حدَّثنا بذلك أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عثمانَ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ.
ورُوِي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنه كان يقولُ: إنما سُمِّيت مثانيَ؛ لأنها ثُنِّيَت فيها الفَرائضُ والحدودُ.
حدَّثنا بذلك محمدُ بن بَشّارٍ، قال: حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ.
وقد قال جماعةٌ يَكْثُرُ تَعْدادُهم: القرآنُ كلُّه مَثانٍ.
وقال جماعةٌ أُخَرُ
(1)
: بل المثاني فاتحةُ الكتابِ؛ لأنها تُثَنَّى قراءتُها في كلِّ صلاةٍ.
وسنَذْكُرُ أسماءَ قائلي ذلك وعللَهم، والصوابَ مِن القولِ فيما اخْتَلَفوا فيه مِن ذلك إذا انْتَهَيْنا إلى تأويلِ قولِه تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]. إنِ [اللَّهُ شاء]
(2)
ذلك.
(1)
في م: "أخرى".
(2)
في م: "شاء الله".
وبمثلِ ما جاءت به الروايةُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أسماءِ سُوَرِ القرآنِ التي ذُكِرَت، جاء شعرُ الشعراءِ، فقال بعضُهم
(1)
:
حلَفْتُ بالسبعِ اللَّواتي طُوِّلَت
وبمِئِينَ بعدَها قد أُمْئِيَتْ
وبمَثانٍ ثُنِّيَت فكُرِّرَت
وبالطَّواسِينِ
(2)
التي
(3)
قد ثُلِّثَت
وبالحَوامِيمِ اللَّواتي سُبِّعَت
(4)
وبالمُفَصَّلِ اللَّواتي فُصِّلَت
قال أبو جعفرٍ: وهذه الأبياتُ تَدُلُّ على صحةِ التأويلِ الذي تأوَّلْناه في هذه الأسماءِ.
وأما المُفَصَّلُ، فإنما
(5)
سُمِّيَت مُفَصَّلًا؛ لكثرةِ الفصولِ التي بينَ سورِها بـ "بسم اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ".
ثم تُسَمَّى
(6)
كلُّ سورةٍ مِن سورِ
(7)
القرآنِ سُورةً، وتُجْمَعُ سُوَرًا، على تقديرِ خُطبةٍ وخُطَبٍ، وغُرفةٍ وغُرَفٍ.
(1)
الرجز غير منسوب في مجاز القرآن 1/ 7، واللسان (ط س م).
(2)
في مصدري التخريج: "بالطواسيم". والطواسين والطواسيم هي طسم الشعراء، وطس النمل، وطسم القصص.
(3)
سقط من: م.
(4)
الحواميم اللواتي سبعت: سبع سور، من سورة غافر إلى سورة الأحقاف، كلها تبدأ بـ "حم".
(5)
في م: "فإنها".
(6)
في ر: "يسم".
(7)
سقط من: م.
والسورةُ بغيرِ همزٍ: المنزلةُ مِن مَنازلِ الارتفاعِ، ومِن ذلك سُورُ المدينةِ، سُمِّي
(1)
بذلك الحائطُ الذي يَحْوِيها؛ لارتفاعِه على ما يَحْوِيه، غيرَ أن السُّورةَ مِن سُورِ المدينةِ لم يُسْمَعْ في جمعِها سُوَرٌ، كما سُمِع في جمعِ سورةٍ مِن القرآنِ سورٌ، قال العَجَّاجُ
(2)
في جمعِ السورةِ مِن
(3)
البناءِ:
فرُبَّ ذي سُرادِقٍ
(4)
مَحْجُورِ
سُرْتُ
(5)
إليه في أعالي السُّورِ
فخرَج تقديرُ
(6)
جمعِها على تقديرِ جمعِ بُرَّةٍ وبُسْرةٍ؛ لأن [ذلك يُجْمَعُ بُرًّا وبُسْرًا]
(7)
، وكذلك لم يُسْمَعْ في جمعِ سورةٍ مِن القرآنِ سُورٌ، ولو جُمِعَت كذلك لم يكنْ خطأً في القياسِ إذا أُرِيد به جميعُ القرآنِ، وإنما ترَكوا - فيما يُرَى - جمعَه كذلك؛ لأن كلَّ جمعٍ كان بلفظِ الواحدِ المُذَكَّرِ، مثلَ بُرٍّ وشعيرٍ وقَصَبٍ وما أشبَهَ ذلك، فإن جِماعَه
(8)
[مَجرى الواحدِ]
(9)
مِن الأشياءِ غيرِه؛ لأن حكمَ الواحدِ منه منفردًا
(10)
قلَّما يُصابُ، فجرَى جِماعُه مَجْرَى الواحدِ مِن الأشياءِ
(11)
غيرِه، ثم
(1)
في ر: "تسمى".
(2)
في ر: "الحجاج". والرجز في ديوان العجاج ص 224.
(3)
سقط من: ر.
(4)
السرادق: كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب أو الحائط المشتمل على الشيء. اللسان (س ر د ق).
(5)
سُرْتُ الحائط سَورا بالفتح وتسورته: علوته. التاج (س و ر).
(6)
في م: "بتقدير".
(7)
في م: "جمع ذلك بر وبسر".
(8)
في م: "جماعة".
(9)
في م، ت 2:"كالواحد".
(10)
في م: "مفردا".
(11)
سقط من: ر، ت 1.
جُعِلَت الواحدةُ منه كالقطعةِ مِن جميعِه، فقيل: بُرَّةٌ وشَعِيرَةٌ وقَصَبةٌ. يُرادُ به قطعةٌ منه، ولم تكنْ سُوَرُ القرآنِ موجودةً مجتمعةً اجتماعَ البرِّ والشعيرِ وسُورِ المدينةِ؛ بل كلُّ سورةٍ منها موجودةٌ منفردةٌ بنفسِها انفرادَ كلِّ غرفةٍ مِن الغرفِ وخطبةٍ مِن الخطبِ، فجُعِل جمعُها جمعَ الغرفِ والخطبِ، المَبْنيِّ جمعُها مِن واحدِها.
ومِن الدَّلالةِ على أن معنى السُّورةِ المنزلةُ مِن الارتفاعِ قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(1)
:
ألم تَرَ أن اللَّهَ أعْطاك سُورةً
…
تَرَى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ
يعني بذلك أن اللَّهَ أعْطاه منزلةً مِن مَنازلِ الشرفِ التي قصَرت عنها منازلُ الملوكِ.
وقد هَمز بعضُهم السورةَ مِن القرآنِ، وتأويلُها في لغةِ من
(2)
همَزَها، القطعةُ التي قد أُفْضِلَت مِن القرآنِ عمّا سواها وأُبْقِيَت، وذلك أن سُؤْرَ كلِّ شيءٍ البقيةُ منه تَبْقَى بعدَ الذي يُؤْخَذُ منه، ولذلك سُمِّيَت الفَضْلةُ مِن شرابِ الرجلِ يَشْرَبُه ثم يُفْضِلُها فيُبْقِيها في الإناء: سُؤْرًا. ومِن ذلك قولُ أعْشَى بني ثعلبةَ يَصِفُ امرأةً فارقَتْه فأبْقَت في قلبِه مِن وَجْدِها بقيةً
(3)
:
فبانَت وقد أسْأَرَت في الفؤا
…
دِ صَدْعًا على نأْيِها مُسْتَطِيرَا
وقال الأعْشَى في مثلِ ذلك
(4)
:
(1)
ديوانه ص 78.
(2)
سقط من: م.
(3)
ديوان الأعشى ص 93.
(4)
ديوانه ص 101.
بانَت وقد أسْأَرَت في النفسِ حاجتَها
…
بعدَ ائْتِلافٍ وخيرُ الوُدِّ ما نفَعا
وأما الآيةُ مِن آيِ
(1)
القرآنِ فإنها تَحْتَمِلُ وجهَيْن في كلامِ العربِ؛
أحدُهما: أن تكون سُمِّيت آيةً؛ لأنها علامةٌ يُعْرَفُ بها تمامُ ما قبلَها وابتداؤُها، كالآيةِ التي تكونُ دَلالةً على الشيءِ يُسْتَدَلُّ بها عليه، كقولِ الشاعرِ
(2)
:
ألِكْني إليها عَمْرَك اللهَ يا فَتَى
…
بآيةِ ما جاءَت إلينا تَهادَيا
(3)
يعني: بعلامةِ ذلك. ومنه قولُه جلّ ثناؤُه: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة: 114]. [يعْني بذلك]
(4)
: علامةً منك لإجابتِك دُعاءَنا وإعْطائِك إيانا سُؤْلَنا.
والآخرُ منهما: القِصَّةُ، كما قال كعبُ بنُ زُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمَى
(5)
:
ألا أبْلِغا
(6)
هذا المُعَرِّضَ آيَةً
(7)
…
أيَقْظانَ قال القولَ إذ قال أم حَلَمْ
يعني بقولِه: آيةً: رسالةً مني وخبرًا عني. فيكونُ معنى الآياتِ القِصَصَ، قصةٌ تَتْلُو قصةً، بفُصولٍ ووُصولٍ.
(1)
سقط من: م.
(2)
هو سحيم عبد بني الحسحاس، والبيت في ديوانه ص 19.
(3)
التهادي: المشي في تمايل وسكون. اللسان (هـ د ى).
(4)
في م: "أي".
(5)
ديوانه ص 64.
(6)
في م: "بلغا".
(7)
في الديوان: "أنه". وورد على الصواب في طبقات فحول الشعراء 1/ 106. وقال الشيخ محمود شاكر: والآية بمعنى الرسالة لم تذكره كتب اللغة، ولكن شواهده لا تعد كثرة. ثم ساق الشواهد على ذلك من الشعر. وينظر تفسير الطبري بتحقيقه.
القولُ في تأويلِ أسماءِ فاتحةِ الكتابِ
قال أبو جعفرٍ: صحَّ الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بما حدَّثني به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: حدَّثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَني ابنُ أبي ذئبٍ، عن سعيدٍ المَقبُريِّ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"هي أُمُّ القُرآنِ، وهي فاتحَةُ الكِتابِ، وهي السَّبْعُ المثَانِي".
فهذه أسماءُ فاتحةِ الكتابِ.
وسُمِّيَت فاتحةَ الكتابِ لأنه
(1)
يُفْتَتَحُ بكتابتِها المَصاحِفُ، [وبقراءتِها]
(2)
الصلواتُ
(3)
، فهي فَواتحُ لما يَتْلُوها مِن سُورِ القرآنِ في الكتابِ
(4)
والقراءةِ.
وسُمِّيَت أمَّ القرآنِ لتقدُّمِها
(5)
على سائرِ سُوَرِ القرآنِ غيرِها وتأخُّرِ ما سواها خلفَها في القراءةِ والكتابةِ. وذلك مِن معناها شبيهٌ بمعنى فاتحةِ الكتابِ، وإنما قيل لها - لكونها كذلك -: أمُّ القرآنِ؛ لتسميةِ العربِ كلَّ جامعٍ أمرًا أو مُقَدِّمٍ لأمرٍ، إذا كانت له توابعُ تَتْبَعُه، هو لها إمامٌ جامعٌ، أُمًّا، فتقولُ للجلدةِ التي تجْمَعُ الدِّماغَ: أمُّ الرأسِ. وتُسَمِّي
(6)
لِواءَ الجيشِ ورايتَهم التي يَجْتَمِعون تحتَها للجيشِ أُمًّا، ومِن ذلك قولُ ذي الرُّمَّةِ يَصِفُ رايةً مَعْقودةً على قناةٍ يَجْتَمِعُ تحتَها هو وصحبُه
(7)
:
(1)
في م، ت 2:"لأنها".
(2)
في م: "ويقرأ بها في".
(3)
في ت 3: "الصلاة".
(4)
في م: "الكتابة".
(5)
في ص، ر:"لتقدمتها".
(6)
في ر: "نسم".
(7)
ديوان ذي الرمة 3/ 1445، 1446.
وأسْمَرَ قَوَّامٍ إذا نام صُحْبَتي
…
خفيفِ الثيابِ لا تُوارِي له أَزْرَا
(1)
على رأسِه أمٌّ لنا نَقْتَدِي بها
…
جِماعُ أمورٍ لا نُعاصِي لها أمرَا
إذا نزَلَت قيل انْزِلوا وإذا غدَت
…
غدَت ذاتَ [بِرْزيقٍ تَخالُ]
(2)
بها فَخْرَا
يعني بقولِه: على رأسِه أمٌّ لنا. أي: على رأسِ الرمحِ رايةٌ يَجْتَمِعون لها في النزولِ والرَّحيلِ وعندَ لقاءِ العدوِّ.
وقد قيل: إن مكةَ سُمِّيَت أمَّ القُرَى لتقدمِها أمامَ جميعِها، وجمعِها ما سواها. وقيل: إنما سُمِّيَت بذلك؛ لأن الأرضَ دُحِيَت منها، فصارت لجميعِها أمًّا. ومِن ذلك قولُ حُميدِ بنِ ثَوْرٍ الهِلاليِّ
(3)
:
إذا كانت [الخمسون أُمَّك]
(4)
لم يكن
…
لدائِك إلا أن تَمُوتَ طَبيبُ
لأن الخمسين جامعةٌ ما دونها مِن العددِ، فسمَّاها أمًّا للذي قد بلَغها.
وأما تأويلُ اسمِها أنها السبعُ، فإنها سبعُ آياتٍ، لا خلافَ بينَ الجميعِ مِن القراءِ والعلماءِ في ذلك، وإنما اخْتَلَفوا في الآيِ التي صارت بها سبعَ آياتٍ.
(1)
الأَزر: الظهر. اللسان (أ ز ر).
(2)
في م: "تزريق ننال".
والبرزيق؛ والجمع البرازيق، فارسي معرب: جماعات الناس، وقيل: جماعات الخيل، وقيل: هم الفرسان. اللسان (ب ر ز ق).
(3)
البيت ليس لحميد بن ثور وإنما هو لأبي محمد التيمي عبد الله بن أيوب، ترجمته في الأغاني 20/ 44. والبيت في البيان والتبيين 3/ 195، ومجموعة المعاني ص 124، وبهجة المجالس 2/ 234، ونسب فيها للتيمي، ونسبه في محاضرات الأدباء لأبي محمد التميمي 2/ 149، ووقع في عيون الأخبار 2/ 322 أنه للحجاج بن يوسف التيمي.
(4)
في البيان والتبيين، ومجموعة المعاني، وبهجة المجالس، وعيون الأخبار:"السبعون سنك"، وفي محاضرات الأدباء:"الستون سنك".
فقال عُظْمُ
(1)
أهلِ الكوفةِ: صارت سبعَ آياتٍ، بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ورُوِي ذلك عن جماعةٍ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والتابعين.
وقال آخَرون: بل
(2)
هي سبعُ آياتٍ، وليس منهن:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ولكن السابعةُ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وذلك قولُ عُظْمِ قرأةِ أهلِ المدينةِ ومُتَفقِّهيهم
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وقد بيَّنا الصوابَ مِن القولِ عندَنا في ذلك في كتابِنا "اللطيفِ في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ"، بوَجيزٍ مِن القولِ، وسنَسْتَقْصِي بيانَ ذلك بحكايةِ أقوالِ المختلفين فيه مِن الصحابةِ والتابعين والمتقَدِّمِين والمتأخِّرِين في كتابِنا الأكبرِ "في
(4)
أحكامِ شرائعِ الإسلامِ" إنِ اللَّهُ شاء ذلك.
وأما وصفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم آياتِها السبعَ بأنهن مَثانٍ؛ فلأنها تُثَنَّى قراءتُها في كلِّ صلاةِ تَطَوُّعٍ ومكتوبةٍ، وكذلك كان الحسنُ البصرىُّ يَتَأوَّلُ ذلك.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أبي رَجاءٍ، قال: سأَلْتُ الحسنَ عن قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. قال: هي فاتحةُ الكتابِ. ثم سُئِل عنها وأنا أَسْمَعُ، فقرَأها:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حتى أتَى على آخرِها، فقال: تُثَنَّى في كلِّ قراءةٍ. أو قال: في كلِّ صلاةٍ. الشكُّ مِن أبي جعفرٍ.
(1)
في م: "أعظم". وعظم الشيء ومعظمه: جله وأكثره. اللسان (ع ظ م).
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص: "متقنيهم".
(4)
في ر، ت 1:"من".
والمعنى الذي قلْنا في ذلك قصَد أبو النَّجْمِ العِجْليُّ بقولِه
(1)
:
الحمدُ للَّهِ الذي عافاني
وكلَّ خيرٍ بعدَه أعْطاني
مِن القُرَانِ ومِن المثَاني
(2)
وكذلك قولُ الراجزِ الآخرِ [الذي يقولُ]
(3)
:
نشَدْتُكم بمُنْزِلِ الفُرقانِ
أمِّ الكتابِ السبعِ مِن مَثاني
ثُنِّينَ
(4)
مِن آىٍ مِن القرآنِ
والسبعِ سبعِ الطُّوَلِ الدَّواني
وليس في وجوبِ
(5)
اسمِ السبعِ المثاني لفاتحةِ الكتابِ ما يَدْفَعُ صحةَ وجوبِ
(6)
اسمِ المثاني للقرآنِ كلِّه، ولِمَا ثنَّى المئِين مِن السُّورِ؛ لأنَّ لكلِّ ذلك وجهًا ومعنًى مفهومًا، لا يَفْسُدُ بتسميةِ بعضِ ذلك بالمثاني تسميةُ غيرِه بها.
فأما وجهُ تسميةِ ما ثنَّى المئينَ مِن سورِ القرآنِ بالمثاني، فقد بيَّنا صحتَه، وسنَدُلُّ على صحةِ وجهِ تسميةِ جميعِ القرآنِ به عندَ انتهائِنا إليه، في سورةِ "الزُّمَرِ" إن شاء اللَّهُ تعالى.
(1)
مجاز القرآن 1/ 7، واللسان (ث ن ى)، من غير نسبة.
(2)
في مجاز القرآن واللسان:
* رب المثاني الآي والقرآن *
وفي اللسان: "مثاني". بدلا من: "المثاني".
(3)
سقط من: م. والرجز في مجاز القرآن 1/ 7.
(4)
في م: "تبين".
(5)
في ص، ت 2:"وجوه"، وفي م:"وجود".
(6)
في م: "وجود".
القولُ في تأويلِ الاستعاذةِ
تأويلُ قولِه: "أعُوذُ".
والاستعاذةُ الاستجارةُ.
وتأويلُ قولِ القائلِ: "أعُوذُ باللَّهِ مِن الشيطانِ": أسْتَجِيرُ باللَّهِ دونَ غيرِه مِن سائرِ خلقِه، مِن الشيطانِ، أن يَضُرَّني في ديني، أو يَصُدَّني عن حقٍّ يَلْزَمُني لربِّي.
تأويلُ قولِه: "مِن الشيطانِ". والشيطانُ في كلامِ العربِ كلُّ مُتَمَرِّدٍ مِن الجنِّ والإنسِ والدَّوابِّ وكلِّ شيءٍ. ولذلك
(1)
قال ربُّنا جلّ ثناؤُه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. فجعَل مِن الإنسِ شياطينَ مثلَ الذي جعَل مِن الجنِّ.
وقال عمرُ بنُ الخطابِ رحمةُ اللَّهِ عليه، وركِب بِرْذَوْنًا
(2)
فجعَل يَتَبَخْتَرُ به، فجعَل يَضْرِبُه فلا يَزْدادُ إلا تَبَخْتُرًا، فنزَل عنه، وقال: ما حمَلْتُموني إلا على شيطانٍ، ما نزَلْتُ عنه حتى أنْكَرْتُ نفسي.
حدَّثنا بذلك يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني هشامُ بنُ سعدٍ، عن زيدِ بنِ أسْلَمَ، عن أبيه، عن عمرَ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وإنما سُمِّي المُتَمَرِّدُ مِن كلِّ شيءٍ شيطانًا؛ لمفارقةِ أخلاقِه وأفعالِه أخلاقَ سائرِ جنسِه وأفعالَه، وبُعدِه مِن الخيرِ. وقد قيل: إنه أُخِذ مِن قولِ القائل:
(1)
في م: "كذلك".
(2)
البرذون من الخيل: ما ليس بعربي، وهو العظيم الخلقة الجافيها الغليظ الأعضاء. تاج العروس (برذن).
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 31 عن ابن وهب به. وقال: إسناده صحيح. وينظر مصنف ابن أبي شيبة 13/ 278، وتاريخ دمشق (ص 261 - ترجمة عمر)، طبعة الرسالة.
شطَنَت دارِي مِن دارِك. يُريدُ بذلك: بَعُدَت. ومِن ذلك قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(1)
:
نأتْ بسعادَ عنكَ نَوًى شَطُونُ
…
فبانَت والفؤادُ بها رَهينُ
والنَّوَى: الوجهُ الذي نوَتْه وقصَدَتْه. والشَّطونُ: البعيدُ. فكأن الشيطانَ على هذا التأويلِ فَيْعَالٌ مِن: شَطَن. ومما يَدُلُّ على أن ذلك كذلك قولُ أميةَ بنِ أبي الصَّلْتِ
(2)
:
أَيُّمَا شاطِنٍ عَصَاه عَكاه
(3)
…
ثم يُلْقَى في السِّجْنِ والأكْبالِ
(4)
ولو كان فَعْلانَ مِن: شاط يَشِيطُ لَقال: أَيُّمَا شائطٍ. ولكنه قال: أَيُّمَا شاطنٍ؛ لأنه مِن: شَطَن يَشْطُنُ، فهو شاطنٌ.
تأويلُ قولِه: "الرَّجيمِ".
وأما الرجيمُ فهو فَعيلٌ بمعنى مفعولٍ
(5)
، كقولِ القائلِ: كفٌّ خَضيبٌ، ولحيةٌ دَهينٌ، ورجلٌ لَعينٌ. يريدُ بذلك: مخضوبةٌ، ومدهونةٌ، وملعونٌ. وتأويلُ الرجيمِ: الملعونُ المشْتومُ. وكلُّ مَشْتومٍ بقولٍ رَديءٍ أو سبٍّ فهو مَرْجُومٌ. وأصلُ الرجمِ الرَّمْيُ، بقولٍ كان أو بفعلٍ. ومِن الرجمِ بالقولِ: قولُ أبي إبراهيمَ لإبراهيمَ صلواتُ اللَّهِ عليه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46].
وقد يجوزُ أن يكونَ قيل للشيطانِ: رجيمٌ؛ لأن اللَّهَ جلّ ثناؤُه طرَدَه مِن سماواتِه، ورجَمه بالشُّهُبِ الثَّواقبِ.
(1)
ديوانه ص 256.
(2)
ديوانه ص 64.
(3)
عكوته في الحديد والوثاق عكوا: شددته. اللسان (ع ك و).
(4)
في الديوان: "الأغلال"، وفي نسخة منه "الأكبال"، وهما بمعنى.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"به".
وقد رُوِي عن ابنِ عباسٍ أن أولَ ما نزَل جبريلُ [على النبيِّ صلى الله عليه وسلم علَّمه الاستعاذةَ]
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال: أولُ ما نزَل جبريلُ على محمدٍ قال: يا محمدُ استعِذْ
(2)
، قُلْ: أسْتَعِيذُ بالسميعِ العليمِ مِن الشيطانِ الرجيمِ. ثم قال: قُلْ: بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ. ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. قال عبدُ اللَّهِ: وهي أولُ سورةٍ أنزلها اللَّهُ على محمدٍ بلسانِ جبريلَ، فأمَره أن يَتَعَوَّذَ باللهِ دونَ خَلْقِه
(3)
.
القولُ في تأويلِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
القولُ في تأويلِ قولِه
(2)
: {بِسْمِ} .
قال أبو جعفرٍ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه وتقدَّست أسماؤُه أدَّب نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمِه تقديمَ ذكرِ أسمائِه الحُسْنَى أمامَ جميعِ أفعالِه، وتقَدَّم إليه في وَصفِه بها قبلَ جميعِ مُهِمَّاتِه، وجعَل ما أدَّبه به مِن ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميعِ خلقِه سُنَّةً يَسْتَنُّون بها، وسبيلًا يَتَّبِعونه عليها، في
(4)
افتتاحِ أوائلِ مَنْطِقِهم، وصدورِ رسائلِهم وكتبِهم وحاجاتِهم، حتى أغْنَت دلالةُ ما ظهَر مِن قولِ القائلِ: {بِسْمِ
(1)
في ص: "صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة".
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
ذكره السيوطي في تدريب الراوي 1/ 62 عن بشر بن عمارة، وعزاه إلى المصنف.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 25، 26 (1، 4، 6)، والواحدي في أسباب النزول ص 10 من طريق أبي كريب به.
وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 29: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفا وانقطاعا.
(4)
في ص، ت 2:"فيه".
اللَّهِ}. على ما بطَن مِن مرادِه الذي هو محذوفٌ.
وذلك أن الباءَ مِن: {بِسْمِ اللَّهِ} . مُقْتَضِيةٌ فعلًا يكونُ لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغْنَت سامعَ القائلِ:{بِسْمِ اللَّهِ} . معرفتُه بمرادِ قائلِه من إظهارِ قائلِ ذلك مُرادَه قولًا؛ إذ كان كلُّ ناطقٍ به عندَ افتتاحِه أمرًا قد أحْضَر مَنْطِقَه به - إمَّا معه، وإمَّا قبلَه بلا فصلٍ - ما قد أغْنَى سامِعَه مِن دَلالةٍ شاهدةٍ على الذي مِن أجلِه افْتَتَح قِيلَه به، فصار استغناءُ سامعِ ذلك منه عن إظهارِ ما حذَف منه، نظيرَ استغنائِه إذا سمِع قائلًا قيل له: ما أكَلْتَ اليومَ؟ فقال: طعامًا. عن أن يُكَرِّرَ المسئولُ مع قولِه: طعامًا: أكَلْتُ. لما قد ظهَر لديه مِن الدلالةِ على أن ذلك معناه بتقدُّمِ مسألةِ السائلِ إياه عما أكَل. فمعقولٌ إذن أن
(1)
القائلَ إذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ثم افْتَتَح تاليًا سورةً، أن إتْباعَه:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . تلاوةَ السورةِ، مُنْبِئٌ
(2)
عن معنى قولِه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ومفهومٌ به أنه مُرِيدٌ بذلك: أقْرَأُ بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ. وكذلك قولُه: باسمِ اللَّهِ. عندَ نُهوضِه للقيامِ أو عندَ قعودِه وسائرِ أفعالِه، يُنْبئُ
(3)
عن معنى مرادِه بقولِه: باسمِ اللَّهِ. وأنه أراد بقِيلِه: باسمِ اللَّهِ: أقُومُ باسمِ اللَّهِ، وأقْعُدُ باسمِ اللَّهِ. وكذلك سائرُ الأفعالِ.
وهذا الذي قلْنا في تأويلِ ذلك هو معنى قولِ ابنِ عباسٍ الذي حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو
(1)
بعده في م: "قول".
(2)
في ص، ر، ت 1:"مبنى" وفي م: "ينبئ".
(3)
في ص: "يكنى". وفي ر: "تنبئ".
رَوْقٍ، عن الضَّحّاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ قال: إن أولَ ما نزَل به جبريلُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: يا محمدُ، قُلْ: أسْتَعِيذُ بالسميعِ العليمِ مِن الشيطانِ الرجيمِ. ثم قال: قُلْ: بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ. قال: قال له جبريلُ
(1)
: بسمِ اللَّهِ يا محمدُ. يقولُ: اقْرَأْ بذكرِ اللَّهِ ربِّك، وقمْ واقْعُدْ بذكرِ اللَّهِ.
قال أبو جعفرٍ: فإن قال لنا قائلٌ: فإن كان تأويلُ قولِ اللَّهِ: {بِسْمِ اللَّهِ} . ما وصَفْتَ، والجالبُ الباءَ في:{بِسْمِ اللَّهِ} . ما ذكرتَ، فكيف قيل:{بِسْمِ اللَّهِ} . بمعنى: أقْرَأُ باسمِ اللَّهِ. أو: أقُومُ [باسمِ اللَّهِ]
(2)
. أو: أقْعُدُ باسمِ اللَّهِ؟ وقد علمتَ أن كلَّ قارئٍ كتابَ اللَّهِ، فبعونِ اللَّهِ وتوفيقِه قراءتُه، وأن كلَّ قائمٍ أو قاعدٍ أو فاعلٍ فعلًا، فباللَّهِ قيامُه وقعودُه وفعلُه؟ وهلَّا - إذ كان ذلك كذلك - قيل: باللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ. ولم يُقَلْ: {بِسْمِ اللَّهِ} . فإن قولَ القائلِ: أقُومُ وأقْعُدُ باللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ. أو: أقْرَأُ باللَّهِ. أوضحُ معنًى لسامعِه مِن قولِه: {بِسْمِ اللَّهِ} . إذ كان قولُه: أقُومُ، أو
(3)
: أقْعُدُ باسمِ اللَّهِ. يُوهِمُ سامعَه أن قيامَه وقعودَه بمعنًى غيرِ اللَّهِ.
قيل له وباللَّهِ التوفيقُ: إن المقصودَ إليه مِن معنى ذلك غيرُ ما توهَّمْتَه في نفسِك، وإنما معنى قولِه:{بِسْمِ اللَّهِ} : أبْدَأُ بتسميةِ اللَّهِ وذِكْرِه قبلَ كلِّ شيءٍ. أو: أقْرَأُ بتسميتِه
(4)
. أو: أقُومُ وأقْعُدُ بتَسْميتِي اللَّهَ وذكرِه. [لا أنه]
(5)
يعني
(1)
بعده في م: "قل".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "و".
(4)
في ر، م:"بتسمية الله".
(5)
في ص: "إلا أنه"، وفي ر:"لأنه".
بقيلِه: {بِسْمِ اللَّهِ} : أقُومُ باللَّهِ. أو: أقْرَأُ باللَّهِ. فيَكُونَ قولُ القائلِ: أقْرَأُ باللَّهِ. أو: أقومُ. أو: أقعدُ باللَّهِ. أولى بوجهِ الصوابِ في ذلك مِن قولِه: {بِسْمِ اللَّهِ} .
فإن قال: فإن كان الأمرُ في ذلك على ما وصَفْتَ، فكيف قيل:{بِسْمِ اللَّهِ} . وقد علمتَ أن الاسمَ اسمٌ، وأن التسميةَ مصدرٌ مِن قولِك: سمَّيت؟.
قيل: إن العربَ قد تُخْرِجُ المصادرَ مُبْهَمةً على أسماءٍ مختلفةٍ، كقولِهم: أكرَمْتُ فلانًا كرامةً. وإنما بناءُ مصدرِ "أفعلتُ" - إذا أُخْرِج على فعلِه - الإفعالُ. وكقولِهم: أهَنْتُ فلانًا هَوانًا، وكلَّمْتُه كلامًا. وبناءُ مصدرِ "فعَّلْتُ" التَّفْعيلُ. ومِن ذلك قولُ الشاعرِ
(1)
:
أكُفْرًا بعدَ ردِّ الموتِ عني
…
وبعدَ عطائِك المائةَ الرِّتاعا
يريدُ: إعْطاءَك.
ومنه قولُ القائلِ
(2)
الآخرِ:
فإن كان هذا البُخْلُ منك سَجِيَّةً
…
لقد كنتُ في طُولِي رجاءَك أشْعَبا
يريد: في
(3)
إطالتي رجاءَك.
ومنه قولُ الآخرِ
(4)
:
(1)
هو القطامي، والبيت في ديوانه ص 37.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2. والبيت في التبيان للطوسي 1/ 26. وأشعب هو الذي يضرب به المثل في الطمع.
(3)
سقط من: ص.
(4)
هو الحارث بن خالد المخزومي. ينظر الأغاني 9/ 226، 234، 235. والبيت غير منسوب في أمالي الشجري 1/ 107.
أظُلَيْمَ
(1)
إن مُصابَكم رجلًا
…
أهْدَى السلامَ تحيةً ظُلْمُ
يُريدُ: إصابتَكم.
والشواهدُ في هذا المعنى تَكْثُرُ، وفيما ذكَرْنا كفايةٌ لمن وُفِّق لفهمِه.
فإذ
(2)
كان [الأمرُ على ما]
(3)
وصَفْنا مِن إخراجِ العربِ مصادرَ الأفعالِ على غيرِ بناءِ أفعالِها
(4)
كثيرًا، وكان تصديرُها إياها على مَخارجِ الأسماءِ موجودًا فاشيًا - فبَيِّنٌ
(5)
بذلك صوابُ ما قلْنا مِن التأويلِ في قولِ القائلِ {بِسْمِ اللَّهِ} . أن
(6)
معناه في ذلك عندَ ابتدائِه في فعلٍ أو قولٍ: أبْدَأُ بتسميةِ اللَّهِ قبلَ فعلي أو قبلَ قولي. وكذلك معنى قولِ القائلِ عندَ ابتدائِه بتلاوةِ القرآنِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . إنما معناه: أقْرَأُ مُبْتَدئًا بتسميةِ اللَّهِ. أو: أبْتَدِئُ قراءتي بتسميةِ اللَّهِ. فجُعِل الاسمُ مكانَ التسميةِ، كما جُعِل الكلامُ مكانَ التكليمِ، والعطاءُ مكانَ الإعْطاءِ.
وبمثلِ الذي قلْنا مِن التأويلِ في ذلك رُوِي الخبرُ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحّاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال: أولُ ما نزلَ به
(7)
جبريلُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: يا محمدُ، قُلْ: أسْتَعِيذُ بالسميعِ العليمِ مِن الشيطانِ الرجيمِ. ثم
(1)
في م: "أظلوم".
(2)
في ص: "فإن"، وفي م:"فإذا".
(3)
في ص: "كما".
(4)
في ص: "أفعل لها".
(5)
في م، ت 1، ت 2:"تبين".
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
سقط من: ر، م، ت 2.
قال: قُلْ: بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ. قال ابنُ عباسٍ: {بِسْمِ اللَّهِ} . يقولُ له جبريلُ: يا محمدُ، اقْرَأْ بذكرِ اللَّهِ ربِّك، وقُمْ واقْعُدْ بذكرِ اللَّهِ.
وهذا التأويلُ مِن ابنِ عباسٍ يُنْبِئُ عن صحةِ ما قلنا، مِن أنه مُرادٌ
(1)
بقولِ القائلِ مُفْتَتِحًا قراءتَه بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . أقْرَأُ بتسميةِ اللَّهِ وذكرِه، وأفْتَتِحُ القراءةَ بتسميةِ اللَّهِ بأسمائِه الحسنَى وصفاتِه العُلَى - ويُوضِّحُ
(2)
فسادَ قولِ مَن زعَم أن معنى ذلك مِن قائلِه: باللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ أولُ
(3)
كلِّ شيءٍ. مع أن العبادَ إنما أُمِروا أن يَبْتَدِئوا عندَ فَواتحِ أمورِهم بتسميةِ اللَّهِ، لا بالخبرِ عن عظمتِه وصفاتِه، كالذي أُمِروا به مِن التسميةِ على الذَّبائحِ والصيدِ، وعندَ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ، وسائرِ أفعالِهم. فكذلك الذي أُمِروا به مِن تسميتِه عندَ افْتِتاحِ تلاوةِ تَنْزيلِ اللَّهِ، وصدورِ رسائلِهم وكتبِهم.
ولا خلافَ بينَ الجميعِ مِن علماءِ الأمةِ أن قائلًا لو قال عندَ تذكيتِه بعضَ بَهائمِ الأنعامِ: باللَّهِ. ولم يقلْ: باسمِ اللَّهِ. أنه مُخالفٌ بتركِه قيلَ: باسمِ اللَّهِ. ما سُنّ له عندَ التذكيةِ من القولِ، فقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقولِه: باسمِ اللَّهِ: باللَّهِ. كما قال الزاعمُ أن اسمَ اللَّه في قولِ اللَّهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . هو اللَّهُ؛ لأن ذلك لو كان كما زعَم، لَوجَب أن يكونَ القائلُ عندَ تذكيتِه ذبيحتَه: باللَّهِ. قائلًا ما سُنَّ له مِن القولِ على
(1)
في م: "يراد".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "في".
الذَّبيحةِ. وفي إجماعِ الجميعِ على أن قائلَ ذلك تاركٌ ما سُنَّ له مِن القولِ على ذبيحتِه إذا لم يَقُلْ: باسمِ اللَّهِ - دليلٌ واضحٌ على فسادِ ما ادَّعَى مِن التأويلِ في قولِ القائلِ: باسمِ اللَّهِ. أنه مرادٌ به باللَّهِ، وأن اسمَ اللَّهِ هو اللَّهُ.
وليس هذا الموضعُ مِن مَواضعِ الإكثارِ في الإبانةِ عن الاسمِ؛ أهو المُسَمَّى أم غيرُه؟ أم هو صفةٌ له؟ فنُطِيلَ الكتابَ بذكْرِه، وإنما هذا موضعٌ مِن مَواضعِ الإبانةِ عن الاسمِ المضافِ إلى اللَّهِ - جلّ وعزّ -؛ أهو اسمٌ أم مصدرٌ بمعنى التسميةِ؟
فإن قال لنا قائلٌ: فما أنت قائلٌ في بيتِ لَبيدِ بنِ رَبيعةَ
(1)
:
إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما
…
ومَن يَبْكِ حولًا كاملًا فقد اعْتَذَر
فقد تأوَّله مُقَدَّمٌ في العلمِ بلغةِ العربِ أنه مَعْنِيٌّ به: ثم السلامُ عليكما. وأن اسمَ السلامِ هو السلامُ
(2)
.
قيل له: لو جاز ذلك وصحَّ تأويلُه فيه على ما تأوَّل، لجَاز أن يقالَ: رأيْتُ اسمَ زيدٍ، وأكلتُ اسمَ الطعامِ، وشرِبْتُ اسمَ الشرابِ. وفي إجماعِ جميعِ العربِ على إحالةِ ذلك، ما يُنْبِئُ عن فسادِ تأويلِ من تأوَّل قولَ لبيدٍ:
* ثم اسمُ السلامِ عليكما *
أنه أراد: ثم السلامُ عليكما. و
(3)
ادِّعائِه أن إدخالَ الاسمِ في ذلك وإضافتَه إلى
(1)
شرح ديوان لبيد ص 214.
(2)
الذي تأوله كذلك هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 16.
(3)
في ص، ر:"أو".
السلامِ، إنما جاز إذ كان اسمُ المُسَمَّى هو المُسَمَّى بعينِه.
ويُسألُ القائلون قولَ مَن حكَيْنا قولَه هذا، فيقالُ لهم: أتَسْتَجِيزون في العربيةِ أن يقالَ: أكَلْتُ اسمَ العسلِ. يعني بذلك: أكَلْتُ العسلَ. كما جازَ عندَكم: اسمُ السلامِ عليك
(1)
. وأنتم تُريدون: السلامُ عليك
(1)
؟
فإن قالوا: نعم. خرَجوا مِن لسانِ العربِ، وأجازوا في لغتِها
(2)
ما تُخَطِّئُه جميعُ العربِ في لغتِها. وإن قالوا: لا. سُئِلوا الفرقَ بينَهما، فلن يَقُولوا في أحدِهما قولًا إلا أُلْزِموا في الآخرِ مثلَه.
فإن قال لنا قائلٌ: فما معنى قولِ لبيدٍ هذا عندَك؟
قيل له: يَحْتَمِلُ ذلك وجهين، كلاهما غيرُ الذي قاله مَن حكَيْنا قولَه؛ أحدُهما: أن السلامَ اسمٌ مِن أسماءِ اللَّهِ، فجائزٌ أن يكونَ لبيدٌ عنَى بقولِه:
* ثم اسمُ السلامِ عليكما *
: ثم الْزَما اسمَ اللَّهِ وذِكْرَه بعدَ ذلك، ودَعَا ذِكْري والبكاءَ عليَّ. على وجهِ الإغْراءِ. فرفَع الاسمَ إذ
(3)
أخَّر الحرفَ الذي يَأْتي بمعنى الإغراءِ. وقد تَفْعَلُ العربُ ذلك إذا أخَّرَت الإغراءَ وقدَّمَت المُغْرَى به، وإن كانت قد تَنْصِبُ به وهو مُؤَخَّرٌ، ومِن ذلك قولُ الشاعرِ
(4)
:
(1)
في ص: "عليكم".
(2)
في ر: "لغاتها".
(3)
في م: "إذا و".
(4)
الرجز في أمالي القالي 2/ 244، وخزانة الأدب 6/ 200.
يا أيُّها المائحُ
(1)
دَلْوِي دونَكا
إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدُونكا
فأغْرَى بـ "دونك" وهي مُؤخَّرةٌ، وإنما معناه: دونَك دلوِي. فكذلك قولُ لبيدٍ:
* إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما *
يعني: ثم
(2)
عليكما اسمَ السلامِ. أي: الْزَما ذكرَ اللَّهِ، ودَعَا ذِكْرِي والوَجْدَ بي؛ لأن مَن بكَى حولًا على امرئٍ ميتٍ فقد اعْتَذَر. فهذا أحدُ وجهيه.
والوجهُ الآخرُ منهما: ثم تَسْمِيتي اللَّهَ عليكما. كما يقولُ القائلُ للشيءِ يَراه فيُعْجِبُه: اسمُ اللَّهِ عليك. يُعَوِّذُه بذلك مِن السُّوءِ، فكأنه قال: ثم اسمُ اللَّهِ عليكما مِن السُّوءِ. وكأنَّ الوجهَ الأولَ أشبهُ المعْنَيَيْن بقولِ لبيدٍ.
ويُقالُ لمن وجَّه بيتَ لبيدٍ هذا إلى أن معناه: ثم السلامُ عليكما. أتَرَى ما قلْنا مِن هذين الوجهَيْن جائزًا، أو أحدَهما، أو غيرَ ما قلتَ فيه؟ فإن قال: لا. أبان مِقْدارَه مِن العلمِ بتَصاريفِ وجوهِ كلامِ العربِ، وأغْنَى خَصمَه عن مناظرتِه. وإن قال: بلى. قيل له: فما بُرهانُك على صحةِ ما ادَّعَيْتَ مِن التأويلِ أنه الصوابُ دونَ الذي ذكَرْتُ أنه مُحْتَمِلُه مِن الوجهِ الذي يَلْزَمُنا تسليمُه لك؟ ولا سبيلَ إلى ذلك.
وأما الخبرُ الذي حدَّثنا إسماعيلُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ العَلاءِ بنِ الضَّحّاكِ [وهو يُلَقَّبُ بِزِبْرِيقٍ]
(3)
، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن إسماعيلَ بنِ
(1)
المائح: الرجل ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلو بيده ويميح أصحابه. اللسان (م ي ح) والرجز فيه.
(2)
زيادة من: ر.
(3)
سقط من: م، ت 2، وفي ر، ت 1:"وهو يلقب بابن برفق"، والمثبت من: ص. وينظر تهذيب الكمال 2/ 161، وتفسير ابن كثير 1/ 33، ونزهة الألباب للحافظ 1/ 338.
يحيى، عن ابنِ أبي مُلَيْكةَ، عمَّن حدَّثه، عن ابنِ مسعودٍ، ومِسْعَرِ بنِ كِدَامٍ، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِيسى ابنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إلى الكُتَّابِ لِيُعَلِّمَه، فقال لَه المُعَلِّمُ: اكتُبْ باسمِ. فقال له عِيسَى: وما باسمِ؟ فقال له المُعلِّمُ: مَا أَدْرِي، فَقَالَ له
(1)
عيسى: الباءُ بَهاءُ اللَّهِ، والسينُ سَناؤُهُ، والميمُ مَمْلَكَتُه"
(2)
.
فأخْشَى أن يكونَ غلطًا مِن المُحَدِّثِ، وأن يكونَ أراد [ب س م] على سبيلِ ما يُعَلَّمُ المُبْتَدِئُ مِن الصِّبيانِ في الكُتابِ حروفَ [أبي جاد]
(3)
، فغلِط بذلك فوصَله، فقال: باسمِ. لأنه لا معنَى لهذا التأويلِ إذا تُلِي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . على ما يَتْلُوه القارئُ في كتابِ اللَّهِ تعالى؛ لاستحالةِ معناه عن المفهومِ به عندَ جميعِ العربِ وأهلِ لسانِها، إذا حُمِل تأويلُه على ذلك.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1.
(2)
حديث موضوع. أخرجه ابن عدي 1/ 299 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 14/ 39 (مخطوط)، وابن الجوزي في الموضوعات 1/ 203 - من طريق إبراهيم بن العلاء به.
وأخرجه ابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 33، وتدريب الراوي 1/ 61 - وابن عساكر 14/ 39 من طريق إسماعيل بن عياش به. وعند ابن مردويه بالإسناد الثاني فقط.
وأخرجه ابن حبان في المجروحين 1/ 126، 127، وأبو نعيم في الحلية 7/ 251 - ومن طريقه ابن الجوزي 1/ 203، 204 - من طريق إبراهيم بن العلاء به بالإسناد الثاني.
وإسماعيل بن يحيى كذاب. وقال ابن عدي: حديث باطل. وقال ابن الجوزي: حديث موضوع محال. وقال ابن كثير: غريب جدًّا، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات. واللَّه أعلم. وسيأتي هذا الحديث في ص 123، 126.
ورُوي نحوه من قول سعيد بن جبير. أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح، كما في الدر المنثور 2/ 25.
وعن الضحاك نحوه. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 25 (2).
(3)
هذه الكلمة يعني بها الأحرف الأبجدية "أبجد هوز حطي
…
" إلخ.
القولُ في تأويلِ قولِ اللَّهِ جل ثناؤُه وتقدَّست أسماؤُه: {اللَّهِ} .
قال أبو جعفرٍ: أما تأويلُ قولِ اللَّهِ تعالى: {اللَّهِ} . فإنه على معنى ما رُوِي لنا عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ: هو الذي يَأْلَهُه
(1)
كلُّ شيءٍ، ويَعْبُدُه كلُّ خلقٍ. وذلك أن أبا كُرَيْبٍ حدَّثنا، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحّاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال: اللَّهُ ذو الأُلوهيةِ والعبوديةِ على خلقِه أجمعين
(2)
.
فإن قال لنا قائلٌ: فهل لذلك في "فعَل ويَفْعَل" أصلٌ كان منه
(3)
بناءُ هذا الاسمِ؟ قيل: أمَّا سماعًا مِن العربِ فلا، ولكن استدلالًا.
فإن قال: وما دلَّ على أن الأُلوهيةَ هي العبادةُ، وأن الإلهَ هو المعبودُ، وأن له أصلًا في "فعَل ويَفْعَل"؟
قيل: لا تَمانُعَ بينَ العربِ في الحكمِ لقولِ القائلِ، يَصِفُ رجلًا بعبادةٍ، ويَطْلُبُ ما
(4)
عندَ اللَّهِ جل ذكرُه: تألَّه فلانٌ. بالصحةِ، ولا خلافَ. ومِن ذلك قولُ رُؤْبةَ بنِ العَجَّاجِ
(5)
:
للَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ
(6)
(1)
في ص: "يألفه".
(2)
ذكره السيوطي في تدريب الراوي 1/ 62 عن بشر بن عمارة به، وعزاه إلى المصنف. وعزاه في الدر المنثور 1/ 8 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في ر: "فيه".
(4)
في م: "مما".
(5)
ديوان رؤبة (مجموعة أشعار العرب) ص 165.
(6)
المُدّه، جمع الماده: وهو المادح، والتمده: التمدح. الصحاح (م د هـ) والرجز فيه.
سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِن تأَلُّهي
يعني: مِن تعَبُّدي وطلَبي اللَّهَ بعملي.
ولا شك أن التألُّهَ التفَعُّلَ مِن: ألَه يَأْلَهُ. وأن معنى ألَه - إذا نُطِق به -: عبَد اللَّهَ. وقد جاء منه مصدرٌ يَدُلُّ على أن العربَ قد نطَقَت منه بـ "فعِل يَفْعَل" بغيرِ زيادةٍ.
وذلك ما حدَّثنا به سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن نافعِ بنِ
(1)
عمرَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قرَأ:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ)
(2)
. قال: عبادتَك. ويقولُ: إنه كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ
(3)
.
وحدَّثنا سفيانُ، قال: حدَّثنا ابنُ عُيَيْنةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ الحسنِ، عن ابنِ عباسٍ:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَك). قال: إنما كان فرعونُ يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ. [وكذلك كان [ابنُ عباسٍ]
(4)
يقرؤها ومجاهدٌ]
(5)
.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا [الحسين بنُ داودَ]
(6)
، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ قولَه:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ). قال:
(1)
في ص: "عن". وينظر تهذيب الكمال 29/ 287.
(2)
هذه قراءة للآية 127 من سورة الأعراف، فانظرها هناك.
(3)
سيأتي هذا الأثر والأثر الذي بعده في سورة الأعراف فانظرها هناك.
(4)
في ص: "أبو عبد الله"، وفي م:"عبد الله".
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
في ص: "الحسن بن واره". وهو الحسين بن داود المصيصي، أبو على المحتسب، لقبه سنيد، وهو بلقبه أشهر. ينظر ترجمته في تهذيب الكمال 12/ 161.
وعبادتَك.
ولا شكَّ أن الإلاهةَ
(1)
- على ما فسَّره ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ - مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: ألَه اللَّهَ فلانٌ إلاهةً. كما يقالُ: عبَد اللَّهَ فلانٌ عبادةً، وعبَر الرؤيا عبارةً. فقد بيَّن قولُ ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ هذا أن "ألَه" عبَد، وأن الإلاهةَ مصدرُه.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقالَ لمن عَبد اللَّهَ: ألَهه - على تأويلِ قولِ ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقالَ إذا أراد المُخْبِرُ [الخبرَ عن]
(2)
استيجابِ اللَّهِ ذلك على عبدِه؟
قيل: أما الروايةُ فلا روايةَ به
(3)
عندَنا، ولكن الواجبَ على قياسِ ما جاء به الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي حدَّثنا به إسماعيلُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن إسماعيلَ بنِ يحيى، عن ابنِ أبي مُلَيْكةَ، عمَّن حدَّثه، عن ابنِ مسعودٍ، ومِسْعَرِ بنِ كِدَامٍ، عن عطيةَ العَوْفيِّ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عيسى أسْلَمَتْه أُمُّه إلى الكُتَّابِ ليُعَلِّمَه، فقال له المُعَلِّمُ: اكْتُب: اللَّه. فقال له عِيسى: أتَدْرِي ما اللَّهُ؟ اللَّهُ إلهُ الآلِهَةِ" - أن يُقالَ: اللَّهُ جلّ ثناؤُه إلهُ العبدِ، والعبدُ ألَهه. وأن يكونَ قولُ القائلِ: اللَّهُ. مِن الكلامِ
(4)
أصلُه الإلهُ.
(1)
في ر: "إلاهة".
(2)
في ص: "الخبر"، وفي ر:"عن الخبر".
(3)
سقط من: م، وفي ص:"فيه".
(4)
في م: "كلام العرب".
فإن قال: وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك كذلك مع اختلافِ لفظَيْهما
(1)
؟
قيل: كما جاز أن يكونَ قولُه: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38]. أصلُه: لكنْ أنا، هو اللَّهُ ربِّي. كما قال الشاعرُ
(2)
:
وتَرْمِينَني
(3)
بالطَّرْفِ أيْ أنتَ مُذْنِبٌ
…
وتَقْلِينَني لكنَّا إياك لا أقْلِي
يريدُ: لكنْ أنا إياك لا أقلي. فحذَف الهمزةَ مِن "أنا" فالْتَقَت نونُ "أنا" ونونُ "لكن" وهي ساكنةٌ، فأُدْغِمَت في نونِ "أنا" فصارتا نونًا مشددةً. فكذلك اللَّهُ، أصلُه الإلهُ، أُسْقِطَت الهمزةُ التي هي فاءُ الاسمِ، فالْتَقَت اللامُ التي هي عينُ الاسمِ واللامُ الزائدةُ التي دخَلَت مع الألفِ الزائدةِ، وهي ساكنةٌ، فأُدْغِمَت في الأُخرى التي هي عينُ الاسمِ، فصارَتا في اللفظِ لامًا واحدةً مشددةً، كما وصَفْنا مِن قولِ اللَّهِ:{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
قال أبو جعفرٍ: وأما: {الرَّحْمَنِ} ، فهو فَعْلانُ، مِن رحِم
(4)
، و {الرَّحِيمِ} ، فَعيلٌ منه، والعربُ كثيرًا ما تَبْنِي الأسماءَ مِن "فعِل يَفْعَلُ" على "فَعْلانَ"، كقولِهم مِن غضِب: غَضْبانُ. ومِن سكِر: سَكْرانُ. ومِن
(1)
في ص: "لفظهما".
(2)
معاني القرآن 2/ 144، وخزانة الأدب 11/ 225، وقال: لم أقف على تتمته وقائله، مع أنه مشهور قلما خلا منه كتاب نحوي، واللَّه أعلم.
(3)
في ص: "تومينني".
(4)
في ص: "رحيم".
عطِش: عَطْشانُ. فكذلك قولُهم: رحمنُ. مِن رحِم؛ لأن "فعِل"
(1)
منه: رحِم يَرْحَمُ.
وقيل: رَحيمٌ. وإن كانت عينُ "فعِل" منه
(2)
مكسورةً، لأنه مدحٌ، ومِن شأنِ العربِ أن يَحْمِلوا أبنيةَ الأسماءِ إذا كان فيها مدحٌ أو ذمٌّ على "فعيلٍ"، وإن كانت عينُ "فعل" منها مكسورةً أو مفتوحةً، كما قالوا مِن "علِم": عالمٌ وعليمٌ. ومِن "قدَر": قادرٌ وقديرٌ. وليس ذلك منها بناءً على أفعالِها؛ لأن البناءَ مِن "فعِل يَفْعَل" و"فعَل يَفْعِل" فاعلٌ، فلو كان الرحمنُ والرحيمُ خارجَيْن على
(3)
بناءِ أفعالِهما لَكانت صورتُهما الراحمَ.
فإن قال قائلٌ: فإذ كان الرحمنُ والرحيمُ اسمَيْن مشتقَّيْن مِن الرحمةِ، فما وجهُ تَكريرِ ذلك وأحدُهما مُؤَدٍّ عن معنَى الآخَرِ؟
قيل له: ليس الأمرُ في ذلك كما
(4)
ظنَنْتَ، بل لكلِّ كلمةٍ منهما معنًى لا تُؤَدِّي الأخْرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انْفَرَدَت به كلُّ واحدةٍ منهما، فصارت إحداهما غيرَ مُؤَدِّيةِ المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما مِن جهةِ العربيةِ، فلا تَمانُعَ بينَ أهلِ المعرفةِ بلغاتِ العربِ أن قولَ القائلِ: الرحمنُ. عن أبنيةِ الأسماءِ مِن "فعِل ويَفْعَل" أشدُّ عدولًا مِن قولِه: الرحيمُ. ولا خلافَ مع ذلك بينَهم أن كلَّ اسمٍ كان له أصلٌ في "فعِل
(1)
في ص: "فعيل".
(2)
في م: "منها".
(3)
في م: "عن".
(4)
في م: "على ما".
ويَفْعَلُ" ثم كان عن أصلِه من "فعِل ويَفْعَلُ" أشدَّ عدولًا، أن الموصوفَ به مُفَضَّلٌ على الموصوفِ بالاسمِ المبنيِّ على أصلِه مِن "فعُل ويَفْعُل" إذا كانت التسميةُ به مدحًا أو ذمًّا، فهذا ما في قولِ القائلِ: الرحمنُ. مِن زيادةِ المعنى على قولِه: الرحيمُ. في اللغةِ.
وأما مِن جهةِ الأثرِ والخبرِ، ففيه بينَ
(1)
أهلِ التأويلِ اختلافٌ
(2)
؛ فحدَّثني السَّرِيُّ بنُ يحيى التَّمِيميُّ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ زُفَرَ، قال: سمِعْتُ العَرْزميَّ
(3)
يقولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قال: الرحمنُ بجميعِ الخلقِ، الرحيمُ، قال: بالمؤمنين
(4)
.
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن إسماعيلَ بنِ يحيى، عن ابنِ أبي مُلَيْكةَ، عمَّن حدَّثه، عن ابنِ مسعودٍ، ومِسْعَرِ بنِ كِدَامٍ، عن عطيةَ العَوْفيِّ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ عيسى ابنَ مَرْيَمَ قال: الرَّحْمَنُ رحمنُ الآخِرَةِ والدُّنيا، والرَّحِيمُ رَحِيمُ الآخِرَةِ".
فهذان الخبران قد أنبأا عن فرقِ ما بينَ تسميةِ اللَّهِ جل ثناؤُه باسمِه الذي هو رحمنٌ، وتسميتِه باسمِه الذي هو رحيمٌ، واختلافِ مَعْنَيَيِ
(5)
الكلمتين، وإن اخْتَلَفا
(1)
في ص: "عن".
(2)
في ص: "إخلاف".
(3)
في م: "العزرمي".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 36 عن المصنف. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 28 (20) عن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد اللَّه بن أبي سليمان العرزمي، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك مثله. ومحمد وأبوه وجويبر ضعفاء.
(5)
في م: "معنى".
في معنى ذلك الفرقِ، فدلّ أحدُهما على أن ذلك في الدنيا، ودلَّ الآخرُ على أنه في الآخرةِ.
فإن قال: فأيُّ هذين التأويلَيْن أولى عندَك بالصحةِ؟
قيل: لجميعِهما عندَنا في الصحةِ مَخْرَجٌ، فلا وجهَ لقولِ قائلٍ: أيُّهما أولى بالصحةِ؟ وذلك أن المعنى الذي في تسميةِ اللَّهِ بالرحمنِ، دونَ الذي في تسميتِه بالرحيمِ، هو أنه بالتسميةِ بالرحمنِ موصوفٌ بعمومِ الرحمةِ جميعَ خلقِه، وأنه بالتسميةِ [بالرحيمِ موصوفٌ]
(1)
بخصوصِ الرحمةِ بعضَ خلقِه، إمَّا في كلِّ الأحوالِ، وإمَّا في بعضِ الأحوالِ، فلا شكَّ - إذ كان ذلك كذلك - أن ذلك الخصوصَ الذي في وصفِه بالرحيمِ لا يَسْتَحِيلُ عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرةِ، أو فيهما جميعًا.
فإذ كان صحيحًا ما قلنا مِن ذلك، وكان اللَّهُ جل ثناؤُه قد خصَّ عبادَه المؤمنين في عاجلِ الدنيا بما لطَف لهم
(2)
مِن توفيقِه إياهم لطاعتِه، والإيمانِ به وبرسلِه، واتباعِ أمرِه واجتنابِ مَعاصيه، مما خُذِل عنه مَن أشْرَك به وكفَر، وخالفَ ما أُمِر به، وركِب معاصيَه، وكان مع ذلك قد جعَل جل ثناؤُه ما أعَدَّ في آجلِ الآخرةِ في جنانِه مِن النعيمِ المقيمِ، والفوزِ المبينِ، لمَن آمَن به، مِن رحمتِه في الدنيا والآخرةِ، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا، مِن الإفضالِ والإحسانِ إلى جميعِهم؛ في البَسْطِ في الرزقِ، وتَسْخيرِ السحابِ بالغَيْثِ، وإخراجِ النباتِ مِن الأرضِ، وصحةِ الأجْسامِ والعقولِ، وسائرِ النِّعَمِ التي لا تُحْصَى، التي يَشْتَرِكُ فيها المؤمنون والكافرون، فربُّنا جل ثناؤُه رحمنُ
(1)
في ر: "بالرحمن مخصوص".
(2)
في م: "بهم".
جميعِ خلقِه في الدنيا والآخرةِ، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرةِ.
فأما الذي عمَّ جميعَهم به في الدنيا مِن رحمتِه فكان رحمانًا
(1)
لهم به، فما ذكَرْنا مع نظائرِه التي لا سبيلَ إلى إحصائِها لأحدٍ مِن خلقِه، كما قال جل ثناؤه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18]. وأما في الآخرةِ، فالذي عمَّ جميعَهم به فيها مِن رحمتِه فكان لهم رحمانًا، في
(2)
تسويتِه بينَ جميعِهم جل ذكرُه في عدلِه وقضائِه، فلا يَظْلِمُ أحدًا منهم مثقالَ ذرةٍ، وإن تكُ حسنةً يضاعفْها
(3)
، ويُوَفِّي
(4)
كلَّ نفسٍ ما كسَبَت، فذلك معنى عمومِه في الآخرةِ جميعَهم برحمتِه الذي كان به رحمانًا في الآخرةِ.
وأما ما خصَّ به المؤمنين في عاجلِ الدنيا مِن رحمتِه الذي كان به رحيمًا لهم فيها، كما قال جل ذكرُه:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. فما وصَفْنا مِن اللُّطْفِ لهم في دينِهم، فخصَّهم به دونَ مَن خذَله مِن أهلِ الكفرِ به. وأما ما خصَّهم به في الآخرةِ فكان به رحيمًا لهم دونَ الكافرين، فما وصَفْنا آنفًا
(5)
مما أعَدَّ لهم دونَ غيرِهم مِن النعيمِ والكرامةِ التي تَقْصُرُ عنها الأمانيُّ.
وأما القولُ الآخرُ في تأويلِه فهو ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال:{الرَّحْمَنِ} الفعلانُ مِن الرحمةِ - وهو مِن كلامِ العربِ.
(1)
في الأصل، ص، ر، ت 2:"رحمن". وهذه الكلمة تجيء تارة في بعض المخطوطات مصروفة وتارة غير مصروفة والوجهان جائزان، كما نبه على ذلك أبو حيان في أول البحر المحيط، وقد اخترنا صرفها فيما يأتي من مواضع.
(2)
سقط من: م.
(3)
بعده في م: "ويؤت من لدنه أجرا عظيما".
(4)
في ص: "توفي"، وغير منقوطة في ر.
(5)
في ر: "أيضًا".
قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : الرقيقُ الرفيقُ بمَن أحَبَّ أن يَرْحَمَه، والبعيدُ الشديدُ على مَن أحَبَّ أن يَعْنُفَ عليه، وكذلك أسماؤُه كلُّها
(1)
.
وهذا التأويلُ مِن ابنِ عباسٍ يَدُلُّ على أن الذي به ربُّنا رحمنٌ، هو الذي به رحيمٌ، وإن كان لقولِه:{الرَّحْمَنِ} . مِن المعنى ما ليس لقولِه: {الرَّحِيمِ} . لأنه جعَل معنى الرحمنِ بمعنى الرَّقيقِ
(2)
على مَن رقَّ عليه، ومعنى الرحيمِ بمعنى الرَّفيقِ بمَن رفَق به.
والقولُ الذي روَيْناه في تأويلِ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكَرْناه عن العرْزَميِّ
(3)
، أشبهُ بتأويلِه مِن هذا القولِ الذي روَيْناه عن ابنِ عباسٍ. وإن كان هذا القولُ مُوافقًا معناه معنى ذلك، في أن للرحمنِ مِن المعنى ما ليس للرحيمِ، وأن للرحيمِ تأويلًا غيرَ تأويلِ الرحمنِ.
والقولُ الثالثُ في تأويلِ ذلك ما حدَّثني به عِمرانُ بنُ بَكَّارٍ الكَلَاعيُّ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ صالحٍ، قال: حدَّثنا أبو الأزهرِ نصرُ بنُ عمرٍو اللَّخْميُّ مِن أهلِ فِلَسْطينَ، قال: سمِعْتُ عطاءً الخُراسانيَّ يقولُ: كان الرحمنَ، فلما اختُزِل الرحمنُ مِن اسمِه، كان الرحمنَ الرحيمَ
(4)
.
والذي أراد، إن شاء اللَّهُ، عطاءٌ بقولِه هذا، أن الرحمنَ كان مِن أسماءِ اللَّهِ التي لا يَتَسَمَّى بها أحدٌ مِن خلقِه، فلما تسَمَّى به الكذابُ مُسَيْلِمةُ - وهو اخْتِزالُه إياه، يعني اقْتِطاعَه مِن أسمائِه لنفسِه - أخْبَر اللَّهُ جل ثناؤُه أن اسمَه الرحمنُ الرحيمُ؛
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 37 عن هذا الموضع.
(2)
في ص: "الرفيق".
(3)
في م: "العزرمي". وقد تقدم قوله في ص 126.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 9 إلى المصنف. وينظر الفتح 8/ 155.
ليَفْصِلَ بذلك لعبادِه اسمَه مِن اسمِ مَن قد تسَمَّى بأسمائِه، إذ كان لا يُسَمَّى أحدٌ الرحمنَ الرحيمَ - فيُجْمَعَ له هذان الاسمان - غيرُه جل ذكرُه. وإنما يتسَمَّى
(1)
بعضُ خلقِه إما رحيمًا أو يتَسَمَّى رحمانًا، فأما رحمنٌ رحيمٌ، فلم يَجْتَمِعا قطُّ لأحدٍ سواه، ولا يُجْمَعان لأحدٍ غيرِه، فكأن معنى قولِ عطاءٍ هذا، أن اللَّهَ جل ثناؤُه إنما فصَل بتكريرِ الرحيمِ على الرحمنِ، بينَ اسمِه واسمِ غيرِه مِن خلقِه، اخْتَلَف معناهما أو اتَّفَقا.
والذي قال عطاءٌ مِن ذلك غيرُ فاسدِ المعنى؛ بل جائزٌ أن يكونَ جل ثناؤُه خصَّ نفسَه بالتسميةِ بهما معا مُجْتمعَيْن، إبانةً لها مِن خلقِه؛ ليُعَرِّفَ عبادَه بذكرِهما مجموعَيْن أنه المقصودُ بذكرِهما دونَ مَن سواه مِن خلقِه، مع ما في تأويلِ كلِّ واحدٍ منهما مِن المعنى الذي ليس في الآخَرِ منهما.
وقد زعَم بعضُ أهلِ الغَباءِ أن العربَ كانت لا تَعْرِفُ الرحمنَ، ولم يكنْ ذلك في
(2)
لغتِها، ولذلك قال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60]. إنكارًا منهم لهذا الاسمِ. فكأنه كان
(3)
مُحالًا عندَه أن يُنْكِرَ أهلُ الشركِ ما كانوا بصحتِه عالِمِين، أو
(4)
كأنه لم يَتْلُ مِن كتابِ اللَّهِ قولَ اللَّهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} . يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]. وهم مع ذلك به مُكَذِّبون، ولنبوتِه جاحِدون، فيُعْلَم بذلك أنهم قد كانوا يُدافِعون حقيقةَ ما قد ثبَت عندَهم صحتُه، واسْتَحْكَمَت لديهم معرفتُه، وقد أُنْشِد لبعضِ الجاهليةِ الجَهْلاءِ
(5)
:
(1)
في م، ت 2:"تسمى".
(2)
في ص: "من".
(3)
في ص: "قال".
(4)
في ص: "أولًا".
(5)
البيت في المخصص 17/ 152 (المجلد الخامس) غير منسوب.
ألا ضرَبَت تلك [الفتاةُ هَجينَها]
(1)
…
ألا قضَب الرحمنُ ربِّي يمينَها
وقال سَلَامةُ بنُ جَنْدَلٍ السعديُّ
(2)
:
عجِلْتُم علينا عَجْلَتَيْنا
(3)
عليكمُ
…
وما يَشَإِ الرحمنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ
وقد زعَم أيضًا بعضُ مَن ضعُفَت معرفتُه بتأويلِ أهلِ التأويلِ، وقلَّت روايتُه لأقوالِ السلفِ مِن أهلِ التفسيرِ
(4)
، أن الرحمنَ مَجازُه ذو الرحمةِ، والرحيمَ مَجازُه الراحمُ. ثم قال: قد يُقَدِّرون اللفظَيْن مِن لفظٍ والمعنى واحدٌ، وذلك لاتِّساعِ الكلامِ عندَهم. قال: وقد فعَلوا مثلَ ذلك، فقالوا: نَدْمانُ ونَديمٌ. ثم اسْتَشْهَد [ببيتِ بُرْجِ]
(5)
بنِ مُسْهِرٍ الطائيِّ:
ونَدْمانٍ يَزيدُ الكأسَ طِيبًا
…
سقَيْتُ وقد تغَوَّرَتِ
(6)
النُّجومُ
واسْتَشْهد بأبياتٍ نظائرِه له في النَّديمِ والنَّدْمانِ. ففرَّق بينَ معنى الرحمنِ والرحيمِ في التأويلِ، لقولِه: الرحمنُ ذو الرحمةِ، والرحيمُ الراحمُ. وإن كان قد ترَك بيانَ تأويلِ مَعْنَيَيْهِمَا
(7)
على صحتِه، ثم مثَّل
(8)
ذلك باللفظَيْن [يَأْتِيان بمعنًى]
(9)
(1)
في ت 1: "القناة هجيتها".
(2)
في النسخ: "الطهوي". والمثبت كما في طبقات فحول الشعراء 1/ 155، والشعر والشعراء 1/ 272، والبيت في ديوانه ص 19.
(3)
في ت 2: "معجلينا".
(4)
لعله أراد بذلك أبا عبيدة في كتابه مجاز القرآن 1/ 21، فأكثر الكلام الآتي منقول منه بنصه.
(5)
في ص: "ببيت بزح"، وفي م:"قول برج" وفي ت 2: "ببيت برح"، وفي ت 1:"ببيت نوح". والبيت في المؤتلف والمختلف ص 80، وشرح ديوان الحماسة 3/ 1272، واللسان (ع ر ق)، (ن د م).
(6)
في المؤتلف والمختلف، وشرح ديوان الحماسة:"تعرضت". وتغورت النجوم: غربت. اللسان (غ و ر).
(7)
في ص، م:"معنيهما".
(8)
في ص: "بين".
(9)
في ص: "بإثبات معنى".
واحدٍ، فعاد إلى ما قد جعَله بمعنيين، فجَعله مثالَ ما هو بمعنًى واحدٍ، مع اختلافِ الألفاظِ.
ولا شكَّ أن ذا الرحمةِ هو الذي قد
(1)
ثبَت أن له الرحمةَ، وصحَّ أنها له صفةٌ، وأن الراحمَ هو الموصوفُ بأنه سيَرْحَمُ، أو قد رحِم فانْقَضَى ذلك منه، أو هو فيه، ولا دَلالةَ
(2)
فيه حينَئذٍ أن الرحمةَ له صفةٌ، كالدَّلالةِ على أنها له صفةٌ، إذا وُصِف بأنه ذو الرحمةِ. فأين معنى الرحمنِ الرحيمِ - على تأويله - مِن معنى الكلمتين تأْتِيان مُقَدَّرَتَيْن مِن لفظٍ واحدٍ باختلافِ الألفاظِ واتفاقِ المعاني؟ ولكن القولَ إذا كان على غيرِ أصلٍ مُعْتَمَدٍ عليه كان واضحًا عَوارُه.
وإن قال لنا قائلٌ: ولمَ قدَّم اسمَ اللَّهِ الذي هو اللَّهُ على اسمِه الذي هو الرحمنُ، واسمَه الذي هو الرحمنُ على اسمِه الذي هو الرحيمُ؟
قيل: لأن مِن شأنِ العربِ إذا أرادوا الخبرَ عن مُخْبَرٍ عنه أن يُقَدِّموا اسمَه، ثم يُتْبِعوه صفاتِه ونعوتَه، وهذا هو الواجبُ في الحكمِ، أن يكونَ الاسمُ مُقَدَّمًا قبلَ نعتِه وصفتِه؛ ليَعْلَمَ السامعُ الخبرَ عمَّن الخبرُ.
فإذ كان ذلك، كذلك وكان للَّهِ جل ذكرُه أسماءٌ قد حرَّم على خلقِه أن يَتَسَمَّوْا بها، خصَّ بها نفسَه دونَهم، وذلك مثلُ اللَّهِ والرحمنِ والخالقِ، وأسماءٌ أباح لهم أن يُسَمِّيَ بعضُهم بعضًا بها، وذلك كالرحيمِ والسميعِ والبصيرِ والكريمِ وما أشْبَهَ ذلك مِن الأسماءِ - كان الواجبُ أن تُقَدَّمَ أسماؤُه التي هي له خاصةٌ دونَ جميعِ خلقِه؛ ليَعْرِفَ السامعُ ذلك مَن توَجَّه إليه الحمدُ والتمجيدُ، ثم يُتْبَعَ ذلك بأسمائِه التي قد تَسَمَّى بها غيرُه، بعدَ علمِ المُخاطَبِ أو السامعِ مَن توَجَّه إليه ما يَتْلُو ذلك مِن المعاني.
(1)
سقط من: م.
(2)
بعده في م: "له".
فبَدأ اللَّهُ جل ذكرُه باسمِه الذي هو اللَّهُ؛ لأن الأُلوهةَ ليست لغيرِه جل ثناؤُه من وجهٍ مِن الوجوهِ، لا مِن جهةِ التَّسَمِّي به، ولا مِن جهةِ المعنى، وذلك أنّا قد بيَّنا أن معنى "اللَّهِ" جلّ ثناؤُه معنَى
(1)
المعبودِ، ولا معبودَ غيرُه جل ثناؤُه، وأن التَّسَمِّيَ به قد حرَّمه اللَّهُ جل ثناؤُه، وإن قصَد المُتَسَمِّي به ما قَصَد
(2)
المُتَسَمِّي بسعيدٍ وهو شقيٌّ، وبحسنٍ وهو قبيحٌ.
أو لا تَرَى أن اللَّهَ جل ثناؤه قال في غيرِ آيةٍ من كتابِه: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60، 61، 62، 63، 64]. فاسْتَكْبَر ذلك مِن المُقِرِّ به. وقال تعالى في خُصوصِه
(3)
نفسَه باللَّهِ وبالرحمنِ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. ثم ثنَّى ذلك
(4)
باسمِه الذي هو الرحمنُ، إذ كان قد منَع أيضًا خلقَه التَّسَمِّيَ به، وإن كان مِن خلقِه مَن قد يَسْتَحِقُّ تسميتَه ببعضِ مَعانيه، وذلك أنه قد يَجوزُ وصفُ كثيرٍ ممَّن هو دونَ اللَّهِ مِن خلقِه ببعضِ صفاتِ الرحمةِ، وغيرُ جائزٍ أن يَسْتَحِقَّ بعضَ الألوهةِ أحدٌ دونَه، فلذلك جاء الرحمنُ ثانيًا
(5)
لاسمِه الذي هو اللَّهُ.
وأما اسمُه الذي هو الرحيمُ، فقد ذكَرْنا أنه مما هو جائزٌ وصفُ غيرِه به، والرحمةُ مِن صفاتِه جل ذكرُه، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصَفْنا - واقعًا مَواقعَ نعوتِ الأسماءِ اللواتي هن
(6)
توابعُها، بعدَ تقدمِ الأسماءِ عليها.
(1)
في م: "هو".
(2)
في ص، م:"يقصد".
(3)
في م: "خصوصية".
(4)
سقط من: م.
(5)
في ص: "ثابتا".
(6)
في ر، ت 1:"هو".
فهذا وجهُ تقديمِ اسمِ اللَّهِ الذي هو اللَّهُ، على اسمِه الذي هو الرحمنُ، واسمِه الذي هو الرحمنُ، على اسمِه الذي هو الرحيمُ.
وقد كان الحسنُ البصريُّ يقولُ في الرحمنِ مثلَ ما قلنا، أنه مِن أسماءِ اللَّهِ التي مُنِع التَّسَمِّيَ بها العبادُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ مَسْعَدةَ، عن عوفٍ
(1)
، عن الحسنِ، قال: الرحمنُ اسمٌ ممنوعٌ
(2)
.
مع أن في إجماعِ الأمةِ مِن منعِ التَّسَمِّي به جميعَ الناسِ، ما يُغْني عن الاسْتِشْهادِ على صحةِ ما قلْنا في ذلك بقولِ الحسنِ وغيرِه.
(1)
في ر: "عون". وينظر تهذيب الكمال 22/ 437.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 37 عن المصنف.
القولُ في تأويلِ فاتحةِ الكتابِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
قال أبو جعفرٍ: ومعنى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . الشكرُ للَّهِ خالصًا دونَ سائرِ ما يُعْبَدُ مِن دونِه، ودونَ كلِّ ما برَأ
(1)
مِن خلقِه، بما
(2)
أنْعَم على عبادِه مِن النِّعَمِ التي لا يُحْصِيها العددُ، ولا يُحِيطُ بعددِها غيرُه أحدٌ، في تصحيحِ الآلاتِ لطاعتِه، وتَمْكينِ جَوارحِ أجسامِ المكلَّفِين لأداءِ فَرائضِه، مع ما بسَط لهم في دُنْياهم مِن الرزقِ، وغذَاهم به مِن نعيمِ العيشِ، مِن غيرِ اسْتِحْقاقٍ منهم ذلك
(3)
عليه، ومع ما نبَّهَهم عليه ودعاهم إليه، مِن الأسبابِ المُؤَدِّيةِ إلى دَوامِ الخُلودِ في دارِ المُقامِ في النعيمِ المُقيمِ، فلربِّنا الحمدُ على ذلك كلِّه أولًا وآخرًا.
وبما ذكَرْنا مِن تأويلِ قولِ ربِّنا جلّ ثناؤُه وتقَدَّسَت أسماؤُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . جاء
(4)
الخبرُ عن ابنِ عباسٍ وغيرِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ
(5)
، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال جبريلُ لمحمدٍ: قلْ يا محمدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . قال ابنُ عباسٍ:
(1)
في م: "يُرى".
(2)
في ص: "مما".
(3)
في م: "لذلك".
(4)
بعده في م: "عن".
(5)
في ص: "سعد". وتقدم على الصواب. وينظر تهذيب الكمال 19/ 379.
الحمدُ
(1)
هو الشكرُ للَّهِ
(2)
، والاسْتِخْذاءُ
(3)
للَّهِ، والإقْرارُ بنعمتِه وهدايتِه وابتدائِه، وغيرِ ذلك
(4)
.
حدَّثني سعيدُ بنُ عمرٍو السَّكونيُّ، قال: حدَّثنا بَقِيةُ بنُ الوليدِ، قال: حدَّثني عيسى بنُ إبراهيمَ، عن موسى بنِ أبي حَبيبٍ، عن الحكمِ بنِ عُمَيْرٍ، وكانت له صحبةٌ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذا قُلْتَ: الحَمدُ للَّهِ رَبِّ العالَمِينَ. فقد شَكَرْتَ اللَّهَ فَزادَك"
(5)
.
قال: وقد قيل: إن قولَ القائلِ: الحَمدُ للَّهِ. ثناءٌ عليه بأسمائِه وصفاتِه الحسنَى. وقولَه: الشكرُ للَّهِ. ثناءٌ عليه بنِعَمِه
(6)
وأيادِيه.
وقد رُوِي عن كعبِ الأحبارِ أنه قال: الحَمدُ للَّهِ ثناءُ
(7)
اللَّهِ. ولم يُبَيِّنْ في الروايةِ عنه مِن أيِّ معنَيَي
(8)
الثناءِ اللذين
(9)
ذكَرْنا ذلك.
(1)
بعده في م، ت 2:"للَّه".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ت 2: "الاسحى"، وفي ت 1:"الاستحداء". وفي تفسير ابن أبي حاتم: "الاستجداء". والاستخذاء: الخضوع. اللسان (خ ذ ا).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 26 (9) من طريق محمد بن العلاء به.
(5)
إسناده ضعيف جدًّا. ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 38 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 11 إلى الحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي. وقال أبو حاتم: الحكم بن عمير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكر السماع ولا لقاء - أحاديث منكرة من رواية ابن أخيه موسى بن أبي حبيب، وهو شيخ ضعيف الحديث، ويروى عن موسى بن أبي حبيب عيسى بن إبراهيم، وهو ذاهب الحديث، روى هذه الأحاديث عن عيسى بن إبراهيم بقية بن الوليد. ينظر الجرح 3/ 125، والميزان 4/ 202.
(6)
في ص، ت 1:"بنعمته".
(7)
بعده في م: "على".
(8)
في م: "معنى".
(9)
في ر، م:"الذي".
حدَّثنا يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّدَفيُّ، قال: أنْبَأنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني عمرُ
(1)
بنُ محمدٍ، عن سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيه، قال: أخْبَرَني السَّلوليُّ، عن كعبٍ، قال: مَن قال: الحَمْدُ للَّهِ. فذلك ثناءٌ على اللَّهِ
(2)
.
حدَّثني عليُّ بنُ الحسنِ الخَرَّازُ
(3)
، قال: حدَّثنا مسلمُ بنُ عبدِ الرحمنِ الجَرْميُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ مُصْعَبٍ القَرْقَسانيُّ، عن مُبارَكِ بنِ فَضالةَ، عن الحسنِ، عن الأسودِ بنِ سَرِيعٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليس شيءٌ أحَبَّ إليه الحَمْدُ مِن اللَّهِ تعالى، ولذلك أثْنَى على نَفْسِه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} "
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: ولا تَمانُعَ بينَ أهلِ المعرفةِ بلغاتِ العربِ مِن الحُكْمِ لقولِ القائلِ: الحمدُ للَّهِ شكرًا. بالصحةِ، فقد تبَيَّن
(5)
- إذ
(6)
كان ذلك عندَ جميعِهم صحيحًا - أن الحمدَ
(7)
قد يُنْطَقُ به في موضعِ الشكرِ، وأن الشكرَ قد يُوضَعُ موضعَ الحمدِ؛ لأن ذلك لو لم يكنْ كذلك، لَما جاز أن يُقالَ: الحمدُ للَّهِ شكرًا. فيُخْرَجَ مِن قولِ القائلِ:
(1)
في ص: "عمرو".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 26 (10) من طريق سهيل به.
(3)
في تاريخ بغداد 11/ 374، وتاريخ الإسلام 20/ 401 (حوادث ووفيات 261 - 280):"الخزاز". بزايين. وينظر تهذيب الكمال 14/ 342، 26/ 461، والسير 13/ 184.
(4)
إسناده منقطع؛ الحسن لم يسمع من الأسود. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 12 إلى المصنف.
وأخرجه الطبراني في الكبير (836) من طريق مبارك به دون آخره.
وأخرجه ابن سعد 7/ 42 من طريق آخر عن الحسن به نحوه.
والحديث - مقتصرًا على أوله - عند أحمد 24/ 352 (15586)، والبخاري في الأدب المفرد (859)، والنسائي في الكبرى (7745)، وغيرهم من طريق الحسن به.
(5)
بعده في ر: "سهو".
(6)
في ص: "أن".
(7)
بعده في م: "للَّه".
الحَمْدُ للَّهِ. مُصدرَ "أشْكُرُ"؛ لأن الشكرَ لو لم يكنْ بمعنى الحمدِ، كان خطأً أن يُصدرَ مِن الحمدِ غيرُ
(1)
معناه وغيرُ لفظِه
(2)
.
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجهُ إدخالِ الألفِ واللامِ في الحمدِ؟ وهلَّا قيل: حمدًا للَّهِ ربِّ العالمين؟
قيل: إن لدخولِ الألفِ واللامِ في الحمدِ معنًى لا يُؤَدِّيه قولُ القائلِ: حمدًا للَّهِ
(3)
. بإسقاطِ الألفِ واللامِ، وذلك أن دخولَهما في الحمدِ [مُنْبِئٌ عن]
(4)
أن معناه: جميعُ المحامدِ والشكرُ الكاملُ للَّهِ. ولو أُسْقِطَتا منه ما دلَّ إلا على أن حَمْدَ قائلِ ذلك للَّهِ دونَ المحامدِ كلِّها، إذ كان معنى قولِ القائلِ: حمدًا للَّهِ. أو: [حمدٌ للَّهِ]
(5)
: أَحْمَدُ اللَّهَ حمدًا. وليس التأويلُ في قولِ القائلِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . تاليًا سورةَ أمِّ القرآنِ: أحْمَدُ اللَّهَ. بل التأويل في ذلك ما وصَفْنا قبلُ، مِن أن جميعَ المَحامدِ للَّهِ بأُلوهتِه وإنعامِه على خلقِه بما أنْعَمَ عليهم به مِن النِّعَمِ، التي لا كِفاءَ
(6)
لها في الدينِ والدنيا، والعاجلِ والآجِلِ.
ولذلك مِن المعنى تَتابَعَت قراءةُ القرأةِ وعُلماءِ الأمةِ على رفعِ الحمدِ مِن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . دونَ نصبِها الذي يُؤَدِّي إلى الدَّلالةِ على أن معنى تاليه كذلك: أَحْمَدُ اللَّهَ حمدًا. ولو قرَأ قارئٌ ذلك بالنصبِ
(7)
، لكان عندي مُحِيلًا
(1)
في ص: "عن".
(2)
تقدم كلام المصنف على التصدير في ص 114، 115.
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "مبنى على".
(5)
في ص: "حمدا للَّه"، وفي م:"حمد اللَّه".
(6)
في م: "كفء".
(7)
هي قراءة هارون العتكي ورؤبة وسفيان بن عيينة. ينظر البحر المحيط 1/ 18.
معناه، ومُسْتَحِقًّا العقوبةَ على قراءتِه إياه كذلك، إذا تعَمَّد قراءتَه كذلك، وهو عالمٌ بخطئِه وفسادِ تأويلِه.
فإن قال لنا قائلٌ: وما معنى قولِه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ؟ أحَمِد اللَّهُ نفسَه جل ثناؤُه، فأثْنَى عليها، ثم عَلَّمَناه لنقولَ ذلك كما قال ووصَف به نفسَه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجهُ قولِه تعالى ذكرُه إذن:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وهو عزَّ ذكرُه معبودٌ لا عابدٌ؟ أم
(1)
ذلك مِن قِيلِ
(2)
جبريلَ، أو محمدٍ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقد بطَل أن يكون ذلك للَّهِ كلامًا.
قيل: بل ذلك كلُّه كلامُ اللَّهِ جل ثناؤُه، ولكنه جل ذكرُه حمِد نفسَه وأثْنَى عليها بما هو [له أهلٌ]
(3)
، ثم علَّم ذلك عبادَه، وفرَض عليهم تلاوتَه، اخْتِبارًا منه لهم وابْتِلاءً، فقال لهم: قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فقولُه
(4)
: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . مما علَّمهم جل ذكرُه أن يقولوه ويَدِينوا له بمعناه، وذلك موصولٌ بقولِه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قولُه: قولوا. فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ؟
قيل: قد دلَّلْنا فيما مضَى على
(5)
أن العربَ مِن شأنِها إذا عرَفَت مكانَ الكلمةِ، ولم تَشَكَّكْ
(6)
أن سامعَها يَعْرِفُ بما أظْهَرَت مِن مَنْطِقِها ما حذَفَت - حَذْفُ ما كفَى
(1)
في ص: "أمن".
(2)
في ص، ر:"قبل".
(3)
في ص، ت 1:"أهله".
(4)
في ص: "فقولوا".
(5)
سقط من: م.
(6)
في م: "تشك".
منه الظاهرُ مِن مَنْطِقِها، ولا سِيَّما إن كانت تلك الكلمةُ التي حُذِفَت قولًا أو بتأويلِ
(1)
قولٍ، كما قال الشاعرُ
(2)
:
وأعْلَمُ أنني سأكونُ
(3)
رَمْسًا
(4)
…
إذا سار النَّواعِجُ
(5)
لا يَسِيرُ
فقال السائلون
(6)
[لِمَن حفَرْتُم]
(7)
…
فقال المُخْبِرون
(8)
لهم وَزيرُ
قال أبو جعفرٍ: يُرِيدُ بذلك: فقال المُخْبِرون
(8)
لهم: الميتُ وزيرٌ. فأسْقَط الميتَ، إذ كان قد أتَى مِن الكلامِ بما يَدُلُّ على ذلك. وكذلك قولُ الآخرِ
(9)
:
[ورأيْتِ زوْجَكِ في الوَغَى]
(10)
…
مُتَقَلِّدًا سيفًا ورُمْحَا
(1)
في م: "تأويل".
(2)
سيأتي البيتان في تفسير الآية 87 من سورة "المؤمنون"، ونسبهما لبعض بني عامر، وكذلك في معاني القرآن للفراء 1/ 170، وهما في البيان والتبيين 3/ 184 منسوبان للوزيري.
(3)
في م: "لا أكون".
(4)
الرمس: القبر إذا كان مستويا مع وجه الأرض. تاج العروس (ر م س). وفي البيان والتبيين:
* وأعلم أنني سأصير ميتا *
(5)
في ص: "النوائح"، وفي معاني القرآن، والبيان والتبيين:"النواجع". والنواعج من الإبل: السراع، وقد نعجت الإبل في سيرها، بالفتح: أسرعت. اللسان (ن ع ج).
(6)
في ص، ومعاني القرآن:"السائرون".
(7)
في البيان والتبيين: "من المسجى".
(8)
في ر: "المجمرون".
(9)
البيت في تأويل مشكل القرآن ص 165، ومعاني القرآن للفراء 3/ 123، والكامل 1/ 334، 371، 2/ 275 ونسبه في نسخة منه لعبد اللَّه بن الزبعري.
(10)
في معاني القرآن:
* ولقيت زوجك في الوغى *
وفي الكامل:
* يا ليت زوجك قد غدا *
وقد عَلِم أن الرمحَ لا يُتَقَلَّدُ، [وأنه إنما]
(1)
أراد: وحاملًا رمحًا. ولكن لما كان معلومًا معناه اكتَفَى بما قد ظهَر مِن كلامِه عن إظهارِ ما حذَف منه. وقد يقولون للمسافرِ إذا ودَّعوه: مُصاحَبًا مُعافًى. [يُعْنى بذلك: سِرْ مُصاحبًا مُعافًى. فيَحذفون]
(2)
: سِرْ، واخْرُجْ. إذ كان معلومًا معناه، وإن أُسْقِط ذكرُه.
فكذلك ما حُذِف مِن قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . لمَّا عُلِم بقولِه جل ذكرُه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . ما أراد بقولِه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . مِن معنى أمرِه عبادَه، أغْنَت دَلالةُ ما ظُهِر عليه مِن القولِ عن إبداءِ ما حُذِف.
وقد روَيْنا الخبرَ
(3)
الذي قدَّمنا ذكرَه مبتَدأً في تأويلِ
(4)
قولِ اللَّهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . عن ابنِ عباسٍ وأنه كان يقولُ: إن جبريلَ قال لمحمدٍ: قلْ يا محمدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وبيَّنا أن جبريلَ إنما علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم ما أُمِر بتَعليمِه إياه، وهذا الخبرُ يُنْبِئُ عن صحةِ ما قلنا في تأويلِ ذلك
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {رَبِّ} .
قال أبو جعفرٍ: قد مضَى البيانُ عن تأويلِ اسمِ اللَّهِ الذي هو اللَّهُ في: {بِسْمِ اللَّهِ} . فلا حاجةَ بنا إلى تَكرارِه في هذا الموضعِ
(6)
.
(1)
في ر: "وأنه"، وفي م:"وإنما".
(2)
في م، ت 2:"يحذفون".
(3)
بعده في ص: "عن".
(4)
في م: "تنزيل".
(5)
ينظر ما تقدم في ص 135.
(6)
ينظر ما تقدم في ص 121 وما بعدها.
وأما تأويلُ قولِه: {رَبِّ} . فإن الربَّ في كلامِ العربِ مُنصرِفٌ
(1)
على معانٍ؛ فالسيدُ المُطاعُ فيهم
(2)
يُدْعَى ربًّا، ومِن ذلك قولُ لَبيدِ بنِ ربيعةَ
(3)
:
وأهْلَكْنَ يومًا ربَّ كِنْدَةَ وابنَه
…
وربَّ مَعَدٍّ بينَ خَبْتٍ
(4)
وعَرْعَرِ
(5)
يعني بربِّ كِنْدةَ: سيدَ كِنْدةَ. ومنه قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(6)
:
تَخُبُّ إلى النُّعمانِ حتى تَنالَه
…
[فِدًى لك]
(7)
مِن ربٍّ طَرِيفِي
(8)
وتالِدِي
(9)
والرجلُ المُصْلِحُ الشيءَ
(10)
يُدْعَى ربًّا، ومنه قولُ الفَرَزْدَقِ بنِ غالبٍ
(11)
:
كانوا كسالِئَةٍ حمْقاءَ إذ حقَنَت
…
سِلاءَها
(12)
في أَديمٍ غيرِ مَربوبِ
يعني بذلك: في أديمٍ غيرِ مُصْلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صَنيعتَه عندَ فلانٍ. إذا كان يُحاوِلُ إصلاحَها وإدامتَها. ومِن ذلك قولُ عَلْقمةَ بنِ عَبَدةَ
(13)
:
(1)
في م، ت 1:"متصرف".
(2)
في م: "فيها".
(3)
شرح ديوان لبيد ص 55.
(4)
خبت: موضع بالشام، وقرية بزبيد، وماء لكلب. تاج العروس (خ ب ت).
(5)
عرعر: عدة مواضع نجدية وغيرها، وواد بنعمان قرب عرفة. تاج العروس (ع ر ر).
(6)
ديوانه ص 170.
(7)
ص، ر، ت 1:"فذلك".
(8)
الطريف والطارف من المال: المستحدث. اللسان (ط ر ف).
(9)
التالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك. اللسان (ت ل د).
(10)
في م: "للشيء".
(11)
ديوانه ص 25.
(12)
السلاء: السمن. اللسان (س ل أ).
(13)
ديوان علقمة بشرح الأعلم ص 43، وجمهرة اللغة 1/ 28، والمخصص 17/ 154 (المجلد =
[فكنتَ
(1)
امرأً أفْضَتْ إليك رِبابَتي]
(2)
…
وقبلَك ربَّتْني - فضِعْتُ - رُبوبُ
(3)
يعني بقولِه: أفْضَت إليك. أي وصلَت
(4)
إليك رِبابَتي، فصِرْتَ أنت الذي تَرْبُّ أمري فتُصْلِحُه، لمَّا خرجْتُ مِن رِبابةِ غيرِك مِن الملوكِ
(5)
كانوا قبلَك عليَّ، فضيَّعوا أمري وترَكوا تَفَقُّدَه. وهم الرُّبوبُ، واحدُهم ربٌّ، والمالكُ للشيءِ يُدْعَى ربَّه.
وقد يَتَصَرَّفُ أيضًا معنى الربِّ في وجوهٍ غيرِ ذلك، غيرَ أنها تَعودُ إلى بعضِ هذه الوجوهِ الثلاثةِ.
فربُّنا جل ثناؤُه السيدُ الذي لا شِبْهَ
(6)
له، ولا مِثْلَ في مثلِ
(7)
سُؤْدُدِه، والمُصْلِحُ أمرَ خلقِه بما أسْبَغ عليهم مِن نعمِه، والمالكُ الذي له الخلقُ والأمرُ.
و [بنحوِ الذي]
(8)
قلْنا في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} . جاءت الروايةُ عن ابنِ عباسٍ.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال جبريلُ لمحمدٍ: يا محمدُ قل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال ابنُ عباسٍ: يقولُ: قل: الحمدُ
= الخامس)، واللسان (ر ب ب).
(1)
في ر: "فكنتُ". بضم التاء، وكذا في اللسان، والضبط موافق لضبط الجمهرة والمخصص.
(2)
في الديوان:
* وأنت امرؤ أفضت إليك أمانتي *
(3)
في الجمهرة، واللسان: ويروى: رَبوب. قال في اللسان: وعندى أنه اسم للجمع.
(4)
في م: "أوصلت".
(5)
بعده في م: "الذين".
(6)
في ص: "شبيه".
(7)
سقط من: ر، م، ت 2.
(8)
في ر، ت 2:"بالذي".
للَّهِ الذي له الخلقُ كلُّه؛ السماواتُ كلُّهن ومَن فيهن، والأرَضُون
(1)
كلُّهن ومَن فيهن، وما بينَهن مما [يُعْلَمُ ومما لا يُعْلَمُ]
(2)
. يقولُ: اعْلَمْ يا محمدُ أن ربك هذا لا يُشْبِهُه شيءٌ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {الْعَالَمِينَ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ: والعالَمونُ جمعُ عالَمٍ، والعالَمُ جمعٌ لا واحدَ له مِن لفظِه، كالأنامِ والرَّهْطِ [والجيشِ]
(4)
، ونحوِ ذلك مِن الأسماءِ التي هي موضوعاتٌ على جِماعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه.
والعالَمُ اسمٌ لأصنافِ الأممِ، وكلُّ صنفٍ منها عالَمٌ، وأهلُ كلِّ قرنٍ مِن كلِّ صنفٍ منها عالَمُ ذلك القرنِ وذلك الزمانِ، فالإنسُ عالَمٌ، وكلُّ أهلِ زمانٍ منهم عالَمُ ذلك الزمانِ، والجنُّ عالَمٌ، وكذلك سائر أجناسِ الخلقِ، كلُّ جنسٍ منها عالَمُ زمانِه
(5)
، ولذلك جُمِع فقيل: عالَمون. وواحدُه جمعٌ، لكونِ عالَمِ كلِّ زمانٍ مِن ذلك عالَمَ ذلك الزمانِ. ومِن ذلك قولُ العَجَّاجِ
(6)
:
فخِنْدِفٌ
(7)
هامَةُ هذا العالَمِ
فجعَلهم عالمَ زمانِه.
(1)
في النسخ: "الأرض". وسيأتي في الصفحة التالية.
(2)
في ر: "تعلم وما لا تعلم".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 27 (14) من طريق أبي كريب به دون آخره.
(4)
سقط من: ر.
(5)
في ص: "ذلك الزمان".
(6)
ديوانه ص 299.
(7)
خندف: امرأة إلياس بن مضر، واسمها ليلى، نسب ولد إلياس إليها، وهي أمهم. اللسان (خ ن د ف).
وهذا القولُ الذي قلْناه قولُ ابنِ عباسٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ، وهو معنى قولِ عامَّةِ المفسِّرين.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمان بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : الحمدُ للَّهِ الذي له الخلقُ كلُّه، السماواتُ والأرَضُون
(1)
، ومَن فيهن، وما بينَهن
(2)
، مما يُعْلَمُ
(3)
ومما
(4)
لا يُعْلَمُ (3).
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: حدَّثنا أبو
(5)
عاصمٍ، عن شَبيبٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} : الجنُّ والإنسُ.
حدَّثني عليُّ بن الحسنِ، قال: حدَّثنا مسلمُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: حدَّثنا [محمدُ بنُ]
(6)
مصعبٍ، عن قيسِ بنِ الربيعِ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللَّهِ:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال: ربِّ الجنِّ والإنسِ
(7)
.
(1)
في م: "الأرض".
(2)
في ص: "يليهن".
(3)
في ر: "تعلم".
(4)
سقط من: م، وفي ر:"ما".
(5)
سقط من: ر. وينظر تهذيب الكمال 13/ 281.
(6)
سقط من: م. وتقدم في ص 137.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 28 (18) من طريق قيس به. وأخرجه الحاكم 2/ 258 من طريق سفيان، عن عطاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 13 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ بنِ عيسى الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيريُّ، قال: حدَّثنا قيسٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ قولَه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال: الجنُّ والإنسُ
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحيمِ البَرْقيُّ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي مريمَ، عن ابنِ لَهِيعةَ، عن عطاءِ بنِ دينارٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ قولَه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال: ابنُ آدمَ والجنُّ والإنسُ، كلُّ أُمَّةٍ منهم عالَمٌ على حِدَتِه
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن مجاهدٍ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال: الجنُّ والإنسُ
(2)
.
[حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الاهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ بمثلِه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ العَقَديُّ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال
(3)
: كلُّ صنفٍ عالَمٌ]
(4)
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: حدَّثنا عُبَيدُ اللَّهِ بنُ موسى، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال: الإنسُ عالَمٌ، والجنُّ عالَمٌ، وما سوى ذلك ثمانيةَ عشَرَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 13 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 28 عقب الأثر (28) معلقا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 13 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
بعده في ص: "رب".
(4)
سقط من: ر.
ألفَ عالَمٍ
(1)
، أو أربعةَ عشَرَ ألفَ عالمٍ - هو يَشُكُّ - مِن الملائكةِ على الأرضِ، وللأرضِ أربعُ زَوايا، في كلِّ زاويةٍ ثلاثةُ آلافِ عالَمٍ وخمسُمائةِ عالَمٍ، خلَقهم لعبادتِه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ
(3)
، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثنا حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ في قولِه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال: الجنُّ والإنسُ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(3)}.
قال أبو جعفرٍ: قد مضَى البيانُ عن تأويلِ قولِه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في تأويلِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فأغْنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(5)
.
ولم نَحْتَجْ إلى الإبانةِ عن وجهِ تكريرِ
(6)
ذلك في هذا الموضع، إذ كنا لا نَرَى أن:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِن فاتِحةِ الكتابِ آيةٌ، فيكونَ علينا لسائلٍ مسألةٌ بأن يقولَ: ما وجهُ تكريرِ ذلك في هذا الموضعِ وقد مضَى
(1)
سقط من: ص، ر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 27 (15) عن أبيه، عن عبيد الله به. وأخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 219 من طريق أبي جعفر به.
وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 467 - تحقيق أبي إسحاق الحويني - عن هذا الموضع، وقال: وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. اهـ. وأخرج أبو نعيم في الحلية 4/ 70 عن وهب بن منبه نحو أوله.
(3)
في ر: "الحسين".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 39 عن ابن جريج.
(5)
ينظر ما تقدم في ص 124.
(6)
بعده في م: "الله".
وصفُ اللَّهِ جلّ ثناؤُه به نفسَه في قولِه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . مع قربِ مكانِ إحدى الآيتَيْن مِن الأخرى، ومُجاورتِها صاحبتَها؟ بل ذلك لنا حجةٌ على خطإِ دعْوَى مَن ادَّعى أن:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِن فاتحةِ الكتابِ آيةٌ، إذ لو كان ذلك كذلك، لكان ذلك إعادةَ آيةٍ بمعنًى واحدٍ ولفظٍ واحدٍ مرتين مِن غيرِ فاصلٍ يَفْصِلُ
(1)
بينَهما. وغيرُ موجودٍ في شيءٍ مِن كتابِ اللَّهِ آيتان مُتَجاوِرتان مُكَرَّرتان بلفظٍ واحدٍ ومعنًى واحدٍ، لا فصلَ بينَهما مِن كلامٍ يُخالِفُ معناه معناهما، وإنما يأتي بتكريرِ آيةٍ بكمالِها في السورةِ الواحدةِ، مع فصولٍ تَفْصِلُ بينَ ذلك، وكلامٍ يُعْتَرَضُ به بغيرِ معنى الآياتِ المُكَرَّراتِ أو غيرِ ألفاظِها، ولا فاصِلَ بينَ
(2)
قولِ اللَّهِ تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقولِه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فإن قال
(3)
: فإن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فاصلٌ بين (2) ذلك.
قيل: قد أنْكَر ذلك جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ، وقالوا: إن ذلك مِن المُؤَخَّرِ الذي معناه التَّقديمُ، وإنما هو: الحمدُ للَّهِ الرحمنِ الرحيمِ ربِّ العالمين مَلِكِ يومِ الدينِ. واسْتَشْهَدوا على صحةِ ما ادَّعَوْا مِن ذلك بقولِه: (مَلِكِ يومِ الدِّينِ). فقالوا: إن قولَه: (مَلِكِ يومِ الدِّينِ) تعليمٌ مِن اللَّهِ عبدَه أن يَصِفَه بالمَلِكِ في قراءةِ مَن قرَأ: (مَلِكِ). وبالمِلْكِ في قراءةِ مَن قرَأ: {مَالِكِ} . قالوا: فالذي هو أولى أن يكونَ مُجاوِرَ وَصْفِه بالمُلْكِ أو المِلْكِ ما كان نظيرَ ذلك مِن الوصفِ، وذلك هو قولُه:
(1)
سقط من: ص.
(2)
في ص: "من".
(3)
بعده في م: "قائل".
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} . الذي هو خبرٌ عن مِلْكِه جميعَ أجناسِ الخلقِ، وأن يكونَ مُجاورَ وصفِه بالعظمةِ والأُلوهةِ ما كان له نظيرًا في المعنى مِن الثناءِ عليه، وذلك قولُه:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فزعَموا أن ذلك لهم دليلٌ على أن قولَه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بمعنى التقديمِ قبلَ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وإن كان في الظاهرِ مؤخَّرًا. وقالوا
(1)
: نظائرُ ذلك مِن التقديمِ الذي هو بمعنى التأخيرِ، والمؤخَّرِ الذي هو بمعنى التقديمِ - في كلامِ العربِ أفْشَى، وفي مَنْطِقِها أكثرُ مَن أن يُحْصَى؛ مِن ذلك قولُ جريرِ بنِ عَطِيةَ
(2)
:
طاف الخيالُ وأين منك لِمامَا
(3)
…
فارْجِعْ لزَوْرِك بالسلامِ سلامَا
بمعنى: طاف الخيالُ لِمامًا، وأين هو منك؟ وكما قال جل ثناؤُه في كتابِه العزيزِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]. بمعنى: الحمدُ للَّهِ الذي أنزَل على عبدِه الكتابَ قَيِّمًا ولم يَجْعَلْ له عِوَجًا. وما أشبهَ ذلك. ففي ذلك دليلٌ شاهدٌ على صحةِ قولِ مَن أنْكَر أن تكونَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مِن فاتحةِ الكتابِ آيةً.
القولُ في تأويلِ قولِه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
قال أبو جعفرٍ: القُرَّاءُ مُخْتَلِفون في تلاوةِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . فبعضُهم يَتْلوه: (مَلِكِ يَومِ الدّينِ). وبعضُهم يَتْلُوه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وبعضُهم يَتْلُوه: (مالكَ يَومِ الدّينِ). بنصبِ الكافِ
(4)
. وقد اسْتَقْصَيْنا حكايةَ
(1)
بعده في م، ت 2:"في".
(2)
شرح ديوانه ص 541.
(3)
اللمام: الزيارة غِبًّا، ويقال: فلان يزورنا لماما. أي في الأحايين. اللسان (ل م م).
(4)
أما قراءة (مَلِكِ) فهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة، وأما قراءة (مالِكِ): فهي =
الروايةِ عمَّن رُوِي عنه في ذلك قراءةٌ في كتابِ "القِراءاتِ"، وأخْبَرْنا بالذي نَخْتارُ مِن القراءةِ فيه، والعلةِ المُوجِبةِ صحةَ ما اخْتَرْناه مِن القراءةِ فيه، فكرِهنا إعادةَ ذلك في هذا الموضعِ، إذ كان الذي قصَدْنا له في كتابِنا هذا البيانَ عن وجوهِ تأويلِ آيِ القرآنِ دونَ وجوهِ قراءتِها.
ولا خلافَ بينَ جميعِ أهلِ المعرفةِ بلغاتِ العربِ أن المَلِكَ مِن المُلْكِ مشتقٌّ، وأن المالكَ مِن المِلْكِ مأخوذٌ، فتأويلُ قراءةِ مَن قرَأ ذلك:(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ). أن للَّهِ المُلْكَ خالصًا يومَ الدينِ دونَ جميعِ خلقِه الذين كانوا قبلَ ذلك في الدنيا مُلوكًا جَبابرةً يُنازِعونه المُلْكَ، ويُدافِعونه الانفرادَ بالكِبْرياءِ والعظمةِ والسلطانِ والجَبْرِيةِ، فأيْقَنوا
(1)
بلقاءِ اللَّهِ يومَ الدينِ أنهم الصَّغَرةُ الأذِلَّةُ، وأن له مِن
(2)
دونِهم ودونِ غيرِهم المُلْكَ والكبرياءَ والعزةَ والبَهاءَ، كما قال جل ذكرُه وتقَدَّسَت أسماؤُه في تنزيلِه:{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]. فأخْبَر تعالى أنه المنفردُ يومَئذٍ بالمُلْكِ دون ملوكِ الدنيا الذين صاروا يومَ الدين مِن مُلْكِهم إلى ذلةٍ وصَغارٍ، ومِن دنياهم في المَعادِ إلى خَسارٍ.
وأما تأويلُ قراءةَ مَن قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . يقولُ: لا يَمْلِكُ أحدٌ في ذلك اليومِ معه حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. وقال: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108].
= قراءة عاصم والكسائي، وأما قراءة (مالِكَ) بفتح الكاف فهي رواية المطوعي عن الأعمش، وهي من الشواذ. ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 76.
(1)
سقط من: ر.
(2)
سقط من: م، ت 2.
وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}
(1)
[الأنبياء: 28].
قال أبو جعفرٍ: وأولى التأويلَيْن بالآيةِ وأصحُّ القِراءتَين في التلاوةِ عندي التأويلُ الأولُ، و
(2)
قراءةُ مَن قرَأ (مَلِكِ). بمعنى المُلْكِ؛ لأن في الإقْرارِ له بالانفرادِ بالمُلْكِ إيجابًا لانفرادِه بالمِلْكِ، وفضيلةَ زيادةِ المَلِكِ على المالكِ
(3)
، إذ كان معلومًا ألا مَلِكَ إلا وهو مالكٌ، وقد يكونُ المالكُ لا مَلِكًا.
وبعدُ، فإن اللَّهَ جل ذكرُه قد أخْبَر عبادَه في الآيةِ التي قبلَ قولِه:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أنه مالكُ جميعِ العالَمين، وسيدُهم، ومُصْلِحُهم، [والناظرُ لهم]
(4)
، والرحيمُ بهم في الدنيا والآخرةِ بقولِه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فإذ
(5)
كان جل ذكرُه قد أنْبَأهم عن مِلْكِه إياهم كذلك بقولِه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فأولى الصفاتِ مِن صفاتِه جل ذكرُه أن يَتبَعَ ذلك، ما لم يَحْوِه قولُه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مع قربِ ما بينَ الآيتَيْن مِن المُواصَلةِ والمُجاوَرةِ، إذ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تُشْبِهُها حِكْمةٌ. وكان في إعادةِ وصفِه جل ذكرُه بأنه:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إعادةُ ما قد مضَى مِن وصفِه به في قولِه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} . مع تقاربِ الآيتين وتجاوُرِ الصفتَيْن، وكان في إعادةِ ذلك تكرارُ ألفاظٍ مختلفةٍ بمعانٍ متفقةٍ، لا تُفِيدُ سامعَ ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجةٌ. والذي لم يَحْوِه مِن صفاتِه جل
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 29 (24) من طريق أبي كريب به مختصرا.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2:"هي".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"الملك".
(4)
سقط من: ر.
(5)
في ص: "فإن"، وفي م:"فإذا"، وفي ت 1:"وإذ".
ذكرُه ما قبلَ قولِه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} المعنى الذي في قولِه: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو وصفُه بأنه المَلِكُ.
فبَيِّنٌ إذن أن أوْلَى القراءتَيْن بالصوابِ، وأحقَّ التأويلين بالكتابِ، قراءةُ مَن قرَأه:(مَلِكِ يَومِ الدِّينِ) بمعنى إخلاصِ المُلْكِ له يومَ الدينِ، دون قراءةِ مَن قرأ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بمعنى
(1)
أنه يَمْلِكُ الحكمَ بينَهم وفَصْلَ القَضاءِ، مُتَفَرِّدًا به دونَ سائرِ خلقِه.
فإن ظنَّ ظانٌّ أن قولَه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} نبأٌ عن مِلْكِه إياهم في الدنيا دونَ الآخرةِ، فوجَب
(2)
[وصلُ ذلك]
(3)
بالنبإِ عن نفسِه أنه مَن
(4)
ملَكهم في الآخرةِ على نحوِ مِلْكِه إياهم في الدنيا بقولِه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فقد أغْفَل
(5)
وظنَّ خطأً؛ وذلك أنه لو جاز لظانٍّ أن يَظُنَّ أن قولَه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} محصورٌ معناه على الخبرِ عن رُبوبيتِه
(6)
عالَمَ الدنيا دونَ عالَمِ الآخرةِ - مع عدمِ الدلالةِ على أن معنى ذلك كذلك في ظاهرِ التنزيلِ، أو في خبرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحُجةٍ موجودةٍ في المعقولِ - جاز
(7)
لآخرَ أن يَظُنَّ أن ذلك محصورٌ على عالَمِ الزمانِ الذي فيه نزَل قولُه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون سائرِ ما يَحْدُثُ بعدَه في الأزمنةِ الحادثةِ مِن العالَمين، إذ كان صحيحًا بما
(8)
قدَّمْنا مِن البيانِ أن عالَمَ كلِّ زمانٍ
(1)
في ص: "الذي بمعنى".
(2)
في ص، م:"يوجب".
(3)
في م: "وصله".
(4)
في م، ت 2:"قد".
(5)
قال الشيخ شاكر: قوله: أغفل. فعل لازم غير متعد، ومعناه: دخل في الغفلة والنسيان ووقع فيهما، وهي عربية معرقة وإن لم توجد في المعاجم.
(6)
في ر، م، ت 1، ت 2:"ربوبية".
(7)
في م: "لجاز".
(8)
بعده في م، ت 2:"قد".
غيرُ عالَمِ الزمانِ الذي بعدَه.
فإن غَبِي عن علمِ صحةِ ذلك بما قد قدَّمْنا ذو غَباءٍ، فإن في قولِ اللَّهِ جل ثناؤُه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]. دلالةً واضحةً على أن عالَمَ كلِّ زمانٍ غيرُ عالَمِ الزمانِ الذي كان قبلَه وعالَمِ الزمانِ الذي بعدَه، إذ كان اللَّهُ جل ثناؤُه قد فضَّل أمةَ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم على سائرِ الأمِ الخاليةِ، وأخْبَرَهم بذلك في قولِه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 110]. فمعلومٌ بذلك أن بني إسرائيلَ في عصرِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لم يكونوا مع تكذيبِهم به صلى الله عليه وسلم أفضلَ العالَمين، بل كان أفضلَ العالمين في ذلك العصرِ وبعدَه إلى قيامِ الساعةِ المؤمنون به المُتَّبِعون مِنْهاجَه، دونَ مَن سواهم مِن الأممِ المُكَذِّبةِ الضالَّةِ عن مِنْهاجِه.
وإذ كان بينًا فسادُ تأويلِ مُتَأوِّلٍ لو تأوَّل قولَه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أنه معنيٌّ به أن اللَّهَ ربُّ عالَمِي زمنِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، دون عالَمِي سائرِ الأزمنةِ غيرِه - كان واضحًا فسادُ قولِ مَن زعَم أن تأويلَه: ربُّ عالَمِ الدنيا دون عالَمِ الآخرةِ. وأن: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} اسْتَحَقَّ الوصلَ به ليُعْلَمَ أنه في الآخرةِ مِن مِلْكِهم ورُبوبيتِهم بمثلِ الذي كان عليه في الدنيا.
ويُسْألُ زاعمُ ذلك الفرقَ بينَه وبينَ مُتَحَكِّمٍ مثلَه في تأويلِ قولِه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} تحكَّم فقال
(1)
: إنما عنَى بذلك أنه ربُّ عالَمِي زمانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم دون عالَمِي غيرِه مِن الأزمنةِ الماضيةِ قبلَه والحادثةِ بعدَه، كالذي زعَم قائلُ
(2)
هذا القولِ
(1)
بعده في م، ت 2:"إنه".
(2)
سقط من: م، ت 2.
أنه [عنَى به عالَمِي]
(1)
الدنيا دون عالَمِي
(2)
الآخرةِ - مِن أصلٍ أو دلالةٍ. فلن يقولَ في أحدِهما شيئًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
وأما الزاعمُ أنَّ تأويلَ قولِه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أنه الذي يَمْلِكُ إقامةَ يومِ الدينِ، فإن الذي ألْزَمْنا قائلَ هذا القولِ الذي قبلَه له لازمٌ، إذ كانت إقامةُ القيامةِ إنما هي إعادةُ الخلقِ الذين قد بادوا لهيئاتِهم التي كانوا عليها قبلَ الهلاكِ في الدارِ
(3)
التي أعَدَّ
(4)
لهم فيها ما أعَدَّ، وهم العالَمون الذين قد أخْبَر جل ذكرُه عنهم أنه ربُّهم في قولِه:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وأما تأويلُ ذلك في قراءةِ مَن قرَأ: (مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) فإنه أراد: يا
(5)
مالكَ يومِ الدينِ. فنصَبه بنيَّةِ النداءِ والدعاءِ، كما قال جل ثناؤُه:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. بتأويلِ: يا يوسُفُ أعْرِضْ عن هذا. وكما قال الشاعرُ من بني أسدٍ، وهو شعرٌ - فيما يقالُ - جاهليٌّ
(6)
:
إن كنتَ أزْنَنْتَني
(7)
بها كَذِبًا
…
جَزْءُ فلاقَيتَ مثلَها عَجِلًا
يريدُ: يا جَزْءُ. وكما قال الآخرُ
(8)
:
(1)
في ر، ت 1، ت 2:"عُني به عالموا"، وفي م:"عنى به عالم".
(2)
في ص، م، ت 2:"عالم".
(3)
في ص: "دار الدنيا"، وفي ت 1:"الدنيا".
(4)
بعده في م، ت 2:"اللَّه".
(5)
في ر: "به".
(6)
هو حضرمي بن عامر. ينظر أمالي القالي 1/ 67، والكامل 1/ 67 - ولم ينسبه - واللسان (ج ز أ)، (ن ب ل)، (ز ن ن).
(7)
أزننته بشيء: اتهمته به. اللسان (ز ن ن).
(8)
نسبه في مجاز القرآن 1/ 100، واللسان (ق ر ن) لرجل من بني أسد. وهو في الكتاب 2/ 85، 3/ 207، 326.
كذَبْتُم وبيتِ اللَّهِ لا تَنْكِحونها
…
بَنى شابَ قَرْناها
(1)
تَصُرُّ
(2)
وتَحْلُبُ
يريدُ: يا
(3)
بنى شابَ قَرْناها.
وإنما أوْرَطه في قراءةِ ذلك بنصبِ الكافِ مِن: (مَالِكَ) - على المعنى الذي وصَفْتُ - حيرتُه في توجيهِ قولِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وِجْهتَه، مع جرِّه
(4)
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وخفضِه. فظنَّ أنه لا يَصِحُّ معنى ذلك بعدَ جرِّه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فنصَب: (مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) ليكونَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} له خطابًا، كأنه أراد: يا مالكَ يومِ الدينِ إياك نَعْبُدُ وإياك نَسْتَعِينُ. ولو كان علِمَ تأويلَ أولِ السورةِ وأن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أمرٌ مِن اللَّهِ عبدَه
(5)
بقِيلِ ذلك - كما ذكَرْنا قبلُ مِن الخبرِ عن ابنِ عباسٍ أن جبريلَ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عن اللَّهِ: قلْ يا محمدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقلْ أيضَا يا محمدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
(6)
وكان عَقَل عن العربِ أن مِن شأنِها إذا حكَت أو أمَرَت بحكايةِ خبرٍ يَتْلُو القولَ - أن تُخاطِبَ ثم تُخْبِرَ [عن غائبٍ]
(7)
، وتُخْبِرَ عن غائبٍ ثم تَعودَ إلى الخطابِ؛ لما في الحكايةِ بالقولِ مِن معنى الغائبِ والمُخاطَبِ، كقولِهم للرجلِ: قد قلتُ لأخيك: لو قمتَ لقمتُ. و: قد قلتُ لأخيك: لو قام لَقمتُ.
(1)
القرنان: الضفيرتان. اللسان (ق ر ن).
(2)
صر الناقة: شد ضرعها. اللسان (ص ر ر).
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "جر".
(5)
في ص: "عنده".
(6)
تقدم في ص 135، 143، وينظر ما سيأتي في ص 159.
(7)
في ص: "غائبا".
لَسَهُل
(1)
عليه مخرجُ ما اسْتَصْعَب عليه وِجْهتُه مِن جرِّ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
ومِن نظيرِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مجرورًا، ثم عَوْدِه إلى الخطابِ بـ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} كما
(2)
ذكَرْنا قبلُ - البيتُ السائرُ مِن شعرِ أبي كبيرٍ الهُذَليِّ
(3)
:
يا لَهْفَ نَفْسِي كان جِدَّة
(4)
خالدٍ
…
وبَياضُ وجهِك للترابِ
(5)
الأعْفَرِ
فرجَع إلى الخطابِ بقولِه: وبياضُ وجهِك. بعدَ ما قد مضَى الخبرُ عن خالدٍ على معنى الخبرِ عن الغائبِ.
ومنه قولُ لَبيدِ بنِ ربيعةَ
(6)
:
باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ
(7)
مُجْهِشَةً
(8)
…
وقد حمَلْتُكِ سبعًا بعدَ سَبْعينَا
فرجَع إلى مخاطبةِ نفسِه، وقد تقَدَّم الخبرُ عنها على وجهِ الخبرِ عن الغائبِ.
ومنه قولُ اللَّهِ، وهو أصدقُ قيلٍ وأثْبَتُ حجةٍ:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]. فخاطَب ثم رجَع إلى الخبرِ عن الغائبِ، ولم يقلْ: وجَرَيْن بكم. والشواهدُ مِن الشعرِ وكلامِ العربِ في ذلك أكثرُ مِن أن تُحْصَى، وفيما ذكَرْنا كفايةٌ لمنَ وُفِّق لفهمِه.
(1)
قوله: لسهل. جواب قوله: ولو كان علم. في الصفحة الماضية.
(2)
في ص، م:"لما".
(3)
ديوان الهذليين 2/ 101.
(4)
في م: "جلدة". والجدة: نقيض البلى. اللسان (ج د د).
(5)
في ص: "للثواب"، وفي ت 2:"التراب".
(6)
شرح ديوانه ص 352، واللسان (ج هـ ش)، وقال ابن سلام في طبقات فحول الشعراء 1/ 61 وقد ذكر البيت: ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث ......
(7)
في شرح الديوان: "الموت".
(8)
في ت 2، ت 3:"مهجته". وأجهشت النفس: همت بالبكاء. اللسان (ج هـ ش).
فقراءةُ
(1)
: (مَالِكَ يومِ الدينِ). محظورةٌ غيرُ جائزةٍ؛ لإجماعِ
(2)
الحُجَّةِ مِن القرأةِ وعلماءِ الأمةِ على رفضِ القراءةِ بها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ذكره: {يَوْمِ الدِّينِ
(4)}.
قال أبو جعفرٍ: والدينُ في هذا الموضعِ بتأويلِ الحسابِ والمُجازاةِ بالأعمالِ، كما قال كعبُ بنُ جُعَيْلٍ
(3)
:
إذا ما رَمَوْنا رمَيْناهُم
…
ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يُقْرِضونا
وكما قال الآخرُ
(4)
:
[واعْلَمْ وأَيْقِن أن مُلْكَك زائلٌ]
(5)
…
واعْلَمْ بأنَّك ما تَدِينُ تُدانُ
يعني: ما تَجْزِي تُجازَى.
ومِن ذلك قولُ اللَّهِ جل ثناؤُه: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} يعني بالجزاءِ {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 9، 10]. يُحْصون ما تَعْمَلون مِن الأعمالِ. وقولُه تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86]. يعني غيرَ مَجْزِيِّين بأعمالِكم ولا مُحاسَبِين.
(1)
في ر: "قال وقراءة".
(2)
بعده في ص، م:"جميع".
(3)
وقعة صفين ص 57، والكامل 1/ 327، والمخصص 17/ 155 (المجلد الخامس).
(4)
نسبه في مجاز القرآن 1/ 23 لابن نفيل، وفي اللسان (ز ن أ)، (د ي ن) لخويلد بن نوفل الكلابي، ودون نسبة في الكامل 1/ 328، والمخصص 17/ 155 (المجلد الخامس).
(5)
ورد هذا الشطر في اللسان (ز ن أ) هكذا:
* يا حار إنك ميت ومحاسب *
وفيه أيضًا (د ي ن):
* يا حار أيقن أن ملكك زائل *
وللدينِ معانٍ في كلامِ العربِ غيرُ معنى الحسابِ والجزاءِ سنَذْكُرُها في أماكنِها إن شاء اللَّهُ.
وبما قلنا في تأويلِ قولِه: {يَوْمِ الدِّينِ} جاءت الآثارُ عن السلفِ مِن المفسِّرِين، مع تصحيحِ الشواهدِ تأويلَهم الذي تأوَّلوه في ذلك
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ محمدُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ:{يَوْمِ الدِّينِ} . قال: يومُ حسابِ الخَلائقِ، هو يومُ القيامةِ، يَدِينُهم بأعمالِهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إلا مَن عفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}
(2)
[الأعراف: 54].
حدَّثني موسى بنُ هارونَ الهَمْدانيُّ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ القَنَّادُ، قال: حدَّثنا أسْباطُ بنُ نصرٍ الهَمْدانيُّ، عن إسماعيلَ بنِ عبدِ الرحمنِ السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : هو يومُ الحسابِ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . قال: يومَ يَدِينُ اللَّهُ
(1)
بعده في ص، ت 1:"ما".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 29 (25) من طريق أبي كريب به، دون آية الأعراف.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 258 من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة. وصححه على شرط مسلم. وأخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال (34) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
العبادَ بأعمالِهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . قال: يومَ يُدانُ الناسُ بالحسابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ قولِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : لك اللهم نَخْشَعُ ونَذِلُّ ونَسْتَكِينُ، إقرارًا لك يا ربَّنا بالربوبيةِ لا لغيرِك.
كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال: قال جبريلُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : إياك نُوَحِّدُ ونَخافُ ونَرْجُو يا ربَّنا لا غيرَك
(2)
.
وذلك مِن قولِ ابنِ عباسٍ بمعنى ما قلْنا، وإنما اخْتَرْنا البيانَ عن تأويلِه بأنه بمعنى: نَخْشَعُ ونَذِلُّ ونَسْتَكِينُ. دونَ البيانِ عنه بأنه بمعنى: نرجو ونَخافُ. وإن كان الرجاءُ والخوفُ لا يكونان إلا مع ذلةٍ؛ لأن العبوديةَ عندَ جميعِ العربِ أصلُها الذلَّةُ، وأنها تُسَمِّي الطريقَ المُذَلَّلَ الذي قد وطِئَته الأقْدامُ وذلَّلَته السابلةُ مُعَبَّدًا، ومِن ذلك قولُ طَرَفَةَ بنِ العَبْدِ
(3)
:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 14 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد. وسقط من مطبوع تفسير عبد الرزاق. وأخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال (33) من طريق مطر، عن قتادة.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 29 (27) من طريق أبي كريب به.
(3)
ديوانه ص 35.
تُبارِي عِتاقًا
(1)
ناجياتٍ
(2)
وأتْبَعت
…
وَظِيفًا وظيفًا
(3)
فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
يعني بالموْرِ الطريقَ، وبالمعبدِ المذللَ الموطوءَ
(4)
. ومِن ذلك قيل للبعيرِ المذلَّلِ بالركوبِ في الحَوائجِ: معبَّدٌ. ومنه سُمِّي العبدُ عبدًا لذلتِه لمولاه. والشواهدُ على ذلك مِن أشعارِ العربِ وكلامِها أكثرُ مِن أن تُحْصَى، وفيما ذكَرْناه كفايةٌ لمن وُفِّق لفهمِه إن شاء اللَّهُ تعالى.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
(5)}.
قال أبو جعفرٍ: ومعنى قولِه: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : وإيَّاك يا
(5)
ربَّنا نَسْتَعِينُ على عبادتِنا إياك وطاعتِنا في
(6)
أمورِنا كلِّها، لا أحدًا سواك، إذ كان مَن يَكْفُرُ بك يَسْتَعِينُ في أمورِه معبودَه الذي يَعْبُدُه مِن الأوثانِ دونك، فنحن بك نَسْتَعِينُ في جميعِ أمورِنا، مُخْلِصِين لك العبادةَ.
كالذي حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: إياك نَسْتَعِينُ على طاعتِك وعلى أمورِنا كلِّها
(7)
.
(1)
العتاق: الإبل النجيبة الكريمة. اللسان (ع ت ق).
(2)
الناجية: الناقة السريعة تنجو بمن ركبها. الصحاح (ن ج و).
(3)
الوظيف: من رسغى البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. اللسان (و ظ ف).
(4)
في ص: "الموطن".
(5)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(6)
في م، ت 2، ت 3:"لك وفي"
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 29 (30) من طريق أبي كريب به.
فإن قال قائلٌ: وما معنى أمرِ اللَّهِ عبادَه بأن يَسْألوه المعونةَ على طاعتِه؟ أوَ جائزٌ، وقد أمَرهم بطاعتِه، ألا يُعِينَهم عليها؟ أم هل يقولُ قائلٌ لربِّه: إياك نَسْتَعِينُ على طاعتِك. إلا وهو على قولِه ذلك مُعانٌ؟ وذلك هو الطاعةُ، فما وجهُ مسألةِ العبدِ ربَّه ما قد أعْطاه
(1)
إياه؟
قيل: إن تأويلَ ذلك على غيرِ الوجهِ الذي ذهبتَ إليه، وإنما الداعي ربَّه مِن المؤمنين أن يُعِينَه على طاعتِه إياه، داعٍ أن يُعِينَه فيما بقِي مِن عمرِه على ما كلَّفه مِن طاعتِه، دون ما قد تَقَضَّى ومضَى مِن أعمالِه الصالحةِ فيما خلا مِن عمرِه. وجازت مسألةُ العبدِ ربَّه ذلك؛ لأن إعْطاءَ اللَّهِ عبدَه ذلك مع تمكينِه جَوارحَه لأداءِ ما كلَّفه مِن طاعتِه وافْتَرَض عليه مِن فرائضِه - فضلٌ منه جل ثناؤُه تفَضَّل به عليه، ولُطْفٌ منه لطَف له فيه، وليس في تركِه التفضُّلَ على بعضِ عَبيدِه بالتوفيقِ، مع اشتغالِ عبدِه بمعصيتِه، وانصرافِه عن محبتِه، ولا في بَسْطِه فضلَه على بعضِهم مع إجهادِ العبدِ نفسَه في محبتِه، ومسارعتِه إلى طاعتِه - فسادٌ
(2)
في تدبيرٍ، ولا جَوْرٌ في حكمٍ، فيجوزَ أن يَجْهَلَ جاهلٌ موضعَ حُكمِ اللَّهِ أمرَه
(3)
عبدَه بمسألتِه عونَه على طاعتِه.
وفي أمرِ اللَّهِ جل ثناؤُه عبادَه أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . بمعنى مسألتِهم إياه المعونةَ على العبادةِ - أدلُّ الدليلِ على فسادِ قولِ القائلين بالتفويضِ مِن أهلِ القَدَرِ الذين أحالوا أن يَأْمُرَ اللَّهُ أحدًا مِن
(1)
بعده في ص، ت 1:"اللَّه".
(2)
أي: ليس في تركه التفضل فسادٌ ....
(3)
في م: "وأمره".
عبادِه
(1)
بأمرٍ أو يُكَلِّفَه فرضَ عملٍ، إلا بعدَ إعطائِه المعونةَ [والقدرةَ]
(2)
على فعلِه وعلى تركِه.
ولو كان الذي قالوا مِن ذلك كما قالوا، لبَطلَت الرغبةُ إلى اللَّهِ في المعونةِ على طاعتِه، إذ كان على قولِهم، مع وجودِ الأمرِ والنهيِ والتكليفِ - حقًّا واجبًا على اللَّهِ للعبدِ إِعطاؤُه المعونةَ عليه، سأله ذلك عبدُه أو ترَك مسألتَه
(3)
ذلك، بل تَرْكُ إعطائِه ذلك عندَهم منه جَوْرٌ، ولو كان الأمرُ في ذلك على ما قالوا، لَكان القائلُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إنما يَسْألُ ربَّه ألا يجورَ.
وفي إجماعِ أهلِ الإسلامِ جميعًا على تَصْويبِ قولِ القائلِ: اللهم إنا نَسْتَعِينُك. وتخطئتِهم قولَ القائلِ: اللهم لا تَجُرْ علينا - دليلٌ واضحٌ على خطإِ ما قال الذين وصفتُ قولَهم، إذ كان تأويلُ قولِ القائلِ عندَهم: اللهم إنا نَسْتَعِينُك: اللهم لا تَتْرُكْ مَعونتَنا التي تركُكها
(4)
جَوْرٌ منك.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فقُدِّم الخبرُ عن العبادةِ، وأُخِّرَت مسألةُ المعونةِ عليها بعدَها
(5)
، وإنما تكونُ العبادةُ بالمعونةِ، فمسألةُ المعونةِ كانت أحقَّ بالتقديمِ
(6)
قبلَ المُعانِ عليه مِن العملِ
(7)
، والعبادةُ بها؟.
قيل: لمَّا كان معلومًا أن العبادةَ لا سبيلَ للعبدِ إليها إلا بمعونةٍ مِن اللَّهِ جل ثناؤُه،
(1)
في م، ت 2، ت 3:"عبيده".
(2)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(3)
في م: "مسألة".
(4)
في م: "تركها".
(5)
سقط من: ص.
(6)
بعده في ص: "بم".
(7)
في ر: "العقل".
وكان مُحالًا أن يكونَ العبدُ عابدًا إلا وهو على العبادةِ مُعانٌ، وأن يكونَ مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعلٌ - كان سواءً تقديمُ ما قُدِّم منهما على صاحبِه، كما سواءٌ قولُك لرجلٍ
(1)
قضَى حاجتَك فأحْسَن إليك في قضائِها: قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليَّ. فقدَّمْتَ ذكرَ قضائِه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليَّ فقضيتَ حاجتي. فقدَّمْتَ ذكرَ الإحسانِ على ذكرِ قضاءِ الحاجةِ؛ لأنه لا يكونُ قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسنٌ، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتِك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قولُ القائلِ: اللهم إنّا إياك نَعْبُدُ فأعِنَّا على عبادتِك. وقولُه: اللهم أعِنَّا على عبادتِك فإنّا إياك نعبُدُ.
قال أبو جعفرٍ: وقد ظنَّ بعضُ أهلِ الغَفْلةِ أن ذلك مِن المُقَدَّمِ الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرُؤُ القيسِ
(2)
:
فلو أنَّ ما أسْعَى لأدْنَى مَعيشةٍ
…
كفاني - ولم أطْلُبْ - قليلٌ مِن المالِ
يُريدُ بذلك: كفاني قليلٌ مِن المالِ، ولم أطْلُبْ كثيرًا. وذلك مِن معاني التقديمِ والتأخيرِ، ومِن مُشابهةِ بيتِ امرِئِ القيسِ بمعْزِلٍ، مِن أجلِ أنه قد يَكْفِيه القليلُ مِن المالِ ويَطْلُبُ الكثيرَ، فليس وجودُ ما يَكْفِيه منه بمُوجِبٍ له تركَ طلبِ الكثيرِ، فيكونَ نظيرَ العبادةِ التي بوجودِها وجودُ المعونةِ عليها، وبوجودِ المعونةِ عليها وجودُها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالًّا على الآخرِ، فيعتدلَ في صحةِ الكلامِ تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبِه أن يكونَ موضوعًا في درجتِه ومرتَّبًا في مرتَبتِه.
فإن قال: فما وجهُ تَكرارِه: {إِيَّاكَ} . مع قولِه: {نَسْتَعِينُ} وقد تقدَّم ذلك قبلَ: {نَعْبُدُ} ؟ وهلَّا قيل: إياك نعبُدُ ونستعينُ. إذ كان المُخْبَرُ عنه أنه المعبودُ هو المْخَبرُ عنه أنه المُسْتعانُ؟
(1)
في م: "للرجل إذا".
(2)
ديوانه ص 39.
قيل له
(1)
: إن الكافَ التي مع "إِيَّا"، هي الكافُ التي كانت تَتَّصِلُ بالفعلِ - أعْنِي بقوله:{نَعْبُدُ} - لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعلِ
(2)
، وهي كنايةُ اسمِ المخاطَبِ المنصوبِ بالفعلِ، فكُثِّرت بـ "إيَّا" مُتَقَدِّمةً
(3)
، إذ كانت الأسماءُ إذا انفَرَدَتْ بأنفسِها لا تكونُ في كلامِ العربِ على حرفٍ واحدٍ، فلمَّا كانت الكافُ مِن:{إِيَّاكَ} هي كنايةَ اسمِ المخاطَبِ التي كانت تكون كافًا وحدَها مُتَّصِلةً بالفعلِ، إذا كانت بعدَ الفعلِ، ثم كان حظُّها أن تُعادَ مع كلِّ فعلٍ اتَّصَلَتْ به، فيقالَ: اللهم إنا نَعْبُدُك، ونَسْتَعِينُك، ونَحْمَدُك، ونَشْكُرُك. وكان ذلك أفصحَ في كلامِ العربِ مِن أن يُقالَ: اللهم إنا نَعْبُدُك ونَسْتَعِينُ ونَحْمَدُ. كان كذلك إذا قُدِّمَت كنايةُ اسمِ المُخاطَبِ قبلَ الفعلِ موصولةً بـ "إيا"، كان الأفصحُ إعادتَها مع كلِّ فعلٍ، كما كان الفصيحُ مِن الكلامِ إعادتَها مع كلِّ فعلٍ، إذا
(4)
كانت بعدَ الفعلِ مُتَّصِلةً به، وإن كان تركُ إعادتِها جائزًا.
وقد ظنَّ بعضُ مَن لم يُنْعِمِ
(5)
النظرَ أن إعادةَ: {إِيَّاكَ} مع {نَسْتَعِينُ} بعدَ تقدُّمِها في قولِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بمعنى قولِ عديِّ بنِ زيدٍ العِبَاديِّ
(6)
:
وجاعِل
(7)
الشمسِ مِصْرًا
(8)
لا خَفاءَ به
…
بينَ النهارِ وبينَ الليلِ قد فصَلا
(1)
زيادة من: م، ت 2، ت 3.
(2)
في ص: "الفصل".
(3)
في ص: "متعدية".
(4)
في م، ت 1:"إذ".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يمعن".
(6)
أساس البلاغة ص 903. وفي المخصص 13/ 164 (المجلد الرابع)، واللسان والتاج (م ص ر) منسوبا إلى أمية بن أبي الصلت. واستدركه ابن برى ونسبه إلى عدي بن زيد.
(7)
في المخصص، واللسان، والتاج:"جعل".
(8)
المصر: الحاجز بين الشيئين.
وكقولِ أعْشَى هَمْدانَ
(1)
:
بينَ الأشَجِّ وبين قيسٍ باذخٌ
(2)
…
بَخْ بَخْ
(3)
لوالدِه
(4)
وللمولودِ
وذلك مِن قائلِه جهلٌ، مِن أجلِ أن حظَّ "إياك" أن تكونَ مُكرَّرةً مع كلِّ فعلٍ؛ لما وصَفْنا آنفًا مِن العلةِ، وليس ذلك حُكمَ "بين"؛ لأنها لا تكونُ إذا اقتَضَت اثنين إلا تكريرًا إذا أُعِيدَت، إذ كانت لا تَنْفَرِدُ بالواحدِ، وأنها لو أُفْرِدَت بأحدِ الاسمين في حالِ اقتضائِها اثنين كان الكلامُ كالمستحيلِ، وذلك أن قائلًا لو قال
(5)
: الشمسُ قد فصَلَت بينَ النهارِ. لكان مِن الكلامِ خَلْفًا
(6)
، لنُقصانِ الكلامِ عما به الحاجةُ إليه مِن تمامِه الذي يَقْتَضِيه "بين". ولو قال القائلُ: اللهمّ إيّاك نَعْبُدُ. لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أن حاجةَ كلِّ كلمةٍ - كانت نظيرةَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} - إلى "إياك" كحاجةِ: {نَعْبُدُ} إليها، وأن الصوابَ أن تكونَ
(7)
معها "إياك"، إذ كانت كلُّ كلمةٍ منها جملةَ خبرِ مبتدإٍ، وبيِّنًا حُكمُ مُخالفةِ ذلك حُكمَ "بين" فيما وَفَّق بينَهما الذي وصَفْنا قولَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {اهْدِنَا} .
قال أبو جعفرٍ: ومعنى قولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} في هذا الموضعِ عندَنا: وَفِّقْنا للثباتِ عليه. كما رُوِي
(8)
ذلك عن ابنِ عباسٍ.
(1)
ديوانه ص 113.
(2)
في ص: "نازح". وشرف باذخ: عال. اللسان (ب ذ خ).
(3)
سقط من: ص.
(4)
في ص: "لوالدة".
(5)
بعده في ر: "إن".
(6)
الخَلف: الرديء من القول. التاج (خ ل ف).
(7)
في م: "تكرر".
(8)
بعده في ص، ت 1، ت 3:"في".
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال: قال جبريلُ لمحمدٍ: قلْ يا محمدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . يقولُ
(1)
: ألْهِمْنا الطريقَ الهاديَ
(2)
.
وإلهامُه إياه ذلك هو توفيقُه له، كالذي قلْنا في تأويلِه. ومعناه نظيرُ معنى قولِه:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . في أنه مسألةُ العبدِ ربَّه التوفيقَ للثباتِ على العملِ بطاعتهِ، وإصابةِ الحقِّ والصوابِ فيما أمَره به ونهاه عنه، فيما يَسْتَقْبِلُ مِن عُمُرِه، دون ما قد مضَى مِن أعمالِه، وتقَضَّى فيما سلَف مِن عمُرِه، كما قولُه:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . مسألةٌ منه ربَّه المَعُونةَ على أداءِ ما قد كلَّفه مِن طاعتهِ فيما بقِي مِن عمُرِه. فكان معنى الكلامِ: اللهمَّ إياك نَعْبُدُ وحدَك لا شريكَ لك، مُخْلِصِين لك العبادةَ دونَ ما سواك مِن الآلهةِ والأوثانِ، فأعِنَّا على عبادتِك، ووفِّقْنا لما وفَّقْت له مَن أنْعَمْتَ عليه مِن أنبيائِك وأهلِ طاعتِك، مِن السبُلِ
(3)
والمِنْهاجِ.
فإن قال قائلٌ: وأنَّى وجَدْتَ الهدايةَ في كلامِ العربِ بمعنى التوفيقِ؟
[قيل له]
(4)
: ذلك في كلامِها أكثرُ وأظهرُ مِن أن يُحْصَى عددُ ما جاء عنهم في ذلك مِن الشواهدِ، فمِن ذلك قولُ الشاعرِ
(5)
:
لا تَحْرِمَنِّي هداك اللَّهُ مَسْألتي
…
ولا أكُونَنْ كمَن أوْدَى به السَّفَرُ
(1)
سقط من: ر.
(2)
سيأتي بتمامه في ص 174.
(3)
في م: "السبيل"، وفي ت 2، ت 3:"السبر".
(4)
في ص، ر:"قبل".
(5)
لودفة الأسدي أبيات على نفس الوزن يقولها لمعن بن زائدة. ينظر أمالي المرتضى 1/ 222.
بمعنى
(1)
: وفَّقك اللَّهُ لقضاءِ حاجتي.
ومنه قولُ الآخرِ
(2)
:
[ولا تُعْجِلَنِّي]
(3)
هداك المَليكُ
…
فإن لكلِّ مَقامٍ مَقالَا
فمعلومٌ أنه إنما أراد: وفَّقك اللَّهُ لإصابةِ الحقِّ في أمْرِي.
ومنه قولُ اللَّهِ عز وجل: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258، آل عمران: 86، التوبة: 19، 109، الصف: 7، الجمعة: 5]. في غيرِ آيةٍ مِن تنزيلِه. وقد عُلِم بذلك أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبَيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضِه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيانِ جميعَ المكلَّفين مِن خلقِه، ولكنه عنَى جل ذكرُه أنه لا يُوَفِّقُهم، ولا يَشْرَحُ للحقِّ والإيمانِ صدورَهم.
وقد زعَم بعضُهم أن تأويلَ قولِه: {اهْدِنَا} : زِدْنا هدايةً.
وليس يَخْلُو هذا القولُ مِن أحدِ أمْرَيْن؛ إما أن يكونَ قد ظنَّ قائلُه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِر [بمسألةِ ربِّه]
(4)
الزيادةَ في البيانِ، أو
(5)
الزيادةَ في المعونةِ والتوفيقِ. فإن كان ظنَّ أنه أُمِر بمسألتِه
(6)
الزيادةَ في البيانِ، فذلك ما لا وجهَ له؛ لأن اللَّهَ جل ثناؤُه لا يُكَلِّفُ عبدًا فرضًا مِن فرائضِه إلا بعدَ تبيينهِ له وإقامةِ الحجةِ عليه به، ولو كان معنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ، لَكان قد أُمِر أن يَدْعُوَ ربَّه أن يُبَيِّنَ له ما فرَض عليه، وذلك مِن الدعاءِ خَلْفٌ؛ لأنه لا يَفْرِضُ فرضًا إلا مبيَّنًا لمن فرَضه عليه، أو يكونَ أُمِر أن يَدْعُوَ ربَّه
(1)
في م: "يعني به".
(2)
ديوان الحطيئة ص 222، والأغاني 2/ 187، واللسان (ق و ل)، (ح ن ن)، وفي الفاخر ص 314 أن أول من قال ذلك طرفة بن العبد في شعر يعتذر فيه لعمرو بن هند. ولم نجد البيت في ديوانه.
(3)
في الديوان، والأغاني، واللسان:"تحنن على"، وفي الفاخر:"تصدق على".
(4)
في ص: "بمسألته".
(5)
في ص، ر، ت 1:"و".
(6)
في م: "بمسألة".
أن يَفْرِضَ عليه الفرائضَ التي لم يَفْرِضْها. وفي فسادِ وجهِ مسألةِ العبدِ ربَّه ذلك ما
(1)
يُوَضِّحُ عن أن معنى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . غيرُ معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.
أو يكونَ ظنَّ أنه أُمِر بمسألةِ ربِّه الزيادةَ في المعونةِ والتوفيقِ، فإن كان ذلك كذلك، فلن تَخْلُوَ مسألتُه تلك الزيادةَ مِن أن تكونَ مسألةً للزيادةِ في المَعونةِ على ما قد مضى مِن عملِه، أو على ما يَحْدُثُ، وفي ارتفاعِ حاجةِ العبدِ إلى المعونةِ على ما قد تقَضَّى مِن عملِه، ما يُعْلِمُ أن معنى مسألةِ تلك الزيادةِ إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يَحْدُثُ مِن عملِه. وإذ كان ذلك كذلك، صار الأمرُ إلى ما وصَفْنا وقلْنا في ذلك مِن أنه مسألةُ العبدِ ربَّه التوفيقَ لأداءِ ما كُلِّف مِن [فرائضِ ربِّه]
(2)
فيما يَسْتَقْبِلُ مِن عمُرِه.
وفي صحةِ ذلك فسادُ قولِ
(3)
أهلِ القدَرِ الزاعمين أن كلَّ مأمورٍ بأمرٍ أو مكلَّفٍ فرضًا، فقد أعْطِي مِن المعونةِ عليه ما قد ارتَفَعَت معه في ذلك الفرضِ حاجتُه إلى ربِّه؛ لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك لَبَطل معنى قولِ اللَّهِ جل ثناؤه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . وفي صحةِ معنى ذلك على ما بيَّنا، فسادُ قولِهم.
وقد زعم بعضُهم أن معنى قولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : أسْلِكْنا طريقَ الجنةِ في المَعادِ. أيْ: قدِّمْنا له وامْضِ بنا إليه. كما قال جل ثناؤُه: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]. أي: أدْخِلوهم النارَ. كما تُهْدَى المرأةُ إلى زوجِها،
(1)
في ص: "مما".
(2)
في م، ت 2، ت 3:"فرائضه".
(3)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
يُعْنَى بذلك أنها تُدْخَلُ إليه، وكما تُهْدَى الهديَّةُ إلى الرجلِ، وكما تَهْدِي الساقَ القدمُ، نظيرَ قولِ طَرَفةَ بنِ العَبْدِ
(1)
:
لعِبَتْ بَعْدِي السُّيولُ به
…
وجرَى في رَوْنَقٍ رِهَمُهْ
(2)
للفتى عَقْلٌ يَعِيشُ به
…
حيث تَهْدِي ساقَه قَدَمُهْ
أي: تَرِدُ به المواردَ.
وفي قولِ اللَّهِ جل ثناؤُه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ما يُنْبِئُ عن خطأ هذا التأويلِ، مع شهادةِ الحُجَّةِ مِن المفسِّرِين على تخطئتِه، وذلك أن جميعَ المفسِّرين مِن الصحابةِ والتابعين مُجْمِعون على أن معنى الصراطِ في هذا الموضعِ غيرُ المعنى الذي تأَوَّله قائلُ هذا القولِ، وأن قولَه:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادتِه، فكذلك قولُه:{اهْدِنَا} . إنما هو مسألتُه
(3)
الثباتَ على الهدى فيما بقِي مِن عمُرِه.
والعربُ تقولُ: هدَيْتُ فلانًا الطريقَ، وهدَيْتُه للطريقِ، وهدَيْتُه إلى الطريقِ: إذا أرْشَدْتَه إليه
(4)
، وسدَّدْتَه له. وبكلِّ ذلك قد
(5)
جاء القرآنُ، قال اللَّهُ جل ثناؤُه:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]. وقال في موضع آخرَ: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121]. وقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . وكلُّ ذلك فاشٍ في منطقِها، موجودٌ في كلامِها، من ذلك قولُ
(1)
ديوانه ص 75، 80.
(2)
في ص، ت 1:"دهمه"، وفي ر:"دَهَمُه". والرهم جمع الرهمة: المطر الضعيف الدائم الصغير القطر. اللسان (ر هـ م).
(3)
في ص، م:"مسألة".
(4)
في ر: "إلى الطريق".
(5)
زيادة من: ر، ت 2، ت 3.
الشاعرِ
(1)
:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذنبًا لستُ مُحْصِيَه
…
ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
يُرِيدُ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ لذنْبٍ. كما قال جل ثناؤُه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55].
ومنه قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(2)
:
فيَصِيدُنا العَيْرَ
(3)
المُدِلَّ بحُضْرِه
(4)
…
قبلَ الوَنَى والأشْعَبَ
(5)
النَّبَّاحا
يُرِيدُ: فيصِيدُ لنا. وذلك كثيرٌ في أشعارِهم وكلامِهم، وفيما ذكَرْنا منه كفايةٌ. واللَّهُ الموفقُ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(6)}.
قال أبو جعفرٍ: أجْمَعَت الحُجَّةُ
(6)
مِن أهلِ التأويلِ جميعًا على أن الصراطَ المستقيمَ هو الطريقُ الواضحُ الذي لا اعْوِجاجَ فيه، وكذلك ذلك
(7)
في لغةِ جميعِ العربِ، فمِن ذلك قولُ جريرِ بنِ عَطِيةَ الخَطَفى
(8)
:
أميرُ المؤمنين على صراطٍ
…
إذا اعوَجَّ المواردُ مستقيمِ
(1)
الكتاب 1/ 37، والخزانة 3/ 111. وقال: وهذا البيت أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها.
(2)
للنابغة قصيدة على نفس الوزن ليس منها هذا البيت. ينظر ديوان النابغة - تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - ص 213 - 217.
(3)
العير: حمار الوحش. اللسان (ع ي ر).
(4)
الحضر: ارتفاع الدابة في العدو. اللسان (ح ض ر).
(5)
الأشعب: الظبي إذا تفرق قرناه فتباينا بينونة شديدة. اللسان (ش ع ب).
(6)
في ص، م، ت 1:"الأمة".
(7)
سقط من: ر.
(8)
ديوانه 1/ 218.
يريدُ: على طريقِ الحقِّ.
ومنه قولُ الهُذَليِّ أبي ذُؤَيْبٍ
(1)
:
صبَحْنا أرضَهم بالخيلِ حتى
…
ترَكْناها أدَقَّ مِن الصراطِ
ومنه قولُ الراجزِ
(2)
:
فصدَّ عن نَهْجِ الصِّراطِ القاصدِ
(3)
والشواهدُ على ذلك أكثرُ مِن أن تُحْصَى، وفيما ذكَرْنا غِنًى عما ترَكْنا.
ثم تَسْتَعِيرُ العربُ الصراطَ فتَسْتَعْمِلُه في كلِّ قولٍ وعملٍ وُصِف باستقامةٍ أو اعْوِجاجٍ، فتَصِفُ المستقيمَ باستقامتِه، والمُعْوَجَّ باعْوِجاجِه. والذي هو أولى بتأويلِ هذه الآيةِ عندي، أعْنِي
(4)
: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أن يَكونَ مَعْنِيًّا به: وَفِّقْنا للثباتِ على ما ارْتَضَيْتَه ووَفَّقْتَ له مَن أنعمْتَ عليه مِن عبادِك، مِن قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصراطُ المستقيمُ؛ لأن مَن وُفِّق لما وُفِّق له مَن أنْعَم اللَّهُ عليه مِن النبيِّين والصديقين والشهداءِ [والصالحين]
(5)
، فقد وُفِّق للإسلامِ، وتصديقِ الرسلِ، والتمسكِ بالكتابِ، والعملِ بما أمَره
(6)
اللَّهُ به، والانْزجارِ عما زجَره عنه، واتباعِ منهاجِ
(7)
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومِنهاجِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، رضِي {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)} [غافر: 55] اللَّهُ عنهم أجمعين، وكلِّ عبدٍ للَّهِ صالحٍ، وكلُّ ذلك مِن الصراطِ المستقيمِ.
(1)
ليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 1/ 147 إلى عامر بن الطفيل.
(2)
في ص: "الآخر". والرجز في مجاز القرآن 1/ 24، وتفسير القرطبي 1/ 147.
(3)
في تفسير القرطبي: "الواضح".
(4)
سقط من: ر.
(5)
زيادة من: ر.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 3:"أمر".
(7)
في م، ت 2، ت 3:"منهج".
وقد اختَلف تَراجِمةُ القرآنِ في المعنيِّ بالصراطِ المستقيمِ، يَشْمَلُ معانيَ جميعِهم في ذلك ما أخْبَرْنا
(1)
مِن التأويلِ فيه.
ومما قالته في ذلك ما رُوِي عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وذكَر القرآنَ، فقال:"هو الصرَاطُ المُسْتَقِيمُ".
حدَّثنا بذلك موسى بنُ عبدِ الرحمن المسْروقيُّ، قال: حدَّثنا حسينٌ الجُعْفيُّ، عن حمزةَ الزيَّاتِ، عن أبي المُخْتارِ الطائيِّ، عن ابنِ أخي الحارثِ، عن الحارثِ، عن عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وحُدِّثْتُ عن إسماعيلَ بنِ أبي كَريمةَ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ سَلَمةَ، عن أبي سِنانٍ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن أبي البَخْتريِّ، عن الحارثِ، عن عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(3)
.
(1)
في م، ت 1:"اخترنا"، وفي ت 2:"أجزنا". وفي حاشية المطبوعة إشارة إلى أنها كانت: "أخبرنا".
(2)
إسناده ضعيف جدًّا؛ أبو المختار الطائي وابن أخي الحارث مجهولان، والحارث ضعيف.
وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 482، والدارمي 2/ 435، والترمذي (2906)، والبيهقي في الشعب (1935، 1936)، والبغوي في تفسيره 1/ 39، وفي شرح السنة (1181) من طريق حسين به مطولا.
وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده - كما في النكت الظراف 7/ 357 - وابن نصر في قيام الليل ص 71، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 30 (32) - مختصرا - والبزار (836) - مطولا - والدارقطني في العلل 3/ 141، 142 من طرق عن حمزة الزيات به.
واختلف على حمزة الزيات فيه، والصحيح الوجه الذي أورده المصنف. ينظر علل الدارقطني 3/ 138 - 140. وقال الذهبي في ترجمة أبي المختار من الميزان 4/ 571: حديثه في فضائل القرآن العزيز منكر.
وقال ابن كثير في فضائل القرآن ص 15: والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث، فلا، واللَّه أعلم. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح. وقال في تفسيره 1/ 42: وقد رُوي هذا موقوفًا عن علي، وهو أشبه.
ورُوي من وجه آخر مختصرًا عند أحمد 2/ 111 (704)، وليس فيه تفسير الصراط المستقيم.
(3)
أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (190) من طريق إسماعيل به. وأخرجه البزار (835) - مختصرًا - =
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيريُّ، قال: حدَّثنا حمزةُ الزياتُ، عن أبي المختارِ الطائيِّ، عن ابنِ أخي الحارثِ الأعورِ، عن الحارثِ، عن عليٍّ، قال: الصِّراطُ المستقيمُ كتابُ اللَّهِ تعالى.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، وحدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: الصراطُ المستقيمُ كتابُ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثنا محمودُ بنُ خِدَاشٍ الطالَقانيُّ، قال: حدَّثنا حُميدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الرُّؤاسيُّ، قال: حدَّثنا عليٌّ والحسنُ ابنا صالحٍ، جميعًا عن عبدِ اللَّهِ بن محمدِ بنِ عَقِيلٍ، عن جابرٍ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: الإسلامُ. قال: هو أوسعُ مما بينَ السماءِ و
(2)
الأرضِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا
= والدارمي 2/ 435، 436 من طريق محمد بن سلمة به.
وأخرجه الخطيب (191) من طريق محمد بن حميد، عن الحكم بن بشير بن سلمان، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة به.
وأبو سنان صدوق له أوهام، وقد خولف فيه، فرواه غير واحد عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن ابن أبي الحارث، عن الحارث، عن علي. ينظر علل الدارقطني 3/ 137، 138.
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 258، والبيهقي في الشعب (1938) من طريق سفيان به. وصححه الحاكم.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 15 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف.
وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 42 عن الثوري به، وقال: وقيل: هو الإسلام. وهذا أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان 2/ 103 من طريق مسعر، عن منصور به.
(2)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"إلى".
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 258، 259 من طريق الحسن بن صالح به. وقال: صحيح الإسناد.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 15 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر والمحاملي.
بشرُ بنُ عُمارةَ
(1)
، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، قال: قال جبريلُ لمحمدٍ: قلْ يا محمدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . يقولُ: ألْهِمْنا الطريقَ الهاديَ، وهو دينُ اللَّهِ الذي لا [عِوَجَ له]
(2)
.
حدَّثنا [سهلُ بنُ موسى]
(3)
الرازيُّ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ عوفٍ، عن الفُراتِ بنِ السائبِ، عن ميمونِ بنِ مِهْرانَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: ذلك الإسلامُ
(4)
.
حدَّثنا محمودُ بنُ خِداشٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ ربيعةَ الكِلابيُّ، عن إسماعيلَ الأزرقِ، عن أبي عُمرَ البزَّارِ، عن ابنِ الحَنَفيةِ في قولِه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: هو دينُ اللَّهِ الذي لا يَقْبَلُ مِن العبادِ غيرَه
(5)
.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ الهَمْدانيُّ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ طلحةَ القَنَّادُ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
(6)
: هو الإسلامُ
(7)
.
(1)
في م، ت 3:"عمار".
(2)
في ر: "اعوجاج فيه".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 30 (31، 36) من طريق أبي كريب به.
(3)
في م: "موسى بن سهل". وينظر تاريخ المصنف 1/ 32، 329، 337.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 15 إلى المصنف. والفرات بن السائب منكر الحديث.
وسيأتي في تفسير الآية 126 من سورة الأنعام، بإسناد محمد بن سعد عن آبائه.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 43 عن ابن الحنفية. وإسماعيل الأزرق ضعيف.
(6)
بعده في ص، م، ت 1:"قال".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 15 إلى المصنف.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ في قولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: الطريق
(1)
.
حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ كثيرٍ أبو صديفٍ الآمُلِيُّ، قال: حدثنا هاشمُ بنُ القاسمِ، قال: حدثنا [حمزةُ بنُ أبي المغيرةِ]
(2)
، عن عاصمٍ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: هو رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وصاحباه مِن بعدِه؛ أبو بكرٍ وعمرُ. قال: فذكَرْتُ ذلك للحسنِ، فقال: صدَق أبو العاليةِ ونصَح
(3)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: حدَّثنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسْلَمَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: الإسلامُ
(4)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، أن عبدَ الرحمنِ بنَ جُبَيْرٍ حدَّثه، عن أبيه، عن نَوَّاسِ بنِ سِمْعانَ الأنصاريِّ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"ضرَب اللَّهُ مَثَلًا صِراطًا مُسْتَقِيمًا، والصِّرَاطُ الإسلَامُ"
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 14 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
كذا في النسخ، والصواب: حمزة بن المغيرة. ينظر تهذيب الكمال 7/ 340.
(3)
أخرجه المروزي في السنة (27)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 30 (34)، وابن حبان في الثقات 6/ 229 - تعليقًا - وابن عدي 3/ 1023، وابن عساكر في تاريخه 18/ 170 من طريق هاشم بن القاسم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 15 إلى عبد بن حميد.
وأخرجه الحاكم 2/ 259 - وصححه - من طريق هاشم، عن حمزة، عن عاصم، عن أبي العالية، عن ابن عباس. وذكر قول الحسن كذلك.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 43 عن عبد الرحمن.
(5)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (19)، والطحاوي في المشكل (2043، 2141)، وابن أبي حاتم =
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ العَسْقلانيُّ، قال: حدَّثنا الليثُ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، عن أبيه، عن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعانَ الأنصاريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وإنما وصَفه اللَّهُ جل ثناؤُه بالاستقامةِ؛ لأنه صوابٌ لا خطأَ فيه. وقد زعَم بعضُ أهلِ الغَباءِ أنه سمَّاه اللَّهُ مستقيمًا، لاستقامتِه بأهلِه إلى الجنةِ، وذلك تأويلٌ لتأويلِ جميعِ أهلِ التفسيرِ خلافٌ، وكفى بإجماعِ جميعِهم على خلافِه جميعَهم
(2)
دليلًا على خطِئه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} .
وقولُه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . إبانةٌ عن الصراطِ المستقيمِ، أيُّ الصراطِ هو؟ إذ كان كلُّ طريقٍ مِن طرُقِ الحقِّ [صراطًا مستقيمًا]
(3)
، فقيل لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ: اهْدِنا يا ربَّنا الصراطَ المستقيمَ، صراطَ الذين أنْعَمْتَ
= في تفسيره 1/ 30 (33)، والآجري في الشريعة (14)، والرامهرمزي في الأمثال ص 10 من طرق عن أبي صالح به. وأخرجه الحاكم 1/ 73 من طريق معاوية بن صالح به. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة.
وأخرجه ابن أبي عاصم (18)، وأحمد 29/ 184 (17636)، والترمذي (2859)، والنسائي في الكبرى (11233)، والطحاوي (2143)، والطبراني في مسند الشاميين (1147) من طريق خالد بن معدان، عن جبير بن نفير به، مطولا ومختصرا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 15 إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 43: إسناد حسن صحيح.
(1)
في م: "بمثله".
والحديث أخرجه الطحاوي في المشكل (2142)، والآجري في الشريعة (15)، والبيهقي في الشعب (7216) من طريق آدم به. وأخرجه أحمد 29/ 181 (17634)، والبيهقي (7216) من طريق الليث به.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ر، ت 2، ت 3:"فصراط مستقيم".
عليهم بطاعتِك عبادتِك، مِن ملائكتِك وأنبيائِك والصِّدِّيقِين والشهداءِ والصالحين. وذلك نظيرُ ما قال ربُّنا جل ثناؤُه في تنزيلِه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 66 - 69].
قال أبو جعفرٍ: فالذي أُمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمتُه أن يَسْألوا
(1)
ربَّهم مِن الهدايةِ للطريقِ المستقيمِ، هي الهدايةُ للطريقِ الذي وصَف اللَّهُ جل ثناؤُه صفتَه، وذلك الطريقُ هو طريقُ الذين
(2)
وصَفهم اللَّهُ بما وصَفَهم به في تنْزيلِه، ووعَد مَن سَلَكه فاسْتَقام فيه طائعًا للَّهِ ولرسولِه صلى الله عليه وسلم، أن يُورِدَه
(3)
مَواردَهم، واللَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ.
وبنحوِ ما قلْنا في ذلك رُوِي الخبرُ عن ابنِ عباسٍ وغيرِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا [بشرُ بنُ عُمارةَ]
(4)
، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . يقولُ: طريقَ مَن أنْعَمْتَ عليهم
(5)
مِن الملائكةِ والنبيين الصِّدِّيقِين والشهداءِ والصالحين، الذين أطاعوك وعبَدوك
(6)
.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"يسألوه".
(2)
في م، ت 1:"الذي".
(3)
في ص، ت 1:"يوردهم".
(4)
في ص: "قيس بن عمارة"، وفي م:"بشر بن عمار".
(5)
بعده في م: "بطاعتك وعبادتك".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 31 (37، 38) من طريق محمد بن العلاء به.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: أخْبَرَنا عُبيدُ
(1)
اللَّهِ بنُ موسى، عن أبي جعفرٍ، عن ربيعٍ:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . قال: النبيون
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . قال: المؤمنين
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: قال وَكيعٌ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} : المسلمين
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . قال: النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَن معه
(5)
.
قال أبو جعفرٍ: وفي هذه الآيةِ دليلٌ واضحٌ على أن طاعةَ اللَّهِ جل ثناؤُه لا يَنالُها المُطيعون إلا بإنعامِ اللَّهِ بها عليهم وتوفيقِه إياهم لها، أوَ لا يَسْمَعونه يقولُ:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . فأضاف
(6)
ما كان منهم مِن اهْتِداءٍ وطاعةٍ وعبادةٍ إلى أنه إنعامٌ منه عليهم.
فإن قال قائلٌ: وأين تَمامُ هذا الخبرِ؟ فقد علِمْتَ أن قولَ القائلِ لآخرَ: أنْعَمْتُ عليك. مقتضٍ الخبرَ عما أنْعَم به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قولِه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ؟ وما تلك النعمةُ التي أنْعَمَها عليهم؟
قيل له: قد قدَّمْنا البيانَ فيما مضَى مِن كتابِنا هذا عن اجْتِزاءِ العربِ في
(1)
في ص، ت 1:"عبد". وقد تقدم على الصواب في ص 146. وينظر تهذيب الكمال 19/ 164.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 16 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير 1/ 44 عن ابن جريج عن ابن عباس.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 44 عن وكيع.
(5)
ذكره ابن كثير 1/ 44.
(6)
بعده في م: "كل".
مَنْطِقِها ببعضٍ مِن بعضٍ، إذا كان البعضُ الظاهرُ دالًّا على البعضِ الباطنِ وكافيًا منه، فقولُه
(1)
: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . من ذلك؛ لأن أمْرَ اللَّهِ جل ثناؤُه عبادَه مسألتَه المعونةَ، وطلبَهم منه الهدايةَ للصراطِ المستقيمِ، لمَّا كان متقدمًا قولَه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . الذي هو إبانةٌ عن الصراطِ المستقيمِ، وإبدالٌ منه - كان معلومًا أن النعمةَ التي أنْعَم اللَّهُ بها على مَن أمَرنا
(2)
بمسألتهِ الهدايةَ لطريقِهم، هو المنهاجُ القويمُ
(3)
، والصراطُ المستقيمُ، الذي قد قدَّمْنا البيانَ عن تأويلِه آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهَر مِن ذلك - مع قربِ تَجاوُرِ الكلمتَيْن - مُغْنِيًا عن تَكْرارِه، كما قال نابغةُ بني ذُبْيانَ
(4)
:
كأنك مِن جِمالِ بني أُقَيْشٍ
…
يُقَعْقَعُ
(5)
خلفَ رِجْلَيْه بشَنِّ
(6)
يريدُ: كأنك مِن جِمالِ بني أُقَيْشٍ، جملٌ يُقَعْقَعُ خلفَ رجليه بشَنٍّ. فاكْتَفَى بما ظهَر مِن ذكرِ الجِمالِ الدالِّ على المحذوفِ مِن إظهارِ ما حذَف.
وكما قال الفَرَزْدَقُ بنُ غالبٍ
(7)
:
تَرَى أرْباقَهم
(8)
مُتَقَلِّدِيها
…
إذا صَدِئَ الحديدُ على الكُمَاةِ
(9)
(1)
في ص، ر:"بقوله".
(2)
في ر: "أمر".
(3)
في ر: "القديم".
(4)
ديوانه ص 198.
(5)
في المثل: فلان لا يقعقع له بالشنان. أي لا يخدع ولا يروع. وأصله من تحريك الجلد اليابس للبعير ليفزع. اللسان (ق ع ع).
(6)
الشن: القربة الخلَق. اللسان (ش ن ن).
(7)
ديوانه ص 131.
(8)
الأرباق جمع الرِّبق: الحبل والحلقة تشد بها الغنم الصغار لئلا ترضع. اللسان (ر ب ق).
(9)
الكماة جمع الكمى: البطل الشجاع الجريء. التاج (ك م ى).
يُرِيدُ: مُتَقَلِّدِيها هم. فحذَف "هم" إذا كان الظاهرُ مِن قولِه: أرباقَهم. دالًّا عليها.
والشواهدُ على ذلك مِن شعرِ العربِ وكلامِها أكثرُ مِن أن تُحْصَى، فكذلك ذلك في قولِه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
القولُ في تأويل قولِه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: والقَرَأةُ مُجْمِعةٌ على قراءةِ: {غَيْرِ} . بجرِّ الراءِ منها. والخفضُ يأتيها مِن وجهين:
أحدُهما، أن يكونَ {غَيْرِ} صفةً لـ {الَّذِينَ} ونعتًا لهم فتَخْفِضَها، إذا كان {الَّذِينَ} خفضًا، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكونَ {غَيْرِ} نعتًا لـ {الَّذِينَ} ، و {الَّذِينَ} معرفةٌ، و {غَيْرِ} نكرةٌ؛ لأن {الَّذِينَ} بصلتِها ليست بالمعرفةِ المؤقتةِ، كالأسماءِ التي هي أماراتٌ بينَ الناسٍ، مثلَ زيدٍ وعمرٍو، وما أشْبَهَ ذلك، وإنما هي كالنكراتِ المجهولاتِ
(1)
، مثلَ الرجلِ والبعيرِ، وما أشْبَهَ ذلك. فلما كان {الَّذِينَ} كذلك صفتُها، وكانت {غَيْرِ} مضافةً إلى مجهولٍ مِن الأسماءِ نظيرَ {الَّذِينَ} في أنه معرفةٌ غيرُ مؤقتةٍ، كما {الَّذِينَ} معرفةٌ غيرُ مؤقتةٍ، جاز مِن أجلِ ذلك أن يكونَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} نعتًا لـ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [كما يقالُ: لا أَجْلِسُ إلا إلى العالمِ غير الجاهلِ. يُرادُ: لا أجْلِسُ إلا إلى مَن يَعْلَمُ، لا إلى مَن يَجْهَلُ. ولو كان {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} معرفةً مؤقتةً، كان غيرَ]
(2)
(1)
في ر: "المجمولات".
(2)
سقط من: ر.
[جائزٍ أن يكونَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لها نعتًا، وذلك أنه خطأٌ في كلامِ العربِ إذا وُصِفَت معرفةٌ مؤقتةٌ بنكرةٍ - أن تُلْزِمَ نعتَها النكرةَ إعرابَ المعرفةِ المنعوتِ بها، إلا على نيةِ تكريرِ ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأٌ في كلامِهم أن يقالَ: مررْتُ بعبدِ اللَّهِ [غيرِ العالمِ. فتَخْفِضَ "غير" إلا على نيةِ تكريرِ الباءِ التي أعرَبَتْ عبدَ اللَّهِ. فكأنَّ معنى ذلك لو قيل كذلك: مرَرْتُ بعبدِ اللَّهِ]
(1)
، مررتُ بغيرِ العالمِ. فهذا أحدُ وجْهَيِ الخفضِ في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ]
(2)
.
والوجهُ الآخرُ مِن وجهَيِ الخفضِ فيها، أن يكونَ {الَّذِينَ} بمعنى المعرفةِ المؤقتةِ، وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت {غَيْرِ} مخفوضةً بنيةِ تكريرِ الصراطِ الذي خُفِض {الَّذِينَ} ، عليها، فكأنك قلتَ: صراطَ الذين أنعَمْت عليهم، صراطَ غيرِ المغضوبِ عليهم.
وهذان التأويلان في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وإن اخْتَلَفا باختلافِ مُعْرِبِيهما، فإنهما يَتَقارَبُ معناهما، مِن أجلِ أن مَن أنْعَم اللَّهُ عليه فهداه لدينِه الحقِّ فقد سلِم مِن غضبِ ربِّه، ونجا مِن الضَّلالِ في دينِه.
فسواءٌ - إذ كان سامعُ قولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} غيرَ جائزٍ أن يَرتابَ مع سماعِه ذلك مِن تاليه في أن الذين أنْعَم اللَّهُ عليهم بالهدايةِ للصراطِ غيرُ غاضبٍ ربُّهم عليهم، مع النعمةِ التي قد عظُمَت مِنَّتُه بها عليهم في دينِهم، ولا أن يكونوا ضُلَّالًا وقد هداهم الحقَّ
(3)
ربُّهم، إذ كان مستحيلًا في فِطَرِهم اجتماعُ الرِّضَا مِن اللَّهِ جل ثناؤُه عن شخصٍ والغضبِ
(1)
سقط من: ص.
(2)
سقط من: ر.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"للحق".
عليه في حالٍ واحدةٍ، واجتماعُ الهُدَى والضَّلالِ له في وقتٍ واحدٍ - وُصِف القومُ - مع وَصْفِ اللَّهِ إياهم بما وصَفَهم به مِن توفيقِه إياهم وهدايتِه لهم، وإنعامِه عليهم بما أنْعَم اللَّهُ به عليهم في دينِهم بأنهم غيرُ مغضوبٍ عليهم ولا هم ضالُّون - أم لم يُوصَفوا بذلك؛ لأن الصفةَ الظاهرةَ التي وُصِفوا بها قد أنْبَأَت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يُصَرِّحْ وصفَهم به. هذا إذا وجَّهْنا {غَيْرِ} إلى أنها مخفوضةٌ على نيةِ تكريرِ الصراطِ الخافضِ {الَّذِينَ} ، ولم نَجْعَلْ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} مِن صفةِ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بل إذا جعَلْناهم غيرَهم، وإن كان الفريقان لا شكَّ مُنْعَمًا عليهما في أدْيانِهما. فأما إذا وجَّهْنا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} إلى أنها مِن نعتِ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فلا حاجةَ بسامعِه إلى
(1)
الاستدلالِ، إذ كان الصريحُ مِن معناه قد أغْنَى عن الدليلِ.
وقد يَجوزُ نصبُ: {غَيْرِ}
(2)
في: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وإن كنتُ للقراءةِ بها كارهًا لشُذوذِها عن قراءةِ القُرَّاءِ، وأن ما شذَّ مِن القراءات عما جاءت به الأمةُ نقلًا ظاهرًا مُسْتَفيضًا، فرأيٌ للحقِّ مخالفٌ، وعن سبيلِ اللَّهِ وسبيلِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وسبيلِ المسلمين مُتجانِفٌ، وإن كان له - [لو كان جائزَ القراءةِ]
(3)
به - في الصوابِ مَخْرَجٌ.
وتأويلُ وجهِ صوابِه إذا نصَبْتَ أن يُوَجَّهَ إلى أن يَكونَ صفةً للهاءِ والميمِ اللتين في
(1)
في م: "إلا".
(2)
والنصب رواية عن ابن كثير - وهو من السبعة - وقرأ بها من الصحابة؛ عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن الزبير. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 111، والبحر المحيط 1/ 29.
(3)
في م: "كانت القراءة جائزة".
{عَلَيْهِمْ} العائدةِ على {الَّذِينَ} لأنها وإن كانت مخفوضةً بـ "على"، فهي في محلِّ نصبٍ بقولِه:{أَنْعَمْتَ} . فكان
(1)
تأويلُ الكلامِ - إذا نصَبْتَ (غَيْرَ) التي مع {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} - صراطَ الذين هدَيْتَهم إنعامًا منك عليهم، غيرَ مغضوبٍ عليهم - أي: لا مَغضوبًا عليهم - ولا ضالين. فيكونُ النصبُ في ذلك حينَئذٍ كالنصبِ في "غيرِ"، في قولِك: مرَرْتُ بعبدِ اللَّهِ غيرَ الكريمِ ولا الرشيدِ. فتَقْطَعُ غيرَ الكريمِ مِن عبدِ اللَّهِ، إذ كان عبدُ اللَّهِ معرفةً مؤقتةً، وغيرُ الكريمِ نكرةً مجهولةً.
وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يَزْعُمُ أن قراءةَ مَن نصَب (غَيْرَ) في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} على وجه استثناءِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} مِن معاني صفةِ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} كأنه كان يرَى أن معنى الذين قرَءوا ذلك نصبًا: اهدنا الصراطَ المستقيمَ، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، إلا المغضوبَ عليهم، الذين لم تُنْعِمْ عليهم في أديانِهم ولم تَهْدِهم للحقِّ، فلا تَجْعَلْنا منهم.
كما قال نابغةُ بني ذبيانَ
(2)
:
وقَفْتُ فيها أُصَيْلَالًا
(3)
أُسائِلُها
…
عَيَّت
(4)
جوابًا وما بالرَّبْعِ
(5)
مِن أحدِ
(1)
في م: "فكأن".
(2)
ديوانه ص 2، 3.
(3)
الأصيل: العشى، والجمع أُصُل وأُصلان، وتصغيره أصيلان وأصيلال. اللسان (أ ص ل).
(4)
في م: "أعيت".
(5)
الربع: المنزل والدار. اللسان (ر ب ع).
إلَّا أَوارِيَّ
(1)
لَأْيًا
(2)
ما أُبَيِّنُها
…
والنُّؤْيُ
(3)
كالحوضِ بالمظلومةِ
(4)
الجَلَدِ
(5)
والأوارِيُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَادِ أحدٍ في شيءٍ. فكذلك عندَه اسْتَثْنَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} مِن {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وإن لم يكونوا مِن معانيهم في الدينِ في شيءٍ.
وأما نحويُّو الكوفيين فأنْكَروا هذا التأويلَ واستَخْطَئوه
(6)
، وزعَموا أن ذلك أو كان كما قاله الزاعمُ [ما زعَم]
(7)
مِن أهلِ البصرةِ، لكان خطأً أن يقالَ:{وَلَا الضَّالِّينَ} لأن "لا" نفيٌ وجَحْدٌ، ولا يُعْطَفُ بجحدٍ إلا على جحدٍ. وقالوا: لم نَجِدْ في شيءٍ مِن كلامِ العربِ استثناءً يُعْطَفُ عليه بجحدٍ، وإنما وجَدْناهم يَعْطِفون على الاستثناءِ بالاستثناءِ، وبالجحدِ على الجحدِ، فيقولون في الاستثناءِ: قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك. وفي الجحدِ: ما قام أخوك ولا أبوك. وأما: قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نَجِدْه في كلامِ العربِ. قالوا: فلما كان ذلك معدومًا في كلامِ العربِ، وكان القرآنُ بأفصحِ لسانِ العربِ نزولُه، علِمْنا - إذ كان قولُه:{وَلَا الضَّالِّينَ} معطوفًا على قولِه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} - أن: {غَيْرِ} بمعنى الجحدِ لا بمعنى إلاستثناءِ، وأن تأويلَ مَن وجَّهَها إلى الاستثناءِ خطأٌ.
(1)
الأواري جمع آرِيٍّ: محبس الدابة. اللسان (أ ر ى).
(2)
اللأى: المشقة والجهد. اللسان (ل أ ى).
(3)
النؤى: الحفير حول الخباء أو الخيمة يدفع عنها السيل يمينا وشمالا ويبعده. اللسان (ن أ ى).
(4)
المظلومة: يعني أرضا مروا بها في برية فتحوضوا حوضا سقوا فيه إبلهم، وليست بموضع تحويض. اللسان (ظ ل م).
(5)
الجلد: الغليظ من الأرض، والأرض الصلبة. اللسان (ج ل د).
(6)
ص: "استخفوه".
(7)
سقط من: م، ت 3.
فهذه أوجهُ تأويلِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} باختلافِ أوجهِ إعرابِ ذلك.
وإنما اعْتَرَضْنا بما اعتَرَضْنا في ذلك مِن بيانِ وُجوهِ إعرابِه - وإن كان
(1)
قصدُنا في هذا الكتابِ الكشفَ عن تأويلِ آيِ القرآنِ - لما في اختلافِ وجوهِ إعرابِ ذلك مِن اختلافِ وجوهِ تأويلِه، فاضْطَرَّتْنا الحاجةُ إلى كشفِ وجوهِ إعرابِه، لتَنْكَشِفَ لطالبِ تأويلِه وجوهُ تأويلِه على قدرِ اختلافِ المُخْتَلِفةِ في تأويلِه وقراءتِه.
والصوابُ مِن القولِ في تأويلِه وقراءتِه عندَنا القولُ الأولُ، وهو قراءةُ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بخفضِ الراءِ مِن {غَيْرِ} بتأويلِ أنها صفةُ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ونعتٌ لهم - لما قد قدَّمْنا مِن البيانِ - إن شئتَ، وإن شئتَ فبتأويلِ تكريرِ {صِرَاطَ} ، كلُّ ذلك صوابٌ حسنٌ.
فإن قال لنا قائلٌ: فمَن هؤلاء المغضوبُ عليهم الذين أمَرَنا اللَّهُ جل ثناؤه بمسألتِه ألا يَجْعَلَنا منهم؟
قيل: هم الذين وصَفَهم اللَّهُ جل ثناؤُه في تنزيلِه، فقال:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]. فأَعْلَمَنا جل ذكرُه بمنِّه
(2)
ما أحَلَّ بهم مِن عقوبتِه بمعصيتِهم إياه، ثم علَّمَنا، مِنَّةً
(3)
منه علينا، وجهَ السبيلِ إلى النجاةِ مِن أن يَحِلَّ بنا مثلُ الذي حلَّ بهم مِن المَثُلاتِ
(4)
، ورأفةً منه بنا.
فإن قال: وما الدليلُ على أنهم أولاءِ الذين وصَفَهم اللَّهُ، وذكَر نبأَهم في تنزيلِه
(1)
بعده في ص: "ذلك".
(2)
في ص: "ثمة".
(3)
في ر: "منا".
(4)
المثلات جمع مَثُلة: العقوبات. اللسان (م ث ل).
على ما وصَفْتَ؟
قيل: حدَّثني أحمدُ بنُ الوليدِ الرَّمْليُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ جعفرٍ الرَّقِّيُّ
(1)
، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن الشعبيِّ، عن عديِّ بنِ حاتمٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "المغْضُوبُ عليهم اليَهُودُ"
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، قال: سمِعْتُ عَبَّادَ بنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ، قال: قال لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المغْضُوبَ عليهم اليَهُودُ"
(3)
.
حدَّثني عليُّ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا مسلمُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ مصعبٍ، عن حمادِ بنِ سلمةَ، عن سماكِ بنِ حربٍ، عن مُرِّيِّ بنِ قَطَريٍّ، عن عديِّ بنِ حاتمٍ، قال: سألْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قولِ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ -: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: "هم اليَهُودُ"
(4)
.
(1)
في ر: "البرقي". وينظر تهذيب الكمال 14/ 376.
(2)
أخرجه تمام في الفوائد (1325 - الروض البسام) من طريق أحمد بن الوليد به. وهكذا ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 46 عن ابن عيينة به. وأخرجه ابن عيينة في تفسيره - كما في الدر المنثور 1/ 16 - وعنه سعيد بن منصور في سننه (179 - تفسير) عن إسماعيل بن أبي خالد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم، مرسل. وسيأتي باقي هذا الحديث في ص 194.
(3)
أخرجه الترمذي (2954) عن محمد بن المثنى به. وأخرجه أحمد 4/ 378 (الميمنية)، والترمذي (2954)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 31 (40)، وابن حبان (6246، 7206)، والطبراني في الكبير 17/ 99 (237)، والبيهقي في الدلائل 5/ 339، 340 من طريق محمد بن جعفر به.
وأخرجه الترمذي (2953 م)، وابن أبي حاتم 1/ 31 (41)، والطبراني 17/ 98 (236) من طريق سماك به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب.
(4)
قد خولف حماد بن سلمة في إسناد هذا الحديث؛ خالفه شعبة، وتقدم في الحديث قبله. ورواه =
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ الساميُّ
(1)
، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: حدَّثنا الجُرَيْريُّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ شَقيقٍ
(2)
، أن رجلًا أتَى رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو مُحاصِرٌ
(3)
واديَ القُرَى، فقال: مَن هؤلاءِ الذين تُحاصِرُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "هؤلاء المَغْضُوبُ عليهم اليَهُودُ"
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن سعيدٍ الجُرَيْريِّ، عن عروةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ شَقيقٍ، أن رجلًا أتَى رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَه
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أنْبَأَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن بُدَيْلٍ العُقَيْليِّ، قال: أخْبَرَني عبدُ اللَّهِ بنُ شَقيقٍ، أنه أخْبَرَه مَن سَمِع النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى، وهو على فرسِه وسأَله رجلٌ مِن بني القَيْنِ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، مَن هؤلاءِ؟ قال:"المَغْضُوبُ عليهم". وأشار إلى اليهودِ
(6)
.
= عمرو بن ثابت عن سماك، عمن سمع عدي بن حاتم. أخرجه الطيالسي (1135) عن عمرو بن ثابت.
وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 46: وقد رُوي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.
(1)
سقط من: ص، ر، ت 1، وفي م، ت 2، ت 3:"الشامي". وينظر تهذيب الكمال 7/ 395.
(2)
في ص: "سفيان". وينظر تهذيب الكمال 15/ 89.
(3)
في ص، ت 1:"يحاصر".
(4)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (765) من طريق الجريري به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 16 إلى وكيع وعبد بن حميد. وسيأتي باقي هذا الحديث في ص 195.
(5)
أشار ابن كثير في تفسيره 1/ 46 إلى رواية عروة، وقال: ووقع في رواية عروة تسمية عبد اللَّه بن عمر، فاللَّه أعلم.
(6)
تفسير عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 16 - وعنه أحمد 5/ 32، 33، 77 (الميمنية).
وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد والبغوي في معجم الصحابة وابن المنذر وأبي الشيخ.
وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف 1/ 445، وأبو يعلى (7179)، والطحاوي 3/ 301، والبيهقي 6/ 324، 336، 9/ 62 من طريقين عن بديل - زاد البيهقي: وخالد الحذاء والزبير بن الخريت - عن عبد اللَّه =
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا خالدٌ الواسطيُّ، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن عبدِ اللَّهِ بن شَقِيقٍ، أن رجلًا سأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَه
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} . يعني اليهودَ الذين غضِب اللَّهُ عليهم
(2)
.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : هم اليهودُ
(3)
.
= ابن شقيق، عن رجل من بلقَيْن، مطولًا ومختصرًا. وقال ابن كثير في تفسيره 4/ 4: إسناد صحيح.
وأخرجه ابن زنجويه في الأموال (1137) من طريق آخر عن عبد اللَّه بن شقيق مثله.
ورواه إبراهيم بن طهمان عن بديل، فقال: عن عبد اللَّه بن شقيق، عن أبي ذر. أخرجه ابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 46 - وقال الحافظ في الفتح 8/ 159: إسناد حسن.
(1)
أخرجه أحمد بن منيع في مسنده - كما في المطالب العالية (2236) - عن هشيم، عن خالد الحذاء، عن عبد اللَّه بن شقيق: حدثني رجل من بلقَيْن، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه البيهقي في الشعب (4329) من طريق يحيى بن يحيى، عن خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن عبد اللَّه بن شقيق، عن رجل، عن ابن عم له. وأخرجه الطحاوي 3/ 301 من طريق ابن المبارك، عن خالد الحذاء، عن عبد اللَّه بن شقيق، عن رجل من بلقَيْن.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 31 (42) من طريق أبي كريب به. وسيأتي باقي هذا الأثر في ص 196.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 46 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 16 إلى المصنف عن ابن مسعود. وسيأتي باقي هذا الأثر في ص 196.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن مُجاهِدٍ، قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} . قال: هم اليهودُ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: حدَّثنا عُبيدُ
(2)
اللَّهِ، عن أبي جعفرٍ، عن ربيعٍ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} . قال: اليهودُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} . قال: اليهودُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : اليهودُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني ابنُ زيدٍ، عن أبيه، قال: المغضوبُ عليهم اليهودُ
(5)
.
قال أبو جعفرٍ: واختُلِف في صفةِ الغضبِ مِن اللَّهِ جل ذكرُه؛ فقال بعضُهم: غضبُ اللَّهِ على مَن غضِب عليه مِن خلقِه إحلالُ عقوبتِه بمَن غضِب عليه، إما في دنياه وإما في آخرتِه، كما وصَف به نفسَه جل ذكرُه في كتابِه فقال:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]. وكما قال: {قُلْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 16 إلى المصنف وعبد بن حميد. وسيأتي باقي هذا الأثر في ص 195.
(2)
في ص، م، ت 1:"عبد".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 16 إلى المصنف.
(4)
سيأتي باقي هذا الأثر في ص 196.
(5)
في حاشية ر: "عند الفرعاني: اليهود. ولم تكن عند ابن داود".
والصواب الفرغاني بالغين المعجمة. وينظر الأنساب 4/ 367، والسير 16/ 132.
وينظر الأثر في تفسير ابن كثير 1/ 46، والدر المنثور 1/ 16، وفتح القدير 1/ 25. وما سيأتي في ص 196، 197.
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60].
وقال بعضُهم: غضَبُ اللَّهِ على مَن غضِب عليه مِن عبادِه ذمٌّ منه لهم ولأفعالِهم، وشَتْمٌ منه لهم بالقولِ.
وقال بعضُهم: الغضبُ منه معنى مفهومٌ، كالذي يُعْرَفُ مِن معاني الغضبِ، غيرَ أنه - وإن كان كذلك مِن جهةِ الإثباتِ - فمخالفٌ معناه منه معنى ما يكونُ مِن غضبِ الآدميِّين الذي
(1)
يُزْعِجُهم ويُحَرِّكُهم ويَشُقُّ عليهم ويُؤْذِيهم؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه لا تَحِلُّ ذاتَه الآفاتُ، ولكنه له صفةٌ، كما العلمُ له صفةٌ، والقدرةُ له صفةٌ، على ما يُعْقَلُ مِن جهةِ الإثباتِ، وإن خالفت معاني ذلك معانيَ علومِ العبادِ التي هي معارفُ القلوبِ، وقُواهم التي تُوجَدُ مع وجودِ الأفعالِ وتُعْدَمُ مع عَدَمِها
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَا الضَّالِّينَ
(7)}.
قال أبو جعفرٍ: كان بعضُ أهلِ البصرةِ
(3)
يَزْعُمُ أن {لَا} مع {الضَّالِّينَ} أُدْخِلَت تَتْميمًا للكلامِ، والمعنى إلغاؤُها
(4)
، ويَسْتَشْهِدُ على قِيله [في ذلك ببيتِ]
(5)
العَجَّاجِ
(6)
:
في بِئْرٍ لَا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذين".
(2)
وهذا القول هو الصحيح، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وينظر مجموع الفتاوى 3/ 33، 6/ 68، 119، 120.
(3)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 25 وما بعدها.
(4)
في مجاز القرآن: "إلقاؤها".
(5)
في ص، ت 2، ت 3:"ذلك ببيت"، وفي م:"ذلك بيت".
(6)
ديوانه ص 14.
ويَتَأوَّلُه بمعنى: في بئرٍ حورٍ سَرى. أي: في بئرٍ هَلَكةٍ. وأن "لا" بمعنى الإلغاءِ والصلةِ
(1)
، ويَعْتَلُّ أيضًا لذلك بقولِ أبي النَّجْمِ
(2)
:
فما أَلومُ البِيضَ ألا تَسْخَرا
لمَّا رأَيْن الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا
(3)
وهو يُريدُ: فما ألومُ البيضَ أن تَسْخَرَ. وبقولِ الأحْوصِ
(4)
:
ويَلْحَيْنَنِي
(5)
في اللهْوِ ألا أُحِبَّه
…
وللهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافِلِ
يريدُ: ويَلْحَيْنَني في اللهوِ أن أُحِبَّه. وبقولِه تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]. يُريدُ: أن تَسْجُدَ.
وحُكِي عن قائلِ هذه المقالةِ أنه كان يتَأَوَّلُ: {غَيْرِ} التي مع {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} أنها بمعنى "سِوى". فكأن معنى الكلامِ كان عندَه: اهدنا الصراطَ المستقيمَ، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، الذين هم سوى المغضوبِ عليهم و
(6)
الضالين.
وكان بعضُ نحويِّي الكوفيِّين
(7)
يَسْتَنْكِرُ ذلك مِن قولِه، ويَزْعُمُ أن {غَيْرِ} التي مع {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لو كانت بمعنى "سِوَى"، لَكان خطأً أن يُعْطَفَ عليها بـ "لا"، إذ كانت "لا" لا يُعْطَفُ بها إلا على جَحْدٍ قد تقَدَّمَها، كما كان خطأً قولُ القائلِ: عندي "سِوى" أخيك ولا أبيك. لأن "سوى" ليست مِن
(1)
يقصد بالصلة هنا الحرف الزائد. ينظر مصطلحات النحو الكوفي ص 38.
(2)
ديوانه (مجموع) ص 121.
(3)
القفندر: القبيح المنظر. اللسان (قفندر)، والبيت فيه.
(4)
شعر الأحوص ص 179.
(5)
في ر: "تلحينني". ولحاه يلحاه لحيا: لامه وعذله. اللسان (ل ح ا).
(6)
بعده في ص، ت 1:"لا".
(7)
في م: "الكوفة". ويعني بذلك الفراء. ينظر معاني القرآن له 1/ 8.
حروفِ النفيِ والجحودِ. ويقولُ: لمَّا كان ذلك خطأً في كلامِ العربِ، وكان القرآنُ بأفصحِ
(1)
اللغاتِ مِن لغاتِ العربِ، كان معلومًا أن الذي زعَمه القائلُ أن {غَيْرِ} مع {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بمعنى: سوى المغضوبِ عليهم - خطأٌ، إذ كان قد كرَّ عليه الكلامَ بـ "لا"، وكان يَزْعُمُ أن {غَيْرِ} هنالك إنما هي بمعنى الجحدِ، و
(2)
كان صحيحًا في كلامِ العربِ وفاشيًا ظاهرًا في مَنْطِقِها تَوجيهُ "غيرِ" إلى معنى النفيِ، ومُسْتَعْمَلًا فيهم: أخوك غيرُ مُحْسِنٍ ولا مُجْمِلٍ. يُرادُ بذلك: أخوك لا مُحْسِنٌ ولا مُجْمِلٌ. ويَسْتَنْكِرُ أن تَأْتيَ "لا" بمعنى الحذفِ في الكلامِ مبتدأً ولمَّا يَتَقَدَّمْها جحدٌ. ويقولُ: لو جاز مجيئُها بمعنى الحذفِ مبتدأً قبلَ دلالةٍ تَدُلُّ على ذلك مِن جحدٍ سابقٍ، لصحَّ قولُ قائلٍ قال: أرَدْتُ ألا أُكْرِمَ أخاك. بمعنى: أردْتُ أن أكرمَ أخاك. وكان يقولُ: ففي شهادةِ أهلِ المعرفةِ بلسانِ العربِ على تخطئةِ قائلِ ذلك دَلالةٌ واضحةٌ على أنَّ "لا" لا تَأْتي مُبْتدأةً بمعنى الحذفِ ولمَّا يَتَقَدَّمْها جحْدٌ. وكان يَتَأوَّلُ في "لا" التي في بيتِ العجَّاجِ الذي
(3)
ذكَرْنا أن البصْريَّ اسْتَشْهَد به لقولِه
(4)
- أنها جحْدٌ صحيحٌ، وأن معنى البيتِ: سَرَى في بئرٍ لا تُحِيرُ عليه خيرًا، ولا يَتَبَيَّنُ له فيها أثرُ عملٍ، وهو لا يَشْعُرُ بذلك ولا يَدْرِي
(5)
به. مِن قولِهم: طحَنَتِ الطاحنةُ فما أحارَت شيئًا. أي: لم يتبيَّنْ لها أثرُ عملٍ. ويقولُ في سائرِ الأبياتِ الأُخَرِ، أعْني مثلَ بيتِ أبي النَّجْمِ:
فما ألُومُ البِيضَ ألا تَسْخَرَا
(1)
في ص: "أفصح".
(2)
في م، ت 2، ت 3:"إذ".
(3)
في ص، ت 1:"التي".
(4)
في م: "بقوله".
(5)
في ص: "يرى".
إنما جاز أن تَكونَ "لا" بمعنى الحذفِ؛ لأن الجحدَ قد تقَدَّمَها في أولِ الكلامِ، فكان الكلامُ الآخرُ مُواصِلًا للأولِ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
ما كان يَرْضَى رسولُ اللَّهِ فعلَهمُ
…
والطَّيِّبان أبو بكرٍ ولا عمرُ
فجاز ذلك؛ إذ كان قد تقدَّم الجحدُ في أولِ الكلامِ.
قال أبو جعفرٍ: وهذا القولُ الآخرُ أولى بالصوابِ مِن الأولِ، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلامِ العربِ ابتداءُ الكلامِ مِن غيرِ جحدٍ تقدَّمه بـ "لا" التي معناها الحذفُ، ولا جائزٍ العطفُ بها على "سوى"، ولا على حرفِ الاستثناءِ. وإنما لـ "غير" في كلامِ العربِ معانٍ ثلاثةٌ؛ أحدُها الاستثناءُ، والآخرُ الجحدُ، والثالثُ سوى، فإذا [ثبَت خطأُ أن "لا" تكونُ]
(2)
بمعْنى الإلغاءِ مبتدأً، وفسَد أن يكونَ عطفًا على {غَيْرِ} التي مع {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، لو كانت بمعنى "إلا" التي هي استثناءٌ، ولم يَجُزْ أن يكونَ أيضًا عطفًا عليها لو كانت بمعنى "سوى"، وكانت "لا" موجودةً عطفًا بالواوِ التي هي عاطفةٌ لها على ما قبلَها - صحّ وثبَت ألا وجهَ لـ {غَيْرِ} التي مع {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} يَجوزُ توجيهُها إليه على صحةٍ، إلا بمعنى الجحدِ والنفيِ، وألا وجهَ لقولِه:{وَلَا الضَّالِّينَ} إلا العطفُ على {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} .
فتأويلُ الكلامِ إذن - إذ كان صحيحًا ما قلْنا بالذي عليه اسْتَشْهَدْنا: اهدنا الصراطَ المستقيمَ، صراطَ الذين أنعمْت عليهم، لا
(3)
المغضوبِ عليهم ولا
(1)
ديوان جرير 1/ 159.
(2)
في م: "بطل حظ لا أن يكون"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"بطل حظ لا أن تكون". والمثبت من: ص. وفيها أيضًا: "حظ". وينظر تعليق الشيخ شاكر.
(3)
في ص، ت 3:"غير".
الضالين.
فإن قال لنا قائلٌ: ومَن هؤلاء الضالُّون الذين أمَرَنا اللَّهُ بالاستعاذةِ باللَّهِ أن يَسْلُكَ بنا سبيلَهم و
(1)
نَضِلَّ ضلالتَهم؟
قيل: هم الذين وصَفَهم اللَّهُ في تنزيلِه، فقال:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
فإن قال: وما برهانُك على أنهم أُولاءِ؟
قيل: حدَّثنا أحمدُ بنُ الوليدِ الرَّمْليُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن الشعبيِّ، عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: "النَّصَارَى"
(2)
.
حدَّثنا محمدُ
(3)
بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، قال: سمِعْتُ عَبَّادَ بنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ، قال: قال لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى"(2).
حدَّثنا عليُّ بن الحسنِ، قال: حدَّثنا مسلمُ بن
(4)
عبدِ الرحمنِ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ مصعبٍ، عن حمادِ بنِ سَلَمةَ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن مُرِّيِّ بنِ قَطَريٍّ، عن عديِّ بنِ حاتمٍ، قال: سأَلْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قولِ اللَّهِ: {وَلَا
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أو".
(2)
تقدم أوله في ص 186.
(3)
في ر: "أحمد".
(4)
في م: "و".
الضَّالِّينَ} قال: "النَّصَارَى هم الضَّالُّونَ"
(1)
.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ الساميُّ
(2)
، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: حدَّثنا الجُرَيْريُّ
(3)
، عن عبدِ اللَّهِ بنِ شَقيقٍ
(4)
، أن رجلًا أَتَى رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو مُحَاصِرٌ واديَ القُرَى، قال: قلتُ: مَن هؤلاء؟ قال: "هؤلاء الضَّالُّونَ النَّصَارَى"
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن سعيدٍ الجُرَيْريِّ (3)، عن عروةَ - يعني ابنَ عبدِ اللَّهِ
(6)
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ شَقيقٍ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه (5).
حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن بُدَيْلٍ العُقَيْليِّ، قال: أخْبَرَني عبدُ اللَّهِ بنُ شَقيقٍ، أنه أخْبَرَه مَن سمِع النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى، وهو على فرسِه، وسأله رجلٌ مِن بني القَيْنِ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، مَن هؤلاء؟ قال:"هؤلاء الضَّالُّونَ". يَعْنِي النَّصَارَى (5).
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا خالدٌ الواسطيُّ، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ شَقيقٍ، أنَّ رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحاصِرٌ واديَ القُرَى، وهو على فرسٍ: مَن هؤلاء؟ قال: "الضَّالُّونَ". يَعْنِي النَّصَارَى
(7)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن مُجاهدٍ: {وَلَا
(1)
تقدم أوله في ح 186.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الشامي".
(3)
في ص: "الحريري".
(4)
في ص، ت 1:"سفيان".
(5)
تقدم أوله في ص 187.
(6)
بعده في م، ت 2، ت 3:"بن قيس".
(7)
تقدم أوله في ص 188.
الضَّالِّينَ} قال: النصارى
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا الضَّالِّينَ} قال: وغيرِ طريقِ النصارى الذين أضلَّهم اللَّهُ بفِرْيتِهم عليه. قال: يقولُ: فألْهِمْنا دينَك الحقَّ، وهو لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، حتى لا تَغْضَبَ علينا كما غضِبْتَ على اليهودِ، ولا تُضِلَّنا كما أضْلَلْتَ النصارى، فتُعَذِّبَنا بما تُعَذِّبُهم به. يقولُ: امنَعْنا مِن ذلك برِفْقِك
(2)
ورحمتِك وقدرتِك
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ
(4)
، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {الضَّالِّينَ} : النصارى (1).
حدَّثني موسى بنُ هارونَ الهَمْدانيُّ، قال: حدَّثَنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ بنُ نصرٍ، عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم {وَلَا الضَّالِّينَ}: هم النصارى (3).
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: أخْبَرَنا عُبيدُ
(5)
اللَّهِ بنُ موسى، عن أبي جعفرٍ، عن ربيعٍ:{وَلَا الضَّالِّينَ} : النصارى (1).
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال
(1)
تقدم أوله في ص 189.
(2)
في ر: "برفدك".
(3)
تقدم أوله في ص 188.
(4)
في ص: "حماد".
(5)
في ص، ت 1:"عبد".
عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ: {وَلَا الضَّالِّينَ} : النصارَى
(1)
.
حدَّثني يونُسُ قال: أَخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ، عن أبيه، قال:{الضَّالِّينَ} : النصارَى
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: [فكلُّ جائرٍ]
(2)
عن قَصْدِ السبيلِ وسالكٍ غيرَ المنهجِ القويمِ، فضالٌّ عندَ العربِ؛ لإضْلالِه وجهَ الطريقِ، فلذلك سمَّى اللَّهُ جلَّ ذكرُه النصارى ضُلَّالًا، لخطئِهم في الحقِّ مَنْهجَ السبيلِ، وأخْذِهم مِن الدِّينِ في غيرِ الطريقِ المستقيمِ.
فإن قال قائلٌ: أوَ ليس ذلك أيضًا مِن صفةِ اليهودِ؟
قيل: بلى.
فإن قال: فكيف خَصَّ النصارى بهذه الصفةِ، وخصَّ اليهودَ بما وصَفَهم به مِن أنهم مغضوبٌ عليهم؟
قيل: إن
(3)
كِلَا الفريقين ضُلَّالٌ مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن اللَّهَ جل ثناؤُه وَسَم كلَّ فريقٍ منهم مِن صِفَتِه لعبادِه بما يَعْرِفونه به إذا ذكَره لهم أو أخْبَرَهم عنه، ولم يُسَمِّ واحدًا مِن الفريقَيْن إلا بما هو له صفةٌ على حقيقتِه، وإن كان له من صفاتِ الذمِّ زياداتٌ عليه.
[وقد ظنَّ]
(4)
بعضُ أهلِ الغَباءِ مِن القدريَّةِ أن في وصفِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه النصارَى بالضَّلالِ بقولِه: {وَلَا الضَّالِّينَ} وإضافتِه الضَّلالَ إليهم دون إضافةِ إضلالِهم
(1)
تقدم أوله في ص 189.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"وكل حائد".
(3)
سقط من: ص.
(4)
في ص: "فيظن".
إلى نفسِه، وتركِه وصفَهم بأنهم المُضَلَّلون
(1)
، كالذي وصَف به اليهودَ أنهم
(2)
المغضوبُ عليهم - دلالةً على صحةِ ما قاله إخوانُه مِن جَهَلةِ القَدَريةِ، جهلًا منه بسَعَةِ كلامِ العربِ وتصاريفِ وجُوهِه، ولو كان الأمرُ على ما ظَنَّه الغبيُّ الذي وصَفْنا شأنَه لَوجَب أن يكونَ شأنُ
(3)
كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ، لا يجوزُ أن يكونَ فيه سببٌ لغيرِه، وأن يكونَ كلُّ ما كان [فيه مِن ذلك لغيرهِ]
(4)
سببٌ، فالحقُّ فيه أن يكونَ مُضافًا إلى مُسَبِّبِه، ولو وَجَب ذلك لوجَب أن يكونَ خطأً قولُ القائلِ: تحَرَّكَتِ الشجرةُ. إذا حرَّكَتها الرياحُ. واضْطَرَبَتِ الأرضُ. إذا حرَّكَتْها الزَّلْزَلةُ، وما أشبهَ ذلك مِن الكلامِ الذي يَطولُ بإحصائِه الكتابُ.
وفي قولِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. [وإضافتِه]
(5)
الجَرْيَ إلى الفُلْكِ، وإن كان جَرْيُها بإجراءِ غيرِها إياها - ما يَدُلُّ على خطإِ التأويلِ الذي تأوَّله مَن وصَفْنا قولَه في قولِه:{وَلَا الضَّالِّينَ} وادعائِه أن في نسبةِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه الضَّلالةَ إلى مَن نسَبها إليه مِن النصارى، تَصْحيحًا لما ادَّعى المُنْكِرون أن
(6)
للَّهِ في أفعالِ خلقِه سببًا مِن أجلِه
(7)
وُجِدَت أفعالُهم، مع إبانةِ اللَّهِ جل ثناؤُه نصًّا في آىٍ كثيرةٍ مِن تنزيله أنه المُضِلُّ الهادي؛ فمن ذلك قولُه - جلَّ وعزَّ -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى
(1)
في ص: "الضالون"، وفي ت 1:"المضلون".
(2)
في ص، ت 1:"وأنهم".
(3)
سقط من: ر، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ص: "منه من ذلك بغيره"، وفي ت 1:"منه من ذلك لغيره".
(5)
في م، ت 2، ت 3:"بإضافته".
(6)
بعده في ص، م، ت 2، ت 3، "يكون".
(7)
في ر، ت 1، ت 3:"أجلها".
بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. فأنْبَأ جل ثناؤُه أنه المُضِلُّ الهادي دونَ غيرِه.
ولكنَّ القرآنَ نزَل بلسانِ العربِ على ما قد قدَّمْنا البيانَ عنه في أولِ الكتابِ، ومِن شأنِ العربِ إضافةُ الفعلِ إلى مَن وُجِد منه وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد منه، أحيانًا، وأحيانًا إلى مُسَبِّبِه وإن كان الذي وُجِد منه الفعلُ غيرَه، فكيف بالفعلِ الذي يَكْتَسِبُه العبدُ كَسْبًا، ويُوجِدُه اللَّهُ جل ثناؤُه عَيْنًا [ونشأةً]
(1)
! بل ذلك أحْرَى أن يُضافَ إلى مُكْتَسبِه كَسْبًا له بالقوةِ منه عليه والاختيارِ منه له، وإلى اللَّهِ جل ثناؤُه بإيجادِ عينِه
(2)
وإنشائِها تدبيرًا.
مسألةٌ يَسْألُ عنها أهلُ الإلحادِ الطاعِنون في القرآنِ
إن سأَلَنا منهم سائلٌ، فقال: إنك قد قدَّمْتَ
(3)
في أولِ كتابِك هذا في وصْفِ البيانِ، بأن أعلاه درجةً، وأشرفَه مَرْتَبةً، أبلغُه في الإبانةِ عن حاجةِ المُبَيِّنِ به عن نفسِه، وأبينُه عن مُرادِ قائلِه، وأقربُه مِن فَهمِ سامعِه، وقلتَ مع ذلك: إن أولى البيانِ بأن يكونَ كذلك كلامُ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه لفَضْلِه
(4)
على سائرِ الكلامِ
(5)
، بارتفاعِ درجتِه على أعلى درجاتِ البيانِ، فما الوجهُ - إذ كان الأمرُ على ما وصَفْتَ - في إطالةِ الكلامِ بمثلِ سُورةِ أمِّ القرآنِ بسبعِ آياتٍ، وقد حوَت معانيَ جميعِها منها آيتان،
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"منشأة".
(2)
في ص، ر:"عينها".
(3)
تقدم في ص 8، 9.
(4)
في م، ت 2، ت 3:"بفضله".
(5)
بعده في م، ت 3:"و".
وذلك قولُه: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). إذ كان لا شكَّ أن مَن عرَف مَلِكَ يومِ الدينِ، فقد عرَفه بأسمائِه الحُسْنَى، وصفاتِه المُثْلَي، وأن مَن كان للَّهِ مُطيعًا، فلا شكَّ أنه لسبيلِ مَن أنْعَم اللَّهُ عليه في دينِه مُتَّبِعٌ، وعن سبيلِ مَن غضِب عليه وضلَّ مُنعَدِلٌ، فما في زيادةِ الآياتِ الخمسِ الباقيةِ مِن الحكمةِ التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكَرْنا؟
قيل له: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه جمَع لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولأمتِه بما أنْزَل إليه مِن كتابِه معانيَ لم يَجْمَعْهن بكتابٍ
(1)
أنْزَلَه إلى نبيٍّ قبلَه، ولا لأُمةٍ مِن الأممِ قبلَهم، وذلك أن كلَّ كتابٍ أنْزَله جلَّ ذكرُه، على نبيٍّ مِن أنبيائِه قبلَه، فإنما أنْزَله ببعضِ المعاني التي يَحْوِي جميعَها كتابُه الذي أنْزَله إلى نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كالتوراةِ التي هي مَواعِظُ وتَفصيلٌ، والزَّبُورِ الذي هو تَحْميدٌ وتَمْجيدٌ، والإنجيلِ الذي هو مَواعِظُ وتَذْكيرٌ، لا مُعجزةَ في واحدٍ منها تَشْهَدُ لمَن أُنْزِل إليه بالتصديقِ، والكتابُ الذي أُنْزِل على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم يَحْوِي معانيَ ذلك كلِّه، ويَزِيدُ عليه كثيرًا مِن المعاني التي سائرُ الكتبِ غيرِه منها خالٍ، وقد قدَّمْنا ذكرَها فيما مضَى مِن هذا الكتابِ
(2)
.
ومِن أشرفِ تلك المعاني التي فضَل بها كتابُنا سائرَ الكتبِ قبلَه نظْمُه العجيبُ، ورصفُه
(3)
الغريبُ، وتأْليفُه البديعُ، الذي عجَزَتْ عن نظمِ مثلِ أصغرِ سورةٍ منه الخُطَباءُ، وكلَّتْ عن رَصْفِ
(4)
شكلِ بعضِه البُلَغاءُ، وتحيَّرَت في تأليفِه
(1)
في ص: "كتاب".
(2)
ينظر ما تقدم في ص 65، 66.
(3)
في ر، م، ت 1، ت 3:"وصفه". والرصْف: ضم الشيء بعضه إلى بعض. اللسان (ر ص ف).
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وصف".
الشعراءُ، وتبَلَّدَت - قصورًا عن أن تَأْتيَ بمثلِه - لديه أفهامُ الفُهماءِ، فلم يَجِدوا له إلا التسليمَ والإقرارَ بأنه مِن عندِ الواحدِ القَهَّارِ، مع ما يَحْوِي مع ذلك مِن المعاني التى هي ترغيبٌ وترهيبٌ، وأمرٌ وزجرٌ، وقَصَصٌ وجَدَلٌ ومَثَلٌ، وما أشبهَ ذلك مِن المعاني التي لم تَجْتَمِعْ
(1)
في كتابٍ أُنْزِل إلى الأرضِ مِن السماءِ. فمهما يَكُنْ فيه مِن إطالةٍ على نحوِ ما في أمِّ القرآنِ، فلِما وصَفْتُ قبلُ مِن أن اللَّهَ جلَّ ذكرُه أراد أن يَجْمَعَ برصفِه العجيبِ، ونظْمِه الغريبِ، المُنْعَدِلِ عن أوزانِ الأشعارِ، وسَجْعِ الكُهَّان، وخُطَبِ الخطباءِ، ورسائلِ البُلغاءِ، العاجزِ عن رصْفِ مثلِه جميعُ الأنامِ، وعن نظمِ نظيرِه كلُّ العبادِ - الدلالةَ على نبوةِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وبما فيه مِن تحْميدٍ وتمْجيدٍ وثناءٍ عليه، تنبيهَ العبادِ على عظمتِه وسلطانِه وقدرتِه وعِظَمِ مَملكتِه، ليَذْكُروه بآلائِه، ويَحْمَدوه على نَعْمائِه، فيَسْتَحِقُّوا به منه المزيدَ، ويَسْتَوْجِبوا عليه الثوابَ الجزيلَ.
وبما فيه مِن نَعْتِ مَن أنْعَم عليه بمعرفتِه وتفضَّل عليه بتوفيقِه لطاعتِه، تعريفَ عبادِه أن كلَّ ما بهم مِن نعمةٍ في دينِهم ودُنْياهم فمنه، ليَصْرِفوا رغبتَهم إليه، ويَبْتَغوا حاجاتِهم مِن عندِه دونَ ما سواه مِن الآلهةِ والأندادِ.
وبما فيه مِن ذكرِه ما أحَلَّ بمَن عَصَاه مِن مَثُلاتِه، وأنْزَل بمَن خالَف أمرَه مِن عقوباتِه، ترهيبَ عبادِه عن رُكوبِ مَعاصِيه، والتعرُّضِ لما لا قِبَلَ لهم به مِن سَخَطِه، فيَسْلُكَ بهم في النَّكالِ والنَّقِماتِ سبيلَ مَن ركِب ذلك مِن الهُلَّاكِ.
فذلك وجهُ إطالةِ البيانِ في سورةِ أمِّ القرآنِ، وفيما كان نظيرًا لها مِن سائرِ سُورِ الفرقانِ، وذلك هو الحكمةُ البالغةُ والحجةُ الكاملةُ.
(1)
في ص، ر، ت 1، ت 2، ت 3:"تجمع".
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا المُحارِبيُّ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: حدَّثني العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ يعقوبَ، عن أبي السائبِ مولى زُهْرةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا قال العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قال اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. قال: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. قال: مَجَّدَنِي عبدِي، فهذا لي. وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. إلى أن يَخْتِمَ السُّورَةَ. قال: فذاك له"
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عَبْدةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن العَلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي السائبِ، عن أبي هريرةَ، قال: إذا قال العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ثم ذكَر نحوَه، ولم يَرْفَعْه.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا أبو أسامةَ، قال: حدَّثنا الوليدُ بنُ كثيرٍ، قال: حدَّثني العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ مولى الحُرَقةِ، عن أبي السائبِ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(2)
.
حدَّثني صالحُ بنُ مِسْمارٍ المَرْوَزيُّ، قال: حدَّثنا زيدُ بنُ الحُبَابِ، قال: حدَّثنا عَنْبَسةُ بنُ سعيدٍ، عن مُطَرِّفِ بنِ طَرِيفٍ، عن سعدِ بنِ إسحاقَ بنِ كعبِ بنِ عُجْرةَ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّهُ عز وجل: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ
(3)
، وله ما سَألَ، فإذا قال العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ
(1)
أخرجه أحمد 13/ 233 (7838)، والبخاري في القراءة خلف الإمام (73)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (57، 58) من طرق عن ابن إسحاق به. وأخرجه مسلم (395/ 39، 40)، والنحاس في القطع والائتناف ص 101، 102، وغيرهما من طريق العلاء به. وينظر مسند الطيالسي (2684).
(2)
أخرجه البيهقي 2/ 166، وفي القراءة خلف الإمام (54) من طريق أبي أسامة به.
(3)
سقط من: ر، ت 1، ت 2، ت 3.
رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قال
(1)
: حَمِدَنِي عَبْدِي. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قال: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . قال: مَجَّدَنِي عَبْدِي. قال: هَذَا لِي وله ما بَقِي"
(2)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ فاتحةِ الكتابِ
(1)
بعده في م، ت 2، ت 3:"اللَّه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 28 (19)، والسهمي في تاريخ جرجان ص 144 من طريق زيد بن الحباب به، بنحوه دون آخره. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 25: وهذا غريب من هذا الوجه.
القولُ في تفسيرِ السورةِ التي يُذْكَرُ فيها البقرَةُ
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {الم
(1)}.
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَفَت تَراجِمةُ القرآنِ في تأويلِ قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه: {الم} ؛ فقال بعضُهم: هي اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{الم} . قال: اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ
(1)
.
حدَّثني المثَنَّى بنُ إبراهيمَ الآمُلِيُّ، قال: حدَّثنا أبو حُذَيْفةَ موسى بنُ مسعودٍ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال:{الم} اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال:{الم} اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ.
وقال بعضُهم: هي فَواتحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بها القرآنَ.
(1)
تفسير عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 22 - ومن طريقه النحاس في القطع، والائتناف ص 111، ومعاني القرآن 1/ 75. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 33 معلقًا عقب الأثر (50).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33 (50)، والنحاس في معاني القرآن 1/ 75 من طريق أبي حذيفة به.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني هارونُ بنُ إدريسَ الأصَمُّ الكوفيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المُحاربيُّ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ، قال:{الم} فَواتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بها القرآنَ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: حدَّثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن مُجاهِدٍ، قال:{الم} فَواتِحُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، عن يحيى بنِ آدمَ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال:{الم} و {حم} و {المص} و {ص} فواتحُ افْتَتَح اللَّهُ بها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ
(4)
، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَ حديثِ هارونَ بنِ إدريسَ
(5)
.
وقال بعضُهم: هي اسمٌ للسورةِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1437 (8204) من طريق ابن جريج به مقتصرًا على قوله: {المص} . قال ابن جريج: قلت: ألم تكن تقول: هي أسماء؟ قال: لا.
(2)
أخرجه النحاس في معاني القرآن 1/ 75 من طريق سفيان عن خصيف أو غيره، عن مجاهد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 56 عن الثوري به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 23 إلى ابن المنذر وأبي الشيخ. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 2/ 52.
(4)
في ص، ت 1:"الحسين".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33 (51) من طريق حجاج به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: أنْبَأنا عبدُ اللَّهِ بنُ وهبٍ، قال: سأَلْتُ عبدَ الرحمنِ بنَ زيدِ بنِ أسْلَمَ عن قولِ اللَّهِ: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، و {الم (1) تَنْزِيلُ} ، و {المر تِلْكَ}. فقال: قال أبي: إنما هي أسماءُ السُّوَرِ
(1)
.
وقال بعضُهم: هو اسمُ اللَّهِ الأعظمُ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ، قال: حدَّثنا شعبةُ، قال: سأَلْتُ السُّدِّيَّ عن {حمَ} و {طسَم} و {الم} . فقال: قال ابنُ عباسٍ: هي اسمُ اللَّهِ الأعظمُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثني أبو النُّعْمانِ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ، عن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، قال: قال عبدُ اللَّهِ. فذكَر نحوَه
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، عن عُبَيدِ
(4)
اللَّهِ بنِ موسى، عن إسماعيلَ، عن الشعبيِّ، قال: فَواتحُ السُّوَرِ مِن أسماءِ اللَّهِ
(5)
.
وقال بعضُهم: هو قَسَمٌ أقْسَم اللَّهُ به، وهو مِن أسمائِه.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33 عقب الأثر (50) معلقًا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 32 (44) من طريق يحيى بن عباد، عن شعبة، عن السدي، قال: بلغني عن ابن عباس.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 260 من طريق السدي به. وقال: صحيح على شرط مسلم.
(4)
في ص، ت 2:"عبد".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 32 (47) من طريق إسماعيل بن سالم، عن الشعبي بلفظ: هي =
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يحيى بنُ عثمانَ بنِ صالحٍ السَّهْميُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: هو قَسَمٌ [أقْسَمه اللَّهُ]
(1)
، وهو مِن أسماءِ اللَّهِ
(2)
.
وحدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا خالدٌ الحَذَّاءُ، عن عكرمةَ، قال:{الم} قسَمٌ
(3)
.
وقال بعضُهم: هو حروفٌ مُقَطَّعةٌ مِن أسماءٍ وأفعالٍ، كلُّ حرفٍ مِن ذلك لمعنًى غيرِ معنى الحرفِ الآخرِ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا وَكيعٌ، وحدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا [أبي، عن شَريكٍ]
(4)
، عن عطاءِ بنِ السائبٍ، عن أبي الضُّحَى، عن ابنِ عباسٍ:
= اسم من أسماء اللَّه مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسما من أسماء اللَّه.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 22 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، مطولا.
ورُوي عن الشعبي أنه قال: سر هذا القرآن فواتح السور. كما سيأتي.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (169) من طريق محمد بن سليمان، عن عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي: فواتح السور من أسماء الله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 22 إلى أبي الشيخ والبيهقي عن السدي.
(1)
في م: "أقسم اللَّه به".
(2)
أخرجه النحاس في معاني القرآن 1/ 74، وابن مردويه - كما في تخريج أحاديث الكشاف 1/ 34، والبيهقي في الأسماء والصفات (163) من طريق عبد اللَّه بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 22، 3/ 67 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33 (52) من طريق ابن علية به.
(4)
في م: "ابن أبي شريك".
{الم} . قال: أنا اللَّهُ أعلمُ
(1)
.
وحُدِّثْتُ عن أبي عُبيدٍ، قال: حدَّثنا أبو اليَقْظانِ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: قوله: {الم} . قال: أنا اللَّهُ أعلمُ
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ الهَمْدانيُّ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ القَنَّادُ، قال: حدَّثنا أسْباطُ بنُ نصرٍ، عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{الم} قال: أما {الم} فهو حروفٌ
(3)
اشْتُقَّ مِن حُروفِ هِجاءِ أسماءِ اللَّهِ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ مَعْمَرٍ، قال: حدَّثنا عَيَّاشُ
(5)
بنُ زيادٍ الباهليُّ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{الم} ، و {حمَ]، و {ن} قال: اسمٌ مُقَطَّعٌ
(6)
.
(1)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 22 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 32 (43).
وأخرجه النحاس في القطع والائتناف ص 111، وفي معاني القرآن 1/ 73، والبيهقي في الأسماء والصفات (167) من طريق شريك به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 22، 3/ 67 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.
(2)
ذكره النحاس في معاني القرآن 1/ 73 عن أبي اليقظان به. وينظر تفسير البغوي 1/ 58. وأبو اليقظان - هو عمار بن محمد - صدوق يخطئ.
(3)
في م، والأسماء والصفات:"حرف".
(4)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (168) من طريق عمرو بن حماد به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 32 (45) من طريق عمرو به، عن السدي من قوله. وسقط منه ذكر أسباط.
(5)
في ص، م:"عباس". والمثبت موافق لما في تفسير ابن أبي حاتم.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 32 (48) من طريق محمد بن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 22 إلى ابن مردويه. وذكره البغوي في تفسيره 1/ 59 عن سعيد قوله.
وقال بعضُهم: هي حروفُ هِجاءٍ موضوعٍ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن منصورِ بنِ أبي نُوَيْرةَ، قال: حدَّثنا أبو سعيدٍ المُؤَدِّبُ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهدٍ، قال: فَواتحُ السورِ كلُّها: {ق} و {ص} و {حم} و {طسم} و {الر} وغيرُ ذلك هِجاءٌ موضوعٌ
(1)
.
وقال بعضُهم: هي حروفٌ يَشْتَمِلُ كلُّ حرفٍ منها على معانٍ شتَّى مختلفةٍ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي جعفرٍ الرازيِّ، قال: حدَّثني أبي، عن الربيعِ بنِ أنسٍ في قولِ اللَّهِ:{الم} . قال: هذه الأحرفُ مِن التسعةِ والعشرين حرفًا، دارَت فيها الألسُنُ كلُّها، ليس منها حرفٌ إلا وهو مِفتاحُ اسمٍ مِن أسمائِه، وليس منها حرفٌ إلا وهو في آلائِه وبلائِه، وليس منها حرفٌ إلا وهو في
(2)
مدةِ قومٍ وآجالِهم. وقال عيسى ابنُ مريمَ، وعجِب
(3)
: يَنْطِقون في أسمائِه، ويَعِيشون في رزقِه، فكيف يَكْفُرون به
(4)
؟ قال: الألفُ مِفتاحُ اسمِه اللَّهِ، واللامُ مِفتاحُ اسمِه لطيفٍ، والميمُ مِفْتاحُ اسمِه مَجيدٍ؛ الألفُ آلاءُ اللَّهِ، واللامُ لُطْفُه، والميمُ مَجْدُه؛ الألِفُ سَنةٌ، واللامُ ثلاثون سنةً، والميمُ أربعون سنةً
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 23 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، م:"عجيب".
(4)
زيادة من: ر.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33، 2/ 584 عقب الأثر (33/ 3118) من طريق ابن أبي جعفر به =
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بنحوِه.
وقال بعضُهم: هي حروفٌ مِن حسابِ الجُمَّلِ
(1)
. كرِهْنا ذكرَ الذي حُكِي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممَّن لا يُعْتَمَدُ على روايتِه ونقلِه، وقد مَضَتِ الروايةُ بنظيرِ ذلك مِن القولِ عن الربيعِ بنِ أنسٍ.
وقال بعضُهم: لكلِّ كتابٍ سرٌّ، وسرُّ القرآنِ فَواتحُه
(2)
.
وأما أهلُ العربيةِ فإنهم اختَلَفوا في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: هي حُروفٌ مِن حروفِ المُعْجَمِ، اسْتُغْنِي بذكْرِ ما ذُكِر منها في أوائلِ السورِ عن ذكرِ بَواقِيها
(3)
التي هي تَتِمَّةُ الثمانيةِ والعشرين حرفًا، كما اسْتَغْنَى المُخبِرُ عمَّن أخْبَرَ عنه أنه في حروفِ المعجمِ الثمانيةِ والعشرين بذكرِ "أ ب ت ث" عن ذكرِ بَواقي حروفِها التي هي تَتِمَّةُ الثمانيةِ والعشرين، قال: ولذلك رُفِع {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لأن معنى الكلامِ:
= وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 22 إلى عبد بن حميد عن الربيع مقتصرًا على قوله: ألف مفتاح
…
مجيد. وعزاه السيوطي 1/ 23 إلى المصنف، وابن أبي حاتم عن أبي العالية. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 33، 2/ 584 (33، 3118) من طريق أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية. ولم يذكر في الدر المنثور قول عيسى عليه السلام. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 57.
(1)
حساب الجمَّل: ضرب من الحساب يجمل فيه لكل حرف من الحروف الأبجدية عدد من الواحد إلى الألف على ترتيب خاص. الوسيط (ج م ل).
(2)
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ - كما في الدر المنثور 1/ 23 - عن داود بن أبي هند قال: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، قال يا داود، إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما بدا لك.
(3)
بعده في ص: "منها".
الألفُ واللامُ والميمُ مِن الحروفِ المُقَطَّعةِ، ذلك الكتابُ الذي أنْزَلْتُه إليك مجموعًا لا ريبَ فيه.
فإن قال قائلٌ: فإن "أ ب ت ث" قد صارت كالاسمِ في حروفِ الهِجاءِ، كما صارتِ "الحمدُ" اسمًا لفاتحةِ الكتابِ؟
قيل له: لمَّا كان جائزًا أن يقولَ القائلُ: ابني في "ط ظ". وكان معلومًا بقِيلِه ذلك لو قاله أنه يُرِيدُ الخبرَ عن ابنه أنه في الحروفِ المُقَطَّعةِ، عُلم بذلك أن "أ ب ت ث" ليس لها باسمٍ، وإن كان ذلك آثرَ
(1)
في الذكرِ مِن سائرِها.
قال: وإنما خُولِف بينَ ذكْرِ حروفِ المُعْجَمِ في فَواتِحِ السورِ، فذُكِرَت في أوائلِها مختلفةً، وذِكْرِها إذا ذُكِرَت بأوائلِها التي هي "أ ب ت ث" مُؤْتَلِفةً، ليَفْصِلَ بينَ الخبرِ عنها إذا أُرِيد، بذكرِ ما ذُكِر منها مُخْتلِفًا، الدلالةُ على الكلامِ المتصلِ، وإذا أُرِيد بذكرِ ما ذُكِر منها مُؤْتَلِفًا الدلالةُ على الحروفِ المُقَطَّعةِ بأعيانِها.
واسْتَشْهَد لإجازةِ قولِ القائلِ: ابني في "ط ظ". وما أشبهَ ذلك مِن الخبرِ عنه أنه في حروفِ المعجمِ، وأن ذلك مِن قيلِه في البيانِ يقومُ مَقامَ قولِه: ابني في "أ ب ت ث" برَجَزِ بعضِ الرُّجَّازِ مِن بني أسدٍ
(2)
:
لمَّا رأيْتُ [أمرَها في حُطِّي]
(3)
(1)
في م: "يؤثر".
(2)
الأبيات الثلاثة الأول في تهذيب اللغة 10/ 281، واللسان (ف ن ك).
(3)
في اللسان، ونسخة من تهذيب اللغة:"أنها في خطى".
وفَنَكَتْ
(1)
في كَذِبي
(2)
ولَطِّي
(3)
أخذْتُ منها بقُرونٍ
(4)
شُمْطِ
(5)
فلم يَزَلْ ضَرْبي
(6)
بها ومَعْطِي
(7)
حتى علَا الرأسَ دمٌ يُغَطِّي
فزعَم أنه أراد بذلك الخبرَ عن المرأةِ أنها في "أبي جاد"، فأقام قولَه:
لما رأيتُ أمرَها في حُطِّي
مُقامَ خبرِه عنها أنها في "أبي جاد"، إذ كان ذلك مِن قولِه يَدُلُّ سامعَه على ما يَدُلُّه عليه قولُه: لما رأيْتُ أمرَها في "أبي جاد".
وقال آخرون: بل ابْتُدئَت بذلك أوائلُ السورِ ليَفْتَحَ لاستماعِه أسماعَ المشركين، إذ تواصَوْا بالإعراضِ عن القرآنِ، حتى إذا اسْتَمَعوا له تُلِي عليهم المؤلَّفُ منه.
وقال بعضُهم: الحروفُ التي هي فَواتحُ السورِ حروفٌ يَسْتَفْتِحُ اللَّهُ بها كلامَه.
[وقال]
(8)
: فإن قيل: هل يكونُ مِن القرآنِ ما ليس له معنًى؟ فإن
(9)
معنى هذا
(1)
فنك في الكذب: مضى ولجَّ فيه. اللسان (ف ن ك).
(2)
في ص: "كدى"، وفي ت 2:"كيدى"، وفي نسخة من تهذيب اللغة:"كدنى".
(3)
لط حقه: جحده. اللسان (ل ط ط).
(4)
القرن: الخصلة من الشعر. اللسان (ق ر ن).
(5)
الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض. اللسان (ش م ط).
(6)
في ص: "صوني".
(7)
المعط: الجذب. اللسان (م ع ط).
(8)
سقط من: م، وفي ت 2:"وقال آخرون".
(9)
كذا في النسخ، ولعل صوابها:"قيل".
أنه ابتدَأ
(1)
بها ليُعْلَمَ أن السورةَ التي قبلَها قد انْقَضَت، وأنه قد أخَذ في أخرى، فجعَل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينَهما، وذلك في
(2)
كلامِ العربِ، يُنْشِدُ الرجلُ منهم الشعرَ، فيقولُ
(3)
:
بل * وبَلدةٍ ما الإنسُ مِن آهالِها
ويقولُ
(4)
:
لا بَل * ما هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا
و"بل" ليست مِن البيتِ ولا تُعَدُّ في وزنِه، ولكن يَقْطَعُ بها كلامًا ويَسْتَأْنِفُ الآخرَ.
قال أبو جعفرٍ: ولكلِّ قولٍ مِن الأقوالِ التي قالها الذين وصَفْنا قولَهم في ذلك وجهٌ معروفٌ.
فأما الذين قالوا: {الم} اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ، فلقولِهم ذلك وجهان:
أحدُهما: أن يَكونوا أرادوا أن {الم} اسمٌ للقرآنِ، كما الفُرقانُ اسمٌ له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويلُ قولِه:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} على معنى القَسَمِ، كأنه قال: والقرآنِ، هذا الكتابُ لا ريبَ فيه.
والآخرُ منهما: أن يَكُونوا أرادوا أنه اسمٌ مِن أسماءِ السورةِ
(5)
تُعْرَفُ به، كما
(1)
في م: "افتتح".
(2)
سقط من: ر.
(3)
اللسان (أ هـ ل) غير منسوب.
(4)
الرجز للعجاج في ديوانه ص 348.
(5)
بعده في م: "التي".
تُعْرَفُ سائرُ الأشياءِ بأسمائِها التي هي لها أماراتٌ [تُعْرَفُ بها]
(1)
، فيَفْهَمُ السامعُ مِن القائلِ يقولُ: قرأْتُ اليومَ {المص} و {ن} . أي السورةَ التي قرَأَها مِن سُورِ القرآنِ، كما يَفْهَمُ عنه إذا قال: لقيتُ اليومَ عَمْرًا وزيدًا. وهما بزيدٍ وعمرٍو عارفان - مَن الذي لقِي مِن الناسِ.
وإن أشْكَل معنى ذلك على امرئٍ، فقال: وكيف
(2)
يَجوزُ أن يكونَ ذلك كذلك، ونَظائز {الم} {الر} في القرآنِ جماعةٌ مِن السورِ، وإنما تكونُ الأسماءُ أماراتٍ إذا كانت مُميِّزةً بينَ الأشخاصِ، فأما إذا كانت غيرَ مُميِّزةٍ فليست أماراتٍ؟
قيل: إن الأسماءَ وإن كانت قد صارت لاشتراكِ كثيرٍ مِن الناسِ في الواحدِ منها، غيرَ مميِّزَةٍ إلَّا بمَعانٍ أُخَرَ معها؛ مِن ضَمِّ نسبةِ المُسَمَّى بها إليها، أو نعتِه أو وصفِه بما يُفَرِّقُ بينَه وبينَ غيرِه مِن أشكالِها، فإنها وُضِعَت
(3)
ابْتِداءً للتمييزِ لا شكَّ، ثم احْتِيج عندَ الاشتراكِ إلى المَعاني المُفَرِّقةِ بينَ المُسَمَّى بها، فكذلك ذلك في أسماءِ السورِ، جُعِل كلُّ اسمٍ - في قولِ قائلِ هذه المَقالةِ - أمارةً للمُسَمَّى به مِن السورِ، فلما شارَك المُسَمَّى به فيه غيرَه مِن سُورِ القرآنِ، احتاج المُخْبِرُ عن سورةٍ منها أن يَضُمَّ إلى اسمِها المُسَمَّى به مِن ذلك إلى
(4)
ما يُفَرِّقُ به السامعُ
(5)
بينَ الخبرِ عنها وعن غيرِها مِن نعتٍ وصفةٍ أو غيرِ ذلك، فيَقُولُ المُخْبِرُ عن نفسِه أنه تلا سورةَ البقرةِ، إذا سماها باسمِها الذي هو {الم}: قرأتُ {الم} البقرة. وفي آلِ عِمْرانَ: قرأتُ
(1)
في ص: "تعرفونها"، وفي ر:"يعرفن"، وفي ت 2:"يعرفونها".
(2)
بعده في م: "و".
(3)
في ص: "وصفت".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م، ت 2:"للسامع".
{الم} آل عمران. أو
(1)
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} . و {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . كما لو أراد الخبرَ عن رجلين، اسمُ كلِّ واحدٍ منهما عمرٌو، غيرَ أن أحدَهما تَميميٌّ والآخرَ أزْديٌّ، لَلزِمه أن يقولَ لمن أراد إخبارَه عنهما: لقِيتُ عمرًا التميميَّ وعمرًا الأزديَّ. إذا
(2)
كان لا يفرِّق
(3)
بينَهما وبينَ غيرِهما ممَّن يُشارِكُهما في أسمائِهما إلا نسبتُهما
(4)
كذلك، فكذلك ذلك في قولِ مَن تأوَّل في الحروفِ المُقَطَّعةِ أنها أسماءٌ للسورِ.
أما الذين قالوا: ذلك فَواتِحُ يَفْتَتِحُ اللَّهُ عز وجل بها كلامَه. فإنهم وجَّهوا ذلك إلى نحوِ المعنى الذي حكَيْنا عمَّن حكَيْنا ذلك عنه مِن أهلِ العربيةِ أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انْقِضاءِ سورةٍ وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاعِ ما بينَهما. كما جُعِلَت "بل" في ابتداءِ قصيدةٍ دلالةً على ابتداءٍ فيها وانقضاءِ أخرى قبلَها، كما ذكَرْنا عن العربِ إذا أرادوا الابتداءَ في إنشادِ قصيدةٍ قالوا:
بل * ما هاج أحْزانًا وشجْوًا قد شَجَا
و"بل" ليست مِن البيتِ ولا داخلةً في وزنِه، ولكن ليَدُلَّ به على قطعِ كلامٍ وابتداءِ آخرَ.
وأما الذين قالوا: ذلك حروفٌ مُقَطَّعةٌ، بعضُها مِن أسماءِ اللَّهِ عز وجل، وبعضُها مِن صفاتِه، ولكلِّ حرفٍ مِن ذلك معنًى غيرُ معنى الحرفِ الآخرِ. فإنهم
(1)
في ر، م:"و".
(2)
في م، ت 2:"إذ".
(3)
في م، ت 2:"فرق".
(4)
في ر، م:"بنسبتهما"، وفي ت 2:"بتسميتهما".
نحَوْا بتأويلِهم ذلك نحوَ قولِ الشاعرِ
(1)
:
قلْنا لها قِفِي لنا
(2)
قالت قافْ
لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينا الإيجافْ
(3)
يعني بقولِه: قالت قاف. قالت
(4)
: وقَفْتُ. فدَّلت بإظهارِ "القافِ" مِن "وقَفْتُ" على مُرادِها مِن تَمامِ الكلمةِ التي هي: "وقَفْتُ". فصرَفوا قولَه: {الم} . وما أشبهَ ذلك إلى نحوِ هذا المعنى، فقال بعضُهم: الألفُ ألفُ أنا، واللامُ لامُ اللَّهِ، والميمُ ميمُ أعْلَمُ، وكلُّ حرفٍ منهن دالٌّ على كلمةٍ تامةٍ. قالوا: فجملةُ هذه الحروفِ المُقَطَّعةِ إذا ظهَر مع كلِّ حرفٍ منهن تَمامُ حروفِ الكلمةِ: أنا اللَّهُ أعلمُ. قالوا: وكذلك سائرُ جميعِ ما في أوائلِ سُورِ القرآنِ مِن ذلك، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويلِ. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلامِ العربِ أن يَنْقُصَ المتكلمُ منهم مِن الكلمةِ الأحرفَ إذا كان فيما بقِي دلالةٌ على ما حذَف منها، ويَزيدَ فيها ما ليس منها إذا لَمْ تكُنِ الزيادةُ مُلبِسةً معناها على سامعِها، كحذفِهم في النقصِ في الترخيمِ مِن حارثٍ الثاءَ، فيقولون: يا حارِ. ومِن مالكٍ الكافَ، فيقولون: يا مالِ. وما أشْبَهَ ذلك. وكقولِ راجزِهم
(5)
:
ما لِلظَّليمِ
(6)
عالَ
(7)
كيف لا يا
(1)
الرجز للوليد بن عقبة في شرح شواهد الشافية ملحق بالشافية 4/ 271. والأول منه في الصاحبي ص 161.
(2)
سقط من: م.
(3)
الإيجاف: حثّ الدابة على سرعة السير. اللسان (و جـ ف).
(4)
بعده في م: "قد".
(5)
الرجز في تهذيب اللغة 15/ 670، واللسان (يا)، وشرح شواهد الشافية 4/ 267.
(6)
الظليم: ذكر النعام. اللسان (ظ ل م).
(7)
في تهذيب اللغة واللسان: "عاك". وفسر الشيخ شاكر "عال" بأنها دعاء عليه من عال عوله: أي =
يَنْقَدُّ عنه جِلْدُه إذا يا
كأنه أراد أن يقولَ: إذا يَفعلُ كذا وكذا. فاكْتَفَى بالياءِ مِن "يَفْعَلُ". وكما قال آخرُ منهم
(1)
:
بالخيرِ خيراتٍ وإن شرًّا فَا
يريدُ: فشرًّا.
ولا أُرِيدُ الشرَّ إلا أن تا
يُريدُ: إلا أن تَشاءَ. فاكْتَفَى بالتاءِ والفاءِ في الكلمتَيْن جميعًا مِن سائرِ حروفِهما، وما أشبهَ ذلك مِن الشواهدِ التي يَطولُ الكتابُ باستيعابِه.
وكما حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ وابنِ عونٍ، عن محمدٍ، قال: لما مات يزيدُ بنُ معاويةَ قال لي عَبِيدَةُ
(2)
: إني لا أُراها إلا كائنةً فتنةً فافْزَعْ مِن ضَيْعَتِك، والْحَقْ بأهلِك. قلتُ: فما تَأْمُرُني؟ قال: أحَبُّ إليَّ
(3)
لك أنْ تا - قال أيوبُ وابنُ عونٍ بيدِهِ تحت خدِّه الأيمنِ يَصِفُ الاضطجاعَ - حتى تَرَى أمرًا تَعْرِفُه.
قال أبو جعفرٍ: يعني بـ "تا" تَضْطَجِع، فاجْتَزَأ بالتاءِ مِن "تَضْطَجِع". وكما قال الآخرُ في الزيادةِ في الكلامِ على النحوِ الذي وصَفْتُ
(4)
:
= ثكلته أمه. وفسرها محققو شرح شواهد الشافية بأنها من قولهم، عال عولا. بمعنى زاد في جريه. أما عاك فبمعنى كرّ. اللسان (ع و ك).
(1)
الكتاب 3/ 321 ونسبه في شرح شواهد الشافية 4/ 264 للقيم بن أوس.
(2)
في ص، م:"عبدة". وينظر تهذيب الكمال 19/ 266.
(3)
في ر: "التي".
(4)
تأويل مشكل القرآن ص 234، والصاحبي ص 380.
أقولُ إذْ خَرَّتْ على الكَلْكالِ
(1)
…
يا ناقتي ما جُلْتِ من مَجالِ
يريدُ: الكَلْكلَ. وكما قال الآخرُ
(2)
:
إنَّ شَكْلِي وإن شَكْلَك شَتَّى
…
فالْزَمي الخُصَّ واخْفِضِي
(3)
تَبْيَضِضِّي
(4)
فزاد ضادًا وليست في الكلمة.
قالوا: فكذلك ما نقَص مِن تمامِ حروفِ كلِّ كلمةٍ مِن هذه الكلماتِ التي ذكَرْنا أنَّها تَتِمَّةُ حروفِ {الم} ونظائرِها، نظيرُ ما نقَص مِن الكلامِ الذي حكَيْناه عن العربِ في أشعارِها وكلامِها.
وأما الذين قالوا: كلُّ حرفٍ مِن {الم} ونظائرِها دالٌّ على مَعانٍ شَتَّى - نحوَ الذي ذكرنا عن الربيع بنِ أنسٍ - فإنهم وجَّهوا ذلك إلى مثلِ الذي وجَّهه إليه مَن قال: هو بتأويل: أنا اللَّهُ أعلمُ. في أن كلَّ حرفٍ منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامةٍ اسْتُغْنِي بدَلالتِه على تَمامِه عن ذكرِ تمامِه - وإن كانوا له مخالفين في كلِّ حرفٍ مِن ذلك، أهو من الكلمةِ التي ادَّعَى أنه منها قائلو القولِ الأولِ أم مِن غيرِها؟ فقالوا: بل الألفُ مِن {الم} مِن كلماتٍ شَتَّى، هي دالةٌ على معاني جميعِ ذلك وعلى تمامِه. قالوا: وإنما أفْرد كلَّ حرفٍ مِن ذلك، وقصَّر به عن تمامِ حروفِ الكلمةِ، أن جميعَ حروفِ الكلمةِ لو أُظْهِرَت لم تَدُلَّ الكلمةُ التي تُظْهَرُ - التي
(5)
بعضُ هذه الحروفِ المُقَطَّعةِ بعضٌ لها - إلا على معنًى واحدٍ لا على معنيَيْن وأكثرَ منهما.
(1)
الكلكال: المصدر أو ما بين الترقوتين. القاموس المحيط (ك ل ل).
(2)
تأويل مشكل القرآن ص 235، واللسان (ب ي ض)، (خ ف ض).
(3)
الخفض: لين العيش وسعته. اللسان (خ ف ض).
(4)
أي: تبيضّي، من البياض، فزاد ضادًا أخرى ضرورة لإقامة الوزن. اللسان (ب ي ض).
(5)
سقط من: م.
قالوا: وإذ كان لا دلالةَ في ذلك، لو أظْهَر جميعَها
(1)
، إلا على معناها الذي هو معنًى واحدٌ، وكان اللَّهُ جلَّ ثناؤُه قد أراد الدلالةَ بكلِّ حرفٍ منها على مَعانٍ كثيرةٍ لشيءٍ واحدٍ - لَمْ يَجُزْ إلا أن يُفْرَدَ الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني، ليَعْلَمَ المخاطَبون به أنه جلَّ ثناؤه لم يَقْصِدْ قصدَ معنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيءٍ واحدٍ بما خاطَبَهم به، وأنه إنما قصَد الدلالةَ به
(2)
على أشياءَ كثيرةٍ.
قالوا: فالألفُ مِن {الم} مُقْتَضِيةٌ معانيَ كثيرةً؛ منها تمامُ اسمِ الربِّ الذي هو اللَّهُ، وتمامُ اسمِ نعماءِ اللَّهِ التي هي آلاءُ اللَّهِ، والدلالةُ على أجَلِ قومٍ أنه سَنَةٌ، إذ كانت الألفُ في حسابِ الجُمَّلِ واحدًا. واللامُ مُقْتَضِيةٌ تمامَ اسمِ اللَّهِ الذي هو لَطيفٌ، وتمامَ اسمِ فَضْلِه الذي هو لُطْفٌ، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه ثلاثون سنةً. والميمُ مُقْتَضِيةٌ تمامَ اسمِ اللَّهِ الذي هو مَجيدٌ، وتمامَ اسمِ عظمتِه التي هي مَجْدٌ، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه أربعون سنةً.
فكان معنى الكلامِ في تأويلِ قائلِ القولِ الأولِ، أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه افْتَتَح كلامَه بوَصْفِ نفسِه بأنه العالِمُ الذي لا يَخْفَى عليه شيءٌ، وجعَل ذلك لعبادِه مَنْهَجًا يَسْلُكونه في مُفْتَتحِ خُطَبِهم ورسائلِهم ومُهِمِّ أمورِهم، وابتلاءً منه لهم به
(2)
ليَسْتَوْجِبوا به عظيمَ الثوابِ في دارِ الجزاءِ، كما افْتَتَح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]. وما أشْبَهَ ذلك مِن السورِ التي جعَل مَفاتحَها الحمدَ لنفسِه، وكما جعَل مَفاتحَ بعضِها تعظيمَ نفسِه وإجلالَها بالتسبيحِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]. وما أشبهَ ذلك مِن سائرِ سُورِ القرآنِ التي جعَل مَفاتحَ بعضِها
(1)
في ص: "جميعا".
(2)
سقط من: م، ت 2.
تحميدَ نفسِه، ومفاتحَ بعضِها تمجيدَها، ومفاتحَ بعضِها تعظيمَها وتَنْزيهَها، فكذلك جعَل مفاتحَ السورِ الأُخَرِ التي أوائلُها بعضُ حروفِ المُعْجَمِ مدائحَ نفسِه أحيانًا بالعلمِ، وأحيانًا بالعدلِ والإنصافِ، وأحيانًا بالإفضالِ والإحسانِ، بإيجازٍ واختصارٍ، ثم اقتصاصَ الأمورِ بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويلِ يَجِبُ أن تكونَ الألفُ واللامُ والميمُ في أماكنِ الرفعِ مرفوعًا بعضُها ببعضٍ، دون قولِه:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، ويكونَ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، خبرًا
(1)
مبتدأً مُنْقطِعًا عن مَعنى {الم} وكذلك {ذَلِكَ} في تأويلِ قولِ قائلِ هذا القولِ الثاني مرفوعٌ بعضُه ببعضٍ، وإن كان مخالفًا معناه معنى قولِ قائلِ القولِ الأولِ.
وأما الذين قالوا: هنَّ حروفٌ مِن حروفِ حسابِ الجُمَّلِ دون ما خالَف ذلك مِن المعاني. فإنهم قالوا: لا نعرِفُ للحروفِ المُقَطَّعةِ معنًى يُفْهَمُ سوى حسابِ الجُمَّلِ، وسوى تَهَجِّي قولِ القائلِ:{الم} . قالوا: وغيرُ جائزٍ أن يُخاطِبَ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه عبادَه إلا بما يَفْهَمون ويَعقِلون عنه، فلما كان ذلك كذلك - وكان قولُه:{الم} . لا يُعْقَلُ لها وجهٌ تُوَجَّهُ إليه إلا أحدُ الوجهين اللذيْن ذكَرْنا، فبَطَل أحدُ وجهيْه، وهو أن يكونَ مُرادًا به تهجِّي:{الم} - صحَّ وثبَت أنه مرادٌ به الوجهُ الثاني، وهو حسابُ الجُمَّلِ؛ لأن قولَ القائلِ:{الم} . لا يَجوزُ أن يَلِيَه مِن الكلامِ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لاستحالةِ معنى الكلامِ وخروجِه عن المعقولِ إذا أُولِي {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ} .
واحْتَجُّوا لقولِهم ذلك أيضًا بما حدَّثنا به محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا
(1)
في م: "خبر".
سَلَمةُ بن الفضلِ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثني الكَلْبيُّ، عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ رِئابٍ، قال: مرَّ أبو ياسرِ بنُ أخْطَبَ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَتْلُو فاتحةَ
(1)
سورةِ البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} فأتَى أخاه حُيَيَّ بنَ أخْطَبَ في رجالٍ مِن يهودَ، فقال: تَعْلَمُون
(2)
واللَّهِ، لقد سمِعْتُ محمدًا يَتْلُو فيما أنْزَل اللَّهُ عليه {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} فقالوا: أنت سمِعْتَه؟ قال: نعم. فمشَى حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ في أولئك النفرِ مِن يهودَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمدُ، ألم يُذْكَرْ لنا أنك تَتْلُو فيما أُنْزِل عليك {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ}؟ فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"بَلَى" قالوا. أجاءك بها
(3)
جبريلُ مِن عندِ اللَّهِ؟ فقال: "نَعَمْ". قالوا: لقد بعَث اللَّهُ قبلَك أنبياءَ ما نَعْلَمُه بيَّن لنبيٍّ منهم ما مُدَّةُ مُلْكِه، وما أُكْلُ
(4)
أمَّتِه غيرَك. فقال حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ وأقبلَ على مَن كان معه، فقال لهم: الألفُ واحدةٌ، واللامُ ثلاثونَ، والميمُ أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنةً، أفتَدْخُلُونَ
(5)
في دينِ نبيٍّ إنما مدةُ مُلْكِه وأُكلُ
(6)
أُمَّتِه إحدى وسبعونَ سنةً؟ قال: ثم أقبلَ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، هل مع هذا غيرُه؟ قال:"نَعَمْ". قال: ماذا؟ قال: " {المص} ". قال: هذه أثقلُ وأطولُ؛ الألفُ واحدةٌ، واللامُ ثلاثون، والميم أربعون، والصادُ تسعون
(7)
، فهذه إحدى
(1)
بعده في ص: "الكتاب".
(2)
في سيرة ابن هشام: "تعلّموا". أي: اعلموا.
(3)
في ص، م:"بهذا".
(4)
في م، ت 2:"أجل". والأُكل: الرزق. ومنه قيل للميت: انقطع أكله. اللسان (أ ك ل). والمراد مدة الأمة التي يأكلون فيها رزقهم.
(5)
في م: "قال: فقال لهم: أتدخلون".
(6)
في م: "أجل".
(7)
في ر، ونسخة من سيرة ابن هشام:"ستون".
وستون
(1)
ومائةُ سنةٍ. هل مع هذا يا محمدُ غيرُه؟ قال: "نَعَمْ". قال: ماذا؟ قال: " {الر} ". قال: هذه أثقلُ وأطولُ؛ الألفُ واحدةٌ، واللامُ ثلاثون، والراءُ مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنةٍ. فهل
(2)
مع هذا غيرُه يا محمدُ؟ قال: "نَعَمْ، {المر} ". قال: فهذه أثقلُ وأطولُ؛ الألفُ واحدةٌ، واللامُ ثلاثون، والميمُ أربعون، والراءُ مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنةٍ. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمْرُك يا محمدُ حتى ما نَدْرِي أقليلًا أُعْطِيتَ أم كثيرًا. ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسرٍ لأخيه حُيَيِّ بنِ أخْطَبَ ولمن معه مِن الأحبارِ: ما يُدْرِيكم لعلَّه قد جُمِع هذا كلُّه لمحمدٍ؛ إحدى وسبعون، وإحدى وستون
(3)
ومائةٌ، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعُمائةٍ وأربعٌ [وثلاثون]
(4)
. فقالوا: لقد تَشابَه علينا أمرُه. فيَزْعُمون أن هؤلاء الآياتِ نزَلَت فيهم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
(5)
[آل عمران: 7].
قالوا: قد صرَّح
(6)
هذا الخبرُ بصحةِ ما قلنا في ذلك مِن التأويلِ وفسادِ ما قاله مُخالِفونا فيه.
(1)
في ت 2، ونسخة من سيرة ابن هشام:"ثلاثون". وهو مبني على التقدير السابق للصاد.
(2)
في ر، م، ت 2:"فقال: هل".
(3)
في ر: "ثلاثين"، وفي ت 2:"ثلاثون".
(4)
في ص، ر، ت 2، ونسخة من سيرة ابن هشام:"سنين".
(5)
أخرجه البخاري في التاريخ 2/ 208 معلقًا عن سلمة بن الفضل به. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 59، 60: حديث ضعيف
…
مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو مما لا يحتج بما انفرد به.
واختلف فيه على ابن إسحاق. ينظر تاريخ البخاري، وسيرة ابن هشام 1/ 545.
(6)
في ص: "صح".
والصوابُ عندي مِن القولِ في تأويلِ مَفاتحِ السورِ التي هي حروفُ المُعْجَمِ، أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه جعَلها حروفًا مُقَطَّعةً، ولم يَصِلْ بعضَها ببعضٍ فيَجْعَلَها كسائرِ الكلامِ المتَّصِلِ الحروفِ؛ لأنه عزَّ ذكرُه أراد بلطفِه
(1)
الدلالةَ بكلِّ حرفٍ منه على مَعانٍ كثيرةٍ لا على معنًى واحدٍ، كما قال الربيعُ بنُ أنسٍ، وإن كان الربيعُ قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويلِ ذلك عندي أن كلَّ حرفٍ منه يَحْوِي ما قاله الربيعُ وما قاله سائرُ المُفَسِّرِين غيرُه فيه، سوى ما ذكَرْتُ مِن القولِ عمَّن ذكَرْتُ عنه مِن أهلِ العربيةِ أنه كان يُوَجِّهُ تأويلَ ذلك إلى أنه حروفُ هِجاءٍ استُغْنِي بذكرِ ما ذُكِر منه في مَفاتحِ السورِ عن ذكْرِ تَتِمَّةِ الثمانيةِ والعشرين الحرفِ
(2)
مِن حروفِ المُعْجَمِ، بتأويلِ: أن هذه الحروفَ ذلك الكتابُ، مجموعةً، لا ريبَ فيه. فإنه قولٌ خطأٌ فاسدٌ، لخروجِه عن أقوالِ جميعِ الصحابةِ والتابعين فمن بعدَهم مِن الخالِفين
(3)
مِن أهلِ التفسيرِ والتأويلِ، فكفَى دلالةً على خطئِه شهادةُ الحُجَّةِ عليه بالخطإِ، مع إبطالِ قائلِ ذلك قولَه الذي حكَيْناه عنه - إذ صار إلى البيانِ عن رفعِ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} - بقولِه مرةً: إنه مرفوعٌ كلُّ واحدٍ منهما بصاحبِه. ومرةً أخرى: إنه مرفوعٌ بالراجعِ مِن ذكرِه في قولِه: {لَا رَيْبَ فِيهِ} . ومرةً بقولِه: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} . وذلك تركٌ منه لقولِه: إن {الم} مرافعةٌ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . وخروجٌ من القولِ الذي ادَّعاه في تأويلِ {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} . وأن تأويلَ ذلك: هذه الحروفُ ذلك الكتابُ.
(1)
في م: "بلفظه".
(2)
في ر: "الحروف"، وفي م:"حرفا".
(3)
في ص: "المخالفين".
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يَجوزُ أن يكونَ حرفٌ واحدٌ شاملًا الدلالةَ على معانٍ كثيرةٍ مختلفةٍ؟
قيل: كما جاز أن تكونَ كلمةٌ واحدةٌ تَشْتَمِلُ على مَعانٍ كثيرةٍ مختلفةٍ، نحوَ قولِهم للجماعةِ مِن الناسِ: أُمَّةٌ. وللحينِ مِن الزمانِ: أُمَّةٌ. وللرجلِ المُتَعَبِّدِ المُطيعِ للَّهِ: أُمَّةٌ. وللدِّينِ والمِلَّةِ: أُمَّةٌ. وكقولِهم للجَزاءِ والقِصاصِ: دِينٌ. وللسلطانِ والطاعةِ: دِينٌ. وللتَّذَلُّلِ: دينٌ. وللحسابِ: دِينٌ. في أشباهٍ لذلك كثيرةٍ يَطولُ الكتابُ بإحصائِها، مما يَكونُ مِن الكلامِ بلفظٍ واحدٍ، وهو مُشْتَمِلٌ على مَعانٍ كثيرةٍ، فكذلك قولُ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه:{الم} و {الر} و {المص} وما أشْبَه ذلك مِن حروفِ المُعْجَمِ التي هي فَواتحُ أوائلِ السورِ، كلُّ حرفٍ منها دالٌّ على معانٍ شَتَّى، شاملٌ جميعُها مِن أسماءِ اللَّهِ عز وجل وصفاتِه ما قاله المفسِّرُون مِن الأقوالِ التي ذكَرْناها عنهم، وهنَّ مع ذلك فَواتِحُ السورِ، كما قاله مَن قال ذلك، وليس كونُ ذلك مِن حروفِ أسماءِ اللَّهِ جل ثناؤُه وصفاتِه، بمانعِها أن تكونَ للسورِ فَواتحَ؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه قد افْتَتَح كثيرًا مِن سورِ القرآنِ بالحمدِ لنفسِه والثناءِ عليها، وكثيرًا منها بتَمْجيدِها وتعظيمِها، فغيرُ مستحيلٍ أن يَبْتَدِئَ بعضَ ذلك بالقَسَمِ بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحروفِ المعجمِ، أحدُ معاني أوائلِها أنهنَّ فَواتحُ ما افتَتح بهن مِن سُوَرِ القرآنِ، وهن مما أَقْسَمَ بهن؛ لأن أحدَ معانيهنَّ أنهنَّ مِن حروفِ أسماءِ اللَّهِ تعالى ذكْرُه وصفاتِه، على ما قدَّمْنا البيانَ عنها، ولا شكَّ في صحةِ معنى القسَمِ باللَّهِ وأسمائِه وصفاتِه. وهن مِن حروفِ حسابِ الجُمَّلِ، وهن للسورِ التي افْتُتِحَت بهن شِعارٌ وأسماءٌ، فذلك يَحْوِي مَعانيَ جميعِ ما [وصَفْنا مما]
(1)
بيَّنَّا مِن وُجوهِه؛ لأن
(1)
في ر: "ذكرنا ما".
اللَّهَ جلَّ ثناؤُه لو أراد بذلك أو بشيءٍ منه الدلالةَ على معنًى واحدٍ مما يَحْتَمِلُه
(1)
ذلك، دون سائرِ المعاني غيرِه، لأبان ذلك لهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إبانةً غيرَ مُشْكِلةٍ، إذ كان جلَّ ثناؤُه إنما أنْزَل كتابَه على رسولِه صلى الله عليه وسلم ليُبَيِّنَ لهم ما اخْتَلَفوا فيه، وفي تركِه صلى الله عليه وسلم إبانةَ ذلك أنه مرادٌ به مِن وُجوهِ تأويلِه البعضُ دون البعضِ - أوضحُ الدليلِ على أنه مرادٌ به جميعُ وجوهِه التي هو لها مُحْتَمِلٌ، إذ
(2)
لم يكنْ مُسْتَحِيلًا في العقلِ وجهٌ منها أن يَكونَ مِن تأويلِه ومعناه، كما كان غيرَ مستحيلٍ اجتماعُ المعاني الكثيرةِ للكلمةِ الواحدةِ باللفظِ الواحدِ في كلامٍ واحدٍ.
ومَن أبَى ما قلْناه في ذلك، سُئِل الفرْقَ بينَ ذلك وبينَ سائرِ الحروفِ التي تَأْتِي بلفظٍ واحدٍ، مع اشتمالِها على المعاني الكثيرةِ المختلفةِ، كالأُمَّةِ والدِّينِ وما أشْبَه ذلك مِن الأسماءِ والأفعالِ، فلن يقولَ في أحدِ
(3)
ذلك قولًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
وكذلك يُسْألُ كلُّ مَن تأوَّل شيئًا مِن ذلك على وجهٍ دن الأوجهِ الأُخَرِ التي وصَفْنا، عن البرهانِ على دَعْواه، من الوجهِ الذي يَجِبُ التسليمُ له، ثم يُعارَضُ بقولِ مُخالِفِه في ذلك، ويُسْألُ الفرقَ بينَه وبينَه، مِن أصلٍ، أو مما يَدُلُّ عليه أصلٌ. فلن يقولَ في أحدِهما قولًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
وأما الذي زعَم مِن النحويِّين أن ذلك نظيرُ "بل" في قولِ المُنْشِدِ شِعرًا
(4)
:
بل * ما هاج أحْزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنًى له، وإنما هو زيادةٌ في الكلامِ معناه الطَّرْحُ. فإنه أخْطَأ مِن
(1)
في ص، م:"لا يحتمله".
(2)
في ص: "إذا".
(3)
في ص: "واحد من".
(4)
تقدم في ص 215.
وُجوهٍ شَتَّى:
أحدُها: أنه وصَف اللَّهَ تعالى ذكرُه بأنه خاطَب العربَ بغيرِ ما هو مِن لغتِها، وغيرِ ما هو في لغةِ أحدٍ مِن الآدميِّين، إذ كانت العربُ وإن كانت قد كانت تَفْتَتِحُ أوائلَ إنشادِها ما أنْشَدَت مِن الشعرِ بـ "بل"، فإنه معلومٌ منها أنها لم تكنْ تَبْتَدِئُ شيئًا مِن كلامِها بـ {الم} و {الر} و {المص} [بمثلِ معنَى]
(1)
ابتدائِها ذلك بـ "بل". وإذ كان ذلك ليس مِن ابتدائِها، وكان اللَّهُ جلَّ ثناؤُه إنما خاطَبهم بما خاطَبهم به
(2)
مِن القرآنِ بما يَعْرِفون مِن لغاتِهم، ويَسْتَعْمِلون بينَهم مِن مَنْطِقِهم في جميعِ آيِه - فلا شكَّ أن سبيلَ ما وصَفْنا مِن حروفِ المُعْجَمِ التي افتُتِحت بها أوائلُ السورِ التي هن لها فَواتحُ، سبيلُ سائرِ القرآنِ في أنه لم يَعْدِلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارِفِين، ولها بينَهم في مَنْطِقِهم مُسْتَعْمِلين؛ لأن ذلك لو كان مَعْدولًا به عن سبيلِ لغاتِهم ومَنْطِقِهم، كان خارجًا عن معنى الإبانةِ التي وصَف اللَّهُ جلَّ ثناؤه بها القرآنَ، فقال:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]. وأنَّى يكونُ مُبِينًا ما لا يَعْقِلُه ولا يفهمُه
(3)
أحدٌ مِن العالمِين، في قولِ قائلِ هذه المقالةِ، ولا يُعْرَفُ في مَنْطِقِ أحدٍ مِن المخلوقين في قولِه؟ وفي إخبارِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه عنه أنه عربيٌّ مُبينٌ، ما يُكْذِبُ قائلَ
(4)
هذه المقالةِ، ويُنْبِئُ عنه أن العربَ كانوا به عالِمين، وهو لها مُسْتَبِينٌ، فذلك أحدُ أوجهِ خطئِه.
والوجهُ الثاني مِن خطئِه في ذلك: إضافتُه إلى اللَّهِ جلَّ ثناؤُه أنه خاطَب عبادَه بما
(1)
في ص، م، ت 2:"بمعنى".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "يفقهه".
(4)
سقط من: ص، م.
لا فائدةَ لهم فيه، ولا معنَى له مِن الكلامِ، الذي سواءٌ الخطابُ
(1)
به وتركُ الخطابِ به؛ وذلك إضافةُ العَبَثِ الذي هو مَنْفيٌّ في قولِ جميعِ المُوَحِّدين عن اللَّهِ، إلى اللَّهِ تعالى ذكرُه.
والوجهُ الثالثُ مِن خطئِه: أن "بل" في كلامِ العربِ مفهومٌ تأويلُها ومعناها، وأنها تُدْخِلُها في كلامِها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تقَضَّى، كقولِهم: ما جاءني أخوك، بل أبوك، وما رأيتُ عمرًا، بل عبدَ اللَّهِ. وما أشْبَه ذلك مِن الكلامِ، كما قال أعْشَى بني ثَعْلبةَ
(2)
:
ولَأَشْرَبَنَّ ثَمانِيًا وثَمانِيًا
…
وثلاثَ عشْرةَ واثنتَيْن وأربعَا
ومضَى في كلمتِه حتى بلَغ قولَه:
بالجُلَّسَانِ
(3)
وطَيِّبٍ أرْدانُه
(4)
…
بِالوَنِّ
(5)
يَضْرِبُ لي يَكُرُّ
(6)
الإصْبَعَا
ثم قال:
بل عَدِّ هذا في قَريضٍ غيرِه
…
واذكُرْ فتًى سَمْحَ الخَليقةِ أرْوَعا
فكأنه قال: دَعْ هذا، وخُذْ في قَريضٍ غيرِه. فـ "بل"
(7)
إنما يَأْتي في كلامِ العربِ على هذا النحوِ مِن الكلامِ. فأما افتتاحًا لكلامِها مُبْتَدَأً بمعنى
(1)
بعده في ص: "فيه".
(2)
البيتان الأولان في الشعر والشعراء 1/ 258.
(3)
الجلسان، فارسي معرب، يقال: إنه الورد. ويقال: قبة يصنعونها ويجعلون عليها الورد. المعرب ص 153، 154. والبيت فيه.
(4)
الأردان، جمع رُدْن: وهو كم القميص. اللسان (ر د ن).
(5)
الونُّ: الصنج الذي يضرب بالأصابع. اللسان (و ن ن).
(6)
في ر، م:"يكد".
(7)
في ص، ر، ت 2:"قيل".
التطويلِ
(1)
والحذفِ، مِن غير أن يَدُلَّ على معنًى، فذلك ما
(2)
لا نَعْلَمُ أحدًا ادَّعاه مِن أهلِ المعرفةِ بلسانِ العربِ ومَنْطِقِها، سوى الذي ذكَرْتُ قولَه، فيكونَ ذلك أصلًا يُشَبَّهُ به حُروفُ المُعْجَمِ التي هي فَواتحُ سورِ القرآنِ التي افْتُتِحَت بها، لو كانت له مُشْبِهةً، فكيف وهي مِن الشبهِ به بعيدةٌ؟
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} .
قال عامَّةُ المفسرين: تأويلُ قولِ اللَّهِ جلَّ ثناؤه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} : هذا الكتابُ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني هارونُ بنُ إدريسَ الأصَمُّ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المُحارِبيُّ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} . قال: هو هذا الكتابُ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخْبَرَنا خالدٌ الحَذَّاءُ، عن عكرمةَ، قال:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} : هذا الكتابُ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: حدَّثنا الحَكَمُ بنُ ظُهَيرٍ، عن السُّدِّيِّ في قولِه:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} . قال: هذا الكتابُ
(5)
.
(1)
في ص، ر:"البطول"، وفي ت 2:"التطول".
(2)
في م: "مما".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 60 عن مجاهد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33 (53) من طريق ابن علية به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 33 عقب الأثر (53) من طريق أسباط، عن السدي. وأخرجه =
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ قولَه:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} . قال: هذا الكتابُ. قال: وقال ابنُ عباسٍ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} : هذا الكتابُ
(1)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف يَجوزُ أن يكونَ {ذَلِكَ} بمعنى "هذا"؟ و"هذا" لا شكَّ إشارةٌ إلى حاضرٍ مُعايَنٍ، و {ذَلِكَ} إشارةٌ إلى غائبٍ غيرِ حاضرٍ ولا مُعايَنٍ؟
قيل: جاز ذلك؛ لأن كلَّ ما تقَضَّى [وقَرُب]
(2)
تَقَضِّيه من الإخبارِ، فهو وإن صار بمعنى غيرِ الحاضرِ، فكالحاضرِ عندَ المخاطَبِ، وذلك كالرجلِ يُحَدِّثُ الرجلَ الحديثَ، فيقولُ السامعُ: إن ذلك واللَّهِ لكما قلتَ. و: هذا واللَّهِ كما قلتَ. و: هو واللَّهِ كما ذكَرْتَ. فيُخْبِرُ عنه مرةً بمعنى الغائبِ، إذ كان قد تقَضَّى ومضَى، ومرةً بمعنى الحاضرِ، لقُرْبِ جوابِه مِن كلامِ مُخْبِرِه، كأنه غيرُ مُنْقَضٍ، فكذلك {ذَلِكَ} في قولِه:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} . لأنه جلَّ ذكرُه لما قدَّم قبلَ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} {الم} التي ذكَرْنا تصَرُّفَها في وجوهِها مِن المعاني على ما وصَفْنا، قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، هذا الذي ذكَرْتُه وبيَّنْتُه لك، الكتابُ. ولذلك حسُن وضعُ {ذَلِكَ} في مكانِ "هذا"؛ لأنه أُشِير به إلى الخبرِ عما تضَمَّنه قولُه {الم} مِن المعاني، بعدَ تقَضِّي الخبرِ عنه بـ {الم} فصار لقربِ الخبرِ عنه مِن تقَضِّيه، كالحاضرِ المشارِ إليه، فأخْبَر عنه بـ {ذَلِكَ} لانْقِضائِه، ومصيرِ الخبرِ عنه
= الحاكم 2/ 260 من طريق أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود. وقال: صحيح على شرط مسلم.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 60، وفتح القدير 1/ 33.
(2)
في ص: "بقرب"، وفي ر:"فقرب".
كالخبرِ عن الغائبِ. وترْجَمه المفسِّرون أنه بمعنى "هذا"؛ لقربِ الخبرِ عنه مِن انقضائِه، فكان كالمُشاهَدِ
(1)
المشارِ إليه بـ "هذا"، نحوَ الذي وصَفْنا مِن الكلامِ الجاري بينَ الناسِ في مُحاوراتِهم، وكما قال جلَّ ذكرُه:{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ} [ص: 48، 49]. فهذا ما في {ذَلِكَ} إذا عنى بها
(2)
"هذا".
وقد يَحْتَمِلُ قولُه جلَّ ذكرُه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . أن يكونَ مَعنِيًّا به السورُ التي نزَلَت قبلَ سورةِ البقرةِ بمكةَ والمدينةِ، فكأنه قال جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، اعْلَمْ أن ما تضَمَّنَتْه سورُ الكتابِ التي قد أنْزَلْتُها إليك هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه، ثم ترْجَمه المُفَسِّرون بأن معنى {ذَلِكَ}: هذا الكتابُ، إذ كانت تلك السورُ التي نزَلَت قبلَ سورةِ البقرةِ مِن جملةِ جميعِ كتابِنا هذا الذي أنْزَلَه اللَّهُ عز وجل على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وكان التأويلُ الأولُ أولى بما قال المُفَسِّرون؛ لأن ذلك أظهرُ معاني قولِهم الذي قالوه في: {ذَلِكَ} .
وقد وجَّه معنى {ذَلِكَ} بعضُهم إلى نظيرِ معنى بيتِ خُفَافِ بنِ نُدْبَةَ السُّلَميِّ
(3)
:
فإن تَكُ خَيْلى قد أُصِيب صَمِيمُها
…
فعَمْدًا على عَيْنٍ تيَمَّمْتُ مالِكَا
(4)
(1)
في ص، ر، ت 2:"كالشاهد".
(2)
في ر: "بهذا"، وفي ت 2:"به".
(3)
الأغاني 2/ 329، الخزانة 5/ 438 - 440. وسيأتي البيت الثاني في تفسير الآية 85 من سورة البقرة.
(4)
هو مالك بن حمار الفزاري. ينظر الأغاني 2/ 329.
أقولُ له والرُّمْحُ يَأْطِرُ
(1)
مَتْنَه
…
تأمَّلْ خُفافًا إنني أنا ذلِكا
كأنه أراد: تأمَّلْني أنا ذلك. فزَعَمَ
(2)
أن {ذَلِكَ الْكِتَابُ} بمعنى "هذا"[نظيرَ ما]
(3)
أظْهَر خُفافٌ مِن اسمِه على وجهِ الخبرِ عن الغائبِ، وهو مُخْبِرٌ عن نفسِه، فكذلك
(4)
أظْهَر {ذَلِكَ} بمعنى الخبرِ عن الغائبِ، والمعنى فيه الإشارةُ إلى الحاضرِ المُشاهَدِ.
والقولُ الأولُ أولى بتأويلِ الكتابِ؛ لما ذكَرْنا مِن العِلَلِ.
وقد قال بعضُهم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} يعني به التوراةَ والإنجيلَ
(5)
. وإذا وُجِّه تأويلُ {ذَلِكَ} إلى هذا الوجهِ، فلا مئونةَ فيه على مُتأوِّلِه كذلك؛ لأن {ذَلِكَ} يكونُ حينئذٍ إخبارًا عن غائبٍ على صحةٍ
القولُ في تأويلِ قولِه: {لَا رَيْبَ فِيهِ} .
وتأويلُ قولِه: {لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا شكَّ فيه.
كما حدَّثني هارونُ بنُ إدريسَ الأصمُّ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ المُحارِبيُّ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ:{لَا رَيْبَ فِيهِ} قال: لا شكَّ فيه
(6)
.
حدَّثني سَلَّامُ بنُ سالمٍ الخُزاعيُّ، قال: حدَّثنا خَلَفُ بنُ ياسِينَ الكوفيُّ،
(1)
أطر الشيء: عطفه وثناه. تاج العروس (أ ط ر).
(2)
في م: "فرأى".
(3)
في ص: "نظيره".
(4)
في م: "لذلك".
(5)
قال ابن كثير في تفسيره 1/ 67: ومن قال إن المراد بـ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} الإشارة إلى التوراة والإنجيل
…
فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24 إلى المصنف.
عن عبدِ العزيزِ بنِ أبي رَوَّادٍ
(1)
، عن عصاءٍ:{لَا رَيْبَ فِيهِ} قال: لا شكَّ فيه
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: حدَّثنا الحَكَمُ بنُ ظُهَيْرٍ، عن السديِّ، قال:{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا شكَّ فيه
(3)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ الهَمْدانيُّ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَرَه عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا رَيْبَ فِيهِ}: لا شكَّ فيه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدِ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا شكَّ فيه
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} . يقولُ: لا شكَّ فيه.
(1)
في ص: "داود". ينظر تهذيب الكمال 18/ 136.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 34 عقب الأثر (55) معلقًا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 34 عقب الأثر (55) من طريق أسباط عن السدي.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 61 عن السدي به. وأخرجه الحاكم 2/ 260 من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود. وقال: صحيح على شرط مسلم.
(5)
سيرة ابن هشام 1/ 530. وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 34 عقب الأثر (55) معلقًا. وأخرجه أيضًا 1/ 63 (234) - عند قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} - من طريق سلمة بن الفضل به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{لَا رَيْبَ فِيهِ} . يقولُ: لا شكَّ فيه
(1)
.
وحُدِّثت عن عَمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ قولَه:{لَا رَيْبَ فِيهِ} يقولُ: لا شكَّ فيه
(2)
.
وهو مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: رابَني الشيءُ يَرِيبُني رَيْبًا. ومِن ذلك قولُ ساعدةَ بنِ جُؤَيَّةَ الهُذَليِّ
(3)
:
فقالوا ترَكْنا الحَيَّ قد حصِروا به
…
فلا ريبَ أن قد كان ثَمَّ لَحيمُ
ويُرْوَى: حصَروا، وحصِروا. والفتحُ أكثرُ، والكسرُ جائزٌ. يعني بقولِه: حصروا به: أطافوا به. ويعني بقولِه: لا رَيْبَ: لا شكَّ. وبقولِه: أن قد كان ثَمَّ لَحيم. يعني قَتيلًا. يقالُ: قد لُحِم. إذا قُتل.
والهاءُ التي في {فِيهِ} عائدةٌ على الكتابِ، كأنه قال: لا شكَّ في ذلك الكتابِ أنه مِن عندِ اللَّهِ هُدًى للمُتَّقِين.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {هُدًى} .
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 34 عقب الأثر (55) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24 إلى عبد بن حميد. وعزاه أيضًا 1/ 35 في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} . إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 63 عقب الأثر (235) معلقًا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 34 عقب الأثر (55) من طريق ابن أبي جعفر به. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسرين.
(3)
ديوان الهذليين 1/ 232.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ الغفاريُّ، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن بَيَانٍ، عن الشعبيِّ:{هُدًى} قال: هُدًى مِن الضلالةِ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ بنُ نصرٍ، عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَرَه عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يقولُ: نورٌ للمتقين
(2)
.
والهُدى في هذا الموضعِ مصدرٌ مِن قولِك: هدَيْتُ فلانًا الطريقَ - إذا أرْشَدْتَه إليه، ودلَلْتَه عليه، وبَيَّنْتَه له - أَهْدِيه هُدًى وهِدايةً.
فإن قال لنا قائلٌ: أوَ ما كتابُ اللَّهِ نورًا إلا للمُتَّقِين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟
قيل: ذلك كما وصَفه ربُّنا عز وجل، ولو كان نورًا لغيرِ المتقين، ورَشادًا لغيرِ المؤمنين، لم يَخْصُصِ اللَّهُ عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يَعُمُّ به جميعَ المُنْذَرِين، ولكنه هُدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدورِ المؤمنين، ووَقْرٌ في آذانِ المكذِّبين، وعمًى لأبصارِ الجاحدين، وحجةٌ للَّه بالغةٌ على الكافرين، فالمؤمنُ به مُهْتدٍ، والكافرُ به محجوجٌ.
وقولُه: {هُدًى} يَحْتَمِلُ أوجهًا مِن المعاني:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 534 (57) من طريق أبي نعيم به. وأخرجه أيضًا 1/ 34 (56، 57) من طريقين عن سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24 إلى وكيع.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 61 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 34 (58) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي من قوله.
أحدُها: أن يكونَ نصبًا، لمعنى القطعِ
(1)
مِن {الْكِتَابُ} ؛ لأنه نكرةٌ و {الْكِتَابُ} معرفةٌ، فيكونُ التأويلُ حينئذٍ: الم ذلك الكتابُ هاديًا للمتقِين. و {ذَلِكَ} مرفوعٌ بـ {الم} ، و {الم} به، و {الْكِتَابُ} نعتٌ لـ {ذَلِكَ} .
وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ نصبًا على القطعِ مِن راجِعِ ذكرِ {الْكِتَابُ} الذي في {فِيهِ} فيكونُ معنى ذلك حينَئذٍ: الم الذي لا ريبَ فيه هاديًا.
وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ أيضًا نصبًا على هذيْن الوجهَيْن، أعْنِي على وجهِ القطعِ مِن الهاءِ التي في {فِيهِ} ، ومِن {الْكِتَابُ} على أن {الم} كلامٌ تامٌّ، كما قال ابنُ عباسٍ: إن معناه: أنا اللَّهُ أعلمُ. ثم يكونُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} خبرًا مُسْتَأْنَفًا، فيُرْفَعُ حينَئذٍ {الْكِتَابُ} بـ {ذَلِكَ} ، و {ذَلِكَ} بـ {الْكِتَابُ} ، ويكونُ {هُدًى} قطعًا مِن {الْكِتَابُ} ، وعلى أن يُرْفَعَ {ذَلِكَ} بالهاءِ العائدةِ عليه التي في {فِيهِ} ، و {الْكِتَابُ} نعتٌ له، والهدى قطعٌ مِن الهاءِ التي في {فِيهِ} . وإن جُعِل الهدى في موضعِ رفعٍ، لم يَجُزْ أن يكونَ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} إلا خبرًا مُسْتَأْنَفًا، و {الم} كلامًا تامًّا مكتفيًا بنفسِه، إلا مِن وجهٍ واحدٍ، وهو أن يُرْفَعَ حينئذٍ {هُدًى} بمعنى المدحِ، كما قال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه:(الم * تِلْكَ آياتُ الكتابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةٌ للمُحْسِنِينَ)[لقمان: 1 - 3]. في قراءةِ مَن قرَأ (رَحْمَةٌ) بالرفعِ على المدحِ للآياتِ
(2)
.
والرفعُ في {هُدًى} حينَئذٍ يَجوزُ مِن ثلاثةِ أوجهٍ؛ أحدُها: ما ذكَرْنا من أنه
(1)
يريد بالقطع هنا الحال. ينظر معاني القرآن 1/ 11، والمصطلح النحوي ص 170.
(2)
وهي قراءة حمزة وحده، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي، بالنصب. السبعة لابن مجاهد ص 512.
مدحٌ مُسْتَأْنَفٌ. والآخرُ: على أن يُجْعَلَ مُرافعَ
(1)
{ذَلِكَ} ، و {الْكِتَابُ} نعتٌ لـ {ذَلِكَ}. والثالثُ: أن يُجْعَلَ تابعًا لموضعِ {لَا رَيْبَ فِيهِ} ، ويكونَ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مرفوعًا بالعائدِ في {فِيهِ} ، فيكونَ كما قال تعالى ذكرُه:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92، 155].
وقد زعَم بعضُ المُتَقَدِّمِين في العلمِ بالعربيةِ مِن الكوفِيِّين
(2)
أن {الم} مرافعُ
(3)
{ذَلِكَ الْكِتَابُ} بمعنى: هذه الحروفُ مِن حروفِ المُعْجَمِ، ذلك الكتابُ الذي وعَدْتُك أن أُوحِيَه إليك. ثم نقَض ذلك مِن قولِه فأسْرع نَقْضَه، وهدَم ما بنَى فأسْرَع هَدْمَه، فزعَم أن الرفعَ في {هُدًى} مِن وجهَيْن، والنصبَ من وجهَيْن، وأن أحدَ وجهَيِ الرفعِ أن يكونَ {الْكِتَابُ} نعتًا لـ {ذَلِكَ} ، والهُدى في موضعِ رفعٍ خبرٌ
(4)
لـ {ذَلِكَ} ، كأنك قلتَ: ذلك هدًى
(5)
لا شكَّ فيه. قال: وإن جعَلْتَ {لَا رَيْبَ فِيهِ} خبرَه، رفَعْتَ أيضًا {هُدًى} بجعلِه تابعًا لموضع {لَا رَيْبَ فِيهِ} ، كما قال اللَّهُ جلَّ ثناؤه:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاه مُبَارَكٌ} كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى، مِن صفتِه كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهَيِ النصبِ، فأن تَجْعَلَ الكتابَ خبرًا لـ {ذَلِكَ} وتَنْصِبَ {هُدًى} على القطعِ؛ لأن {هُدًى} نكرةٌ اتَّصَلَت بمعرفةٍ، وقد تمَّ خبرُها فنصَبْتَها
(6)
؛ لأن النكرةَ لا تكونُ دليلًا على معرفةٍ، وإن شئتَ نصَبْتَ {هُدًى} على القطعِ مِن
(1)
في م، ت 2:" الرافع".
(2)
يعتي الفراء في معاني القرآن 1/ 10.
(3)
في م، ت 2:"رافع".
(4)
في ر: "خبرا".
(5)
سقط من النسخ، وأثبتناه من معاني القرآن.
(6)
في م: "فتنصبها".
الهاءِ التي في {فِيهِ} ، كأنك قلتَ: لا شكَّ فيه هاديًا.
قال أبو جعفرٍ: فترَك الأصلَ الذي أصَّله في {الم} وأنها مرفوعةٌ بـ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ونبَذه وراءَ ظهرِه، واللازمُ كان له على الأصلِ الذي أصَّله ألا يُجِيزَ الرفعَ في {هُدًى} بحالٍ إلا مِن وجهٍ واحدٍ، وذلك مِن قِبَلِ الاستئنافِ إذ كان مدْحًا. فأما على وجهِ الخبرِ لـ {ذَلِكَ} ، أو على وجهِ الاتباعِ لموضعِ {لَا رَيْبَ فِيهِ} ، فكان اللازمُ له على قولِه أن يكونَ خطأً، وذلك أن {الم} إذا رفَعَتْ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} فلا شكَّ أن {هُدًى} غيرُ جائزٍ حينئذٍ أن يكونَ خبرًا لـ {ذَلِكَ} بمعنى المرافعِ له، أو
(1)
تابعًا لموضع {لَا رَيْبَ فِيهِ} ؛ لأن موضعَه حينَئذٍ نصبٌ، لتمامِ الخبرِ قبلَه وانقطاعِه - بمُخالفتِه إياه - عنه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {لِلْمُتَّقِينَ
(2)}.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن الحسنِ قولَه:{لِلْمُتَّقِينَ} . قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرِض عليهم
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لِلْمُتَّقِينَ} . أي: الذين يَحْذَرُون مِن اللَّهِ عز وجل عقوبتَه في ترْكِ ما يَعْرِفون مِن الهُدَى، ويَرْجُون رحمتَه بالتصديقِ بما جاء منه
(4)
.
(1)
في ص، ت 2:"و".
(2)
إعراب القرآن لا يسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها عن التكلف، وأسوغها في لسان العرب، فكما أن كلام الله أفصح كلام، فكذلك إعرابه يجب أن يحمل على أفصح الوجوه،
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 61 عن سفيان الثوري به.
(4)
في ر، م:"به".
والأثر في سيرة ابن هشام 1/ 530، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 35 (62) من طريق سلمة به.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} : هم المؤمنون
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ، قال: سأَلني الأعمشُ عن "المتقين"، قال: فأجَبْتُه، فقال لي: سَلْ عنها الكَلْبيَّ. فسألْتُه فقال: الذين يَجْتَنِبون كبائرَ الإثمِ. قال: فرجَعْتُ إلى الأعمشِ، فقال: نُرَى
(2)
أنه كذلك. ولم يُنْكِرْه
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ الطبريُّ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ الله، قال: حدَّثنا عمرُ أبو حفصٍ، عن سعيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ، عن قَتادةَ:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} : مَن هم؟ نعَتَهم ووصَفَهم فأثْبَت صفتَهم، فقال:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ [بنُ عُمارةَ]
(5)
، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{لِلْمُتَّقِينَ} . قال:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 61 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24، 25 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 35 (63) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(2)
في ر: "ترى أي"، وفي ت 2:"يرى".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 62 عن أبي بكر بن عياش به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 35 (64) من طريق ابن أبي عروبة به.
(5)
في م: "بن عمار".
للمؤمنين الذين يتَّقُون الشركَ
(1)
ويَعْمَلون بطاعتي
(2)
.
وأوْلَى التأويلاتِ بقولِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} . تأويلُ مَن وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقَوُا اللَّهَ تبارك وتعالى في ركوبِ ما نهاهم عن ركوبِه، فتجَنَّبوا معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمَرَهم به مِن فرائضِه، فأطاعوه بأدائِها، وذلك أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه أبْهَم
(3)
وصفَهم بالتقْوَى، فلم يَحْصُرْ تَقْواهم إياه على [بعضِ ما هو جلَّ ثناؤه أهلٌ]
(4)
له
(5)
منهم دونَ بعضٍ، فليس لأحدٍ مِن الناسِ أن يَحْصُرَ معنى ذلك على وصْفِهم بشيءٍ مِن تقوى اللَّهِ عز وجل دون شيءٍ، إلا بحجةٍ يجبُ التسليمُ لها؛ لأن ذلك مِن صفةِ القومِ لو كان مَحْصورًا على خاصٍّ مِن معاني التقوى دونَ العامِّ
(6)
، لم يَدَعِ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه بيانَ ذلك لعبادِه، إما في كتابِه، وإما على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يَكُنْ في العقلِ دليلٌ على استحالةِ وصفِهم بعمومِ التقوى.
فقد تبَيَّن إذن بذلك فسادُ قولِ مَن زعَم أن تأويلَ ذلك إنما هو الذين اتَّقَوُا الشركَ وبرِئوا مِن النِّفاقِ؛ لأنه قد يكونُ كذلك وهو فاسقٌ غيرُ مُسْتَحِقٍّ أن يكونَ مِن المتَّقِين، إلا أن يكونَ عندَ قائلِ هذا القولِ معنى النفاقِ ركوبَ الفَواحِشِ التي حرَّمها اللَّهُ جل ثناؤُه، وتَضْييعَ فرائضِه التي فرَضها عليه، فإن جماعةً مِن أهلِ العلمِ قد كانت تُسَمِّي مَن كان كذلك
(7)
مُنافِقًا، فيكونَ،
(1)
بعده في ص: "بي"
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 61 عن أبي روق به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ص، وفي م:"إنما".
(4)
في ص، م:"بعضها من أهل".
(5)
زيادة يقتضيها السياق.
(6)
بعده في م: "منها".
(7)
في م: "يفعل ذلك".
وإن كان مُخالِفًا في تسميتِه مَن كان كذلك بهذا الاسمِ - مُصِيبًا تأويلَ قولِ اللَّهِ عز وجل: {لِلْمُتَّقِينَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} .
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} . قال: يُصَدِّقون
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ عثمانَ بنِ صالحٍ السَّهْميُّ، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يُؤْمِنُونَ} : يُصَدِّقون
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{يُؤْمِنُونَ} : يَخْشَوْن
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّنْعانيُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ ثَوْرٍ، عن مَعْمَرٍ، قال: قال الزُّهريُّ: الإيمانُ العملُ
(4)
.
وحُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن العَلاءِ بنِ المُسَيَّبِ بنِ رافعٍ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ، قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 25 إلى المصنف وابن إسحاق.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 62 عن علي بن أبي طلحة به.
(3)
في ر: "يخشعون".
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 62 من طريق أبي جعفر به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 62 عن معمر به.
الإيمانُ التصديقُ
(1)
.
ومعنى الإيمانِ عندَ العربِ التصديقُ، فيُدْعَى المُصَدِّقُ بالشيءِ قولًا مؤمنًا به، ويُدْعَى المُصَدِّقُ قولَه بفعلِه مؤمنًا، ومِن ذلك قولُ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]. يعني: وما أنت بمُصَدِّقٍ لنا في قولِنا. وقد تَدْخُلُ الخشيةُ للَّهِ في معنى الإيمانِ الذي هو تَصديقُ القولِ بالعملِ.
والإيمانُ كلمةٌ جامعةٌ للإقرارِ باللَّهِ وكتبِه ورسلِه، وتصديقِ الإقرارِ بالفعلِ. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويلِ الآيةِ وأشبهُ بصفةِ القومِ أن يَكُونوا موصُوفِين بالتصديقِ بالغيبِ قولًا واعتقادًا وعملًا؛ إذ كان جلَّ ثناؤُه لم يَحْصُرْهم مِن معنى الإيمانِ على معنًى دونَ معنًى، بل أجْمَل وصفَهم به، مِن غيرِ خُصوصِ شيءٍ مِن مَعانِيه أخْرَجَه من صفتِهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
القولُ في تأويلِ قولِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {بِالْغَيْبِ} .
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{بِالْغَيْبِ} . قال: بما جاء منه. يعني مِن اللَّهِ جلَّ ثناؤُه.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم {بِالْغَيْبِ}: أما "الغيبُ"، فما غاب عن العبادِ مِن أمرِ الجنَّةِ وأمرِ النارِ، وما
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 25 إلى المصنف مطولا.
ذكرَ اللَّهُ تبارك وتعالى في القرآنِ، لم يكنْ تصديقُهم بذلك - يعني المؤمنين من العربِ - مِن قِبَلِ [أصلِ كتابٍ]
(1)
أو عِلْمٍ كان عندَهم
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيريُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، قال: الغيبُ القرآنُ
(3)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ العَقَديُّ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ، عن قتادةَ في قولِه:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . قال: آمَنوا بالجنةِ والنارِ والبَعْثِ بعدَ الموتِ وبيومِ القيامةِ، وكلُّ هذا غيبٌ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمَّارِ بِنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ الله بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} : آمَنوا باللَّهِ وملائكتِه ورسلِه واليومِ الآخرِ وجنتِه ونارِه ولقائِه، وآمَنوا بالحياةِ بعدَ الموتِ، فهذا غيبٌ كلُّه
(5)
.
وأصلُ الغيبِ كلُّ ما غاب عنك مِن شيءٍ، وهو مِن قولِك: غاب فلانٌ يَغِيبُ غَيْبًا.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في أعيانِ القومِ الذين أنْزَل اللَّهُ جلَّ ثناؤُه هاتين الآيتَيْن
(1)
في ص: "أهل الكتاب".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 63 عن السدي به مختصرًا. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 35، 36 (65، 68) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله مختصرًا.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 25 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وإلى الطستي في مسائله عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له
…
فذكره مختصرًا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 36 (69) من طريق أبي أحمد الزبيري به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 25 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 25 إلى المصنف وابن أبي حاتم عن أبي العالية. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 36 (67) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 63 كذلك.
مِن أولِ هذه السورةِ فيهم، وفي نعتِهم وصفتِهم التي وصَفهم بها مِن إيمانِهم بالغيبِ وسائرِ المعاني التي حوَتْها الآيتان مِن صفاتِهم غيرَه؛ فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصةً، دونَ غيرِهم مِن مؤمني أهلِ الكتابينِ
(1)
.
واستَدَلُّوا على صحةِ
(2)
قولِهم ذلك وحقيقةِ تأويلِهم بالآيةِ التي تَتْلُو هاتين الآيتين، وهو قولُ اللَّهِ عز وجل:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} . قالوا: فلم يَكُنْ للعربِ كتابٌ قبلَ الكتابِ الذي أنْزَله اللَّهُ عز وجل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، تَدِينُ بتصديقِه والإقرارِ والعملِ به، وإنما كان الكتابُ لأهلِ الكتابَيْن غيرِها. قالوا: فلما قصَّ اللَّهُ جلَّ ثناؤه نبأَ الذين يُؤْمِنون بما أُنْزِل إلى محمدٍ وما أُنْزِل مِن قبلِه، بعدَ اقْتِصاصِه نبأَ المؤمنين بالغيبِ - علِمْنا أن كلَّ صِنْفٍ منهم غيرُ الصنفِ الآخَرِ، وأن المؤْمنين بالغيبِ نوعٌ غيرُ النوعِ المُصَدِّقِ بالكتابَيْن اللذَّيْن أحدُهما مُنَزَّلٌ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والآخرُ منهما على مَن قَبلَه [مِن رسلِ]
(3)
اللَّهِ عز وجل.
قالوا: وإذ كان ذلك كذلك، صحّ ما قلْنا مِن أن تأويلَ قولِ اللَّهِ تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . إنما هو
(4)
: الذين يُؤْمِنون بما غاب عنهم من الجنةِ والنارِ، والثوابِ والعقابِ، والبعثِ، والتصديقِ باللَّهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه، وجميعِ ما كانت العربُ لا تَدِينُ به في جاهليَّتِها، مما
(5)
أوْجَب اللَّهُ جلَّ ثناؤُه على
(1)
في ص، م:"الكتاب".
(2)
في ر: "حقيقة".
(3)
في ص: "رسول"، وفي ت 2:"من رسول".
(4)
في ص، ت 2:"هم".
(5)
في م: "بما".
عبادِه الدَّيْنُونةَ به، دونَ غيرِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أما {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فهم المؤمنون مِن العربِ، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: أما "الغيبُ"، فما غاب عن العبادِ مِن أمرِ الجنةِ والنارِ، وما ذكَر اللَّهُ في القرآنِ، لم يكُنْ تصديقُهم بذلك مِن قِبَلِ أصلِ كتابٍ أو علمٍ كان عندَهم {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} هؤلاء المؤمنون مِن أهلِ الكتابِ
(1)
.
وقال بعضُهم: بل نزَلَتْ هذه الآياتُ الأربعُ في مؤمني أهلِ الكتابِ خاصةً؛ لإيمانِهم بالقرآنِ عندَ إخبارِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه إياهم فيه عن الغُيوبِ التي كانوا يُخْفُونها بينَهم ويُسِرُّونها، فعلِموا عندَ إظهارِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيلِه أنه مِن عندِ اللَّهِ - جلَّ وعز -، فآمَنوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وصدَّقوا بالقرآنِ وما فيه مِن الإخبارِ عن الغيوبِ التي لا عِلْمَ لهم بها؛ لِما استقرَّ عندَهم بالحُجَّةِ التي احْتَجَّ اللَّهُ تبارك وتعالى بها عليهم في كتابِه، مِن الإخبارِ فيه عمَّا كانوا يَكْتُمونه مِن ضَمائرِهم - أن جميعَ ذلك مِن عندِ اللَّهِ.
وقال بعضُهم: بل الآياتُ الأربعُ مِن أولِ هذه السورةِ أُنْزِلَت على محمدٍ صلى الله عليه وسلم بوصفِ جميعِ المؤمنين الذين ذلك صفتُهم، مِن العربِ، والعجمِ، وأهلِ الكتابَيْن
(1)
ينظر ص 242.
سِواهم، وإنما هذه صفةُ صِنْفٍ مِن الناسِ، والمؤمنُ بما أنْزَل اللَّهُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما أُنْزِل مِن قبلِه هو المؤمنُ بالغيبِ.
قالوا: وإنما وصَفهم اللَّهُ بالإيمانِ بما أُنْزِل إلى محمدٍ وبما أُنْزِل إلى مَن قبلَه، بعدَ تقَضِّي وصفِه إياهم بالإيمانِ بالغيبِ؛ لأن وصفَه إياهم بما وصَفهم به مِن الإيمانِ بالغيبِ كان مَعْنِيًّا به أنهم يُؤْمنون بالجنةِ والنارِ والبعثِ وسائرِ الأمورِ التي كلَّفهم اللَّهُ جلَّ ثناؤُه الإيمانَ بها
(1)
، مما لم يَرَوْه ولم يَأْتِ بعدُ مما هو آتٍ، دونَ الإخبارِ عنهم أنهم يُؤْمنون بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم ومَن قبلَه مِن الرسلِ ومن
(2)
الكتبِ.
قالوا: فلما كان معنى قولِه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} . غيرَ موجودٍ في قولِه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . كانت الحاجةُ مِن العبادِ إلى معرفتِهم صفتَهم بذلك ليَعْرفوهم، نظيرَ حاجتِهم إلى معرفتِهم بالصفةِ التي وُصِفوا بها مِن إيمانِهم بالغيبِ؛ ليَعْلَموا ما يَرْضَى اللَّهُ مِن أفعالِ عبادِه، ويُحِبُّه مِن صفاتِهم، فيَكُونوا به
(3)
، إن وفَّقهم له ربُّهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرِو بنِ العباسِ
(4)
الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ الضَّحَّاكُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ مَيْمونٍ المَكِّيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال: أربعُ آياتٍ مِن سورةِ البقرة في نعتِ المؤمنين، وآيتان
(5)
في
(1)
في ر، ت 2:"به".
(2)
سقط من: م.
(3)
أي بهذا الوصف.
(4)
في ص: "العاص".
(5)
في ت 2: "اثنان"، وغير منقوطة في ص.
نعتِ الكافرين، وثلاثَ عشْرةَ في المنافقين
(1)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مُجاهدٍ بمثلِه
(2)
.
وحدَّثني [المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ]
(3)
، قال: حدَّثنا موسى بنُ مسعودٍ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(4)
.
وحُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، قال: أربعُ آياتٍ مِن فاتحةِ هذه السورةِ - يعني سورةَ البقرةِ - في الذين آمنوا، وآيتان
(5)
في قادةِ الأحْزابِ
(6)
.
وأولى القولين عندي بالصوابِ، وأشبهُهما بتأويلِ الكتابِ، القولُ الأولُ، وهو أن الذين وصَفَهم اللَّهُ تعالى ذِكرُه بالإيمانِ بالغيبِ، وما وصَفَهم به جلَّ ثناؤُه في الآيتين الأوَّلَتَيْن
(7)
، غيرُ الذين وصَفهم بالإيمانِ بالذي أُنْزِل على محمدٍ والذي أُنْزِل على
(8)
مَن قبلَه مِن الرسلِ؛ لما ذكَرْتُ مِن العللِ قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يَدُلُّ أيضًا مع ذلك على صحةِ هذا القولِ، أنه جَنَّس - بعدَ وصفِ المؤمنين
(1)
تفسير مجاهد ص 195، من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 23 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر. وينظر ما سيأتي في ص 276.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 23 إلى وكيع. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 67 عن الثوري به.
وهو في تفسير الثوري ص 41 من قوله.
(3)
في ص: "ابن المثنى".
(4)
أخرجه النحاس في القطع والائتناف ص 115 من طريق شبل به.
(5)
في ص، ت 2:"اثنان".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 24 إلى المصنف.
(7)
في ت 1، ت 2:"الأوليين".
(8)
في ر، م، ت 2:"إلى".
بالصفتَيْن اللتين وصَف، وبعدَ تَصْنيفِه كلَّ صنفٍ منهما على ما صنَّف الكفارَ - جنسين، فجعَل أحدَهما مطبوعًا على قلبِه، مختومًا عليه، مأْيوسًا مِن إيمانِه، والآخرَ منافقًا يُرائي بإظهارِ الإيمانِ في الظاهرِ، ويَسْتَسِرُّ النفاقَ في الباطنِ، فصيَّر الكفارَ جنسين، كما صيَّر المؤمنين في أولِ السورةِ جنسين، ثم عرَّف عبادَه نعتَ كلِّ صنفٍ منهم وصفتَهم، وما أعدَّ لكلِّ فريقٍ منهم مِن ثوابٍ أو عقابٍ، وذمَّ أهلَ الذمِّ منهم، وشكَر سعْيَ أهلِ الطاعةِ منهم.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} .
وإقامتُها أداؤُها بحدودِها وفروضِها والواجبِ فيها، على مَن فُرِضَت عليه، كما يقالُ: أقام القومُ سُوقَهم. إذا لم يُعَطِّلوها مِن البيعِ والشراءِ فيها. وكما قال الشاعرُ
(1)
:
أقَمْنا لأهلِ العراقَيْن
(2)
سُوقَ الضِّـ
…
ــرابِ فخاموا
(3)
وولَّوْا جميعَا
وكما حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} . قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفَرضِها
(4)
.
(1)
المحرر الوجيز 1/ 146.
(2)
العراقين: البصرة والكوفة.
(3)
في ص: "فجأمرا"، وفي م:"خاسوا".
وخاموا في الحرب: جبنوا. اللسان (خ ي م).
(4)
في ص، م:"بفروضها".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 74 (74) من طريق سلمة بن الفضل به.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} قال: إقامةُ الصلاةِ تمامُ الركوعِ والسجودِ، والتِّلاوةُ، والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا جُوَيْبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} : يعني الصلاةَ المفروضةَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {الصَّلَاةَ} .
وأما الصلاةُ في كلامِ العربِ فإنها الدعاءُ، كما قال الأعْشَى
(2)
:
لها حارسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها
…
وإن ذُبِحَت
(3)
صلَّى عليها وزَمْزَما
(4)
يعني بذلك: دعا لها. وكقولِه
(5)
الآخرِ أيضًا:
وقابَلَها الرِّيحَ في دَنِّها
(6)
…
وصلَّى على دَنِّها وارْتَسَمْ
(7)
وأرَى أن الصلاةَ المفروضةَ سُمِّيَت صلاةً؛ لأن المُصَلِّيَ مُتَعَرِّضٌ لاستنجاحِ
(8)
طَلِبتِه مِن ثوابِ اللَّهِ بعملِه، مع ما يَسْألُ ربَّه فيها مِن حاجاتِه، تَعَرُّضَ الداعي بدعائِه
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 27 إلى المصنف.
(2)
ديوانه ص 293.
(3)
يذكر الخمر في دنها، يقال: ذبحت الدن: أي بزلته. اللسان (ذ ب ح).
(4)
الزمزمة: تراطن العلوج عند الأكل وهم صموت، لا يستعملون اللسان ولا الشفة في كلامهم، لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها. اللسان (ز م م).
(5)
في ص، م، ت 2:"قول". والبيت في ديوان الأعشى ص 35.
(6)
الدن: وعاء ضخم للخمر ونحوها.
(7)
ارتسم الرجل: كبَّر ودعا. اللسان (ر س م).
(8)
في ص: "لاستخراج"، وفي ر، ت 2:"استنجاح".
ربَّه استنجاحَ حاجاتِه وسُؤْلِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(3)}.
اخْتَلَف المُفَسِّرون في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زِيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . قال: يُؤْتُون الزكاةَ احتسابًا لها
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى
(2)
، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . قال: زكاةَ أموالِهم
(3)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: أخْبَرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضحاكِ:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . قال: كانت النفقاتُ قُرْبانًا
(4)
يَتَقَرَّبون بها إلى اللَّهِ على قدرِ مَيْسورِهم وجُهْدِهم، حتى نزَلَت فرائضُ الصدقاتِ؛ سبعُ آياتٍ في سورةِ "براءة"، مما يُذْكَرُ فيهن الصدقاتُ، هن المُثْبَتاتُ الناسخاتُ
(5)
.
وقال بعضُهم بما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال:
(1)
في ر، م، ت 2:"بها".
والأثر في سيرة ابن هشام 1/ 530، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 37 (77) من طريق سلمة به.
(2)
في ص: "ابن المثنى".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 65 عن علي بن أبي طلحة به.
(4)
في م: "قربات".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 27 إلى المصنف.
حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَرَه عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعنِ مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : هي نفقةُ الرجلِ على أهلِه، وهذا قبلَ أن تَنْزِلَ الزكاةُ
(1)
.
وأولى التأويلاتِ بالآيةِ وأحقُّها بصفةِ القومِ، أن يَكونوا كانوا لجميعِ اللازمِ لهم في أموالِهم مُؤَدِّين؛ زكاةً كان ذلك أو نفقةَ مَن لزِمته نفقتُه مِن أهلٍ وعِيالٍ وغيرِهم، ممَّن تَجِبُ عليهم نفقتُه بالقَرابةِ والمِلْكِ وغيرِ ذلك؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناوُه عمَّ وصْفَهم، إذ وصَفهم بالإنفاقِ مما رزَقهم، فمدَحهم بذلك مِن صفتِهم، فكان معلومًا أنهم
(2)
إذ لم يَخْصُصْ مدْحَهم ووصْفَهم بنوعٍ مِن النفقاتِ المحمودِ عليها صاحبُها دونَ نوعٍ، بخبرٍ ولا غيرِه - أنهم مَوْصوفون بجميعِ معاني النفقاتِ المحمودِ عليها صاحبُها، مِن طيبِ ما رزَقهم ربُّهم مِن أموالِهم وأمْلاكِهم، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناوُه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} .
قد مضَى البيانُ عن المَنْعوتِين بهذا النعتِ، وأيُّ أجناسِ الناسِ هم، غيرَ أنَّا نَذْكُرُ ما رُوِي في ذلك عمن رُوِي عنه في تأويلِه قولٌ، فحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 65 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 27 إلى المصنف عن ابن مسعود دون آخره. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 38 (78) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(2)
في ص، م:"أنه".
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. أي: يُصَدِّقونك بما جئتَ به مِن
(1)
اللَّهِ - جلَّ وعزَّ -، وبما جاء به مَن قبلَك مِن المُرْسَلِين، لا يُفَرِّقون بينَهم، ولا يَجْحَدون ما جاءوهم به مِن
(2)
ربِّهم
(3)
.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} : هؤلاء المؤمنون مِن أهلِ الكتابِ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(4)}.
قال أبو جعفرٍ: أما الآخرةُ، فإنها صفةٌ للدارِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. وإنما وُصِفَت بذلك لمصيرِها آخِرةً لأُولَى كان قبلَها، كما تقولُ للرجلِ: أنْعَمْتُ عليك مرةً بعدَ أخرى، فلم تَشْكُرْ لي الأُولَى ولا الآخرةَ. وإنما صارت الآخرةُ آخرةً للأولى؛ لتقدُّمِ الأولى أمامَها، فكذلك الدارُ الآخرةُ، سُمِّيَت آخِرةً لتقدُّمِ الدارِ الأولى أمامَها، فصارت التاليةُ
(5)
لها آخِرةً. وقد يَجوزُ أن تكونَ [وُصِفت بأنها]
(6)
آخرةً؛ لتأخُّرِها
(1)
بعده في ت 2: "عند".
(2)
بعده في ص، م، ت 2:"عند".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 530، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 38 (80) من طريق سلمة به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 67 عن السدي به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 38 (83) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(5)
في ص: "الثانية".
(6)
في ص، م:"سميت".
عن الخلقِ، كما سُمِّيَت الدنيا دنيا
(1)
؛ لدُنُوِّها مِن الخلقِ.
وأما الذي وصَف اللَّهُ جلَّ ثناؤُه به المؤمنين بما أنْزَل إلى
(2)
نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما أنْزَل إلى مَن قبلَه مِن المُرْسَلِين - مِن إيقانِهم به مِن أمرِ الآخِرةِ - فهو إيقانُهم بما كان المُشْرِكون به جاحِدِين، مِن البَعْثِ والنشرِ، والثوابِ والعقابِ، والحسابِ والميزانِ، وغيرِ ذلك مما أعَدَّ اللَّهُ لخلقِه يومَ القيامةِ.
كما حدَّثنا به محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . أي: بالبَعْثِ والقِيامةِ، والجنةِ والنارِ، والحسابِ والميزانِ، أي لا هؤلاء الذين يَزْعُمون أنهم آمنوا بما كان قبلَك، ويَكْفُرون بما جاءك مِن ربِّك
(3)
.
وهذا التأويلُ مِن ابنِ عباسٍ قد صرَّح عن أن السورةَ مِن أولِها - وإن كانت الآياتُ التي في أولِها مِن نعتِ المؤمنين - تَعْريضٌ مِن اللَّهِ عز وجل بذمِّ الكفارِ أهلِ الكتابِ، الذين زعَموا أنهم بما جاءَت به رسلُ اللَّهِ عز وجل الذين كانوا قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقون، وهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم مُكَذِّبون، ولِمَا جاء به مِن التنزيلِ جاحدون، ويدَّعون، مع جُحودِهم ذلك، أنهم مُهْتَدون، وأنه لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَن كان هُودًا أو نَصارَي، فأكْذَبَ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه ذلك مِن قِيلِهم بقولِه: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
(1)
في ص: "قريبا".
(2)
في ر: "على".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 530، 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 38 (82) من طريق سلمة به.
الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. وأخْبَر جلَّ ثناؤُه عبادَه أن هذا الكتابَ هُدًى لأهلِ الإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المُصَدِّقين بما أُنْزِل إليه وإلى مَن قبلَه مِن رسلِه مِن البيناتِ والهدى، خاصَّةً دون مَن كذَّب بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وادَّعى أنه مُصَدِّقٌ بمَن قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن الرسلِ، وبما جاء به مِن الكتبِ، ثم أكَّد جلَّ ثناؤُه أمرَ المؤمنين مِن العربِ ومِن أهلِ الكتابِ المُصَدِّقين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما أُنْزِل إليه وإلى مَن قبلَه مِن الرسلِ بقولِه:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فأخْبَر أنهم هم أهلُ الهدى والفلاحِ خاصَّةً دون غيرِهم، وأن غيرَهم هم أهلُ الضلالِ والخَسَارِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مَن عَنَى اللَّهُ جلَّ ثناؤُه بقولِه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} ؛ فقال بعضُهم: عَنَى بذلك أهلَ الصِّفتَيْن المتقدمتَيْن، أعْنِي المؤمنين بالغيبِ مِن العربِ، والمؤمنين بما أُنْزِل إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإلى مَن قبلَه مِن الرسلِ، وإياهم جميعًا وصَف بأنهم على هُدًى منه، وأنهم هم المُفْلِحون.
ذكْرُ مَن قال ذلك مِن أهلِ التأويلِ
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أما {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فهم المؤمنون مِن العربِ، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} المؤمنون مِن أهلِ الكتابِ، ثم جمَع الفريقَيْن، فقال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(1)
.
وقال بعضُهم: بل عنَى بذلك المتقين الذين يُؤْمِنون بالغيبِ، وهم الذين يؤمنون بما أُنْزِل إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما أُنْزِل إلى مَن قبلَه مِن الرسلِ.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك الذين يؤمنون بما أُنْزِل إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما أُنْزِل إلى مَن قبلَه، وهم مُؤمنو أهلِ الكتابِ الذين صدَّقوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين مِن قبلُ بسائرِ الأنبياء والكتبِ.
وعلى هذا التأويلِ
(2)
الآخرِ يَحْتَمِلُ أن يكونَ {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في مَحَلِّ خفضٍ، ومَحَلِّ رفعٍ؛ فأما الرفعُ فيه فإنه يَأْتِيها مِن وجهَيْن؛ أحدُهما، مِن قِبَلِ العطفِ على ما في {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} مِن ذِكْرِ {الَّذِينَ} والثاني، أن يكونَ خبرًا
(3)
مبتدأً، ويكونَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} . مرافعَها.
وأما الخفضُ، فعلى العطفِ على "المُتَّقِينَ" وإذا كانت معطوفةً على {الَّذِينَ} اتَّجَه لها وجهان مِن المعنى؛ أحدُهما، أن تَكونَ هي و {الَّذِينَ} الأولى مِن صفةِ المتقين. وذلك على تأويلِ مَن رأَى أن الآياتِ الأربعَ بعدَ {الم} نزَلَت في صِنفٍ واحدٍ مِن أصنافِ المؤمنين. والوجهُ الثاني، أن تكونَ {الَّذِينَ} الثانيةُ معطوفةً في الإعرابِ على "المتَّقين" بمعنى الخفضِ، وهم في المعنى صنفٌ غيرُ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 69 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 25 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 35، 38، 40 (65، 83، 89) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(2)
في ص: "الوجه".
(3)
في ص، م:"خبر". والمقصود: أن يكون خبرا مقدما.
الصنفِ الأولِ. وذلك على مذهبِ مَن رأَى أن الذين نزَلَت فيهم الآيتان الأوَّلتان مِن المؤمنين بعدَ قولِه: {الم} . غيرُ الذين نزَلَت فيهم الآيتان الآخِرتان اللتان تَلِيانِ الأوَّلَتَيْن
(1)
.
وقد يَحْتَمِلُ أن تكونَ {الَّذِينَ} الثانيةُ مرفوعةً في هذا الوجهِ بمعنى الائتنافِ
(2)
، إذ كانت مُبْتَدَأً بها بعدَ تَمامِ آيةٍ وانْقِضاءِ قِصَّةٍ. وقد يَجوزُ الرفعُ فيها أيضًا بنيةِ الائتنافِ
(2)
، إذ كانت في مبتدإِ آيةٍ، وإن كانت مِن صفةِ المتقين.
فالرفعُ إذن يَصِحُّ فيها مِن أربعةِ أوجهٍ، والخفضُ مِن وجهين.
وأولَى التأويلاتِ عندي بقولِه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} . ما ذكَرْتُ مِن قولِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ، وأن تَكونَ {أُولَئِكَ} إشارةً إلى الفريقَيْن، أعْني المتّقين، و {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وتكونَ {أُولَئِكَ} مرفوعةً بالعائدِ مِن ذكرِهم في قولِه:{عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} . وأن تكونَ {أُولَئِكَ} الثانيةُ معطوفةً على ما قبلُ مِن الكلامِ، على ما قد بيَّنَّاه.
وإنما رأيْنا أن ذلك أولى التأويلاتِ بالآيةِ؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه نعَت الفريقَيْن بنعتِهم المحمودِ، ثم أثْنَى عليهم، فلم يكنْ عز وجل لِيَخُصَّ أحدَ الفريقَيْن بالثناءِ مع تَساوِيهما فيما اسْتَحَقَّا به الثناءَ مِن الصفاتِ، كما غيرُ جائزٍ في عدلِه أن يَتَساوَيا فيما يَسْتَحِقَّان به الجزاءَ مِن الأعمالِ، فيَخُصَّ أحدَهما بالجزاءِ دونَ الآخرِ، ويَحْرِمَ الآخرَ جزاءَ عملِه، فكذلك سبيلُ الثناءِ
(1)
في ص، ر، ت 2:"الأولين".
(2)
في م: "الاستئناف" وهما بمعنى.
بالأعمالِ؛ لأن الثناءَ أحدُ أقسامِ الجزاءِ.
وأما معنى قولِه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} . فإن معنى ذلك أنهم على نورٍ مِن ربِّهم، وبرهانٍ واستقامةٍ وسَدادٍ، بتسديدِ اللَّهِ إياهم، وتوفيقِه لهم.
كما حدَّثني ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} . أي: على نورٍ مِن ربِّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} .
وتأويلُ قولِه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أيْ: أولئك هم المُنْجِحون المُدْرِكون ما طلَبوا عندَ اللَّهِ تعالى ذكرُه، بأعمالِهم وإيمانِهم باللَّهِ وكتبِه ورسلِه، مِن الفَوْزِ بالثوابِ، والخلودِ في الجنَانِ، والنَّجاةِ مما أعَدَّ اللَّهُ تبارك وتعالى لأعدائِه مِن العِقابِ.
كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمة، قال: حدَّثنا ابنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الذين أدْرَكوا ما طلَبوا، ونجَوْا مِن شرِّ ما منه هرَبوا
(2)
.
ومِن الدلالةِ على أن أحدَ معاني الفلاحِ إدراكُ الطَّلِبةِ والظَّفَرِ بالحاجةِ، قولُ لَبيدِ
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 39 (84) من طريق سلمة به.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 39 (88) من طريق سلمة به.
ابنِ رَبيعةَ
(1)
:
اعْقِلِي إن كُنْتِ لمَّا تَعْقِلي
…
ولقد أفْلَح مَن كان عَقَلْ
يعني: ظفِر بحاجتِه وأصاب خيرًا. ومنه قولُ الراجزِ
(2)
:
عَدِمْتُ أُمًّا ولَدَتْ رياحَا
(3)
جاءَتْ به مُفَرْكَحًا فِرْكاحَا
(4)
تَحْسبُ أن قد ولَدَت نَجاحَا
أَشْهَدُ لا يَزِيدُها فَلَاحَا
يعني: خيرًا وقربًا مِن حاجتِها.
والفَلَاحُ مصدرٌ مِن قولِك: أفْلَح فلانٌ يُفْلِحُ إفلاحًا، وفَلاحًا، وفَلَحًا. والفلاحُ أيضًا البقاءُ. ومنه قولُ لبيدٍ
(5)
:
نَحُلُّ بلادًا كلُّها حُلَّ قبلَنا
…
ونَرْجُو الفلاحَ بعدَ عادٍ وحِمْيَرِ
يريدُ: البقاءَ. ومنه أيضًا قولُ عَبيدٍ
(6)
:
أفْلِحْ بما شئتَ فقد يُدْرَكُ
(7)
بالضَّعْـ
…
ــفِ وقد يُخْدَعُ الأرِيبُ
يريدُ: عِشْ وابْقَ بما شئتَ. وكذلك قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(8)
:
(1)
شرح ديوان لبيد ص 177.
(2)
البيت الثاني منه في اللسان (فركح) غير منسوب.
(3)
في م: "رباحا".
(4)
الفركحة: تباعد ما بين الأليتين. اللسان (فركح).
(5)
شرح ديوان لبيد ص 57.
(6)
ديوانه ص 14.
(7)
في م: "يبلغ".
(8)
ديوانه ص 214.
وكلٌّ فتًى ستَشْعَبُه شَعُوبٌ
(1)
…
وإن أَثْرَى وإن لاقَى فَلاحَا
أي: نجاحًا بحاجتهِ وبقاءً.
القولُ في تأويلِ قولِه جَلَّ ثناؤُه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مَن عُنِي بهذه الآيةِ، وفي مَن نزَلت؛ فكان ابنُ عباسٍ يقولُ كما حدَّثنا به محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفَضْلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مَوْلَى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . أَىْ: بما أُنْزِل إليك مِن ربِّك، وإنْ قالوا: إنَّا قد آمنَّا بما
(2)
جاءَنا مِن قَبْلِك
(3)
.
فكان ابنُ عباسٍ يَرى أنَّ هذه الآيةَ نزَلت في اليهودِ الذين كانوا بنواحِي المدينةِ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ توبيخًا لهم في جُحودِهم نبوَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتكذيبِهم به، مع علمِهم به ومعرفتِهم بأنه رسولُ اللَّهِ إليهم وإلى الناسِ كافَّةً.
وقد حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مَوْلَى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ صدرَ سورةِ البقرةِ إلى المائةِ منها نزَل في رجالٍ سمَّاهم بأعيانِهم وأنسابِهم مِن أحبارِ يهودَ، ومِن المنافقين مِن الأوسِ والخَزْرَجِ
(4)
كرِهنا تطويلَ الكتابِ بذكرِ أسمائِهم.
(1)
الشعوب: المنية. القاموس المحيط (ش ع ب).
(2)
بعده في م: "قد".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 40 (92) من طريق سلمة به.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 530، 531. وسيأتي تمامه في ص 272، 275.
وقد رُوِي عن ابنِ عباسٍ في تأويلِ ذلك قولٌ آخَرُ، وهو ما حدَّثني به المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، [قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ]
(1)
، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . قال: كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْرِصُ على أنْ يؤمنَ جميعُ الناسِ ويتابعوه على الهُدَى، فأخْبَره اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه أنَّه لا يؤمنُ إلَّا مَن سبَق له مِن اللَّهِ السعادةُ في الذِّكْرِ الأولِ، ولا يَضِلُّ إلَّا مَن سَبق له مِن اللَّهِ الشقاءُ في الذِّكْرِ الأولِ
(2)
.
وقال آخرون بما حُدِّثتُ به عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ، قال: آيتان في قادةِ الأحزابِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} إلى قولِه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال: وهم الذين ذكَرهم اللَّهُ في هذه الآيةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29]. قال: فهم الذين قُتِلُوا يومَ بدرٍ
(3)
.
وأَوْلَى هذه التأويلاتِ بالآيةِ تأويلُ ابنِ عباسٍ الذي ذكَره محمدُ بنُ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عنه، وإن كان لكلِّ قولٍ مما قاله الذين
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1284، 1371، 1385 (7250، 7785، 7875)، والطبراني في الكبير (13025)، والبيهقي في الأسماء والصفات (139) من طريق عبد اللَّه بن صالح به. وعند البيهقي مطولا بذكر آيات أخر.
(3)
سيأتي تمامه في ص 277 من طريق آخر عن ابن أبي جعفر به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 40 (93) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية. وكذلك ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 70 عن أبي جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 29 إلى ابن المنذر عن أبي العالية مطولا.
ذكَرنا قولَهم في ذلك مَذْهبٌ.
فأمَّا مَذْهبُ مَن تَأوَّل في ذلك ما قاله الرَّبيعُ بنُ أنسٍ، فهو أنَّ اللَّهَ تعالى ذِكْرُه لما أخْبَر عن قومٍ من أهلِ الكفرِ بأنهم لا يؤمنون، وأنَّ الإنذارَ غيرُ نافعِهم، ثم كان مِن الكفارِ مَن قد نفَعه اللَّهُ بإنذارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاه؛ لإيمانِه باللَّهِ وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به مِن عندِ اللَّهِ بعدَ نزولِ هذه السورةِ، لم يَجُزْ أن تكونَ الآيةُ نزَلَت إلَّا في خاصٍّ مِن الكفارِ، وإذ كان ذلك كذلك، وكانت قادةُ الأحزابِ لا شكَّ أنهم ممن لم يَنْفَعْه اللَّهُ عز وجل بإنذارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاه، حتى قتَلهم اللَّهُ تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يومَ بدرٍ، عُلِم أنهم ممن عَنى اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه بهذه الآيةِ.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارِنا ما اخْتَرنا مِن التأويلِ في ذلك، فهي أن قولَ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . عَقِيبَ خبرِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه عن مؤمني أهلِ الكتابِ، وعَقِيبَ نعتِهم وصفتِهم، وثنائِه عليهم بإيمانِهم به، وبكتبِه ورسلِه، فأَوْلَى الأمورِ بحكمةِ اللَّهِ أن يُتْلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفَّارِهم ونعوتِهم، وذمَّ أسبابِهم وأحوالِهم، وإظهارَ شتمِهم، والبراءةَ منهم؛ لأنَّ مؤمنيهم ومشركيهم وإن اخْتَلَفت أحوالُهم باختلافِ أديانِهم، فإنَّ الجنسَ يَجْمَعُ جميعَهم بأنهم بنو إسرائيلَ.
وإنما احتجَّ اللَّه جَلَّ ثناؤُه بأولِ هذه السورةِ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهودِ مِن أحبارِ بني إسرائيلَ الذين كانوا مع علمِهم بنبوَّتِه مُنْكِرين نبوَّتَه، بإظهارِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبارُ
(1)
منهم وتَكْتُمُه، فيَجْهَلُه عُظْمُ اليهودِ وتَعْلَمُه الأحبارُ منهم؛ ليَعْلَموا أن الذي أطْلَعه على علمِ ذلك هو الذي أَنْزَل الكتابَ على موسى عليه
(1)
في ر، ت 2:"الأخبار".
السلامُ؛ إذ كان ذلك مِن الأمورِ التي لم يكنْ محمدٌ صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يَعْلَمونه، ولا يَعْرِفونه مِن قبلِ نزولِ الفرقانِ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فيُمْكِنَهم ادعاءُ اللَّبْسِ في أمرِه صلى الله عليه وسلم أنَّه نبيٌّ، وأن ما جاء به فمِن عندِ اللَّهِ. وأَنَّى يُمْكِنُهم ادعاءُ اللَّبْسِ في صدقِ أُمِّيٍّ نشَأ بيْن أُمِّيِّين، لا يَكْتُبُ، ولا يَقْرأُ، ولا يَحْسُبُ، فيقال: قرَأ الكتبَ فعلِم. أو: حسَب فنَجَّم؟ [انْبَعث على أحبارٍ قَرَأَةٍ كَتَبَةٍ]
(1)
، قد درَسوا الكتبَ، ورأَسوا الأممَ، يُخْبِرُهم عن مستورِ عيوبِهم، ومَصونِ علومِهم، ومكتومِ أخبارِهم، وخَفِيّات أمورِهم التي جهِلها مَن هو دونَهم مِن أحبارِهم. إن أمْرَ مَن كان كذلك لغيرُ مُشْكِلٍ، وإنَّ صِدقَه، والحمدُ للَّهِ، لَبيِّنٌ.
ومما يُنْبئُ عن صحَّةِ ما قلنا - من أنَّ الذين عَنى اللَّهُ تعالى ذِكْرُه بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . هم أحبارُ اليهودِ الذين قُتِلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ اللَّهِ تعالى ذِكْرُه نبأَهم، وتذكيرُه
(2)
إيَّاهم ما أخَذ عليهم مِن العهودِ والمواثيقِ في أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ اقتصاصِه تعالى ذِكْرُه ما اقْتَصَّ مِن أمرِ المنافقين، واعتراضِه بينَ
(3)
ذلك بما
(4)
اعْتَرض به مِن الخبرِ عن إبليسَ وآدمَ في قولِه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] الآيات. واحتجاجُه لنبيِّه عليهم [بما احْتَجَّ به عليهم]
(5)
فيها عندَ
(6)
جُحودِهم نبوَّتَه. فإذ كان الخبرُ أولًا عن مؤمني أهلِ الكتابِ،
(1)
في م: "وانبعث على أخبار قراء كتب".
(2)
في ر: "بذكره".
(3)
في ص: "من".
(4)
في ص: "لما".
(5)
سقط من: ر.
(6)
في ص، م:"بعد".
وآخرًا عن مشركيهم، فأَوْلَى أن يكونَ وَسَطًا عنهم، [إذ كان الكلامُ بعضُه لبعضٍ تَبَعٌ، إلا أنْ تأْتيَ
(1)
]
(2)
دَلالةٌ واضحةٌ بعدولِ بعضِ ذلك عما ابْتَدَأ به مِن معانيه، فيكونَ معروفًا حينَئذٍ انصرافُه عنه.
وأما معنى الكفرِ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . فإنه الجُحودُ، وذلك أن الأحبارَ مِن يهودِ المدينةِ جحَدوا نبوَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وستَروه عن الناسِ، وكتَموا أمرَه، وهم يَعْرِفونه كما يَعْرِفون أبناءَهم.
وأصلُ الكفرِ عندَ العربِ تغطيةُ الشيءِ، ولذلك سَمَّوُا الليلَ كافرًا؛ لتغطيةِ ظُلْمتِه ما لبِسَته، كما قال الشاعر
(3)
:
فتَذَكَّرَا ثَقَلًا
(4)
رَثيدًا
(5)
بَعْدَما
…
ألْقَتْ ذُكاءُ
(6)
يَمينَها في كافِرِ
وكما قال لَبِيدُ بنُ ربيعةَ
(7)
:
* في لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمامُها *
يعني: غَطَّاها.
فكذلك الأحبارُ مِن اليهودِ، غطَّوا أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وكتَموه الناسَ، مع علمِهم بنبوَّتِه ووجودِهم صفتَه في كتبِهم، فقال اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
(1)
في م: "تأتيهم".
(2)
سقط من: ص.
(3)
هو ابن صعير المازني، كما في المفضليات ص 130.
(4)
الثقل: بيض النعام المصون. اللسان (ث ق ل).
(5)
الطعام الرثيد: المنَضَّد بعضه فوق بعض، أو بعضه إلى جنب بعض. ينظر اللسان (ر ث د).
(6)
الذُّكاء: اسم للشمس. اللسان (ذ ك و).
(7)
شرح ديوان لبيد ص 309.
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. وهم الذين أَنْزَل اللَّه عز وجل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه جَلَّ ثناؤُه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} .
وتأويلُ {سَوَاءٌ} : معتدلٌ. مأخوذٌ مِن التَّساوي، كقولِك: مُتساوٍ هذان الأمران عندِي، وهما عندي سواءٌ. أي: هما متعادلان عندي. ومنه قولُ اللَّهِ جَلَّ ثناؤه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. يعني بذلك
(1)
: أعْلِمْهم وآذِنْهم بالحربِ، حتى يَسْتويَ [علمُك وعلمُهم]
(2)
بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخرِ. فكذلك قولُه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} : معتدلٌ عندهم أيُّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذارُ أم تركُ الإنذارِ؛ لأنهم لا يؤْمِنون، وقد خَتَمْتُ على قلوبِهم وسمعِهم. ومِن ذلك قولُ عبدِ اللَّهِ
(3)
بنِ قيسِ الرُّقَيَّاتِ
(4)
:
تقَدَّت
(5)
بِيَ الشَّهْباءُ
(6)
نَحْوَ ابْنِ جَعْفَرٍ
…
سَوَاءٌ عَلَيْها لَيْلُها ونَهَارُها
يعني بذلك: معتدلٌ عندَها في السيرِ الليلُ والنهارُ؛ لأنه لا فُتورَ فيه. ومنه قولُ الآخرِ
(7)
:
(1)
زيادة من: ر.
(2)
في ص: "عليك وعليهم".
(3)
كذا في النسخ. وهو مختلف فيه، والراجح أنه عبيد الله، وينظر البداية والنهاية 12/ 175 حاشية (7).
(4)
ديوانه ص 82.
(5)
في م: "تغذُّ"، وهما بمعنى، قدى الفرس: أسرع. اللسان (ق د ى).
(6)
الشهبة في الخيل: لون بياض، يصدعه سواد في خلاله. اللسان (ش هـ ب).
(7)
البيت للأعشى في ديوانه ص 373. ونسبه ابن الشجري في الحماسة 2/ 710، 728، والنويري في نهاية الأرب 1/ 142، إلى مضرس بن ربعي، ونسبه المرزوقي في الأزمنة والأمكنة 2/ 233 إلى مضرس بن لقيط، ونسبه الحصري في زهر الآداب 2/ 751 إلى ابن محكان السعدي.
وَلَيْلٍ يقولُ المَرْءُ مِن ظُلُماتِه
…
سَواءٌ صَحِيحاتُ
(1)
العُيُونِ وعُورُها
لأن الصحيحَ لا يُبْصِرُ فيه إلا بَصَرًا ضعيفًا مِن ظُلْمتِه.
وأمَّا قولُه: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . فإنه ظهَر به الكلامُ ظهورَ الاستفهامِ وهو خبرٌ؛ لأنه وقَع مَوْقِعَ "أيّ"، كما تقولُ: ما نُبالي أقُمْتَ أم قَعَدْتَ. وأنت مخبرٌ لا مستفهمٌ؛ لوقوعِ ذلك موقعَ "أَيّ"، وذلك أن معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيُّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قولِه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} . لما كان معنى الكلامِ: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم. حسُن في موضعِه مع {سَوَاءٌ} : أفعَلْتَ أَم لم تَفْعَلْ.
وقد كان بعضُ نحوِيِّي أهلِ البصرةِ يَزْعُمُ أن حرفَ الاستفهامِ إنما دخَل مع {سَوَاءٌ} وليس باستفهامٍ؛ لأن المُسْتَفهِمَ إذا اسْتَفْهَم غيرَه فقال: أزيدٌ عندَك أَمْ
(2)
عمرٌو؟ مستثبِتٌ صاحبَه أيُّهما عندَه، فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهامِ مِن الآخرِ. فلما كان قولُه:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} . بمعنى التسويةِ، أشْبهَ ذلك الاستفهامَ، إذ أشْبَهه في التسويةِ. وقد بيَّنَّا الصوابَ في ذلك.
فتأويلُ الكلامِ إذن: معتدلٌ يا محمدُ على هؤلاء الذين جحَدوا نبوَّتَك مِن أحبارِ يهودِ المدينةِ بعدَ علمِهم بها، وكتَموا بيانَ أمرِك للناسِ بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ ألا يَكْتُموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناسِ، ويُخْبِروهم أنهم يجِدون صفتَك في كتبِهم - أأَنْذَرتَهم أم لم تُنْذِرْهم فإنهم لا يؤمنون، ولا يَرْجِعون إلى الحقِّ، ولا يُصَدِّقون بك وبما جئتَهم به.
(1)
في ديوان الأعشى: "بصيرات".
(2)
في ص: "أو".
كما حدَّثنا محمدُ بنُ حميدٍ، قال: حدثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مَوْلَى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : أيْ أنهم قد كفَروا بما عندَهم
(1)
مِن ذِكْرٍ، وجحَدوا ما أُخِذ عليهم مِن الميثاقِ لك، فقد كفَروا بما جاءك، وبما عندَهم مما جاءهم به غيرُك، فكيف يَسْمَعون منك إنذارًا وتحذيرًا وقد كفَروا بما عندَهم مِن علمِك
(2)
؟
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: وأصلُ الخَتْمِ الطَّبْعُ. والخاتَمُ هو الطَّابَعُ. يقالُ منه: خَتَمْتُ الكتابَ. إذا طَبَعْتَه.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يَخْتِمُ على القلوبِ، وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعيةِ والظروفِ والغُلُفِ
(3)
؟
قيل: فإن قلوبَ العبادِ أوعيةٌ لما أُودِعت مِن العلومِ، وظروفٌ لما جُعِل فيها مِن المعارفِ بالأمورِ
(4)
. فمعنى الختمِ عليها وعلى الأسماعِ التي بها تُدْرَكُ المسموعاتُ، ومِن قِبَلِها يُوصَلُ إلى معرفةِ حقائقِ الأنباءِ عن المغيَّباتِ - نظيرُ معنى الختمِ على سائرِ الأوعيةِ والظروفِ.
فإن قال: فهل لذلك مِن صفةٍ تصِفُها لنا فنفْهَمَها أهي مثلُ الختمِ الذي يُعْرَفُ
(5)
(1)
بعده في م: "من العلم".
(2)
تقدم أول هذا الأثر في ص 258.
(3)
الغلف جمع الغلاف: وهو الصوان وما اشتمل على الشيء. اللسان (غ ل ف).
(4)
في ص: "بالعلوم".
(5)
في ر: "نعرف".
لما ظهَر للأبصارِ، أم هي بخلافِ ذلك؟
قيل: قد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ ذلك، وسنُخْبِرُ بصفتِه بعدَ ذكرِنا قولَهم؛ فحدَّثني عيسى بنُ عثمانَ بنِ عيسى الرَّمْليُّ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، قال: أرانا مجاهدٌ بيدِه، فقال: كانوا يُرَوْن أن القلبَ في مثلِ هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذْنَب العبدُ ذنبًا ضُمَّ منه - وقال بإصْبَعِه الخِنْصَرِ هكذا - فإذا أذْنَب ضُمَّ - وقال بإصْبَعٍ أخرى - فإذا أذنَب ضُمَّ - وقال بإصبَعٍ أخرى هكذا - حتى ضَمَّ أصابعَه كلَّها. قال: ثم يُطْبَعُ عليه بطابَعٍ. قال مجاهدٌ: وكانوا يُرَوْن أن ذلك الرَّيْنُ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ، قال: القلبُ مثلُ الكفِّ، فإذا أذْنَب ذنبًا قبَض إصْبَعًا حتى يَقْبِضَ أصابعَه كلَّها، وكان أصحابُنا يُرَوْن أنه الرانُ.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: حدَّثنا ابنُ جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: نُبِّئت أن الذنوبَ على القلبِ تَحُفُّ به مِن نواحيه حتى تلتقيَ عليه، فالتقاؤُها عليه الطبعُ، والطبعُ الختمُ. قال ابنُ جُريجٍ: الختمُ، الختمُ على القلبِ والسمعِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: حدَّثني عبدُ اللَّهِ بنُ كَثيرٍ أنه سمِع مجاهدًا يقولُ: الرانُ أيسرُ مِن الطبعِ، والطبعُ أيسرُ مِن الأقفالِ، والأقفالُ أشدُّ ذلك كلِّه
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 41 (99) من طريق حجاج به.
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب (7210) من طريق حجاج به.
وقال بعضُهم: إنما معنى قولِه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} . إخبارٌ مِن اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه عن تكبرِهم وإعراضِهم عن الاستماعِ لِما دُعوا إليه مِن الحقِّ، كما يقالُ: إن فلانًا لأصمُّ عن هذا الكلامِ. إذا امْتَنَع مِن سماعِه، ورفَع نفسَه عن تفهُّمِه تكبرًا.
والحقُّ في ذلك عندي ما صحَّ بنظيرِه الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدَّثنا به محمدُ بنُ بَشارٍ، قال: حدثَّنا صفوانُ بنُ عيسى، قال: حدَّثنا ابنُ عَجْلانَ، عن القَعْقاعِ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المؤْمنَ إذا أذْنَب ذَنْبًا كانت نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ في قلبِه، فإنْ تاب ونزَع واسْتَغفر صُقِل
(1)
قلبُه، فإنْ زاد زادت حتى تُغْلِقَ
(2)
قلبَه، فذلك الرَّانُ الذي قال اللَّهُ جَلَّ ثَناؤُه:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
فأخْبَر صلى الله عليه وسلم أن الذنوبَ إذا تَتابعت على القلوبِ أغْلَقَتْها
(3)
، وإذا أغْلَقَتْها
(3)
أتاها حينَئذٍ الختمُ مِن قِبَلِ اللَّهِ عز وجل والطبعُ، فلا يكونُ للإيمانِ إليها مسلكٌ، ولا للكفرِ منها مَخْلَصٌ، فذلك هو الطبعُ. والختمُ الذي ذكَره اللَّهُ تبارك وتعالى في قولِه:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} . نظيرُ الطبعِ والختمِ على ما تُدْرِكُه الأبصارُ مِن الأوعيةِ والظروفِ التي لا يُوصلُ إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حَلِّها، فكذلك لا يصلُ الإيمانُ إلى قلوبِ مَن وصَف اللَّهُ أنه ختَم على قلوبِهم إلا بعدَ فضِّه خاتَمَه، وحَلِّه رِباطَه عنها.
ويقالُ لقائلي القولِ الثاني، الزاعمِين أن معنى قولِه جلَّ ثناؤُه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
(1)
سقط من: ت 2، وفي ص، ر:"صقلت".
(2)
في ص: "يغلق"، وفي م:"يغلف".
(3)
في م: "أغلفتها".
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. هو وصفُهم بالاستكبارِ والإعراضِ عن الذي دُعوا إليه مِن الإقرارِ بالحقِّ تكبُّرًا: أخْبِرونا عن استكبارِ الذين وصَفهم اللَّهُ جلَّ ثناؤُه بهذه الصفةِ، وإعراضِهم عن الإقرارِ بما دُعوا إليه مِن الإيمانِ وسائرِ المعاني اللواحقِ به، أفعلٌ منهم أم فعلٌ مِن اللَّهِ جلّ ثناؤُه بهم
(1)
؟
فإن زعَموا أن ذلك فعلٌ منهم - وذلك قولُهم - قيل لهم: فإن اللَّهَ - جلّ وعزّ - قد أخْبَر أنه هو الذي ختَم على قلوبِهم وسمعِهم، وكيف يجوزُ أن يكونَ إعراضُ الكافرِ عن الإيمانِ، وتكبُّرُه عن الإقرارِ به، وهو فعلُه عندَكم، ختمًا مِن اللَّهِ على قلبِه وسمعِه، وختمُه على قلبِه وسمعِه فعلُ اللَّهِ
(2)
جَل ذكرُه دونَ فعلِ الكافرِ. فإن زعَموا أن ذلك جاز
(3)
أن يكونَ كذلك لأن تكبُّرَه وإعراضَه كانا عن ختمِ اللَّهِ على قلبِه وسمعِه، فلما كان الختمُ سببًا لذلك جاز أن يُسَمَّى مسبِّبُه به - ترَكوا قولَهم، وأوْجَبوا أن الختمَ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه على قلوبِ الكفارِ وأسماعِهم معنًى غيرُ كفرِ الكافرِ، وغيرُ تكبُّرِه وإعراضِه عن قَبولِ الإيمانِ والإقرارِ به، وذلك الدخولُ
(4)
فيما أنْكَروه.
وهذه الآيةُ مِن أوضحِ الدليلِ
(5)
على فسادِ قولِ المنكرين تكليفَ ما لا يُطاقُ إلا بمعونةِ اللَّهِ جلَّ ذكرُه؛ لأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعز - أخْبَر أنه ختَم على قلوبِ صِنْفٍ مِن كفارِ عبادِه وأسماعِهم، ثم لم يُسْقِطِ التكليفَ عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يُعْذِرْه في شيءٍ مما كان منه مِن خلافِ طاعتِه بسببِ ما فعَل به مِن الختمِ
(1)
سقط من: ص.
(2)
في ص: "للَّه".
(3)
في ص، م:"جائز".
(4)
في م: "دخول".
(5)
في ر، م:"الدلالة".
والطبعِ على قلبِه وسمعِه، بل أخْبَر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيمًا على تركِهم طاعتَه فيما أمَرهم به ونهاهم عنه من حدودِه وفرائضِه، مع حَتْمِه القضاءَ عليهم مع ذلك أنهم
(1)
لا يؤمنون.
القولُ في تأويلِ قولِه جَلَّ ثناؤُه: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} .
قال أبو جعفرٍ: وقولُه: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} . خبرٌ مبتدأٌ بعدَ تمامِ الخبرِ عمَّا ختَم اللَّهُ عليه مِن جوارحِ الكفارِ الذين مَضَت قصصُهم، وذلك أَنَّ {غِشَاوَةٌ} مرفوعةٌ بقولِه:{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} . فذلك دليلٌ على أنه خبرٌ مبتدأٌ، وأن قولَه:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} . قد تناهَى عندَ قولِه: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} . وذلك هو القراءةُ الصحيحةُ عندَنا لمَعْنَيين:
أحدُهما: اتفاقُ الحُجَّةِ مِن القرأَةِ والعلماءِ على الشهادةِ بتصحيحِها، وانفرادُ المخالفِ لهم في ذلك، وشذوذُه عمَّا هم على تَخطئتِه مجمِعون، وكفَى بإجماعِ الحُجَّةِ على تَخطئةِ قراءةٍ
(2)
شاهدًا على خطئِها.
والثاني: أن الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيءٍ مِن كتابِ اللَّهِ
(3)
، ولا في خبرٍ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا موجودٍ في لغةِ أحدٍ مِن العربِ، وقد قال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه في سورةٍ أخْرى:{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} . ثم قال: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]. فلم يُدْخِلِ البَصَرَ في معنى الختمِ، وذلك هو المعروفُ في
(4)
كلامِ العربِ، فلم يَجُزْ لنا ولا لأحدٍ مِن الناسِ القراءةُ بنصبِ الغِشاوةِ
(5)
؛ لِما وصفتُ
(1)
في م: "بأنهم".
(2)
في م: "قراءته".
(3)
زيادة من: م.
(4)
في ص: "من".
(5)
وبنصب الغشاوة قرأ المفضل عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 138، 139.
مِن العِلَّتين اللتين ذكَرْتُ، وإن كان لنصبِها مَخْرَجٌ معروفٌ في العربيةِ.
وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ رُوي الخبَرُ عن ابنِ عباسٍ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي الحسينُ بنُ الحسنِ، عن أبيه، عن جدِّه، عن ابنِ عباسٍ:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} : والغِشاوةُ على أبصارِهم
(1)
.
فإن قال قائلٌ: وما وجهُ مَخْرَجِ النَّصْبِ فيها؟
قيل له: [أن تَنْصِبَها]
(2)
بإضمارِ "جعَل"، كأنه قال: وجعَل على أبصارِهم غشاوةً. ثم أسْقَط "جعَل"، إذ كان في أولِ الكلامِ ما يدلُّ عليه. وقد يَحْتَمِلُ نصبُها على إتباعِها موضعَ السمعِ، إذ كان مَوضِعُه نصبًا، وإن لم يكنْ حسَنًا إعادةُ العاملِ فيه على {غِشَاوَةٌ} ولكنْ على إتباعِ الكلامِ بعضِه بعضًا، كما قال:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} . ثم قال: (وفاكهةٍ ممّا يتخيرون * ولحمِ طيرٍ ممّا يشتهون * [وَحُورٍ عِينٍ]
(3)
) [الواقعة: 17 - 22]. فخفَض اللحمَ والحورَ العينَ
(4)
على العطفِ به على الفاكهةِ؛ إتباعًا لآخرِ الكلامِ أوَّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يُطافُ به ولا بالحورِ العينِ
(4)
، ولكن ذلك
(5)
كما قال الشاعرُ يصفُ فرسَه
(6)
:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 41 (100) عن محمد بن سعد به.
(2)
في ر، ت 2:"أن ينصبها"، وفي م:"أن نصبها".
(3)
ضبطهما في النسخة: "ر" بالرفع وبالخفض، والخفض شاهد المصنف، وهو قراءة حمزة والكسائي، ورواية الفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالرفع. السبعة لابن مجاهد ص 622.
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
سقط من: ص.
(6)
معاني القرآن للفراء 1/ 14 وقال: أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه. وفي الخزانة 3/ 139، 140: ولا يعرف قائله، ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده فيه.
عَلَفْتُها تِبْنًا وَماءً بارِدًا
…
حتَّى شَتَتْ
(1)
هَمَّالَةً
(2)
عَيْناها
ومعلومٌ أن الماءَ يُشْرَبُ ولا يُعْلَفُ
(3)
، ولكنه نصَب ذلك على ما وصفتُ قبلُ. وكما قال الآخرُ
(4)
:
ورَأيْتُ زَوْجَك في الوَغَى
…
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحا
وكان ابنُ جُريجٍ يقولُ في انتهاءِ الخبرِ عن الختمِ إلى قولِه: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وابتداءِ الخبرِ بعدَه - بمثلِ الذي قلنا فيه، ويتأوَّلُ فيه من كتابِ اللَّهِ:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24].
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: حدَّثنا ابنُ جُريجٍ، قال: الختمُ على القلبِ والسمعِ، والغشاوةُ على البصرِ، قال اللَّهُ تعالى ذِكْرُه:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . وقال: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}
(5)
.
والغشاوةُ في كلامِ العربِ الغطاءُ، ومنه قولُ الحارثِ بنِ خالدِ بنِ العاصِ
(6)
:
تَبِعْتُكَ
(7)
إذْ عَيْنِي عليه غِشاوَةٌ
…
فلمَّا انْجلتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي ألُومُها
(1)
شتا بالمكان: إذا أقام به شتاء. اللسان (ش ت و).
(2)
هملت العين: فاضت وسالت. اللسان (هـ م ل).
(3)
بعده في م: "به".
(4)
تقدم في ص 140.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 71 عن المصنف.
(6)
شعر الحارث بن خالد ص 101.
(7)
في شعر الحارث: "صحبتك".
ومنه يقالُ: تغشَّاني
(1)
الهمُّ. إذا تجلَّله وركِبه. ومنه قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(2)
:
هَلَّا سألْتِ بَنِي ذُبْيانَ ما حَسَبي
…
إذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأَشْمَطَ البَرَما
(3)
يعني بذلك
(4)
: تجلَّله وخالَطه.
وإنما أخْبَر اللَّهُ تعالى ذِكْرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن الذين كفَروا به مِن أحبارِ اليهودِ، أنه قد ختَم على قلوبِهم وطبَع عليها، فلا يَعْقِلون للَّهِ موعظةً وعظَهم بها، فيما آتاهم مِن علمِ ما عندَهم مِن كتبِه، وفيما حدَّد في كتابِه الذي أوْحاه وأنْزَله إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى سمعِهم، فلا يَسْمَعون مِن محمدٍ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تحذيرًا ولا تذكيرًا، ولا حُجةً أقامها عليهم بنبوَّتِه، فيتذكَّروا ويحذَروا عقابَ اللَّهِ في تكذيبِهم إيَّاه، مع علمِهم بصدقِه وصحَّةِ أمرِه. وأعْلَمه مع ذلك أن على أبصارِهم غِشاوةً عن
(5)
أن يُبْصِروا سبيلَ الهُدَى، فيَعْلَموا قَبيحَ
(6)
ما هم عليه من الضلالةِ والرَّدَى.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك رُوِي الخبرُ عن جماعةٍ مِن أهلِ التأويلِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} . أي: عن الهُدَى أن يُصيبوه أبدًا [بغيرِ ما]
(7)
كذَّبوك به مِن الحقِّ الذي جاءك مِن ربِّك، حتى يؤمنوا
(1)
في م: "تغشاه".
(2)
ديوانه ص 106.
(3)
البرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. اللسان (ب ر م).
(4)
بعده في م: "إذا".
(5)
في ص: "من".
(6)
في ص، م:"قبح".
(7)
في سيرة ابن هشام: "يعني بما".
به، وإن آمنوا بكلِّ ما كان قبلَك
(1)
.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} . يقولُ: فلا يَعْقِلون ولا يَسْمَعون. ويقولُ: وجعَل على أبصارِهم غِشاوةً. يقولُ: على أعينِهم فلا يُبْصِرون
(2)
.
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأوَّلون أنَّ الذين أخْبَر اللَّهُ عنهم مِن الكفارِ أنه فعَل ذلك بهم هم قادةُ الأحزابِ الذين قُتِلوا يومَ بدرٍ.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ: هاتان الآيتان إلى قولِه
(3)
: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هم {لَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28]. وهم الذين قُتِلوا يومَ بدرٍ، فلم يَدْخُلْ مِن القادةِ أحدٌ في الإسلامِ إلا رجلان؛ أبو سفيانَ، والحَكَمُ بنُ أبي العاصِ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 41 (94) من طريق سلمة به، وتقدم طرف منه في ص 258، وسيأتي تمامه في ص 274.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 71 عن السدي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 29 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 41، 42 (95، 101) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي من قوله. وينظر تفسير الثوري ص 41.
(3)
زيادة من: ر.
(4)
تقدم في ص 259 من طريق آخر عن ابن أبي جعفر به.
ابنِ أنسٍ، عن الحسنِ، قال: أما القادةُ فليس فيهم نجيبٌ
(1)
، ولا ناجٍ، ولا مهتدٍ.
وقد دلَّلنا فيما مضَى على أَوْلى هذين التأويلين بالصوابِ فكرِهنا إعادتَه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} .
وتأويلُ ذلك عندي كما قاله ابنُ عباسٍ وتأوَّله.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ: ولهم بما هم عليه مِن خلافِك عذابٌ عظيمٌ. قال: فهذا في الأحبارِ مِن يهودَ فيما كذَّبوك به مِن الحقِّ الذي جاءك مِن ربِّك بعدَ معرفتِهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} .
قال أبو جعفرٍ: أما قولُه: {وَمِنَ النَّاسِ} فإنَّ في
(3)
{النَّاسِ} وجهين؛ أحدُهما: أن يكونَ جمعًا لا واحدَ له مِن لفظِه، وإنما واحدُهم
(4)
إنسانٌ وواحدتُهم
(5)
إنسانةٌ. والوجهُ الآخرُ: أن يكونَ أصلُه "أُناسٌ"، أُسْقِطت
(6)
الهمزةُ منها لكثرةِ الكلامِ بها، ثم
(7)
دَخَلَتها الألفُ واللامُ المعرِّفتان، فأُدْغِمت
(8)
اللامُ التي دخَلت مع
(1)
في م: "مجيب".
(2)
تقدم طرف منه في ص 272.
(3)
في ر: "من".
(4)
في م: "واحده".
(5)
في م: "واحدته".
(6)
في ص: "وأسقطت".
(7)
في ص، ر، ت 2:"إذ".
(8)
في ر، ت 2:"فاندغمت".
الألفِ فيها للتعريفِ في النونِ، كما قيل في
(1)
: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38]. على ما قد بيَّنّا في اسمِ اللَّهِ الذي هو اللَّهُ
(2)
.
وقد زعَم بعضُهم أنَّ "الناسَ" لغةٌ غيرُ "أُناسٍ"، وأنه سمِع العربَ تُصَغِّرُه "نُوَيْسٌ" مِن الناسِ، وأن الأصلَ لو كان "أُناسٌ" لقيل في التصغيرِ:"أُنَيْسٌ". فرُدَّ إلى أصلِه.
قال أبو جعفرٍ: وأجْمَع جميعُ أهلِ التأويلِ على أن هذه الآيةَ نزَلَت في قومٍ مِن أهلِ النفاقِ، وأن هذه الصفةَ صفتُهم.
ذكرُ بعضِ
(3)
مَن قال ذلك مِن أهلِ التأويلِ بأسمائِهم
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} : يعني المنافقين مِن الأوْسِ والخَزْرَجِ ومَن كان على أمرِهم
(4)
.
وقد سُمِّي في حديثِ ابنِ عباسٍ هذا أسماؤُهم
(5)
، غيرَ أني ترَكْتُ تسميتَهم كراهةَ إطالةِ الكتابِ بذكرِهم.
حدَّثنا الحسنُ
(6)
بنُ يحيى، قال: أنبأنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أنبأنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ
(1)
زيادة من: م.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 124.
(3)
سقط من: ص.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 42 (104) من طريق سلمة به.
(5)
بعده في م: "عن أبي بن كعب".
(6)
في م، ت 2:"الحسين".
في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . حتى بلَغ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} . قال: هذه في المنافقين
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: هذه الآيةُ إلى ثلاثَ عَشْرةَ في نعتِ المنافقين
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا سفيانُ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن
(4)
ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} : هم المنافقون
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، عن ابنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ في قولِه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 50 (156) عن الحسن بن يحيى به.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 245.
(3)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 13 من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح به.
(4)
في م: "وعن".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 29 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 42 عقب الأثر (105) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي من قوله.
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . قال: هؤلاء أهلُ النفاقِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ في قولِه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} قال: هذا المنافقُ، يخالفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانيتَه، ومَدْخَلُه مَخْرَجَه، ومَشْهَدُه مَغِيبَه
(2)
.
وتأويلُ ذلك أن اللَّهَ تبارك وتعالى لما جمَع لرسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أمرَه في دارِ هجرتِه، واسْتَقرَّ بها قرارُه، وأظْهَر اللَّهُ بها كلِمتَه، وفشا في دُورِ أهلِها الإسلامُ، وقهَر بها المسلمون مَن فيها مِن أهلِ الشركِ مِن عَبَدةِ الأوْثانِ، وذلَّ بها مَن فيها مِن أهلِ الكتابِ - أظْهَر أحبارُ يهودِها لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الضَّغائنَ، وأبْدَوا له العداوةَ والشنآنَ
(3)
، حسدًا وبَغيًا، إلا نفرًا منهم هداهم اللَّهُ للإسلامِ فأسْلَموا، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. وطابَقهم سرًّا على معاداةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه وبغيِهم الغوائلَ
(4)
- قومٌ مِن أراهطِ
(5)
الأنصارِ الذين آوَوْا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونصَروه، كانوا
(6)
قد عَسَوا
(7)
في شركِهم وجاهليَّتِهم
(1)
أخرجه أبن أبي حاتم في تفسيره 1/ 42 (105) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 72 عن ابن جريج به.
(3)
في ص: "الشنار". والشنآن: البغض. اللسان (ش ن أ).
(4)
الغوائل: الدواهي. اللسان (غ و ل).
(5)
الأراهط جمع الرهط: ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. اللسان (ر هـ ط).
(6)
في م: "وكانوا".
(7)
في م: "عتوا".
قد سُمُّوا لنا بأسمائِهم، كرِهنا تطويلَ الكتابِ بذكرِ أسمائِهم وأنسابِهم، وظاهَروهم على ذلك في خَفاءٍ غيرِ جِهارٍ؛ حِذارَ القتلِ على أنفسِهم والسِّباءِ مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، وركونًا إلى اليهودِ، لما هم عليه من الشركِ وسوءِ البصيرةِ بالإسلامِ. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأهلَ الإيمانِ به مِن أصحابِه، قالوا لهم حِذارًا على أنفسِهم: إنَّا مؤمنون باللَّهِ وبرسولِه وبالبعثِ. وأعَطَوهم بألسنتِهم كلمةَ الحقِّ ليَدْرءوا عن أنفسِهم حكمَ اللَّهِ في من اعْتَقد ما هم عليه مقيمون من الشركِ، لو أَظْهروا بألسنتِهم ما هم معتقدوه مِن شركِهم، وإذا لَقُوا إخوانَهم مِن اليهودِ وأهلِ الشركِ والتكذيبِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخَلَوا بهم:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} . فإيَّاهم عَنى جلَّ ذكرُه بقولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . يعني بقولِه تعالى خبرًا عنهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} : صدَّقنا
(1)
باللَّهِ.
وقد دلَّلنا على أن معنى الإيمانِ التصديقُ، فيما مضَى مِن كتابِنا هذا قبلُ
(2)
.
وقولُه: {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . يعني بالبعثِ يومَ القيامةِ، وإنما سُمِّي يومُ القيامةِ اليومَ الآخرَ؛ لأنه آخرُ يومٍ، لا يومَ بعدَه سواه.
فإن قال قائلٌ: وكيف لا يكونُ بعدَه يومٌ، ولا انقطاعَ للآخرةِ ولا فناءَ ولا زوالَ؟
قيل: إن اليومَ عندَ العربِ إنما يُسَمَّى يومًا بليلتِه التي قبلَه، فإذا لم يتقدَّمِ النهارَ ليلٌ لم يُسَمَّ يومًا. فيومُ القيامةِ يومٌ لا ليلَ
(3)
بعدَه، سوى الليلةِ التي قامت في
(1)
في م: "وصدقنا".
(2)
زيادة من: ر. وينظر ما تقدم في ص 240، 241.
(3)
بعده في ص، م:"له".
صبيحتِها القيامةُ، فذلك اليومُ هو آخرُ الأيامِ، ولذلك سمَّاه اللَّهُ جلَّ ثناؤُه اليومَ الآخِرَ، ونعَته بالعُقْمِ
(1)
، ووصَفه بأنه يومٌ عقيمٌ
(2)
؛ لأنه لا ليلَ بعدَه.
وأما تأويلُ قولِه: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . ونفيُه عنهم جلّ ذكرُه اسمَ الإيمانِ، وقد أخْبَر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتِهم:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فإن ذلك مِن اللَّه جلَّ ذكرُه تكذيبٌ لهم فيما أخْبروا عن اعتقادِهم مِن الإيمانِ بقُلوبِهم
(3)
، والإقرارِ بالبعثِ، وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن الذي يُبْدُونه له بأفواهِهم خلافُ ما في ضمائرِ قلوبِهم، وضِدُّ ما في عزائمِ نفوسِهم.
وفي هذه الآيةِ دلالةٌ واضحةٌ على بُطولِ ما زعَمَته الجَهْميَّةُ
(4)
أن الإيمانَ هو التصديقُ بالقولِ دونَ سائرِ المعاني غيرِه، وقد أخْبَر اللَّهُ جلَّ ذكرُه عن الذين ذكَرهم في كتابه من أهلِ النفاقِ أنهم قالوا بألسنتِهم:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادُهم غيرَ مُصدِّقٍ قِيلَهم ذلك.
وقولُه: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . يعني: بمصدِّقين بما
(5)
يَزْعُمون أنهم به مُصدِّقون.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .
قال أبو جعفرٍ: وخداعُ المنافقِ ربَّه والمؤمنين إظهارُه بلسانِه مِن القولِ والتصديقِ خلافَ الذي في قلبِه مِن الشكِّ والتكذيبِ؛ ليَدْرأَ عن نفسِه بما أظْهَر بلسانِه حكمَ
(1)
في ص، م:"بالعقيم".
(2)
يشير إلى قوله جل ثناؤه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].
(3)
زيادة من: ر.
(4)
بعده في ص، م:"من".
(5)
في ر، م:"فيما".
اللَّهِ اللازمَ من كان بمثلِ حالِه مِن التكذيبِ، لو لم يُظْهِرْ بلسانِه ما أظْهَر مِن التصديقِ والإقرارِ - مِن القتلِ والسِّباءِ، فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمانِ باللَّهِ.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكونُ المنافقُ للَّهِ وللمؤمنين مخادِعًا، وهو لا يُظْهِرُ بلسانِه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟
قيل: لا تَمْتَنِعُ العربُ
(1)
أن تُسَمِّيَ مَن أعْطَى بلسانِه غيرَ
(2)
الذي هو في ضميرِه تَقِيَّةً - لينجوَ مما هو له خائفٌ، فنجا بذلك مما خافه - مخادِعًا لمن تَخَلَّص منه بالذي أظْهَر له مِن التقِيَّةِ، فكذلك المنافقُ، سُمِّي مخادعًا للَّهِ - جلّ وعزّ - وللمؤمنين، بإظهارِه ما أظْهَر بلسانِه تَقيَّةً، مما تَخَلَّص به مِن القتلِ والسِّباءِ في
(3)
العاجلِ، وهو لغيرِ ما أظْهَر مستبطِنٌ، وذلك من فعلِه وإن كان خِداعًا للمؤمنين في عاجلِ الدنيا، فهو لنفسِه بذلك مِن فعلِه خادعٌ؛ لأنه يُظْهِرُ لها بفعلِه ذلك بها أنه يُعْطِيها أمنيَّتَها، ويُسْقِيها كأسَ سرورِها، وهو
(4)
مُوردُها به حياضَ عَطَبِها، ومُجَرِّعُها به كأسَ عذابِها، ومُذيقُها
(5)
مِن غضبِ اللَّهِ وأليمِ عقابِه ما لا قِبَلَ لها به، فذلك خديعتُه نفسَه، ظنًّا منه - مع إساءتِه إليها في أمرِ مَعادِها - أنه إليها مُحْسِنٌ، كما قال جلَّ ثناؤُه: {وَمَا يَخْدَعُونَ
(6)
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}. إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أن المنافقين
(1)
بعده في ص: "من".
(2)
في ر: "خلاف".
(3)
في ص، م:"والعذاب".
(4)
سقط من: م.
(5)
في ر: "مزيدها"، وفي ت 1:"مريرها"، وفي ت 2:"مزبرها"، وغير منقوطة في ص، وفي تفسير ابن كثير 1/ 74 نقلًا عن المصنف "مزيرها"، وكذا استصوبها الشيخ شاكر في تعليقه على تفسير الطبري.
(6)
في ص: "يخادعون". وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي كالمثبت. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 139. وسيأتي كلام المصنف على هاتين القراءتين في ص 283 وما بعدها. وينظر أيضًا حجة القراءات ص 87.
بإساءتِهم إلى أنفسِهم، و
(1)
إسخاطِهم عليهم
(2)
ربَّهم، بكفرِهم وشكِّهم وتكذيبِهم، غيرُ شاعرين ولا دارِين، ولكنهم على عَمْياءَ مِن أمرِهم مُقيمون.
وبنحوِ ما قلنا في تأويلِ ذلك كان ابنُ زيدٍ يقولُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرنا ابنُ وهبٍ، قال: سألتُ عبدَ الرحمنِ بنَ زيدٍ عن قولِ اللَّهِ عز وجل: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هؤلاء المنافقون يُخادِعون اللَّهَ ورسولَه والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظْهَروا
(3)
.
وهذه الآيةُ مِن أوضحِ الدليلِ على تكذيبِ اللَّهِ قولَ
(4)
الزاعِمِين أن اللَّهَ لا يُعذِّبُ مِن عبادِه إلا مَن كفَر به عنادًا، بعدَ علمِه بوحدانيتِه، وبعدَ تقرُّرِ صحةِ ما عانَد ربَّه عليه مِن توحيدِه، والإقرارِ بكتبِه ورسلِه عندَه
(5)
؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه قد أخْبَر عن الذين وصَفهم بما وصَفهم به مِن النفاقِ، وخداعِهم إيَّاه والمؤمنين، أنهم لا يَشْعُرون أنهم مُبْطِلون فيما هم عليه مِن الباطلِ مُقِيمون، وأنهم بخداعِهم الذي يَحْسَبون أنهم به يُخادِعون ربَّهم وأهلَ الإيمانِ به - مخدوعون. ثم أخْبَر جلّ ذكرُه أن لهم عذابًا أليمًا بتكذيبِهم
(6)
بما كانوا يكذِّبون مِن نبوةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، واعتقادِ الكفرِ به، وبما كانوا يَكْذِبون في زعمِهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفرِ مُصرُّون.
فإن قال لنا قائلٌ: قد علِمْتَ أن المفاعلةَ لا تكونُ إلا مِن فاعلَيْن،
(1)
في ص، م:"في".
(2)
سقط من: م.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف، وسيأتي تمامه ص 286.
(4)
سقط من: ص.
(5)
في ص: "عنه".
(6)
سقط من: ر.
كقولِك: ضاربتُ أخاك، وجالَسْتُ أباك. إذا كان كلُّ واحدٍ منهما
(1)
مجالسَ صاحبِه ومضاربَه، فأما إذا كان الفعلُ مِن أحدِهما فإنما يقالُ: ضرَبتُ أخاك. أو
(2)
: جلَستُ إلى أبيك. فمَن خادع المنافقَ فجاز أن يقالَ فيه: يُخادِعُ
(3)
اللَّهَ والمؤمنين؟
قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلمِ بلغاتِ العربِ
(4)
: إن ذلك حَرْفٌ جاء بهذه الصورةِ، أعني "يُخادِعُ" بصورةِ "يُفاعِلُ"، وهو بمعنى "يَفْعَلُ"، في حروفٍ أمثالِها شاذَّةٍ مِن منطقِ العربِ، نظيرَ قولِهم: قاتَلك اللَّهُ. بمعنى: قتَلك اللَّهُ.
وليس القولُ في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك مِن التفاعُلِ
(5)
الذي لا يكونُ إلا مِن اثنين، كسائرِ ما يُعرفُ مِن معنى "يُفاعِلُ ومُفاعِل" في كلِّ كلامِ العربِ. وذلك أن المنافقَ يُخادِعُ اللَّهَ جلَّ ثناؤه بكَذِبِه بلسانِه - على ما قد تقدَّم وصفُه - واللَّهُ خادِعُه بخِذْلانِه عن حسنِ البصيرةِ بما فيه نجاةُ نفسِه في آجلِ مَعادِه، كالذي أخْبَر في قولِه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ
(6)
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]. وبالمعنَى الذي أخْبَر أنه فاعلٌ به في الآخرةِ بقولِه: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] الآية. فذلك نظيرُ سائرِ ما يأتي من معاني الكلامِ بـ "يُفاعلُ ومُفاعل".
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "و".
(3)
في ص، م:"خادع".
(4)
يعني أبا عبيدة في مجاز القرآن 1/ 31.
(5)
في ر، ت 2:"المفاعل".
(6)
في ر، ت 2:"تحسبن". بالتاء، وتنظر هاتان القراءتان في موضعهما من التفسير.
وقد كان بعضُ أهلِ النحوِ مِن أهلِ البصرةِ يقولُ: لا تكونُ المفاعلةُ إلا مِن شيئين، ولكنه إنما قيل:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} عندَ أنفسِهم بظنِّهم ألا يُعاقَبوا، فقد علِموا خلافَ ذلك في أنفسِهم، بحجةِ اللَّهِ - جلّ وعزّ - الواقعةِ على خلقِه بمعرفتِه، {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} قال: وقد قال بعضُهم: {وَمَا يَخْدَعُونَ
(1)
}. يقولُ: يَخْدَعون أنفسَهم بالتَّخْليةِ
(2)
بها، وقد تكونُ المفاعلةُ مِن واحدٍ في أشياءَ كثيرةٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا يَخْدَعُونَ
(3)
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}.
إن قال لنا قائلٌ: أو ليس المنافقون قد خدَعوا المؤمنين بما أظْهَروا بألسنتِهم مِن قِيلِ الحقِّ - عن أنفسِهم وأموالِهم وذراريِّهم حتى سلِمَت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مَخْدوعين في أمرِ آخرتِهم؟
قيل: خطأٌ أن يقالَ: إنهم خدَعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك أوْجَبنا لهم حقيقةَ خدْعةٍ جازت
(4)
لهم على المؤمنين. كما أنَّا لو قلنا: قتَل فلانٌ فلانًا. أوْجَبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلانٍ، ولكنا نقولُ: خادَع المنافقون ربَّهم [والمؤمنين ولم]
(5)
يَخْدَعوهم، بل خدَعوا أنفسَهم - كما قال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه - دونَ غيرِها. نظيرَ ما تقولُ في رجلٍ قاتَل آخرَ فقتَل نفسَه ولم يَقْتُلْ صاحبَه: قاتلَ فلانٌ فلانًا ولم يَقْتُلْ إلا نفسَه. فتُوجبُ له مقاتلةَ صاحبِه، وتَنْفِي عنه قتلَه صاحبَه، وتُوجِبُ له قتلَ نفسِه. فكذلك تقولُ: خادَع المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم
(1)
بعده في ر: "به".
(2)
في ر، ت 2:"بالتحلية".
(3)
في ص: "يخادعون"
(4)
في م: "جاءت".
(5)
في ص: "المؤمنون لم".
يَخْدَعْ إلا نفسَه. فتُثْبِتُ منه خِداعَه
(1)
ربَّه والمؤمنين، وتَنْفِي
(2)
أن يكونَ خدَع غيرَ نفسِه؛ لأن الخادِعَ هو الذي قد صحَّت له الخديعةُ ووقَع منه فعلُها، والمنافقون لم يَخْدَعوا غيرَ أنفسِهم؛ لأن ما كان لهم من أهلٍ ومالٍ، فلم يكنِ المسلمون ملَكوه عليهم في حالِ خِداعِهم إيَّاهم
(3)
عنه بنفاقِهم ولا قبلَها، فيَسْتَنْقِذوه
(4)
بخِداعِهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكَذِبِهم وإظهارِهم بألسنتِهم غيرَ الذي في ضمائرِهم، وبحُكْمِ
(5)
اللَّهِ لهم في أموالِهم وأنفسِهم وذراريِّهم في ظاهرِ أمورِهم بحكمِ ما انْتَسَبوا إليه مِن الملَّةِ، واللهُ بما يُخْفُون مِن أمورِهم عالمٌ، وإنما الخادعُ مَن ختَل
(6)
غيرَه عن شيئِه والمخدوعُ غيرُ عالِمٍ بموضعِ خديعةِ خادعِه. فأما والمخادَعُ عارفٌ بخِداعِ صاحبِه إيَّاه، و
(7)
غيرُ لاحقِه مِن خِداعِه إيَّاه مكروهٌ، بل إنما يَتجافى للظانِّ به أنه له مخادِعٌ؛ اسْتِدْراجًا ليَبْلُغَ غايةً يتكامَلُ له عليه الحُجَّةُ للعقوبةِ التي هو به
(8)
مُوقِعٌ عندَ بلوغِه إيَّاها، والمُستدرَجُ غيرُ عالمٍ بحالِ نفسِه عندَ مُسْتدرِجِه، ولا عارفٍ باطِّلاعِه على ضميرِه، وأنَّ إمهالَ مُستدرجِه [إياه، وتركَه معاجلةَ عقوبتِه]
(9)
على جُرْمِه؛ لِيَبْلُغَ المخاتِلُ المخادِعُ مِن استحقاقِه عقوبةَ مُستدرِجِه - بكثرةِ إساءتِه، [وطولِ عِصيانِه إيّاه، وكثرةِ صَفْحِ المستدرِجِ]
(10)
، وطولِ عفوِه عنه - أقصَى غايةٍ، فإنما هو خادِعٌ نفسَه لا شكَّ، دونَ مَن حدَّثَته نفسُه أنه له مخادِعٌ،
(1)
في م: "مخادعة"
(2)
بعده في م: "عنه".
(3)
في م: "إياه".
(4)
في ص: "فيستبعدوه".
(5)
في م: "يحكم". وغير منقوطة في ر، ت 2.
(6)
ختل: خدع عن غفلة. اللسان (خ ت ل).
(7)
سقط من: ص.
(8)
في م: "بها".
(9)
في م: "وتركه إياه معاقبته".
(10)
سقط من: ص.
ولذلك نفَى اللَّهُ جلَّ ثناؤُه عن المنافقِ أن يكونَ خدَع غيرَ نفسِه، إذ كانت الصفةُ التي وصَفْنا صفتَه.
وإذ كان الأمرُ على ما وصَفنا مِن خِداعِ المنافقِ ربَّه وأهلَ الإيمانِ به، وأنه غيرُ صائرٍ
(1)
بخِداعِه ذلك إلى خديعةٍ صحيحةٍ إلا لنفسِه دونَ غيرِها؛ لِمَا يُوَرِّطُها بفعلِه مِن الهلاكِ والعَطَبِ، فالواجِبُ إذن أن يكونَ الصحيحُ مِن القراءةِ:{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} . دونَ: (وَمَا يُخَادِعُونَ). لأن لفظَ المخادِعِ غيرُ مُوجِبٍ تثبيتَ خديعةٍ على صِحَّةٍ، ولفظَ خادِعٍ مُوجِبٌ تثبيتَ خديعةٍ على صِحَّةٍ. ولا شكَّ أن المنافقَ قد أوْجَب تثبيتَ
(2)
خديعةِ اللَّهِ لنفسِه، بما رَكِب مِن خِداعِه ربَّه ورسولَه والمؤمنين بنفاقِه، فلذلك وَجَبت الصِّحَّةُ لقراءةِ مَن قرَأ:{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} .
ومن الدَّلالةِ أيضًا على أن قراءةَ من قرَأ: {وَمَا يَخْدَعُونَ} . أوْلَى بالصحَّةِ مِن قراءةِ مَن قرَأ: (وَمَا يُخَادِعُونَ). أَنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤُه قد أخْبَر عنهم أنهم يُخادِعون اللَّهَ والمؤمنين في أوَّلِ الآيةِ، فمُحالٌ أن يَنْفِيَ عنهم ما قد أثْبَت أنهم قد فعَلوه؛ لأن ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غيرُ جائزٍ مِن اللَّهِ جلَّ ثناؤُه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} .
يعني جلّ ثناؤُه بقولِه: {وَمَا يَشْعُرُونَ} : وَمَا يَدْرُون. يقالُ: ما شعَر فلانٌ بهذا الأمرِ، وهو لا يَشْعُرُ به - إذا لم يَدْرِ به
(4)
ولم يَعْلَمْ - شِعْرًا وشُعورًا.
(1)
في م: "سائر".
(2)
سقط من: م.
(3)
القراءتان متواترتان كما تقدم في ص 280، ولا تفاضل بين المتواتر، وينظر توجيه قراءة:(وما يخادعون) في البحر المحيط 1/ 57.
(4)
سقط من: ص، م.
و
(1)
قال الشاعرُ
(2)
:
عقُّوا بِسَهمٍ فلم يَشْعُرْ به أحدٌ
…
ثم اسْتَفاءُوا
(3)
وقالوا حبَّذا الوَضَحُ
(4)
يعني بقولِه: لم يَشْعُرْ به أحدٌ
(5)
: لم يَدْرِ به أحدٌ ولم يَعْلَمْ.
فأخْبَر اللَّهُ جلّ ثناؤُه عن المنافقين أنهم لا يَشْعُرون بأن اللَّهَ خادِعُهم، بإملائِه لهم واستدراجِه إيَّاهم، الذي هو مِن اللَّهِ جلَّ ثناؤُه إبلاغٌ إليهم في الحجةِ والمَعْذرةِ، ومنهم لأنفسِهم خديعةٌ، ولها في الآجلِ مَضرَّةٌ.
كالذي حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: سألتُ ابنَ زيْدٍ عن قولِه: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} قال: ما يَشْعُرون أنهم ضَرُّوا أنفسَهم بما أسَرُّوا مِن الكفرِ والنفاقِ. وقرَأ قولَ اللَّهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} . قال: هم المنافقون. حتى بلَغ: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18]. وقد كان الإيمانُ يَنْفَعُهم عندَكم
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} .
قال أبو جعفرٍ: وأصلُ المرضِ السُّقمُ، ثم
(7)
يقالُ ذلك في الأجسادِ والأديانِ. فأخْبَر اللَّهُ جلَّ ثناؤُه أن في قلوبِ المنافقين مرضًا، وإنما عنَى جلّ ثناؤه بخبرِه عن مرضِ قلوبِهم الخبرَ عن مرضِ ما في قلوبِهم مِن الاعتقادِ. ولكن لما كان معلومًا بالخبرِ
(1)
في م: "كما".
(2)
البيت للمتنخل الهذلي، كما في ديوان الهذليين 2/ 31.
(3)
في ص: "استفادوا"، وفي ر:"استقاموا"، وفي ت 2:"استقادا".
(4)
عقوا بسهم: أي رموا به في السماء، استفاءوا: رجعوا، الوضح: اللبن. ينظر شرح أشعار الهذليين 3/ 1279.
(5)
زيادة من: ر.
(6)
تقدم أول هذا الأثر في ص 281.
(7)
سقط من: ص.
عن مرضِ القلبِ أنه مَعْنِيٌّ به مرضُ ما هم مُعْتقدوه مِن الاعتقادِ، اسْتَغْنى بالخبرِ عن القلبِ بذلك [والكنايةِ به]
(1)
عن تصريحِ الخبرِ عن ضمائرِهم واعتقاداتِهم، كما قال عمرُ بنُ لَجَإٍ
(2)
:
وسبَّحَت المدينةُ لا تَلُمْهَا
…
رأَت قمرًا بسوقِهمُ نَهارَا
يريد: وسبَّح أهلُ المدينةِ. فاستغْنى بمعرفةِ السامعين خبرَه بالخبرِ عن المدينةِ، عن الخبرِ عن أهلِها. ومثلُه قولُ عنترةَ العَبْسيِّ
(3)
:
هلَّا سألتِ الخيلَ يابنةَ مالكٍ
…
إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعْلَمِي
يريدُ: هلَّا سألتِ أصحابَ الخيلِ؟ ومنه قولُهم: يا خيلَ اللَّهِ اركبي. يرادُ: يا أصحابَ خيلِ اللَّهِ ارْكَبوا. والشواهدُ على ذلك أكثرُ مِن أن يُحْصِيَها
(4)
الكتابُ
(5)
، وفيما ذكَرنا كفايةٌ لمن وُفِّق لفهمِه.
فكذلك معنَى قولِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . إنما يعني: في اعتقادِ قلوبِهم الذي يعتقِدُونه في الدينِ، والتصديقِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به مِن عندِ اللَّهِ، مرَضٌ وسُقْمٌ. فاجْتَزأ بدَلالةِ الخبرِ عن قلوبِهم على معناه، عن تصريحِ الخبرِ عن اعتقادِهم.
والمرضُ الذي ذكَره اللَّهُ جلَّ ثناؤُه أنه في اعتقادِ قلوبِهم الذي وصَفْناه، هو شكُّهم في أمرِ محمدٍ، وما جاء به مِن عندِ اللَّهِ، وتحيُّرُهم فيه، فلا هم به مُوقِنون إيقانَ إيمانٍ، ولا هم له مُنكِرون إنكارَ إشراكٍ، ولكنهم كما وصَفهم جلّ ذكرُه،
(1)
في ص: "الكفاية".
(2)
البيت في التبيان 1/ 49.
(3)
البيت من معلقته الشهيرة، وهو في ديوانه ص 102.
(4)
في ر، ت 2:"يحصيه".
(5)
في م: "كتاب".
مُذَبْذَبون بينَ ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
(1)
، كما يقالُ: فلانٌ يُمرِّضُ في هذا الأمرِ. أي يُضَعِّفُ العزمَ
(2)
، ولا يصحِّحُ الرَّوِيَّةَ فيه.
وبمثلِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك تظاهَر القولُ في تفسيرِه مِن المفسِّرين.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . أي: شكٌّ
(3)
.
وحُدِّثتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بِشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: المرضُ النِّفاقُ
(4)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . يقولُ: في قلوبِهم شكٌّ
(5)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال
(1)
تضمين الآية 143 من سورة النساء.
(2)
في ر، ت 2:"للعزم".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 43 (112) من طريق سلمة به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 43 (111) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 43 عقب الأثر (113) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله. وسيأتي تمام هذا الأثر في ص 291.
عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ في قولِه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: هذا مرضٌ في الدِّينِ، وليس مرضًا في الأجسادِ. قال: وهم المنافقون.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا سُوَيدُ بنُ نصرٍ، قال: أخْبَرنا ابنُ المباركِ قراءةً، عن سعيدٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: في قلوبهم رِيبةٌ وشكٌّ في أمرِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه
(1)
.
وحُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: هؤلاء أهلُ النِّفاقِ، فالمرَضُ الذي في قلوبِهم الشكُّ في أمرِ اللَّهِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . حتى بلَغ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: المرضُ الشكُّ الذي دخَلهم في الإسلامِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} .
قد دلَّلنا آنفًا على أن تأويلَ المرضِ الذي وصَف اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه أنه في قلوبِ المنافقين هو الشكُّ في اعتقاداتِ قلوبِهم وأديانِهم، وما هم عليه في أمرِ محمدٍ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأمرِ نبوَّتِه وما جاء به، مُقِيمون.
فالمَرَضُ الذي أخْبر اللَّهُ جلَّ ثناؤُه عنهم أنه زادهم على مرضِهم، هو نظيرُ ما
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 43 عقب الأثر (113) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
بعده في ر: "فذلك هو المرض واللَّه أعلم".
كان في قلوبِهم مِن الشكِّ والحيرةِ قيلَ الزيادةِ، فزادهم
(1)
اللَّهُ بما أحْدَث مِن حدودِه وفرائضِه التي لم يكنْ فرَضها قبلَ الزيادةِ التي زادَها المنافقين - مِن الشكِّ والحَيْرةِ، إذ
(2)
شكُّوا وارْتَابوا في الذي أحْدَث لهم مِن ذلك - إلى المرضِ والشكِّ الذي كان في قلوبِهم في السالفِ، مِن حدودِه وفرائضِه التي كان فرَضها قبلَ ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانِهم الذي كانوا عليه قبلَ ذلك، بالذي أحْدَث لهم مِن الفرائضِ والحدودِ، إذْ آمنوا به، إلى إيمانِهم بالسالفِ مِن حدودِه وفرائضِه - إيمانًا، كالذي قال جلَّ ثناؤه في تنزيلِه:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]. فالزيادةُ التي زِيدها المنافقون مِن الرَّجاسةِ إلى رَجاستِهم هو ما وصَفنا، و
(3)
التي زِيدها المؤمنون إلى إيمانِهم هو ما بيَّنا، وذلك هو التأويلُ المُجْمعُ عليه.
ذكرُ بعضِ مَن قال ذلك مِن أهلِ التأويلِ
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . قال: شكًّا
(4)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: أخْبرنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ
(1)
في م: "فزاد".
(2)
في م: "إذا".
(3)
بعده في م: "الزيادة".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 43 (114) من طريق سلمة به.
الهَمْدَانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . يقولُ: فزادهم اللَّهُ
(1)
شكًّا
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا سُوَيدُ بنُ نصرٍ، قال: أخْبرنا ابنُ المباركِ قراءةً، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . يقولُ: فزادهم اللَّهُ رِيبةً وشكًّا في أمرِ اللَّهِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} . قال: زادهم رِجْسًا. وقرَأ قولَ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} . قال: شرًّا إلى شرِّهم، وضلالةً إلى ضلالتِهم
(4)
.
وحُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} : فزادَهم
(5)
اللَّهُ شكًّا
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال أبو جعفرٍ: والأليمُ
(7)
المُوجِعُ. ومعناه: ولهم عذابٌ مُؤْلِمٌ. فصُرِفَ مُؤْلِمٌ إلى أليمٍ، كما يقالُ: ضربٌ وَجيعٌ. بمعنى: مُوجِعٌ. واللَّهُ بديعُ السماواتِ والأرضِ. بمعنى: مُبْدِعٌ. ومنه قولُ عمرِو بنِ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبيديِّ
(8)
:
(1)
بعده في م: "ريبة و".
(2)
تقدم أول هذا الأثر في ص 273.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف وعبد بن حميد. وينظر الفتح 8/ 162.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 74 عن ابن زيد.
(5)
في ص، م:"قال زادهم".
(6)
تقدم أول هذا الأثر في ص 289.
(7)
بعده في م: "هو".
(8)
ديوان عمرو بن معديكرب (مجموع) ص 136.
أَمِنْ رَيْحانةَ
(1)
الداعِي السَّمِيعُ
…
يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعُ
بمعنى: المُسْمِعُ. ومنه قولُ ذِي الرُّمَّةِ
(2)
:
وَنرْفَعُ
(3)
مِن صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ
(4)
…
يَصُدُّ
(5)
وجوهَها وَهَجٌ
(6)
ألِيمُ
ويُرْوى: يَصُكُّ
(7)
.
وإنما الأليمُ صفةٌ للعذابِ، كأنه قال: ولهم عذابٌ مُؤْلِمٌ. وهو مأخوذٌ مِن الألمِ، والألمُ الوَجَعُ.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ، قال: الأليمُ المُوجِعُ
(8)
.
حدَّثنا يعقوبُ، قال: حدثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا جُوَيْبرٌ، عن الضحَّاكِ، قال: العذابُ
(9)
الأليمُ؛ الموجعُ
(10)
.
(1)
ريحانة: هي ريحانة بنت معديكرب أخت عمرو، وهي أم دريد بن الصمة، كان الصمة سباها ثم تزوجها. الأغاني 10/ 4.
(2)
ديوان ذي الرمة 2/ 677.
(3)
في ص: "بربع"، وفي ر:"ترفع"، وفي ت 2، م:"يرفع". والمثبت من الديوان.
ورفع البعير بنفسه في سيره: بالغ فيه. التاج (ر ف ع).
(4)
الشمردلة: الناقة الحسنة الجميلة الخلق القوية على السير. اللسان (شمردل).
(5)
يصد: يعترض. اللسان (ص د د).
(6)
الوهج: حرارة الشمس والنار من بعيد. اللسان (و هـ ج).
(7)
هذه رواية الديوان. والصك: الضرب الشديد. اللسان (ص ك ك).
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 44 (119) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(9)
سقط من: م.
(10)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 44 عقب الأثر (119) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وحُدِّثت عن المِنْجابِ بنِ الحارثِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضّحَّاكِ في قولِه: {أَلِيمٌ
(1)
}. قال: هو العذابُ المُوجِعُ، وكلُّ شيءٍ في القرآنِ مِن الأليمِ فهو المُوجِعُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} .
اخْتَلفت القرَأَةُ
(2)
في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه
(3)
بعضُهم: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . مُخَفَّفةَ الذالِ، مفتوحةَ الياءِ، وهي قراءةُ [عُظمٍ قرَأةِ]
(4)
أهلِ الكوفةِ
(5)
. وقرَأه آخرون: (يُكَذِّبُون). بضمِّ الياءِ وتشديدِ الذالِ، وهي قراءةُ [عُظمِ قرأةِ](4) أهلِ المدينةِ والحجازِ والبصرةِ
(6)
.
وكأنَّ الذين قرَءوا ذلك بتشديدِ الذالِ وضمِّ الياءِ رأَوْا أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه إنما أوْجَب للمنافقين العذابَ الأليمَ بتكذيبِهم [نبيَّهم محمدًا]
(7)
صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجِبُ لأحدٍ اليسيرَ مِن العذابِ، فكيف بالأليمِ منه؟
وليس الأمرُ في ذلك عندي كالذي قالوا؛ وذلك أن اللَّهَ جلّ ثناؤُه أنْبَأ عن المنافقين في أولِ النبأ عنهم في هذه السورةِ بأنهم يَكْذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارِهم ذلك بألسنتِهم، خِداعًا للَّهِ عز وجل ولرسولِه وللمؤمنين، فقال: {وَمِنَ
(1)
في ص، ر، ت 2:"الأليم".
(2)
في م: "القراءة".
(3)
في ر: "فقراءة".
(4)
في م: "معظم".
(5)
وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 88.
(6)
وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو. السبعة لابن مجاهد ص 143.
(7)
في ص: "نبيه".
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} بذلك مِن قِيلِهم، مع استسرارِهم الشكَّ والرِّيبةَ، {وَمَا يَخْدَعُونَ} بصنيعِهم ذلكَ {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} دونَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، {وَمَا يَشْعُرُونَ} بموضعِ خديعتِهم أنفسَهم، واستدراجِ اللَّهِ إيَّاهم بإملائِه لهم، {فِي قُلُوبِهِمْ} شكُّ [النفاقِ ورِيبتُه]
(1)
، واللَّهُ زائدُهم شكًّا ورِيبةً بما كانوا يَكْذِبون اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين بقولِهم بألسنتِهم:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهم في قِيلِهم
(2)
ذلك كَذَبةٌ؛ لاستسرارِهم الشكَّ والمرضَ في اعتقاداتِ قلوبِهم في أمرِ اللَّهِ وأمرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم. فأَوْلَى في حكمةِ اللَّهِ جل جلاله أن يكونَ الوعيدُ منه لهم على ما افْتَتح به الخبرَ عنهم مِن قبيحِ أفعالِهم وذَميمِ أخلاقِهم، دونَ ما لم يَجْرِ له ذكرٌ مِن أفعالِهم، إذ كان سائرُ آياتِ تنزيلِه بذلك نزَل، وهو أن يَفْتَتحَ ذكرَ محاسنِ أفعالِ قومٍ، ثم يختِمَ ذلك بالوعدِ
(3)
على ما افْتَتحَ به ذكرَه مِن أفعالِهم، ويَفتتحَ ذكرَ مساوِي أفعالِ آخرين، ثم يختِمَ ذلك بالوعيدِ على ما ابْتَدأ به ذكرَه مِن أفعالِهم. فكذلك الصحيحُ مِن القولِ في الآياتِ التي افْتَتح فيها ذكرَ بعضِ مساوي أفعالِ المنافقين، أن يختِمَ ذلك بالوعيدِ على ما افْتَتح به ذكرَه مِن قبائحِ أفعالِهم.
فهذا هذا
(4)
، مع دَلالةِ الآيةِ الأُخرى على صحةِ ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجبَ من القراءةِ ما اخترْنَا، وأن الصوابَ مِن التأويلِ ما تَأَوَّلْنا، مِن أن وعيدَ اللَّهِ المنافقين في هذه الآيةِ العذابَ الأليمَ على الكذِبِ الجامعِ معنى الشكِّ والتكذيبِ، وذلك قولُ اللَّهِ جلّ ثَناؤُه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ
(1)
في م: "أي نفاق وريبة".
(2)
في ص: "قولهم".
(3)
في م: "بالوعيد".
(4)
سقط من: ص، ر.
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 1، 2]. والآيةُ الأخرى في "المجادَلةِ": {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16]. فأخْبر اللَّهُ جلَّ ثناؤُه أن المنافقين - بقِيلِهم ما قالُوا لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادِهم فيه ما هم معتقدون - كاذِبون، ثم أخْبرَ تعالى ذكرُه أن العذابَ المُهِينَ لهم على ذلك مِن كَذِبِهم. ولو كان الصحيحُ مِن القراءةِ على ما قَرَأه القارئون في سورةِ "البقرةِ":(وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبون). لكانتِ القراءةُ في السورةِ الأخرى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لمُكذِّبون). ليكونَ الوعيدُ لهم [مِن العذابِ المهينِ]
(1)
الذي هو عَقِيبَ ذلك وعيدًا على التكذيبِ لا على الكَذِبِ.
وفي إجماعِ المسلمين على أن الصوابَ مِن القراءةِ في قولِه: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . بمعنى الكَذِبِ، وأنَّ إيعادَ اللَّهِ فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك مِن كَذِبِهم - أوضحُ الدَّلالةِ على أن الصحيحَ مِن القراءةِ في سورةِ "البقرةِ":{بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . بمعنى الكَذِبِ، وأن الوعيدَ مِن اللَّهِ تعالَى ذكرُه للمنافقين فيها على الكذبِ حقٌّ، لا على التكذيب الذي لم يَجْرِ له ذكرٌ - نظيرَ الذي في سورةِ "المنافقين" سواءً.
وقد زعَم بعضُ نحويِّي البصرةِ أنَّ "ما" من قولِ اللَّهِ جلّ ثناؤُه: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . اسمٌ للمصدرِ، كما أنَّ "أَنْ" والفعلَ اسمان للمصدرِ في قولِك
(2)
: أُحبُّ أن تأتيَني. وأنَّ المعنى إنما هو: بكَذِبِهم وتكذيبِهم. قال: وأَدْخل "كان" ليُخْبِرَ أنه
(1)
زيادة من: ر.
(2)
في ر: "قوله"، وفي ت 2:"مثل قوله".
كان فيما مضى، كما تقولُ
(1)
: ما أحسنَ ما كان عبدُ اللَّهِ. فأَنت تعجَبُ من عبدِ اللَّهِ لا من كَوْنِه، وإنما وقَع التعجُّبُ في اللفظِ على كونِه.
وكان بعضُ نحوييِّ الكوفةِ يُنكرُ ذلك من قولِه ويَسْتَخْطِئُه، ويقولُ: إنما أُلْغِيَت "كان" في التعجُّبِ لأن الفعلَ قد تقدَّمها، فكأنه قال: حَسَنًا كان زيدٌ، وحسَنٌ كان زيدٌ
(2)
. يُبْطِلُ "كان"، ويُعْمِلُ مع الأسماءِ والصفاتِ التي بألفاظِ الأسماءِ إذا جاءتْ قبلَ "كان"، ووقعَتْ "كان" بينها وبين الأسماءِ. وأما العِلَّةُ في إبطالِها إذا أُبطِلَت في هذه الحالِ، فتشبيهُ
(3)
الصفاتِ والأسماءِ بـ "فعَل" و"يَفْعَلُ" التي
(4)
لا يظهَرُ عملُ "كان" فيهما، ألا ترى أنك تقولُ: يقومُ كان زيدٌ. فلا يظهَرُ عملُ "كان" في "يقومُ"؟ وكذلك: قام كان زيدٌ. فلذلك أُبْطل عملُها مع "فاعل" تمثيلًا بـ "فعَل" و"يفعلُ"، وأُعْملت مع "فاعل" أحيانًا؛ لأنه اسمٌ، كما تُعْملُ في الأسماءِ. فأما إذا تقدَّمت "كان" الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسمُ والفعلُ بعدَها، فخطأٌ عندَه أن تكونَ "كان" مُبْطَلَةً. فلذلك أحال قولَ البصريِّ الذي حكَيناه، وتأوَّل قولَ اللَّهِ عز وجل: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
(5)
}. أنه بمعنى: الذي يَكْذِبونه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ هذه الآيةِ؛ فرُوِي عن سلمانَ الفارسيِّ أنه كان يقولُ: لم يجئْ هؤلاء بعدُ.
(1)
في ص، ت 2، م:"يقال".
(2)
في ت 2: "في التعجب لا".
(3)
في م: "فشبه".
(4)
في م: "اللتين".
(5)
ضبطه في "ر" بضم الياء.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا عَثَّامُ بنُ عليٍّ، قال: حدثنا الأعمشُ، قال: سمِعت المِنْهالَ بنَ عمرٍو يحدِّثُ عن عبَّادِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن سلمانَ، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ، الذين:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عثمانَ بنِ حَكيمٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ شَرِيكٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني الأعمشُ، عن زيدِ بنِ وهبٍ وغيرِه، عن سلمانَ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . قال: ما جاء هؤلاء بعدُ
(2)
.
وقال آخرون بما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
(3)
. أمَّا {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} فإنَّ الفسادَ هو الكفرُ والعملُ بالمعصيةِ
(4)
.
وحُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن
(1)
أخرجه وكيع - كما في تفسير ابن كثير 1/ 75، والدر المنثور 1/ 30 - وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 45 (123) من طريق الأعمش به. وعباد بن عبد الله الأسدي ضعيف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 75 عن المصنف. وعبد الرحمن بن شريك ضعيف، وقد خولف فيه شريك كما في الإسناد قبله.
(3)
بعده في م: "هم المنافقون".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 45 (122) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
الرَّبيع: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} ، يقولُ: لا تَعْصُوا في الأرضِ، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. قال: فكان فسادُهم على أنفسِهم ذلك معصيةَ اللَّهِ؛ لأن مَن عصَى اللَّهَ في الأرضِ أو أمَر [بمعصيتِه، فقد]
(1)
أفْسَد في الأرضِ؛ لأن إصلاحَ الأرضِ والسماءِ بالطاعةِ
(2)
.
وأوْلى التأْويلين بالآيةِ تأويلُ مَن قال: إن قولَ اللَّهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} نزَلت في المنافقين الذين كانوا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كلُّ مَن كان بمثلِ صفتِهم
(3)
من المنافقين بعدَهم إلى يومِ القيامةِ. وقد يَحْتَمِلُ قولُ سلمانَ عند تلاوةِ هذه الآيةِ: ما جاء هؤلاء بعدُ. أن يكونَ قاله بعدَ فناءِ الذين كانوا بهذه الصفةِ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو
(4)
جاءٍ منهم بعدَهم ولمَّا يجئْ بعدُ، [لا أنه]
(5)
عنَى أنه لم يمضِ ممَّن ذلك
(6)
صفتُه أحدٌ.
وإنما قلنا: أَوْلى التأويلين بالآيةِ ما ذكَرنا؛ لإِجماعِ الحُجَّةِ من أهلِ التأويلِ على أن ذلك صفةُ مَن كان بينَ ظهرَانَيْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، من المنافقين، وأن هذه الآياتِ فيهم نزَلت، والتأويلُ المُجْمَعُ عليه أَوْلى بتأويلِ القرآنِ من قولٍ لا دلالةَ على صحَّتِه من أصلٍ ولا نظيرٍ.
(1)
في ر: "بمعصية في".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 45 عقب الأثر (122) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
في ص: "وصفهم".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م: "لأنه".
(6)
في م: "هذه".
والإفسادُ في الأرضِ العملُ فيها بما نهَى اللَّهُ - جلَّ وعزَّ - عنه، وتضييعُ ما أمرَ اللَّهُ بحفظِه، فذلك جملةُ الإفسادِ، كما قال جلَّ ثَناؤُه في كتابهِ مُخبرًا عن قِيلِ ملائكتِه:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] يَعْنُون بذلك: أتجعلُ في الأرضِ من يعصِيك ويُخالفُ أمرَك؟ فكذلك صفةُ أهلِ النفاقِ؛ مفسدون في الأرضِ بمعصيَتِهم فيها ربَّهم، ورُكوبِهم فيها ما نهاهم عن رُكوبِه، وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دينِ اللَّهِ الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملًا إلا بالتصديقِ به، والإيقانِ بحقيقتِه، وكذِبِهم المؤمنين بدَعْواهم غيرَ ما هم عليه مقيمون من الشكِّ والرَّيبِ، ومُظاهرتِهم أهلَ التكذيب باللَّهِ وكتبِه ورسلِه على أولياءِ اللَّهِ إذا وجَدوا إلى ذلك سبيلًا. فذلك
(1)
إفسادُ المنافقين في [أرضِ اللَّهِ]
(2)
، وهم يَحْسَبون أنهم بفعلِهم ذلك مُصلحونَ فيها، فلم يُسْقِطِ اللَّهُ جلَّ ثناؤه عنهم عقوبتَه، ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابِه لأهلِ معصيتِه، بحُسْبانِهم أنهم فيما أَتوْا من معاصي اللَّهِ مُصلحونَ، بل أوْجب لهم الدَّرْكَ الأسفلَ من نارِه، والأليمَ من عذابِه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ اللَّهِ إيَّاهم وشَتْمِه لهم، فقال تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} . وذلك من حُكمِ اللَّهِ فيهم أدلُّ الدليلِ على تكذيبِه جلّ ثناؤه قولَ القائلين: إن عقوباتِ اللَّهِ لا يَسْتَحِقُّها إلَّا المعاندُ ربَّه فيما لزِمه من حقوقِه وفروضِه، بعد علمِه وثُبوتِ الحُجَّةِ عليه بمعرفتِه بلزومِ ذلك إيَّاه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} .
وتأويلُ ذلك كالذي قاله ابنُ عباس، الذي حدَّثنا به محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ
(1)
في ص: "وكذلك"، وفي ر:"فكذلك".
(2)
في ص: "الأرض".
ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . أي قالوا: إنما نريدُ الإصلاحَ بينَ الفريقين من المؤمنين وأهلِ الكتابِ
(1)
.
وخالَفه في ذلك غيرُه، فَحدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} . قال: إذا ركِبوا معصيةَ اللَّهِ فقِيل لهم: لا تفعَلوا كذا وكذا. قالوا: إنما نحن على الهُدَى
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دَعْواهم أنهم مصلحون، فهم لا شكَّ أنهم كانوا يَحْسَبون أنهم فيما أتَوْا من ذلك مصلحون - فسواءٌ بينَ اليهودِ والمسلمين كانت دَعْواهم الإصلاحَ، أو في أديانِهم، وفيما ركبوا من معصيةِ اللَّهِ، وكذِبهم المؤمنين فيما أظْهروا لهم من القولِ، وهم لغيرِ ما أظْهروا مُسْتبطِنون؛ لأنَّهم كانوا في جميعِ ذلك من أمرِهم عندَ أنفسِهم مُحْسِنين، وهم عندَ اللَّهِ مُسيئون، ولأمرِ اللَّهِ مُخالِفون، لأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُه قد كان فرَض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين، وألْزمهم التصديقَ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عندِ اللَّهِ، كالذي ألْزم من ذلك المؤمنين، فكان لقاؤُهم اليهودَ على وجهِ الوِلايةِ منهم لهم، وشكُّهم في نبوَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عندِ اللَّهِ - أعظمَ الفسادِ، وإن كان ذلك كان عندَهم إصلاحًا وهُدًى في أديانِهم، أو فيما بينَ المؤمنين واليهودِ، فقال جلَّ ثناؤُه فيهم:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 45 (124) من طريق سلمة به.
(2)
بعده في ص، ت 1، م:"مصلحون".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف كاللفظ المثبت. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 75 عن ابن جريج عن مجاهد، بزيادة:"مصلحون" في آخره.
دونَ الذين يَنْهَوْنهم من المؤمنين عن الإفسادِ في الأرضِ، {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} .
وهذا القولُ من اللَّهِ جلَّ ثناؤُه تكذيبٌ للمنافقين في دَعْواهم إذا
(1)
أُمِروا بطاعةِ اللَّهِ فيما أمَرهم اللَّهُ به، ونُهوا عن معصيةِ اللَّهِ فيما نهاهم اللَّهُ عنه، قالوا: إنما نحن مُصلحون لا مُفسدون، ونحن على رُشْدٍ وهُدًى فيما أنْكَرْتموه علينا دونَكم، لا ضالُّون. فكذَّبهم اللَّهُ - جلّ وعزّ - في ذلك من قِيلِهم، فقال: ألا إنهم هم المُفْسِدون المخالفون أمرَ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ -، المتعدُّون، حدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يَشْعُرون ولا يَدْرُون أنهم كذلك، لا الذين يَأْمُرونهم بالقسطِ من المؤمنين، ويَنْهَوْنهم عن معاصي اللَّهِ - جلّ وعز - في أرضِه من المسلمين.
القولُ في تأويلِ قولِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ قولِه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وصَفَهم اللَّهُ ونَعَتهم بأنَّهم يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} : صَدِّقوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
وبما جاء به من عندِ اللَّهِ، كما صدَّق به الناسُ. ويعني بـ {النَّاسُ}: المؤمنين الذين آمنوا بمحمدٍ ونبوَّتِه وما جاء به من عندِ اللَّهِ.
كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ
(3)
بنُ سعيدٍ، عن بِشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا
(1)
في ر، ت 2:"إذ".
(2)
بعده في ص: "ونبوته".
(3)
في ص: "عمار".
آمَنَ النَّاسُ}. يقولُ: وإذا قيل لهم: صدِّقوا كما صدَّق أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قولوا
(1)
: إنه نبيٌّ ورسولٌ، وأن ما أُنْزِل عليه حقٌّ، وصدِّقوا بالآخرةِ، وأنكم مبعوثون من بعدِ الموتِ
(2)
.
وإنما أُدْخِلت الألفُ واللَّامُ في {النَّاسُ} وهم بعضُ الناسِ لا جميعُهم؛ لأنهم كانوا معروفين عندَ الذين خُوطبوا [بذلك في هذه]
(3)
الآيةِ بأعيانِهم. وإنما معناه: آمِنوا كما آمَن الناسُ الذين تعرِفونهم من أهلِ اليقينِ والتصديقِ باللَّهِ، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عندِ اللَّهِ، وباليومِ الآخرِ. فلذلك أُدْخِلت الألفُ واللامُ فيه، كما أُدْخِلتا في قولِه:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]. لأنه أُشِير بدخولِهما
(4)
إلى ناسٍ معروفين عند مَن خُوطِب بذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} .
قال أبو جعفرٍ: والسفهاءُ جمعُ سَفِيهٍ، [كما العلماءُ]
(5)
جمعُ عليمٍ، والحكماءُ جمعُ حكيمٍ. والسفيهُ الجاهلُ الضعيفُ الرأيِ، القليلُ المعرفةِ بمواضعِ المنافعِ والمضارِّ. ولذلك سمَّى اللَّهُ - جلَّ وعزَّ - النساءَ والصبيانَ سفهاءَ، فقال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. فقال عامَّةُ أهلِ التأويلِ: هم النساءُ والصبيانُ؛ لضعفِ آرائِهم
(6)
، وقلةِ معرفتِهم بمواضعِ المصالحِ والمضارِّ التي
(1)
في م: "قالوا".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 45 (126، 127) من طريق أبي كريب به.
(3)
في ص، م:"بهذه".
(4)
في م: "بدخولها".
(5)
في م: "كالعلماء".
(6)
في ت 2: "رأيهم".
تُصْرَفُ إليها الأموالُ.
وإنما عَنى المنافقون بقيلِهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} - إذ دُعوا إلى التصديقِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عندِ اللَّهِ، والإقرارِ بالبعثِ، فقيل
(1)
لهم: {آمِنُوا} -: كما آمَن أصحابُ محمدٍ وأتباعُه من المؤمنين المصدِّقين به مِن
(2)
أهلِ الإيمانِ واليقينِ، والتصديقِ باللَّهِ، وبما افْتَرض عليهم على لسانِ رسولهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وفي كتابِه، وباليومِ الآخرِ. فقالوا إجابةً لقائلِ ذلك لهم: أنؤمنُ كما آمنَ أهلُ الجهلِ، ونصدِّقُ بمحمدٍ كما صدَّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهامَ!
كالذي حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرو بنُ حمَّادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} : يعنُون أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} : يعنُون أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"فقال".
(2)
سقط من: م.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 76 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 46 عقب الأثر (130) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 46 (130) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ في قولِه: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} . قال: هذا قولُ المنافقين، يريدون أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عُثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ
(1)
، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} : يقولون: أنقولُ كما يقولُ السفهاءُ؟ يعنُون أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لخِلافِهم لدينِهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} .
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبرٌ من اللَّهِ تعالى عن المنافقين الذين تقدَّم نعتُه لهم، ووصفُه إيّاهم بما وصَفهم به من الشكِّ والتكذيبِ - أنهم هم الجُهَّالُ في أديانِهم، الضعفاءُ الآراءِ في اعتقاداتِهم واختياراتِهم التي اختاروها لأنفسِهم، من الشكِّ [والتكذيبِ]
(3)
والرَّيبِ في أمرِ اللَّهِ - جلّ وعزّ - وأمرِ رسولِه وأمرِ نبوَّتِه، وفيما جاء به من عندِ اللَّهِ، وأمرِ البعثِ؛ لإساءتِهم إلى أنفسِهم بما أتَوْا من ذلك، وهم يحسَبون أنهم إليها يُحسنون
(4)
، وذلك هو عينُ السَّفَهِ؛ لأن السفيهَ إنما يُفْسِدُ من حيثُ يرى أنه يُصلِحُ، ويُضيِّعُ من حيثُ يرى أنه يحفَظُ، فكذلك المنافقُ، يعصِي ربَّه من حيثُ يرى أنه يُطيعُه، ويكفُرُ به من حيثُ يرى أنه يُؤمنُ به، ويُسيءُ إلى نفسِه من حيث
(1)
في م: "عمار".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 46 (129) من طريق أبي كريب به.
(3)
زيادة من: ر.
(4)
في ر، ت 2:"محسنون".
يَحْسَبُ
(1)
أنه يُحسنُ إليها، كما وصَفهم به ربُّنا جلَّ ذكرُه فقال:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} . وقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} دونَ المؤمنين المصدِّقين باللَّهِ وبكتابِه وبرسولِه وثوابِه وعقابِه، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} . وكذلك كان ابنُ عباسٍ يتأوَّلُ هذه الآيةَ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ: يقولُ اللَّهُ عز وجل: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} ، يقولُ: الجهَّالُ، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}. يقولُ: ولكن لا يعقِلون
(2)
.
وأما وجهُ دخولِ الألفِ واللامِ في {السُّفَهَاءُ} فشبيهٌ بوجهِ دخولِهما في {النَّاسُ} ، في قولِه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} . وقد بيَّنَّا العلَّةَ في دخولِهما هنالك، والعلَّةُ في دخولِهما في {السُّفَهَاءُ} نظيرتُها في دخولِهما في {النَّاسُ} هنالك، سواءٌ.
والدلالةُ التي تدلُّ عليه هذه الآيةُ من خطإِ قولِ مَن زعَم أن العقوبةَ من اللَّهِ - جلّ وعزّ - لا يَسْتَحِقُّها إلا المعاندُ ربَّه، بعدَ
(3)
علمِه بصحةِ ما عانَده فيه - نظيرةُ
(4)
دلالةِ الآياتِ الأُخَرِ التي قد تقدَّم ذكرُنا تأويلَها في قولِه: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} ونظائِر
(5)
ذلك.
(1)
في ر: "يرى".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 46 (131، 132) من طريق أبي كريب به. وهو تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(3)
في م: "مع".
(4)
في ت 2، م:"نظير".
(5)
في م: "نظير".
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: وهذه الآيةُ نظيرةُ
(1)
الآيةِ الأُخْرى التي أخْبر اللَّهُ جلّ ثناؤُه فيها عن المنافقين بخِداعِهم اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . ثم أكْذَبهم تعالى ذكرُه بقولِه: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ، وأنهم بقيلِهم ذلك يُخادِعون اللَّهَ والذين آمنوا. وكذلك أخْبر عنهم في هذه الآيةِ أنهم يقولون للمؤمنين المصدِّقين باللَّهِ وكتابِه ورسولِه بألسنتِهم: آمنَّا وصدَّقنا بمحمدٍ، وبما جاء به من عندِ اللَّهِ، خِداعًا عن دمائِهم وأموالِهم وذراريِّهم، ودرْءًا لهم عنها، وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدتِهم
(2)
وأهلِ العُتُوِّ والشرِّ والخُبْثِ منهم، ومن سائرِ أهلِ الشركِ، الذين هم على مثلِ ما
(3)
هم عليه من الكفرِ باللَّهِ وبكتابِه ررسولِه، وهم شَياطينُهم - وقد دلَّلنا فيما مضَى من كتابِنا
(4)
على أن شياطينَ كلِّ شيءٍ مَرَدتُه - قالوا لهم. {إِنَّا مَعَكُمْ} أي: إنَّا معكم على دينِكم، وظُهراؤُكم على مَن خالَفكم فيه، وأولياؤُكم دونَ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} باللَّهِ وبكتابِه ورسولِه وأصحابِه.
كالذي حدَّثنا محمدُ بنُ العلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثَنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} . قال: كان رجالٌ من اليهودِ إذا لَقُوا أصحابَ النبيِّ
(1)
في ر، ت 2، م:"نظير".
(2)
في ص: "أهل مودتهم".
(3)
في ص، م:"الذي".
(4)
ينظر ما تقدم في ص 109.
صلى الله عليه وسلم أو بعضَهم، قالوا: إنَّا على دينِكم. وإذا خَلَوا إلى أصحابِهم، وهم شياطينُهم، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي محمدٍ، مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . قال: إذا خَلَوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمُرونهم بالتكذيبِ وخلافِ ما جاء به الرسولُ، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} ، أي: إنَّا على مثلِ ما أنتم عليه، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
(2)
.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، و
(3)
عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} : أما شياطينُهم، فهم رُءُوسُهم في الكفرِ
(4)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ العَقَديُّ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ
(5)
، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي: رُؤَسائِهم وقادتِهم في الشرِّ، قالوا:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 46 - 48 (133، 136، 142) من طريق محمد بن العلاء به.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 47، 48 (137، 141) من طريق سلمة به.
(3)
في ص: "أو".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 77 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 31 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 47 عقب الأثر (140) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(5)
في ر: "يزيد".
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . قال: المشركون.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ -:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابِهم من الكفارِ.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . قال: أصحابُهم من المنافقين والمشركين
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . قال: إخوانُهم من المشركين، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ في قولِه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} قال: إذا أصاب المؤمنين رَخاءٌ قالوا
(4)
: نحن معكم، إنما نحن إخوانُكم. وإذا خَلَوا إلى شياطينِهم اسْتَهْزَءوا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 47 (138) من طريق سعيد به.
وأخرجه عبد بن حميد - كما في الفتح 8/ 161 - من طريق شيبان عن قتادة. وستأتي بقيته في ص 312.
(2)
تفسير مجاهد ص 196، ومن طريقه عبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 4/ 172 - وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 47 (139).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 عقب الأثر (140) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
بعده في م: "إنا".
بالمؤمِنين.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال
(1)
مجاهدٌ: شَياطينُهم أصحابُهم من المنافقين والمشركين.
فإن قال لنا قائلٌ: أرأيتَ قولَه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . فكيف قيلَ: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . ولم يقلْ: خَلَوا بشياطينِهم. فقد عَلِمْتَ أن الجاريَ بينَ الناسِ في كلامِهم: خَلَوتُ بفلانٍ. أكثرُ وأفْشَى من: خَلَوتُ إلى فلانٍ. ومن قولِك: إن القرآنَ أفصحُ البيانِ؟
قيل: قد اخْتَلف في ذلك أهلُ العلم بلغةِ العربِ، فكان بعضُ نحْويِّي البصرةِ يقولُ: يقالُ: خَلَوتُ إلى فلانٍ. إذا أُرِيد به: خلَوتُ إليه في [الحاجةِ خاصَّةً]
(2)
، لا يَحْتَملُ - إذا قيل كذلك - إلا الخلاءَ إليه في قضاءِ الحاجةِ. فأما إذا قيل: خَلَوتُ به. احْتَمل معنيين: أحدُهما، الخلاءُ به في الحاجةِ. والآخرُ، في
(3)
السخريةِ به. فعلى هذا القولِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لا شكَّ أفصحُ منه لو قيل: وإذا خَلَوا بشياطينِهم. لما في قولِ القائلِ: وإذا خَلَوا بشياطينِهم. من التباسِ المعنى على سامِعيه
(4)
، الذي هو مُنْتَفٍ عن قولِه:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} . فهذا أحدُ الأقوالِ.
والقولُ الآخرُ: [أن تُوجِّهَ]
(5)
معنى قولِه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} :
(1)
في ص: "وقال".
(2)
في ص، ت 1، م:"حاجة خاصة".
(3)
سقط من: ص.
(4)
في ص: "سامعه".
(5)
في ص، ت 2:"فأن توجه"، وفي م:"أن توجيه".
و
(1)
إذا خَلَوا مع شياطينِهم. إذ كانت حروفُ الصفاتِ
(2)
يُعاقِبُ بعضُها بعضًا، كما قال اللهُ مُخبرًا عن عيسى ابنِ مريمَ أنه قال للحواريين:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} [الصف: 14]. يريدُ: مع اللهِ. وكما تُوضعُ "على" في موضعِ "مِن" و"في" و"عن"، و"الباء"، كما قال الشاعرُ
(3)
:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشيرٍ
…
لَعَمْرُ اللهِ أعْجَبَني رِضَاها
بمعنى: عَنِّي.
وأما بعضُ نحْويِّي
(4)
الكوفةِ، فإنه كان يتأوَّلُ أن ذلك بمعنى: وإذا لَقُوا الذين آمَنوا قالوا آمَنَّا، وإذا صرَفوا خَلاءَهم إلى شياطينِهم. فيزعُمُ أن الجالبَ لـ {إِلَى} المعنى الذي دلَّ عليه الكلامُ من انصرافِ المنافقين عن لقاءِ المؤمنين إلى شياطينهم خالِين بهم، لا قولُه:{خَلَوْا} . وعلى هذا التأويلِ لا يَصْلُحُ في
(5)
موضعِ {إِلَى} غيرُها؛ لتغيُّرِ الكلامِ بدخولِ غيرِها من الحروفِ مكانَها.
وهذا القولُ عندي أوْلى بالصوابِ؛ لأن لكلِّ حرفٍ من حروفِ المعاني وجهًا هو به أوْلى من غيرِه، فلا يصلُحُ تحويلُ ذلك عنه إلى غيرِه إلا بحجةٍ يجبُ التسليمُ
(1)
في ت 2: "فإذا"، وفي م:"أي".
(2)
حروف الصفات هي حروف الجر، وسميت بذلك لأنها تحدث صفة في الاسم، فقولك: جلست في الدار. دلت "في" على أن الدار وعاء للجلوس، وقيل: لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات. همع الهوامع 2/ 19. وهى أيضًا حروف المعاني، كما سيأتي.
(3)
هو القحيف العجلي، وينظر البيت في النوادر لأبي زيد ص 176، والكامل 2/ 190، 3/ 98، والخزانة 2/ 132.
(4)
بعده في ص، م:"أهل".
(5)
سقط من: ص.
لها، ولـ "إلى"
(1)
في كلِّ موضعٍ دخَلت من الكلامِ حُكْمٌ، وغيرُ جائزٍ سَلْبُها معانيَها في أماكِنها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} .
أجْمع أهلُ التأويلِ جميعًا لا خلافَ بينهم على أن معنى قولِه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذن: وإذا انصرف المنافقون خالِين إلى مَرَدتِهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم على
(2)
ما أنتم عليه، من التكذيبِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداةِ أتباعِه، إنما نحن ساخرون بأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم [في قيلِنا]
(3)
لهم إذا لَقِيناهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
كما حدَّثنا محمدُ بنُ العلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ
(4)
بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} : ساخرون بأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي: إنما نحن نَسْتهزِئُ بالقومِ ونلعبُ بهم
(6)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ العَقَديُّ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن سعيدٍ،
(1)
في ص: "الأولى".
(2)
في م: "عن".
(3)
في ص: "بقيلنا".
(4)
في م: "قيس".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 (142) من طريق محمد بن العلاء به. وهو تتمة الأثر المتقدم في ص 306.
(6)
سيرة ابن هشام 1/ 531. وهو تتمة الأثر المتقدم في ص 307.
عن قتادةَ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} : إنما نَسْتهزِئُ بهؤلاء القومِ ونَسْخَرُ بهم
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي: نَسْتَهزِئُ بأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} .
قال أبو جَعفرٍ: اخْتُلِف في صفةِ استهزاءِ اللهِ تعالى ذكرُه الذي ذكَر أنه فاعلُه بالمنافقين الذين وصَف صفتَهم؛ فقال بعضهم: استهزاؤُه بهم كالذي أخْبرنا تبارك اسمُه أنه فاعلٌ بهم يومَ القيامةِ في قولِه تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد: 13، 14] الآية. وكالذي أخبرنا أنه فعَل بالكفارِ بقولِه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]. فهذا وما أشْبهه من استهزاءِ اللهِ تعالى ذكرُه وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهلِ الشركِ به، عندَ قائلي هذا القولِ ومتأوِّلي هذا التأويلِ.
وقال آخرون: بل استهزاؤُه بهم توبيخُه إياهم، ولومُه لهم على ما ركِبوا من معاصيه
(3)
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 عقب الأثر (142) معلقا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 31 إلى عبد بن حميد. وهو تتمة الأثر السابق في ص 307.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 عقب الأثر (142) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
في م: "معاصى الله".
والكفرِ به، كما يقالُ: إن فلانًا ليُهْزَأُ منه
(1)
اليومَ، ويُسخرُ منه. يُرادُ به توبيخُ الناسِ إيَّاه ولومُهم له. أو
(2)
إهلاكُه إيَّاهم وتدميرُه بهم، كما قال عَبِيدُ بنُ الأبْرَصِ
(3)
:
سَائِلْ بنا حُجْرَ ابنِ أُمِّ قَطَامِ إذْ
…
ظلَّت به السُّمْرُ النواهِلُ
(4)
تَلعبُ
فزعَموا أن السُّمْرَ - وهي القَنَا - لا لَعِبَ منها، ولكنها لما قتَلَتهم وشرَّدتهم، جعَل ذلك من فعلِها لعبًا بمن فعَلَت ذلك به. قالوا: فكذلك استهزاءُ الله جلَّ ثناؤُه بمَن اسْتَهزَأ به من أهلِ النِّفاقِ والكفرِ به، إما إهلاكُه إيَّاهم وتدميرُه بهم، وإما إملاؤُه لهم ليأخُذَهم في حالِ أمنِهم عندَ أنفسِهم بَغتةً، أو توبيخُه لهم ولائمتُه إيَّاهم. قالوا: وكذلك معنى المكرِ منه والخديعةِ والسُّخريةِ.
وقال آخرون: قولُه: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} . على الجوابِ، كقولِ الرجلِ لمن كان يخدَعُه إذا ظَفِر به: أنا الذي خدَعتُك. ولم تكنْ منه خديعةٌ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمرُ إليه. قالوا: وكذلك قولُه: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران: 54]، و {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} .
على الجوابِ، واللهُ لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْءُ. والمعنى عندَهم
(5)
أن المكرَ والهُزْءَ حاقَ بهم.
(1)
بعده في ر: "منذ".
(2)
في ص، ر، ت 2:"و".
والضمير في قوله: إهلاكه إياهم وتدميرهم. عائد على الله سبحانه، وهو معطوف على قوله: توبيخه إياهم.
(3)
ديوانه ص 7.
(4)
النواهل، جمع الناهل والناهلة: وهي الإبل العطاش، تشبه بها الرماح، كأنها تعطش إلى الدم. التاج (ن هـ ل).
(5)
زيادة من: ر.
وقال آخرون: قولُه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} . وقولُه: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]،. وقولُه:{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]. و {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. وما أشْبه ذلك - إخبارٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه أنه مجازِيهم جزاءَ الاستهزاءِ، ومعاقبُهم عقوبةَ الخِداعِ، فأخْرج خبرَه عن جزائِه إيَّاهم وعقابِه
(1)
لهم، مُخْرَجَ خبرِه عن فعلِهم الذي عليه استحقُّوا العقابَ في اللفظِ، وإن اخْتَلف المعنَيان، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. ومعلومٌ أن الأُولَى من صاحِبها سيئةٌ، إذ كانت منه للهِ تبارك وتعالى معصيةً، وأن الأخرى عَدْلٌ؛ لأنها من اللهِ جزاءٌ للعاصي على المعصيةِ، فهما - وإن اتَّفق لفظاهما - مختلفتا المعنى، وكذلك قولُه:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]. فالعُدْوانُ الأولُ ظلمٌ، والثاني جزاءٌ لا ظلمٌ، بل هو عَدلٌ؛ لأنه عقوبةٌ للظالمِ على ظلمِه، وإن وافق لفظُه لفظَ الأولِ. وإلى مثلِ
(2)
هذا المعنى وَجَّهوا كلَّ ما في القرآنِ من نظائرِ ذلك، مما هو خبرٌ عن مكرِ اللهِ جلَّ وعزَّ بقومٍ، وما أشْبَه ذلك.
وقال آخرون: إن معنى ذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخْبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدتِهم قالوا: إنا معكم على دينِكم في تكذيب محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن - بما نُظهرُ لهم من قولِنا لهم: صدَّقْنا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به - مستهزِئون.
يعنُون أنَّا نُظهرُ لهم ما هو عندَنا باطلٌ لا حَقٌّ ولا هُدًى. قالوا: وذلك هو معنًى من معاني الاستهزاءِ، فأخْبر اللهُ أنه يَسْتهزئُ بهم، فيُظهرُ لهم من أحكامِه في الدنيا خلافَ الذي لهم عندَه في الآخرةِ، كما أظْهروا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدينِ ما هم على خلافِه في سرائرِهم.
(1)
في ص: "معاقبته".
(2)
زيادة من: ر.
والصوابُ في ذلك من القولِ والتأويلِ عندَنا أن معنى الاستهزاءِ في كلامِ العربِ إظهارُ المستهزِئ للمستهزَأ به من القولِ والفعلِ ما يُرْضِيه ويُوافِقُه
(1)
ظاهرًا، وهو بذلك من قيلِه وفعلِه به مُوَرِّطُه
(2)
مساءَتَه
(3)
باطنًا، وكذلك معنى الخِداعِ والسُّخريةِ والمكرِ.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان اللهُ جلَّ ثناؤُه قد جعَل لأهلِ النِّفاقِ في الدنيا من الأحكامِ - بما أظْهروا بألسنتِهم من الإقرارِ باللهِ وبرسولِه وبما جاء به من عندِ اللهِ، المُدْخِلِهم
(4)
في عِدادِ مَن يشمَلُهم
(5)
اسمُ الإسلامِ، وإن كانوا
(6)
لغيرِ ذلك مُستبطِنين
(7)
-أحكامَ المسلمين
(8)
المصدِّقين إقرارَهم بألسنتِهم بذلك، بضمائرِ قلوبهم، وصَحائحِ عزائمِهم، وحميدِ أفعالِهم المحققةِ لهم صحةَ إيمانِهم، مع علمِ الله جلَّ وعزَّ بكذبِهم، واطلاعِه على خُبْثِ اعتقادِهم، وشكِّهم فيما ادَّعَوا بألسنتِهم أنهم به
(9)
مصدِّقون، حتى ظنُّوا في الآخِرةِ - إذ حُشِروا في عِدادِ من كانوا في عِدادِهم في الدنيا - أنّهم وارِدُون مَوْرِدَهم، وداخِلون مَدْخَلَهم، واللهُ جل جلاله مع إظهارِه ما قد أظْهر لهم من الأحكامِ المُلْحِقتِهم
(10)
في عاجلِ الدنيا وآجلِ الآخرةِ
(1)
سقط من: ص، وفي ر، ت 2:"يوفقه".
(2)
في م: "مورثه".
(3)
في ص، م:"مساءة".
(4)
في م: "المدخل لهم".
(5)
في ص، م:"يشمله".
(6)
في ر: "كان".
(7)
بعده في م: "من".
(8)
في ر: "الإسلام".
(9)
سقط من: م.
(10)
في م: "الملحقهم".
إلى حالِ تمييزِه بينَهم وبينَ أوليائِه، وتفريقِه بينهم وبينهم - مُعِدٌّ لهم من أليمِ عقابِه ونَكالِ عذابِه، ما أعدَّ منه لأعْدى أعدائِه، وشرِّ
(1)
عبادِه، حتى ميَّز بينهم وبينَ أوليائِه، فألحَقهم من طبقاتِ جحيمِه بالدركِ الأسفلِ [من النارِ]
(2)
- كان معلومًا
(3)
أنه جلَّ ثناؤُه بذلك من فعلِه بهم، وإن كان جزاءً لهم على أفعالِهم، وعدلًا ما فعَل من ذلك بهم؛ لاستحقاقِهم إيًّاه منه بعصيانِهم له كان بهم بما أظهَر لهم من الأمورِ التي أظْهرها لهم من إلحاقِه أحكامَهم في الدنيا بأحكامِ أوليائِه وهم له أعداءٌ، وحشرِه إيّاهم في الآخرةِ مع المؤمنين وهم به من المكذِّبين، إلى أن ميَّز بينَهم [وبينَهم - مستهزِئًا بهم]
(4)
وساخرًا، ولهم خادِعًا، وبهم ماكرًا؛ إذ كان معنى الاستهزاءِ والسُّخريةِ والمكرِ والخديعةِ ما وصَفنا قبلُ، دونَ أن يكونَ ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزِئُ بصاحبِه له ظالمٌ، أو عليه فيها
(5)
عادلٌ، بل ذلك معناه في كلِّ أحوالِه، إذا
(6)
وُجدَت الصفاتُ التي قدَّمنا ذكرَها في معنى الاستهزاءِ وما أشْبَهه من نظائِرِه.
وبنحوِ ما قلنا فيه رُوي الخبرُ عن ابنِ عباسٍ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ،
(1)
في م: "أشر".
(2)
زيادة من: ر.
(3)
قوله: كان معلوما. جواب قوله: فإذ كان ذلك كذلك
…
المتقدم أول الفقرة.
(4)
في م: "وبينهم مستهزئا".
(5)
بعده في م: "غير".
(6)
في ر: "إذا قد".
عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} . قال: يسخَرُ بهم للنِّقمةِ منهم
(1)
.
وأمّا الذين زعَموا أن قولَ اللهِ جلّ ثناؤُه: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} . إنما هو على وجهِ الجوابِ، وأنه لم يكنْ من اللهِ استهزاءٌ ولا مكرٌ ولا خديعةٌ، فنافون عن اللهِ جلّ ثناؤُه ما قد أثْبَته اللهُ جلّ ثناؤُه لنفسِه وأوْجَبه لها. وسواءٌ قال قائلٌ: لم يكنْ من اللهِ جلَّ ذكرُه استهزاءٌ ولا مكرٌ
(2)
ولا سُخريةٌ بمن أخْبَر أنه يَسْتَهزِئُ ويسخَرُ ويمكُرُ به. أو قال: لم يخسِفِ اللهُ بمن أخْبَر أنه خسَف به من الأممِ، ولم يُغرقْ من أخْبَر أنه غرّقه منهم.
ويقالُ لقائلِ ذلك: إن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخْبَرنا أنه مكَر بقومٍ مضَوا قبلَنا لم نَرَهم، وأخْبَر عن آخرين أنه خسَف بهم، وعن آخرين أنه غرّقهم، فصدَّقْنا اللهَ جلّ ثناؤُه فيما أخْبَرنا به من ذلك، ولم نفرِّقْ بين شيْءٍ منه، فما برهانُك على تفريقِك ما فرَّقْتَ بينَه، بزعمِك أنه قد غرّق وخسَف بمن قد
(3)
أخْبَر أنه غرّقه وخسَف به، ولم يمكُرْ بمن أخْبَر أنه قد مكَر به؟ ثم يُعكَس القولُ عليه في ذلك، فلن يقولَ في أحدِهما شيئًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
فإن لجَأ إلى أن يقولَ: إن الاستهزاءَ عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن اللهِ عز وجل منفيٌّ.
قيل له: إن كان الأمرُ عندَك على ما وصَفْتَ من معنى الاستهزاءِ، أفَلسْتَ تقولُ: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بهم، وسخِر اللهُ منهم، ومكَر اللهُ بهم. وإن لم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 (143) من طريق أبي كريب به.
(2)
بعده في م: "ولا خديحة".
(3)
زيادة من: ر.
يكنْ من اللهِ عندَك هُزْءٌ ولا سخريةٌ؟ فإن قال: لا. كذَّب بالقرآنِ، وخرَج من
(1)
ملَّةِ الإسلامِ. وإن قال: بلى. قيل له: أفتقولُ من الوجهِ الذي قلت: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، {سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ}: يلعَبُ اللهُ بهم ويعبَثُ. ولا لعبَ من اللهِ ولا عبثَ؟ فإن قال: نعم. وصَف اللهَ بما قد أجْمَع المسلمون على نفيِه عنه، وعلى تخطئةِ واصفِه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجةُ من العقولِ على ضلالِ مُضيفِه إليه. وإن قال: لا أقولُ: يلعبُ اللهُ بهم، ولا يعبَثُ. وقد أقولُ: يَسْتهزِئُ بهم، ويسخَرُ منهم. قيل: فقد فرَّقت بين معنى اللعبِ والعبثِ، والهُزْء والسخريةِ، والمكرِ والخديعةِ، ومن الوجهِ الذي جاز قيل هذا، ولم يَجُزْ قيلُ هذا، افْتَرق معنياهما، فعُلم أن لكلِّ واحدٍ منهما معنًى غيرَ معنى الآخرِ.
وللكلامِ في هذا النوعِ موضعٌ غيرُ هذا، كرِهنا إطالَة الكتابِ باستقصائِه، وفيما ذكَرْنا كفايةٌ لمن وُفِّق لفَهمِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَيَمُدُّهُمْ} .
قال أبو جعفر: اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَيَمُدُّهُمْ} ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَيَمُدُّهُمْ} : يُملي لهم
(2)
.
(1)
في م: "عن".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 78 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 31 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 (144) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي من قوله. وسيأتي بقية هذا الأثر في ص 321، 322.
وقال آخرون بما حدَّثني به المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا سويدُ بنُ نصرٍ، عن ابنِ المباركِ، عن ابنِ جُريجٍ قراءةً، عن مجاهدٍ:{وَيَمُدُّهُمْ} قال: يَزيدُهم
(1)
.
وكان بعضُ نحوييِّ
(2)
البصرةِ يتأوَّلُ ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لهم. ويزعُمُ أن ذلك نظيرُ قولِ العربِ: الغلامُ يلعَبُ الكِعابَ. [يُراد به: يلعَبُ بالكِعابِ]
(3)
. قال: وذلك أنهم قد يقولون: قد مدَدْتُ له، وأمْددْتُ له. في غيرِ هذا المعنى، وهو قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ:{وَأَمْدَدْنَاهُمْ} [الطور: 22]. وهذا من: أمْدَدناهم. قال: ويقالُ: قد مدَّ البحرُ فهو مادٌّ، وأمَدَّ الجُرْحُ فهو مُمِدٌّ.
وحُكِي عن يونسَ الجَرْميِّ
(4)
أنه كان يقولُ: ما كان من الشرَّ فهو: مدَدْتُ، وما كان من الخيرِ فهو: أَمْدَدتُ. ثم قال: وهو كما فسَّرتُ لك، إذا أردتَ أنك ترَكْتَه فهو: مَدَدتُ له، وإذا أردتَ أنك أعْطيتَه قلت: أمْدَدتُ.
وأما بعضُ نحوييِّ الكوفةِ فإنه كان يقولُ: كلُّ زيادةٍ حدَثت في الشيْءِ من نفسِه، فهو: مَدَدتُ، بغيرِ ألفٍ، كما تقولُ: مدَّ النهَرُ، [ومدَّه نهَرٌ]
(5)
آخرُ غيرُه. إذا اتَّصل به فصار منه، وكلُّ زيادةٍ حَدَثت في الشيْءِ من غيرِه فهو بألفٍ، كقولِك: أمدَّ الجُرْحُ؛ لأنَّ المِدَّةَ من غيرِ الجُرحِ، وأمْدَدتُ الجيشَ بمَدَدٍ.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ في قولِه: {وَيَمُدُّهُمْ} . أن يكونَ بمعنى:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 48 (145) من طريق ابن جريج به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 31 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في ر: "أهل".
(3)
سقط من: ص.
(4)
ينظر تهذيب اللغة 14/ 85.
(5)
في ص: "مده فهو"، وفي ر:"مد نهر".
يزيدُهم. على وجهِ
(1)
الإملاءِ والتركِ لهم في عُتوِّهم وتمرُّدِهم، كما وصَف ربُّنا جلَّ ثناؤُه أنه فَعَل بنظرائِهم في قولِه:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. [فكذلك قولُه: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}]
(2)
. يعني: [يَذَرُهم ويَتركُهم فيه، ويُملي]
(3)
لهم ليزْدادوا إثمًا إلى إثمِهم.
ولا وجهَ لقولِ من قال: ذلك بمعنى: يَمُدُّ لهم. لأنَّه [لا تدافُعَ بين]
(4)
العربِ وأهلِ المعرفةِ بلغتِها أن يستجيزوا قولَ القائلِ: مدَّ النهَرَ
(5)
نَهَرٌ آخرُ.
بمعنى: اتصل به فصار
(6)
زائدًا [ماءُ المتَّصَلِ]
(7)
به بماءِ المتَّصِلِ. مِن غيرِ تأوُّلٍ منهم ذلك
(8)
أن معناه: مدَّ النهَرَ
(9)
نهَرٌ آخرُ. فكذلك ذلك في قولِه جلّ وعزّ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فِي طُغْيَانِهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: والطغيانُ الفُعْلانُ، من قولِك: طغَى فلانٌ يطغَى طُغْيانًا. إذا تجاوَز في الأمرِ حدَّه فبغَى. ومنه قولُ اللهِ جلّ ثناؤُه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ
(1)
في ر: "معنى".
(2)
سقط من: ص، م.
(3)
في ص، م:"نذرهم ونتركهم فيه ونملي".
(4)
في ص: "تتدافع".
(5)
في ص: "إليهم".
(6)
في ص: "صارا".
(7)
في ر، ت 2:"ما اتصل"، وفي ت 1:"بماء المتصل".
(8)
في ص: "وذلك".
(9)
في ص: "للنهر".
رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] أي: يتجاوزُ حدَّه. ومنه قولُ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ
(1)
:
ودعا اللهَ دعوةً [لاتَ هَنَّا]
(2)
…
بعدَ طُغْيانِه فظلَّ
(3)
مُشيرَا وإنما عنَى اللهُ جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِم} أي
(4)
: يُملي لهم، ويذَرُهم يبغُون في ضلالَتِهم
(5)
وكفرِهم حَيارَى يتردَّدون.
كما حُدِّثت عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بِشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال: في كفرِهم يتردَّدون
(6)
.
وحدَّثني موسى بنُ هارون، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فِي طُغْيَانِهِمْ} : في كفرِهم
(7)
. حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{فِي طُغْيَانِهِمْ} : في ضلالتِهم
(8)
.
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن
(1)
ديوانه ص 44.
(2)
في الديوان: "لا يهنا".
(3)
في إحدى نسخ الديوان: "فصار".
(4)
في م: "أنه".
(5)
في ص، م:"ضلالهم".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 (148، 150) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.
(7)
تقدم أول هذا الأثر في ص 321، 322.
(8)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 عقب الأثر (148) معلقا.
الرَّبيعِ: {فِي طُغْيَانِهِمْ} : في ضلالتِهم
(1)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فِي طُغْيَانِهِمْ} قال: طغيانُهم كفرُهم وضلالتُهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَعْمَهُونَ (15)} .
قال أبو جعفرٍ: والعَمَهُ نفسُه الضلالُ. يقالُ منه: عمِه فلانٌ يعمَهُ عَمَهانًا وعُموهًا، إذا ضلَّ. ومنه قولُ رؤْبةَ بنِ العجَّاجِ يصفُ مَضَلَّةً من المَهامِهِ
(3)
:
ومَخْفَقٍ
(4)
من لُهْلُهٍ
(5)
ولُهْلُهِ
من
(6)
مَهْمَهٍ
(7)
يَجْتَبْنَهُ
(8)
في
(9)
مَهْمَهِ
أعْمَى الهُدى بالجاهلين العُمَّهِ
والعُمَّهُ جمعُ عامِهٍ، وهم الذين يضلُّون فيه فيتحيَّرون.
فمعنى قولِه جلَّ ثناؤُه إذن
(10)
: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . في ضلالتِهم وكفرِهم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 عقب الأثر (148) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 79 عن ابن زيد.
(3)
ديوان رؤبة (مجموعة أشعار العرب) ص 166.
(4)
المخفق: الأرض التي تستوي فيكون فيها السراب مضطربا. اللسان (خ ف ق).
(5)
في ص: "أهله". واللهله: الأرض الواسعة يضطرب فيها السراب. اللسان (لهله).
(6)
في الديوان: "و".
(7)
المهمه: الفلاة بعينها لا ماء بها ولا أنيس. اللسان (م هـ هـ).
(8)
في الديوان: "أطرافه"، وفي ص:"يجتنه"، وفي ت 1:"يجبنه". وجاب المفازة جوبًا: قطعها. تاج العروس (ج و ب).
(9)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"و".
(10)
سقط من: م.
الذي قد غمَرَهم دَنَسُه، وعلاهم رِجْسُه، يتردَّدون حَيارَى ضُلَّالًا، لا يجدون إلى المَخْرَجِ منه سبيلًا؛ لأن اللهَ قد طبَع على قلوبِهم، وختَم عليها، وأَعْمَى أبصارَهم عن الهدَى وأغشاها
(1)
، فلا يُبْصِرونَ رُشْدًا، ولا يهتَدون سبيلًا.
وبنحوِ ما قلنا في العَمَهِ جاء تأويلُ المتأوِّلين.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{يَعْمَهُونَ} : يتمادَوْن في كفرِهم
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهِيمَ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليٍّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يَعْمَهُونَ} . قال: يتمادَوْن
(3)
.
حُدِّثت عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{يَعْمَهُونَ} . قال: يتردَّدون
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {يَعْمَهُونَ} : المتلدِّدُ
(5)
.
(1)
في ص: "أعشاها"، وفي ت 2:"أعشاهم".
(2)
تقدم أول هذا الأثر في ص 321، 322.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 (149) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 31 إلى ابن المنذر.
(4)
تقدم في ص 321.
(5)
سقط من: ص، وفي ت 1:"التلذذ"، وفي ت 2:"المتلذذ". وتلدد: تلفت يمينا وشمالا وتحير متبلدا. اللسان (ل د د).
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال: يتردَّدون
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفَة، قال حدَّثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سويدُ بنُ نصرٍ، عن ابنِ المباركِ، عن ابنِ جُريجٍ قراءةً، عن مجاهدٍ مثلَه.
حُدِّثت عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{يَعْمَهُونَ} قال: يتردَّدون
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} .
قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا
(3)
قائلٌ: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدَّمْ نفاقَهم إيمانٌ فيقالَ فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتِهم التي
(4)
اسْتَبدلوها منه. وقد علِمتَ أن معنى الشراءِ المفهومَ
(1)
تفسير مجاهد ص 196، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 31 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 عقب الأثر (150) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "حتى".
اعتياضُ شيْءٍ ببذلِ شيْءٍ مكانَه عِوَضًا منه، والمنافقون الذين وصَفهم اللهُ بهذه الصفةِ لم يكونوا قطُّ على هُدًى فيتْرُكوه ويَعْتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟
قيل: قد اخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك، فنذكُرُ ما قالوا فيه، ثم نبيِّنُ الصحيحَ من التأويلِ في ذلك إن شاء اللهُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ ابنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أي: الكفرَ بالإيمانِ
(1)
.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} . يقولُ
(2)
: أَخَذوا الضلالةَ وترَكوا الهدى
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : اسْتَحبُّوا الضلالةَ على الهُدى
(4)
.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 532، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 (153) من طريق سلمة به.
(2)
في ص، ت 1:"قال".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 79 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف عن ابن مسعود وحده.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 50 (155) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(4)
بعده في ت 2: "وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}. استحبوا الضلالة على الهدى". =
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : آمَنوا ثم كفَروا
(1)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال أبو جعفرٍ: فكأنَّ
(2)
الذين قالوا في تأويلِ ذلك: أخَذوا الضلالةَ وترَكوا الهدى. وجَّهوا معنى الشِّراءِ إلى أنه أخْذُ المُشْترِي المُشْتَرَى
(3)
مكانَ الثمنِ المشترَى به، فقالوا: كذلك المنافقُ والكافرُ قد أخَذا مكانَ الإيمانِ الكفرَ، فكان ذلك منهما شراءً للكفرِ والضلالةِ اللذين أخَذاهما بتركِهما ما ترَكا من الهدى، وكان الهدى الذي ترَكاه هو
(4)
الثمنَ الذي جعَلاه عِوَضًا من الضلالةِ التي أخذاها.
وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قولِه: {اشْتَرَوُا} : استحبُّوا. فإنهم لما وجَدوا اللهَ جلَّ ثناؤُه قد وصَف الكفارَ في موضعٍ آخرَ، فنسبَهم إلى استحبابِهم الكفرَ على الهدى، فقال:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. صرَفوا قولَه: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} إلى ذلك، وقالوا:
= وأثر قتادة أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، كما في الدر المنثور 1/ 32 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 49 (152) - عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد. وستأتي بقيته في ص 330.
(1)
تفسير مجاهد ص 197، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 50 (154). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م: "فكان".
(3)
سقط من: ص، م.
(4)
في ر: "من".
قد تدخُلُ الباءُ مكانَ "عَلَى"، و "على" مكانَ الباءِ، كما يقالُ: مَرَرْتُ بفلانٍ، ومَرَرْتُ على فلانٍ. بمعنًى واحدٍ، وكقولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. يُريدُ
(1)
: على قنطارٍ. فكان تأويلُ الآيةِ على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالةَ على الهدى. وأُراهم وجَّهوا معنى قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {اشْتَرَوُا} إلى معنى. اخْتاروا؛ لأن العربَ تقولُ: اشْتَريتُ كذا على كذا، واسْتَرَيتُه. يعنُون: اخترتُه عليه. ومن الاسْتِراءِ
(2)
قولُ أعْشى بني ثعلبةَ
(3)
:
فقد أُخْرِجُ الكاعبَ
(4)
المُسْتَرا
…
ةَ
(5)
من خِدْرِها وأُشِيعُ القِمَارَا
يَعني بالمشتراةِ
(6)
المختارةَ.
وقال ذو الرُّمَّةِ في الاشتراءِ بمعنَى الاختيارِ
(7)
:
يذُبُّ القَصَايا
(8)
عن شَرَاةٍ
(9)
كأنَّها
…
جَماهيرُ
(10)
تحت المُدْجِناتِ
(11)
الهَوَاضِبِ
(12)
يعني بالشَّراةِ المختارةَ.
(1)
في م: "أي".
(2)
في ر، م:"الاشتراء".
(3)
ديوانه ص 45.
(4)
الكاعب: الجارية التي نهد ثديها. اللسان (ك ع ب).
(5)
في م: "المشتراة".
(6)
في م: "بالمشتراة".
(7)
ديوان ذي الرمة 1/ 212.
(8)
القصايا: خيار الإبل، وقيل: القصية من الإبل رذالتها. وهو المراد هنا. اللسان (ق ص ى).
(9)
في الديوان، واللسان (ق ص ى):"سراة"، وفي اللسان (ش ر ى):"شراة".
(10)
الجماهير جمع الجمهور: الرمل الكثير المتراكم الواسع. اللسان (جمهر).
(11)
أدجن المطر: دام فلم يقلع أياما. اللسان (د ج ن).
(12)
الهضبة: المطرة الدائمة العظيمة القطر. اللسان (هـ ض ب).
وقال آخرُ في مثلِ
(1)
ذلك
(2)
:
إن الشَّرَاةَ رُوقةُ
(3)
الأَموالِ
وحَزْرَةُ
(4)
القَلْبِ خِيارُ المَالِ
قال أبو جعفرٍ: وهذا وإن كان وجهًا من التأويلِ، فلستُ له بمختارٍ؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤُه قال:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} . فدلَّ بذلك على أن معنَى قولِه:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} معنَى الشراءِ الذي يتعارفُه الناسُ، من استبدالِ شيْءٍ مكانَ شيْءٍ، وأخذِ عِوَضٍ على عوضٍ.
وأما الذين قالوا: إن القومَ كانوا مؤمنين فكفَروا. فإنه لا مؤنةَ عليهم لو كان الأمرُ على ما وصَفوا به القومَ؛ لأن الأمرَ إذا كان كذلك، فقد ترَكوا الإيمانَ، واسْتَبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى، وذلك هو المعنى المفهومُ من معاني الشِّراءِ والبيعِ، ولكنّ دلائلَ
(5)
أولِ الآياتِ في نعوتِهم إلى آخرِها دالَّةٌ على أن القومَ لم يكونوا قطُّ استَضاءوا بنورِ الإيمانِ، ولا دخَلوا في ملَّةِ الإسلامِ، أوَ ما تسمَعُ اللهَ جلَّ ثناؤُه من لَدُنِ ابْتَدأ في نعتِهم إلى أن أتى على صفتِهم، إنما وصَفهم بإظهارِ الكذبِ بألسنتِهم بدَعْوَاهم التصديقَ بنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، خِداعًا للهِ ولرسولِه وللمؤمنين عندَ أنفسِهم، واستهزاءً في أنفسِهم بالمؤمنين، وهم لغيرِ ما كانوا يُظهِرون مُسْتبطنون، يقولُ
(6)
اللهُ جل جلاله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
(1)
في ر: "معنى".
(2)
البيت الأول في أساس البلاغة ص 170، والبيت الثاني في الصحاح، واللسان، والتاج (ح ز ر).
(3)
الروقة: الجميل جدًّا من الناس. اللسان (ر و ق).
(4)
حزرة القلب: نقاوته. ويقال: هذا حزْرة نفسي: أي خير ما عندي. التاج (ح ز ر).
(5)
في ر، ت 2:"دلالة".
(6)
في م: "لقول".
الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} . فأين الدلالةُ على أنهم كانوا مؤمنين فكفَروا؟
فإن كان
(1)
قائلُ هذه المقالةِ ظنَّ
(2)
أن قولَه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} هو الدليلُ على أن القومَ قد كانوا على الإيمانِ فانْتَقلوا عنه إلى الكفرِ، فلذلك قيل لهم:{اشْتَرَوُا} . فإن ذلك تأويلٌ غيرُ مسلَّمٍ له؛ إذ كان الاشتراءُ عندَ مخالفيه قد يكونُ أخذَ شيْءٍ بتركِ آخرَ غيرِه، وقد يكونُ بمعنى الاختيارِ، وبغيرِ ذلك من المعاني، والكلمةُ إذا احْتَمَلت وجوهًا لم يكنْ لأحدٍ صَرْفُ معناها إلى بعضِ وجوهِها دونَ بعضٍ إلا بحجةٍ يجبُ التسليمُ لها.
قال أبو جعفرٍ: والذي هو أَوْلى عندي
(3)
بتأويلِ الآيةِ ما رَوَينا عن ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ من تأويلِهما قولَه: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : أخَذوا الضلالةَ وترَكوا الهدى. وذلك أن كلَّ كافرٍ باللهِ فإنه مستبدِلٌ بالإيمانِ كفرًا
(4)
، باكتسابِه الكفرَ الذي وُجد منه [بدلًا من الإيمانِ]
(5)
الذي أُمِر به، أوَ ما تسمَعُ اللهَ جَلَّ ثناؤُه يقولُ في من اكْتَسب كفرًا به مكانَ الإيمانِ به وبرسولِه:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]. وذلك هو معنى الشراءِ؛ لأنَّ كلَّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدلُ مكانَ الذي يُؤخذُ منه من البدلِ آخرَ بديلًا
(6)
منه، [فكذلك المنافقُ والكافرُ]
(7)
، اسْتَبدلَا بالهُدى الضلالَ والنِّفاقَ، فأضلَّهما اللهُ، وسلَبهما نورَ
(1)
في ص: "ظن"، وفي ر:"قال".
(2)
سقط من: ص.
(3)
في ص: "عندنا".
(4)
بعده في ر: "و".
(5)
في ر: "بالإيمان".
(6)
في م: "بدلا".
(7)
في ص: "وكان الكافر والمنافق".
الهدى، فترَك جميعَهم في ظلماتٍ لا يُبْصِرون.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ ذلك أن المنافقين بشرائِهم الضلالةَ بالهُدَى، خسِروا ولم يربَحوا؛ لأنَّ الرابحَ من التُّجارِ المستبدِلُ من سلعتِه المملوكةِ عليه بدلًا هو أنفسُ من سلعتِه
(1)
، أو أفضلُ من ثمنِها الذي ابتاعَها به، فأما المستبدِلُ من سلعتِه بدلًا
(2)
دونَها، ودونَ الثمنِ الذي ابتاعَها به، فهو الخاسرُ في تجارتِه لا شكَّ. فكذلك الكافرُ والمنافقُ؛ لأنهما اختارا الحَيْرَةَ والعمى على الرشادِ والهدى، والخوفَ والرعبَ على الخَفْضِ
(3)
والأمنِ، فاسْتَبدلا في العاجلِ بالرشادِ الحَيْرةَ، وبالهدى الضلالةَ، وبالخفضِ
(4)
الخوفَ، وبالأمنِ الرعبَ، مع ما قد أعدَّ لهما في الآجلِ من أليمِ العقابِ وشديدِ العذابِ، فخابا وخسِرا ذلك هو الخُسرانُ المبينُ. وبنحوِ ما قلنا في ذلك كان قتادةُ يقولُ
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : قد واللهِ رأيتُموهم، خرَجوا من الهدَى إلى الضلالةِ، ومن الجماعةِ إلى الفُرقةِ، ومن الأمنِ إلى الخوفِ، ومن السُّنَّةِ إلى البدعةِ
(6)
.
قال أبو جعفرٍ: فإن قال قائلٌ: وما وجهُ قولِه: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} . وهل
(1)
بعده في ص: "المملوكة".
(2)
في ص: "ثمنا".
(3)
في ص، م:"الحفظ". والخفض: الدعة وطيب العيش، التاج (خ ف ض).
(4)
في ص، م:"بالحفظ".
(5)
في ر، ت 2:"يقوله".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 50 (157) من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد. وتقدم أول هذا الأثر في ص 325.
التجارةُ مما تَربَحُ أو تُوكَسُ
(1)
، فيقالَ: رَبِحت أو وُضِعَت
(2)
؟
قيل: إن وجهَ ذلك على غيرِ ما ظننتَ، وإنما معنى ذلك: فما ربِحوا في تجارتِهم، لا فيما اشْتَرَوا ولا فيما شَرَوا. ولكنّ اللهَ جلَّ ثناؤُه خاطَب بكتابِه عَربًا، فسلَك في خطابِه إيَّاهم وبيانِه لهم مسلَكَ خطابِ بعضِهم بعضًا وبيانِهم المستعمَلِ بينَهم. فلما كان فصيحًا لديهم قولُ القائلِ لآخرَ: خاب سعيُك، ونام ليلُك، وخَسِر بيعُك. ونحوُ ذلك من الكلامِ الذي لا يَخْفى على سامعِه ما يريدُ قائلُه، خاطَبهم بالذي هو في منطقِهم من الكلامِ، فقال:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} . إذ كان معقولًا عندَهم أن الربحَ إنما هو في التجارةِ، كما النومُ في الليلِ، فاكتفى بفَهمِ المخاطَبين بمعنى ذلك عن أن يقالَ: فما ربِحوا في تجارتِهم. وإن كان ذلك معناه، كما قال الشاعرُ
(3)
:
وشرُّ المنَايَا مَيِّتٌ
(4)
وَسْطَ
(5)
أهلِه
…
كهُلْكِ الفتاةِ
(6)
أسْلَمَ
(7)
الحيَّ حاضِرُهْ
يعني بذلك: وشرُّ المنايا مَنيَّةُ
(8)
ميِّتٍ وسطَ أهلِه. فاكتفى بفهمِ سامعِ قيلِه مرادَه من ذلك عن إظهارِ ما ترَك إظهارَه. وكما قال رُؤْبةُ بنُ العجَّاجِ
(9)
:
حارثُ قد فرَّجتَ عنِّي همِّي
(1)
في م: "تنقص". وهما بمعنى.
(2)
وُضِع في تجارته: غُبن. اللسان (و ض ع).
(3)
هو الحطيئة، ينظر الكتاب 1/ 215، وطبقات فحول الشعراء 1/ 112.
(4)
في الطبقات: "هالك".
(5)
في الكتاب: "بين".
(6)
في الكتاب: "الفتى".
(7)
في الطبقات: "أيقظ"، وفي الكتاب:"قد أسلم".
(8)
في ر، ت 2:"ميتة".
(9)
ديوانه ص 142.
فنام لَيْلِي وتجلَّى غمِّي
فوصَف بالنومِ الليلَ، ومعناه أنه هو الذي نام. وكما قال جريرُ بنُ الخَطَفَي
(1)
:
وأَعْوَرَ من نَبْهَانَ أما نهارُه
…
فأَعْمَى وأما ليلُه فبصيرُ
فأضاف العمى والإبصارَ إلى الليلِ والنهارِ، ومرادُه وصفُ النَّبْهانيِّ
(2)
بذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} .
يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : ما كانوا رُشداءَ في اختيارِهم الضلالةَ على الهدى، واستبدالِهم الكفرَ بالإيمانِ، واشترائِهم النفاقَ بالتصديقِ والإقرارِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . وقد علمتَ أن الهاءَ والميمَ من قولِه: {مَثَلُهُمْ} كنايةُ جماعٍ
(3)
من الرجالِ، أو الرجالِ والنساءِ، و {الَّذِي} دلالةٌ على واحدٍ من الذكور، فكيف جعَل الخبرَ عن الواحدِ مثلًا لجماعةٍ؟ وهلَّا قيل: مثلُهم كمثلِ الذين اسْتَوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندَك أن تُمثَّلَ الجماعةُ بالواحدِ، فتُجيزَ لقائلٍ رأَى جماعةً من الرجالِ فأعْجَبتْه صُوَرُهم وتمامُ خلقِهم وأجسامِهم أن يقولَ: كَأن هؤلاء، أو كأن أجسامَ
(1)
ديوانه 2/ 877.
(2)
في ص: "النهار". والنبهاني: هو الأعور النبهاني، نزل بجرير فأهدى إليه جرير، ولكن الأعور أساء الأدب وأخذ يتفف على ما أهدى إليه، فتهاجيا، فكان ذلك مما أجابه به جرير.
(3)
في م: "جماعة".
هؤلاء نخلةٌ؟
قيل: أمّا في الموضعِ الذي مثَّل ربُّنا جلَّ ثناؤُه جماعةً من المنافقين بالواحدِ الذي جعَله لأفعالِهم مثلًا، فجائزٌ حسنٌ، وفي نظائرِه، كما قال جلَّ ثناؤُه في نظيرِ ذلك:{تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]. يَعْني: [كدَوْرِ أعينِ الذين يُغْشَى عليهم]
(1)
من الموتِ. وكقولِه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]. بمعنى: إلا كبعثِ نفسٍ واحدةٍ.
وأمّا في تمثيلِ أجسامِ الجماعةِ من الرجالِ في الطولِ وتمامِ الخلقِ بالواحدةِ من النخيلِ، فغيرُ جائزٍ، ولا في نظائرِه، لفرقٍ بينَهما.
فأما تمثيلُ الجماعةِ من المنافقين بالمستوقِد الواحدِ، فإنما جاز لأن المرادَ من
(2)
الخبرِ عن مَثَلِ المنافقين
(3)
الخبرُ عن مثَلِ استِضاءتِهم بما أظهَروا بألسنتِهم من الإقرارِ
(4)
وهم لغيرِه مستبطِنون، من اعتقاداتِهم الرديَّةِ، وخلطِهم نفاقَهم الباطنَ بالإقرارِ بالإيمانِ الظاهرِ. والاستضاءةُ - وإن اخْتَلفَت أشخاصُ أهلِها - معنًى واحدٌ لا معانٍ مختلفةٌ، فالمَثَلُ لها
(5)
في معنى المثلِ للشخصِ الواحدِ من الأشياءِ المختلفةِ الأشخاصِ.
وتأويلُ ذلك: مثَلُ استضاءةِ المنافقين بما أظْهَروا من الإقرارِ باللهِ عز وجل وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولًا، وهم به مكذِّبون اعتقادًا، كمثَلِ استضاءة الموُقدِ
(1)
في ت 1: "كدوران الذي يغشى عليه"، وفي م:"كدوران عين الذي يغشى عليه".
(2)
في ص: "بمثل".
(3)
في ص، ت 2:"المنافق".
(4)
بعده في ت 2: "والمراد هم الأفراد".
(5)
في ص، ت 1:"له".
نارًا. ثم أُسقِط ذكرُ الاستضاءةِ وأُضِيف المثلُ إليهم، كما قال نابغةُ بني جَعْدةَ
(1)
:
وكيف تواصِلُ من أصْبَحتْ
…
خِلالتُه
(2)
كأبي مَرْحَبِ
(3)
يريدُ: كخِلالةِ أبي مرحبٍ. فأسْقَط "خِلالَةَ"؛ إذ كان فيما أظْهَر من الكلامِ دلالةٌ لسامعيه على ما حذَف منه.
فكذلك القولُ في قولِه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} لما كان معلومًا عندَ سامعيه بما ظهَر
(4)
من الكلامِ أن المثَلَ إنما ضُرِب لاستضاءةِ القومِ بالإقرارِ دونَ أعيانِ أجسامِهم، حسُن حذفُ ذكرِ الاستضاءةِ وإضافةُ المثلِ إلى أهلِه، والمقصودُ بالمثَل ما ذكَرنا. فلِما وصَفنا جاز وحسُن قولُه:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . وتَشْبيهُ
(5)
مثَلِ الجماعةِ في اللفظِ بالواحدِ، إذ كان المرادُ بالمثَلِ الواحدَ في المعنى. وأما إذا أُريد تشبيهُ الجماعةِ من أعيانِ بني آدمَ، أو أعيانِ ذوي الصورِ والأجسامِ بشيْءٍ، فالصوابُ من الكلامِ تشبيهُ الجماعةِ بالجماعةِ، والواحدِ بالواحدِ؛ لأن عينَ كلِّ واحدٍ منهم غيرُ أعيانِ الآخرينَ، ولذلك من المعنى افْتَرَق القولُ في تشبيهِ الأفعالِ والأسماءِ، فجاز تشبيهُ أفعالِ الجماعةِ من الناسِ وغيرهم - [إذا كانت]
(6)
بمعنًى واحدٍ - بفعلِ الواحدِ، ثم حذفُ أسماءِ الأفعالِ، وإضافةُ المثَلِ والتشبيهِ إلى الذين لهم الفعلُ، فيقالُ: ما أفعالُكم إلا كفعلِ الكلبِ. ثم
(1)
شعر النابغة الجعدي ص 26.
(2)
الخلالة والخلة: الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل. اللسان (خ ل ل)، والبيت فيه.
(3)
أبو مرحب: كنية الظل. اللسان (ر ح ب)، والبيت فيه.
(4)
في ص، م، ت 1:"أظهر".
(5)
في ص، م، ت 2:"يشبه".
(6)
في ت 2: "إذا كان"، وفي ت 1:"إذ كانوا".
يُحذفُ فيقالُ: ما أفعالُكم إلا كالكلبِ، أو
(1)
كالكلابِ. وأنت تعني: إلّا كفعلِ الكلبِ، وإلّا كفعل الكلابِ. ولم يَجُزْ أن تقولَ: ما هم إلا نخلةٌ. وأنت تريدُ تشبيهَ أجسامِهم بالنخلِ في الطولِ والتمامِ.
وأما قولُه: {اسْتَوْقَدَ نَارًا} . فإنه في تأويلِ: أوْقَد، كما قال الشاعرُ
(2)
:
ودَاعٍ دَعَا يا من يُجيبُ إلى النَّدَى
(3)
…
فلم يَسْتَجِبْه عندَ ذاك مُجيبُ
يريدُ: فلم يُجِبْه.
فكان معنى الكلامِ إذن: مثَلُ استضاءةِ هؤلاء المنافقين في إظهارِهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتِهم من قولِهم: آمنَّا باللهِ وباليومِ الآخرِ، وصدَّقنا بمحمدٍ وبما جاء به. وهم للكفرِ مستبطِنون، فيما
(4)
اللهُ فاعلٌ بهم، مثَلُ استضاءةِ موقِدٍ نارًا بنارِه، حتى أضاءت له النارُ ما حولَه. يعني ما حَولَ المستوقِدِ.
وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ أن {الَّذِي} في قولِه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بمعنى الذين، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]. وكما قال الشاعرُ
(5)
:
(1)
في ر: "وإلا".
(2)
هو كعب بن سعد الغنوي، والبيت في الأصمعيات ص 96، وطبقات فحول الشعراء 1/ 213، وأمالي القالي 2/ 151.
(3)
الندى: الجود. الصحاح (ن د ى).
(4)
في ت 2: "مما".
(5)
هو الأشهب ابن رميلة، والبيت في الكتاب 1/ 187، والمؤتلف والمختلف ص 37.
فإن الذي حانت بفَلْجٍ
(1)
دماؤُهُمْ
…
هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أُمَّ خالدِ قال أبو جعفرٍ: والقولُ الأولُ هو القولُ؛ لِما وصَفْنا من العلةِ، وقد أغْفَل قائلُ ذلك فرقَ ما بينَ "الذي" في الآيتين وفي البيتِ؛ لأن {الَّذِي} في قولِه:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} قد جاءت الدَّلالةُ عدي أن معناها الجمعُ، وهو قولُه:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وكذلك "الذي" في البيتِ، وهو قولُه: دماؤُهم. وليست هذه الدَّلالةُ في قولِه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . فذلك فرقُ ما بينَ {الَّذِي} فما قولِه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وسائرِ شواهدِه التي اسْتَشهد بها على أن معنى: {الَّذِي} في قولِه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بمعنى الجماعِ
(2)
، وغيرُ جائزٍ لأحدٍ نقلُ الكلمةِ التي
(3)
الأغلبُ في استعمالِ العربِ على معنًى إلى غيرِه إلا بحجةٍ يجبُ التسليمُ لها.
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فرُوِي عن ابنِ عباسٍ فيه أقوالٌ: أحدُها: ما حدَّثني به محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ضرَب اللهُ للمنافقين مثلًا فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} أي: يُبصِرون
(4)
الحقَّ ويقولون به، حتى إذا خرَجوا به من ظُلمةِ الكفرِ، أطفئوه بكفرِهم به ونقاقِهم فيه، فترَكهم في ظلماتِ الكفرِ، فهم لا يُبصِرون هدًى،
(1)
فلج: موضع بين البصرة وحمى ضرية. وقيل: هو واد بطريق البصرة إلى مكة، ببطنه منازل للحاج. التاج (ف ل ج).
(2)
في م: "الجماعة".
(3)
في ص: "إلى"، وفي م:"التي هي".
(4)
في سيرة ابن هشام: "لا يبصرون".
ولا يَسْتقيمون على حقٍّ
(1)
.
والآخرُ: ما حدَّثنا به المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} إلى آخِرِ الآيةِ: هذا مثَلٌ ضرَبه اللهُ للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون
(2)
بالإسلامِ، فيناكحُهم المسلمون، [ويُوارِثونهم]
(3)
، ويقاسمونهم الفَيْءَ، فلما ماتوا سلَبهم اللهُ ذلك العزَّ، كما سلَب صاحبَ النارِ ضوءَه، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}. [يقولُ: في]
(4)
عذابٍ
(5)
.
والثالثُ: ما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} : زعَم أن أُناسًا دخَلوا في الإسلامِ مقدَمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ثم إنهم نافقوا، فكان مثَلُهم كمثَلِ رجلٍ كان في ظلمةٍ، فأوْقَد نارًا فأضاءت له
(6)
ما حولَه
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 532، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 52 (168) من طريق سلمة به، وستأتي بقية هذا الأثر في ص 347، 349، 367، 381.
(2)
في ر: "يغترون"، وفي ت 2:"يعبرون".
(3)
سقط من: ص.
(4)
في ت 1: "قال".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 50 (158) من طريق أبي صالح به إلى قوله: ضوءه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى ابن المنذر والصابوني في المائتين. وستأتي بقية هذا الأثر في ص 348.
(6)
سقط من: ص، ت 1.
من قَذًى أو أذًى، فأبْصَره حتى عرَف ما يَتَّقي، فبينا هو كذلك إذ طُفِئت نارُه، فأقْبَل لا يَدْرى ما يَتَّقي من أَذًى، فكذلك المنافقُ، كان في ظلمةِ الشركِ، فأسْلم فعرَف الحلالَ من الحرامِ، والخيرَ من الشرِّ، فبينا هو كذلك إذ كفَر، فصار لا يعرِفُ الحلالَ من الحرامِ، ولا الخيرَ من الشرِّ، وأما النورُ فالإيمانُ بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وكانت الظلمةُ نفاقَهم
(1)
.
والآخر: ما حدَّثني به محمدُ بنُ سعدٍ
(2)
، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّي، عن أبيه، عن جدِّه
(3)
، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ، إلى {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}: ضرَبه اللهُ مثلًا للمنافقِ، وقولُه:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} . قال: أما النورُ فهو إيمانُهم الذي يتكلَّمون به، وأما الظلمةُ فهي ضلالتُهم وكفرُهم الذي
(4)
يتكلَّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثم نُزِع منهم فعَتَوا
(5)
بعدَ ذلك
(6)
.
وقال آخرون بما حدَّثني به بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 81 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة، إلى قوله: من الشر. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 51 (162) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر. وستأتي بقية هذا الأثر في ص 347، 349، 368.
(2)
في م: "سعيد".
(3)
في ص: "أبيه".
(4)
زيادة من: ر.
(5)
في ر: "فعموا".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف إلى قوله: وكفرهم.
وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 81 عن العوفي به. وستأتي بقية هذا الأثر في ص 369.
قتادةَ قولَه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} : وإن المنافقَ تكلَّم بـ "لا إلَه إلا اللهُ"، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وعادَّ
(1)
بها المسلمين، ووارَث بها المسلمين، وحقَن بها دمَه ومالَه، فلما كان عندَ الموتِ سُلِبها المنافقُ؛ لأنَّه لم يكنْ لها أصلٌ في قلبِه، ولا حقيقةٌ في عمَلِه
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} : وهي لا إلَهَ إلا اللهُ، أضاءت لهم فأكلوا بها وشرِبوا، وأمِنوا في الدنيا، ونكَحوا النساءَ، وحقَنوا
(3)
دماءَهم، حتى إذا ماتوا ذهَب اللهُ بنورِهم وترَكهم في ظلماتٍ لا يُبْصِرون.
حدَّثنا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني أبو تُمَيلةَ
(4)
، عن عُبيدِ بنِ سليمانَ، عن الضحّاكِ بنِ مُزاحمٍ قولَه:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} . قال: أما النورُ فهو إيمانُهم الذي يتكلَّمون به، وأما الظلماتُ فهي ضلالتُهم وكفرُهم
(5)
.
(1)
في ص، ت 2:"عادا"، وفي ر، ت 1، والدر المنثور:"غازى". والمعنى: شارك. يقال: هم يتعادون. إذا اشتركوا فيما يعاد فيه بعضهم بعضا من مكارم أو غير ذلك من الأشياء كلها. تاج العروس (ع د د).
(2)
في ص، ر، م، ت 2:"علمه".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 33 إلى المصنف وعبد بن حميد. وسيأتي تمامه في ص 348، 371.
(3)
بعده في م: "بها".
(4)
في م: "نميلة". وينظر تهذيب الكمال 32/ 22.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 51، 52 (165، 169) من طريق علي بن الحكم، عن الضحاك.
وقال آخرون بما حدَّثني به محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} . قال: أما إضاءةُ النارِ، فإقبالُهم إلى المؤمنين و
(1)
الهدَى، وذهابُ نورِهم إقبالُهم إلى الكافرين و
(1)
الضلالةِ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، عن شِبْلٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} : أما إضاءةُ النارِ، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدى، وذهابُ نورِهم إقبالُهم إلى الكافرين والضلالةِ.
حدَّثني القاسمُ، قال: حدَّثني الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ، قال: ضرَب مثَلَ أهلِ النِّفاقِ فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . قال: إنما ضَوْءُ النارِ ونُورُها ما أوقدْتَها، فإذا خمَدت ذهَب نورُها، كذلك المنافقُ، كلما
(3)
تكلَّم بكلمةِ الإخلاصِ أضاء له، فإذا شكَّ وقَع في الظلمةِ
(4)
.
(1)
سقط من: ص، ر، ت 1، ت 2.
(2)
تفسير مجاهد ص 197، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 51 (161، 163). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 33 إلى عبد بن حميد. وستأتي بقيته في ص 370، 378.
(3)
في ت 2: "كما".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 50 (159) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ في قولِه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} إلى آخرِ الآيةِ.
قال: هذه صفةُ المنافقين، كانوا قد آمَنوا حتى أضاء الإيمانُ في قلوبِهم، كما أضاءت النارُ لهؤلاء الذين اسْتَوْقَدوا، ثم كفَروا فذَهب اللهُ بنورِهم، فانْتَزَعه كما ذهَب بضوءِ هذه النارِ، فترَكهم في ظلماتٍ لا يُبْصِرون
(1)
.
وأوْلى التأويلاتِ بالآيةِ ما قاله قتادةُ والضحَّاكُ، وما رواه عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما ضرَب هذا المثلَ للمنافقين الذين وصَف صفتَهم وقصَّ قَصَصَهم، من لدنِ ابْتَدأ بذكرِهم بقولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ
(2)
} لا [للمُعالِنين بالكفرِ]
(3)
المجاهرين بالشركِ. ولو كان المثلُ لمن آمَن إيمانًا صحيحًا ثم أعْلن بالكفرِ
(4)
إعلانًا صحيحًا - على ما ظنَّ المتأوِّلُ قولَ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} أن ضوءَ النارِ
(5)
مثَلٌ لإيمانِهم الذي كان منهم عندَه على صحةٍ، وأن ذَهابَ نورِهم مثَلٌ لارتدادِهم وإعلانِهم الكفرَ على صحةٍ - لم يكنْ هناك من القومِ خِداعٌ ولا استهزاءٌ عندَ أنفسِهم ولا نِفاقٌ. وأنَّى يكونُ خِداعٌ ونفاقٌ ممَّن لم يُبدِ لك قولًا ولا فعلًا إلا ما أوْجَب لك العلمَ بحالِه التي هو لك عليها، وبعزيمةِ نفسِه التي هو مقيمٌ عليها؟ إن هذا لغيرِ
(6)
شكٍّ من النِّفاقِ بعيدٌ،
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 81 عن ابن زيد.
(2)
بعده في م: "أي".
(3)
في ر: "المعالنين الكفر"، وفي م:"المعلنين بالكفر".
(4)
في ص، ت 2:"الكفر".
(5)
في ت 1: "النهار".
(6)
في ت 1، م:"بغير".
ومن الخِداعِ برئٌ، وإن
(1)
كان القومُ لم تكنْ لهم إلا حالتان؛ حالُ إيمانٍ ظاهرٍ، وحالُ كفرٍ ظاهرٍ، فقد سَقَط عن القومِ اسمُ النفاقِ؛ لأنهم في حالِ إيمانِهم الصحيحِ كانوا مؤمنين، وفي حالِ كفرِهم الصحيحِ كانوا كافرين، ولا حالةَ هنالك ثالثةً كانوا بها منافقين. وفي وصفِ اللهِ جلَّ ثناؤُه إيَّاهم بصفةِ النفاقِ ما يُنْبئُ عن أن القولَ غيرُ القولِ الذي زعَمه مَن زعَم أن القومَ كانوا مؤمنين ثم ارتدُّوا إلى الكفرِ فأقاموا عليه، إلا أن يكونَ قائلُ ذلك أراد أنهم انْتَقلوا من إيمانِهم الذي كانوا عليه إلى الكفرِ الذي هو نفاقٌ، وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَكْ صحتُه إلَّا بخَبَرٍ مستفيضٍ، أو ببعضِ المعاني الموجبةِ صحَّتَه. فأما في ظاهرِ الكتابِ، فلا دلالةَ على صحَّتِه؛ لاحتمالِه من التأويلِ ما هو أوْلَى به منه.
فإذ كان الأمرُ على ما وصَفْنا في ذلك، فأوْلَى تأويلاتِ الآيةِ بالآيةِ: مثَلُ استضاءةِ المنافقين - بما أظْهَروا بألسنتِهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الإقرارِ به، وقولِهم له وللمؤمنين: آمَنَّا باللهِ وكتُبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ. حتى حُكِم لهم بذلك في عاجلِ الدنيا بحكمِ المسلمين في حقنِ الدماءِ والأموالِ، والأمنِ على الذرِّيَّةِ من السِّباءِ، وفي المناكحةِ والموارثةِ - كمثلِ استضاءةِ الموقِدِ النارَ بالنارِ، حتى
(2)
ارْتَفق بضيائِها، وأبْصَر به
(3)
ما حولَه مستضيئًا بنورِه من الظلمةِ، حتى خمَدت النارُ وانطفأت، فذهَب نورُه، وعاد المستضئُ به في ظلمةٍ وحَيْرةٍ.
وذلك أن المنافقَ لم يزَلْ مستضيئًا بضوءِ القولِ الذي دافعَ عنه في حياتِه القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانِه ما كان مستوجِبًا به القتلَ وسلبَ المالِ لو أظْهَره بلسانِه، تُخَيِّلُ
(1)
في ر: "فلو"، وفي ت 2، م:"فإن".
(2)
بعده في ت 1: "إذا".
(3)
سقط من: ص، م.
إليه بذلك نفسُه أنه باللهِ ورسولِه والمؤمنين مستهزئٌ مخادعٌ، حتى سوَّلت له نفسُه إذ ورَد على ربِّه في الآخرةِ أنه ناجٍ منه بمثلِ الذي نجا به في الدنيا من الكذبِ والنفاقِ. أوَ ما تسمَعُ اللهَ جَلَّ ثناؤُه يقولُ إذ نعَتهم
(1)
، ثم [أخْبَر خبرَهم]
(2)
عندَ ورودِهم عليه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]. ظنًّا من القومِ أن نجاءَهم
(3)
من عذابِ اللهِ في الآخرةِ، في مثلِ
(4)
الذي كان به نجاؤُهم (3) من القتلِ والسِّباءِ
(5)
وسلبِ المالِ
(6)
في الدنيا، من الكذبِ والإفكِ، وأن خداعَهم نافعُهم هنالك نفعَه إيَّاهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمرِ اللهِ ما أيْقَنوا به أنهم كانوا من ظنونِهم في غرورٍ وضلالٍ، واستهزاءٍ بأنفسِهم وخداعٍ، إذ أطْفأ اللهُ نورَهم يومَ القيامةِ، فاسْتَنظروا المؤمنين ليقْتَبِسوا من نورِهم، فقيل لهم
(7)
: ارْجِعوا وراءَكم فالتمِسوا نورًا، واصلَوْا سعيرًا. فذلك حينَ ذهَب اللهُ بنورِهم وترَكهم في ظلماتٍ لا يُبْصِرون، كما انطَفأت نارُ المستوقِدِ النارَ بعدَ إضاءتِها له، فبقِي في ظلمةٍ
(8)
حَيْرانَ تائهًا، يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤُه: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ
(1)
في ت 2: "بعثهم".
(2)
في م: "أخبرهم".
(3)
في م: "نجاتهم".
(4)
سقط من: ر، ت 2.
(5)
بعده في ت 1: "والكذب".
(6)
في ص: "الأموال".
(7)
سفط من: ص، ت 1.
(8)
في م: "ظلمته".
أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 13 - 15].
فإن قال لنا قائلٌ: إنك ذكَرْتَ أن معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} : خمَدت وانطَفأت. وليس ذلك بموجودٍ في القرآنِ، فما دَلالتُك
(1)
على أن ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا: إن من شأنِ العربِ الإيجازَ والاختصارَ إذا
(2)
كان فيما نطَقت به الدَّلالةُ الكافيةُ على ما حذَفت وترَكت، كما قال أبو ذُؤَيبٍ الهُذَلِيُّ
(3)
:
عَصَيْتُ
(4)
إليها القلبَ إِنِّي لأمرِها
…
سميعٌ فما أدْرِى أرُشْدٌ طِلابُها
يعني بذلك: فما أدْرِى أرُشْدٌ طِلابُها أم غيٌّ. فحذَف ذكرَ "أَمْ غيٌّ"، إذ كان فيما نطَق به الدلالةُ عليها، وكما قال ذو الرُّمَّهِ في نعتِ حَميرٍ
(5)
:
فلمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أو حينَ نصَّبَت
(6)
…
له مِن خَذَا
(7)
آذانِها وَهْو جانِحُ
يعني: أو حينَ أقْبَل الليلُ. في نظائرَ لذلك كثيرةٍ كرِهنا إطالةَ الكتابِ بذكرِها. فكذلك قولُه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} لمَّاَ كان فيه وفيما بعدَه من قولِه: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}
(1)
في ت 1: "دليلك".
(2)
في ص، ت 1:"إذ".
(3)
ديوان الهذليين 1/ 71.
(4)
في الديوان: "عصاني".
(5)
ديوان ذي الرمة 2/ 897.
(6)
نصبت: رفعت آذانها. اللسان (ن ص ب).
(7)
خذِيت الأذن: استرخت من أصلها وانكسرت مقبلة على الوجه، يكون ذلك في الناس والخيل والحمر، خلقة أو حدثا. اللسان (خ ذ ى).
دَلالةٌ على المتروكِ كافيةٌ من ذكرِه، اخْتَصر الكلامَ طلبَ الإيجازِ، وكذلك حذفُ ما حذَف واختصارُ ما اخْتَصَر من الخبرِ عن مثَلِ المنافقين بعدَه، نظيرَ ما اخْتصر من الخبرِ عن مثَلِ المستوقِدِ النارَ؛ لأن معنى الكلامِ: فكذلك المنافقون ذهَب اللهُ بنورِهم وترَكهم في ظلماتٍ لا يُبْصِرون - بعدَ الضياءِ الذي كانوا فيه في الدنيا، بما كانوا يُظْهِرون بألسنتِهم من الإقرارِ بالإسلامِ، وهم لغيرِه مستبطِنون - كما ذهَب ضوءُ نارِ هذا المستوقِدِ بانطفاءِ نارِه وخمودِها، فبقِيَ في ظلمةٍ لا يُبْصِرُ.
والهاءُ والميمُ في قولِه: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} عائدةٌ على الهاءِ والميمِ في قولِه: {مَثَلُهُمْ} .
القولُ في تأويلِ قولِه: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} .
قال أبو جعفرٍ: وإذ كان تأويلُ قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} هو ما وصَفْنا من أن ذلك خبرٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه عمَّا هو فاعلٌ بالمنافقين في الآخرةِ، عندَ هَتْكِ أستارِهم، وإظهارِه فضائحَ
(1)
أسرارِهم، وسلبِه ضياءَ أنوارِهم، من تركِهم في ظُلَمِ أهوالِ يومِ القيامةِ يتردَّدون، وفي حنادسِها لا يُبْصِرون، فبَيِّنٌ أن قولَه جلَّ ثناؤُه:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} من المؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ، وأن معنى الكلامِ: أولئك الذين اشترَوُا الضلالةَ بالهدَى، فما رَبِحت تجارتُهم وما كانوا مُهْتدين، صُمٌّ بُكْمٌ عميٌ فهم لا يَرْجِعون، مثَلُهم كمثَلِ الذي اسْتوقَد نارًا، فلما أضاءَت ما حَوْلَه ذهب اللهُ بنورِهم وترَكهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرون، أوْ كمثَلِ صيِّبٍ من السماءِ.
وإذ كان ذلك معنى الكلامِ، فمعلومٌ أنَّ قولَه:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يأتِيه الرفعُ
(1)
في ت 1: "قبائح".
من وجهين، والنصبُ من وجهين: فأما أحدُ وجهي الرفعِ: فعلى الاستئنافِ لما فيه من الذمِّ، وقد تفعَلُ العربُ ذلك في المدحِ والذمِّ، فتنصِبُ وترفَعُ وإن كان خبرًا عن معرفةٍ، كما قال الشاعر
(1)
:
لا يَبْعَدَنْ
(2)
قَوْمِي الَّذين هُمُ
…
سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
(3)
النازِلينَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ
…
والطَّيبِين مَعاقِدَ الأُزْرِ
فيُرْوَى: "النازلون" و "النازِلين"، وكذلك "الطيِّبون" و "الطيِّبين"، على ما وصَفْتُ من المدحِ.
والوجهُ الآخرُ: على نيَّة التكريرِ من: {أُولَئِكَ} . فيكونُ المعنى حينَئذٍ: أولئك الذين اشْتَرُوا الضلالةَ بالهدَى، فما رَبِحت تجارتُهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لا يرجِعون.
وأما أحدُ وجهي النصبِ: فأن يكون قطعَا مما في: {مُهْتَدِينَ} من ذكرِ {أُولَئِكَ} ، لأن الذي فيه من ذكرِهم معرفةٌ، والصمُّ نكرةٌ.
والآخرُ: أن يكونَ قطعًا من: {الَّذِينَ} لأنَّ {الَّذِينَ} معرفةٌ، والصمُّ نكرةٌ. وقد يجوزُ النصبُ فيه أيضًا على وجهِ الذمِّ، فيكونُ ذلك وجهًا من النصبِ ثالثًا.
فأمَّا على تأويلِ ما رَوَينا عن ابنِ عباسٍ من غيرِ وجهِ روايةِ عليِّ بنِ أبي طلحةَ عنه، فإنه لا يجوزُ فيه الرفعُ إلا من وجهٍ واحدٍ، وهو الاستئنافُ. وأما النصبُ فقد
(1)
البيتان للخرنق بنت بدر بن هفان، وهما في ديوانها ص 29.
(2)
يبعدن: يهلكن، من بعِد يبعَد. اللسان (ب ع د).
(3)
الجزر؛ جمع الجزور: وهي الناقة التي تنحر. اللسان (ج ز ر).
يجوزُ فيه من وجهين: أحدُهما، الذمُّ. والآخرُ، القطعُ من الهاءِ والميمِ اللتين في {وَتَرَكَهُمْ} ، أو من ذكرِهم في {لَا يُبْصِرُونَ} . وقد بيَّنا القولَ الذي هو أوْلَى بالصوابِ في تأويلِ ذلك.
والقراءةُ التي هي القراءةُ
(1)
، الرفعُ دونَ النصبِ؛ لأنه ليس لأحدٍ خلافُ رسومِ مصاحفِ المسلمين، وإذا قرِئ نصبًا كانت قراءةً مخالفةً رسمَ مصاحِفِهم
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبر من اللهِ جلَّ ثناؤُه عن المنافقين، أنهم باشترائِهم الضلالةَ بالهدى لم يكونوا للهدَى والحقِّ مُهْتدين، بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمَعونهما
(3)
؛ لغلبةِ خِذلانِ اللهِ عليهم، بُكْمٌ عن القيلِ بهما، فلا ينطِقون بهما - والبُكْمُ الخُرْسُ، وهو جِماعُ
(4)
أبكمَ - عُمْيٌ عن أن يُبْصِروهما فيعقِلوهما؛ لأنَّ اللهَ قد طبَع على قلوبِهم بنفاقِهم فلا يَهْتَدون.
وبمثلِ ما قلنا في ذلك قالت علماءُ أهلِ التأويل.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ
(5)
بنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سَلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} : عن الخيرِ
(6)
.
(1)
في م: "قراءة".
(2)
بعده في ر، ت 1، ت 2:"القول في تأويل قوله: صم بكم عمي".
(3)
في ر: "يسمعون بهما".
(4)
في م: "جمع".
(5)
في م: "عبد".
(6)
تقدم أول هذا الأثر في ص 336.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بن صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . يقولُ: لا يسمَعون الهدى، ولا يُبْصِرونه، ولا يعقِلونه
(1)
.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{بُكْمٌ} : هم
(2)
الخُرْسُ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} : صُمٌّ عن الحقِّ فلا يسمَعونه، عُمْيٌ عن الحقِّ فلا يُبصِرونه، بُكْمٌ عن الحقِّ فلا ينطِقون به
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} .
قال أبو جعفرٍ: وقولُه: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . إخبارٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه عن هؤلاء المنافقين الذين نعَتهم اللهُ باشترائِهم الضلالةَ بالهدَى، وصَمَمِهم عن سماعِ الخيرِ والحقِّ، وبَكَمِهمْ عن القيلِ بهما، وعَماهم عن إبصارِهما - أنهم لا يَرْجِعون إلى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 52 (172) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى ابن المنذر والصابوني في المائتين. وتقدم أول هذا الأثر في ص 337. وسيأتي في 3/ 51.
(2)
في ت 2: "هو".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 53 (175) من طريق أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، 1/ 53 (173) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله. وتقدم أول هذا الأثر في ص 337.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 53 (174، 176) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 33 إلى عبد بن حميد نحوه. وتقدم أوله في ص 339. وسيأتي في 3/ 50.
الإقلاعِ عن ضلالتِهم، ولا يثوبون
(1)
إلى الإنابةِ من نفاقِهم، فآيَس المؤمنين من أن يُبْصِرَ هؤلاء رُشْدَا، ويقولوا حقًّا، أو يسمَعوا داعيًا إلى الهدَى، أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتِهم، كما آيَس من توبةِ قادةِ كفارِ أهلِ الكتابِ والمشركين وأحبارِهم، الذين وصَفهم بأنه قد ختَم على قلوبهم وعلى سمِعهم، وغشَّى على أبصارِهم.
وبمثلِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}
(3)
: إلى الإسلامِ
(4)
.
وقد رُوِي عن ابنِ عباسٍ قولٌ يُخالِفُ معناه معنى هذا الخبرِ
(5)
، وهو ما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"يتوبون".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 53 (179) من طريق يزيد به. وهو تمام الأثر المتقدم في ص 339.
(3)
بعده في ص، ر:"فهم لا يرجعون".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 53 (178) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله. وتقدم أول هذا الأثر في ص 337.
(5)
في ر، ت 2:"القول".
مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي: فلا يَرْجِعونَ إلى الهدَى، ولا إلى خيرٍ، ولا يُصيبون نجاةً، ما كانوا على ما هم عليه
(1)
.
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوةِ بخلافِه، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخْبَر عن القومِ أنهم لا يَرْجِعون عن اشترائِهم الضلالةَ بالهدى، إلى ابتغاءِ الهدى وإبصارِ الحقِّ، من
(2)
غيرِ حصرٍ منه جلَّ ذكرُه ذلك من حالِهم على
(3)
وقتٍ دونَ وقتٍ، وحالٍ دونَ حالٍ. وهذا الخبرُ الذي ذكَرناه عن ابنِ عباسٍ يُنبِئُ عن
(4)
أن ذلك من صفتِهم محصورٌ على وقتٍ، وهو ما كانوا على أمرِهم مُقيمين، وأن لهم السبيلَ إلى
(5)
الرجوعِ عنه، وذلك من التأويلِ دعوَى باطلةٌ
(6)
لا دلالةَ عليها من ظاهرٍ، ولا من خبرٍ تقومُ بمثلِه الحجةُ فيُسَلَّم لها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى ذكرُه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} .
قال أبو جعفرٍ: والصيِّبُ الفَيْعِلُ، من قولِك: صاب المطرُ يصوبُ صَوْبًا. إذا انحدَر ونزَل، كما قال الشاعرُ
(7)
:
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 532، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 53 (177) من طريق سلمة به إلى قوله: الهدى. وتقدم أول هذا الأثر في ص 336.
(2)
في ص: "عن".
(3)
في م: "إلى".
(4)
سقط من: ص، وفي ر:"على".
(5)
في ص: "عن".
(6)
في ص: "ناطر"، وفي ت 2:"باطل".
(7)
البيت غير منسوب في الاشتقاق ص 26، والمفردات في غريب القرآن ص 145، واللسان (أ ل ك، ل أ ك)، ونسبه في المفضليات ص 394 إلى علقمة بن عبدة، وليس في ديوانه، ونسب في مجاز القرآن 1/ 33 إلى رجل من عبد القيس، وفي شرح أشعار الهذليين 1/ 222 إلى متمم بن نويرة، وذكر في اللسان (ص و ب، =
فَلسْتَ لإِنْسِيٍّ
(1)
ولكنْ لمَلْأكٍ
(2)
…
تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصوبُ
وكما قال علقمةُ بنُ عَبَدةَ
(3)
:
كأنَّهُمُ صابتْ عليهم سَحَابةٌ
…
صواعِقُها لطَيْرِهنَّ دَبيبُ
فلا تَعْدِلي بَيْني وبينَ مُغَمَّرٍ
(4)
…
سُقِيتِ
(5)
رَوَايا
(6)
المُزْنِ
(7)
حينَ
(8)
تَصوبُ
يعني: حينَ تنحدِرُ.
وهو في الأصلِ صَيْوِبٌ، ولكنَّ الواوَ لمّا سبَقتها ياءٌ ساكنةٌ، صُيِّرتا جميعًا ياءً مشددةً، كما قيل: سيِّدٌ، من سادَ يسودُ، وجيِّدٌ، من جاد يجودُ. وكذلك تفعَلُ العربُ بالواوِ إذا كانت متحرِّكةً وقبلَها ياءٌ ساكنةٌ، تصيِّرُهما جميعًا ياءً مشددةً.
وبما قلنا من القولِ في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ إسماعيلَ الأَحْمَسيُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ عُبيدٍ، قال:
= م ل ك) الاختلاف في نسبته، وزاد عن السيرافي نسبته إلى أبي وجزة.
(1)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"بإنسي".
(2)
في ص، ر، ت 1:"ملكا"، وفي ت 2:"ملاكا".
(3)
ديوانه ص 34، 46.
(4)
المغمر من الرجال: من استجهله الناس. التاج (غ م ر).
(5)
في الديوان: "سقتك".
(6)
الروايا؛ جمع الراوية: وهو البعير أو البغل أو الحمار الذي يسقى عليه الماء. اللسان (ر و ى).
(7)
المزن: السحاب عامة، وقيل: السحاب ذو الماء، واحدته مزنة، وقيل: المزنة السحابة البيضاء. اللسان (م ز ن).
(8)
في الديوان: "حيث".
حدَّثنا هارونُ بنُ عنترةَ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قوله:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال: القَطْرُ
(1)
.
حدَّثني عباسُ بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريج: قال لي عطاءٌ: الصيِّبُ المطرُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالح، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الصيِّبُ المطرُ
(3)
.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: الصيِّبُ المطرُ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه
(5)
، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ:{أَوْ كَصَيِّبٍ} . يقولُ: المطرُ (2).
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (747) من طريق محمد بن عبيد به.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في المطر - كما في فتح الباري لابن رجب 9/ 231 - وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 54 (180) من طريق هارون بن عنترة به.
وعزاه السيوطي أيضًا في الدر المنثور 1/ 33 إلى وكيع وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 54 عقب الأثر (180) معلقًا.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين في أثر مطول، وسيأتي بطوله في ص 369.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 82 عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة، والسدي.
(5)
في م، ت 2:"جده".
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ وعمرُو بنُ عليٍّ، قالا: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: الصيِّبُ المطرُ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ: الصيِّبُ المطرُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ: الصيِّبُ المطرُ
(3)
.
حُدِّثت عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الصيِّبُ المطرُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال: أو كغَيثٍ من السماءِ.
حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللهِ العَنْبَرِيُّ، قال: قال سفيانُ: الصيِّبُ الذي فيه المطرُ
(4)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو معاويةَ، قال: حدَّثنا ابنُ جُريج، عن عطاءٍ في قولِه:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال: المطرُ
(5)
.
(1)
في ص، ر:"الربيع".
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (748) من طريق أبي حذيفة به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 54 عقب الأثر (180) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
تفسير الثوري ص 41 عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: السحاب فيه المطر.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 82 عن عطاء.
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ ذلك: مثَلُ استضاءةِ المنافقين بضوءِ إقرارِهم بالإسلامِ، مع استسرارِهم الكفرَ، مثَلُ اسْتِضاءَةِ
(1)
موقدِ نارٍ
(2)
بضوءِ نارِه، على ما وصَف جلَّ ثناؤُه من صفتِه، أو كمثَلِ مطرٍ مُظلمٍ، وَدْقُه
(3)
تَحَدَّرَ من السماءِ، تحمِلُه مُزنةٌ ظلماءُ، في ليلةٍ مُظلمةٍ، وذلك هو الظلُماتُ التي أخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤُه أنها فيه.
فإن قال لنا قائلٌ: أخْبِرْنا عن هذين المثَلين، أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثَلين للمنافقين، فكيف قيل:{أَوْ كَصَيِّبٍ} و"أو" تأتي بمعنى الشكِّ في الكلامِ، ولم يقلْ: وكصيِّبٍ. بالواوِ التي تُلحِقُ المثلَ الثانيَ بالمثلِ الأولِ؟ أو يكونَ مثلُ القومِ أحدَهما، فما وجهُ ذكرِ الآخرِ بـ {أَوْ} وقد علمتَ أن "أو" إذا كانت في الكلامِ، فإنما تدخُلُ فيه على وجهِ الشكِّ من المخبِرِ فيما أخْبَرَ عنه، كقولِ القائلِ: لقِيَني أخوك أو أبوك. وإنما لقِيَه أحدُهما، ولكنه جهِل عينَ الذي لقِيَه منهما، مع علمِه أن أحدَهما قد لقِيَه، وغيرُ جائزٍ في اللهِ جلَّ ثناؤُه أن يُضافَ إليه الشكُّ في شيْءٍ، أو عُزوبُ علمِ شيْءٍ عنه فيما أخْبَر أو ترَك الخبرَ عنه.
قيل له: إن الأمرَ في ذلك بخلافِ
(4)
الذي
(5)
ذهبتَ إليه، و"أو" وإن كانت في بعضِ الكلامِ تأتي بمعنى الشكِّ، فإنها قد تأتي دالَّةً على مثلِ ما تدلُّ عليه الواوُ، إما بسابقٍ من الكلامِ قبلَها، وإما بما يأتي بعدَها، كقولِ توبةَ بنِ
(1)
في م، ت 1، ت 2:"إضاءة".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"النار".
(3)
الودق: المطر كله شديده وهينه. اللسان (و د ق).
(4)
في ص: "خلاف".
(5)
في ص: "منا"، وفي ت 1:"ما".
الحُمَيِّرِ
(1)
:
وقد زعَمتْ ليلى بأنِّيَ فاجرٌ
…
لنفسي تُقَاها أو عليها فُجورُها
ومعلومٌ أن ذلك من توبةَ على غيرِ وجهِ الشكِّ فيما قال، ولكن لما كانت "أو" في هذا الموضعِ دالَّةً على مثلِ الذي كانت تدلُّ عليه الواوُ لو
(2)
كانت مكانَها، وضَعها موضِعَها. وكذلك قولُ جريرٍ
(3)
:
نال
(4)
الخِلافَة أو كانتْ له قَدَرًا
…
كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
وكما قال الآخرُ
(5)
:
فلو كان البكاءُ يردُّ شيئًا
…
بَكَيْتُ عَلَى بُجَيْرٍ
(6)
أو عِفاقِ
(7)
[على المَرْأَيْن]
(8)
إذْ مَضَيَا
(9)
جَميعًا
…
لشأنِهما بحُزْنٍ
(10)
واشْتِياقِ
(11)
(1)
الأضداد ص 279، وأمالي القالي 1/ 88، وأمالي المرتضى 2/ 57.
(2)
في م: "ولو".
(3)
ديوانه 1/ 416.
(4)
في م: "جاء".
(5)
هو متمم بن نويرة، والبيتان في الأضداد ص 280، وأمالي المرتضى 2/ 58، واللسان (ع ف ق).
(6)
في النسخ: "جبير"، وفي اللسان:"يزيد". وقال ابن بري: صوابه بجير. وهو على الصواب في الأضداد وأمالي المرتضى.
(7)
في م: "عناق".
وبجير أخو عفاق، ويقال: غفاق. وهو ابن مليك، ويقال: ابن أبي مليك. وكان بسطام بن قيس أغار على بني يربوع فقتل عفاقا، وقتل بجيرا بعد قتله أخاه عفاقا في العام الأول، وأسر أباهما ثم أعتقه وشرط عليه ألا يغير عليه. ذكره في اللسان عن ابن بري.
(8)
في اللسان. "هما المرآن".
(9)
في الأضداد، وأمالي المرتضى:"ملكا"، وفي اللسان:"ذهبا".
(10)
في الأضداد، وأمالي المرتضى:"بشجو".
(11)
في اللسان: "واحتراق".
فقد دلَّ بقولِه: على المَرْأَيْنِ. أن بكاءَه الذي أراد أن يَبكيَه لم يُرِدْ أن يقصِدَ به أحدَهما دونَ الآخرِ، بل أراد أن يَبكِيَهما جميعًا. فكذلك ذلك في قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه:{أَوْ كَصَيِّبٍ} . لمّا كان معلومًا أن {أَوْ}
(1)
دالَّةٌ [في ذلك على مثلِ الذي كانت تدلُّ عليه الواوُ لو
(2)
]
(3)
كانت مكانَها، كان سواءً نطق فيه بـ "أو" أو بالواوِ. وكذلك وجهُ حذفِ المثَلِ من قولِه:{أَوْ كَصَيِّبٍ} لمّا كان قولُه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} دالًّا على أن معناه: كمثلِ صيِّبٍ. حذَف المثلَ واكتَفى بدَلالةِ ما مضَى من الكلامِ في قولِه
(4)
: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} على أن معناه: أو كمثلِ صيِّبٍ - من إعادةِ ذكرِ المثلِ؛ طَلَبَ الإيجازِ والاختصارِ.
(*) القولُ في تأويلِ قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} .
قال أبو جعفر: فأما الظلماتُ فجمعٌ، واحدُها ظلمةٌ.
وأما الرعدُ، فإن أهلَ العلمِ اختلَفوا فيه؛ فقال بعضُهم: هو ملَكٌ يزجُرُ السحابَ.
(1)
في ت 1: "الواو".
(2)
في ص، ر، م:"ولو".
(3)
في ت 1: "على معنى يدل على مثله أو".
(4)
في ت 1: "أوله".
(*) من هنا يبدأ الجزء الثاني من نسخة جامعة القرويين، وسيشار إليها بـ"الأصل"، وسيجد القارئ أرقام صفحاتها بين معقوفين.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، عن مجاهدٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ يزجُرُ السحابَ بصوتِه
(1)
.
وحدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن شعبةَ، عن الحَكَمِ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليَرْبُوعيُّ، قال: حدَّثنا فُضيلُ بنُ عِياضٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وحدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا هُشيمٌ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن أبي صالحٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ مِن الملائكةِ يُسبِّحُ
(2)
.
وحدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْديُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ يعلى، عن أبي الخطَّابِ البصريِّ، عن شهرِ بنِ حَوْشبٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ مُوَكَّلٌ بالسحابِ، يسوقُه كما يسوقُ الحادِي الإبلَ، يسبِّحُ، كلَّما خالفت سحابةٌ سَحَابةً صاح بها، فإذا اشتدَّ غضَبُه طارت النارُ من فِيه، فهي الصواعقُ التي رأيتُم
(3)
.
وحُدِّثت عن المِنْجابِ بنِ الحارثِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ،
(1)
أخرجه البغوي في الجعديات (255)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 284، 285 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 49 إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ. وينظر سنن البيهقي 3/ 363، والدر المنثور 4/ 51.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 51 إلى المصنف والخرائطي وأبي الشيخ.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (777) من طريق حرب بن شداد، عن شهر. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 51 إلى عبد بن حميد. وأخرجه أبو الشيخ (881) من طريق آخر عن شهر، عن كعب، نحوه. وسيأتي في ص 359 من طريق شهر، عن ابن عباس، مختصرا.
عن الضّحّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ من الملائكةِ اسمُه الرعدُ، وهو الذي تسمَعون صوتَه
(1)
.
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا عبدُ الملكِ بنُ حُسينٍ، عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ يزجُرُ السحابَ بالتسبيحِ والتكبيرِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ
(3)
بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا عليُّ بنُ عاصمٍ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرعدُ اسمُ ملَكٍ، وصوتُه هذا تسبيحُه، فإدْا اشتدّ زجرُه السحابَ، اضطَرب السحابُ واحْتَكَّ، فتخرُجُ الصواعقُ مِن بيْنِه.
حدَّثنا الحسنُ
(3)
، قال: حدَّثنا عفانُ، قال: حدَّثنا أبو عوانةَ، عن موسى البزازِ
(4)
، عن شهرِ بنِ حوشبٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ يسوقُ السحابَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 50 إلى المصنف وابن مردويه.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (770) من طريق جويبر، عن الضحاك من قوله. وعزاه السيوطي 4/ 51 إلى ابن المنذر. وانظر ما سيأتي في ص 360، 361.
وبعد هذا الأثر اختلاف في ترتيب الآثار في المخطوط الأصل عن بقية النسخ، وما في النسخ الأخرى أليق بالسياق، ولذا سيجد القارئ اضطرابا في ترقيم ورقات الأصل.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (778) من طريق عبد الملك بن الحسين به. وعبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي متروك.
وأخرج أبو الشيخ أيضًا (769) نحوه مرفوعا من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرج أيضًا (776) من طريق أسباط، عن السدي من قوله، مثل أثر شهر عن ابن عباس الآتي.
(3)
في الأصل: "الحسين".
(4)
في ر: "البزار".
بالتسبيحِ، كما يسوقُ الحادِي الإبلَ بحُدائِه
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ
(2)
بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ عبَّادٍ وشَبَابةُ، قالا
(3)
: حدَّثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، عن مجاهدٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ يزجُرُ السحابَ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا عتَّابُ بنُ زيادٍ، عن عكرمةَ، قال: الرعدُ ملَكٌ في السماءِ
(4)
يجمَعُ السحابَ كما يجمَعُ الراعي الإبلَ
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: الرعدُ خَلْقٌ من خَلْقِ اللهِ سامعٌ مُطيعٌ للهِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا حسينٌ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عكرمةَ، قال: الرعدُ ملَكٌ يُؤمَرُ بإزجاءِ السحابِ، ويؤلِّفُ بينَه، فذلك الصوتُ تسبيحُه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: الرعدُ ملَكٌ.
(1)
أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (566 - المنتقى) من طريق عفان به. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (775) من طريق أبي عوانة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 50 إلى ابن المنذر. وتقدم في ص 357 نحوه من قول شهر بن حوشب.
(2)
في الأصل: "الحسين".
(3)
في الأصل: "قال".
(4)
في م، ت 1:"السحاب".
(5)
أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (564 - المنتقى)، والبيهقي 3/ 363 من طريق آخر عن عكرمة نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 51 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ بنُ المِنْهالِ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، عن المغيرةِ بنِ سالمٍ
(1)
، عن أبيه اُو غيرِه، أن عليَّ بنَ أبي طالبٍ قال: الرعدُ ملَكٌ
(2)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ، قال: حدَّثنا حمادٌ، قال: أخْبَرنا موسى ابنُ سالمٍ أبو جَهْضَمٍ مولى ابنِ عباسٍ، قال: كتَب ابنُ عباسٍ إلى أبي الجَلْدِ يَسألُه عن الرعدِ؟ فقال: الرعدُ ملَكٌ
(3)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، فال: حدَّثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا عمرُ بنُ الوليدِ الشَّنيُّ
(4)
، عن عكرمةَ، قال: الرعدُ ملَكٌ يسوقُ السحابَ كما يسوقُ الراعِي الإبلَ.
حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحَكَمِ، قال: حدَّثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: حدَّثنا الحَكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ، قال: كان ابنُ عباسٍ إذا سمِع الرعدَ قال: سبحانَ الذي سبَّحتَ له. قال: وكان يقولُ
(5)
: الرعدُ ملَكٌ ينعِقُ بالغيثِ، كما ينعِقُ الراعي بغنمِه
(6)
.
(1)
كذا في النسخ، وفي المصادر:"مسلم". وينظر تاريخ الدوري 4/ 210 (4003)، والثقات 7/ 464.
(2)
أخرجه البيهقي 3/ 363، والخطيب في المتفق والمفترق 3/ 1936 من طريق حماد بن سلمة، عن المغيرة ابن مسلم، عن أبيه، عن علي. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (772) من طريق آخر عن علي بلفظ: البرق: مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 50 إلى ابن أبي الدنيا في المطر وابن المنذر.
(3)
في ت 2، ت 3:"الملك".
والأثر أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (563 - المنتقى) من طريق حماد به من قول ابن عباس. وينظر الدر المنثور 4/ 49.
(4)
في م: "السنى".
(5)
بعده في ر، م، ت 2، ت 3:"إن".
(6)
ينظر ص 358.
وقال آخرون: الرعدُ ريحٌ تختَنقُ تحتَ السحابِ فتصّاعدُ، فيكونُ منه ذلك الصوتُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قال: حدَّثنا بشيرٌ
(1)
أبو
(2)
إسماعيلَ، عن أبي كَثيرٍ
(3)
، قال: كنتُ عندَ أبي الجَلْدِ
(4)
، إذ جاءه رسولُ ابنِ عباسٍ بكتابٍ إليه، فكتَب
(5)
إليه: كتبتَ إليّ تسألُني عن الرعدِ، فالرعدُ الريحُ
(6)
.
حدَّثني إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: حدَّثنا عمرانُ بنُ ميسرةَ، قال: حدَّثنا ابنُ إدريسَ، عن الحسنِ بنِ الفراتِ، عن أبيه، قال: كتَب ابنُ عباسٍ إلى أبي الجَلْدِ (4) يسألُه عن الرعدِ، فقال: الرعدُ ريحٌ
(7)
.
قال أبو جعفرٍ: فإن كان الرعدُ ما ذكَره ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ، فمعنَى الآية: أو كصيِّبٍ من السماءِ فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ؛ لأن الرعدَ إن كان ملَكًا يسوقُ السحابَ، فغيرُ كائنٍ في الصيِّبِ؛ لأن الصَّيِّبَ إنما هو ما تحدَّر من صَوْبِ
(8)
السحابِ، والرعدُ إنما هو في جوِّ السماءِ يسوقُ السحابَ. على أنه لو كان فيه
(1)
في م، ص، ت 1:"بشر".
(2)
في النسخ: "بن" وهو خطأ. وهو بشير بن سلمان، أبو إسماعيل، والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 4/ 168.
(3)
في الأصل: "كبير".
(4)
في م: "الخلد".
(5)
في ت 1: "فقال في كتاب".
(6)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (773) من طريق بشير به، وسيأتي تمامه في ص 363، 364.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 55 (187) من طريق ابن إدريس، به.
(8)
في ص، ت 1، ت 2:"صوت".
ثَمَّ
(1)
، لم يكنْ له صوتٌ مسموعٌ، لم
(2)
يكنْ هنالك رعبٌ يُرْعَب به أحدٌ؛ لأنه قد قيل: إن مع كلِّ قطرةٍ من قَطْرِ المطرِ ملَكًا. فلا يَعْدُو الملَكُ الذي اسمُه الرعدُ لو كان مع الصيِّبِ، إذا لم يكنْ مسموعًا صوتُه - أن يكونَ كبعضِ تلك الملائكةِ التي تنزلُ مع القَطْرِ إلى الأرضِ، في ألا رُعبَ على أحدٍ بكونِه فيه. فقد عُلِم - إذ كان الأمرُ كما
(3)
وصَفْنا من قولِ ابنِ عباسٍ - أن معنَى الآيةِ: أو كمثَلِ غيْثٍ تحدَّر من السماءِ فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ. إن كان الرعدُ هو ما قاله ابنُ عباسٍ، وأنه اسْتَغْنَى بدَلالةِ ذكرِ الرعدِ باسمِه على المرادِ في الكلامِ من ذكرِ صوتِه، وإن كان الرعدُ ما قاله أبو الجلدِ
(4)
، فلا شيْءَ في قولِه:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} . متروكٌ؛ لأن معنى الكلامِ حينَئذٍ: فيه ظلماتٌ ورعدٌ، الذي هو ما وصَفْنا صفتَه.
وأما البرقُ، فإن أهلَ العلمِ اخْتَلفوا فيه؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا مطرُ بنُ محمدٍ الضبِّيُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، وحدَّثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ ابنُ مهديٍّ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثني أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قالوا جميعًا: حدَّثنا سفيانُ الثوريُّ، عن سَلَمةَ بنِ كُهيلٍ، عن سعيدِ بنِ أشْوعَ، عن ربيعةَ بنِ الأَبْيَضِ، عن عليٍّ، قال: البرقُ مخاريقُ
(5)
الملائكةِ
(6)
.
(1)
في م: "يمر".
(2)
في م: "فلم".
(3)
في ص، ر، م:"على ما".
(4)
في م: "الخلد".
(5)
المخاريق، جمع مخراق: وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، أراد أنه آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه. النهاية 2/ 26.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 55 (190)، وأبو الشيخ في العظمة (771)، والبيهقي 3/ 363 من طريق سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 49، 50 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (565 - المنتقى) من طريق المسعودي، عن سلمة، عن رجل، عن علي بلفظ: الرعد: ملك، والبرق: مخاريق بأيدي الملائكة. وينظر علل الدارقطني 3/ 200.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا عبدُ الملكِ بنُ حسينٍ، عن السُّديِّ، عن أبي مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكةِ يزْجُرون بها السحابَ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ، قال: حدَّثنا حمادٌ، عن المغيرةِ بنِ سالمٍ، عن أبيه أو غيرِه، أن عليَّ بنَ أبي طالبٍ قال: الرعدُ الملَكُ، والبرقُ ضربُه السحابَ بمِخْراقٍ من
(1)
حديدٍ
(2)
.
وقال آخرون: هو سَوُطٌ من نورٍ، يزجُرُ به الملكُ السحابَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثت عن المِنْجابِ بنِ الحارثِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ بذلك
(3)
.
وقال آخرون: هو ماءٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا بشيرٌ
(4)
أبو
(5)
إسماعيلَ، عن أبي كَثيرٍ
(6)
، قال: كنتُ عند أبي الجَلْدِ
(7)
، إذ جاءه رسولُ ابنِ
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 360.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 50 إلى المصنف وابن مردويه.
(4)
في م: "بشر".
(5)
في النسخ: "بن". وهو خطأ كما تقدم في ص 361.
(6)
في الأصل: "كبير".
(7)
في م: "الخلد".
عباسٍ بكتابٍ إليه
(1)
، [فكتَب إليه]
(2)
: كَتَبْتَ
(3)
إليّ
(4)
تسألُني عن البرقِ، فالبرقُ الماءُ
(5)
.
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: حدَّثنا عِمرانُ بنُ ميْسرةَ، قال: حدَّثنا ابنُ إدريسَ، عن الحسنِ
(6)
بنِ الفراتِ، عن أبيه، قال: كتَب ابنُ عباسٍ إلى أبي الجلدِ يسألُه عن البرقِ، فقال: البرقُ ماءٌ
(7)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا جَريرٌ، عن عطاءٍ، عن رجلٍ من أهلِ البصرةِ من قُرَّائِهم، قال: كتَب ابنُ عباسٍ إلى أبي الجَلْدِ
(8)
- رجلٍ مِن أهلِ هَجَرَ - يسألُه عن البرقِ، فكتَب إليه: كتَبتَ إليَّ تسألُني عن البرقِ، وإنه من الماءِ
(9)
.
وقال آخرون: هو مَصْعُ
(10)
ملَكٍ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عثمانَ بنِ الأسودِ، عن مجاهدٍ، قال: البرقُ مَصْعُ
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
سقط من: ص.
(3)
سقط من: م.
(4)
زيادة من: ص.
(5)
تقدم أول هذا الأثر في ص 361. وينظر الدر المنثور 4/ 49.
(6)
في الأصل: "الحسين"
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 55 (188) من طريق ابن إدريس به.
(8)
في م: "الخلد".
(9)
أخرج أبو الشيخ في العظمة (782) من طريق ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن عامر، قال: أرسل ابن عباس إلى أبي الجلد. فذكره مطولًا، وفيه: وأما البرق فهو تلألؤ الماء. ينظر علل أحمد 1/ 70 (194).
(10)
سيأتي تعريف المصع في كلام المصنف، وينظر النهاية 4/ 337.
ملَكٍ
(1)
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا هشامٌ، عن محمدِ بنِ مسلمٍ الطائفيِّ، قال: بلَغني أن البرقَ ملَكٌ له أربعةُ أوجهٍ، وجهُ إنسانٍ، ووجهُ ثَوْرٍ، ووجهُ نَسرٍ، ووجهُ أسدٍ، فإذا مصَع بأجنحتِه فذلك البرقُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن وهبِ بنِ سليمانَ، عن شُعيبٍ الجَبَائيِّ، قال: في كتابِ اللهِ؛ الملائكةُ حَملةُ العرشِ، لكل ملَكٍ منهم وجهُ إنسانٍ وثَورٍ وأسدٍ ونَسْرٍ، فإذا حرَّكوا أجنحتَهم، فهو البرقُ، وقال أميةُ بن أبي الصَّلْتِ
(3)
:
رجُلٌ وثورٌ تحتَ رجْلِ يمينِه
…
والنَّسْرُ للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصَدُ
(4)
حدَّثنا الحسنُ
(5)
بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا عليُّ بنُ عاصمٍ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: البرقُ ملَكٌ
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 56 (194) من طريق عثمان به، بزيادة: يسوق به السحاب.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 49 إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ مثله. وعزاه أيضًا إلى المنذر مطولا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في البداية والنهاية 1/ 87، وتفسير ابن كثير 4/ 363 - عن أبيه، عن هشام - هو ابن عبيد الله الرازي - به. وينظر الدر المنثور 4/ 49.
(3)
ديوانه ص 29.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 49 إلى أبي الشيخ.
(5)
في الأصل، ص، م، ت 1، ت 2:"الحسين". وتقدم في ص 358.
(6)
أخرج أبو الشيخ في العظمة (780) من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس بلفظ: البرق ملك يترايا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 49 إلى ابن أبي الدنيا في المطر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ
(1)
، قال: الصواعقُ ملَكٌ يَضْرِبُ
(2)
السحابَ بالمطارقِ
(3)
، فيُصيبُ به من يشاءُ.
قال أبو جعفرٍ: وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ ما قاله عليُّ بنُ أبي طالبٍ وابنُ عباسٍ ومجاهدٌ بمعنى واحدٍ؛ وذلك أن تكونَ المخاريقُ التي ذكَر عليٌّ، رضي الله عنه، أنها هي البرقُ، هي
(4)
السِّياطُ التي هي من نورٍ، التي يُزْجِي بها الملَكُ السحابَ، كما قال ابنُ عباسٍ، ويكونُ إزجاءُ الملَكِ السحابَ مَصْعَه إيّاه بها. وذلك أن المِصاعَ عندَ العربِ أصلُه المجالدةُ بالسيوفِ، ثم تستعْمِلُه في كلِّ شيْءٍ جُولِد به، في حربٍ وغيرِ حربٍ، كما قال أعْشَى بني ثعلبةَ وهو يصفُ جَوارِيَ لَعِبْن بحَلْيِهن وتَجَالَدْن به
(5)
:
إذا هُنَّ نازَلْنَ أقرانَهُنَّ
…
وكان المِصاعُ بما في الجُوَنْ
(6)
يقالُ منه: ماصَعه مِصاعًا، وكأنَّ مجاهدًا إنما قال: مَصْعُ ملَكٍ. إذ كان
(1)
بعده في ت 2: "وهب بن سليمان".
(2)
زيادة من: م.
(3)
في م، ت 2:"بالمخارق".
(4)
في ص، ت 2:"وهي".
(5)
ديوان الأعشى ص 17.
(6)
الجونة - وربما همزت -: سلة مستديرة مغشاة أدما، يجعل فيها الطيب والثياب. اللسان (ج أ ن، ج و ن).
السحابُ لا يُماصِعُ الملَكَ، وإنما الرعدُ هو الماصِعُ
(1)
له، فجعَله مصدرًا من: مصَعَه يمصَعُه مَصْعًا.
وقد ذكَرنا في معنى الصاعقةِ ما قاله شهرُ بنُ حَوْشبٍ فيما مضَى
(2)
.
وأما تأويلُ الآيةِ، فإن أهلَ التأويلِ مختلِفون فيه؛ فرُوِي عن ابنِ عباسٍ في ذلك أقوالٌ؛ أحدُهما: ما حدَّثنا به محمدُ بن حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} أي: هم من ظلُمات ما هم فيه من الكفرِ والحذرِ من القتلِ على الذي هم عليه من الخلافِ والتخوُّفِ منكم - على مثلِ ما وَصَفَ من الذي
(3)
هو في ظلمةِ الصيِّبِ، فجعَل أصابعَه في أُذُنيه مِن الصواعقِ حذَرَ الموتِ، {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي: لشدةِ ضوءِ الحقِّ، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي: يعرِفون الحقَّ ويتكلَّمون به، فهم من قولِهم به على استقامةٍ، فإذا ارْتَكسوا منه إلى الكفرِ قامُوا متحيِّرين
(4)
.
(1)
في م: " المماصع".
(2)
ينظر ما تقدم في ص 357.
(3)
في الأصل: "الذين".
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 533، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 54، 56، 58 (183، 198، 206، 209) من طريق سلمة به، وتقدم أول هذا الأثر في ص 336.
والآخرُ: ما حدَّثنا به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} إلى: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : أما الصيِّبُ [فالمطرُ. كان]
(1)
رجلان من المنافقين من أهلِ المدينةِ هرَبا من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابَهما هذا المطرُ الذي ذكَر اللهُ، فيه رعدٌ شديدٌ وصواعقُ وبرقٌ، فجعَلا كلَّما أصابَهما
(2)
الصواعقُ جعَلا أصابِعَهما في آذانِهما، من الفَرَقِ أن تدخُلَ الصواعقُ في مسامعِهما فتقتُلَهما، وإذا لَمع البرقُ مَشَوا في ضوئِه، وإذا لم يلمَعْ لم يُبْصِرا، قاما مكانَهما لا يمشيان، فجعَلا يقولان: ليتنا قد أصْبَحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيديَنا في يدِه. فأصْبَحا، فأتَياه فأسْلَما، ووضَعا أيديَهما في يدِه، وحسُن إسلامُهما، فضرَب اللهُ شأنَ هذين المنافقَين الخارجَين مثَلًا للمنافقِين الذين بالمدينةِ، وكان المنافقون إذا حضَروا مجلسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم جعَلوا أصابِعَهم في آذانِهم فرَقًا مِن كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَنْزِلَ فيهم شيْءٌ، أو يُذْكَروا بشيْءٍ فيُقْتَلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعَلان أصابِعَهما في آذانِهما. {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} ، فإذا كَثُرت أموالُهم، ووُلِد لهم الغِلمانُ، [وأصابُوا]
(3)
غنيمةً أو فتحًا، مشَوْا فيه، وقالوا: إن دينَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم دينُ
(4)
(1)
في م: "والمطر، كانا".
(2)
في م: "أضاء لهما".
(3)
في الأصل: "فأصابوا"، وفي ر، ت 2:" أو أصابوا".
(4)
في ص، والدر المنثور:"حينئذ"، وفي ت 1:"حق و".
صدقٍ. فاستقامُوا عليه، كما كان
(1)
ذانك المنافقان يَمْشِيَان، إذا أضاء لهما
(2)
البرقُ مشَوْا فيه، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} . فكانوا إذا هلَكت أموالُهم، ووُلدِ لهم الجوارِي، وأصابهم البلاءُ، قالوا: هذا مِن أجلِ دينِ محمدٍ. فارْتَدُّوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حينَ أظْلَم البرقُ عليهما
(3)
.
والثالثُ: ما حدَّثَني به محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثَني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} :
كمطرٍ، {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} إلى آخرِ الآيةِ: هو مثَلُ المنافقِ في ضوء ما تكلَّم بما معه من كتابِ اللهِ، وعمِل مُراءاةً للناسِ، فإذا خلا وحدَه عمِل بغيرِه، فهو في ظلمةٍ ما أقام على ذلك، وأمّا الظلماتُ فالضلالةُ، وأما البرقُ فالإيمانُ، وهم أهلُ الكتابِ، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} فهو رجلٌ
(4)
يأخُذُ بطرَفِ الحقِّ لا يستطيعُ أن يُجاوزَه
(5)
.
والرابعُ: ما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثَني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} : وهو المطرُ، ضرَب مثَلَه في القرآنِ، يقولُ:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} يقولُ:
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2:"لهم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة نحوه. وتقدم أول هذا الأثر في ص 337.
(4)
بعده في ت 1: "واحد".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى المصنف. وتقدم أوله في ص 356.
ابتلاءٌ، [{وَرَعْدٌ} يقولُ: تخويفٌ، {وَبَرْقٌ} ]
(1)
. {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} . يقولُ: يكادُ مُحكَمُ القرآنِ أن يدلَّ على عَوْراتِ المنافقين، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} يقولُ: كلَّما أصاب المنافقون مِن الإسلامِ عزًّا اطمأنُّوا، وإن أصابَ الإسلامَ نكبةٌ [قاموا ليرْجِعوا]
(2)
إلى الكفرِ، يقولُ:{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} كقولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج: 11]. إلى آخرِ الآيةِ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: ثم اخْتَلَف سائرُ أهلِ التأويلِ بعدُ في ذلك نظيرَ ما رُوي عن ابنِ عباسٍ مِن الاختلافِ فحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بنِ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: إضاءةُ البرقِ وإظلامُه
(4)
على نحوِ ذلك المثَلِ
(5)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا عمرُو بن عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
(1)
في الدر المنثور: "ورعد وبرق - تخويف".
(2)
في م: "قالوا ارجعوا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 54، 55، 57، 58 (182، 186، 203، 208) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 32 إلى ابن المنذر والصابوني في المائتين.
(4)
في الأصل، ر:"إظلامهم".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 33 إلى عبد بن حميد. وينظر تفسير مجاهد ص 197. وتقدم أول هذا الأثر في ص 357.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ في قولِ اللهِ:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} إلى قولِه: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} : فالمنافقُ
(1)
إذا رأى في الإسلامِ رخاءً أو طمأنينةً أو سَلْوةً من عيشٍ، قال: أنا معكم وأنا منكم. وإذا أصابتْه شدَّةٌ
(2)
حَقْحَق
(3)
واللهِ عندَها، فانْقُطِع به، فلم يَصْبِرْ على بلائِها، ولم يَحتسِبْ أجرَها، ولم يرْجُ عاقبتَها
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} يقولُ: أجبنُ
(5)
قومٍ، لا يسمَعون شيئًا إلا ظنُّوا أنهم هالكون فيه؛ [حذَرًا من]
(6)
الموتِ، {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} ثم ضرَب لهم مثَلًا آخرَ، فقال:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} . يقولُ: هذا المنافقُ؛ إذا كثُر مالُه، وكثُرت ماشيتُه، وأصابَته عافيةٌ، قال: لم يُصِبْني مذُ دخلتُ في دينِي هذا إلا خيرٌ. {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} يقولُ: إذا ذهبَت أموالُهم، وهلَكت مواشِيهم، وأصابهم البلاءُ، قاموا متحيِّرين.
(1)
في ت 1: "قال".
(2)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"شديدة".
(3)
الحقحقة: أن يسار البعير ويحمل على ما يتعبه وما لا يطيقه حتى يبدع براكبه، وقيل: هو المتعب من السير. اللسان (ح ق ق).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 33 إلى المصنف وعبد بن حميد نحوه، وتقدم أوله في ص 339.
(5)
في م: "أخبر عن"، وفي ت 1:"هم أجبن".
(6)
في ص، ت 1:"حذارا من".
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} قال: مثلُهم كمثلِ قومٍ ساروا في ليلةٍ مظلمةٍ، ولها مطرٌ ورعدٌ وبرقٌ على جادَّةٍ، فلما أبْرَقت أبْصَروا الجادَّةَ فمضَوْا فيها، فإذا ذهَب البرقُ تحيَّروا، وكذلك المنافقُ، كلَّما تكلَّم بكلمةِ الإخلاصِ أضاء له، فإذا شكَّ تحيَّر ووقَع
(1)
في الظُّلْمةِ، فكذلك قولُه:{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} . ثم قال في أسماعِهم وأبصارِهم التي عاشُوا بها في الناسِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا أبو تميلةَ
(3)
، عن عُبيدِ بنِ سليمانَ الباهليِّ، عن الضحَّاكِ بنِ مُزَاحمٍ:{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} قال: أما الظلماتُ فالضلالةُ، والبرقُ الإيمانُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعْلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وَهبٍ، قال: حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ في قولِه: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [فقَرأ حتى بلَغْ]
(5)
: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال: هذا أيضًا مثَلٌ ضرَبه اللهُ للمنافقين، كانوا قد استنارُوا
(6)
بالإسلامِ، كما استنَار
(7)
هذا بنورِ هذا
(8)
البرقِ.
(1)
بعده في ر: "ورجع".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 عقب الأثر (120) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
في الأصل: "ثميلة"، وفي م:"نميلة".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 54، 56 (184، 195) من طريق علي بن الحكم عن الضحاك.
(5)
في ر: "حتى قرأ".
(6)
في ت 1: "استضاءوا".
(7)
في ت 1: "استضاء".
(8)
سقط من: ص، ت 1.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: ليس في الأرضِ شيْءٌ يسمعُه المنافقُ إلا ظنَّ أنه يُرادُ به، وأنه الموتُ، كراهيةً له، والمنافقُ أكرَهُ خلقِ اللهِ للموتِ، كما إذا كانوا بالبرارِيِّ
(1)
في المطرِ، فرُّوا من الصواعقِ.
حدَّثنا عمرٌو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو معاويةَ، قال: حدَّثنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} قال: مثَلٌ ضُرِب للكافرِين
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذه الأخبارُ
(3)
التي ذكَرْناها عمَّن رَوَيناها عنه، فإنها وإن اخْتَلفت فيها ألفاظُ قائليها متقارِباتُ المعاني؛ لأنها جميعًا تُنْبئُ عن أن اللهَ ضرَب الصَّيِّبَ لظاهرِ إيمانِ المنافقِ مثلًا، ومثَّل ما فيه من ظلماتٍ بضلالتِه، وما فيه من ضياءِ برقٍ بنورِ إيمانِه، واتِّقاءَه من الصواعقِ بتصييرِ أصابِعه في أُذُنَيه، لضعفِ
(4)
جَنانِه، ونَخْبِ
(5)
فؤادِه، من حُلولِ عقوبةِ اللهِ بساحتِه، ومشيَه في ضوءِ البرقِ باستقامتِه على نورِ إيمانِه، وقيامَه في الظلامِ بحيرتهِ في ضلالتِه وارتكاسِه في عَمَهِه.
فتأويلُ الآيةِ
(6)
إذن - إذ
(7)
كان الأمرُ على ما وصَفْنا -: أو
(8)
مَثَلُ ما اسْتَضاء به المُنافِقون، مِن قيلِهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتِهم: آمنَّا باللهِ
(1)
في ص: "بالبر"، وفي م، ر، ت 1، ت 2:"بالبراز".
(2)
في ص، ر، م، ت 1:"للكافر"، وفي ت 2:"الكافر".
(3)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"الأقوال".
(4)
في م: "بضعف".
(5)
في م: "تحير". والنخب: الجبن وضعف القلب. اللسان (ن خ ب).
(6)
في ص: "الكلام".
(7)
في ص: "إن"، وفي م "إذا".
(8)
في الأصل: "و".
وباليومِ الآخِرِ وبمحمدٍ وبما جاء به. حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين، وهم - مع إظهارِهم بألسنتِهم ما يُظْهِرون - باللهِ وبرسولِه وما جاء به مِن عندِ اللهِ وباليومِ الآخرِ مُكَذِّبون، ولخلافِ ما يُظْهِرون بالألْسُنِ في قلوبهم مُعْتَقِدون، على عمًى منهم وجَهالةٍ بما هم عليه مِن الضَّلالةِ، لا يَدْرُون في
(1)
أيِّ الأمْرَين اللذين قد شُرِعا لهم الهدايةُ، في
(2)
الكفرِ الذي كانوا عليه قبلَ إرسالِ اللهِ محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرْسَله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم مِن عندِ ربِّهم؟ فهم مِن وَعيدِ اللهِ إياهم على لسانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وَجِلون، وهم مع وَجَلِهم مِن ذلك في حقيقتِه شاكُّون، في قلوبِهم مرضٌ فزادَهم اللهُ مرضًا -كمثل غَيْثٍ سرَى ليلًا في مُزْنةٍ
(3)
ظَلْماءَ وليلةٍ
(4)
مُظْلِمةٍ، يَحْدُوها رَعْدٌ، ويَسْتَطِيرُ في حافاتِها برقٌ، شديدٌ لَمَعانُه، كثيرٌ خَطَرانُه
(5)
، يَكادُ سناه
(6)
يَذْهَبُ بالأبصارِ، ويَخْتَطِفُها مِن شدَّةِ ضِيائِه ونورِ شُعاعِه، وتَهْبِطُ منها تاراتٍ صَواعِقُ، تَكادُ تَدَعُ النفوسَ مِن شدةِ أهْوالِها زَواهِقَ.
فالصَّيِّبُ مَثَلٌ لظاهرِ ما أظْهَر المُنافِقون بألسنتِهم مِن الإقْرارِ والتَّصْديقِ، والظلماتُ التي هي فيه لظُلُماتِ ما هم مُسْتَبِطنوه
(7)
من الشكِّ والتَّكْذِيبِ ومرضِ القلوبِ، وأما الرعدُ والصَّواعقُ فلِما هم عليه مِن الوَجَلِ مِن وَعيدِ اللهِ إياهم على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في آيِ كتابِه، إمَّا في العاجلِ وإمَّا في الآجِلِ، أن يَحُلَّ بهم، مع شكِّهم في ذلك، هل هو كائنٌ أم غيرُ كائنٍ، وهل له حقيقةٌ أم ذلك كذبٌ
(1)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(2)
في الأصل، ص:"أفي".
(3)
في ت 1: "برية".
(4)
في م: "ليل".
(5)
الخطران: الارتفاع والانخفاض. انظر التاج (خ ط ر).
(6)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"سنا برقه".
(7)
في م: "مستنبطون".
وباطلٌ؟ مَثَلٌ
(1)
. فهم مِن وَجَلِهم أن يكونَ ذلك حقًّا، يتَّقُونه بالإقرارِ بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم بألسنتِهم، مخافةً على أنفسِهم مِن الهلاكِ ونزولِ النَّقِماتِ. وذلك تأويلُ قولِه جلّ ثناؤُه:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} يعْني بذلك: يَتَّقُون وَعيدَ اللهِ الذي أنْزَله في كتابِه على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم بما يُبْدُونه بألسنتِهم مِن ظاهرِ الإقرارِ، كما يَتَّقِي الخائفُ
(2)
أصواتَ الصَّواعقِ بتغطيةِ أُذُنيه، وتَصْييرِ أصابِعِه فيهما
(3)
، حَذَرًا على نفسِه منها
(4)
.
وقد ذكَرْنا الخبرَ الذي رُوِي عن ابنِ مسعودٍ وعن ابنِ عباسٍ أنهما كانا يَقُولان: إن المنافقين كانوا إذا حضَروا مجلسَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أدْخَلوا أصابعَهم في آذانِهم فَرَقًا مِن كلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أن يَنْزِلَ فيهم شيْءٌ، أو يُذْكَروا بشيْءٍ فيُقْتَلوا
(5)
. فإن كان ذلك صحيحًا - ولستُ أعْلَمُه صحيحًا، إذ كنتُ بإسنادِه مُرتابًا - فإن القولَ الذي رُوِي عنهما هو القولُ. وإن يكنْ غيرَ صَحيحٍ، فأوْلَى بتأويل الآيةِ ما قُلْنا، لأنَّ اللهَ إنما قصَّ علينا مِن خبرِهم في أولِ مُبْتَدَأِ قَصَصِهم، أنهم
(6)
يُخادِعون اللهَ ورسولَه والمؤمنين بقولِهم: آمَنَّا باللهِ وباليومِ الآخِرِ. مع شكِّ قلوبهم ومرضِ أفئدتِهم في حقيقةِ ما زعَموا أنهم به مُؤْمنون، مما جاءَهم به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن عندِ ربِّهم، وبذلك وصَفهم في جميعِ آيِ القرآنِ التي ذكَر فيها صفتَهم، فكذلك ذلك في هذه الآيةِ.
(1)
ليست في: الأصل، وفي ت 1:"شك".
(2)
بعده في ر: "من".
(3)
في ص، م، ت 1:"فيها".
(4)
في ت 2: "منهما".
(5)
تقدم في ص 368.
(6)
بعده في ص: "عارفون".
وإنما جعَل اللهُ إدخالَهم أصابِعَهم في آذانِهم مَثَلًا لاتِّقائهم رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكَرْنا أنهم يتَّقُونهم به، كما يَتَّقِي سامعُ صوتِ الصاعقةِ بإدخالِ أصابعِه في أُذُنيه، وذلك مِن المثَلِ نظيرُ تَمثيلِ اللهِ ما أنْزَل
(1)
فيهم مِن الوَعيدِ في آيِ كتابِه بأصواتِ الصَّواعقِ، وكذلك قولُه:{حَذَرَ الْمَوْتِ} جعَله جل ثناؤُه مَثَلًا لخوفِهم وإشفاقِهم مِن حُلولِ عاجلِ العِقابِ المُهْلِكِهم
(2)
الذي تُوُعِّدوه بساحتِهم، كما يَجْعَلُ سامعُ أصواتِ الصَّواعِقِ أصابِعَه في أُذُنيه حَذَرَ العَطَبِ والموتِ على نفسِه أن تَزْهَقَ مِن شدتِها.
وإنما نصَب قولَه: {حَذَرَ الْمَوْتِ} على نحوِ ما تَنْصِبُ به التَّكْرِمةَ في قولِك: زُرْتُك تَكْرِمةً لك. تُرِيدُ بذلك: زُرْتُك
(3)
مِن أجلِ تَكْرِمتِك. وكما قال جلّ ثناؤُه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. على التفسيرِ للفعلِ
(4)
. وقد رُوي عن قتادةَ أنه كان يتأوَّلُ قولَه: {حَذَرَ الْمَوْتِ} : حَذَرًا مِن الموتِ. حدَّثنا بذلك الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: حدَّثنا مَعْمَرٌ عنه.
وذلك مذهبٌ مِن التأويلِ ضعيفٌ؛ لأنَّ القومَ لم يَجْعَلوا أصابعَهم في آذانِهم حَذَرًا مِن الموتِ، فيكونَ معناه ما قال: إنه يرادُ
(5)
به: حَذَرًا مِن الموتِ. وإنما جعَلوها
(1)
في الأصل: "نزل".
(2)
في م: "المهلك".
(3)
سقط من: ص، ت 2، ت 3.
(4)
يعني بالتفسير للفعل: المفعول لأجله. ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 17، والمصطلح النحوي ص 164.
(5)
في م: "مراد".
مِن حِذارِ الموتِ في آذانِهم.
وكان قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ يَتَأوَّلان قولَه: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} أن ذلك مِن اللهِ جل ثناؤُه صفةٌ للمنافِقِين بالهَلَعِ وضعفِ القلوبِ وكراهيةِ الموتِ ويَتَأوَّلان في ذلك قولَه: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4].
وليس الأمرُ في ذلك عندي كالذي قالا، وذلك أنه قد كان فيهم مَن لا تُنْكرُ شجاعتُه، ولا تُدْفَعُ بَسالتُه، كقُزْمانَ
(1)
الذي لم يَقُمْ مَقامَه أحدٌ
(2)
مِن المؤمنين [يومَ أحُدٍ]
(3)
، ودونَه
(4)
، وإنما كانت كراهتُهم شُهودَ المشَاهِدِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتَرْكُهم مُعاونتَه على أعدائِه؛ لأنهم لم يكونوا في أديانِهم مُسْتَبْصِرين، ولا برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقِين، فكانوا للحضورِ معه مَشاهدَه كارِهِين، إلا بالتَّخْذِيلِ عنه.
ولكنّ ذلك وصفٌ مِن اللهِ لهم بالإشْفاقِ مِن حُلولِ عقوبةِ اللهِ بهم على نفاقِهم، إما عاجلًا وإما آجِلاً.
ثم أخْبَر جلّ ثناؤُه أن المنافِقِين الذين نعَتَهم اللهُ النَّعْتَ الذي ذكَر، وضرَب لهم الأمثالَ التي وصَف، وإنِ اتَّقَوْا عقابَه، وأشْفَقُوا من عذابِه إشفاقَ الجاعلِ في أُذنيه أصابعَه حِذارَ حُلولِ الوَعيدِ الذي توَعَّدهم له في آيِ كتابِه - غيرُ مُنْجِيهم ذلك مِن نزولِه بعَقْوَتِهم
(5)
، وحُلولِه بساحتِهم، إما عاجلًا في الدنيا، وإما آجِلًا في الآخِرةِ،
(1)
هو قزمان بن الحارث، حليف بني ظفر، كان منافقا معروفا بالشجاعة، وقاتل يوم أحد قتالا شديدا، حتى أصابته الجراحة، فقتل نفسه. ينظر الإصابة 5/ 440.
(2)
سقط من: ض، وفي ر:"بأحد"، وفي ت 2:"كأحد".
(3)
في ص "كثير أحد" وفي ر، ت 2:"كبير أحد"، وفي ت 1، م:"بأحد".
(4)
في الأصل، ر:"ذويه".
(5)
في ص: "بعقولهم"، وفي م:"بعقوبتهم". والعقوة والعقاة: الساحة وما حول الدار، والمحلة. اللسان (ع ق و).
للذي في قلوبِهم مِن مرضِها، والشكِّ في اعتقادِها، فقال:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} يَعْني
(1)
: جامِعُهم، فمُحِلٌّ بهم عُقوبتَه.
وكان مجاهدٌ يَتَأوَّلُ ذلك كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال أخبرنا عيسى بنُ مَيمونٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قال: جامِعُهم في جهنمَ
(2)
.
حدَّثني القاسمُ، قال: حدَّثنا حسينٌ، قال: حدَّثنا حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قال: جامِعُهم
(3)
.
وأما ابنُ عباس فرُوِي عنه في ذلك ما حدَّثني به ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ، عن عِكْرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} يقولُ: اللهُ مُنْزِلٌ ذلك بهم مِن النِّقْمةِ
(4)
.
ثم عاد جلّ ذكرُه إلى نعتِ إقرارِ المنافقين بألسنتِهم، والخبرِ [عنه و]
(5)
عنهم وعن نفاقِهم، وإتمامِ المثلِ الذي ابْتَدَأ ضَرْبَه لهم ولشكِّهم ومَرَضِ قلوبِهم، فقال:{يَكَادُ الْبَرْقُ} يعْني بالبرقِ الإقرارَ الذي أظْهَروه بألسنتِهم باللهِ وبرسولِه وما جاء به
(1)
في م: "بمعنى".
(2)
تفسير مجاهد ص 197، ومن طريقه عبد بن حميد - كما في تعليق التعليق 4/ 172 - وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 57 (201). وتقدم أول هذا الأثر في ص 340.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 57 (200) من طريق ابن جريج به، بزيادة: يوم القيامة في جهنم.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 57 (199) من طريق سلمة به.
(5)
سقط من: ر، ت 1.
مِن عندِ ربِّهم. فجعَل البرقَ له مثلَا على ما
(1)
قدَّمْنا صفتَه، {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يعني: يَذْهَبُ بها ويَسْتَلِبُها ويَلْتَمِعُها
(2)
مِن شدةِ ضِيائِه
(3)
ونُورِ شُعاعِه
(4)
.
كما حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ بنِ الحارثِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} .
قال: يَلْتَمِعُ أبْصارَهم ولمَّا يَفْعَلْ
(5)
.
والخَطْفُ السَّلْبُ. ومنه الخبرُ الذي رُوِي عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهى عن الخَطْفةِ
(6)
. يعني بها النُّهْبَةَ. ومنه قيل للخُطَّافِ الذي يُخْرَجُ به الدَّلْوُ مِن البئرِ: خُطَّافٌ؛ لاخْتِطافِه واسْتِلابِه ما علِق به. ومنه قولُ نابغةِ بني ذُبْيانَ
(7)
:
(1)
بعده في ر: "قد".
(2)
التمع الشيْءَ: اختلسه. اللسان (ل م ع).
(3)
في الأصل، ص، ر، ت 2:"ضيائها".
(4)
في الأصل، ص، ر، ت 2:"شعاعها".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 57 (204) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.
(6)
أخرجه الدارمي 2/ 85، والطبراني في الكبير 22/ 209 (551)، والبيهقي 9/ 334 من طريق أبي أويس عبد الله بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخطفة، والمجثمة، والنهبة، وعن أكل كل ذي ناب من السباع. وآخره في النهي عن كل ذي ناب من السباع في الصحيحين، وغيرهما من طرق عن الزهري به. وينظر علل الدارقطني 6/ 316 - 318.
وأخرجه الحميدي (397)، وأحمد 5/ 195، 6/ 455 (الميمنية) من طريق سهيل، عن عبد الله بن يزيد السعدي، عن أبي الدرداء، نحوه. وينظر علل الدارقطني 6/ 203، 204.
والخطفة: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية. والمراد ما يقطع من أطراف الشاة، والخطفة المرة الواحدة من الخطف، فسمى بها العضو المختطف. ينظر النهاية 2/ 49.
(7)
ديوانه ص 52.
خَطاطِيفُ حُجْنٌ
(1)
في حِبالٍ متينةٍ
…
تَمُدُّ بها أيدٍ إليك نَوازِعُ
فجعَل ضَوءَ البرقِ وشدةَ شُعاعِ نُورِه، لضَوْءِ
(2)
إقرارِهم بألسنتِهم باللهِ وبرسولِه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به مِن عندِ اللهِ واليومِ الآخِرِ وشُعاعِ نورِه - مَثَلَاً.
ثم قال: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} يعني أن البرقَ كلَّما أضاء لهم. وجعَل البرقَ لإيمانِهم مَثَلَاً. وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الإيمانُ. وإضاءتُه لهم أن يَرَوْا فيه ما يُعْجِبُهم في عاجلِ دُنْياهم مِن النُّصْرةِ على الأعداءِ، وإصابةِ الغَنائم في المَغازِي، وكثرةِ الفُتوحِ وتتابُعِها
(3)
، والثُّراءِ في الأموالِ، والسلامةِ في الأَبدانِ والأهلِ والأولادِ - فذلك إضاءتُه لهم؛ لأنهم إنما يُظْهِرون بألسنتِهم ما يُظْهِرونه مِن الإقرارِ ابْتغاءَ ذلك، ومُدافَعةً عن أنفسِهم وأموالِهم وأهليهم وذَرارِيِّهم، فهم كما وصَفَهم جلّ ثناؤُه بقولِه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11].
ويعني بقولِه: {مَشَوْا فِيهِ} : مشَوْا
(4)
في ضوءِ البرقِ. وإنما ذلك مَثَلٌ لإقرارِهم على ما وصَفْنا. فمعناه: كلما رأَوْا في الإيمانِ ما يُعْجِبُهم في عاجلِ دنياهم - على ما وصَفْنا - ثبتوا عليه، وأقاموا فيه، كما يَمْشِي السائرُ في ظُلمةِ الليلِ وظُلمةِ الصَّيِّبِ الذي وصَفه جلّ ذكرُه، إذا برَقَت فيها بارقةٌ [فأبصَر طريقَه بها]
(5)
.
{وَإِذَا أَظْلَمَ} يعْني: ذهَب ضَوْءُ البرقِ عنهم
(6)
. ويعني بقولِه: {عَلَيْهِمْ} :
(1)
الحجن جمع أحجن: وهو الشيْء المعوج. اللسان (ح ج ن).
(2)
في ص: "بضوء"، وفي م:"كضوء".
(3)
في ص، م:"منافعها".
(4)
في الأصل: "يعني مشوا".
(5)
في م: "أبصر طريقه فيها".
(6)
في الأصل، ر، ت 1:"عليهم".
على السائرين في الصَّيِّبِ الذي وَصَف جلَّ ذكرُه، وذلك للمنافِقِين مَثَلٌ. ومعنى إظلامِ ذلك أن المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلامِ ما يُعْجِبُهم في دنياهم - عندَ ابتلاءِ اللهِ مؤمِني عبادِه بالضَّرَّاءِ، وتَمْحيصِه إياهم بالشدائدِ والبلاءِ، مِن إخفاقِهم في مَغْزاهم، [أو إدالةِ]
(1)
عدوِّهم منهم، أو إدبارٍ مِن دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقِهم، وثبَتوا على ضَلالتِهم، كما قام السائرون في الصَّيِّبِ الذي وصَف جل ذكرُه إذا أظلَم
(2)
وخبَتَ
(3)
ضَوْءُ البرقِ، فحار في طريقِه فلم يَعْرِفْ مَنهجَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: وإنَّما خَصَّ اللهُ جلَّ ذِكرهُ السمعَ والأبصارَ بأنَّه لو شاء أذهَبَها مِن المنافقين دونَ سائرِ أعضاءِ أجسامِهم - لِلذي جرَى مِن ذكرِها في الآيَتْين، أعْني قولَه:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} . وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} فجرَى ذكرُها في الآيتَيْنِ على وجهِ المثَلِ. ثم عقَّب جلّ ثناؤُه ذكرَ ذلك بأنه لو شاء أذْهَبه مِن المنافِقِين، عقوبةً لهم على نفاقِهم وكفرِهم، وعيداً مِن اللهِ لهم، كما توَعَّدهم في الآيةِ التي قبلَها بقولِه:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} واصفاً بذلك جلّ ذكرُه نفسَه أنه المُقْتَدِرُ عليهم وعلى جمعِهم
(4)
، لإحْلالِ سُخْطِه بهم، وإنزالِ نِقْمتِه عليهم، ومُحَذِّرَهم بذلك سَطْوتَه، ومُخَوِّفَهم
(5)
عقوبتَه، ليَتَّقُوا بأسَه، ويُسارِعوا إليه بالتوبةِ.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ
(1)
في ص: "وإدالة"، وفي م:"وإنالة". والإدالة: الغلبة. اللسان (د و ل).
(2)
بعده في الأصل: "عليهم".
(3)
في ص: "خف"، وفي ر، م:"خفت"، وخبت وخفت بمعنى.
(4)
في الأصل، ص:"جميعهم".
(5)
بعده في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"به".
إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} : لِمَا ترَكوا مِن الحقِّ بعدَ معرفتِه
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنس، قال: ثم قال - يعْني: قال اللهُ - في أسْماعِهم - يعني أسْماعَ المنافِقِين - وأبصارِهم التي عاشُوا بها في الناسِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}
(2)
.
وإنما معنَى قوله: {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} : لأذهب سمعَهم وأبصارَهم. ولكنَّ العربَ إذا أدخلوا الباءَ في مثلِ ذلك قالوا: ذهبتُ ببصرِه. وإذا حذَفوا الباءَ قالوا: أذهبتُ بصرَه. كما قال جلّ ذكرُه: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62]. ولو أدخلتِ الباءُ في الغداءِ لقيل: آتِنا بغدائِنًا.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} فوحَّد، وقال:{وَأَبْصَارِهِمْ} فجمَع، وقد علِمْتَ أن الخبرَ في السمعِ خبرٌ عن سمعِ جماعةٍ، كما الخبرُ في الأبصارِ خبرٌ عن أبصارِ جماعةٍ؟
قيل: قد اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في ذلك، فقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْقَ، وجمَع الأبصارَ لأنه عَنَى بها
(3)
الأعينَ.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 533، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 (213) من طريق سلمة به. وتقدم أول هذا الأثر في ص 336.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 (212) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(3)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"به".
وكان بعضُ نحويِّي البصرةِ يَزْعُمُ أن السمعَ وإن كان في لفظِ واحدٍ، فإنه بمعنى جماعٍ. ويَحْتَجُّ في ذلك بقولِ اللهِ جلّ وعزّ:{لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43]. يُرُادُ
(1)
: لا تَرْتَدُّ إليهم أطْرافُهم. وبقولِه: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: 45]. يُرادُ به: أدْبارُهم.
قال أبو جعفرٍ: وإنما جاز
(2)
ذلك عندي لأن في الكلامِ ما يَدُلُّ على أنه مُرادٌ به الجمعُ، فكان دَلالتُه
(3)
على المرادِ منه وأدَاءِ معنى الواحدِ مِن السمعِ عن معنى جماعةٍ، مُغْنِيًا
(4)
عن جِماعِه، ولو فُعِل بالبصرِ نظيرُ الذي فُعِل بالسمعِ، أو فُعِل بالسمعِ نظيرُ الذي فُعِل بالأبصارِ - مِن الجمعِ والتوحيدِ - كان فصيحًا صحيحًا؛ لما ذكرْنا مِن العلةِ، كما قال الشاعرُ
(5)
:
كُلُوا في بَعْضِ
(6)
بَطْنِكُمُ تعِفُّوا
(7)
…
فإن زَمانَنا
(8)
زَمَنٌ خَمِيصُ
فوحَّد البطنَ، والمرادُ به
(9)
البطونُ؛ لما وصَفْنا مِن العلةِ.
(1)
في ص: "ويراد"، وفي م:"يريد".
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"جمع"، وفي ر:"جميع".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"في دلالته"، وفي م:"فيه دلالة".
(4)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"معنيا".
(5)
بعده في ر: "حيث قال".
والبيت من أبيات سيبويه التي لا يعلم قائلها، ينظر الكتاب 1/ 210، وأمالي ابن الشجري 1/ 311، 2/ 25، 38، 343، والخزانة 7/ 537، 559.
(6)
في الأصل، ص، ر، وأمالي ابن الشجري، والموضع الأول من الخزانة:"نصف". قال صاحب الكشاف - كما في الخزانة 7/ 563 - : أكل في بعض بطنه، إذا كان دون الشبع، وأكل في بطنه، إذا امتلأ وشبع.
(7)
في الأصل، ص، ر، والموضع الأول من الخزانة:"تعيشوا". وذكر صاحب الخزانة أنها رواية.
(8)
في مصادر التخريج: "زمانكم".
(9)
في ص، م:"منه".
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} .
قال أبو جعفر: وإنما وصَف نفسَه جلّ ذكرُه بالقُدرةِ على كلِّ شيْءٍ في هذا الموضعِ؛ لأنه حذّر المنافِقين بأسَه وسطْوتَه، وأخبَرهم أنه بهم محيطٌ، وعلى إذهابِ أسماعِهم وأبصارِهم قديرٌ، ثم قال جلّ ذكرُه: فاتَّقوني أيها المنافقون، واحذَرُوا خداعِي وخداعَ رسُولي وأهلِ الإيمانِ بي؛ لا
(1)
أُحِلُّ بكم نَقَمِي، فإني على ذلك وعلى غيرِه من الأشياءِ قادرٌ
(2)
. ومعنى {قَدِيرٌ} : معنى قادرٍ، كما معنى عليمٍ
(3)
: عالمٌ. على ما وصفْتُ فيما تقدّم من نظائِرِه مِن زيادةِ معنى "فعيلٍ""على""فاعلٍ" في المدحِ والذَّمِّ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
فأمَر جلَّ ثناؤُه الفريقين اللذين أَخْبر عن أحدِهما أنه سواءٌ عليهم أُنْذِروا
(5)
أَمْ لم يُنذَروا
(6)
أنهم لا يؤمنون؛ لطبعِه على قلوبهم وسمعِهم
(7)
، وعن الآخَرِ أنه يُخادِعُ اللهَ والذين آمنوا بما يُبْدي بلسانِه من قيلِه: آمنَّا باللهِ وباليومِ الآخِرِ. مع استبطانِه خلافَ ذلك ومرضِ قلبِه وشكِّه في حقيقةِ ما يُبْدي مِن ذلك، وغيرَهم مِن سائرِ خلقِه المُكلَّفين - بالاستكانةِ والخضوعِ له بالطاعةِ، وإفرادِ الرُّبوبيَّةِ له والعبادةِ دود الأوثانِ والأصنامِ والآلهةِ؛ لأَنَّه جلَّ ذِكرُه هو خالقُهم وخالقُ مَن قبلَهم مِن
(1)
في في الأصل: "لأني".
(2)
في ص، م:"قدير".
(3)
بعده في ر: "معنى".
(4)
ينظر ما تقدم في ص 125.
(5)
في ص، ت 1، ت 2 ت "أأنذرتهم".
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"تنذرهم و".
(7)
بعده في م: "وأبصارهم".
آبائِهم وأجدادِهم، وخالقُ أوثانِهم وأصنامِهم وآلهتِهم.
فقال لهم جلَّ ذِكرُه: فالذي خلَقكم وخلَق آباءَكم وأجدادَكم وسائرَ الخلقِ غيرَكم، وهو يقدِرُ على ضَرِّكم ونَفعِكم، أَوْلى بالطاعةِ ممَّن لا يقدِرُ لكم على نَفْعٍ ولا ضَرٍّ.
وكان ابنُ عباسٍ فيما رُوِي لنا عنه يقولُ في ذلك نظيرَ ما قُلنا فيه، غيرَ أنه ذُكِر عنه أنه كان يقولُ في معنى:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} : وحِّدوا رَبَّكم.
وقد دلَّلنا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا على أن معنى العبادةِ؛ الخضوعُ للهِ بالطاعةِ، والتذلُّلُ له بالاستكانةِ
(1)
.
والذي أراد ابنُ عباسٍ - إن شاء اللهُ - بقولِه في تأويلِ قولِه: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} : [وحِّدوه. أي]
(2)
: أَفْرِدوا الطاعةَ والعبادةَ لرَبِّكم دونَ سائرِ خلقِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال اللهُ جلَّ ذكرُه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم} : للفريقين جميعًا من الكفارِ والمنافقين، أي: وحِّدوا ربَّكم الذي خلَقكم والذين مِن قبلِكم
(3)
.
وحدَّثني مُوسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرو بنُ حمادٍ، قال حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهمدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ
(1)
ينظر ما تقدم في ص 159.
(2)
في ص: "وحدوا له".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 533، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59؛ 60 (215، 216) من طريق سلمة به.
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. [يقولُ: خلَقكم وخلَق الذين مِن قبلِكم
(1)
.
قال أبو جعفرٍ]
(2)
: وهذه الآيةُ مِن أدلِّ الدليلِ على فسادِ قولِ مَن زعَم أن تكليفَ ما لا يُطاقُ إلَّا بمعونةِ اللهِ غيرُ جائزٍ، إلَّا بعدَ إعطاءِ الله المكلَّفَ المعونةَ على ما كلَّفه، وذلك أن اللهَ جلَّ وعزَّ أمَر مَن وصَفْنا بعبادتِه والتوبةِ مِن كفرِه، بعدَ إخبارِه عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضلالتهم لا يَرْجِعون.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} .
وتأويلُ ذلك: لعلَّكم تَتَّقون بعبادتِكم ربكم الذي خلَقكم، وطاعتِكم إيَّاه فيما أمَركم به ونهاكم عنه، وإفرادِكم له بالعبادةِ
(3)
- سخطَه وغضبَه أن يَحُلَّ عليكم
(4)
، وتكونوا مِن المتقين الذين رَضِي عنهم ربُّهم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويلِ قولِه: {تَتَّقُونَ} : تُطيعون.
حدَّثنا ابنُ وكيع، قال: حدَّثني أبي، عن سفيانَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال: لعلكم تُطيعون
(5)
.
والذي أظنٌّ أن مجاهدًا أراد بقولِه هذا: لعلكم أن تتَّقوا رَبَّكم بطاعتِكم إيَّاه،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 60 (217) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(2)
سقط من: ص.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"العبادة لتتقوا"، وفي م:"بالعبادة لتتقوا".
(4)
في ر: "بكم".
(5)
تفسير الثوري ص 42، ومن طرف أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 60 (220)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 34 إلى وكيع وعبد بن حميد وأبي الشيخ.
وإقلاعِكم عن ضلالتِكم.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قال جلَّ ثناؤُه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أوَ لم يكُن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عَبدوه وأطاعوه، حتى قال لهم: لعلكم إذا فعَلتم ذلك أن تَتَّقوا. فأخْرَج الخبرَ عن عاقبةِ عبادتِهم إيَّاه مُخْرَجَ الشكِّ؟
قيل: ذلك على غيرِ المعنى الذي توهَّمتَ، وإنما معنى ذلك: اعبُدوا ربَّكم الذي خلَقكم والذين مِن قبلِكم لتَتَّقوه بطاعتِه وتوحيدِه وإفرادِه بالرُّبوبيةِ والعبادةِ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
وقُلْتُمْ لنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنا
…
نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنا كُلَّ مَوْثِقِ
فلَمَّا كَفَفْنا الحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُمْ
…
كَلَمْحِ سَرَابٍ في المَلَا
(2)
مُتَألِّقِ
يريدُ بذلك: قلتم لنا كفُّوا لنكفَّ. وذلك أن "لعل" في هذا الموضعِ لو كان شكًّا لم يكونوا وثَّقوا لهم كلَّ مَوْثِقٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} .
وقولُه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} مردودٌ على {الَّذِي} الأَوَّلِ في قولِه: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وهما جميعًا مِن نعتِ {رَبَّكُمُ} . فكأنَّه قال: اعبُدوا ربَّكم الخالِقَكم، والخالقَ الذين مِن قبلِكم، الجاعلَ لكم الأرضَ فِراشًا. يعني بذلك أنه جعَل لكم
(3)
الأرضَ مِهادًا تُوطَأُ، وقرارًا يُستقرُّ عليها. يُذكِّرُ ربُّنا جلَّ ذكرُه بذلك مِن قيلِه، عبادَه
(4)
نعمَه عندَهم وآلاءَه لديهم؛
(1)
البيتان في أمالي ابن الشجري 1/ 51 غير منسوبين.
(2)
في ص، م:"الفلا". والفلا والملا: المتسع من الأرض، أو الصحراء الواسعة. اللسان (ف ل و، م ل و).
(3)
في ص: "لهم".
(4)
في م: "زيادة".
لِيذكُروا أياديَه عندَهم، فيُنيبوا إلى طاعتِه، تَعطُّفًا منه بذلك عليهم، ورأفةً منه بهم، ورحمةً لهم، مِن غير ما حاجةٍ منه إلى عبادتِهم، ولكن ليُتِمَّ نعمتَه عليهم ولعلَّهم يَهتدُون.
كما حدَّثني مُوسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح، عن ابنِ عباسٍ، وعن [مُرَّةَ، عن]
(1)
ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} : فهي فِراشٌ يُمشَى عليها، وهي المهادُ والقَرارُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} قال: مهادًا لكم
(3)
.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ قال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} أي: مِهادًا
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} .
قال أبو جعفرٍ: وإنما سُمِّيت السماءُ سماءً؛ لعُلُوِّها على الأرضِ، وعلى سُكَّانِها مِن خلْقِه، وكلُّ شيْءٍ كان فوقَ شيْءٍ آخرَ، فهو لما تحتَه سماءٌ. ولذلك قيل لسقفِ
(1)
سقط من: م.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 34 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 61 (222) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 61 عقب الأثر (222) معلقا.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 61 عقب الأثر (222) من طريق ابن أبي جعفر به.
البيتِ: سماؤُه؛ لأنَّه فوقَه مرتفِعٌ عليه، وكذلك قيل: سما فلانٌ لفلانٍ: إذا أَشْرف له وقصَد نحوَه عاليًا عليه، كما قال الفرزدقُ
(1)
:
سَمَوْنا لِنَجْرَانَ اليَمانِي وأهْلِهِ
…
وَنجْرَانُ
(2)
أرْضٌ لَم تُدَيَّثْ
(3)
مَقاوِلُهْ
(4)
وكما قال نابغةُ بني ذُبْيانَ
(5)
:
[سَمَتْ لي نَظْرَةٌ]
(6)
فَرأيْتُ مِنْها
…
تُحَيْتَ الخِدْرِ
(7)
وَاضِعَةَ القِرَامِ
(8)
يريدُ بذلك: أَشْرفتْ لي نظرةٌ وبدَت. فكذلك السماءُ سُمِّيت للأرضِ سماءً؛ لعُلُوِّها وإشرافِها عليها.
كما حدَّثني مُوسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالك، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهمدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} : ابتنى
(9)
السماءَ على الأرضِ كهيئةِ القُبّةِ، وهي سَقْفٌ على الأرضِ
(10)
.
(1)
ديوانه ص 735.
(2)
نجران: من مخاليف اليمن من ناحية مكة. معجم البلدان 4/ 751.
(3)
تديث: توطأ. وطريق مديث أي مذلل. اللسان (د ى ث).
(4)
المقول: الملك من ملوك حمير، والجمع مقاول ومقاولة. اللسان (ق و ل).
(5)
ديوانه ص 159.
(6)
في الديوان: "صفحت بنظرة".
(7)
الخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت. تاج العروس (خ د ر).
(8)
القرام: الستر الرقيق. اللسان (ق ر م).
(9)
في م: "فبناء" وفي ص، ر، ت 1، ت 2:"فبنى"، وفي حاشية الأصل:"في الأم: فبنى".
(10)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 34 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 61 (224) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، غن قتادةَ في قولِه:{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} قال: جعَل السماءَ سقفًا لك
(1)
.
وإنما ذكَر السماءَ والأرضَ جلَّ ثناؤُه فيما عدَّد عليهم مِن نعَمِه التي أَنْعَمها عليهم؛ لأنَّ منهما أقواتَهم وأرزاقَهم ومعايشَهم، وبهما قِوامُ دنياهم. فأَعْلَمهم أن الذي خلَقهما وخلَق جميعَ ما فيهما وما هم فيه مِن النِّعمِ، هو المستحِقُّ عليهم الطاعةَ، والمستوجِبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دونَ الأصنامِ والأوثانِ التي لا تضُرُّ ولا تنفَعُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} .
يعني بذلك أنه جلَّ ثناؤُه أَنْزل مِن السماءِ مطرًا، فأَخْرج بذلك المطرِ ممّا أَنْبتوه
(2)
في الأرضِ مِن زروعِهم وغروسِهم ثمراتٍ رزقًا لهم؛ غِذاءً وأقواتًا. فنبَّههم بذلك جلَّ ثناؤُه على قدريه وسلطانِه، وذَكَّرهم به آلاءَه لديهم، وأنه هو الذي خلَقهم، وهو الذي يرزُقُهم ويكفُلُهم
(3)
، دونَ مَن جعَلوه له نِدًّا وعِدْلًا من الأوثانِ والآلهةِ. ثم زجَرهم عن أن يجعَلوا له نِدًّا مع علمِهم بأنَّ ذلك كما أَخْبَرهم، وأنُّه لا نِدَّ له ولا عِدْلَ، ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ، ولا خالقٌ ولا رازقٌ سواه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} .
قال أبو جعفرٍ: والأندادُ جمعُ نِدٍّ، والنِّدُّ العِدْلُ والمِثْلُ، كما قال حسانُ بنُ
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 61 عقب الأثر (224) معلقا.
(2)
في ر: "أثبتوه".
(3)
في ص، ت 2:"يكلفهم".
ثابتٍ
(1)
:
أَتَهْجُوه وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ
(2)
…
فَشَرٌّ كما لخَيْرِكُما الفِداءُ
يعني بقولِه: ولستَ له بنِدٍّ: لستَ له بمِثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكلُّ شيْءٍ كان نظيرًا لشيءٍ وله شبيهًا، فهو له نِدٌّ.
كما حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي: عِدْلًا
(3)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا أبو حُذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي: عِدْلًا
(4)
.
حَدَّثَني مُوسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرٌو، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَرَه عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعود، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} .
قال: أَكْفَاءً مِن الرجالِ تُطيعونهم في معصيةِ اللهِ
(5)
.
حَدَّثَنِي يونسُ بن عبدِ الأعلى، قال: أَخْبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في
(1)
ديوانه ص 76.
(2)
في الديوان: "بكفو".
(3)
في م: "عدلاء".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 35 إلى المصنّف.
(4)
في م: "عدلاء".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 35 إلى المصنّف ووكيع وعبد بن حميد. وأخرجه الثوري في تفسيره ص 42 عن مجاهد. وستأتي بقيته في ص 394.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 34، 35 إلى المصنّف عن ابن مسعود وحده.
قولِ اللهِ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} . قال: الأندادُ الآلهةُ التي جعَلوها معه، وجعَلوا لها مثلَ ما جعَلوا له.
وحُدِّثت عن المِنْجابِ، قال: حَدَّثَنَا بشرُ بنُ عُمارةِ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: أشْباهًا
(1)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سِنانٍ القزازُ، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن شَبيبٍ، عن عكرمةَ:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} : أن تقولوا: لولا كلبُنا لدخَل علينا اللصُّ الدارَ، ولولا كلبُنا
(2)
في الدارِ. ونحو هذا
(3)
.
فنهاهم اللهُ جلَّ ذكرُه أن يُشرِكوا به شيئًا، وأن يعبُدوا غيرَه، أو يتَّخِذوا له نِدًّا أو عِدْلًا في الطاعةِ، فقال: كما لا شريكَ لي في خلقِكم، وفي رزقِي
(4)
الذي أَرْزُقُكم، ومِلْكي إيَّاكم، ونِعْمتي التي أنعمتُها عليكم، فكذلك فأَفْردوا لي الطاعةَ، وأَخْلِصوا لي العبادةَ، ولا تجعَلوا لي شريكًا ونِدًّا مِن خَلْقي، فإنكم تعلمون أن كُلَّ نعمةٍ عليكم فمنِّي.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلف أهلُ التأويلِ في الذين عُنُوا بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُنِي بها جميعُ المشركين مِن مُشرِكي العربِ وأهلِ الكتابِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 62 (228) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.
(2)
بعده في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"صاح".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 62 (229) من طريق إلى عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس، مطولًا. وينظر مسند أحمد 3/ 339 (1839)، وتفسير ابن كثير 1/ 87.
(4)
في م، ت 2:"رزقكم".
وقال بعضُهم: عُنِي بذلك أهل الكتابَينْ التوراةِ والإنجيلِ.
ذكرُ مَن قال: عُنِي بها جميعُ عَبَدةِ الأوثانِ مِن العربِ وكفارِ أهلِ الكتابيْن
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: نزَل ذلك في الفريقَينْ جميعًا مِن الكفارِ والمنافِقين، وإنَّما عنَى بقولِه:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تُشرِكوا باللهِ غيرَه مِن الأندادِ التي لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، وأنتم تعلمون أنه لا ربَّ لكم يرزُقكم غيرُه، وقد علِمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسولُ مِن توحيدِه هو الحقُّ لا شكَّ فيه
(1)
.
حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلَمون أن اللهَ خلَقكم وخلَق السماواتِ والأرضَ، ثم تجعَلون له أندادًا
(2)
.
ذكرُ من قال: عُنِي بذلك أهلُ الكتابَيْن
حَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه إلهٌ واحدٌ في التوراةِ والإنجيلِ
(3)
.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 533. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 62 (231) من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 62 (233) من طريق يزيد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 62 (232) من طريق سفيان به.
وحدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا قَبِيصةُ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن مجاهدٍ مثلَه
(1)
.
وحدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . يقولُ: وأنتم تعلَمون أنه لا نِدَّ له في التوراةِ والإنجيلِ.
قال أبو جعفرٍ: وأحسَبُ أن الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويلِ، وإضافةِ ذلك إلى أنه خطابٌ لأهلِ التوراةِ والإنجيلِ دونَ غيرِهم، الظنُّ منه بالعربِ أنَّها لَمْ تكُنْ تعلَمُ أن اللهَ خالِقُها ورازِقُها بجحودِها وحدانيةَ رَبِّها، وإشراكِها معه في العبادةِ غيرَه، وإن ذلك لقولٌ، ولكنَّ اللهَ جلَّ ذكرُه قد أَخْبَر في كتابِه عنها أنَّها كانت تُقِرُّ بوحدانيتِه، غيرَ أنَّها كانت تُشرِكُ في عبادتِه ما كانت تُشركُ فيها، فقال تعالى ذِكرُه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزخرف: 87]. وقال تعالى ذِكرُه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} [يونس: 31].
قال أبو جعفرٍ: والذي هو أَوْلى بتأويلِ قولِه: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} - إذ كان ما كان عندَ العربِ مِن العلمِ بوحدانيةِ اللهِ جلَّ وعزَّ، وأنه مُبدِعُ الخلقِ وخالِقُهم ورازِقُهم، نظيرَ الذي كان مِن ذلك عندَ أهلِ الكتابَيْن، ولم يكنْ في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ عَنى بقولِه:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أحدَ الحزبَيْن، بل مَخرَجُ الخِطابِ بذلك عامٌّ للناسِ كافَّةً
(2)
؛ لأنه تحدَّى الناسَ كلَّهم بقولِه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ
(1)
تفسير الثوري ص 42. وهذا الأثر تتمة الأثر المتقدم في ص 391.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2:"لهم".
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} - أن يكونَ تأويلُه ما قاله ابنُ عباسٍ وقتادةُ، مِن أنَّه معنيٌّ بذلك كلُّ مُكلَّفٍ عالمٍ بوحدانيةِ اللهِ وأنه لا شريكَ له في خلقِه، يشركُ
(1)
معه في عبادتِه
(2)
، كائنًا مَن كان مِن الناسِ، عَربيًّا كان أو أعجميًّا، كاتبًا
(3)
أو أميًّا، وإن كان الخِطابُ لكفارِ أهلِ الكتابِ الذين كانوا حَوالَىْ دارِ هجرةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأهلِ النِّفاقِ منهم، وممن بينَ ظهرانَيْهم ممن كان مشركًا فانْتَقل إلى النِّفاقِ بِمَقْدَمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليهم.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} .
قال أبو جعفرٍ: وهذا مِن اللهِ جل ثناؤُه احتجاجٌ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم على مُشرِكي قومِه مِن العربِ ومُنافقيهم، وكفارِ أهلِ الكتابِ وضُلَّالِهم الذين افْتَتَح بقصصِهم قولَه جلَّ ثناؤُه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وإيَّاهم يُخاطِبُ بهذه الآياتِ، [وضُرباءَهم يعني بها]
(4)
، قال اللهُ جلَّ ثناؤُه لهم:{وَإِنْ كُنْتُمْ} أيها المشركون مِن العربِ والكفارِ مِن أهلِ الكتابَيْن، إنْ كنتم في شكٍّ، وهو الرَّيبُ، {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن النورِ والبرهانِ وآياتِ الفرقانِ، أنه مِن عندِي، وأَنِّي الذي أنْزلتُه إليه، فلم تؤمنوا به، ولم تصدِّقوه فيما يقولُ، فأْتوا بحُجةٍ تدفَعُ حُجتَه؛ لأنكم تعلَمون أن حجةَ كلِّ ذي نبوَّةٍ على صدقِه في دَعْواه النبوَّةَ أن يأتيَ ببرهانٍ يَعجِزُ عن أن يأتِيَ بمثلِه جميعُ الخلقِ. ومن حجةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(1)
في الأصل: "مشرك".
(2)
بعده في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"غيره".
(3)
في ص، ر، ت 2:"كتابيا".
(4)
في م: "وأخبر بأهم نعوتها".
على صِدْقِه، وبرهانِه على حقيقةِ نبوَّتِه، وأن ما جاء به مِن عندي، عجزُ جميعِكم وجميعِ مَن تستعينون به مِن أعوانِكم وأنصارِكم عن أن تأتوا بسورةٍ مِن مثلِه، وإذا عجَزتم عن ذلك وأنتم أهلُ البراعةِ في الفصاحةِ والبلاغةِ والذَّرابةِ
(1)
، فقد علِمتم أن غيرَكم عما عجَزتم عنه مِن ذلك أعجَزُ، كما كان برهانُ مَن سلَف مِن رُسُلي وأنبيائي على صدْقِه، وحُجتُه على نبوَّتِه مِن الآياتِ ما يعجِزُ عن الإتيانِ بمثلِه جميعُ خلقي. فتقرَّر حينئدٍ عندَكم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يتقوَّلْه ولم يختلِقْه، لأنَّ ذلك لو كان منه اختلاقًا وتقوُّلًا لَمْ تعجِزوا وجميعُ خَلْقِي
(2)
عن الإتيانِ بمثلِه؛ لأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْدُ أن يكونَ بشرًا مثلَكم، وفي مثلِ حالِكم في الجسمِ وبَسْطةِ الخَلقِ وذَرابةِ اللسانِ، فيُمكِن أن يُظنَّ به اقتدارٌ على ما عجَزتم عنه، أو يُتوهَّمَ منكم
(3)
عجزٌ عما اقْتَدر عليه.
ثم اخْتلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ
(4)
قولِه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ؛ فحَدَّثَنَا بشرٌ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني بذلك: مِن مثلِ هذا القرآنِ حقًّا وصدقًا، لا باطلَ فيه ولا كَذِبَ
(5)
.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أَخْبرنا مَعْمرٌ، عن
(1)
في م: "الدرابة".
والذرابة: حِدَّةُ نحوِ السيف والسنان، وتستعار لطلاقة اللسان مع عدم اللكنة. التاج (ذ ر ب).
(2)
في م: "خلقه".
(3)
في ص: "فيكم".
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 63 (238) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 35 إلى عبد بن حميد.
قتادةَ في قولِه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} . يقولُ: بسورةٍ من
(1)
مثلِ هذا القرآنِ
(2)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عميرو الباهليُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، قال: حَدَّثَنَا عيسى ابنُ ميمونٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} : مثلِ القرآنِ
(3)
.
حَدَّثَنَا المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا أبو حُذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ بن داودَ، قال: حَدَّثَنَا حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} قال: {مِثْلِهِ} مثل القرآنِ.
فمعنى قولِ مجاهدٍ وقتادةَ الذي ذكَرناه عنهما أن اللهَ جلَّ ذِكْرُه قال لمن حاجَّه لنبيِّه
(4)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن الكفارِ: فأتوا بسورةٍ مِن مثلِ هذا القرآنِ، مِن كلامِكم أيَّتُها العربُ، كما أتَى به محمدٌ بلغاتِكم ومعاني منطقِكَم.
وقد قال قومٌ آخرون: إن معنى قولِه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} : مِن مثلِ محمدٍ مِن البشرِ؛ لأنَّ محمدًا بشرٌ مثلُكم.
والتأويلُ الأَوَّلُ الذي قاله مجاهدٌ وقتادةُ هو التأويلُ الصحيحُ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه قال في سورةٍ أُخرى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}
(1)
زيادة من: الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 35 إلى عبد الرزاق.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 63 (237) من طريق ابن أبي نجيح به.
(4)
في م: "في نبيه".
[يونس: 38]. ومعلومٌ أن السورةَ ليست لمحمدٍ بنظيرٍ ولا شبيهٍ فيجوزَ أن يقالَ: فأْتوا بسورةٍ مثلِ محمدٍ.
فإن قال لنا قائلٌ: إنك ذكَرت أن اللهَ عَنى بقولِه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} : مِن مثلِ هذا القرآنِ، فهل للقرآنِ مِن مثلٍ فيقالَ: ائتوا بسورةٍ مِن مثلِه؟
قيل: إنه لم يَعنِ به: ائتوا بسورةٍ مِن مثلِه في التأليفِ والمعاني التي بايَن بها سائرَ الكلامِ غيرَه. وإنما عَنَى: ائتوا بسورةٍ مِن مثلِه في البيانِ، لأن القرآنَ أَنْزله اللهُ بلسانٍ عربيٍّ، وكلامُ العربِ - لا شكَّ - له مثلٌ في معنى العربيةِ، فأما في المعنى الذي بايَن به القرآنُ سائرَ كلامِ المخلوقين، فلا مثلَ له مِن ذلك الوجهِ ولا نظيرَ ولا شبيهَ.
وإنما احْتَجَّ جلَّ ثناؤُه عليهم لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بما احْتَجَّ به
(1)
له عليهم مِن القرآنِ، إذ ظهَر عجزُ القومِ عن أن يأتوا بسورةٍ مِن مثلِه في البيانِ، إذ كان القرآنُ بيانًا مثلَ بيانِهم، وكلامًا نزَل بلسانِهم، فقال لهم جلَّ ثناؤُه: وإن كنتم في ريبٍ مِن أن ما أَنْزلتُ على عبدِي مِن القرآنِ مِن عندِي، فأْتوا بسورةٍ مِن كلامِكم الذي هو مثلُه في العربيةِ، إذ كنتم عربًا، وهو بيانٌ نظيرُ بيانِكم، وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يُكلِّفْهم جلَّ ثناؤُه أن يأتوا بسورةٍ مِن غيرِ اللسانِ الذي هو نظيرُ اللسانِ الذي نزَل به القرآنُ، فيقدِروا أن يقولوا: كلَّفْتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به، وإنا لا نقدِرُ على الإتيانِ به؛ لأنا لسنا مِن أهلِ اللسانِ الذي كلَّفتَنا الإتيانَ به، فليس لك علينا بهذا حجةٌ؛ لأنا وإن عجزنا عن أن نأتِيَ بمثلِه مِن غيرِ ألسُنِنا - لأنا لسنا مِن أهلِه - ففي الناسِ خلقٌ كثيرٌ مِن غيرِ أهلِ لسانِنا يقدِرُ على أن يأتِيَ بمثلِه مِن اللسانِ الذي كلَّفتنا الإتيانَ به. ولكنه جلَّ ثناؤُه قال لهم: ائتوا بسورةٍ مِن مثلِه؛ لأن مثلَه مِن الألسُنِ ألسنُكم،
(1)
سقط من: م.
وأنتم - إن كان محمدٌ اخْتَلقه وافْتَراه - إذا اجتَمَعتم وتظاهَرتم على الإتيانِ بمثلِ سورةٍ منه مِن لسانِكم وبيانِكم، أقدرُ على اختلاقِه ورصفِه
(1)
وتأليفِه مِن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجِزوا وأنتم جميعٌ عما قدَر عليه محمدٌ مِن ذلك وهو وحيدٌ
(2)
، إن كنتم صادقين في دَعْواكم وزعمِكم أن محمدًا افْتَراه واخْتَلَقه وأنه مِن عندِ غيري.
[القولُ في تأويلِ قولِه جَلَّ وعَزَّ: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
(3)
.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ؛ فقال ابنُ عباسٍ ما حدَّثنا به محمدُ بن حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمَةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني: أعوانَكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي
(5)
نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} : ناسٌ يَشْهَدون لكم
(6)
.
(1)
في م: "وضعه".
(2)
في م: "وحده".
(3)
زيادة من: الأصل.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 533، 534، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 63، 64 (240) من طريق سلمة به.
(5)
سقط من: م.
(6)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر في تفسير مجاهد ص 198، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 64 (242).
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، عن شبلٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، قال: قومٌ يَشهَدون لكم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} قال: ناسٌ يَشْهَدون. قال ابنُ جُريجٍ: {شُهَدَاءَكُمْ} عليها إذا أتيتم بها أنها مثلُه؛ مثلُ القرآنِ. وذلك قولُ اللهِ لمن شكَّ مِن الكفارِ فيما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقولُه: {وَادْعُوا} يعني: اسْتَنصروا واستَعينُوا، كما قال الشاعرُ
(2)
: فَلَمَّا الْتَقَمتْ فُرْسانُنا ورَجِالُهُم
…
دَعَوْا يا لَكَعْبٍ
(3)
واعْتَزَيْنا
(4)
لِعامِرِ يعني بقولِه: دَعَوا يا لَكَعْبٍ: اسْتَنصروا كعبًا واستغاثوا
(5)
بهم.
وأما الشهداءُ، فإنها جمعُ شهيدٍ، كما الشركاءُ جمعُ شريكٍ، والخطباءُ جمعُ خطيبٍ. والشهيدُ يُسمَّى به الشاهدُ على الشيْءِ لغيرِه بما يُحقِّقُ دَعْواه، وقد يُسمَّى به المُشاهِدُ للشيْءِ، كما يقالُ: فلانٌ جليسُ فلانٍ، يَعْنِي به مُجالِسَه، ونديمُه، يَعْنِي به مُنادِمَه، وكذلك يقالُ: شهيدُه. يَعْني به مُشاهِدَه.
(1)
ينظر تفسير ابن أبي حاتم 1/ 63 (236).
(2)
البيت المراعي النميري، وهو في ديوانه ص 145.
(3)
في الديوان: "لكلب".
(4)
اعتزى: انتسب، صدقًا كان أو كذبًا. اللسان (ع ز و).
(5)
في ر، م:"استعانوا".
فإذا كانت الشهداءُ مُحْتَمِلةً أن تكونَ جمعَ الشهيدِ الذي هو منصرِفٌ للمعنَيَيْن اللذين وصفتُ، فأَوْلى وجهيه بتأويلِ الآيةِ ما قاله ابنُ عباسٍ، وهو أن يكونَ معناه: واستنصِروا على أن تأتوا بسورةٍ مِن مثلِه أعوانَكم وشهداءَكم الذين يُشاهدونكم ويُعاونونكم على تكذيبِكم اللهَ ورسولَه، ويُظاهرونكم على كفرِكم ونفاقِكم، إن كنتم محقِّين في جحودِكم أن ما جاءكم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم اختلاقٌ وافتراءٌ؛ لتمتحنوا أنفسَكم وغيرَكم: هل تقدِرون على أن تأتوا بسورةٍ مِن مثلِه، فيقدِرَ محمدٌ على أن يأتِيَ بجميعِه من قِبَلِ نفسِه اختلاقًا؟
وأما ما قاله مجاهدٌ وابنُ جُريجٍ في تأويلِ ذلك، فلا وجهَ له؛ لأن القومَ كانوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثةً؛ أهلَ إيمانٍ صحيحٍ، وأهلَ كفرٍ صحيحٍ، وأهلَ نفاقٍ بينَ ذلك. فأهلُ الإيمانِ كانوا باللهِ وبرسولِه مؤمنين، فكان مِن المُحالِ أن يَدَّعيَ الكفارُ أن لهم شهداءَ - على حقيقةِ ما كانوا يأتُون به، لو أتَوا باختلاقٍ مِن الرسالةِ، ثم ادَّعَوا أنه للقرآنِ نظيرٌ - مِن المؤمنين. فأما
(1)
أهلُ النفاقِ والكفرِ، فلا شكَّ أنهم لو دُعُوا إلى تحقيقِ الباطلِ وإبطالِ الحقِّ لسارعوا إليه مع كفرِهم وضلالتِهم، فمن أيِّ الفِرَقِ
(2)
كانت تكونُ شهداؤُهم لو ادَّعَوا أنهم قد أتَوا بسورةٍ مِن مثلِ القرآنِ؟
ولكن ذلك كما قال اللهُ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
فأَخْبر جلَّ ثناؤُه في هذه الآيةِ أن مثلَ القرآنِ لا يأتي به الجنُّ والإِنسُ ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيانِ به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخِ لهم في سورةِ "البقرة"، فقال:
(1)
بعده في الأصل، ر، ت 1، ت 3:"من".
(2)
في م: "الفريقين".
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . يعني بذلك: إن كنتُم في شَكٍّ في صِدْقِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيما جاءكم به مِن عندي أنه مِن عندي، فَأْتُوا بسورةٍ من مثلِه، ولْيستَنْصِرْ بعضُكم بعضًا على ذلك، إن كنتم صادقين في زعمِكم، حتى تعلَموا أنكم إذ عجَزتم عن ذلك، أنه لا يقدِرُ على أن يأتيَ به محمدٌ صلى الله عليه وسلم ولا مِن البشرِ أحدٌ، ويصحَّ عندَكم أنه تنزيلي ووَحْيي إلى عبدي.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} .
ويعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} : إن لم تأتوا بسورةٍ مِن مثلِه، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤُكم. عليه وأعوانُكم، فتبيَّن لكم بامتحانِكم واختبارِكم عَجْزُكم وعجزُ جميعِ خلقي عنه، وعلِمتم أنه مِن عندي، ثم أقَمْتم على التكذيبِ به.
وقولُه: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي: ولن تأتوا بسورةٍ مِن مثلِه أبدًا.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي: لا تقدِرون على ذلك ولا تُطيقونه
(1)
.
وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} : [قد تبيَّنَ]
(2)
لكم الحقُّ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 64 (243) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة به بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 35 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ص، ر، م:"فقد بين"، وضبطه في ر:"بُين" بضم الباء.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 534، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 35 إلى ابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ وعزَّ: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {فَاتَّقُوا النَّارَ} : فاتَّقُوا أن تَصْلَوا النارَ بتكذيبِكم رَسُولي، بما جاءَكم به مِن عندي أنه مِن وَحْيي وتنزيلي، بعدَ تبيُّنِكم أنه كتابي ومن عندي، وقيامِ الحجةِ عليكم بأنه كلامي ووَحْيي، بعَجْزِكم وعَجْزِ جميعِ خَلْقي عن أن يأتُوا بمثلِه.
ثم وصَف جلَّ ذكرُه النارَ التي حذَّرهم صِلِيَّها، فأَخْبَرهم أن الناسَ وَقودُها، وأَن الحجارةَ وَقودُها، فقال:{الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} يعني بقولِه: {وَقُودُهَا} : حَطَبُها، والعربُ تجعَلُه مصدرًا، وهو اسمٌ إذا فتَحْتَ الواوَ بمنزلةِ الحطبِ، فإذا ضمَمْتَ الواوَ مِن "الوقودِ" كان مصدرًا مِن قولِ القائلِ: وقَدَت النارُ، فهي تقِدُ وُقودًا وقِدَةً ووَقَدانًا ووَقْدا، يُرادُ بذلك أنها التهبَتْ.
قال أبو جعفرٍ: فإن قال قائلٌ: وكيف خُصَّت الحجارةُ فقُرِنت بالناسِ، حتى جُعلَت لنارِ جَهنَّمَ حطبًا؟ قيل: إنها حجارةُ الكِبْرِيتِ، وهي أشدُّ الحجارةِ فيما بلغَنا حرًّا إِذا أُحْمِيت.
كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا أبو معاويةَ، عن مِسعرٍ، عن عبدِ الملكِ بنِ ميسرةَ الزرَّادِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ، عن عبدِ اللهِ في قولِه:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال: هي حجارةٌ مِن كِبريتٍ خلَقها اللهُ يومَ خلَق السماواتِ والأرضَ في السماءِ الدنيا يُعدُّها للكافرين
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 64 (244)، والطبراني في الكبير (9026)، والحاكم 2/ 261، 494، والبيهقي في البعث والنشور (503) من طريق مسعر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 36 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. وينظر تفسير الثوري ص 42.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: حدَّثنا ابنُ عُيينةَ، عن مِسعرٍ، عن عبدِ الملكِ الزرَّادِ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ، عن ابنِ مسعودٍ في قولِه:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال: حجارةُ الكِبْريتِ جعَلها اللهُ كما شاء
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} : أما الحجارةُ فهي حجارةٌ في النارِ مِن كِبْريتٍ أسودَ يُعذَّبون به مع النارِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ في قولِه:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال: حجارةٌ مِن كِبْريتٍ أسودَ في النارِ. قال: وقال لي عمرُو بنُ دينارٍ: حجارةٌ أصلَبُ مِن هذه وأعظمُ
(3)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن مسعرٍ، عن عبدِ الملكِ بنِ ميسرةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، قال: حجارةُ
(4)
الكبريتِ. قال
(5)
: خلَقها اللهُ عندَه كيف شاء وكما شاء
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 36 إلى عبد الرزاق.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 89 عن السدي به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 64 (245) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 89 عن ابن جريج به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 65 (247) من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار به.
(4)
بعده في م: "من".
(5)
سقط كما: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 64 (244)، والطبراني (9026)، والحاكم 2/ 261 من طرق عن مسعر به.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {أُعِدَّت لِلْكَفِرِينَ (24)} .
قد دلَّلنا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا على أنَّ الكافرَ في كلامِ العربِ هو الساترُ شيئًا بغطاءٍ، وأَن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما سَمَّى الكافرَ كافرًا لجحودِه آلاءَه عندَه، وتغطيتِه نَعْماءَه قِبَله
(1)
.
فمعنى قولِه إذن: {أُعِدَّت لِلْكَفِرِينَ} : أُعِدَّت النارُ للجاحدين أن اللهَ ربُّهم، المتوحِّدُ بخلقِهم وخلْقِ الذين مِن قبلِهم، الذي جعَل لهم الأرضَ فِراشًا، والسماءَ بناءً، وأَنْزَل مِن السماءِ ماءً، فأَخْرج به مِن الثمراتِ رزقًا لهم، المشركين معه في عبادتِه الأندادَ والآلهةَ، وهو المتفرِّدُ لهم بالإنشاءِ، والمتوحِّدُ بالأقواتِ والأرزاقِ.
كما حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسِ:{أُعِدَّت لِلْكَفِرِينَ} أي: لمن كان على مثلِ ما أنتم عليه مِن الكفرِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
قال أبو جعفرٍ: أما قولُه: {وَبَشِّرِ} . فإنه يعني: أَخْبِرْهم. والبشارةُ أصلُها الخبرُ بما
(3)
يُسَرُّ به المخبَرُ، إذا كان سابقًا به كلَّ مخبَرٍ سواه.
(1)
ينظر ما تقدم في ص 262.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 534، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 65 (248) من طريق سلمة به.
(3)
بعده في الأصل: "بشر".
وهذا أمرٌ مِن اللهِ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغِ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به مِن عندِ ربِّه، وصدَّقوا إيمانَهم ذلك وإقرارَهم بأعمالِهم الصالحةِ، فقال له: يا محمدُ، بشِّرْ مَن صدَّقك أنك رسولي، وأَنَّ ما جئتَ به مِن الهدى والنورِ فمن عندي، وحقَّق تصديقَه ذلك قولًا بأداءِ الصالحِ مِن الأعمالِ التي افترضْتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانِك عليه - أن له جناتٍ تَجرى مِن تحتِها الأنهارُ، خاصَّةً، دونَ مَن كذَّب بك
(1)
، وأنكَر ما جئتَه به مِن الهُدَى مِن عندي، وعانَدك، ودونَ مَن أَظْهَر تصديقَك وأقرَّ بأن ما جئتَه به فمِن عندي، قولًا، وجحَده اعتقادًا ولم يحقِّقْه عملًا، فإن لأولئك النارَ التي وَقودُها الناسُ والحجارةُ مُعَدّةً عندي.
والجناتُ جِماعُ جَنَّةٍ، والجنةُ البُستان.
وإنما عَنَى جلَّ ذكرُه بذكرِ الجَنَّةِ ما في الجَنَّةِ مِن أشجارِها وثمارِها وغروسِها دونَ أرضِها، فلذلك قال:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ؛ لأنه معلومٌ أنه إنما أراد جلَّ ثناؤُه الخبرَ عن ماءِ أنهارِها أنه جارٍ تحتَ أشجارِها وغروسِها وثمارِها، لا أنه جارٍ تحتَ أرضِها؛ لأنَّ الماءَ إذا كان جاريًا تحتَ الأرضِ، فلا حظَّ فيها لعيونِ مَن فوقَها إلَّا بكشفِ الساترِ بينَه وبينَها. على أنَّ الذي تُوصَفُ به أنهارُ الجَنَّةِ أنَّها جاريةٌ في غيرِ أخاديدَ.
كما حَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا الأشجعيُّ، عن سفيانَ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن أبي عُبيدةَ، عن مسروقٍ، قال: نخلُ الجَنَّةِ نَضيدٌ مِن أصلِها إلى فرعِها، وثمرُها أمثالُ القِلالِ، كلَّما نُزِعتْ ثمرةٌ عادت مكانَها أُخرَى، وماؤُها يَجري في غيرِ أخدودٍ
(2)
.
(1)
في الأصل: "به".
(2)
أخرجه البيهقي في البعث والنشور (320) من طريق الثوري به. وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجَنَّة =
حَدَّثَنَا مجاهدُ بنُ موسى، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا مِسعرُ بنُ كِدامٍ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن أبي عُبيدةَ بنحوِه
(1)
.
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ مهديٍّ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، قال: سمعتُ عمرَو بنَ مُرَّةَ يحدِّثُ عن أبي عُبيدةَ. فذكَر مثلَه. قال: فقلت لأبى عُبيدةَ: من حدَّثك؟ فغضِب وقال: مسروقٌ
(2)
.
فإذا كان الأمرُ كذلك في أن أنهارَها جاريةٌ في غيرِ أخاديدَ، فلا شكَّ أن الذي أُريدَ بالجناتِ أشجارُ الجناتِ وغروسُها وثمارُها دونَ أرضِها، إذ كانت أنهارُها تَجري فوقَ أرضِها وتحتَ غُروسِها وأشجارِها، على ما ذكَره مسروقٌ، وذلك أَوْلى بصفةِ الجَنَّةِ من أن تكونَ أنهارُها جاريةً تحتَ أرضِها.
وإنما رغَّب اللهُ بهذه الآيةِ عبادَه في الإيمانِ، وحضَّهم على عبادتِه بما أَخْبَرهم أنه أَعدَّه لأهلِ طاعتِه والإيمانِ به عندَه، كما حذَّرهم في الآيةِ التي قبلَها بما أَخْبَر من إعدادِه ما أعدَّ لأهلِ الكفرِ به والجاعلين معه الآلهةَ والأندادَ من عقابِه عن إشراكِ غيرِه معه، والتعرُّضِ لعقوبتِه بركوبِ معصيتِه وتركِ طاعتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} .
يعني بقولِه جلَّ ذكرُه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا} : من الجناتِ. والهاءُ راجعةٌ
= (49) من طريق عمرو بن مرة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى هناد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 97 من طريق مسعر به.
(2)
أخرجه حسين المروزي وابن صاعد في زوائدهما على الزهد لابن المبارك (1489، 1490)، وأبو نعيم في صفة الجَنَّة (315) من طريق ابن مهدي به.
على الجناتِ، وإنما المَعنِيُّ أشجارُها. فكأنه قال: كُلَّما رُزقوا من أشجارِ البساتينِ التي أعدَّها اللهُ للذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ في جناتِه من ثمرةٍ من ثمارِها رزقًا، قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبلُ.
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: هذا الذي رُزقنا مِن قبلُ
(1)
في الدنيا.
ذكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} . قال: إنهم أُتوا بالثمرِ في الجَنَّةِ، [فلما نظَروا]
(2)
إليها قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبلُ في الدنيا
(3)
.
وحَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} : في الدنيا.
وحدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، قال: حَدَّثَنَا عيسى بنُ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} .
(1)
بعده في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"هذا".
(2)
في ص: "فنظروا".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 90 عن السدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى المصنّف عن ابن مسعود، وناسٍ من الصحابة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 66 (257) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
يقولون: ما أشبهَه به
(1)
.
[وحَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنَا حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه]
(2)
.
وحَدَّثَنِي يونسُ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدِ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} : في الدنيا. قال
(3)
: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : يعرِفونه
(4)
.
وقال آخرون: تأويلُ ذلك: هذا الذي رُزِقنا من [قَبلُ مِن]
(5)
ثمارِ الجَنَّةِ مِن قبلِ هذا؛ لشدةِ مشابهةِ بعضِ ذلك بعضًا في اللونِ والطعمِ. ومن علةِ قائلي هذا القولِ أن ثمارَ الجَنَّةِ كلَّما نُزِع منها شيْءٌ عاد مكانَه آخرُ مثلُه.
كما حَدَّثَنَا ابنُ بشارٍ، قال: حَدَّثَنِي ابنُ مهديٍّ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، قال: سمِعتُ عمرَو بنَ مُرَّةَ يحدِّثُ عن أبي عُبيدةَ
(6)
، قال: نخلُ الجَنَّةِ نَضيدٌ من أصلِها إلى فرِعها، وثمرُها أمثالُ القِلالِ، كلما نُزِعتْ منها ثمرةٌ عادتْ مكانَها أُخرَى
(7)
.
قالوا: فإنما اشْتَبهت عندَ أهلِ الجَنَّةِ لأنَّ التي عادت نطيرةُ التي نُزِعتْ فأُكِلَت،
(1)
تفسير مجاهد ص 198، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 66 (258) بزيادة: يقول: من كل صنف مثل. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: ر.
(3)
في ص: "قالوا".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 90 عن ابن زيد.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(6)
بعده في ر: "وذكر ثمار الجَنَّة".
(7)
تقدم تخريجه في ص 406.
في كلِّ معانيها. قالوا: ولذلك قال اللهُ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} ؛ لاشتباهِ جميعِه في كلِّ معانيه.
وقال بعضُهم: بل قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ؛ لمشابهتِه الذي قبلَه في اللونِ وإن خالفه في الطعمِ.
ذكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنَا القاسمُ بنُ الحسيِن، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حَدَّثَنَا شيخٌ من المَصِّيصَةِ
(1)
، عن الأوزاعيِّ، عن يحيى بنِ أبي كَثيرٍ، قال: يُؤْتَى أحدُهم بالصَّحْفةِ فيأكُلُ منها، ثم يُؤْتَى بأُخْرَى فيقولُ: هذا الذي أُتِينا به مِن قبلُ. فيقولُ الملَكُ: كُلْ، فاللونُ واحدٌ والطعمُ مُختَلِفٌ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا التأويلُ مذهبٌ مِن تأويلِ
(3)
الآيةِ، غيرَ أنه يدفَعُ صحَّتَه ظاهرُ التلاوةِ. والذي يدلُّ على صحتِه ظَاهرُ الآيةِ ويُحقِّقُ صحَّتَه
(4)
قولُ القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رُزِقنا مِن قبلُ في الدنيا. وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه قال: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} . فأَخْبَر جلَّ ثناؤُه أن مِن قِيلِ أهلِ الجنَّةِ كُلَّما رُزِقوا مِن ثمرِ الجَنَّةِ رزقًا أن يقولوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} . ولم يَخْصُصْ بأن ذلك من قيلِهم في بعضِ ذلك دونَ بعضٍ، فإذ كان قد أَخْبَر جلَّ ذكرُه عنهم أن
(1)
المصيصة: مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس. معجم البلدان 4/ 557.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 (261) من طريق عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير به بنحوه.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2:"تأول".
(4)
في الأصل: "صحة".
ذلك من قيلِهم في كلِّ ما رُزقوا من ثمرِها، فلا شكَّ أن ذلك من قيلِهم في أولِ رزقٍ رُزقوه من ثمارِها، وأُتوا به بعدَ دخولِهم الجنةَ واستقرارِهم فيها، الذي لَمْ يتقدَّمْه عندَهم من ثمارِها ثمرةُ.
فإذ كان لا شكَّ أن ذلك من قيلِهم في أولِه، كما هو من قيلِهم في أوسَطِه وما يتلوه، فمعلْومٌ أنه مُحالٌ أن يكونَ من قيلِهم لأولِ رزقٍ رُزقوه من ثمارِ الجَنَّةِ: هذا الذي رُزِقنا من قبلِ هذا من ثمارِ الجَنَّةِ. وكيف يجوزُ أن يقولوا لأولِ رزقٍ رُزقوه من ثمارِها ولمَّا يتقدَّمْه عندَهم غيرُه منها: هذا الذي رُزقناه من قبلُ؟ إلَّا أن ينسِبَهم ذو عَتَهٍ
(1)
وضلالٍ إلى قيلِ الكذبِ الذي قد طهَّرهم اللهُ منه، أو يدفَعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك مِن قيلِهم لأولِ رزقٍ يُرزقونه منها من ثمارِها، فيَدفَعَ صحةَ ما أَوْجَب اللهُ صحّتَه بقولِه:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} من غيرِ نَصْبِ دَلالةٍ على أنه مَعنيُّ به حالٌ من أحوالِهم دونَ حالٍ. فقد تبيَّن بما بيَّنا أن معنى الآيةِ: كلما رُزِقَ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ مِن ثمرةٍ من ثمارِ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ رزقًا، قالوا: هذا الذي رُزِقنا من قبلِ هذا في الدنيا.
فإن سأَلنا سائلٌ فقال
(2)
: وكيف قال القومُ؛ هذا الذي رُزِقنا من قبلُ. والذي رُزِقوه من قبلُ قد عُدِم بأكلِهم إيَّاه؟ وكيف يجوزُ أن يقولَ أهلُ الجَنَّةِ قولًا لا حقيقةَ له؟
قيل: إن الأمرَ على غيرِ ما ذهبتَ إليه في ذلك، وإنما معناه: هذا مِن النوعِ الذي رُزِقناه من قبلِ هذا من الثمارِ والرزقِ، كالرجلِ يقولُ لآخرَ: قد أعدَّ لك فلانٌ
(1)
في م: "غرة".
(2)
سقط من: الأصل.
مِن الطعامِ كذا وكذا مِن ألوانِ الطبيخِ والشِّواءِ والحلوى. فيقولُ المَقولُ له ذلك: هذا طعامي في منزلي. يعني بذلك أن النوعَ الذي ذكَر له صاحبُه أنه أعدَّه له من الطعامِ هو طعامُه، [لا أن]
(1)
أعيانَ ما أَخْبَره صاحبُه أنه قد أعدَّه له هو طعامُه، بل ذلك مما لا يجوزُ لسامعٍ سمِعه يقولُ ذلك أن يتوهَّمَ أنه أراده أو قصَده؛ لأن ذلك خلافُ مَخرجِ كلامِ المتكلمِ، وإنما يُوجَّهُ كلامُ كلِّ متكلمٍ إلى المعروفِ في الناسِ من مخارجِه دونَ المجهولِ من معانيه، فكذلك ذلك في قولِه:{قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبلُ قد فنِي وعُدِم، فمعلومٌ أنهم عَنَوا بذلك: هذا من النوعِ الذي رُزقنا من قبلُ، ومن جنسِه في التسمياتِ
(2)
والألوانِ. على ما قد بيَّنا من القولِ في ذلك في كتابِنا هذا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} .
والهاءُ في قولِه: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عائدةٌ على الرزقِ، فتأويلُه: وأُتُوا بالذي رُزقوا من ثمارِها متشابهًا.
وقد اخْتَلَفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ التشابهِ
(4)
في ذلك، فقال بعضُهم: تشابهُه أن كلَّه خِيارٌ لا رَذْلَ فيه.
(1)
في الأصل: "إلا أن"، وفي م:"لأن".
(2)
في ص: "السمات".
(3)
بعده في ر، م، ت 1، ت 2:"وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: (وأتوا به متشابهًا) أنه متشابه في الفضل: أي كل واحد منه له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه. قال أبو جعفر: وليس هذا قولًا نستجيز التشاغل بالدلالة على فساده لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسب قول بخروجه عن قول أهل العلم دلالة على خطئه"، وفي ت 1، ت 2:" أن كل" بدلٌ من: "أي كل" وسيأتي في مكانه الصحيح في ص 418.
(4)
في ص، م:"المتشابه".
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا خلادُ بنُ أسلمَ، قال: أَخْبَرنا النَّضْرُ بنُ شُميلٍ، قال: أَخْبَرنا أبو عامرٍ، عن الحسنِ في قولِه:{مُتَشَابِهًا} قال: خِيارًا كلَّها لا رَذْلَ فيها
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُليَّةَ، عن أبي رَجاءٍ: قرأ الحسنُ آياتٍ من "البقرة" فأتى على هذه الآيةِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قال: ألم تَرَوا إلى ثمارِ الدنيا كيف تُرذلون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْلٌ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أَخْبَرنا مَعْمرٌ، قال: قال الحسنُ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} . قال: يُشبهُ بعضُه بعضًا ليس فيه مَرْذولٌ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : أي خِيارٌ لا رَذْلَ فيه
(3)
، وإن ثمارَ الدنيا يُنْتَقَى منها ويُرذَلُ منها، وثمارُ الجَنَّةِ خِيارٌ كلُّه لا يُرذَلُ منه شيْءٌ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: ثمرُ الدنيا منه ما يُرذَلُ ومنه نقاوةٌ، وثمرُ الجَنَّةِ نقاوةٌ كلُّه، يُشبِهُ بعضُه بعضًا في الطِّيبِ، ليس فيه مرذولٌ
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ص: "من رذل".
(3)
في ص: "فيها".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 (263) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى عبد بن حميد.
(5)
ذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص 133 عن ابن جريج.
وقال بعضُهم: تشابهُه في اللونِ وهو مختلفُ الطعمِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : في اللونِ والمَرْآةِ، وليس يُشبِهُ الطعمَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : مثلَ الخِيارِ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفَةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : لونُه، مختلفًا طعمُه، مثلَ الخِيارِ من القِثَّاءِ
(3)
.
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ ابنِ أنسٍ:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : يُشبهُ بعضُه بعضًا ويختلفُ الطعمُ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{مُتَشَابِهًا} . قال: مشتبهًا في
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 91 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة.
(2)
تفسير مجاهد ص 198.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 عقب الأثر (262) من طريق ابن أبي جعفر به.
اللونِ ومختلفًا في الطعمِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : مثلَ الخيارِ.
وقال بعضُهم: تشابهُه في اللونِ والطعمِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مُتَشَابِهًا} . قال: اللونُ والطعمُ.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبدُ الرزَّاقِ، عن الثوريِّ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ ويحيى بنِ سعيدٍ:{مُتَشَابِهًا} . قالا: في اللونِ والطعمِ.
وقال بعضُهم: تشابهُه تشابهُ ثمرِ الجَنَّةِ وثمرِ الدنيا في اللونِ، وإن اختلفت طعومُهما.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أَخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} . قال: يُشبِهُ ثمرَ الدنيا، غيرَ أن ثمرَ الجَنَّةِ أطيبُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى عبد الرزاق، وينظر تفسير الثوري ص 42.
(2)
أخرجه ابن الأنباري في الأضداد ص 386 من طريق محمد بن ثور، عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} . قال: يُشبِهُ ثمرَ الدنيا، غيرَ أن ثمرَ الجَنَّةِ أطيبُ
(1)
.
وقال بعضُهم: لا يُشبِهُ شيْءٌ مما في الجَنَّةِ ما في الدنيا إلا الأسماءُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا الأشجعيُّ، وحدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: حدَّثنا مُؤمَّلٌ، قالا جميعًا: حدَّثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، [عن أبي ظَبْيانَ]
(2)
، عن ابنِ عباسٍ - قال أبو كُريبٍ في حديثِه عن الأشجعيِّ -: لا يُشبِهُ شيْءٌ مما في الجَنَّةِ ما في الدنيا إلا الأسماءُ. وقال ابنُ بشَّارٍ في حديثه عن مؤمَّلٍ، قال: ليس في الدنيا مما في الجَنَّةِ إلَّا الأسماءُ
(3)
.
حدَّثنا عباسُ بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا محمد بنُ عُبيدٍ، عن الأعمشِ، عن أبي ظَبْيانَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ليس، في الدنيا من الجَنَّةِ شيْءٌ إلا الأسماءُ.
وحدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال. أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ في قولِه: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} . قال: يعرِفون أسماءَه كما كانوا في الدنيا، التُّفَّاحُ بالتُّفَّاحِ، والرُّمَّانُ بالرُّمَّانِ، قالوا في الجَنَّةِ:{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} في الدنيا {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يعرِفونه، وليس هو مثلَه في الطعمِ
(4)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 91 عن عكرمة.
(2)
سقط من: الأصل، ر، ت 1، ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 66 (260)، والبيهقي في البعث والنشور (368) من طرق عن الأعمش به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 38 إلى هناد ومسدد وابن المنذر. وينظر الصحيحة (2188).
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 91 عن ابن زيد.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى هذه التأويلاتِ بتأويلِ الآيةِ تأويلُ مَن قال: وأتوا به متشابهًا في اللونِ والمنظرِ، والطعمُ مختلِفٌ. يعني بذلك اشتباهَ ثمرِ الجَنَّةِ وثمرِ الدنيا في المنظرِ واللونِ، مختلفًا في الطعمِ والذوقِ، لِماَ قَدَّمنا من العلَّةِ في تأويلِ قولِه:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} . وأن معناه: كلما رُزقوا مِن الجنِانِ مِن ثمرةٍ مِن ثمارِها رِزقًا قالوا: هذا الذي رُزِقنا مِن قبلِ هذا في الدنيا. فأَخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤُه عنهم أنهم قالوا ذلك مِن أجلِ أنهم أتُوا بما أتُوا به مِن ذلك في الجَنَّةِ مُتشابهًا، يعني بذلك تشابُه ما أُتُوا به منه في الجَنَّةِ والذي كانوا رُزِقوه في الدنيا، في اللونِ والمَرْآةِ والمنظرِ، وإن اختلفا في الطعمِ والذوقِ فتباينا، فلم يكنْ لشيْءٍ مما في الجَنَّةِ من ذلك في الدنيا نظيرٌ.
وقد دلَّلنا على فسادِ قولِ مَن زعَم أن معنى قولِه: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} . إنما هو من قولِ أهلِ الجَنَّةِ في تشبيهِهم بعضَ ثمرِ الجَنَّةِ ببعضٍ، وتلك الدَّلالةُ على فسادِ ذلك القولِ هي الدَّلالةُ على فسادِ قولِ مَن خالَف قولَنا في تأويلِ قولِه:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} . لأَن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما أَخْبَر عن المعنى الذي مِن أجلِه قال القومُ: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} . بقولِه: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} .
ويُسألُ مَن أَنْكَر ذلك فزعَم أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ شيْءٌ مما في الجَنَّةِ نطرًا لشيْءٍ مما في الدنيا بوجهٍ مِن الوجوهِ، فيقالُ له: أيجوزُ أن تكونَ أسماءُ ما في الجَنَّةِ من ثمارِها وأطعمتِها وأشربتِها نظائرَ أسماءِ ما في الدنيا منها؟
فإن أَنْكَر ذلك خالَف نصَّ كتابِ اللهِ؛ لأن اللهَ إنما عرَّف عبادَه في الدنيا ما هو عتيدٌ
(1)
في
(2)
الجَنَّةِ بالأسماءِ التي يُسمَّى بها ما في الدنيا مِن ذلك.
(1)
في ص، م:"عنده". والعتيد: الحاضر المهيّأ. التاج (ع ت د).
(2)
في ر: "فيها".
وإن قال: ذلك جائزٌ، بل هو كذلك.
قيل: فما أَنْكَرْتَ أن يكونَ ألوانُ ما فيها من ذلك نظيرَ ألوانِ ما في الدنيا منه، بمعنى البياضِ والحمرةِ والصُّفرةِ وسائرِ صنوفِ الألوانِ، وإن تبايَنت فتفاضَلت بفضلِ، حسنِ المَرْآةِ والمنظرِ، فكان لما في الجَنَّةِ من ذلك مِن البهاءِ والجمالِ وحسنِ المَرْآةِ والمنظرِ، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماءِ مع اختلافِ المسمَّياتِ بالفضل في أجسامِها؟ ثم يُعكَسُ عليه القولُ في ذلك، فلن يقولَ في أحدِهما شيئًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.
وكان أبو موسى الأشعريُّ يقولُ في ذلك بما حدَّثنا به محمد بنُ بشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عديٍّ وعبدُ الوهَّابِ ومحمدُ بن جعفرٍ، عن عوفٍ، عن قَسَامةَ، عن الأشعريِّ، قال: إن اللهَ لما أَخْرَج آدمَ من الجَنَّةِ زوَّده من ثمارِ الجَنَّةِ، وعلَّمه صنعةَ كلِّ شيْءٍ، فثمارُكم هذه من ثمارِ الجَنَّةِ، غيرَ أن هذه تَغَيَّرُ، وتلك لا تتغيَّرُ
(1)
.
[وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أنَّ معنى قولِه: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} . أنه متشابةٌ في الفضلِ، أي كلُّ واحدٍ منه له مِن الفضلِ في نحوِه مثلُ الذي للآخرِ في نحوِه.
وليس هذا قَولًا نستجيزُ التشاغلَ بالدَّلالةِ على فسادِه؛ لخرُوجِه عن قولِ جميعِ علماءِ أهلِ التأويلِ. وحسبُ قولٍ بخروجِه عن قولِ جميعِ أهلِ العلمِ دَلالةٌ على خَطَئِه]
(2)
.
(1)
أخرجه البزار (2345 - كشف) من طريق ابن أبي عدي به.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 43، والحاكم 2/ 543، والبيهقي في البعث والنشور (198) من طريق معمر وهوذة بن خليفة، عن عوف به.
وأخرجه عبد الله بن أحمد - كما في حادي الأرواح ص 134 - والبزار (2344 - كشف) من طريق ربعي بن علية، عن عوف به مرفوعًا. وعزاه الهيثمي في المجمع 8/ 197 إلى الطبراني، وقال: رجاله ثقات.
(2)
سقط من: ر، م، وتقدم مكانه فيهما في ص 412.
القولُ في تأويلِ قولهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} .
قال أبو جعفرٍ: والهاءُ والميمُ اللتان في {لَهُمْ} عائدتان على {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . والهاءُ والألفُ اللتان في {فِيهَا} عائدتان على الجنَّاتِ.
وتأويلُ ذلك: وبشِّرِ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ أن لهم جناتٍ فيها أزواجٌ مطهرةٌ.
والأزواجُ جمعُ زوجٍ، وهي امرأةُ الرجلِ. يقالُ: فلانَةُ زوجُ فلانٍ وزوجتُه.
وأما قولُه: {مُطَهَّرَةٌ} . فإن تأويلَه أنهن
(1)
طُهِّرن مِن كلِّ أَذًى وقَذًى ورِيبةٍ، مما يكونُ في نساءِ أهلِ الدنيا مِن الحيضِ والنِّفاسِ والغائطِ والبولِ والمُخَاطِ والبُصاقِ والمنَيِّ، وما أَشْبَهَ ذلك مِن الأذَى والأدْناسِ والرِّيَبِ والمكارهِ.
كما حَدَّثَنَا به موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهمدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسِ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أما {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} فإنهن لا يَحِضْنَ ولا يُحدِثْنَ ولا يتنخَّمْنَ
(2)
.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . يقولُ: مُطهّرةٌ مِن القَذَرِ والأذَى
(3)
.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 39 إلى المصنّف عن ابن مسعود وحده.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 عقب الأثر (267) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67، 3/ 984 (264، 5507) من طريق عبد الله بن صالح به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 39 إلى ابن المنذر.
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا يحيى
(1)
القطَّانُ
(2)
، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال: لا يبُلْنَ ولا يتغوَّطْنَ ولا يَمذِينَ
(3)
.
حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوازيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه، إلَّا أنه زاد فيه: ولا يُمْنينَ، ولا يَحِضْن.
حَدَّثَنَي محمد بنُ عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال: مُطَهَّرةٌ مِن الحيضِ والغائطِ والبولِ والنُّخامِ والبصاقِ والمنَيِّ والوَلدِ
(4)
.
حَدَّثَنَا المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حَدَّثَنَا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنَ المباركِ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(5)
.
وَحَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أَخْبَرنا الثوريُّ، عن إبنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ [نحوَ حديثِ أحمدَ بنِ إسحاقَ عن الزبيريِّ، غيرَ أنه زاد فيه: ولا يَلِدْنَ ولا يَبْزُقْنَ]
(6)
.
(1)
بعده في ت 1: "بن".
(2)
في ص: "العطار".
(3)
تفسير الثوري ص 43.
(4)
تفسير مجاهد ص 198. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67، 3/ 984، (265، 5508)، والبيهقيُّ في البعث والنشور (399). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 39 إلى وكيع وهناد في الزهد وعبد بن حميد.
(5)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (243 - زوائد نعيم بن حماد)، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في صفة الجَنَّة (292).
(6)
سقط من ت 1، وفي ص، م:"قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يحضن ولا يلدن ولا يمنين ولا يبزقن"، ومثله في ت 2، إلَّا أن فيها:"ولا ينزفن" بدلا من: "ولا يبزقن". =
حَدَّثَنَا المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا أبو حُذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَ حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي عاصمٍ.
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} : إى واللهِ، مِن الإثمِ والأذَى
(1)
.
وحَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال أخْبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولهِ:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال: طَهَّرهن اللهُ من كلِّ بولٍ وغائطٍ وقَذَرٍ، ومن كلِّ مأثمٍ
(2)
.
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حَدَّثَنَا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ، قال: مُطهَّرةٌ من الحيضِ والحَبَلِ والأذى
(3)
.
حُدِّثت عن عمارٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: المطهَّرةُ من الحيضِ والحَبَلِ.
حَدَّثَنِي يونسُ قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ زيدٍ:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال: المطهَّرةُ التي لا تَحيضُ. قال: وأزواجُ الدنيا ليست بمطهَّرةٍ؛ ألا تراهنَّ يَدمَين ويتركن الصلاةَ والصيامَ؟ قال ابنُ زيدٍ: وكذلك خُلِقَتْ حوَّاءُ حتى عَصتْ، فلما عصتْ قال اللهُ: إنِّي خلقتكِ مطهَّرةً، وسأُدْمِيك كما دمَّيْتِ هذه الشجرةَ
(4)
.
= والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 39 إلى عبد الرزاق. وينظر تفسير الثوري ص 43.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67، 3/ 984 (266، 5509) من طريق سعيد وأبان، عن قتادة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 39 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 (267) من طريق خليد، عن قتادة، بنحوه.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 92، وابن رجب في فتح الباري 2/ 12 عن المصنف، وقال ابن كثير: وهذا غريب. وسيأتي بسياق أطول من هذا في ص 565.
وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ، عن
(1)
الحسنِ في قولِه: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} يقولُ: مُطهَّرةٌ مِن الحيضِ
(2)
.
حَدَّثَنَا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حَدَّثَنَا خالدُ بنُ يزيدَ، قال: حَدَّثَنَا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن الحسنِ في قوله:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال: مِن الحيضِ.
وحَدَّثَنَا عمرٌو، قال: حَدَّثَنَا أبو معاويةَ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال: من الولدِ والحيضِ والغائطِ والبولِ.
وذكَر أشياءَ مِن هذا النحوِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} .
يعني بذلك: والذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ في الجناتِ خالدون. فالهاءُ والميمُ مِن قولِه: {وَهُمْ} عائدةٌ على {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
والهاءُ والألفُ في {فِيهَا} الجناتِ. وخلودُهم فيها دوامُ بقائهم فيها على ما أعطاهم اللهُ فيها مِن الحَبْرَةِ
(4)
والنعيمِ المقيمِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} .
(1)
في الأصل: "وعن".
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 عقب الأثر (267) معلقا.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 67 عقب الأثر (267) معلقا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 39 إلى وكيع وهناد. وينظر البداية والنهاية 20/ 335.
(4)
في ر، ت 1:"الخيره". والحبرة: النعمة وسعة العيش. النهاية 1/ 327.
قال أبو جعفرٍ: اختلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي أنزَل اللهُ جلَّ ثناؤه فيه
(1)
هذه الآيةَ وفي تأويلِها؛ فقال بعضُهم بما حدَّثَنِي به موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذَكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مرةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لمّا ضرَب اللهُ هذين المثَليْن للمنافقِين - يعني قولَه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . وقولَه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} .
الآياتِ الثلاث - قال المنافقون: اللهُ أعلى وأجلُّ من أن يضرِبَ هذه الأمثالَ. فأنزَل اللهُ جل ثناؤُه: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} إلى قولِه: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
(2)
.
وقال آخرون بما حدَّثَنِي به أحمدُ بنُ إبراهيمَ
(3)
، قال: حَدَّثَنَا قُرادٌ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ في قولِه تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} قال: هذا مثلٌ ضَرَبه اللهُ للدنيا؛ أن البعوضةَ تحيا ما جاعتْ، فإذا سمِنتْ ماتتْ، وكذلك مثلُ هؤلاء القومِ الذين ضَرَبَ اللهُ لهم هذا المثلَ في القرآنِ، إذا امتلئوا من الدنيا رِيًّا، أخَذهم اللهُ عند ذلك. قال: ثم تلا {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية
(4)
[الأنعام: 44].
(1)
في الأصل: "في".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 41 إلى المصنّف وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 68 (273) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(3)
بعده في ر: "الدورقي".
(4)
قال ابن كثير في تفسيره 1/ 93: هكذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، بنحوه، فالله أعلم.
وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 68 (270)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 12 إلى أبي الشيخ.
حَدَّثَنَا المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ بنحوِه، إلّا أنه قال: فإذا خلت آجالُهم، وانْقَطَعت مُدَّتُهم، صاروا كالبعوضةِ تحيا ما جاعت وتموتُ إذا رَوِيت، فكذلك هؤلاءِ الذين ضرَب اللهُ لهم هذا المثلَ، إذا امتلَئوا مِن الدنيا رِيًّا أخذَهم اللهُ فأهلَكهم، فذلك قولُه:{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
وقال آخرون بما حَدَّثَنَا به بشرٌ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي: إن اللهَ لا يستحيي من الحقِّ أن يَذْكُرَ منه شيئًا ما، قَلَّ منه أو كثُرَ، إن اللهَ جل ذكره لما ذكَر في كتابِه الذبابَ والعنكبوتَ، قال أهلُ الضلالةِ: ما أراد اللهُ من ذِكْرِ هذا؟ فأنزَل اللهُ: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
(1)
.
وحَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: لمّا ذكَر اللهُ العنكبوتَ والذبابَ، قال المشركون: ما بالُ العنكبوتِ والذبابِ يُذْكَران؟ فأنزَل اللهُ: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وقد ذهَب كلُّ قائلٍ ممن ذَكَرْنا قولَه في هذه الآيةِ وفي المعنى الذي أُنزلت فيه مذهبًا، غيرَ أن أوْلى ذلك بالصوابِ وأشبهَه بالحقِّ ما ذَكَرْنا مِن قولِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ، وذلك أنْ اللهَ أخبرَ عبادَه أنه لا يستحيي أن يَضْرِبَ مثلًا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 92 عن سعيد به.
(2)
تفسير عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 14 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسير 1/ 69 (273) عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 92: والعبارة الأولى - يعني رواية معمر عن قتادة - فيها إشعار أن هذه الآية مكية، وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب، والله أعلم.
ما بعوضةً فما فوقها، عقيبَ أمثالٍ قد تَقَدَّمَت في هذه السورةِ ضرَبها للمنافقِين دونَ الأمثالِ التي ضرَبها في سائرِ السور غيرِها - فلأنْ
(1)
يكونَ هذا القولُ، أعني قولَه:{إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} . جوابًا لنكيرِ الكفارِ والمنافقين ما ضرَب اللهُ لهم مِن الأمثالِ في هذه السورةِ، أحقُّ وأولى من أن يكَونَ ذلك جوابًا لنكيرِهم ما ضرَب اللهُ لهم من الأمثالِ في غيرِها من السورِ.
فإن ظنَّ ظانٌّ أنه إنما وجَب أن يكونَ ذلك جوابًا لنكيرِهم ما ضرَب من الأمثالِ في سائرِ السُّورِ؛ لأنَّ الأمثالَ التي ضرَبها اللهُ لهم ولآلهتِم في سائرِ السورِ أمثالٌ في مُوافقةِ المعنى لما أَخبَر اللهُ عنه أنه لا يستحيي أن يضربَه مثلًا؛ إذ كان بعضُها تمثيلًا لآلهتِهم بالعنكبوتِ، وبعضُها تشبيهًا لها في الضعفِ والمهانةِ بالذبابِ، وليس ذكرُ شيْءٍ من ذلك بموجودٍ في هذه السورةِ فيجوزَ أن يقالَ: إن اللهَ لا يستحيي أن [يضربَه مثلًا]
(2)
. فإن ذلك بخلافِ ما ظنَّ، وذلك أن قولَ اللهِ جلَّ ثناؤه:{إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} إنما هو خبرٌ منه جلَّ ذِكْرُه أنه لا يستحيي أن يضربَ في الحقِّ من االأمثالِ صغيرِها وكبيرِها ابتلاءً بذلك عبادَه، واختبارًا
(3)
منه لهم، ليَميزَ به أهلَ الإيمانِ والتصديقِ به من أهلِ الضلالةِ والكفرِ به، إضلالًا منه به لقومٍ وهدايةً منه به لآخرين.
كما حدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرِو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} : يعني الأمثالَ صغيرَها وكبيرَها، يؤمنُ بها المؤمنون، ويعلَمون أنَّها الحقُّ مِن ربِّهم، ويهديهم اللهُ بها،
(1)
في ص: "فلا".
(2)
في م: "يضرب مثلا ما".
(3)
في ص: "إخبارا"، وفي ر:"اختيارا".
ويَضِلُّ بها الفاسقون. يقولُ: يعرِفُه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرِفُه الفاسقون فيكفرون به
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بمثلِه.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
لا أنه جلَّ ذِكْرُه قصَد الخبرَ
(2)
عن عينِ البعوضةِ أنه لا يستحيي مِن ضربِ المثلِ بها، ولكنَّ البعوضةَ
(3)
لما كانت أضعفَ الخلقِ - كما حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا أبو سفيانَ، عن مَعمرٍ، عن قتادةَ، قال: البعوضَةُ أضعفُ ما خلَق اللهُ
(4)
.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ نحوَه - خصَّها اللهُ بالذكرِ في القلةِ، فأخبَر أنه لا يستحيي أن يَضْرِبَ أقلَّ الأمثالِ في الحقِّ وأحقرَها وأعلاها إلى غيرِ نهايةٍ في الارتفاعِ، جوابًا منه جلَّ ذِكْرُه لمن أنكَر من منافقِي خلقِه ما ضرَب لهم من المثلِ بمُوقِدِ النارِ، والصَّيِّبِ من السماءِ على ما نَعَتهما به من نَعْتِهما.
فإن قال لنا قائلٌ: وأين ذِكْرُ نكيرِ المنافقِين الأمثالَ التي وصفْتَ الذي هذا الخبرُ
(1)
تفسير مجاهد ص 198، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 68 (272). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى عبد بن حميد نحوه.
(2)
في الأصل: "بالخبر".
(3)
في الأصل، ص، ر، ت 1، ت 2:"البعوض".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 41 إلى المصنف.
جوابُه، فنعلمَ أنَّ القولَ في ذلك ما قلتَ؟
قيل: الدَّلالةُ على ذلك بَيِّنةٌ في قولِه جل ذكرُه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا} . وإن القومَ الذين ضرَب لهم الأمثالَ في الآيتيْن المتقدِّمتيْن - اللتين مثَّلَ ما عليه المنافقون مقيمون فيهما
(1)
بِمُوقِدِ النارِ وبالصَّيِّبِ من السماءِ على ما وصَف من ذلك قبلَ قولِه {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} - قد أنكَروا المثلَ، وقالوا:{مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا} . فأوضَحَ خطأَ قِيلِهم ذلك، وقبَّح لهم ما نطَقوا به وأخبرَهم بحكمِهم في قِيلِهم ما قالوا منه، وأنه ضلالٌ وفسوقٌ، وأن الصوابَ والهدَى ما قاله المؤمنون دونَ ما قالوه.
وأما تأويلُ: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي} . فإن بعضَ المنسوبين إلى المعرفةِ بلغةِ العربِ كان يتأولُ معنى {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي} : إن اللهَ لا يخشَى أن يضربَ مثلًا. ويَستشهدُ على ذلك من قولِه بقولِ اللهِ جلَّ وعزَّ: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. ويَزْعُمُ أن معنى ذلك: وتستحيي الناسَ واللهُ أحقُّ أن تستحييَه. فيقولُ: الاستحياءُ بمعنى الخشيةِ، والخشيةُ بمعنى الاستحياءِ.
وأما معنى قولِه: {أَنْ يَضْرِبَ} . فهو: أن يُبَيِّنَ ويصفَ. كما قال جلَّ ثناؤه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28]. بمعنى: وصَف لكم. وكما قال الكميتُ
(2)
:
(1)
قوله: "فيهما" متعلق بقوله: "مثل" يعني الآيتين اللتين مثل فيهما - ما عليه المنافقون مقيمون - بموقد النار.
(2)
شعر الكميت بن زيد (مجموع) 2/ 122.
وذلك ضربُ أخماسٍ أُرِيدتْ
…
لأسداسٍ عسى ألا تكونا
(1)
بمعنى وصفِ أخماسٍ. والمثلُ الشَّبهُ، يقالُ: هذا مِثْلُ الشيْءِ ومَثَلُه، كما يقال: شِبْهُه وشَبَهُه. ومنه قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ
(2)
:
كانت مواعيدُ عُرْقوبٍ لها مَثلًا
…
وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
(3)
يعني شَبَهًا.
فمعنى قولِه إذن: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} : إن اللهَ لا يخشَى أن يصِفَ شبهًا لما شَبَّه به
(4)
.
وأما {مَا} التي مع "مَثل" فإنها بمعنى الذي؛ لأن معنى الكلامِ: إن اللهَ لا يستحيي أن يضربَ الذي هو بعوضةً في الصِّغرِ والقِلةِ فما فوقَها مَثلًا.
فإن قال قائلٌ: فإن كان القولُ في ذلك ما قلتَ، فما وجهُ نصبِ "البعوضة"، وقد علمتَ أن تأويلَ الكلامِ على ما تأوّلتَ: أن اللهَ لا يستحيي أن يضربَ مثَلًا الذي هو بعوضةً؛ فالبعوضةُ على قولِك في محلِّ الرفعِ، فأنَّى أتاها النصبُ؟
قيل: أتاها النصبُ من وجهين، أحدُهما: مِن أن {مَا} لما كانت في محلِّ نصبٍ بقولِه: {يَضْرِبَ} وكانتِ البعوضةُ لها صلةً، عُرِّبت
(5)
بتعريبِها فأُلزِمتْ
(1)
البيت في أصله مثل يضرب لمن يرواغ ويظهر أمرا وهو يريد غيره. ينظر جمهرة الأمثال 2/ 5.
(2)
ديوانه ص 8.
(3)
أصل البيت مثل يضرب في إخلاف الوعد. وعرقوب هو عرقوب بن معبد بن أسيد بن زيد مناة، وقيل: هو رجل من الأمم الماضية. الفاخر 133، 134.
(4)
هذا تتمة تفسير الكلمة على مذهب من قال: إن الاستحياء بمعنى الخشية، لا ما أخذ به الطبري. وأما تفسير الطبري فيأتي في آخر تفسير الآية.
(5)
في م: "أعربت". قال الشيخ شاكر: وقوله: عربت. أي أجريت مجراها في الإعراب، وهذا هو معنى التعريب في اصطلاح قدماء النحاة.
إعْرابَها، كما قال حسانُ بنُ ثابتٍ
(1)
:
[وكفى]
(2)
بنا فضلًا على مَن غيرِنا
…
حبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا
فعُرِّب "غير"
(3)
بإعرإب "مَن"، والعربُ تفعلُ ذلك خاصةً في "مَن" و"ما"؛ تُعَرِّبُ صِلاتِهما
(4)
بإعرابِهمَا؛ لأنهما يكونان معرِفةً أحيانا ونكرةً أحيانًا.
وأما الوجهُ الآخرُ: فأن يكونَ معنى الكلام: إن اللهَ لا يستحيي أن يضربَ مثلًا ما بينَ بعوضةٍ إلى ما فوقَها. ثم حذَف ذِكْرَ "بينَ" و"إلى"؛ إذْ كان في نصبِ "البعوضة" ودخولِ الفاءِ في {مَا} الثانيةِ دَلالةٌ عليهما، كما قالتِ العربُ: مُطِرْنا ما زُبالةَ فالثَّعْلَبِيَّةَ
(5)
. و: له عشرون ما
(6)
ناقةً فجَملًا. و: هي أحسنُ الناسِ ما قرنًا فقدمًا. يعنون بذلك: [ما بيْنَ]
(7)
(1)
ليس في ديوان حسان، وقد أورده المصنف في تفسير الآية 159 من سورة آل عمران غير منسوب، ونسبه في الكتاب 2/ 105 إلى الأنصاري بدون تحديد، ونسبه في خزانه الأدب إلى كعب بن مالك قال: ونسب إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه أيضًا، ولم يوجد في شعره. قال اللخمي في شرح شواهد الجمل: وقيل: هو لعبد الله بن رواحة الأنصاري. وقيل: لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك. الخزانة 6/ 122.
(2)
في الأصل، ر:"لكفى"، وفي ص:" أكفا".
(3)
في الأصل: "غيرنا".
(4)
في الأصل: "صلاتها".
(5)
المعنى إذا قلت: مُطِرْنا بين زبالة فالثعلبية. أنك أردت أن المطر انتظم الأماكن التي ما بين القريتين، وإذا قلت: مطِرنا ما بين زبالة فالثعلبية. فإنك تريد أن المطر وقع بينهما، ولم ترد أنه اتصل في هذه الأماكن كلها. والعرب إذا ألقت "بين" من كلام تصلح "إلى" في آخره، نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بين" والآخر بـ "إلى"، فيقولون: مطرنا ما زبالة فالثعلبية. ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 22، وخزانة الأدب 11/ 10، 11، 13، 16، 20.
وزبالة بضم أوله؛ منزل معروف بطريق مكة من الكوفة. والثعلبية ماء لبني أسد، وهي من أعمال المدينة منسوبة إلى ثعلبة بن مالك. معجم ما استعجم 1/ 341، ومعجم البلدان 2/ 912.
(6)
سقط من: ص.
(7)
في ص: "من".
قَرْنِها إلى قَدمِها. وكذلك يقولون في كلِّ ما حسُن فيه من الكلامِ دخولُ "ما" بين كذا إلى كذا. ينصِبون الأولَ والثانيَ، ليدلَّ النصبُ [في الأسماءِ]
(1)
على المحذوفِ من الكلامِ. فكذلك ذلك في قولهِ: {مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} .
وقد زعمَ بعضُ أهلِ العربيةِ أن {مَا} التي مع "المثَل" صِلةٌ في الكلامِ بمعنى التَّطوُّلِ
(2)
، وأن معنى الكلامِ: إن اللهَ لا يستحيي
(3)
أن يضربَ بعوضةً مثلًا فما فوقَها. فعلى هذا التأويلِ يجبُ أن تكونَ "البعوضة" منصوبةً بـ {يَضْرِبَ} ، وأن تكونَ {مَا} الثانية التي في {فَمَا فَوْقَهَا} معطوفةً على البعوضةِ لا على {مَا} .
وأما تأويلُ قولِه: {فَمَا فَوْقَهَا} . [فهو: ما]
(4)
هو أعظمُ منها عندِي؛ لما ذَكَرْنا قبلُ من قولِ قتادةَ وابنِ جُريجٍ أن البعوضةَ أضعفُ خلقِ اللهِ، فإن كانت أضعفَ خلقِ اللهِ فهي نهايةٌ في القلةِ والضعفِ، وإذا كانت كذلك فلا شكَّ أن ما فوقَ أضعفِ الأشياءِ لا يكونُ إلا أقوَى منه. فقد يجبُ أن يكونَ المعنى على ما قالاه: فما فوقَها في العِظَمِ والكِبَرِ، إذ
(5)
كانتِ البعوضةُ نهايةً في الضعفِ والقلةِ.
وقيل في تأويلِ قولِه: {فَمَا فَوْقَهَا} : في الصِّغَرِ والقلةِ. كما يُقالُ في الرجلِ يذكرُه الذاكرُ فيصِفُه باللؤمِ والشحِّ، فيقولُ السامعُ: نعم، وفوقَ ذلك. يعني
(1)
في م: "فيهما".
(2)
في الأصل، ر:"البطول"، وفي ص:"التطويل". والتطول بمعنى الزيادة في الكلام.
(3)
بعده في ص: "من الحق".
(4)
في م: "فما"، وفي ت 1:"فهو".
(5)
في الأصل، ت 1:"إذا".
به فوقَ الذي وصفتَ في الشحِّ واللؤمِ.
وهذا قولٌ خلافُ تأويلِ أهلِ العلمِ الذين تُرتضَى معرفتُهم بتأويلِ القرآنِ، فقد تَبيَّنَ إذن بما وصفْنا أن معنى الكلامِ: إن اللهَ لا يستحيي أن يصِفَ شبهًا لما شَبَّه به الذي هو ما بينَ بعوضةٍ إلى ما فوقَ "البعوضةِ". فأما تأويلُ الكلامِ لو رُفعتِ "البعوضة"، فغيرُ جائزٍ في {مَا} ، إلا ما قلنا من أن تكونَ
(1)
اسمًا لا صلةً، بمعنى التطولِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِ اللهِ جلّ ثناؤُه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا} .
يعني بقولِه جلّ ذكرُه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} : فأما الذين صدَّقوا اللهَ ورسولَه.
وقولُه: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} . يعني: فيعرِفونَ أن المثَلَ الذي ضرَبه اللهُ لما ضرَبه له مثلًا
(3)
مَثلٌ.
كما حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: هذا المثَلُ الحقُّ من ربِّهم، وأنه كلامُ اللهِ ومِنْ عندِ اللهِ
(4)
.
وكما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حَدَّثنا سعيدٌ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"يكون".
(2)
في الأصل، ر:"البطول".
(3)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 69 عقب الأثر (277) من طريق ابن أبي جعفر به. وينظر تفسير ابن أبي حاتم 1/ 69 (275)، والدر المنثور 1/ 42
عن قتادةَ قولَه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: يعلَمون أنه كلامُ الرحمنِ، وأنه الحقُّ من اللهِ، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا}
(1)
.
وقولُه: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} . يعني: الذين جحَدوا آياتِ اللهِ، وأنكَروا ما عرَفوا، وستَروا ما عَلِموا أنه الحقُّ. وذلك صفةُ المنافقين، وإيَّاهم عنَى اللهُ جلّ ثناؤُه ومَن كان من نُظرائِهم
(2)
وشركائِهم من المشركين مِن
(3)
أهلِ الكتابِ وغيرِهم، بهذه الآيةِ:{فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا} .
كما قد ذَكَرْنا قبلُ
(4)
من الخبرِ الذي روَيْناه عن مجاهدٍ الذي حَدَّثنا به محمدُ ابنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الآية. قال: يؤمنُ بها المؤمنون، ويعلَمون أنها الحقُّ من ربِّهم، ويهديهم اللهُ بها، ويَضِلُّ بها الفاسقون.
يقولُ: يعرِفُه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرِفُه الفاسقون فيكفرون به.
وتأويلُ قولِه: {مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا} : ما الذي أراد اللهُ بهذا المثَلِ مثلًا؟ فـ "ذا" الذي مع "ما" في معنى "الذي"، وأرادَ صلته، و "هذا" إشارةٌ إلى "المثل".
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} .
ومعنى قولِه جل ذكرُه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} : يُضلُّ اللهُ به كثيرًا من خلقِه. والهاءُ في {بِهِ} من ذِكْرِ "المثَل". وهذا خبرٌ من اللهِ جلَّ ثناؤه مُبتدأٌ، ومعنى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 69 (276) من طريق يزيد به دون آخره، ثم أخرجه (277) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، وفيه: وأنه من عند الله.
(2)
في حاشية الأصل: "وقع في غير الأم: نُصَرَائهم".
(3)
في ر: "و".
(4)
تقدم في ص 425، 426.
الكلامِ [قال اللهُ: يُضِلُّ اللهُ]
(1)
بالمثلِ الذي يضْربُه كثيرًا من أهلِ النفاقِ والكفرِ.
كما حَدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} : يعني المنافقين، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}: يعني المؤمنين، فيزيدُ هؤلاء ضلالًا إلى ضلالِهم لتكذيبِهم بما قد علِموه حقًّا يقينًا من المثَلِ الذي ضرَبه اللهُ لِما ضرَبه له، وأنه لِما ضرَبه له موافقٌ، فذلك إضلالُ اللهِ إياهم به، {وَيَهْدِي بِهِ} - يعني بالمثلِ - كثيرًا من أهلِ الإيمانِ والتصديقِ، فيزيدهم هدًى إلى هداهم، وإيمانًا إلى إيمانِهم، لتصديقِهم بما قد علِموه حقًّا يقينًا أنه موافقٌ ما ضرَبه اللهُ له مثلًا، وإقرارِهم به، وذلك هدايةُ
(2)
اللهِ لهم به
(3)
.
وقد زَعمَ بعضُهم أن ذلك خبرٌ عن قولِ
(4)
المنافقين، كأنهم قالوا: ما أرادَ اللهُ بمَثَلٍ لا يعرفُه كلُّ أحدٍ، يُضِلُّ به هذا ويهدِي به هذا؟ ثم استؤنِف الكلامُ والخبرُ عن اللهِ، فقال اللهُ:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} وفي ما في سورةِ "المدثر" من قولِ اللهِ: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31] - ما ينبئُ عن أنه في سورةِ "البقرة" كذلك مبتدأٌ، أعني قولَه:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} .
(1)
في م: "أن الله يضل".
(2)
بعده في ص، ر، م:"من".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 70 (283) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله، مقتصرا على أوله.
(4)
سقط من: م.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعز: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} .
وتأويلُ ذلك مَا حَدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذَكرَه عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} : هم المنافقون
(1)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} : فسَقوا فأضلَّهم اللهُ على فسقِهم
(2)
.
حَدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} : هم أهلُ النفاقِ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأصل الفِسقِ في كلامِ العربِ الخروجُ عن الشيْءِ، يقالُ منه: فَسقَتِ الرُّطَبَةُ، إذا خرَجت من قشرِها؛ ومن ذلك سُميتِ الفأرةُ فُوَيسِقةً؛ لخروجِها عن
(4)
جحرِها، فكذلك المنافقُ والكافرُ، سُمِّيا فاسقَيْن لخروجِهما عن طاعةِ ربِّهما، ولذلك قال جلَّ ذكرُه في صفةِ إبليسَ:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. يعني به: خرَج عن طاعتِه واتباعِ أمرِه.
كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، دال: حدَّثني ابنُ إسحاقَ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 70 (284) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 70 (285) من طريق سعيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 70 عقب الأثر (282) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
في ر: "من".
داودَ بنِ الحصينِ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] أي: بما [تعدَّوا من]
(1)
أمرِي
(2)
.
فمعنى قولِه: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} : وما يُضِلُّ اللهُ بالمثَلِ الذي يضْرِبُه لأهلِ النفاقِ والضلالِ إلا الخارجِين عن طاعتِه والتاركِين اتباعَ أمرِه، من أهلِ الكفرِ به من أهلِ الكتابِ، وأهلِ الضلالِ من أهلِ النفاقِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .
قال أبو جعفرٍ: وهذا وصفٌ من اللهِ جلَّ ذِكرُه الفاسقين الذين أخبَر أنه لا يُضِلُّ بالمثلِ الذي ضرَبه لأهلِ النفاقِ غيرَهم، فقال: ومَا يُضلُّ اللهُ بالمثلِ الذي يضرِبُه، على ما وصَفَ قَبلُ في الآياتِ المتقدمةِ - إلا الفاسقين الذين يَنْقُضون عهدَ اللهِ من بعدِ ميثاقِه.
ثم اختلَف أهلُ المعرفةِ في معنى العهدِ الذي وصَف اللهُ هؤلاء الفاسقين بنقضِه؛ فقال بعضُهم: هو وصيةُ اللهِ إلى خلقِه، وأمرُه إياهم بما أمرَهم به من طاعتِه، ونهيُه إيّاهم عما نهاهُم عنه من معصيتِه في كُتُبِه وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ونقضُهم ذلك تركُهم العملَ به.
وقال آخرون: إنما نزلَت هذه الآياتُ في كفارِ أهلِ الكتابِ والمنافقين منهم، وإياهم عنَى اللهُ جلَّ ذِكْرُه بقولِه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} . وبقولهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فكلُّ
(1)
في ص، ر، م، ت 2:"بعدوا عن"، وفي ت 1، ت 3:"بعدوا من".
(2)
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 120 (596) من طريق سلمة، عن ابن إسحاق من قوله.
ما في هذه الآياتِ فعَذْلٌ لهم وتوبيخٌ إلى انقضاءِ قَصَصِهم. قالوا: فعهدُ اللهِ الذي نقضُوه بعدَ ميثاقِه هو ما أخَذه اللهُ عليهم في التوراةِ؛ من العملِ بما فيها، واتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا بُعِث، والتصديقِ به وبما جاءَ به من عندِ ربِّهم، ونقْضُهم ذلك هو جُحودُهم به بعدَ معرفتِهم بحقيقتِه، وإنكارِهم ذلك، وكتمانِهم علمَ ذلك الناسَ، بعد إعطائِهم اللهَ مِن أنفسِهم الميثاقَ لَيُبَيِّنُتَّه للناسِ ولا يكتُمونه، فأخبَر جل ذكرُه أنهم نبَذوه وراء ظهورِهم واشترَوا به ثمنًا قليلًا.
وقال بعضُهم: إن اللهَ عنَى بهذه الآيةِ جميعَ أهلِ الشركِ والكفرِ والنفاقِ، وعهدُه إلى جميعِهم في توحيدِه ما وضَع لهم من الأدلةِ
(1)
الدالةِ على رُبوبِيَّتِه، وعهدُه إليهم في أمرِه ونهيِه ما احتج به لرسُلِه من المعجزاتِ التي لا يقدِرُ أحدٌ من الناسِ غيرُهم أن يأتيَ بمثلِها، الشاهدةِ لهم على صدقِهم. قالوا: ونقضُهم ذلك تركُهم الإقرارَ بما قد تبيَّنتْ لهم صحتُه بالأدلةِ
(1)
، وتكذيبُهم الرسلَ والكتُبَ، مع علمِهم أن ما أتَوا به حقٌّ.
وقال آخرون: العهدُ الذي ذكَره اللهُ هو العهدُ الذي أخَذه عليهم حينَ أخرَجهم من صُلْبِ آدمَ، الذي وصَفه في قولِه:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}
(2)
الآيتين [الأعراف: 172، 173]. ونقضُهم ذلك تركُهم الوفاءَ به.
قال أبو جعفرٍ: وأوْلى الأقوالِ عندي بالصوابِ في ذلك قولُ من قال: إنَّ هذه
(1)
في الأصل: "الدلالة".
(2)
في الأصل، ص، ر، ت 1، ت 2، ت 3:"ذرياتهم". والمثبت من: م، وهي قراءة ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي، وقراءة الجمع قرأ بها نافع وأبو عمرو وابن عامر. ينظر السبعة ص 298.
ولم يشر المصنف في سورة الأعراف إلى هاتين القراءتين، فأثبتناه بالإفراد كرسم مصاحفنا.
الآياتِ نزلتْ في كفارِ أحبارِ اليهودِ الذين كانوا بين ظَهْرانَيْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيلَ، ومن كان على شركِه من أهلِ النفاقِ الذين قد بيَّنا قَصَصَهم فيما مضَى من كتابِنا هذا.
وقد دلَّلْنا على أن قولَ اللهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} . وقولَه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فيهم أُنْزِلت، وفي مَن كان على مِثْلِ الذي هم عليه من الشركِ باللهِ، غيرَ أن هذه الآياتِ عندي وإن كانت فيهم نزلَتْ، فإنه مَعْنيٌّ بها كلُّ مَن كان على مثلِ ما كانوا عليه من الضلالِة، ومعنيٌّ بما وافقَ منها صفةَ المنافقين خاصةً جميعُ المنافقين، وبما
(1)
وافقَ منها صفةَ كفارِ أحبارِ اليهودِ جميعُ
(2)
مَن كان لهم نَطيرًا في كفرِهم، وذلك أن اللهَ جلَّ ذكرُه يَعُمُّ أحيانًا جميعَهم بالصفةِ لتقديمِه ذِكْرَ جميعِهم
(3)
في أولِ الآياتِ التي ذكَرتْ قَصَصَهم
(4)
، ويَخُصُّ بالصفة أحيانًا بعضَهم لِتفصيلِه في أولِ الآياتِ بينَ فَرِيقَيْهِم
(5)
، أعنِي فريقَ المنافقِين من عبدةِ الأوثانِ وأهلِ الشركِ باللهِ، وفريقَ كفارِ أحبارِ اليهودِ. فالذين ينقضون عهدَ اللهِ هم التاركونَ ما عهِد اللهُ إليهم من الإقرارِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وتَبْيِينِ نُبوَّتِه للناسِ، والكاتمون بيانَ ذلك بعدَ علْمِهم به وبما قد أخَذ اللهُ عليهم في ذلك، كما قال جلَّ ثناؤُه: ({وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
(6)
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
(7)
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]. ونبذُهم ذلك
(1)
في ص: "ما".
(2)
في ص: "وجميع".
(3)
في م: "جميعها".
(4)
سقط من: الأصل، ص.
(5)
في م: "فريقهم".
(6)
في ص: "ليبيننه". قراءة وستأتي في موضعها من التفسير.
(7)
في ص: "يكتمونه". وهي قراءة ستأتي.
وراءَ ظهورِهم هو نقضُهم العَهدَ الذي عُهِد إليهم في التوراةِ، الذي وصفْناه، وتركُهم العملَ به.
وإنما قلتُ: إنه عنَى بهذه الآيةِ
(1)
مَن قلتُ إنه عنَى بها؛ لأن الآياتِ من مبتدأِ الآياتِ الخمسِ والستِّ من سورةِ "البقرةِ" فيهم نزلتْ إلى تمامِ قَصَصِهم، وفي الآيةِ التي بعدَ الخبرِ عن خلقِ آدمَ، وبيانِه
(2)
في قولِه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وخطابِه جلَّ ذِكرُه إياهم بالوفاءِ بذلك خاصةً دونَ سائرِ البشرِ، ما يدلُّ على أن قولَه:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . مقصودٌ
(3)
به كفارُهم ومنافقُوهم، ومَن كان من أشياعِهم مِن مُشرِكي عَبَدةِ الأوثانِ على ضلالتِهم، غيرَ أن الخطابَ وإن كان لمن وصفتُ من الفريقيْن، فداخلٌ في أحكامِهم وفي ما أوجَب اللهُ لهم من الوعيدِ والذمِّ والتوبيخِ، كلُّ من كان على سبيلِهم ومنهاجِهم من جميعِ الخلق وأصنافِ الأُممِ المخاطَبِين بالأمرِ والنهيِ.
فمعنى الآيةِ إذن: وما يُضِلُّ به إلا التاركِين طاعةَ اللهِ، الخارجِين عن اتباعِ أمرِه ونهيِه، الناكثِين عهودَ اللهِ التي عهِدها إليهم في الكُتبِ التي أنزَلها إلى رسلِه وعلى ألْسُنِ أنبيائِه، باتباعِ أمرِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وطاعةِ اللهِ فيما افتَرض عليهم في التوراةِ من تبْيِينِ أمرِه للناسِ، وإخبارِهم إياهم أنَّهم يجِدونه مكتوبًا عندَهم أنه رسولٌ من عندِ اللهِ مُفترضَةٌ طاعتُه، وتركِ كتمانِ ذلك لهم.
ونَكثُهم ذلك ونقضُهم إياه هو مخالفتُهم اللهَ في عهدِه إليهم فيما وصفتُ أنه عهِد إليهم، بعدَ إعطائِهم ربَّهم الميثاقَ بالوفاءِ بذلك، كما وصَفهم به ربُّنا جل ذِكْرُه
(1)
في ر، م، ت 3:"الآيات".
(2)
في م: "أبنائه". وفي ر: "نبئه". وقوله: وبيانه. معطوف على قوله: وفي الآية التي بعد الخبر.
(3)
في ص: "مقصور".
وأما قولُه: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . فإنه يَعني: من بعدِ توثُّقِ اللهِ منه
(1)
بأخذِ
(2)
عهودِه بالوفاءِ له بما عهِد إليه في ذلك، غيرَ أن التوثُّقَ مصدرٌ من قولِك: توثَّقتُ من فلانٍ توثُّقًا. والميثاقُ اسمٌ منه، والهاءُ في "الميثاق" عائدةٌ على اسمِ "الله" جلَّ ذِكْرُه. وقد يدخُلُ في حكمِ هذه الآيةِ كلُّ من كان بالصفةِ التي وصَف اللهُ بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفارِ في نقضِ العهدِ، وقطْعِ الرحمِ، والإفسادِ في الأرضِ.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} : فإياكُم ونقضَ هذا الميثاقِ، [فإن اللهَ قد كرِه نقْضَه وأوْعَد فيه، وقدَّم فيه في آيٍ مِن
(3)
القرآنِ]
(4)
، حجةً وموعظةً ونصيحةً، وإنا لا نعلمُ اللهَ أوعَد في ذنبٍ ما أَوْعَد في نقضِ الميثاقِ، فمن أَعطَى عهدَ اللهِ وميثاقَه من ثمرةِ قلبِه فلْيفِ به للهِ
(5)
.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ في قولِه:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . فهي
(1)
في ص: "فيه".
(2)
في ص: "يأخذ".
(3)
سقط من: ر، م. وينظر الدر المنثور 1/ 42.
(4)
سقط من: ص.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
ستٌّ خلالٍ في أهلِ النفاقِ، إذا كانت لهم الظَّهْرَةُ
(1)
أظْهَروا هذه الخلالَ الستَّ جميعًا؛ إذا حدَّثوا كذَبوا، وإذا وعَدوا أخلَفوا، وإذا ائْتُمِنوا خانوا، ونقَضوا عهْدَ اللهِ مِن بعدِ ميثاقِه، وقطَعوا ما أَمَر اللهُ به أن يُوصلَ، وأفسَدوا في الأرضِ، وإذا كانت عليهم الظَّهْرَةُ أظهَروا الخِلالَ الثلاثَ؛ إذا حدَّثوا كَذَبوا، وإذا وعَدوا أخلَفوا، وإذا ائْتُمِنوا خانوا
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} .
قال أبو جعفرٍ: والذي رغَّب اللهُ في وَصْلِهِ وذمَّ على قطْعِه في هذه الآيةِ، الرحمُ، وقد بيَّن ذلك في كتابِه فقال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]. وإنما عنَى بالرحمِ أهلَ الرجلِ
(3)
الذين جمعتْهم وإياه رحمُ والدةٍ واحدةٍ. وقطْعُ ذلك ظلمُها
(4)
في تركِ أداءِ ما ألزَم اللهُ من حقوقِها، وأوجَبَ من بِرِّها. ووصْلُها أداءُ الواجبِ لها إليها، من حقوقِ اللهِ التي أوجَب لها، والتعطُّفُ عليها بما يَحِقُّ التعطفُ به عليها.
و {أَن} التي مع {يُوصَلَ} في محلِّ خفضٍ، بمعنى ردِّها على موضعِ الهاءِ التي في {بِهِ}. فكان معنى الكلامِ: ويقطَعون الذي أمَر اللهُ به
(5)
بأن يُوصَلَ. والهاءُ التي في {بِهِ} هي كنايةُ
(6)
ذكرِ {مَا}
(7)
.
(1)
الظهرة: الكثرة، ويريد هنا الغلبة، من قولك: ظهرت على فلان، إذا علوته وغلبته. اللسان (ظ هـ ر).
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 96 عن الربيع.
(3)
في الأصل، ص، ر:"الرحم".
(4)
في ص، م:"ظلمه"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"ظلمة".
(5)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(6)
بعده في م: "عن".
(7)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"أن"، وفي م:"أن يوصل".
وبما قلنا في تأويلِ قولِه: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} . وأنه الرحمُ، كان قتادةُ يقولُ.
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} : فقُطِعَ واللهِ ما أمَر اللهُ به أن يوصلَ بقطيعةِ الرحمِ والقرابةِ
(1)
.
وقد تأوّل بعضُهم ذلك أن اللهَ ذمَّهم بقطعِهم رسولَه والمؤمنين به وأرحامَهم.
واستَشهَد على ذلك بعمومِ
(2)
ظاهرِ الآيةِ، وألا
(3)
دلالةَ على أنَّه معنيٌّ بها بعضُ ما أمَر اللهُ بوصْلِه دونَ بعضٍ.
وهذا مذهبٌ مِن تأويلِ الآيةِ غيرُ بعيدٍ من الصوابِ، ولكنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه قد ذكَر المنافقين في غيرِ آيةٍ من كتابهِ، فوصَفهم بقطْعِ الأرحامِ، فهذه نظيرةُ تلك، غيرَ أنَّها وإن كانت كذلك، فهي دالةٌ على ذمِّ اللهِ كلَّ قاطعٍ قطَع ما أمَر اللهُ أن يُوصلَ، رحِمًا كانت أو غيرَها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} .
قال أبو جعفرٍ: وفسادُهم في الأرضِ هو ما تقدَّم وَصْفُناهُ قبلُ من معصيتِهم ربَّهم، [وكُفرِهم به]
(4)
، وتكذيبِهم رسوله، وجَحْدِهم نبوَّتَه، وإنكارِهم ما أتاهم به من عندِ اللهِ أنه حقٌّ مِن عندِه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنّف وعبد بن حميد.
(2)
في الأصل، ص، ر:"عموم".
(3)
في ص: "لا".
(4)
سقط من: الأصل.
والخاسرون جمعُ خاسرٍ، والخاسرون؛ الناقصون أنفسَهم حظوظَها بمعصيتِهم اللهَ - من رحمتِه، كما يخسَرُ الرجلُ في تجارتِه بأن يوضَعَ من رأسِ مالِه في بيعِه
(1)
.
فكذلك الكافرُ والمنافقُ خسِر بحِرْمانِ اللهِ إياه رحمَتَه التي خلَقها لعبادِه في القيامةِ أحوجَ ما كان إلى رحمتِه. يقالُ منه: خسِر الرجلُ يخسَرُ خُسْرًا وخُسرانًا وخَسارًا.
كما قال جريرُ بنُ عطيةَ
(2)
:
إن سَلِيطًا في الخَسارِ إنَّهْ
…
أولادُ قومٍ خُلِقوا أقِنَّهْ
(3)
يعني بقولهِ: في الخَسارِ. أي: فيما يوكِسُهم حظوظَهم من الشرفِ والكرمِ.
وقد قيل: إنَّ معنى {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} : أولئك هم الهالِكون. وقد يجوزُ أن يكونَ قائلُ ذلك أرادَ ما قلنا من هلاكِ الذي وصَف اللهُ صفَتَه بالصفةِ التي وصَفه بها في هذه الآيةِ، بحِرْمانِ اللهِ إياه ما حرَمه من رحمتِهِ بمعصِيتِه إياه وكفرِه به.
فحمَل تأويلَ الكلامِ على معناه دونَ البيانِ عن تأويلِ عينِ الكلمةِ بعينِها، فإن أهلَ التأويلِ ربما فعلوا ذلك لعللٍ كثيرةٍ تدعوهم إليه.
وقال بعضُهم في ذلك بما حُدِّثت به عن المنِجابِ بنِ الحارثِ، قال: حَدَّثَنَا بشرُ ابنُ عُمارةَ، عن أبي رَوقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كلُّ شيْءٍ نسَبه اللهُ إلى غيرِ أهلِ الإسلامِ من اسمٍ مثلَ خاسرٍ فإنما يعني به الكفرَ، وما نسَبه إلى أهلِ الإسلامِ فإنما يعني به الذَّنْبَ
(4)
.
(1)
وُضع الرجل في تجارته - بالبناء للمجهولَ كعُنِىَ: خسر فيها. التاج (و ض ع).
(2)
ديوانه 2/ 1017، والنقائض ص 4.
(3)
أقنة جمع قن، وهو العبد، وهو جمع نادر. التاج (ق ن ن).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنّف وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} .
قال أبو جعفرٍ: اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم بما حَدَّثَنِي به موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبير ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النَّبِيِّ:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يقولُ: لَمْ تكونوا شيئًا فخلَقكم، ثم يميتُكم، ثم يحيِيكم يومَ القيامةِ
(1)
.
وحَدَّثَنَا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللهِ في قوِله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]. قال: هي كالتي في "البقرة": {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} .
وحَدَّثَنِي أبو حُصينٍ [عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ
(2)
بنِ يونسَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْثرٌ، قال: حَدَّثَنَا حُصينٌ]
(3)
، عن أبي مالكٍ في هذه الآيةِ:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: خلَقْتنا ولم نَكُنْ شيئًا، ثم أمَتَّنَا، ثم أحْيَيْتَنا.
وحَدَّثَنِي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حَدَّثَنَا هُشيمٌ، عن حُصينٍ، عن أبي مالكٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة.
(2)
بعده في م: "ابن عبد الله". وينظر تهذيب الكمال 14/ 284.
(3)
سقط من: ت 1، ت 2.
في قولِه: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: كانوا أمواتًا فأحياهم اللهُ، ثم أماتهم، ثم أحياهم.
وحَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا [الحسينُ بنُ داودَ]
(1)
، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولهِ:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} . قال: لَمْ تكونوا شيئًا حتى
(2)
خلَقكم، ثم يميتُكم الموتةَ الحقَّ، ثم يحييكُم، وقولُه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} مثلُها
(3)
.
وحَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي الحجاجُ، عن ابنِ جريج، قال: أخبرني عطاءٌ الخراسانيُّ، عن ابنِ عباسٍ، قال؛ هو قولُه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}
(4)
.
وحُدِّثْت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: حدثني أبو العاليةِ في قولِ اللهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ
(1)
في ص: "الحسن".
(2)
في ر، م، ت 1:"حين".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنّف.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 73 (302) من طريق ابن جريجٍ به بنحوه، وليس فيه تصريح ابن جريج بالسماع. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى ابن المنذر. وفي رواية ابن جريج عن عطاء الخراساني ضعف، قال ابن المديني: سألت يحيى بن سيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف. قلت ليحيى: إنه يقول: أخبرني؟ قال: لا شيْء، كله ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه. ينظر تهذيب التهذيب 6/ 406، وعطاء لم يسمع من ابن عباس. ينظر جامع التحصيل ص 238.
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}. يقولُ: حينَ لَمْ يكونوا شيئًا، ثم أحياهُم [حين
(1)
خلَقهم]
(2)
، ثم أماتهم، ثم أحياهم يومَ القيامةِ، ثم رجَعوا إليه بعدَ الحياةِ
(3)
.
وحُدِّثت عن المنِجابِ، قال: حَدَّثَنَا بشرُ بنُ عُمارةَ، عمت أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: كنتم ترابًا قبلَ أن يخلُقَكم، فهذه مِيتةٌ، ثم أحياكم فخلَقكُم، فهذه حياةٌ
(4)
، ثم يميتُكم فتَرجِعون إلى القبورِ، فهذه مِيتةٌ أخرى، ثم يبعَثُكم يومَ القيامِة، فهذه حياةٌ
(4)
، فهما مِيتَتَان وحياتانِ، فهو قولُه
(5)
(6)
.
وقال آخرون بما حَدَّثَنَا به أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن السدِّيِّ، عن أبي صالحٍ:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} قال: يُحييكُم في القبرِ، ثمُ يميتُكم
(7)
.
(1)
في ر: "وحين".
(2)
سقط من: ص.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 73 (303) من طريق أبي جعفر به.
(4)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"إحياءة".
(5)
في الأصل: "كقوله".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 73 (301) عن أبي زرعة، عن منجاب به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى ابن مردويه.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى المصنّف. وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 73 عقب الأثر (301) معلقا.
وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 97: هذا غريب.
وقال آخرون بما حَدَّثَنَا به بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادَةَ:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [الآية. قال: كانوا أمواتًا]
(1)
في أصْلُبةِ
(2)
آبائِهم، فأحياهم اللهُ وخلَقهم، ثم أماتَهم الموتَةَ التي لا بدَّ منها، ثم أحياهُم للبعثِ يومَ القيامةِ، فهما حياتان وموتَتان.
وقال بعضُهم بما حدَّثَنِي به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللهِ: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: خلَقهم اللهُ من ظَهرِ آدمَ حينَ أخَذ عليهم الميثاقَ
(3)
. وقرَأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . حتى بلَغ: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173]. قال: فكسَّبهم العقلَ وأخَذ عليهم الميثاقَ. قال؛ وانتزَع ضِلْعًا من أضلاعِ آدمَ القُصَيْرَي
(4)
، فخلَق منه حواءَ. ذكَره عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك قولُ اللهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (1)} [النساء: 1]. قال: بثَّ منهما
(5)
بعدَ ذلك في الأرحامِ خلقًا كثيرًا. وقرأ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6].
قال: خلْقًا بعدَ ذلك. قال: فلما أخَذ عليهم الميثاقَ أماتهم، ثم خلَقهم في الأرحامِ، ثم أماتهم، ثم أحياهم يومَ القيامةِ، فذلك قولُ اللهِ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
(1)
سقط من: ص.
(2)
في ر، م:"أصلاب"، والصلب يجمع على أصلب وأصلاب.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 97.
(4)
القصيري: الضلع التي تلي الشاكلة، وهي أسفل الأضلاع. التاج (ق ص ر).
(5)
في ص، ر، م:"فيهما".
اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا}. وقرأ قولَ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154، والأحزاب: 7]. قال: يومَئذٍ قال: وقرأ قولَ اللهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7].
قال أبو جعفرٍ: ولكلِّ قولٍ من هذه الأقوالِ التي حكَيْناها عمّن رَوَيناها عنه وجهٌ ومذهبٌ من التأويلِ. فأما وجهُ تأويلِ مَن تأوَّلَ قولَه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} . أي: لم تكونوا شيئًا. فإنه ذهَب إلى نَحوِ قولِ العربِ للشيْءِ الدَّارسِ والأمرِ الخاملِ الذِّكرِ: هذا شيْءٌ ميتٌ، وهذا أمرٌ ميتٌ. يُرادُ بوصفِه بالموتِ خمولُ ذِكْرِه ودُروسُ أثَرِه من الناسِ، وكذلك يقالُ في ضدِّ ذلك وخلافِه: هذا أمرٌ حيٌّ، وذِكْرٌ حيٌّ. يرادُ بوصفِه بذلك أنه نابِهٌ مُتعالمٌ في الناسِ، كما قال أبو نُخيلةَ السَّعديُّ
(1)
:
فأحْييْتَ
(2)
لي ذِكْرِي وما كنتُ خاملًا
…
ولكنَّ بعضَ الذِّكْرِ أنْبَهُ من بعضِ
يريدُ بقولِه: فأحيَيْتَ لي ذِكرِي. أي: رفعْتَه وشهَرْتَه في الناسِ حتى نَبُه فصار مذكورًا حيًّا بعدَ أن كان خاملًا ميتًا.
فذلك
(3)
تأويلُ قولِ من تأوَّل في قولهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} : لم تكونوا شيئًا.
أي: كنتم خُمولًا لا ذِكْرَ لكم، وذلك كان [موتَكم، {فَأَحْيَاكُمْ} فجعلكم]
(4)
(1)
البيت في طبقات ابن المعتز ص 64، والمؤتلف والمختلف ص 297.
(2)
في ص، والمؤتلف والمختلف:"وأحيت"، وفي ابن المعتز:"وأنبهت".
(3)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"فكذلك".
(4)
في الأصل: "موتهم فأحياهم فجعلهم".
بشَرًا أحياءً [تُذكَرون وتعرَفون]
(1)
، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بقبضِ أرواحِكم، وإعادتِكم كالذي كنتم قبلَ أن يحييَكم من دروسِ ذكرِكم، وتَعفِّي آثارِكم، وخُمولِ أمورِكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بإعادةِ أجسامِكم إلى هيئاتِها، ونفخِ الروحِ فيها، وتَصْيِيرِكم بشرًا كالذي كنتم قبلَ الإماتةِ تتعارَفون في بعثِكم وعندَ حشْرِكم.
وأما وجهُ تأويلِ مَن تأوَّل ذلك أنه الإماتةُ التي هي خروجُ الروحِ من الجسدِ، فإنه ينبغي أن يكونَ ذهَب بقولِه:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} . إلى أنه خطابٌ لأهلِ القبورِ بعدَ إحيائِهم في قبورِهم، وذلك معنًى بعيدٌ؛ لأن التوبيخَ هنالك إنما هو توبيخٌ على ما سلَف وفرَط من إجْرامِهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ. وقولُه جلَّ ذِكْرُه:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} . توبيخُ مُستعتِبٍ عبْدَه
(2)
، وتأنيبُ مُسترجِعٍ خلْقَه من المعاصِي إلى الطاعَةِ، ومن الضلالِة إلى الإنابةِ، ولا إنابةَ في القبورِ بعدَ المماتِ، ولا توبةَ فيها بعدَ الوفاةِ.
وأما وجهُ تأويلِ قولِ قتادةَ ذلك أنهم كانوا أمواتًا في أصلابِ آبائِهم. فإنه عنَى بذلك أنهم كانوا نُطَفًا لا أرواحَ فيها، فكانت بمعنى سائرِ الأشياءِ المَواتِ التي لا أرواحَ فيها، وإحياؤُه إياها جل ذِكْرُه، نَفْخُه الأرواحَ فيها، وإماتَتُه إياهم بعدَ ذلك؛ قبضُه أرواحَهُم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك؛ نفخُ الأرواحِ في أجسامِهم يومَ يُنْفَخُ في الصورِ ويُبعَثُ الخلقُ للموعودِ.
وأما ابنُ زيدٍ فقد أبان عن نفسِه ما قصَد بتأويلهِ ذلك، وأن الإماتةَ الأولَى
(1)
في الأصل: "يذكرون ويعرفون".
(2)
في م: "عباده".
عندَه
(1)
إعادةُ اللهِ جلَّ ثناؤه عبادَه في أصلابِ آبائِهم بعدَما أخَذهم من صُلبِ آدمَ، وأن الإحياءَ الآخَرَ هو نفخُ الأرواحِ فيهم في بطونِ أمهاتِهم، وأن الإماتةَ الثانيةَ هي قبضُ أرواحِهم للعَوْدِ إلى الترابِ، والمصيرُ في البرْزَخِ إلى يومِ البعثِ، وأن الإحياءَ الثالثَ هو نفخُ الأرواحِ فيهم لبعثِ الساعةِ ونشرِ القيامةِ. وهذا تأويلٌ إذا تَدبَّره المتدبِّرُ وجَده خِلافًا لظاهرِ قولِ اللهِ الذي زعَم مفسِّرُه أن الذي وصَفْنَا من قولِه تفسيرُه، وذلك أن اللهَ جلَّ ذكرُه أخْبر في كتابِه عن الذين أخبَر عنهم من خلقِه أنهم قالوا:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . وزعَم ابنُ زيدٍ أن
(2)
تفسيرَه أن اللهَ أحياهم ثلاثَ إحياءاتٍ، وأماتهم ثلاثَ إماتاتٍ.
قال أبو جعفرٍ: والأمرُ عندنا وإن كان في ما وصَف من استخراجِ اللهِ جلَّ ثناؤُه من صُلْبِ آدمَ ذُريتَه، وأخذِه ميثاقَه عليهم، كما وصَف، فليس ذلك من تأويلِ هاتين الآيتين - أعني قولَه:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} الآية.
وقولَه: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} - ذي شيْءٍ؛ لأن أحدًا لم يدَّعِ أن اللهَ أمات من ذرَأ يومئذٍ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخِ إلى البعثِ، فيكونَ جائزًا أن يوجَّهَ تأويلُ الآيةِ إلى ما وجَّههُ إليه ابنُ زيدٍ.
وقال بعضُهم: الموتةُ الأولَى مُفارقةُ نُطفةِ الرجلِ جسدَه إلى رحمِ المرأةِ، فهي ميتةٌ من لَدُنْ فِراقِها جسدَه إلى نفخِ الروحِ فيها، ثم يُحييها اللهُ بنفخِ الروحِ فيها فيجعَلُها بشرًا سويًّا بعدَ تاراتٍ تأتي عليها، ثم يُميتُه المِيتةَ الثانيةَ بقبضِ الروحِ منه، فهو في البرزخِ ميتٌ إلى يومِ يُنْفَخُ في الصورِ، فيَرُدُّ في جسدِه روحَه، فيعودُ حيًّا سويًّا لبعثِ القيامةِ، فذلك موتَتان وحياتان.
(1)
في م: "عند".
(2)
في م: "في".
وإنما دعَا هؤلاء إلى هذا القولِ لأنهم قالوا: موتُ ذِي الروحِ مفارقةُ الروحِ إياه. فزعَموا أن كلَّ شيْءٍ من ابنِ آدمَ حيٌّ ما لم يفارقْ جسدَه الحيَّ ذا الروحِ، فكلُّ ما فارقَ جسدَه الحيَّ ذا الروحِ، فارقَتْه [الروحُ و]
(1)
الحياةُ فصار ميتًا، كالعضوِ من أعضائِه؛ مثلُ اليدِ من يدَيْه أو الرِّجْلِ من رجلَيْه، لو قُطِعت فأُبينَتْ، والمقطوعُ ذلك منه حيٌّ، كان الذي بأن من جسدِه مَيِّتًا لا روحَ فيه بفراقِه سائرَ جسدِه الذي فيه الروحُ. قالوا: فكذلك نطفتُه حيةٌ بحياتِه، ما لم تفارقْ جسدَه ذا الروحِ، فإذا فارقَتْه مُبايِنةً له صارت مَيتةً، نطيرَ ما وصفْنَا من حكمِ اليدِ والرجلِ وسائرِ أعضائِه، وهذا قولٌ ووجهٌ من التأويلِ لو كان من أقوالِ أهلِ القُدْوةِ الذين يُرتضَى للقرآنِ تأويلُهم.
وأوْلَى مما ذكَرْنا من الأقوالِ التي بيّنَّا بتأويلِ قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} الآية. القولُ الذي ذكَرْناه عن ابنِ مسعودٍ، وعن ابنِ عباسٍ، من أنَّ معنى قولِه:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} . أمواتَ الذِّكْرِ، خُمولًا في أصلابِ آبائِكم، نُطَفًا لا تُعرَفون ولا تُذكَرون، فأحياكُم بإنشائكُم بشرًا سويًّا، حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتُم، ثم يميتُكم بقبضِ أرواحِكم وإعادتِكم رُفاتًا، لا تُعْرَفون ولا تُذْكرون في البرزخِ إلى يومِ تُبعثون، ثم يُحييكم بعدَ ذلك بنفخِ الأرواحِ فيكم لبعثِ الساعةِ وصَيحةِ القيامةِ، ثم إلى اللهِ تُرجَعون بعدَ ذلك، كما قال:{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه يُحيِيهم في قبورِهم قبلَ حشرِهم، ثم يحشُرُهم لموقفِ الحسابِ، كما قال جلَّ ذكرُه {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]. وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].
والعِلةُ التي من أجلِها اختَرنا هذا التأويلَ، ما قدَّمنا ذِكْرَه للقائلين به،
(1)
سقط من: م.
وفسادُ ما خالَفه بما قد أوضَحْناه قبلُ.
وهذه الآيةُ توبيخٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه للقائلين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . الذين أخبَر اللهُ عنهم أنهم مع قِيلِهم ذلك بأفواهِهم، غيرُ مؤمنين به، وأنهم إنما يقولون ذلك خِداعًا للهِ وللمؤمنين، فعذَلهم اللهُ بقولِه:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} . ووبَّخهم واحتجَّ عليهم في نكيرِهم ما أنكَروا من ذلك، وجُحودِهم ما جَحدوا بقلوبِهم المريضةِ، فقال: كيف تكفرون باللهِ فتَجْحَدون قدرتَه على إحيائِكم بعد إماتتِكم [لبعْثِ القيامةِ، ومجازاةِ المسئِ منكم بالإساءةِ، والمحسنِ بالإحسانِ، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلابِ آبائِكم، فأنشأتُكم
(1)
خلقًا سويًّا، وجعلتُكم
(2)
بشرًا أحياءً، ثم أمتُّكم
(3)
بعد إنشائكم، فقد علِمتم أن من فعَل ذلك بقدرتِه، غيرُ معجزِه - بالقدرةِ التي فعَل ذلك بكم - إحياؤُكم بعد إماتتِكم]
(4)
، وإعادتُكم بعد إفنائِكم، وحشرُكم إليه لمجازاتِكم بأعمالِكم.
[القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}
قال أبو جعفرٍ]
(5)
: ثم عدَّدَ ربُّنا عليهم، وعلى أوليائِهم من أحبارِ اليهودِ الذين جمَع بينَ قَصَصِهم وقَصصِ المنافقين في كثيرٍ من آيِ هذه السورةِ التي افتَتح الخبرَ
(1)
في ص: "فأنشأكم".
(2)
في ص: "فجعلكم".
(3)
في ص: "أماتكم".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(5)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
عنهم فيها بقولهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} - نِعَمَه التي سلَفتْ منه إليهم وإلى آبائِهم، التي عظُمتْ منهم مواقِعُها، ثم سلْبُه
(1)
كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركِبوا من الآثامِ، واجتَرَموا من الأجْرامِ، وخالَفوا من الطاعةِ إلى المعصية، محذِّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبةِ لهم، كالتي
(2)
عجَّلها للأسلافِ والأفراطِ قبلَهم، ومخوِّفَهم حُلولَ مَثُلاتِه بساحتِهم، كالذي أحلَّ بأوائلِهم
(3)
، ومعرِّفَهم ما لهم من النجاةِ في سرعةِ الأوْبةِ إليه وتعجيلِ التوبةِ؛ من الخلاصِ لهم يومَ القيامةِ من العقابِ. فبدأ بعدَ تعديدِه عليهم ما عدَّد من نِعَمِه التي هم فيها مُقيمون بذكرِ أبِينا وأبِيهم آدمَ أبي البشرِ، صلواتُ اللهِ عليه، وما سلَف منه من كرامتِه إليه وآلائِه لدَيه، وما أحلَّ به وبعدوِّه إبليسَ مِن عاجلِ عقوبتِه بمعصيتِهما التي كانت منهما، ومخالفتِهما أمْرَه الذي أمَرهما به، وما كان من تغمُّدِه آدمَ برحمتِه إذْ تاب وأناب إليه، وما كان من إحلالِه بإبليسَ من لعنتِه في العاجِل، وإعدادِه له ما أعدَّ له من العذابِ المقيمِ في الآجلِ، إذِ استكبرَ وأبَى التوبةَ إليه والإنابةَ، مُنبهًا لهم على حُكمِه في المُنيبين إليه بالتوبةِ، وقضائِه في المستكبرِين عن الإنابةِ، إعذارًا من اللهِ بذلك إليهم، وإنذارًا لهم لِيتدبَّروا آياتِه، ولِيَتذَكَّرَ منهم أُولو الألبابِ، وخاصًّا أهلَ الكتابِ بما ذكَر من قصَصِ آدمَ وسائرِ القصصِ التي ذكَرها معها وبعدَها، مما علِمه أهلُ الكتابِ وجهِلَتْه الأمةُ الأُميةُ مِن مشركِي عَبدَةِ الأوثانِ - بالاحتجاجِ عليهم - دونَ غيرِهم من سائرِ أصنافِ الأممِ الذين لا علْمَ عندَهم بذلك - لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا بإخبارِه إياهم بذلك أنه للهِ رسولٌ مبعوثٌ، وأن ما جاءهم به فمِن عندِه، إذْ كان ما اقتَصَّ عليهم من هذه القصصِ من مكنونِ
(1)
في م: "سلب".
(2)
في الأصل: "كالذي".
(3)
في م: "بأوليهم".
علومِهم، ومَصونِ ما في كُتبِهم، وخفيِّ أمورِهم، التي لم يكنْ يدَّعِي معرفَةَ عِلْمِها غيرُهم وغيرُ مَن أخَذ عنهم وقرَأ كُتُبَهم. وكان معلومًا من محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه لم يكنْ قطُّ كاتبًا، ولا لأسفارِهم تاليًا، ولا لأحدٍ منهم مصاحبًا ولا مجالسًا، فيمكِنَهم أن يَدَّعُوا أنه أخَذ ذلك من كُتبِهم، أو عن بعضِهم، فقال جلَّ ذكرُه في تعدِيدِه عليهم ما هم فيه مقيمون من نِعَمِه مع كفرِهم به، وتركِهم شُكْرَه عليها بما يَجِبُ له عليهم منَ طاعتِهِ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
فأخبَرهم جلَّ ذِكْرُه أنه خلَقَ لهم ما في الأرضِ جميعًا؛ لأن الأرضَ وجميعَ ما فيها لبني آدمَ منافعُ، أما في الدِّينِ فدليلٌ
(1)
على وحدانيةِ ربِّهم
(2)
، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغٌ لهم
(3)
إلى طاعتهِ، وأداءِ فرائضِه، فلذلك قال جلَّ ثناؤُه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .
وقولُه: {هُوَ} مَكْنِيٌّ
(4)
من اسمِ اللهِ جلَّ ذِكْرُه، عائدٌ على اسمِه في قولِه:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} . ومعنى خلْقِه ما خَلق جلّ ثناؤُه؛ إنشاؤُه عينَه، وإخراجُه من حالِ العدَمِ إلى الوجودِ. و {مَا} بمعنى "الذي"، فمعنى الكلامِ إذن: كيفَ تكفرون باللهِ وقد كنتم نُطَفًا في أصلابِ آبائِكم، فجعَلكم بشرًا أحياءً، ثم يميتُكم، ثم هو مُحيِيكم بعد ذلك، وباعثُكم يومَ الحشرِ للثوابِ
(1)
بعده في الأصل: "له".
(2)
في الأصل: "ربه".
(3)
في ص: "له".
(4)
إنما أطلق الكوفيون على الضمير: "المكني" أو "الكناية". لأنه يرمز به عن الظاهر اختصارا، فهو اسم كنى به عن اسم. ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 5، 19، 50، وشرح المفصل 3/ 184، وشرح الرضى 2/ 93.
والعقابِ، وهو المنُعمُ عليكم بما خلَق لكم في الأرضِ، من مَعايشِكم وأدِلَّتِكم على وحدانيةِ ربِّكم. و {كَيْفَ} بمعنى التعجبِ والتوبيخِ، لا بمعنى الاستفهامِ، كأنه قال: ويْحَكُمْ كيفَ تكفرون باللهِ! كما قال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26].
وحلَّ قولُه: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} محلَّ الحالِ، وفيه ضميرُ
(1)
"قد"، ولكنَّها حُذفت لما في الكلامِ من الدليلِ عليها، وذلك أن "فَعل" إذا حلَّت محلَّ الحالِ كان معلومًا أنها مُقتضيةٌ "قد"، كما قال جلَّ ثناؤُه:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] يعني: قد حَصِرتْ صدُورُهم. وكما تقولُ للرجلِ: أصبحتَ كَثُرَتْ ماشيتُك. تريدُ: قَدْ كثُرتْ ماشيتُك.
وبنحوِ ما قلنا في قولِه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} كان قتادةُ يقولُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} : نَعَمْ واللهِ، سَخَّر لكم ما في الأرضِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ؛ فقال بعضُهم: معنى {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} : أقبلَ عليها. كما تقولُ: كان فلانٌ مُقبلًا على فلانٍ، ثم استوى عليَّ يُشاتمُني، واستوى إليَّ يُشاتمُني. يعني: أقبَل عليَّ وإليَّ
(1)
الضمير هنا بمعنى التقدير. ينظر مصطلحات النحو الكوفي ص 141.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 75 (307) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى عبد بن حميد. وينظر تاريخ دمشق 7/ 399.
يُشاتمُني. واستَشهد على أن معنى الاستواءِ بمعنى الإقبالِ بقولِ الشاعرِ
(1)
:
أقولُ وقد قَطَعْنَ بنا شَرَوْرَى
(2)
…
سَوامِدَ
(3)
واستوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ
(4)
فزعَم أنه عنَى به انّهنَّ خرجْن من الضَّجوعِ، وكان ذلك عنده بمعنى "أقبَلْن".
وهذا من التأويلِ في هذا البيتِ خطأٌ، وإنما معنى قولِه: واستوينَ من الضجوعِ - عندي -: استوَيْنَ على الطريقِ من الضَّجُوعِ خارجاتٍ. بمعنى: اسْتقَمْنَ عليه
(5)
.
وقال بعضُهم: لم يكن ذلك من اللهِ جلَّ ذكرُه بتحوُّلٍ، ولكنه يعني فِعْلَه، كما تقولُ: كان الخليفةُ في أهلِ العراقِ يُواليهم، ثم تحوَّلَ إلى أهلِ الشامِ. إنما يريدُ تحوُّلَ فعْلِه.
وقال بعضُهم: قولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يعني: استوتْ به. كما قال الشاعرُ:
أقُولُ لَهُ لَمَّا استوَى في ترابِه
…
(6)
على أيِّ دِينٍ [قَتَّل الناسَ]
(7)
مُصْعبُ
(1)
البيت لابن مقبل، وهو في ديوانه ص 164.
(2)
شرورى: جبل بين العَمْق والمعدِن، في طريق مكة إلى الكوفة، وهي بين بني أسد وبني عامر. معجم ما استعجم 3/ 794، والبيت فيه.
(3)
رواية الديوان، ومعجم ما استعجم:"ثوانى". وسمدت الإبل: إذا جدت في السير. التاج (س م د).
(4)
الضجوع: موضع بين بلاد هذيل وبلاد بني سليم. معجم ما استعجم 3/ 857 والبيت فيه.
(5)
سقط من: الأصل.
(6)
في ص: "ثراته"، وفي ر:"تراثه".
(7)
في م: "قبل الرأس".
وقال بعضُهم: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} : عمَد لها. وقال: كلُّ تاركٍ عملًا كان فيه إلى آخرَ
(1)
فهو مُستوٍ لما عمَد له ومُستوٍ إليه.
وقال بعضُهم: الاستواءُ هو العلوُّ، والعلوُّ هو الارتفاعُ.
وممن قال ذلك الربيعُ بنُ أنسٍ، حُدِّثْتُ بذلك عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يقولُ: ارتفعَ إلى السماءِ
(2)
.
ثم اختلَف متأوِّلُو الاستواءِ بمعنى العلوِّ والارتفاعِ في الذي استوَى إلى السماءِ؛ فقال بعضُهم: الذي استوَى إلى السماءِ وعلَا عليها خالِقُها ومُنشِئُها.
وقال بعضُهم: بلِ العالي إليها
(3)
الدخانُ الذي جعَله اللهُ للأرضِ سماءً.
قال أبو جعفرٍ: والاستواءُ في كلامِ العربِ منصرِفٌ على وجوهٍ؛ منها: انتهاءُ شبابِ الرجلِ وقوَّتِه، فيقالُ إذا صارَ كذلك: قدِ استوَى الرجلُ.
ومنها: استقامةُ ما كان فيه أوَدٌ
(4)
من الأمورِ والأسبابِ، يقالُ منه: استوَى لفلانٍ أمرُه: إذا استقام له بعدَ أوَدٍ
(5)
. ومنه قولُ الطِّرِمَّاحِ بنِ حكيمٍ
(6)
:
طال على رسمٍ مُهَدَّدٍ أبَدُهْ
…
و
(7)
عفا واسْتَوَى به بَلَدُهْ
(1)
في م: "آخره".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 75 عقب الأثر (308) من طريق ابن أبي جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 43 إلى المصنف عن أبي العالية. وستأتي بقيته في ص 458.
(3)
في ص: "عليها".
(4)
الأود: العِوَج. ينظر التاج (أ و د).
(5)
في الأصل: "درء".
(6)
ديوانه ص 193.
(7)
في الأصل: "ثم".
يعني: استقام به.
ومنها: الإقبالُ على الشيْءِ بالفعلِ، كما يقالُ: استوَى فلانٌ على فلانٍ بما يكرهُه ويسوءُه بعدَ الإحسانِ إليه.
ومنها: [الاستيلاءُ والاحتواءُ]
(1)
، كقولِهم: استوَى فلانٌ على المملكةِ.
بمعنى: احتوَى عليها وحازَها.
ومنها: العلوُّ والارتفاعُ، كقولِ القائلِ: استوَى فلانٌ على سريرِه. يعني به: عُلوَّه عليه.
قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى المعاني بقولِ اللهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} : علَا عليهن وارتفَع، فدبَّرهن بقدرتِه وخلَقهنَّ سبعَ سماواتٍ.
والعجبُ ممن أنكَرَ المعنى المفهومَ من كلامِ العربِ في تأويلِ قولِ اللهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الذي هو بمعنَى العلوِّ والارتفاعِ هَرَبًا عندَ نفسِه من أنْ يلزَمَه بزعمِه - إذا تأوَّله بمعناه المفهومِ كذلك - أن يكونَ إنما علَا وارتفَع بعد أن كان تحتَها، إلى أنْ تأوَّلَه بالمجهولِ من تأويلِه المُسْتَنْكَرِ
(2)
، ثم لم ينجُ مما هرَب منه، فيقالُ له: أزعَمتَ أن تأويلَ قولِه: {اسْتَوَى} : أقبَل، أفكانَ مُدْبرًا عن السماءِ فأقبَل إليها؟ فإن زعَمَ أن ذلك ليس بإقبالِ فعلٍ ولكنه إقبالُ تدبيرٍ. قيلَ له: فكذلك فقلْ
(3)
: علَا عليها عُلوَّ مُلْكٍ وسلطانٍ لا علوَّ انتقالٍ وزوالٍ. ثم لن يقولَ في شيْءٍ من ذلك قولًا إلا أُلزِم في الآخَرِ مثلَه. ولولا أنَّا كرِهنا إطالةَ الكتابِ بما ليس من جنسِه لأَنبأْنا عن فسادِ قولِ كلِّ قائلٍ قال في ذلك قولًا لقولِ أهلِ الحقِّ فيه مخالفًا، وفيما بيَّنا منه ما يُشرِفُ
(1)
في م: "الاحتياز والاستيلاء".
(2)
في ص: "المستكره".
(3)
في ر: "تقل".
بذي الفهمِ على ما فيه له الكفايةُ إن شاء اللهُ.
وإن قال لنا قائلٌ: أخبِرْنا عن استواءِ اللهِ جلَّ وعز إلى السماءِ، كان قبلَ خلْقِ السماءِ أم بعدَه؟
قيل: بعدَه، وقبلَ أن يسوِّيَهن سبعَ سماواتٍ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11].
فالاستواءُ كان بعد أن خلَقها دخانًا، وقبل أن يسَوِّيَها سبعَ سماواتٍ.
وقال بعضُهم: إنما قال
(1)
: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ولا سماءَ، كقولِ الرجلِ لآخَرَ: اعمَلْ هذا الثوبَ. وإنما معه غزلٌ.
وأما قولُه: {فَسَوَّاهُنَّ} . فإنه يعني: هيَّأَهُنَّ وخلَقهن ودبَّرهن وقوَّمهن.
والتسويةُ في كلامِ العربِ التقويمُ والإصلاحُ والتوطئةُ، كما يقالُ: سوَّى فلانٌ لفلانٍ هذا الأمرَ. إذا قوَّمه وأصلَحه ووطَّأَه له، فكذلك تسويةُ اللهِ جلَّ وعز سماواتِه، تَقويمُه إياهن على مشيئتِه، وتدبيرُه لهن على إرادتِه، وتفتيقُهن بعد ارْتِتاقِهن
(2)
.
كما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} يقولُ: سوّى خْلَقَهنّ، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(3)
.
وقال جلّ ذكرُه: {فَسَوَّاهُنَّ} . فأخرَج مَكنِيَّهن
(4)
مُخرجَ مَكْنيِّ الجميعِ،
(1)
في الأصل، ر:"قيل".
(2)
في ص: "بتامتهن"، وفي م:"ارتاقهن".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 75 (310) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 43 إلى المصنف عن أبي العالية. وتقدم أوله في ص 456.
(4)
في ر: "مكينهن". والمكنى هو الضمير في اصطلاح نحويي الكوفة. ينظر ص 453.
وقد قال قبلُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فأخرَجها على تقديرِ الواحدِ، وإنما أخرَج مَكنِيَّهن مُخرَجَ مَكْنيِّ الجميعِ؛ لأن السماءَ جمعٌ، واحدُها سماوَةٌ، فتقديرُ واحدتِها وجميعِها إذن تقديرُ بقرةٍ وبقرٍ، ونخلةٍ ونخلٍ، وما أشبهَ ذلك، ولذلك أُنِّثت السماءُ مرةً، فقيل: هذه سماءٌ. وذُكِّرت أُخرى، فقيل:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]. كما يُفعَلُ ذلك بالجميعِ الذي لا فرْقَ بينَه وبين واحدِه غيرُ دخولِ الهاءِ وخروجِها، فيقالُ: هذا بقرٌ، وهذه بقرٌ، وهذا نخلٌ، وهذه نخلٌ. وما أشبهَ ذلك.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يزعُمُ أن السماءَ واحدةٌ، غيرَ أنها تدُلُّ على السماواتِ، فقيل:{فَسَوَّاهُنَّ} . يُراد بذلك التي ذُكرتْ وما دلَّتْ عليه من سائرِ السماواتِ التي لم تُذكرْ معها. قال: وإنما تُذكَّرُ إذا ذُكِّرتْ وهي مؤنثةٌ، فيقالُ:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} . كما يُذَكَّرُ المؤنثُ، وكما قال الشاعرُ
(1)
:
فلا مُزْنةٌ ودَقَتْ وَدْقَها
…
ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقالَها
وكما قال أعْشى بني ثعلبةَ
(2)
:
فإمّا تَرَىْ لِمَّتِى بُدِّلَتْ
…
فإنَّ الحوادثَ أزْرَى بها
وقال بعضُهم: السماءُ وإن كانت سماءً فوقَ سماءٍ، وأرضًا فوقَ أرضٍ، فهي في التأويلِ واحدةٌ إن شئتَ، ثم تكونُ تلك الواحدةُ جِماعًا، كما يقالُ: ثوبٌ
(1)
البيت لعامر بن جوين الطائي، وهو في الكتاب 2/ 46، والخزانة 1/ 45.
(2)
ديوانه 171، وروايته:
فإن تعهديني ولى لمة
…
فإن الحوادث ألوى بها
أخلاقٌ وأسمالٌ
(1)
، وبُرْمةٌ أعشارٌ
(2)
. للمتكسِّرَةِ، وبُرْمةٌ أكسارٌ وأجبارٌ. وأخلاقٌ، أي أنّ نواحيَه أخلاقٌ.
فإن قال لنا قائلٌ: فإنك
(3)
قد قلتَ: إن اللهَ استوَى إلى السماءِ وهي دخانٌ قبل أن يسوِّيَها سبعَ سماواتٍ ثم سوّاها سبعًا [بعد استوائِه إليها]
(4)
، فكيف زعَمتَ أنها جماعٌ؟
قيل: إنهنَّ كُنَّ سبعًا غيرَ مُستوياتٍ، فلذلك
(5)
قال تعالى ذكرُه: فسواهنَّ سبعًا.
كما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: كان أوّلَ ما خلَق اللهُ تعالى ذكرُه النورُ والظلمةُ، ثم ميَّزَ بينَهما فجعَل الظُلمةَ ليلًا أسودَ مُظلمًا، وجعَل النورَ نهارًا مضيئًا مُبصرًا، ثم سمَك السماواتِ السبعَ من دخانٍ، يقالُ - واللهُ أعلمُ -: من دخانِ الماءِ. حتى استقلَلْنَ ولم يُحْبَكن، وقد أغطَش في السماءِ الدنيا ليلَها وأخرَج ضُحاها، فجرَى فيها الليلُ والنهارُ، وليس فيها شمسٌ ولا قمرٌ ولا نجومٌ، ثم دحَا الأرضَ فأرْساها بالجبالِ، وقدَّر فيها الأقواتَ، وبثَّ فيها ما أراد من الخَلْقِ، ففرَغ من الأرضِ وما قدَّر فيها من أقواتِها في أربعةِ أيامٍ، ثم استَوى إلى السماءِ وهي دخانٌ، كما قال، فحبَكَهُنَّ، وجعَل في السماءِ الدنيا شمسَها وقمرَها ونجومَها، وأوْحَى في كلِّ سماءٍ أمْرَها،
(1)
ثوب أخلاق: من قولهم: خلق الثوب. أي بلى كله. وأسمال من: سمل الثوب سمولا وسمولة: أخلق. التاج (خ ل ق، س م ل).
(2)
أي: مكسرة على عشر قطع. ينظر التاج (ع ش ر).
(3)
سقط من: ص، ر.
(4)
في ص: "فقد استوى به إليها".
(5)
في ص: "فكذلك".
فأكمَل خَلْقَهن في يومين، ففرَغ من خلْقِ السماواتِ والأرضِ في ستةِ أيامٍ، ثم استوَى في اليومِ السابعِ فوقَ سَماواتِه، ثم قال للسّماواتِ والأرضِ:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} لِمَا أردْتُ
(1)
بكما، فاطمَئِنَّا عليه طوعًا أو كرهًا {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
(2)
.
فقد أخبَر ابنُ إسحاقَ أن اللهَ تعالى ذكرُه استوَى إلى السماءِ بعد خلقِه الأرضَ وما فيها وهنّ سبعٌ من دخانٍ، فسَوّاهُنَّ كما وصَف.
وإنما استَشهدْنا لقولِنا الذي قُلْنا في ذلك بقولِ ابنِ إسحاقَ؛ لأنه أوضحُ بيانًا عن خبرِ
(3)
السماواتِ أنهنَّ كن سبعًا من دخانٍ قبلَ استواءِ ربِّنا إليها لتسويتِها
(4)
- من غيرِه، وأحسنُ شرحًا لما أردْنا الاستدلالَ به، من أن معنى السماءِ التي قال تعالى ذكرُه فيها:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} بمعنى الجمعِ على ما وصفْنَا، وأنَّه إنما قال جلَّ ثناؤُه:{فَسَوَّاهُنَّ} . إذْ كانت السماءُ بمعنى الجمعِ، على ما بيَّنَّا.
فإن قال لنا قائلٌ: فما صِفةُ تسويةِ اللهِ السماواتِ التي ذكَرها في قولِه: {فَسَوَّاهُنَّ} . إذْ كنَّ قد كنّ خُلِقن سبعًا قبل تسويتِه إياهُنَّ؟ وما وجْهُ ذكْرِ خلْقِهنّ بعد ذكْرِ خلْقِ الأرضِ، أَلأنَّها
(5)
خُلِقتْ قبلَها أم لمعنًى
(6)
غيرِ ذلك؟
قيل: قد ذكَرْنا ذلك في الخبرِ الذي رَوَيْناه عن ابنِ إسحاقَ، ونزيدُ ذلك توكيدًا بما نضُمُّ إليه من أخبارِ بعضِ السلفِ المتقدِّمين وأقوالِهم.
(1)
في االأصل: "أردته".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 34 إلى قوله: مبصرا. وينظر تفسير الآيات 9 - 12 من سورة فصلت.
(3)
في ص: "خلق".
(4)
في ص، ر، م:"بتسويتها".
(5)
في ص: "لا أنها"، وفي ر:"لأنها".
(6)
في ص، م:"بمعنى".
فحدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} . قال: إن اللهَ تعالى ذكرُه كان عرشُه على الماءِ، ولم يخلُقْ شيئًا غيرَ ما خلَق قبلَ الماءِ، فلمَّا أراد أن يَخْلُقَ الخْلقَ أخرَج من الماءِ
(1)
دخانًا، فارتفَع فوق الماءِ فسَما عليه، فسمّاهُ سماءً، ثم أيبَس الماءَ فجعَله أرضًا واحدةً، ثم فتقَها فجعَل سبعَ أرَضينَ في يومين، في الأحدِ والاثنينِ، فخلَق الأرضَ على حوتٍ، والحوتُ هو النونُ الذي ذكَر اللهُ في القرآن:{ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]. والحوتُ في الماءِ، والماءُ على ظَهْرِ صَفَاةٍ، والصفاةُ على ظهرِ مَلَكٍ، والمَلَكُ على صخرةٍ، والصخرةُ في الريحِ - وهي الصخرةُ التي ذكَر لقمانُ
(2)
- ليست في السماءِ ولا في الأرضِ، فتحرَّك الحوتُ فاضطرَب، فتزلزلتِ الأرضُ، فأرْسَى عليها الجبالَ فقرّتْ، فالجبالُ تفخَرُ على الأرضِ، وذلك قولُه:[{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ]
(3)
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. وخلَق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلِها، وشجرَها، وما ينبغي لها في يومين؛ في الثلاثاءِ والأربعاءِ، وذلك حينَ يقولُ:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} . يقولُ: أنبتَ شجرَها. {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . يقولُ:
(1)
في ص: "النار".
(2)
يشير إلى الآية 16 من سورة لقمان.
(3)
في النسخ، والتوحيد، وتفسير ابن أبي حاتم، والدر المنثور:" وجعل لها"، والمثبت هو صواب تلاوة الآية، وهي كذلك في تاريخ المصنف.
أقواتَها لأهلِها. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . يقول: [مَن سأل فهكذا]
(1)
الأمرُ. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 9 - 11]. وكان ذلك الدخانُ من تنَفُّسِ الماءِ حينَ تنفَّس، فجعَلها سماءً واحدةً، ثم فتقَها فجعَلها سبعَ سماواتٍ في يومين؛ في الخميس والجمُعةِ، وإنما سُمِّيَ يومَ الجمُعةِ لأنه جُمِع فيه خلْقُ السماواتِ والأرضِ، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}. قال: خلَق في كلِّ سماءٍ خلْقَها من الملائكةِ والخَلْقِ الذي فيها، من البحارِ وجبالِ البَرَدِ وما لا يُعلَمُ، ئم زيَّنَ السَّماءَ الدُّنْيا بالكواكبِ، فجَعَلها زينةً وحِفْظًا تَحْفَظُ من الشياطيِن، فلمّا فَرَغَ من خلْقِ ما أحبّ، استوَى على العرشِ، فذلك حينَ يقولُ:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54، يونس: 3، هود: 7]. يقولُ: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}
(2)
[الأنبياء: 30].
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} . قال: خلَق الأرضَ قبلَ السماءِ، فلمّا خلَق الأرضَ ثارَ منها دخانٌ، فذلك حينَ يقولُ:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} . قال: بعضُهن فوقَ بعضٍ، وسبعُ أرَضين بعضُهن تحتَ
(3)
(1)
في م: "قل لمن يسألك هكذا".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 52، 53 عن موسى وغيره، عن عمرو به، إلى آية سورة النحل. وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 243، والبيهقي في الأسماء والصفات (807) من طريق عمرو به.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 74 (306) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42، 43 إلى ابن المنذر.
(3)
في ر: "فوق".
بعضٍ
(1)
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولهِ:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال: بعضُهن فوق بعضٍ، بين كلِّ سماءيْن مَسِيرةُ خمسِمائةِ عامٍ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولهِ حيثُ ذكَر خلْقَ الأرضِ قبلَ السماءِ، ثم ذكَر السماءَ قبلَ الأرضِ -: وذلك أن اللهَ خلَق الأرضَ بأقواتِها من غيرِ أن يدْحُوَها قبلَ السماءِ، ثم استوَى إلى السماءِ فسوّاهُنّ سبعَ سماواتٍ، ثم دَحَا الأرضَ بعد ذلك، فذلك قولُه عز وجل:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
حدثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني أبو معشرٍ، عن سعيدِ بنِ أبي سعيدٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ أنه قال: إن اللهَ بدَأ الخلْقَ يومَ الأحدِ، فخلَق الأرَضِين في الأحدِ والاثنينِ، وخلَق الأقواتَ والرواسِيَ في الثلاثاءِ والأربعاءِ، وخلَق السماواتِ في الخميس والجمُعةِ، وفرَغ في آخرِ ساعةٍ من يومِ الجمُعةِ، فخلَق فيها آدمَ على عَجَلٍ، فتلك الساعةُ التي تقومُ فيها الساعةُ
(3)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 42 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 75 (311)، وأبو الشيخ في العظمة (885) من طريق الحسن بن يحيى به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 42 إلى عبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 44 إلى المصنف وعبد الرزاق.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 44،55،54 مفرقا. =
فمعنى الكلامِ إذن: هو الذي أنعَم عليكم، فخلَق لكم ما في الأرضِ جميعًا، وسخَّره لكم، تفضُّلًا منه بذلك عليكم؛ ليكونَ لكم بلاغًا في دنياكم، ومتاعًا إلى موافاةِ آجالِكم، ودليلًا لكُم على وحدانيةِ ربِّكم، ثم علَا إلى السماواتِ السبعِ وهنَّ دخانٌ، فسوّاهن وحَبَكهن، وأجرَى في بعضِهن
(1)
[شمسَه وقمرَه ونجومَه]
(2)
، وقدَّر في كلِّ واحدةٍ منهنَّ ما قدَّر من خلْقِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَهُوَ} نفسَه، وبقولِه:{بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أن الذي خلَقكم وخلَق لكم ما في الأرضِ جميعًا، وسوَّى السماواتِ السبعَ بما فيهن، فأحكَمهن مِن دخانِ الماءِ وأتقَن
(3)
صُنْعَهن، لا يخفَى عليه أيُّها المنافقون والملحدون والكافرون به مِن
(4)
أهلِ الكتابِ - ما تُبْدون وما تكتُمون في أنفسِكم، وإن أبدَى منافقوكم بألسِنتِهم قولَهم:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وهم على التكذيبِ به مُنْطَوون، وكذَّبتْ أحبارُكم
(5)
بما أتاهم به رسولي من الهدَى والنورِ، [وهم]
(6)
بصحتِه عارِفون، وجحَدوا
(7)
وكتَموا ما
= وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (884) من طريق محمد بن بكير، عن أبي معشر به.
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصافات (811) من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام. وأخرج أحمد 5/ 450 (الميمنية) آخره من طريق آخر عن عبد الله بن سلام.
(1)
في الأصل، ص:"بعضها".
(2)
في الأصل: "شمسها وقمرها ونجومها".
(3)
في ت 1: "أيقن".
(4)
في ص: "و".
(5)
في ص: "أحبارهم".
(6)
سقط من: ص.
(7)
الأصل، ر:"جحدوه".
قد أخَذْتُ عليهم تبْيانَه
(1)
لخلقِي من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم[ونُبُوَّتِه]
(2)
- المواثيقَ، وهم به عالمون، بل أنا عالمٌ بذلك [من أمْرِكم]
(3)
وغيرِه من أمورِكم وأمورِ غيرِكم؛ أي
(4)
بكلِّ شيْءٍ عليمٌ.
وقولُه: {عَلِيمٌ} . بمعنى عالمٍ. ورُوِي عن ابنِ عباسٍ أنه كان يقولُ. هو الذي قد كَمُلَ في علْمِه.
حدَّثني المُثَنَّى بن إبراهيمَ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ ابنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: العالِمُ الذي قد كَمُلَ في عِلْمِه
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} .
زعَم بعضُ المنسوبين إلى العلمِ بلُغاتِ العَربِ من أهلِ البصرةِ
(6)
أن تأويلَ قولِه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} : وقال ربُّك. وأنّ {وَإِذْ} من الحروفِ الزَّوائدِ، وأن معناها الحذفُ. واعتَلَّ لقولِه الذي وصَفْنا عنه في ذلك ببيتِ الأسودِ بنِ يَعْفُرَ
(7)
:
فإذا وذلك لا مَهاهَ لِذِكْرِه
…
والدهرُ يُعْقِبُ صالحًا بفسادِ
(1)
في م: "ببيانه".
(2)
سقط من: ص.
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، ر، م:"إني".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في مجموع الفتاوى 17/ 220 - من طريق عبد الله بن صالح به. وينظر تفسير ابن كثير 8/ 547.
(6)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 36، 37.
(7)
البيت في المفضليات، ص 220، واللسان (م هـ هـ).
ثم قال: ومعناها: وذلك لا مَهاهَ لذِكْرِه. وببيتِ عبدِ منافِ بن رِبْعٍ
(1)
الهُذليِّ
(2)
:
حتى إذا أسلَكوهم في قُتائِدَةٍ
(3)
…
شَلًّا
(4)
كما تطْرُدُ الجَمّالةُ
(5)
الشُّرُدا
(6)
وقال: معناه: حتى أسْلَكُوهم.
قال أبو جعفرٍ: والأمرُ في ذلك بخلافِ ما قال، وذلك أن "إذْ"
(7)
حرفٌ يأتي بمعنى الجزاءِ، ويَدُلُّ على مجهولٍ من الوقتِ، وغيرُ جائزٍ إبطالُ حرفٍ كان دليلًا على معنًى [في الكلامِ]
(8)
. إذ سواءٌ قيلُ قائلٍ: هو بمعنى البُطولِ
(9)
، [وهو]
(8)
في الكلامِ دليلٌ على معنًى مفهومٍ. وقيلُ آخرَ في جميعِ الكلامِ الذي نطَق به دليلًا على ما أرِيدَ به: هو بمعنى البُطولِ
(9)
.
وليس [لما ادّعى]
(10)
الذي وصَفْنا قولَه
(11)
- في بيتِ الأسودِ بنِ يَعفُرَ، أن "إذا"
(12)
بمعنى البُطولِ
(9)
- وجهٌ مفهومٌ، بل ذلك لو حُذِف من الكلامِ لَبَطَل المعنَى
(1)
في ت 1، ت 2:"زريع".
(2)
ديوان الهذليين 2/ 42، وسيأتي 14/ 9، وفي الشعراء.
(3)
قتائدة: جبل بين المنصرف والروحاء. معجم ما استعجم 3/ 1048.
(4)
شل السائق الإبل شلًّا؛ إذا طردها، والشل: الطرد. التاج (ش ل ل).
(5)
في ص: "الحمالة"، والجمالة أصحاب الجمال.
(6)
شرد جمع شرود من قولهم: شرد الفرس أو البعير. إذا استعصى وذهب على وجهه. التاج (ش ر د).
(7)
في ر، ت 1، ت 2:"إذا".
(8)
سقط من: ص.
(9)
في م: "التطول".
(10)
في م: "المدعى".
(11)
في ر: "في قوله".
(12)
في ت 2: "إذ".
الذي أراده الأسودُ من قولِه:
* فإذا وذلك لا مَهاهَ لذِكْرِه *
وذلك أنه أراد بقولِه: فإذا
(1)
: فإذا الذي نحن فيه وما قد مضَى من عَيْشِنا.
وأشار بقولِه: [وذلك]
(2)
. إلى ما تقدَّم وصْفُه من عيشِه الذي كان فيه. لا مَهاهَ لذِكْرِهِ، يعني: لا طَعْمَ له ولا فضْلَ؛ لإعقابِ الدهرِ صالحَ ذلك بفسادٍ. وكذلك معنى قولِ عبدِ منافِ بنِ رِبعٍ
(3)
:
حتى إذا أسلكوهم في قُتائدةٍ
…
شلًّا
(4)
.....................
لو أُسقِط منه "إذا" بطَل معنى الكلامِ؛ لأن معناه: حتى إذا أسلَكوهم في قُتائدةٍ سلَكوا شَلًّا. فدلَّ
(5)
قولُه: أسلكوهم شلًّا (4). على مَعْنَى المْحذُوفِ، فاسْتُغْنِي عن ذكْرِه بدَلالةِ "إذا" عليه فحُذِف - كما قد ذكَرْنا فيما مَضَى من كتابِنا
(6)
- على ما تفعَلُ العربُ في نظائرِ ذلك، وكما قال النَّمِرُ بنُ تَوْلَبٍ
(7)
:
فإن المنيةَ من يخْشَها
…
فسوف تصادِفُه أيْنَما
وهو يريدُ: أينما ذهَب. وكما تقولُ العربُ: أتيتُك من قبلُ ومن بعدُ. تُرِيدُ:
(1)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(2)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"ذلك".
(3)
في ت 1، ت 2:"زريع".
(4)
في ت 1، ت 2:"سلا".
(5)
في ر: "فذلك".
(6)
ينظر ما تقدم في ص 111 - 112، 344.
(7)
البيت في الصناعتين 183، والخزانة 11/ 101 وشرح التصريح 2/ 253.
من قبلِ ذلكَ ومن بعدِ ذلكَ. فكذلك ذلك في "إذا"، كما يقولُ القائلُ: إذا أكرَمك أخوك فأكرِمْه، وإذا لا فلَا. يريدُ: وإذا لم يُكرِمْك
(1)
فلا تُكرِمْه. ومن ذلك قولُ الآخر
(2)
.
فإذا وذلك لا يضُرُّك ضُرُّه
(3)
…
في يومِ أسألُ
(4)
نائلًا أو أنكَدَا
نظيرَ ما ذكَرْنا من المعنى في بيتِ الأسودِ بنِ يَعفُرَ. وكذلك معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} . لو أُبْطِلَتْ "إذْ" وحذِفتْ من الكلامِ، لاستحالَ عن
(5)
معناه الذي هو به وفيه "إذْ".
فإن قال قائلٌ: فما معنى ذلك، وما الجالبُ لـ "إذ"، إذا
(6)
لم يكنْ في الكلامِ قبلَه ما يُعطَفُ به عليه؟
قيل له: قد ذكَرنا فيما مضَى أن اللهَ تعالى ذكرُه خاطَب الذين خاطَبهم بقولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} . بهذه الآياتِ والتي بعدَها مُوَبِّخَهم ومُقَبِّحًا إليهم سوءَ فِعالِهم ومُقامِهم على ضلالِهم مع النعمِ التي أنعَمها عليهم وعلى أسلافِهم، ومُذكِّرَهُم - بتعديدِ نِعَمِه عليهم وعلى أسلافِهم - بأسَه أن يسلُكوا سبيل مَن هلَك من أسلافِهم في معصيتِه، فيسلُكَ بهم سبيلَهم
(7)
في
(1)
في ت 1: "يكن معك".
(2)
التبيان 1/ 131.
(3)
في ص، والتبيان:"ضرة"، وفي ر:"ضيرة".
(4)
في ص، م:"أثل".
(5)
في ت 1، ت 2:"من".
(6)
في ص، م:"إذ".
(7)
في ت 1: "سبيله".
عقوبتِه، ومُعرِّفَهم ما كان منه من تعطُّفِه على التائبِ منهم، استعتابًا منه لهم، فكان مما عدَّدَ من نِعَمِه عليهم، أنه خلَق لهم ما في الأرضِ جميعًا، وسخَّر لهم ما في السماواتِ؛ من شمسِها وقمرِها ونجومِها وغيرِ ذلك من منافعِها التي جعَلها لهم ولسائرِ بني آدمَ معهم منافعَ، فكان في قولِه:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . معنى
(1)
: اذكُروا نعمتي
(2)
عليكم إذ خلَقتُكم ولم تكونوا شيئًا، وخلَقتُ لكم ما في الأرض جميعًا، وسوَّيتُ لكم ما في السماءِ. ثم عطَف بقولِه:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} على المعنى المقتضَى بقولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} إذ كانَ مُقتضيًا ما وصفتُ من قولِه: اذكُروا نِعمتي إذْ فعلتُ بكم وفعلتُ، واذكُروا فِعْلِي بأبِيكم آدمَ، إذْ قلتُ للملائكةِ: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً.
فإن قال قائلٌ: فهل لذلك من نظيرٍ في كلامِ العربِ نعلَمُ به صحةَ ما قلتَ؟
قيل: نعم، أكثرُ مِن أن يُحصَى، من ذلك قولُ الشاعرِ
(3)
:
أجِدَّك لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ
(4)
…
ولا بَيْدَانَ
(5)
ناجيةً
(6)
ذَمُولَا
(7)
(1)
في ر: "معناه".
(2)
بعده في م: "التي أنعمت".
(3)
البيتان للمرار بن سعيد الفقعسي، وهما في مجالس ثعلب 1/ 159، واللسان (ب ى د، ن ش غ، ط ف ل).
(4)
في ص: "بتعيلنات". وثعيلبات تصغير جمع ثعلبة: موضع. معجم البلدان 1/ 927.
(5)
بيدان: جبل أحمر مستطيل من أخيلة حمى ضريّة. معجم البلدان 1/ 783.
(6)
الناجية: الناقة السريعة. التاج (ن ج و).
(7)
الذميل: ضرب من سير الإبل، وقيل: هو السير اللين ما كان، وقيل: هو فوق العنق. اللسان (ذ م ل).
ولا متدارَكٍ
(1)
والشمسُ طِفْلٌ
…
ببعضِ نواشغِ
(2)
الوادي حُمُولَا
فقال: ولا مُتدارَكٍ. ولم يتقدَّمْه فعلٌ بلفظِه يُعطَفُ
(3)
به عليه، ولا حرفٌ مُعرَبٌ إعرابَه فيُرَدَّ "متدارك" عليه في إعرابِه، ولكنه لما تقدَّمه فعلٌ مجحودٌ بـ "لن"
(4)
يَدُلُّ على المعنى المطلوبِ في الكلامِ من
(5)
المحذوفِ، استغْنَى بدَلالةِ ما ظَهَر منه عن إظهارِ ما حُذِف، وعامَل الكلامَ في المعنى والإعرابِ معاملتَه أن
(6)
لو كان ما هو محذوفٌ منه ظاهرًا؛ لأن قولَه:
* أجِدَّك لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ *
معناه: أجِدَّك لستَ براءٍ. فردَّ "مُتداركًا" على مَوضعِ "تَرَى"، كأن "لست" والباءَ
(7)
موجودتان في الكلامِ. فكذلك قولُه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} .
لمّا سلَف قبلَه تذكيرُ اللهِ جلّ وعزَّ المخاطَبين به ما سلَف قِبلَهم وقِبلَ آبائِهم من أيادِيه وآلائِه، وكان قولُه:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} مع ما بعدَه من النِّعَمِ التي عدَّدَها عليهم، ونَبَّههم على مواقعِها - ردَّ "إذْ" على موضعِ {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}. لأن معنى ذلك: اذكُروا هذه من نِعَمِي
(8)
، وهذه التي قلتُ فيها للملائكةِ. فلمّا كانت الأولى مُقتضيةً "إذ"، عطَف
(1)
في اللسان: "متلاقيا".
(2)
النواشغ: مجاري الماء في الوادي. التاج (ن ش غ).
(3)
في ر: "يفعله".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"بأن".
(5)
في م: "وعلى".
(6)
في ص: "اذ".
(7)
في ر، ت 1، ت 2:"الياء".
(8)
في ص: "نعمتي".
[بـ "إذ"]
(1)
على موضعِها في الأولى، كما وصَفْنا من فِعْلِ
(2)
الشاعرِ في: ولا مُتداركٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {لِلْمَلَائِكَةِ} .
والملائكةُ جمعُ مَلْأَكٍ
(3)
، غيرَ أن أحدَهم بغيرِ الهمزِ أكثرُ وأشهرُ في كلامِ العربِ منه بالهمزِ، وذلك أنهم يقولون في واحدِهم: مَلَكٌ من الملائكةِ.
فيحذِفون الهمزَ منه، ويُحرِّكون اللامَ التي كانت مُسَكَّنةً لو هُمزَ الاسمُ، وإنما يُحرِّكونها بالفَتْحِ لأنهم ينقُلونَ حركةَ الهمزةِ التي فيه بسقوطِها
(4)
إلى الحرفِ الساكنِ قبلَها، فإذا جمَعوا واحدَهم ردُّوه
(5)
في
(6)
الجمعِ إلى الأصلِ [وهمَزُوا]
(7)
، فقالوا: ملائكةٌ. وقد تفعَلُ العربُ نحوَ ذلك كثيرًا في كلامِها، فتترُكُ الهمزَ في الكلمةِ التي هي مهموزةٌ فيجرِي كلامُهم بتَرْكِ هَمْزِها في حالٍ، وبهمزِها في أُخرى، كقولِهم: رأيتُ فلانًا. فجرَى كلامُهم بهمزِ "رأيتُ"، ثم قالوا: نرَى / وترَى ويَرى. فجرَى كلامُهم في "يفعل" ونظائرِها بتركِ الهمزِ، حتى صار الهمزُ معها شاذًّا، مع كونِ الهمزِ فيها أصلًا. فكذلك ذلك في "مَلَك وملائكة"، جرَى كلامُهم بتركِ الهمزِ من واحدِهم، وبالهمزِ
(1)
في م: "إذ".
(2)
في م: "قول".
(3)
في ص، ر، م:"ملك".
(4)
في ص: "فسقوطها"، وفي ر:"لسقوطها".
(5)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"ردرا".
(6)
سقط من: ص، م.
(7)
في الأصل: "فهمزوا".
في جميعِهم، وربما جاء الواحدُ منهم
(1)
مهموزًا، كما قال الشاعرُ
(2)
:
فلستَ بجنِّيٍّ
(3)
ولكنْ مَلْأَكًا
(4)
…
تحدَّر من جوِّ السماءِ يَصُوبُ
وقد يقالُ في واحدِهم: مألكٌ. فيكونُ ذلك مثلَ قولِهم: جبَذ وجذَب، وشَأْمَلَ وشمْأَل
(5)
. وما أشبهَ ذلك من الحروفِ المقلوبةِ
(6)
، غيرَ أن الذي يجبُ إذا سُمِّيَ واحدُهم: مألكٌ
(7)
، أن يُجمَعَ إذا جُمِعَ على ذلك: مآلكُ، ولستُ أحفظُ جمعَهُم كذلك سماعًا، ولكنهم قد يَجمعون: ملائِكُ، وملائِكةٌ، كما يُجْمَعُ أشعثُ: أشاعثُ وأشاعِثةٌ، ومِسْمَعٌ: مَسامعُ ومَسامِعَةٌ. قال أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ في جمعِهم كذلك
(8)
:
وفيها مِنْ عبادِ اللهِ قومٌ
…
ملائِكُ ذُلِّلوا وهُمُ صِعابُ
وأصلُ الملأكِ
(9)
الرسالةُ، كما قال عديُّ بنُ زيدٍ العِبَادِيُّ
(10)
:
(1)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(2)
تقدم تخريج البيت في ص 350.
(3)
في م: "لإنسى".
(4)
في م: "لملأك".
(5)
في ص: "شمل".
(6)
قلب الشيْء: حوله ظهرًا لبطن. والقلب المكاني باب من أبواب التصريف، يقع فيه تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، وأكثر ما يتفق القلب في المعتل والمهموز، وأكثر ما يكون بتقديم الآخر على متلوّه. وأنواعه كثيرة. ينظر التاج (ق ل ب)، وفهارس سيبويه، وفهارس المقتضب، والخصائص 2/ 88، وشرح الرضى على الشافية 1/ 21 فما بعدها. وينظر أيضًا القلب والإبدال لابن السكيت نشرة هفنر؛ ضمن مجموعة الكنز اللغوي.
(7)
في ص: "ملك".
(8)
ديوانه ص 62.
(9)
في ص: "الملك".
(10)
البيت في الأغاني 2/ 114، والعقد الفريد 5/ 261، وكتاب ليس في كلام العرب لابن خالويه =
أبلغِ النعمانَ عنى ملأكًا
(1)
…
أنه قد طال حَبْسِي وانتظارِي
(2)
وقد يُنشَدُ: مَأْلَكًا، على اللغةِ الأخْرَى. فمن قال: ملأَكًا. فهو "مَفْعَل"، من: [لأَك إليه يَلْأَكُ
(3)
]
(4)
، إذا أرسَل إليه رسالةً، مَلْأَكةً
(5)
. ومن قال: مَأْلَكًا. فهو "مَفْعَل"، من: ألَكتُ إليه ألِكُه
(6)
، إذا أرسلتَ إليه، مأْلكةً وأَلُوكًا. كما قال لَبيدُ ابنُ
(7)
ربيعةَ
(8)
:
وغُلامٍ أرسلَتْه أُمُّه
…
بأَلوكٍ فبَذَلْنا ما سأَلْ
فهذا من: ألَكت. ومنه قولُ نابغةِ بني ذُبيانَ
(9)
:
ألِكْنِي يا عُيَينَ إليك قولًا
…
[سأُهْدِيه
(10)
إليك إليك عنِّيْ]
(11)
وقال عبدُ بني الحَسْحاسِ
(12)
:
ألِكْنى إليها عَمْرَك اللهَ يا فتى
…
بآيةِ ما جاءت إلينا تهادِيَا
= ص 47. والرواية فيهن جميعًا: "مألكا".
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"مألكا".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"انتظار".
(3)
في م: "يلئك".
(4)
في ص: "لاك إليه يلك".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"ملكه".
(6)
في م: "ألك".
(7)
بعده في م: "أبي".
(8)
شرح ديوان لبيد ص 178.
(9)
ديوانه ص 197.
(10)
في الديوان: "سأبديه".
(11)
في م: "ستهديه الرواة إليك عني".
(12)
تقدم البيت وتخريجه في ص 104.
يعني بذلك: أبْلِغها رسالتِي. فسُمِّيتِ الملائكةُ ملائكةً بالرسالةِ؛ لأنَّها رسُلُ اللهِ بينَه وبينَ أنبيائِه ومَن أُرسِلتْ إليه مِن عبادِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعز: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ
(1)
قولِه: {إِنِّي جَاعِلٌ} ؛ فقال بعضُهم: إني فاعلٌ.
ذِكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنَا القاسمُ بنُ الحسنِ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن جريرِ بنِ حازمٍ
(2)
ومباركٍ، عن الحسنِ، وأبي بكرٍ - يعني الهُذَليَّ - عن الحسنِ وقتادةَ، قالوا: قال اللهُ تعالى ذِكْرُه لملائكتِه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} .
قال لهم: إني فاعلٌ
(3)
.
وقال آخرون: إني خالقٌ.
ذِكرُ من قال ذلك
حُدِّثت عن المنِجابِ بنِ الحارثِ، قال: حَدَّثَنَا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، قال: كلُّ شيْءٍ في القرآنِ "جعَل" فهو "خلَق"
(4)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
في ص: "خازم".
(3)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 98، 101 مطولا. وسيأتي بتمامه في ص 492. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 76 (315) من طريق سعيد بن سليمان، عن مبارك، عن الحسن به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 44 إلى المصنّف عن الحسن وحده.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 44 إلى المصنّف من قول الضحاك.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ في تأويلِ قولِه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} .
إنِّي مُستخلِفٌ فيها
(1)
خليفةً، ومُصَيِّرٌ فيها خُلَفاءَ
(2)
. وذلك شبيهٌ بتأويلِ قولِ الحسنِ وقتادةَ.
وقيل: إن الأرضَ التي ذكَرها اللهُ جل ثناؤُه في هذه الآيةِ هي مكةُ.
ذكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنَا ابنُ حميدٍ، قال: حَدَّثَنَا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن ابنِ سابطٍ، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "دُحِيتِ الأرضُ مِن مكَّةَ، وكانت الملائكةُ تطُوفُ بالبيتِ، فهي أولُ من طاف به، وهي الأرضُ التي قال اللهُ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . وكان النبيُّ إذا هلَك قومُه ونَجا هُوَ والصالحون، أتاها
(3)
هو ومَن معه فعبَدوا اللهَ بها حتى يموتوا، فإنَّ قبرَ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ وشعيبٍ بينَ زمزمَ والرُّكنِ والمَقامِ"
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {خَلِيفَةً} .
والخليفةُ الفَعِيلةُ، من قولِك: خلَف فلانٌ فلانًا في هذا الأمرِ
(5)
، إذا قام مَقامَه فيه بعدَه، كما قال تعالى ذكرُه. {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
(1)
في ر، م، ت 1، ت 2:"في الأرض".
(2)
في ص، ر:"خلقا".
(3)
في م: "أتى".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 76 (317) من طريق عطاء به مختصرًا، وعزاه السيوطي أيضًا في الدر المنثور 1/ 46 إلى ابن عساكر، وينظر مختصر تاريخ دمشق 27/ 156، 157. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 100: وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
(5)
في ر: "الإقرار".
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]. يَعْني بذلك أنه أبدَلكم في الأرضِ منهم، فجعلَكم خُلفاءَ [بعدَهم، ومن ذلك قيل للسلطانِ الأعظمِ: خليفةٌ. لأنه خلَف الذي كان قبلَه، فقام بالأمرِ مَقامَه، فكان منه خَلَفًا]
(1)
، يقالُ منه: خَلَف الخليفةُ يخلُفُ خِلافةً وخِلِّيفَي
(2)
.
وكان ابنُ إسحاقَ يقولُ بما حَدَّثَنَا
(3)
به ابنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} - يقولُ: ساكنًا وعامرًا يَسكُنُها ويَعْمُرُها - ليسَ خَلْقًا
(4)
منكم
(5)
.
وليس الذي قال ابنُ إسحاقَ في معنى "الخليفةِ" بتأويلِها
(6)
، وإن كان اللهُ تعالى ذكرُه إنما أخبَر ملائكتَه أنه جاعلٌ في الأرضِ خليفةً يَسكُنُها، ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.
فإن قال لنا قائلٌ: فما الذي كان في الأرضِ قبلَ بني آدمَ لها عامرًا، فكان بنو آدمَ منه بدلًا، وفيها منه
(7)
خَلَفًا؟
قيلَ: قد اختَلف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فحَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حَدَّثَنَا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ
(1)
سقط من: ت 1، ت 2.
(2)
الخليفي، بكسر الخاء وتشديد اللام المكسورة وفتح الفاء: الخلافة، وقيل: هو مبالغة في الخلافة لا نفسها، ويدل على كثرة الجهد في أمور الخلافة وتصريف أعنتها. التاج (خ ل ف).
(3)
في ر: "حدثكم".
(4)
في ر: "خلفا".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 76 (316) من طريق سلمة به. وسيأتي بتمامه في ص 496.
(6)
في ص: "بتأويلهما".
(7)
في الأصل: "منهم".
عباسٍ، قال: أولُ من سكَن الأرضَ الجنُّ، فأفسَدوا فيها، وسفَكوا
(1)
الدماءَ، وقتَل بعضُهم بعضًا. قال: فبعَث اللهُ إليهم إبليسَ في جندٍ مِن الملائكةِ، فقتَلهم إبليسُ ومن معه
(2)
، حتى ألحقُوهم
(3)
بجزائرِ البحورِ وأطرافِ الجبالِ، ثم خلَق اللهُ آدمَ فأسكَنه إياها، فلذلك قال:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
(4)
.
[فعلى هذا]
(5)
القولِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} من الجنِّ يَخلُفونهم
(6)
فيها فيسكُنونها ويَعْمُرُونها.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ في قولِه:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآية. قال: إن اللهَ خلَقَ الملائكةَ يومَ الأربعاءِ، وخلَق الجنَّ يومَ الخميسِ، وخلَق آدمَ يومَ الجمُعةِ، قال: فكفَر قومٌ مِن الجنِّ، فكانتِ الملائكةُ تهبِطُ إليهم في الأرضِ فتُقاتِلُهم، فكانت الدماءُ وكان الفسادُ في الأرضِ
(7)
.
وقال آخرون في تأويلِ قولِه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . أي: خُلَفاءَ
(8)
(1)
بعده في ر، م، ت 1، ت 2:"فيها".
(2)
في الأصل: "معهم".
(3)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"ألحقهم".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 101 عن المصنف.
وأخرجه الحاكم 2/ 261 من طريق مجاهد عن ابن عباس به بنحوه، وقال: صحيح الإسناد.
(5)
في ر: "فعنى بها".
(6)
في الأصل: "يخلقونه".
(7)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 84. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (882) من طريق ابن أبي جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 45 إلى المصنّف وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي العالية. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 77 (322).
(8)
في ر: "خلقا"، وفي م:"خلفا".
يخلُفُ بعضُهم بعضًا، وهم ولدُ آدمَ الذين يَخْلُفون أباهم آدمَ، ويَخْلُفُ كلُّ قرنٍ منهم القرنَ الذي سلَف قبلَه. وهذا قولٌ حُكِي
(1)
عن الحسنِ البصريِّ.
ونظيرٌ له ما حَدَّثَنَا به محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حَدَّثَنَا أبو أحمدَ الزّبيريُّ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن ابنِ سابطٍ في قولِه:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قال: يَعنُون به بني آدمَ
(2)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهب، قال: قال ابنُ زيدٍ: قال اللهُ للملائكةِ: إني أُرِيدُ أن أخلُقَ في
(3)
الأرضِ خَلْقًا، وأجعلَ فيها خليفةً. وليس للهِ يومئذٍ خَلْقٌ إلَّا الملائكةُ، والأرضُ ليس فيها خلقٌ
(4)
.
وهذا القولُ يَحْتَمِلُ ما حُكِي عن الحسنِ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ أراد ابنُ زيدٍ أن اللهَ تعالى ذِكْرُه أخبَر الملائكةَ أنه جاعلٌ في الأرضِ خليفةً له، يَحْكُمُ فيها بينَ خلْقِه بحُكْمِه، نظيرَ مَا حَدَّثَنِي به موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو ابنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ [عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ]
(5)
وعن ناسٍ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أن اللهَ جلَّ ثناؤُه قال للملائكةِ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} .
قالوا: ربَّنا وما يَكُونُ ذلك الخليفةُ؟ قال يكونُ له ذريةٌ يُفْسِدُون في الأرضِ
(1)
في الأصل: "يحكى".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 101 عن الثوري به. وينظر ما سيأتي في ص 491.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 101 عن ابن زيد. وهو جزء من الأثر الآتي في ص 495.
(5)
سقط من: ص.
وَيَتَحَاسَدونَ ويَقْتُلُ بعضُهم بعضًا
(1)
.
فكان تأويلُ الآيةِ على هذه الروايةِ التي ذكَرناها عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً منِّي يَخْلُفُني في الحكمِ بمنَ خَلْقِي، وذلك الخليفةُ هو آدمُ وَمَن قامَ مَقامَه في طاعةِ اللهِ، والحكمِ بالعدلِ بينَ خَلْقِه. وأما الإفسادُ وسفكُ الدماءِ بغيرِ حَقِّها فمن غيرِ خلفائِه، ومن غيرِ آدمَ ومَن قام مَقامَه في عبادِ اللهِ؛ لأنهما أخبرَا أن اللهَ تعالى ذِكْرُه قال لملائكتِه إذْ سألوه: ما ذاك الخليفةُ؟: إنه خليفةٌ تكونُ له ذريةٌ يُفْسِدون في الأرضِ ويتحاسَدون ويَقْتُلُ بعضُهم بعضًا. فأضاف الإفسادَ وسفْكَ الدماءِ بغيرِ حقِّها إلى ذريةِ خَليفتِه دونَه، وأخرَج منه خليفتَه.
وهذا التأويلُ وإن كان مخالفًا في معنى الخليفةِ ما حُكِي عن الحسنِ من وجهٍ، فموافقٌ له من وجهٍ، فأما موافقتُه إياه فصرْفُ متأوِّلِيه إضافةَ الإفسادِ في الأرضِ وسَفْكِ الدماءِ فيها إلى غيرِ الخليفةِ. وأما مخالفتُه إياه، فإضافتُهم الخلافةَ إلى آدمَ بمعنى استخلافِ اللهِ إياه فيها. وإضافةُ الحسنِ الخلافةَ إلى ولدِه، بمعنى خلافةِ بعضِهم بعضًا، وقيامِ قرْنٍ منهم مَقامَ قَرْنٍ قبلَهم، وإضافةِ الإفسادِ في الأرض وسَفْكِ الدماءِ إلى الخليفةِ.
والذي دعَا المتأوِّلين قولَه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
التأويلَ
(2)
الذي ذُكِر عن الحسنِ - إلى ما قالوا في ذلك؛ أنّهم قالوا: إن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 101 عن السدي به.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 77 (324) من طريق السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس وحده، نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 45 إلى عبد بن حميد. وسيأتي مطولا في ص 486 - 488، 509، 510.
(2)
في م: "في التأويل".
الملائكةَ إنما قالت لربِّها - إذ قال لهم ربُّهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} -: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . إخبارًا منها بذلك عن الخليفةِ الذي أخبَر اللهُ جلَّ ذِكْرُه أنه جاعِلُه في الأرضِ لا عن
(1)
غيرِه؛ لأنَّ [المحاورةَ بين]
(2)
الملائكةِ وبين ربِّها عنه جرتْ. قالوا: فإذ كان ذلك كذلك، وكان اللهُ تعالى ذِكْرُه قد برَّأ آدمَ من الإفسادِ في الأرضِ وسفْكِ الدماءِ، وطهَّره من ذلك، عُلِمَ أن الذي عُنِي به غيرُه من ذرِّيتِه. فثبَت أن الخليفةَ الذي يفسِدُ في الأرضِ ويَسفِكُ الدماءَ هو غيرُ آدمَ، وأنهم ولدُه الذين فعلُوا ذلك، وأن معنى الخلافةِ التي ذكَرها اللهُ إنما هي خلافةُ قرْنٍ منهم قرنًا، عندَهم
(3)
؛ لما وصَفْنا. وأغفَل قائلُو هذه المقالةِ ومتأوِّلو الآيةِ هذا التأويلَ سبيلَ التأويلِ، وذلك أن الملائكةَ - إذ قال لها ربُّها:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} - لَمْ تُضِفِ
(4)
الإفسادَ وسفْكَ الدماءِ في جوابِها ربَّها إلى خليفتِه في أرضِه، بل قالت:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . [وغيرُ مُنكرٍ أن يكونَ ربُّها أعلَمَها أنه يكونُ لخليفتِه ذلكَ ذريةٌ يكونُ منهم الإفسادُ وسفكُ الدماءِ [فقالت: يا ربَّنا، أتجعلُ فيها من يفسِدُ فيها ويسفِكُ الدماءَ]
(5)
]
(6)
. كما قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ ومَن حكَيْنا ذلك عنه من أهلِ التأويلِ
(7)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
في ر: "المجاورة من".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2:"غيرهم". وعندهم. يعني عند هؤلاء المتأولين.
(4)
في ص: "تصف"، وفي: ت 2: "يصف".
(5)
سقط من: ر.
(6)
سقط من: الأصل.
(7)
بعده في ص: "على الأصل المنقول منه بلغت من أوله قراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله الخصيبي عن أبي محمد الفرغاني عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي على بن أحمد بن =
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه خبرًا عن ملائكتِه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} .
إن قال لنا قائلٌ: وكيف قالتِ الملائكةُ لربِّها، إذ أخبَرها أنه جاعلٌ في الأرضِ خليفةً:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يكنْ آدمُ بعدُ مخلوقًا ولا ذريتُه، فيعلَموا ما يفعَلون عِياناً؟ أعلِمتِ الغيبَ فقالت ذلك، أم قالت ما قالت مِن ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادةٌ منها بالظنِّ، وقولٌ بما لا تعلمُ، وذلك ليس مِن صفتِها، أمْ ما وجهُ قِيلِها ذلك لربِّها؟
قيل: قد قالتِ العلماءُ من أهلِ التأويلِ في ذلك أقوالاً، ونحن ذاكِرو أقوالِهم في ذلك، ثم مُخْبِرون بأصحِّها برهانًا وأوضحِها حُجةً.
فرُوِي عن ابنِ عباسٍ في ذلك ما حدثنا به أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان إبليسُ مِن حيٍّ مِن أحياءِ الملائكةِ يقالُ لهم: الجنُّ
(1)
. خُلِقوا من نارِ السَّمومِ مِن بيِن الملائكةِ. قال: وكان اسمُه الحارثَ. قال: وكان خازنًا مِن خُزَّانِ الجَنَّةِ. قال: وخُلِقتِ الملائكةُ كلُّهم مِن نورٍ غيرَ هذا الحيِّ. قال: وخُلِقتِ الجنُّ الذين ذكِروا في القرآنِ من مارجٍ من نارٍ - وهو لسانُ النارِ الذي يكونُ في طرَفِها إذا أُلهِبَت - قال: وخلِق الإنسانُ [من طينٍ]
(2)
، فأولُ من سكَن الأرضَ الجنُّ، فأفسَدوا فيها وسفَكوا الدماءَ، وقتَل بعضُهم بعضًا. قال: فبعَث اللهُ جلَّ وعزَّ إليهم
= عيسى ونصر بن الحسن الطبري. وسمع أبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري من موضع سماعه. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربع مائة، بسم الله الرحمن الرحيم رب تمم".
(1)
في ص: "الحن".
(2)
سقط من: ص.
إبليسَ في جندٍ مِن الملائكةِ - وهم
(1)
هذا الحيُّ [الذين يُقالُ لهم: الجنُّ]
(2)
- فقتَلهم إبليسُ ومن معه حتى ألحَقَهم بجزَائرِ البُحورِ وأطرافِ الجبالِ، فلما فعَل إبليسُ ذلك اغترَّ
(3)
في نفسِه، وقال: قد صنَعْتُ شيئًا لم يَصْنَعْه أحدٌ. قال: فاطَّلع اللهُ على ذلك مِن قلبِه، ولم تطَّلِعْ عليه الملائكةُ الذين كانوا معه، فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه للملائكةِ [الذين معه]
(4)
: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . فقالتِ الملائكةُ مجيبِين له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ، كما أفسَدتِ الجنُّ وسفَكتِ الدماءَ، وإنما بعَثْتَنا
(5)
عليهم لذلك، فقال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
يقولُ: إني قد اطَّلعتُ من قلبِ إبليسَ على ما لم تطَّلعوا عليه من كِبْرِه واغْتِرارِه
(6)
.
قال: ثم أمَر بتربةِ آدمَ فرُفِعَت، فخلَق اللهُ آدمَ مِن طينٍ لازِبٍ - واللازِبُ اللَّزِجُ الطيِّبُ
(7)
- مِن حمأٍ مَسْنونٍ مُنْتِنٍ. قال: وإنما كان حمأً مسنونًا بعدَ الترابِ.
قال: فخلَق منه آدمَ عليه السلام بيدِه. قال: فمكَث أربعينَ ليلةً جسدًا ملقًى، فكان إبليسُ يَأْتِيه فيَضْرِبُه برِجْلِه فيُصَلْصِلُ - أي
(8)
: فيُصَوِّتُ - قال: فهو قولُ اللهِ تعالى ذكرُه: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)} [الرحمن: 14]. يقولُ: كالشيْءِ المنفوخِ
(9)
الذي ليس بمُصمَتٍ
(10)
. قال: ثم يَدْخلُ في فِيه ويَخرجُ من دُبُرِه،
(1)
في الأصل: "هو".
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
في الأصل، ص:"اعتز".
(4)
سقط من: ص.
(5)
في ص، م:"بعثنا"، وفي ت 2:"بغينا"، وفي ت 1:"بقينا".
(6)
في الأصل، ص:"اعتزازه".
(7)
في ص، ر، م، ت 1:"الصلب".
(8)
زيادة من: م.
(9)
في ر، ت 2:"المنفرج".
(10)
المصمت: الذي لا جوف له. اللسان (ص م ت).
ويَدْخلُ من دُبُرِه، ويَخرُجُ من فِيه، ثم يقولُ: لستَ شيئًا للصلصلةِ، ولشيْءٍ ما خُلقتَ، لئن سُلِّطتُ عليك لأُهْلِكَنَّك، ولئن سُلِّطْتَ عليَّ لَأَعْصِيَنَّك. قال: فلما نفَخ اللهُ فيه من رُوحِه، أتَتِ النَّفخةُ مِن قِبلِ رأسِه فجعَل لا يَجرِي شيْءٌ منها في جسدِه إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهتِ النفخةُ إلى سُرَّتِه نظَر إلى جسدِه، فأعْجَبه ما رأى مِن حُسنِه، فذهَب ليَنهضَ فلم يَقدِرْ، فهو قولُ اللهِ عز وجل: {وَكَانَ
(1)
الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11]. قال: ضجِرًا لا صبْرَ له على سَرَّاءَ ولاضَرّاءَ. قال: فلما تمَّتِ النفخةُ في جسدِه عطَس فقال: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين. بإلهامِ اللهِ له، فقال اللهُ له: يَرْحَمُك اللهُ يا آدمُ. قال: ثم قال اللهُ للملائكةِ الذين كانوا مع إبليسَ خاصةً دونَ الملائكةِ الذين في السماواتِ: اسْجُدوا لآدمَ. فسجَدوا كلُّهم أجمعون إلا إبليسَ أبَى واستكبر، لما كان
(2)
حدَّث به
(3)
نفسَه مِن كِبْرِه واغتِرارِه
(4)
، فقال: لا أسجدُ له، وأنا خيرٌ منه، وأكبر سنًّا وأقوى خلقًا، {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]،. يقولُ: إن النارَ أقْوَى مِن الطيِن. قال: فلما أبَى إبليسُ أن يسجدَ أبْلَسَه اللهُ، أي
(5)
: آيَسَه مِن الخيرِ كلِّه، وجعَله شيطانًا رَجيمًا عقوبةً لمعصيتِه.
ثم علَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها، وهي هذه الأسماءُ التي يَتعارَفُ بها الناسُ؛ إنسانٌ ودابةٌ وأرضٌ وسهلٌ وبحرٌ وجبلٌ
(6)
وحمارٌ، وأشباهُ ذلك مِن الأممِ وغيرِها، ثم عرَض
(1)
في الأصل، ص، ر، ت 1، ت 2:"خلق"، وفي الدر المنثور:"خلق الإنسان من عجل"، وفي تفسير ابن كثير تركت على الخطأ كما جاءت في المخطوطات الخمس المذكورة.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
سقط من: الأصل، ر.
(4)
في ص: "اعتزازه".
(5)
سقط من: الأصل، وفي م:"و".
(6)
في ص: "حبل".
هذه الأسماءَ على أولئك الملائكةِ - يعني الملائكةَ الذين كانوا مع إبليسَ الذين خُلِقوا مِن نارِ السمومِ - وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} . يقولُ: أخْبِرُوني بأسماءِ هؤلاء، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}:[إن كنتم]
(1)
تَعلمون لمَ
(2)
أجعَلُ في الأرضِ خليفةً. قال: فلمّا علِمتِ الملائكةُ مُؤاخذةَ
(3)
اللهِ عليهم فيما تكلَّموا به من علمِ الغيبِ الذي لا يعلمُه غيرُه، الذي ليس لهم به علمٌ، قالوا:{سُبْحَانَكَ} - تَنزيهًا للهِ مِن أن يكونَ أحدٌ يعلمُ الغيبَ غيرَه - تبنا إليك، {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} - تَبَرِّيًا منهم من علمِ الغيبِ - {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} كما علَّمْتَ آدمَ. فقال:{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} . يقولُ: أخبِرْهم بأسمائِهم، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}. [يقولُ: أخبَرَهم]
(4)
بأسمائهم، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أيها الملائكةُ خاصةً:{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، ولا يَعْلَمُه غيري، {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}. يقول: ما تُظْهِرون، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. يقول: أعلمُ السرَّ كما أعلمُ العَلانيةَ، يعني ما
(5)
كتَم إبليسُ في نفسِه مِن الكبْرِ والاغْتِرارِ
(6)
.
وهذه الروايةُ عن ابنِ عباسٍ تُنبئُ عن أن قولَ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَإِذْ قَالَ
(1)
في ص، ر، م:"أنكم".
(2)
في ص، م، ت 2:"أنى".
(3)
في ص: "موجدة".
(4)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(5)
في ص، ر:"مما".
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 84، 90، 92، 95، 97، 100 مفرقًا.
وعزاه ابن كثير في تفسيره 1/ 108 إلى المصنف بطوله، وقال عقبه: هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور.
رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. خطابٌ مِن اللهِ عز وجل لخاصٍّ مِن الملائكةِ دونَ الجميعِ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكةِ كانوا قبيلةَ إبليسَ خاصةً، الذين قاتَلوا معه جنَّ الأرضِ قبلَ خلقِ آدمَ، وأن اللهَ إنما خصَّهم بقيلِ ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً؛ ليعرِّفَهم قصورَ علْمِهم وفضْلَ كثيرٍ ممَّن هو أضعفُ خَلْقًا منهم من خَلْقِه عليهم، وأن كرامتَه لا تُنالُ بقُوَى الأبدانِ وشدةِ الأجسامِ، كما ظنَّه إبليسُ عدوُّ اللهِ، ومُصَرِّحٌ
(1)
بأن قِيلَهم لربِّهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . كانت هَفْوةً منهم ورَجْمًا بالغيبِ، وأن اللهَ أطْلَعَهم على مكروهِ ما نطَقوا به مِن ذلك، ووقَّفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطَقوا مِن رَجْمِ الغيْبِ بالظُّنونِ، وتبرَّءُوا إليه من أن يَعْلَمَ الغيبَ غيرُه، وأظْهَر لهم مِن إبليسَ ما كان مُنطوِيًا عليه من الكِبْرِ الذي قد كان عنهم مسْتَخْفِيًا.
وقد رُوِي عن ابنِ عباسٍ خلافُ هذه الروايةِ، وهو ما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لما فرَغ اللهُ مِن خلقِ ما أحبَّ، استوى على العرشِ، فجعَل إبليسَ على مُلْكِ سماءِ الدنيا، وكان من قبيلةٍ من الملائكةِ يُقالُ لهم: الجنُّ. وإنما سُمُّوا الجنَّ لأنهم خُزَّانُ الجَنَّةِ، وكان إبليسُ مع مُلكِه خازنًا، فوقَع في صدرِه كِبْرٌ، وقال: ما أعطاني اللهُ هذا إلا لمزيدٍ
(2)
لي - هكذا قال موسى ابنُ هارونَ، وقد حدَّثني به
(3)
غيرُه
(4)
فقال: لمَزِيَّةٍ لي - على الملائكةِ. فلما وقَع
(1)
في ر: "تصرح"، وفي م، ت 1، ت 2:"يصرح".
(2)
في الأصل، وتاريخ المصنف:"لمزية".
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
هو أحمد بن أبي خيثمة، كما صرح المصنف باسمه في تاريخه 1/ 86.
ذلك الكِبْرُ في نفسِه، اطَّلَع اللهُ على ذلك منه، فقال اللهُ للملائكةِ:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . قالوا: ربَّنا، وما يكونُ ذلك الخليفةُ؟ قال: يكونُ له ذريةٌ يُفْسِدُون في الأرضِ ويتحاسَدون ويَقْتُلُ بعضُهم بعضًا. قالُوا: ربَّنا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . يعني من شأنِ إبليسَ. فبعَث جبريلَ عليه السلام إلى الأرضِ ليَأْتِيَه بطِينٍ منها، فقالتِ الأرضُ: إني أعوذُ باللهِ منك أن تَنقُصَ مني أو تَشِينَني. فرجَع ولم يأخُذْ، وقال: ربِّ إنها عاذَت بك فأعذْتُها. فبعَث اللهُ مِيكائيلَ، فعاذَت منه فأعاذها، فرجَع فقال كما قال جبريلُ، فَبعَث مَلَكَ الموتِ، فعاذت منه، فقال: وأنا أَعوذُ باللهِ أن أرجِعَ ولم أُنْفِذْ أمْرَه. فأخَذ مِن وجهِ الأرضِ وخلَط، فلم يَأْخُذْ من مكانٍ واحدٍ، وأخَذ مِن تُرْبةٍ حمراءَ وبيضاءَ وسوداءَ، فلذلك خرَج بنو آدمَ مُخْتَلِفين، فصَعِد به فبلَّ الترابَ حتى عاد طينًا لازبًا - واللازبُ هو الذي يَلْتَزِقُ بعضُه ببعضٍ - ثم تُرِك حتى أنْتَن وتغَيَّر، فذلك حينَ يقولُ:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} [الحجر: 26]. قال: مُنْتِنٍ. ثم قال للملائكةِ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71، 72]. فخلَقه اللهُ بيدَيْه، لكَيْلا يَتكبَّرَ إبليسُ عنه ليقولَ له: تتكبَّرُ عما عمِلْتُ بيديَّ، ولم أتكبَّرْ أنا عنه؟ فخلَقه بشرًا، فكان جسدًا من طينٍ أربعين سنةً مِن مقدارِ يومِ الجمعةِ، فمرَّت به الملائكةُ، ففزِعوا منه لمَّا رأَوْه، وكان أشدَّهم منه فزَعًا إبليسُ، فكان يمرُّ به فيضرِبُه، فيُصَوِّتُ الجسدُ كما يُصَوِّتُ الفَخَّارُ، وتَكُونُ له صَلْصَلةٌ، فذلك حينَ يقولُ:{مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)} [الرحمن: 14]. ويقولُ: لأمرٍ ما خُلِقْتَ. ودخَل مِن
(1)
فِيه فخرَج مِن دُبُرِه. فقال للملائكةِ: لا تَرْهَبوا مِن هذا، فإن ربَّكم صَمَدٌ وهذا أجوفُ،
(1)
سقط من: الأصل، م.
لئن سُلِّطْتُ عليه لَأُهْلِكَنَّه. فلمَّا بلَغ الحينَ الذي يُريدُ اللهُ جلَّ ثناؤُه أن يَنفُخَ فيه الرُّوحَ، قال للملائكةِ: إذا نفَخْتُ فيه مِن رُوحي فاسْجُدوا له. فلمّا نفَخ فيه الرُّوحَ فدخَل الرُّوحُ في رأسِه، عطَس، فقالت له الملائكهُ: قل: الحمدُ للهِ. فقال: الحمدُ للهِ. فقال له اللهُ: رحِمك ربُّك. فلما دخَل الروحُ في عينَيْهِ نظَر إلى ثِمارِ الجَنَّةِ، فلمّا دخَل في جوفِه اشْتهَى الطعامَ، فوثَب قبلَ أن تَبْلُغَ الروحُ رجليْه عَجْلانَ إلى ثمارِ الجَنَّةِ، فذلك حينَ يقولُ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]. {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر 30، 31] أي
(1)
: استكبر وكان من الكافرين. قال اللهُ له: ما منَعك أنْ تَسجدَ إذ أمَرتُك لِما خلقْتُ بيدَيَّ. قال: أنا خيْرٌ منه لم أَكُنْ لأَسْجُدَ لبشرٍ خلقتَه من طينٍ. قال اللهُ له: اخْرُجْ منها فما يَكُونُ لك - يعني: ما يَنْبغي لك - أنْ تَتَكَبَّرَ فيها، فاخْرُجْ إنك مِن الصاغِرين. والصَّغارُ هو الذُّلُّ. قال: وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها، ثم عرَض الخلْقَ على الملائكةِ فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} [البقرة: 31] أنَّ بني آدمَ يُفسِدون في الأرضِ ويَسفِكون الدماءَ. فقالوا له: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال اللهُ: {يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال: قولُهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . فهذا الذي أبْدَوْا، وأَعْلمُ ما كنتم تكْتُمون، يعني ما أسَرَّ إبليسُ في نفسِه من الكِبْرِ
(2)
.
(1)
في م: "أبي".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 81، 85، 86، 90، 93، 94، 100 مفرقا.
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (773)، وابن عساكر في تاريخه 7/ 377، 378 من طريق عمرو بن حماد به، دون قوله: قال الله له: اخرج منها فما يكون لك
…
فهذا الخبرُ أولُه مُخالِفٌ معْناه معنى الروايةِ التي رُوِيتْ عن ابنِ عباسٍ مِن روايةِ الضحاكِ التي قدمْنا ذِكْرَها قبلُ، وموافقٌ معنى آخرِه معناها، وذلك أنه ذُكِر في أوَّلِه أن الملائكةَ سأَلت ربَّها: ما ذاك الخليفةُ؟ حين قال لها: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . فأجابها أنه تكونُ له ذُرِّيةٌ يُفسِدُون في الأرضِ وَيَتَحَاسَدُون ويَقتلُ بعضُهم بعضًا، فقالت الملائكةُ حينئذٍ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . فكان قولُ الملائكةِ ما قالت لربِّها من ذلك بعدَ إعلامِ اللهِ إياها أن ذلك كائنٌ من ذريةِ الخليفةِ الذي يجعَلُه في الأرضِ. فذلك معنى خلافِ أولِه معنى خبرِ الضحاكِ الذي ذكرْناه.
وأما موافقتُه إياه في آخرِه، فهو قولُهم في تأويلِ قولِه:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن بني آدمَ يفسِدون في الأرضِ ويَسْفِكون الدماءَ، وأن الملائكةَ قالت - إذ قال لها ربُّها ذلك - تَبَرِّيًا مِن علمِ الغيبِ:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
وهذا إذا تدَبَّره ذو الفهمِ، علِم أنَّ أولَه يُفْسِدُ آخرَه، وأن آخِرَه يُبطِلُ معنى أولِه، وذلك أن اللهَ تعالى ذكره إن كان أخبَر الملائكةَ أن ذريةَ الخليفةِ الذي يَجْعَلُه في الأرضِ تُفْسِدُ فيها وتَسْفِكُ الدماءَ، فقالتِ الملائكةُ لربِّها:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . فلا وجهَ لتوبيخِها على أن أخْبَرَت عمَّن أخبَرَها اللهُ عنه أنه يُفسِدُ في الأرضِ ويَسفِكُ الدماءَ، بمثلِ الذي أخْبَرَها عنهم ربُّها، فيَجُوزَ أن يُقالَ لها فيما طوَى عنها مِن العلومِ: إن كنتم صادقين فيما علِمْتُم بخبرِ اللهِ إياكم أنه كائنٌ مِن الأمورِ فأخْبَرْتُم به، فأخْبِرونا بالذي قد طوَى اللهُ عنكم علمَه، كما قد أخْبَرْتُمونا بالذي قد أطْلَعَكم اللهُ [على علمِه]
(1)
- بل ذلك خُلْفٌ مِن التأويلِ، ودعوَى على اللهِ
(1)
في م: "عليه".
ما لا يَجوزُ أن يكونَ [له صفةً، وأخْشَى أن يَكُونَ بعضُ نَقَلةِ هذا الخبرِ هو الذي غَلِط على مَن رواه عنه مِن الصحابة]
(1)
، وأن يكونَ التأويلُ منهم
(2)
كان في
(3)
ذلك: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما ظنَنْتم أنكم أدْرَكْتموه مِن العلمِ بخبَري إياكم أن بني آدمَ يُفسِدون في الأرضِ ويَسفِكون الدماءَ، حتى اسْتَجَزْتم أن تَقُولوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . فيكونُ التَّوْبيخُ حينئذٍ واقعًا على ما ظنُّوا أنهم قد أدْرَكوا بقولِ اللهِ لهم: إنه يكونُ له ذريةٌ يُفسِدون في الأرضِ ويَسفِكون الدماءَ. لا على إخبارِهم بما أخبرهم اللهُ به أنه كائنٌ، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤه وإن كان أخبَرهم عما يكونُ مِن بعضِ ذريةِ خليفتِه في الأرضِ، ما يكونُ منه فيها مِن الفسادِ وسَفْكِ الدماءِ، فقد كان طوَى عنهم الخبرَ عما يكونُ من كثيرٍ منهم بما يكونُ مِن طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحِهم
(4)
في أرضِه وحَقْنِ الدماءِ، ورفعِه [منزلتَهم، وكرامتِهم]
(5)
عليه، فلم يُخْبِرْهم بذلك، فقالتِ الملائكةُ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} على ظنٍّ منها - على تأويلِ هذيْن الخبرَيْن اللذيْن ذكَرْتُ وظاهرِهما - أن جميعَ ذريةِ الخليفةِ الذي يُجعَلُ
(6)
في الأرضِ يُفسِدون فيها، ويَسفِكون فيها الدماءَ، فقال اللهُ لهم، إذ علَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنكم تَعْلَمون أن جميعَ بني آدمَ يُفسِدون في الأرضِ ويَسفِكون الدماءَ، على ما
(1)
سقط من: ر.
(2)
في الأصل: "عنهم".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"على".
(4)
في ر: "إصلاحه".
(5)
في ر: "منزلته وكرامته".
(6)
في م: "يجعله".
ظننْتُم في أنفسِكم. إنكارًا منه لِقيلِهم ما قالوا مِن ذلك على الجميعِ والعمومِ، وهو مِن صفةِ خاصِّ ذريةِ الخليفةِ منهم. وهذا الذي ذكَرْنا هو صفةٌ منا لتأويلِ الخبرِ لا القولُ الذي نَخْتارُه في تأويلِ الآيةِ.
ومما يَدُلُّ على ما ذكَرْنا مِن توجيهِ مَخرجِ
(1)
خبرِ الملائكةِ عن إفسادِ ذريةِ الخليفةِ وسَفْكِها الدماءَ على العمومِ ما حدَّثنا به أحمدُ
(2)
بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ قولَه:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} .
قال: يعْنون الناسَ
(3)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا به بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . فاستشارَ
(4)
الملائكةَ في خلقِ آدمَ، فقالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . وقد علِمتِ الملائكةُ مِن علمِ اللهِ أنه لا شيْءَ أكْرَهُ إلى اللهِ مِن سَفْكِ الدماءِ والفسادِ في الأرضِ، {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فكان في علمِ اللهِ أنه سيكونُ مِن تلك
(5)
الخليفةِ أنبياءُ ورسلٌ، وقومٌ صالحون، وساكِنو
(6)
الجَنَّةِ. قال: وذُكِر لنا أن ابنَ عباسٍ كان يقولُ: إن اللهَ لما أخَذ في خلقِ آدمَ قالتِ الملائكةُ: ما اللهُ خالقٌ خلقًا أكرمَ عليه منَّا، ولا أعلمَ
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "بن أحمد".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 78 (326) من طريق أبي أحمد الزبيري به. وينظر ما تقدم في ص 479.
(4)
في م: "فاستخار".
(5)
سقط من: ص، وفي م:"ذلك".
(6)
في الأصل، ص:"ساكن".
منَّا. فابْتُلوا بخلقِ آدمَ - وكلُّ خلقٍ مُبْتلًى -كما ابْتُلِيَتِ السماواتُ والأرضُ بالطاعةِ، فقال اللهُ:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
(1)
[فصلت: 11].
وهذا الخبرُ عن قتادةَ يَدُلُّ على أن قتادةَ كان يرَى أن الملائكةَ قالت ما قالت مِن قولِها: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . على غير
(2)
يقينِ علمٍ تقَدَّم منها بأن ذلك كائنٌ، ولكن على الرأيِ منها والظنِّ، وأن اللهَ جلَّ ثناؤُه أنكَر ذلك مِن قيلِها، وردَّ عليها ما رأَت بقولِه:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . مِن أنه يكونُ مِن ذريةِ ذلك الخليفةِ الأنبياءُ والرسلُ والمُجْتَهِدُ في طاعةِ اللهِ.
وقد رُوِي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويلِ، وهو ما حدَّثنا به الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . قال: كان اللهُ أعلمَهم
(3)
إذا كان في الأرضِ خلقٌ أَفْسَدوا فيها، وسفَكوا الدماءَ، فذلك قولُه:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}
(4)
.
وبمثلِ قول قتادةَ قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويل، منهم الحسنُ البصريُّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن جريرِ بنِ حازمٍ ومبارَكٍ، عن الحسنِ، وأبي بكرٍ، عن الحسنِ وقتادةَ، قالا: قال اللهُ لملائكتِه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . قال لهم: إني فاعلٌ. فعرَضُوا برأيِهم، فعلَّمهم علمًا، وطوَى عنهم علمًا علِمه لا يَعْلَمونه، فقالوا بالعلم الذي علَّمهم: {أَتَجْعَلُ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 100، 101. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 399 من طريق شيبان، عن قتادة، نحوه. وينظر ما سيأتي في ص 510.
(2)
من هنا إلى قوله: "قال: علمه اسم". ص 493 سقط من المخطوط الأصل.
(3)
بعده في ص، ر:"أنَّه"، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 102.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 78 (325) عن الحسن بن يحيى به.
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}. وقد كانت الملائكةُ علِمتْ مِن علمِ اللهِ أنه لا ذنبَ أعَظمَ عندَ اللهِ مِن سَفْكِ الدماءِ، {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فلما أخَذ في خلقِ آدمَ همَستِ الملائكةُ فيما بينَها، فقالوا: ليخْلُقْ ربُّنا ما شاء أن يَخْلُقَ، فلم يَخْلُقَ خَلقًا إلا كنّا أعلمَ منه، وأكرمَ عليه منه. فلمّا خلَقه ونفَخ فيه مِن روحِه، أمَرهم أن يَسجدوا له لِمَا قالوا، ففضَّله عليهم، فعلِموا أنهم ليسوا بخيرٍ منه، فقالوا: إن لم نَكنْ خيرًا منه، فنحن أعلمُ منه؛ لأنا كنا قبلَه، وخُلِقتِ الأممُ قبلَه. فلما أُعْجِبوا بعلمِهم ابْتُلُوا، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنى لا أَخْلُقُ خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأَخْبروني بأسماءِ هؤلاء إنْ كنتم صادقينَ. قال: ففزِع القومُ إلى التوبةِ - وإليها يَفْزَعُ كلُّ مؤمنٍ - فقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . لقولِهم: لِيَخْلُقْ ربُّنا ما شَاء، فلن يَخْلُقَ خلقًا أكرمَ عليه منا، ولا أعلمَ منا. قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيْءٍ؛ هذه الخَيْلُ
(1)
، وهذه البِغالُ، والإبلُ، والجنُّ، والوحشُ، وجعَل يُسمى كلَّ شيْءٍ باسمِه، وعُرِضَت عليه أمَّةً أمَّةً:{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال: أما ما أبْدَوْا فقولُهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . وأمَّا ما كتَموا فقولُ بعضِهم لبعضٍ: نحن خيرٌ منه وأعلمُ
(2)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"الجبال".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 98، 101، 103 بتمامه. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 77 =
حدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ الآمُليُّ، قال: حدَّثنا إسحاقُ بن الحجاجِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ في قولِه:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآية. قال: إنَّ اللهَ خلَق الملائكةَ يومَ الأربعاءِ، وخلَق الجنَّ يومَ الخميسِ، وخلَق آدمَ يومَ الجمعةِ. قال: فكفَر قومٌ مِن الجنِّ، فكانتِ الملائكةُ تهْبِطُ إليهم في الأرضِ فتُقاتِلُهم، فكانتِ الدماءُ، وكان الفسادُ في الأرضِ، فمِن ثمَّ قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية
(1)
.
[حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ بمثلِه]
(2)
.
حدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن غيرِ
(3)
الربيع ابنِ أنسٍ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . إلى قولِه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال: وذلك حينَ قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . قال: فلما عرَفوا أنه جاعلٌ في الأرضِ خليفةَ، قالوا بينَهم: لن يَخلُقَ اللهُ خلقًا إلا كنا نحن أعلمَ منه وأكرمَ. فأراد اللهُ جلَّ ذكرُه أن يُخبرَهم أنه قد فضَّل عليهم آدمَ، وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها، فقال للملائكةِ. {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. إلى قولِه:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . فكان
= (323) من طريق مبارك، عن الحسن به مختصرًا. وقد تقدم مختصرًا في ص 475. وينظر تاريخ دمشق 7/ 399.
(1)
تقدم في ص 478.
(2)
في ص: "حدثنا محمد بن جرير قال".
(3)
سقط من: ر.
الذي أبْدَوْا حينَ قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . وكان الذي كتَموا بينَهم قولَهم: لن يَخْلُقَ ربُّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلمَ منه وأكرمَ. فعرَفوا أن اللهَ فضَّل عليهم آدمَ في العلمِ والكرمِ
(1)
.
وقال ابنُ زيدٍ: لما حدَّثني به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لمّا خلَق اللهُ النارَ ذُعِرَت منها الملائكةُ ذُعْرًا شديدًا، وقالوا: ربَّنا لمَ خلَقْتَ هذه النارَ، ولأيِّ شيْءٍ خلَقْتَها؟ قال: لِمَن عصاني مِن خَلْقي. قال: ولمْ يَكُنْ للهِ
(2)
خَلْقٌ يومَئذٍ إلا الملائكةُ، والأرضُ ليس فيها خلقٌ، إنما خُلِق آدمُ بعدَ ذلك. وقرَأ قولَ اللهِ عز وجل:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ: يا رسولَ اللهِ، ليتَ ذلك الحينَ
(3)
. ثم قال: وقالتِ الملائكةُ: يا ربِّ، أو يأتي علينا دهرٌ نعصِيك فيه! - لا يَرَون له خلقًا غيرَهم - قال: لا، إني أُرِيدُ أن أَخلُقَ في الأرضِ خلْقًا، وأَجعَلَ فيها خَليفةً
(4)
، يَسفِكون الدماءَ ويُفْسِدون في الأرضِ. فقالت الملائكةُ: أتَجعلُ في الأرض مَن يفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ وقد اختَرتَنا؟ فاجْعَلْنا نحن فيها، فنحن نُسبِّحُ بحمدِك ونُقدِّسُ لك، ونعمَلُ فيها بطاعتِك. وأعظَمت الملائكةُ أن يَجْعَلَ اللهُ في الأرضِ مَن يَعْصِيه، فقال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . {يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} . فقال: فلانٌ، وفلانٌ. قال: فلما رأَوْا ما أعْطاه اللهُ مِن العلمِ عليهم
(5)
،
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 102، 103 بهذا الإسناد عن الربيع. ووقع فيه: حدثنا عمار بن الحسن.
(2)
في الأصل، ر:"الله".
(3)
أي: ليت الإنسان بقى شيئا غير مذكور، خوفا من يوم القيامة.
وقول عمر أخرجه ابن المبارك في الزهد (235)، وأبو عبيد في الفضائل ص 70. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 297 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ص، م:"خليقة".
(5)
سقط من: م.
أقرُّوا لآدمَ بالفضلِ عليهم، وأبي الخبيثُ إبليسُ أن يُقِرَّ له، قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}
(1)
[الأعراف: 12، 13].
وقال ابنُ إسحاقَ بما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: لما أراد اللهُ أن يَخلُقَ آدمَ بقدرتِه ليَبْتَليَه ويَبْتَليَ به، لعلمِه بما في ملائكتِه وجميعِ خلقِه - وكان أولَ بلاءٍ ابتُلِيَت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحِبُّ وما تَكْرَهُ، للبلاءِ والتَّمْحيصِ لما فيهم مما لم يَعْلَموا، وأحاط به علمُ اللهِ منهم - جمَع
(2)
الملائكةَ مِن سكاتِ السماواتِ والأرضِ، ثم قال:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . يقول: ساكنًا وعامرًا ليَسْكنَها ويَعْمُرَها، خَلْقًا
(3)
ليس منكم. ثم أخْبَرَهم بعلمِه فيهم، فقال: يُفْسِدون في الأرضِ ويَسفِكون الدماءَ ويَعمَلون بالمعاصي. فقالوا جميعًا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . لا نَعْصِي، ولا نَأْتي شيئًا كرِهْتَه، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(4)
أي
(5)
: فيكم ومنكم - ولم يُبْدِها لهم - مِن المعصيةِ والفسادِ وسفكِ الدماءِ وإتيانِ ما أَكْرَهُ منهم، مما يكونُ في الأرضِ مما ذكَرْتُ في بني آدمَ.
قال اللهُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِين} . إلى قولِه: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 69 - 72].
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 45 إلى المصنف مختصرًا. وينظر الدر المنثور 6/ 297.
(2)
في الأصل، م:"جميع".
(3)
في ر: "خلفا".
(4)
بعده في ص، 1، م، ت 1، ت 2:"قال".
(5)
بعده في م: "إني أعلم".
فذكَر لنبيِّه صلى الله عليه وسلم الذي كان مِن ذِكرِه آدمَ صلى الله عليه وسلم حينَ أراد خلقَه، ومُراجعةِ الملائكةِ إياه فيما ذكَر لهم منه، فلما عزَم اللهُ تعالى ذكرُه على خلْقِ آدمَ قال للملائكةِ:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 28]. بيدَيْه تَكْرِمةً له، وتَعْظيمًا لأمرِه، وتَشْريفًا له، حفِظَتِ الملائكةُ عهدَه، ووَعَوْا قولَه، وأجْمَعوا لطاعتِه، إلا ما كان مِن عدوِّ اللهِ إبليسَ، فإنه صمَت على ما كان في نفسِه مِن الحسدِ والبغْيِ والتكَبُّرِ والمعصيةِ.
وخلَق اللهُ آدمَ عليه السلام مِن أَدَمةِ الأرضِ؛ مِن طينٍ لازبٍ مِن حمَأٍ مسنونٍ بيديه، تكرِمةً له، وتَعْظيمًا لأمرِه، وتَشْريفًا له على سائرِ خلْقِه.
قال ابنُ إسحاقَ: فيُقالُ واللهُ أعلمُ: خلَق اللهُ آدمَ، ثم وضَعه يَنْظُرُ إليه أربعين عامًا قبلَ أن يَنْفُخَ فيه الرُّوحَ حتى عاد صَلصالًا كالفَخارِ، ولم تَمسسْه نارٌ. قال: فيُقالُ واللهُ أعلمُ: إنه لمَّا انْتَهى الروحُ إلى رأسِه عطَس، فقال: الحمدُ للهِ. فقال له رُّبه: يَرْحَمُك
(1)
ربُّك. ووقَع الملائكةُ حينَ اسْتَوَى سجودًا له؛ حفظًا لعهدِ اللهِ الذي عهِد إليهم، وطاعةً لأمرِه الذي أمَرهم به، وقام عدوُّ اللهِ إبليسُ مِن بينِهم فلم يَسْجُدْ، مُكابِرًا مُتَعَظِّمًا، بَغْيًا وحسدًا، فقال له:{يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . إلى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 75 - 85]. قال: فلمَّا فرَغ اللهُ مِن إبليسَ ومن مُعاتَبتِه، وأبَى إلا المعصيةَ، أوْقَع عليه اللعنةَ، وأخْرَجه مِن الجَنَّةِ، ثم أقْبَل على آدمَ وقد علَّمه الأسماءَ كلَّها، فقال:{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي: إنما أجَبْناك فيما علَّمْتَنا، فأما ما لم
(1)
في الأصل: "رحمك".
تُعَلِّمْنا فأنت أعْلَمُ به، فكان ما سمَّى آدمُ مِن شيْءٍ، كان إسمَه الذي هو عليه إلى يومِ القيامةِ
(1)
.
وقال ابنُ جُرَيْجٍ بما حدَّثنا به القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: إنما تكَلَّموا بما أعْلَمَهم أنه كائنٌ مِن خلقِ آدمَ، فقالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}
(2)
.
وقال بعضُهم: إنما قالتِ الملائكةُ ما قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . لأن الله تعالى ذكرُه أذِن لها في السؤالِ عن ذلك بعد ما أخْبَرَها أن ذلك كائنٌ مِن بني آدمَ، فسألَتْه الملائكةُ، فقالت على التعجبِ منها: وكيف يَعْصُونك يا ربِّ وأنتَ خالقُهم؟ فأجابهم ربُّهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
يعني أن ذلك كائنٌ منهم وإن لم تَعْلَموه أنتم، ومِن بعضِ مَن تَرَوْنه لي طائعًا، يُعَرِّفُهم بذلك قُصورَ علمِهم عن علمِه.
وقال بعضُ أهلِ العربيةِ: قولُ الملائكةِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . على غيرِ وجهِ الإنكارِ منهم على ربِّهم، وإنما سأَلوه ليعْلَموا، وأخْبَروا عن أنفسِهم أنهم يُسَبِّحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرِهوا أن يُعْصَى اللهُ؛ لأن الجنَّ قد كانت أُمِرَتْ قبلَ ذلك فعَصَتْ.
وقال بعضُهم: ذلك مِن الملائكةِ على وجهِ الاسْتِرْشادِ عما لم يَعْلَموا مِن ذلك، فكأنهم قالوا: ياربِّ خَبِّرْنا. مسألةَ اسْتِخْبارٍ منهم للهِ، لا على وجهِ مسألةِ التوبيخِ. قال أبو جعفرٍ: وأولَى هذه التأويلاتِ بقولِ اللهِ تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن ملائكتِه
(1)
أخرج المصنف بعضه في تاريخه 1/ 93، 95، 104، وتقدم طرف منه في ص 477.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 102.
قيلَها له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . تأويلُ مَن قال: إن ذلك منها اسْتِخْبارٌ لربِّها، بمعنى: أعْلِمْنا ياربَّنا، أجاعلٌ أنت في الأرضِ مَن هذه صفتُه، وتاركٌ أن تجْعَلَ [خليفتَك فيها]
(1)
منا، ونحن نُسَبِّحُ بحمدِك ونُقَدِّسُ لك. لا إنكارًا منها لِما أعْلَمَها ربُّها أنه فاعلٌ، وإن كانت قد استَعظَمَتْ لمَّا أُخبِرَت بذلك أن يكونَ للهِ خلقٌ يَعْصِيه.
وأما دَعْوى مَن زعَم أن اللهَ كان أذِن لها بالسؤالِ عن ذلك، فسأَلَتْ على وجهِ التعجبِ، فدَعْوى لا دَلالةَ عليها في ظاهرِ التنزيلِ، ولا خبرَ بها عن
(2)
الحُجَّةِ يَقْطَعُ العُذْرَ، وغيرُ جائزٍ أن يُقالَ في تأويلِ كتابِ اللهِ بما لا دَلالةَ عليه مِن بعضِ الوجوهِ التي تَقومُ بها الحُجَّةُ.
وأما وصفُ الملائكةِ مَن وصَفَت - في استخبارِها ربَّها عنه - بالفسادِ في الأرضِ وسفْكِ الدماءِ، فغيرُ مُسْتحيلٍ فيه
(3)
ما رُوِي عن ابن عباسٍ وابنِ مسعودٍ مِن القولِ الذي رواه السديُّ، ووافَقَهما عليه قَتادةُ مِن التأويلِ، وهو أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه أخبَرهم أنه جاعلٌ في الأرضِ خليفةً تكونُ له ذريةٌ يفعَلون كذا وكذا، فقالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . على ما وصَفتُ من الاستخبارِ.
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجهُ اسْتِخْبارِها، والأمرُ على ما وصَفْتَ مِن أنها قد أُخْبرَت أن ذلك كائنٌ؟
قيل: وجهُ اسْتِخْبارِها حينَئذٍ يكونُ عن حالِهم عندَ
(4)
وقوعِ ذلك، وهل
(1)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"خلفاءك".
(2)
في م: "من".
(3)
في ص: "منه".
(4)
في ر، م:"عن".
ذلك منهم؟ ومسألتُهم ربَّهم أن يَجْعَلَهم الخلفاءَ في الأرضِ حتى لا يَعْصُموه.
وغيرُ فاسدٍ أيضًا ما رواه الضحاكُ عن ابنِ عباسٍ، وتابَعه عليه الربيعُ بنُ أنسٍ، مق أن الملائكةَ قالت ذلك لِما كان عندها مِن علمِ سُكانِ الأرضِ قبلَ آدمَ من الجنِّ، فقالت لربِّها: أجاعلٌ فيها أنت مثلَهم مِن الخلْقِ يَفْعَلون مثلَ الذي كانوا يَفْعَلون؟ على وجهِ الاسْتِعلامِ منهم لربِّهم، لا على وجهِ الإيجابِ أن ذلك كائنٌ كذلك، فيَكونَ ذلك منها إخبارًا عما لم تَطَّلِعْ عليه مِن علمِ
(1)
الغيبِ.
وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابنُ زيدٍ مِن أن يكونَ قِيلُ الملائكَةِ ما قالت كان
(2)
على وجهِ التعجبِ منها مِن أن يكونَ للهِ خلقٌ يَعْصِي خالقَه.
وإنما ترَكْنا القولَ بالذي رواه الضحاكُ عن ابنِ عباسٍ، ووافَقه عليه الربيعُ، وبالذي قاله ابنُ زيدٍ في تأويلِ ذلك؛ لأنه لا خبرَ عندَنا بالذي قالوه مِن وجهٍ يَقْطَعُ مجيئُه العذرَ، ويَلْزَمُ سامعَه به الحجةُ، والخبرُ عما قد مضَى وما قد سَلَف لا يُدْرَكُ علمُ صحتِه إلا بمجيئِه مَجيئًا يَمْتَنِع منه التشاغُبُ
(3)
والتَّواطُؤُ، ويَسْتَحيلُ فيه
(4)
الكذبُ والخطأُ والسَّهْوُ، وليس ذلك بموجودٍ كذلك فيما حكاه الضحاكُ عن ابنِ عباسٍ، [ووافقه عليه الربيعُ]
(5)
، ولا فيما قاله ابن زيدٍ.
فأولَى التأويلاتِ إذ كان الأمرُ كذلك بالآيةِ، ما كان عليه مِن ظاهرِ التنزيلِ دَلالةٌ مما يَصِحُّ مَخْرَجُه في المفهومِ.
(1)
في ص: "ظهر".
(2)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"من ذلك".
(3)
في ص: "الشاعر".
(4)
في ص، ر، م:"منه".
(5)
سقط من: الأصل، ص.
فإن قال قائلٌ: فإن كان أوْلَى التأويلاتِ بالآيةِ هو ما ذكَرْتَ، مِن أن اللهَ تعالى ذِكْرُه أخْبَر الملائكةَ بأن ذريةَ خليفتِه في الأرضِ يُفسِدون فيها ويَسفِكون فيها الدماءَ، فمِن أجلِ ذلك قالتِ الملائكةُ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . فأَين ذِكْرُ إخبارِ اللهِ تعالى ذِكْرُه إياهم بذلك في كتابِه؟
قيل له: اكْتُفي بدَلالةِ ما قد ظهَر مِن الكلامِ عليه عنه، كما قال الشاعر
(1)
:
[فلا تَدْفِنوني إنَّ دَفْني مُحَرَّمٌ]
(2)
…
عليكم ولكنْ خامِرِي
(3)
أمَّ عامرِ
فحذَف قولَه: دعُوني للتي يُقالُ لها [إذا أُريد]
(4)
صيدُها: خامِرِي أمَّ عامرٍ
(5)
.
إذ كان فيما ظهَر مِن كلامِه دلالةٌ على معنى مرادِه، فكذلك ذلك في قولِه:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} لمّا كان فيه دَلالةٌ على ما ترَك ذكرَه بعد قولِه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} مِن الخبرِ عما يَكونُ مِن إفسادِ ذريتِه في الأرضِ، اكْتَفَى بدلالتِه، فحذَف وترَك ذِكْرَه، كما ذكَرْنا مِن قولِ الشاعرِ، ونظائرُ ذلك في القرآنِ وأشعارِ العربِ وكلامِها أكثرُ مَن أن يُحْصَى، فلِمَا ذكَرْنا مِن ذلك
(6)
اخْتَرْنا ما اخترْنا مِن القولِ في تأويلِ قولِه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} .
(1)
في نسبة البيت خلاف، وأكثر الرواية تنسبه إلى الشَّنْفَري - ينظر الشعر والشعراء 1/ 80، والأغاني 21/ 182، وشرح الحماسة للمرزوقي 2/ 487، وأمالي ابن الشجري 1/ 360 - وبعضها ينسبه إلى تأبط شرًّا. ينظر الحيوان 6/ 450، وأمالي المرتضى 2/ 73.
(2)
رواية الحيوان: فلا تقبروني إن قبري محرم.
(3)
رواية الأصفهاني، والمرزوقي:"أبشرى".
(4)
في م: "عند".
(5)
أم عامر هي الضبع، ويضرب بها المثل فيُشَبَّه بها الأحمق فيقال: خامري أم عامر، ينظر عقلاء المجانين ص 25، 26، ومجمع الأمثال 1/ 422.
(6)
بعده في ص: "ما ذكرنا".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} .
أما قولُه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} . فإنه يَعْني: إنا نعظِّمُك بالحمدِ لك والشكرِ، كما قال الله تعالى ذكرُه:[{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}]
(1)
[النصر: 3]. وكما قال: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5]. وكلُّ ذكرٍ للهِ عندَ العربِ فتَسْبيحٌ وصلاةٌ، يقولُ الرجلُ منهم: قضَيْتُ سُبْحَتِي
(2)
مِن الذكرِ والصلاةِ. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاة الملائكةِ.
حدَّثنا ابن حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرِ بنِ أبي المُغيرةِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فمرَّ رجلٌ مِن المسلمين على رجلٍ مِن المنافِقين، فقال له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وأنت جالسٌ! فقال له: امْضِ إلى عملِك إن كان لك عملٌ. فقال: ما أَظنُّ إلا سيَمُرُّ عليك مَن يُنْكِرُ عليك. فمرَّ عليه عمرُ بنُ الخطابِ، فقال له: يا فلانُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وأنت جالسٌ! فقال له مثلَها، فقال: هذا مِن عمَلي. فوثَب عليه، فضرَبه حتى انْبَهَر
(3)
، ثم دخَل المسجدَ، فصلَّى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما انْفَتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم قام إليه عمرُ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، مرَرْتُ آنفًا على فلانٍ وأنت تُصَلِّي، فقلت له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وأنت جالسٌ! فقال: مُرَّ
(4)
إلى عملِك إن كان لك عملٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَهَلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ".
فقام عمرُ مُسْرِعًا، فقال: "يا عمرُ، ارجِعْ، فإن غضبَك عِزٌّ، ورضاك حُكمٌ، إن للهِ
(1)
في ر: "نسبح بحمدك".
(2)
السبحة: الدعاء، وصلاة التطوع، والنافلة. التاج (س ب ح).
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"ابتهر"، وفي م:"انتهى". والبُهرُ: انقطاع النفس من الإعياء، وقد انبهر وابتهر: أي تتابع نَفَسه. التاج (ب هـ ر).
(4)
في م: "سر".
في السماواتِ السبعِ ملائكةً يُصلُّونَ له غِنًى
(1)
عن صلاةِ فُلانٍ". فقال عمرُ: يا نبيَّ اللهِ، وما صلاتُهم؟ فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، فأتاه جبريلُ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، سأَلك عمرُ عن صلاةِ أهلِ السماءِ؟ قال: "نَعَمْ". قال: اقْرَأْ على عمرَ السلامَ، وأخْبِرْه أن أهلَ سماءِ الدنيا سجودٌ إلى يومِ القيامةِ يَقُولون: سبحانَ ذي المُلكِ والملكوتِ. وأهلَ السماء الثانيةِ ركوعٌ
(2)
إلى يومِ القيامةِ يَقُولون: سُبْحانَ ذي
(3)
العزّةِ والجَبَروتِ. وأهلَ السماءِ الثالثةِ قيامٌ إلى يومِ القيامةِ يقولون: سبحانَ الحيِّ الذي لا يموتُ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ وسهلُ بنُ موسى الرازيُّ، قالا: حدَّثنا ابنُ عُلَيةَ، قال: أخْبَرَنا الجُرَيْريُّ، عن أبي عبدِ اللهِ الجسْريِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ الصامتِ، عن أبي ذَرٍّ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أو أن أبا ذَرٍّ عاد النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:"يا رسولَ اللهِ، بأبي أنت، أيُّ الكلامِ أحبُّ إلى اللهِ جلَّ وعزَّ؟ فقال: "ما اصطَفى اللهُ لملائكتِه؛ سبحانَ ربي وبحمدِه، سبحانَ ربِّي وبحمدِه"
(5)
.
في أشكالٍ لما ذكَرْنا مِن الأخبارِ، كرِهْنا إطالةَ الكتابِ باسْتِقْصائِها.
(1)
في الأصل: "غَناء". وهما بمعنى.
(2)
في الأصل، ص، ر:"قيام".
(3)
كذا في الأصل، م، والحلية، وكتب فوقه في الأصل:"رب" وفي ص، ر، ت 1، ت 2:"رب".
(4)
إسناده مرسل، ولا يصح وصله. أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 277 من طريق ابن حميد به. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه ص 62 (ترجمة عمر طبعة الرسالة) من طريق يعقوب به، مختصرا. وأخرجه ابن عدي 6/ 2289، وابن عساكر ص 61، 62 من طريق يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، وعن أنس، مختصرا. وصوب ابن عدي المرسل.
(5)
أخرجه الترمذي (3593) من طريق ابن علية به. وأخرجه أحمد 5/ 148، 161، 176 (الميمنية)، ومسلم (2731)، من طرق عن الجريري به نحوه. وينظر العلل للدارقطني 6/ 245، 246.
وأصلُ التسبيحِ للهِ عندَ العربِ التنزيهُ له مِن إضافةِ ما ليس مِن صفاتِه إليه، والتبْرِئةُ له مِن ذلك، كما قال أعْشَى بني ثَعْلبةَ
(1)
:
أَقُولُ لمَّا جاءني فخْرُه
…
سبحانَ مِن عَلْقَمةَ الفاخِرِ
يريدُ: سبحانَ اللهِ مِن فخْرِ علقمةَ. أي: تنزيهًا
(2)
للهِ مما أتَى علقمةُ مِن الافْتِخارِ. على وجهِ النكيرِ
(3)
منه لذلك.
وقد اختَلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك التسبيحِ والتقْدِيسِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: قولُهم
(4)
: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} : نُصَلِّي لك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال: يَقُولون
(5)
: نُصَلِّي لك
(6)
.
وقال آخَرون: نُسَبِّحُ لك التسبيحَ المعلومَ.
(1)
ديوانه ص 143.
(2)
في ر: "تبرئة".
(3)
في ص، ر:"التكبر"، ت 2:"التنكير".
(4)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"قوله".
(5)
في الأصل: "يقول".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 46 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 79 (330) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي من قوله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} . قال: التسبيحُ: التسبيحُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} .
والتقْديسُ هو التطهيرُ والتعظيمُ، ومنه قولُهم: سُبُّوحٌ قُدّوسٌ. يعني بقولِهم: سُبُّوحٌ. تنزيهٌ للهِ جلَّ وعزَّ، وبقولِهم: قُدُّوسٌ. طهارةٌ له وتعظيمٌ. ولذلك قيل للأرضِ: أرضٌ مُقَدَّسةٌ. يعني بذلك المُطَهَّرةَ.
فمعنى قولِ الملائكةِ إذن: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} : نُنَزِّهُك ونُبَرِّئُك مما يُضيفُه إليك أهلُ الشركِ بك، ونُصَلِّي لك. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} . نَنْسِبُك إلى ما هو مِن صفاتِك من الطهارةِ من الأدناسِ، وما أضاف إليك أهلُ الكفرِ بك.
وقد قيل: إن تقديسَ الملائكةِ لربِّها صلاتُها له، كما حدَّثنا به الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَنُقَدِّسُ لَكَ} . قال: التقديسُ: الصلاةُ
(2)
.
وقال بعضهم: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} : نُعَظِّمُك ونُمَجِّدُك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هاشمُ بنُ القاسمِ، قال: حدَّثنا أبو
(1)
تفسير عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 46 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 79 (329) عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 46 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 79 (332) عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
سعيدٍ المُؤَدِّبُ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . قال: نُعَظِّمُك ونُمَجِّدُك
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثني عيسى، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِ اللهِ:{وَنُقَدِّسُ لَكَ} . قال: نُعَظِّمُك ونُكَبِّرُك
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} : لا نعصِي ولا نأتي شيئًا تَكرهُه
(3)
.
حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَنُقَدِّسُ لَكَ} . قال: التقديسُ: التطهيرُ
(4)
.
وأما قولُ مَن قال: التقديسُ: الصلاةُ، أو
(5)
: التعظيمُ. فإن معنى قولِه ذلك راجعٌ إلى نحوِ
(6)
المعنى الذي ذكَرْنا مِن التطهيرِ، من أجلِ أن صلاتَها لربِّها تعظيمٌ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ص 113 (334، 335 - تحقيق د. أحمد عبد الله العماري) من طريق سفيان، عن إسماعيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 46 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 199، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره ص 113 (333 - تحقيق د. أحمد عبد الله العماري) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 46 إلى عبد بن حميد. وينظر تفسير الثوري ص 44.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 103، وتقدم بتمامه في ص 496.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 103، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 79 (331) عن أبي زرعة، عن منجاب، عن بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس.
(5)
في ر، ت 1، ت 2:"و".
(6)
سقط من: ر، م.
منها له، وتطهيرٌ مما يَنسِبُه إليه أهلُ الكفرِ به.
ولو كان
(1)
مكانَ: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} : ونُقَدِّسُك. كان فصيحًا مِن الكلامِ، وذلك أن العربَ تقولُ: فلانٌ يُسَبِّحُ اللهَ ويُقَدِّسُه، ويُسَبِّحُ للهِ ويُقَدِّسُ له.
بمعنًى واحدٍ، وقد جاء بذلك القرآنُ، قال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} [طه: 33]. وقال في موضعٍ آخرَ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1].
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: يعني بقولِه: {أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مما اطلَع عليه مِن إبليسَ، وإضمارِه المعصيةَ للهِ وإخْفائِه الكبْرَ، مما اطلَع عليه تعالى ذكرُه منه، وخفِي على ملائكتِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ العلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . يقولُ: إني قد اطلَعتُ مِن قلبِ إبليسَ على ما لم تَطَّلِعوا عليه مِن كِبْرِه [واغترارِه]
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ،
(1)
في ص، م:"قال".
(2)
في الأصل: "واعتزازه". وتقدم الأثر بتمامه في ص 482 وما بعدها.
وعن مُرةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يعني: مِن شأنِ إبليسَ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمد، وحدَّثنا محمدُ ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا مؤمَّلٌ، قالا جميعًا: حدَّثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . قال: علِم من إبليسَ المعصيةَ وخلَقَه لها
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقيُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ بشرٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عليِّ بنِ بَذِيمةَ، عن مُجاهِدٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن عليِّ بنِ بذيمةَ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بنِ عبد الرحمنِ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّة، عن مُجاهدٍ في قولِه:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . قال: علِم من إبليسَ المعصيةَ وخلَقه لها.
حدَّثني جعفرُ
(4)
بنُ محمدٍ البُزُوريُّ، قال: حدَّثنا الحسنُ بنُ بشرٍ، عن حمزةَ
(1)
تقدم بتمامه في ص 486 - 488.
(2)
أخرجه ابن عيينة في تفسيره -كما في الدر المنثور 1/ 46 - وعنه سعيد بن منصور في سننه (184 - تفسير) عن ابن أبي نجيح وغيره، عن مجاهد. وهو في تفسير مجاهد ص 199. وأخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية ص 60 من طريق ابن جريج، عن مجاهد. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (938) عن أبيه، عن محمد بن بشر به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 79 (334) من طريق علي بن بذيمة به.
(4)
في الأصل: "يعقوب".
الزياتِ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
قال: علِم مِن إبليسَ كتْمانَه الكِبْرَ ألا يسْجُدَ لآدمَ.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ
(1)
، قال: وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا ابو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
قال: علِم مِن إبليسَ المعصيةَ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، - عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، عن سفيانَ، قال: قال مجاهدٌ في قولِه: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . قال: علِم مِن إبليسَ المعصيةَ، وخلَقه لها. وقال مرةً: آدمَ.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا حجاجُ بنُ المنهالِ، قال: حدَّثنا المعتمِرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت عبدَ الوهابِ بنَ مجاهدٍ يُحدِّثُ عن أبيه في قولِه: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(4)
. قال: علِم مِن إبليسَ المعصيةَ وخلَقه لها، وعلِم مِن آدمَ الطاعةَ وخلَقه لها.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ
(1)
بعده في ر: "عن ابن أبي نجيح عن مجاهد".
(2)
أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (891) من طريق شبل به، بزيادة: وخلقه لها.
(3)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 46 - ومن طريقه عبد الله بن أحمد في السنة (938).
(4)
في ص: "يعلمون".
طاوسٍ، عن أبيه والثورىِّ، عن علىِّ بنِ بَذِيمةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . قال: علِم مِن إبليسَ المعصيةَ وخلَقه لها
(1)
.
وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ
(2)
إسحاقَ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: فيكم ومنكم -ولم يبْدِها لهم- مِن المعصيةِ والفسادِ وسَفْكِ الدماءِ
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنى أعلمُ ما لا تعلمونَ من أنَّه يكونُ من تلك
(4)
الخليفةِ أهلُ الطاعةِ والولايةِ للهِ جلَّ ذكْرُه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : فكان في علمِ اللهِ أنه سيَكونُ مِن [تلك الخليفةِ]
(5)
أنبباءُ ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو
(6)
الجنةِ
(7)
.
وهذا الخبرُ من اللهِ تعالى ذكرُه يُنبئُ عن أن ملائكتَه التى قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . استَفْظَعَت أن يكونَ للهِ جلَّ ثناؤُه خَلْقٌ يَعْصِيه، وعَجِبَتْ منه إذ أخْبِرت أن ذلك كائنٌ فلذلك قال لهم ربهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
(1)
تفسير عبد الرزاق -كما في الدر المنثور 1/ 46 - وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في الأمالى (195).
(2)
في ر: "أبي".
(3)
تقدم مطولًا في ص 496.
(4)
في م: "ذلك".
(5)
في م: "ذلك الخليفة"، وفى ت 1:"تلك الخليقة".
(6)
في الأصل، وتفسير ابن أبى حاتم:"ساكن"، وفى ر، ت 1:"ساكنون".
(7)
جزء من الأثر المتقدم في ص 491، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 79 (335) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 46 إلى عبد بن حميد.
تَعْلَمُونَ} يَعْنى بذلك واللهُ أعلمُ: إنكم لتَعْجَبون مِن أمرٍ
(1)
وتَسْتَفْظِعونه، وأنا أعلمُ أنه في بعضِكم، وتصِفون أنفسَكم بصفةٍ أعلمُ خلافَها مِن بعضِكم، وتُعَرِّضون بأمرٍ قد جعَلْتُه لغيرِكم. وذلك أن الملائكةَ [قالت لربِّها]
(2)
-لمّا أخبَرها ربُّها بما هو كائنٌ مِن ذريةِ خليفتِه من الفسادِ وسَفْكِ الدماءِ- قالت لربِّها: ربَّنا، أجاعلٌ أنت في الأرضِ خليفةً مِن غيرِنا، [يكونُ مِن ذريَّتِه]
(3)
من يَعْصِيك أم منا، فإنا نعَظِّمُك ونصَلِّى لك ونُطِيعُك ولا نَعْصِيك؟ -ولم يكنْ عندَها علمٌ بما قد انطوى كَشْحًا عليه إبليسُ من استكبارِه على ربِّه- فقال لهم ربُّهم: إنِّى أعلمُ غيرَ الذى تقُولونَ من بعضِكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم مِن أمرِ إبليسَ وانْطِوائِه على ما كان قد انْطَوَى عليه مِن الكِبْرِ، وعلى قِيلِهم ذلك، ووصْفِهم أنفسَهم بالعمومِ من الوصفِ، عُوتِبوا.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ} .
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميْدٍ، قال: حدَّثنا يعقوبُ القُمِّىُّ، عن جعفرِ بنِ أبى المغيرةِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: بعَث ربُّ العِزَّةِ تعالى ذِكْرُه إبليسَ
(4)
، فأخَذ مِن أَديمِ الأرضِ مِن عذْبِها ومِلْحِها، فخلَق منه آدمَ، ومِن ثَمَّ سُمِّى آدمَ؛ لأنه خُلِق مِن أَديمِ الأرضِ
(5)
.
(1)
في م: "أمر الله".
(2)
سقط من: ر، ت 1، ت 2.
(3)
في الأصل: "تكون ذريته تعصيك واجعله".
(4)
في م: "ملك الموت".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 90، 91، وفيه زيادة، وينظر تفسير عبد الرزاق 1/ 43.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 380 من طريق يعقوب القمى به نحوه.
وأخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (816) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس=
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرىُّ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ ثابتٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن علىٍّ، قال: إن آدمَ خُلِق مِن أديمِ الأرضِ، فيه الطَّيِّبُ والصالحُ والرَّدِئُ، فكلُّ ذلك أنت راءٍ في ولدِه، الصالحَ والردئَ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا مِسْعَرٌ، عن أبى حَصِينٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: خُلِق آدمُ مِن أَدِيمِ الأرضِ، فسُمِّىَ آدمَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو داودَ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن أبي حَصِينٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: إنما سُمِّىَ آدمَ لأنه خُلِق مِن أَدِيمِ الأرضِ
(3)
.
حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكره عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أن مَلَكَ الموتِ لمَّا بُعِث ليأْخُذَ مِن
= مختصرًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 47 إلى المصنف وابن سعد وابن أبى حاتم وابن عساكر مطولًا. وأخرجه ابن سعد 1/ 26 - ومن طريقه ابن عساكر 7/ 379، 380 - من طريق آخر، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن مسعود. وابن جبير لم يدرك ابن مسعود.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 91. وعمرو بن ثابت ضعيف.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 91. وأخرجه ابن سعد 1/ 26 من طريق مسعر به.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 91. وأخرجه ابن سعد 1/ 26 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 7/ 387 - من طريق شعبة به. وأخرجه ابن عساكر 7/ 386 من طريق الثورى، عن أبي حصين أو غيره، عن سعيد بن جبير. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 49 إلى عبد بن حميد. وأخرجه ابن عساكر أيضا 7/ 387 من طريق إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس، بزيادة ستأتى من طريق آخر عن سعيد في تفسير الآية 115 من سورة طه.
الأرضِ تُرْبةَ آدمَ، أخَذ مِن وجهِ الأرضِ وخلَط، فلم يَأْخُذْ مِن مكانٍ واحدٍ، وأخَذ مِن تربةٍ حمراءَ وبيضاءَ وسوداءَ، فلذلك خرَج بنو آدمَ مُخْتَلِفين، ولذلك سُمِّىَ آدمَ؛ لأنه أُخِذ مِن أَدِيمِ الأرضِ
(1)
.
وقد رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خبرٌ يُحَقِّقُ ما قال مَن حكَينا قولَه في معنى "آدمَ"، وذلك ما حدَّثنى به يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن عوفٍ، وحدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ وعمرُ بنُ شَبَّةَ، قالا: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا عوفٌ، وحدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ ومحمدُ بنُ جعفرٍ وعبدُ الوهَّابِ الثَّقَفىُّ، قالوا: حدَّثنا عوفٌ، وحدَّثنى محمدُ بنُ عُمارةَ الأسَدىُّ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ أبانٍ، قال: حدَّثنا عَنْبَسةُ، عن عوفٍ الأعْرابىِّ، عن قَسامةَ بنِ زُهَيْرٍ، عن أبى موسى الأشْعَرىِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ خَلَقَ آدمَ مِن قَبْضَةٍ قَبَضَها مِن جَميعِ الأرْضِ، فجاء بنو آدمَ على قَدْرِ الأرْضِ، جاء منهم الأحْمرُ والأسْودُ والأبْيضُ، وبينَ ذلك، [والسهْلُ والحَزْنُ]
(2)
، والخبَيثُ وَالطيِّبُ"
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في ص 488.
(2)
في الأصل: "الحزن والسهل".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 91 بزيادة في آخره. وأخرجه الترمذى (2955)، وأبو الشيخ في العظمة (1014) من طريق ابن بشار به. وأخرجه أحمد 4/ 400، 406 (الميمنية)، وأبو داود (4693)، وابن حبان (6181)، وأبو الشيخ (1015) من طريق يحيى بن سعيد به. وأخرجه أحمد 4/ 400 (الميمنية) عن محمد بن جعفر به.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 43، وابن سعد 1/ 26، وأحمد 4/ 400، 406 (الميمنية)، وعبد بن حميد (548)، وأبو داود (4693)، وابن حبان (6160)، والحاكم 2/ 261، وأبو نعيم في الحلية 3/ 104، 8/ 135، والبيهقى في الأسماء والصفات (715، 815)، وابن عساكر في تاريخه 7/ 374 من طرق أخرى عن عوف به. وقال الترمذى: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
قال أبو جعفرٍ: فعلى التأويلِ الذى تأوَّل "آدمَ" مَن تأَوَّله بمعنى أنه خُلِق مِن أَدِيمِ الأرضِ، يَجِبُ أن يكونَ أصلُ "آدمَ" فعلًا سُمِّىَ به أبو البَشرِ، كما سُمِّىَ أحمدُ بالفِعلِ من الإحْمادِ، وأسعدُ مِن الإِسعادِ، فلذلك لم يُجْرَ
(1)
. ويَكونُ تأويلُه حينَئذٍ: آدَمَ المَلَكُ الأرضَ. يعنى به: بلَغ أَدَمَتَها -وأَدَمَتُها: وجهُها الظاهرُ لرَأْىِ العينِ، كما
(2)
جِلْدةُ كلِّ [ذى جِلدٍ]
(3)
له أَدَمةٌ، ومِن ذلك سُمِّىَ الإدامُ إدامًا؛ لأنه صار كالجِلْدةِ العليا مما هى منه- ثم نُقِل مِن الفعلِ فجُعِل اسمًا للشخصِ بَعيْنِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الأسماءِ التى علَّمَها آدمَ ثم عرَضها على الملائكةِ؛ فقال ابنُ عباسٍ بما حدَّثنا به أبو كرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال
(4)
: علَّم اللهُ آدمَ الأسماءَ كلَّها، وهى هذه الأسماءُ التى يَتَعارَفُ بها الناسُ؛ إنسانٌ، ودابةٌ، وأرضٌ، وسهلٌ، وبحرٌ، وجبلٌ، وحمارٌ، وأشباهُ ذلك مِن الأممِ وغيرِها
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، وحدَّثنى المُثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيْفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ
(1)
أي لم يُصْرف، والإجراء الصرف. ينظر المصطلح النحوى ص 166.
(2)
بعده في م: "أن".
(3)
في ص: "شيء".
(4)
في ت 1، ت 2:"فلما".
(5)
تقدم بتمامه في ص 482 - 485.
في قولِ اللهِ تعالى ذِكرُه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: [ما خلَق اللهُ كلَّه]
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وَكِيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهِدٍ:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ
(2)
.
حدَّثنا علىُّ بنُ الحسنِ
(3)
، قال: حدَّثنا مُسلمٌ الجَرْمِىُّ، عن محمدِ بنِ مُصْعَبٍ، عن قَيْسِ بنِ الربيعِ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهدٍ، قال: علَّمه اسمَ الغُرابِ والحَمامةِ، واسمَ كلِّ شيءٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن شَريكٍ، عن سالمِ الأفْطَسِ، عن سعيدِ ابنِ جُبَيْرٍ، قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ، حتى البعيرِ والبقرةِ والشاةِ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن شَريكٍ، عن عاصمِ بنِ كُلَيبٍ، عن سعيدِ
(6)
بنِ مَعْبَدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: علَّمه اسمَ
(7)
القَصْعةِ والفَسْوةِ
(8)
والفُسَيَّةِ
(9)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"علمه اسم كل شيء".
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 97، وهو في تفسير مجاهد ص 199.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 97. وأخرجه ابن أبي حاتم 1/ 80 (338) من طريق سفيان، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، بلفظ: علمه كل دابة وكل طير وكل شيء.
(3)
في ص، ت 1:"الحسين".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 82 (351) من طريق قيس به.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 98. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 49 إلى وكيع.
(6)
في الأصل: "سعد".
(7)
بعده في ت 1: "كل شيء حتى".
(8)
في ت 2: "القوس".
(9)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 80 (337) من طريق عاصم به. وسعيد بن معبد مجهول.
حدَّثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا شَريكٌ، عن عاصمِ ابنِ كُلَيْبٍ، عن الحسنِ بنِ سعدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: حتى الفَسْوَةِ والفُسَيَّةِ
(1)
.
حدَّثنا على بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا مسلمٌ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ مُصْعبٍ، عن قيسٍ، عن
(2)
عاصمِ بنِ كُلَيْبٍ، عن سعيدِ بنِ مَعْبَدٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ، حتى الهَنَةِ والهُنَيَّةِ، والفَسْوةِ والضَّرْطةِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا على بنُ مُسْهِرٍ، عن عاصمِ ابنِ كُلَيْبٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: علَّمه القَصْعةَ مِن القُصَيْعَةِ، والفَسْوةَ مِن الفُسَيَّةِ
(4)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قَولَه:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . حتى بلَغ: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} : فأنْبَأ كلَّ صنفٍ مِن الخلقِ باسمِه، وألْجأه إلى جنسِه
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: علَّمه اسمَ كلِّ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 97.
(2)
في الأصل، ص:"ابن".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 97.
(4)
عاصم بن كليب لم يدرك ابن عباس كما في الأسانيد قبله.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 98. وينظر تاريخ دمشق 7/ 399.
شيءٍ؛ هذا جبلٌ، وهذا بحرٌ، وهذا كذا، وهذا كذا، لكلِّ شيءٍ، ثم عرَض تلك الأسماءَ
(1)
على الملائكةِ، فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن جَريرِ بنِ حازمٍ ومباركٍ، عن الحسنِ، وأبى بكرٍ، عن الحسنِ وقتادةَ، قالا: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ، هذه الخيلُ، وهذه البِغالُ، والإبلُ، والجنُّ، والوحشُ، وجعَل يُسَمِّى كلَّ شيءٍ باسمِه
(3)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الله بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن غيرِ
(4)
الربيعِ، قال: اسمَ كلِّ شيءٍ.
وقال آخَرون: علَّم آدمَ أسماءَ الملائكةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الله بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: أسماءَ الملائكةِ
(5)
.
وقال آخَرون: إنما علَّمه أسماءَ ذُرِّيَّتِه.
(1)
في م: "الأشياء".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 98. وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 42، 43.
(3)
تقدم بتمامه في ص 493.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 99 عن عبدة المروزى، عن عمار بن الحسن به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . قال: أسماءَ ذُرّيتِه كلِّهم
(1)
أجْمَعين
(2)
.
قال أبو جعفر: وأولَى هذه الأقوالِ بالصوابِ وأشْبهُها بما دلَّ على صحتِه ظاهرُ التِّلاوةِ، قولُ مَن قال في قولِه:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . أنها أسماءُ ذرِّيَّتِه وأسماءُ الملائكةِ، دون أسماءِ سائرِ أجناسِ الخلقِ، وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه قال:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} . يعْنى بذلك أعيانَ المُسَمَّيْن بالأسماءِ التى علَّمها آدمَ. ولا تَكادُ العربُ تَكْنى بالهاءِ والميمِ إلا عن أسماءِ بنى آدمَ والملائكةِ. فأما إذا كَنَتْ عن أسماءِ البَهائمِ وسائرِ الخلقِ سوى مَن وصَفْنا، فإنها تَكْنِى عنها بالهاءِ والألفِ، أو
(3)
بالهاءِ والنونِ، فقالت: عرَضَهنّ، أو عرَضَها. وكذلك تَفْعَلُ إذا كَنَتْ عن أصنافٍ مِن الخلْقِ، كالبَهائمِ والطيرِ وسائرِ أصنافِ الأممِ، وفيها أسماءُ بنى آدمَ أو
(4)
الملائكةِ، فإنها تَكْنى عنها بما وصَفْنا مِن الهاءِ والنونِ، و
(5)
الهاءِ والألفِ. وربما كَنَتْ عنها إذا كان ذلك
(6)
كذلك، بالهاءِ والميمِ، قال تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ خَلَقَ
(7)
كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، وفى ص، ر:"كلها".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 99 مطولا.
(3)
في ت 1: "و".
(4)
في ر، م، ت 1:"و".
(5)
في م: "أو".
(6)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(7)
في الأصل: "خالق". وهى قراءة حمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص 457.
[النور: 45]. فكنَى عنها بالهاءِ والميمِ، وهى أصنافٌ مختلِفةٌ، فيها الآدمىُّ وغيرُه، وذلك وإن كان جائزًا، فإن الغالبَ المُسْتَفيضَ في كلامِ العربِ ما وصَفْنا، مِن إخْراجِهم كنايةَ أسماءِ أجناسِ الأممِ -إذا اخْتَلَطَت- بالهاءِ والألفِ، و
(1)
الهاءِ والنونِ؛ فلذلك قلتُ: أَولى بتأويلِ الآيةِ أن تَكونَ الأسماءُ التى عَلَّمها آدمَ أسماءَ أعيانِ بنى آدمَ وأسماءَ الملائكةِ. وإن كان ما قال ابنُ عباسٍ جائزًا، على مثالِ ما جاء في كتابِ اللهِ جل ثناؤه مِن قولِه: {وَاللَّهُ خَلَقَ
(2)
كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية. وقد ذُكِر أنها في حرفِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: (ثم
(3)
عرَضَهن)
(4)
. وأنها في حرفِ أُبَيٍّ: (ثم عرَضها)
(4)
.
ولعلَّ ابنَ عباسٍ تأوَّل ما تأوَّل مِن قولِه: علَّمه اسمَ
(5)
كلِّ شيءٍ، حتى الفَسْوةِ والفُسَيَّةِ. على قراءةِ أُبَىٍّ، فإنه فيما بلغَنا كان يَقْرَأُ قراءةَ أُبَىٍّ. وتأويلُ ابنِ عباسٍ -على ما حُكِى عن أبيٍّ من قراءتِه- غيرُ مُسْتَنْكَرٍ، بل هو صحيحٌ مُسْتَفِيضٌ فى كلامِ العربِ، على نحوِ ما تقَدَّم وصْفِى ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} .
قال أبو جعفرٍ: قد تقَدَّم ذكْرُنا التأويلَ الذى هو أوْلى بالآيةِ على قراءتِنا ورَسْمِ مُصْحَفِنا، وأن قولَه:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} . بالدَّلالةِ على بنى آدمَ والملائكةِ، أوْلَى منه بالدَّلالةِ على أجناسِ الخلقِ كلِّها، وإن كان غيرَ فاسدٍ أن يكون دالًّا على
(1)
في م: "أو".
(2)
في الأصل، ر، ت 1:"خالق".
(3)
في النسخ: "و".
(4)
ينظر البحر المحيط 1/ 146.
(5)
زيادة من: م.
جميعِ أصنافِ الأُممِ، للعللِ التى وصَفْنا.
ويعنى بقولِه: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} : ثم عرَض أهلَ الأسماءِ على الملائكةِ.
وقد اخْتَلَف المفسِّرون في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} نحوَ اختلافِهم فى قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . وسأذْكُرُ [قولَ بعضِ]
(1)
مَن انتَهى إلينا عنه فيه قولٌ.
حدَّثنا محمدُ بنُ العلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بِشْرُ بنُ عُمارَةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} : ثم عرَض هذه الأسماءَ على الملائكةِ. يعنى أسماءَ جميع الأشياءِ التى علَّمها آدمَ مِن أصنافِ الخلقِ
(2)
.
حدثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكَره عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} : ثم عرَضَ الخلْقَ على الملائكةِ
(3)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: أسماءَ ذريتِه كلِّها أخَذَهم مِن ظهرِه، ثم عرَضَهم على الملائكةِ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن
(1)
في ص، م:"قول"، وفى ر، ت 1، ت 2:"بعض قول".
(2)
تقدم بتمامه في ص 485.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 105 عن السدى به. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 80 (341) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدى من قوله. وتقدم بتمامه في ص 488.
(4)
تقدم تخريجه في ص 518.
قتادةَ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} . قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ، ثم عرَض تلك الأسماءَ على الملائكةِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهِدٍ:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} : عرَض أصحابَ الأسماءِ على الملائكةِ
(2)
.
حدثنى علىُّ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا مسلمٌ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ مُصْعَبٍ، عن قيسٍ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهدٍ:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} . يعنى: عرَض الأسماءَ، الحَمامةَ والغرابَ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن جَريرِ بنِ حازمٍ ومباركٍ، عن الحسنِ، وأبى بكرٍ، عن الحسنِ وقتادةَ، قالا: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ، هذه الخيلُ، وهذه البغالُ، وما أشْبَهَ ذلك، وجعَل يُسَمِّى كلَّ شيءٍ باسمِه، وعُرِضَت عليه أُمَّةً أُمَّةً
(4)
.
القولُ في تأويل قولِه جلّ وعزّ: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ قولِه عز وجل: {أَنْبِئُونِي} : أَخْبِرونى. كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{أَنْبِئُونِي} . يقولُ: أخْبِرونى بأسماءِ هؤلاء
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه في ص 517.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 49 إلى المصنف.
(3)
تقدم في ص 515.
(4)
تقدم بتمامه في ص 493.
(5)
تقدم بتمامه في ص 485.
ومنه قولُ نابغةِ بنى ذُبْيانَ
(1)
:
وأنبَأه المُنبّئُ أنَّ حيًّا
…
حُلُولًا من حَرامٍ
(2)
أو جُذَامِ
يعنى بقولِه: أنبأَه: أخْبَرَه وأعْلَمَه.
القولُ في تأويل قولِه: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} .
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، وحدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، جميعًا عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولهِ:{بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} . قال: بأسماءِ هذه التى حدَّثْتُ بها آدمَ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ بن داودَ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ، قال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . يقولُ: بأسماءِ هؤلاءِ التى
(4)
حَدَّثتُ بها آدمَ (3).
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : إن كنتم تَعْلَمون لِمَ أجْعَلُ فى الأرضِ
(1)
ديوانه ص 162.
(2)
في ت 2: "حزام"، وفى ت 1:"جذام". وحرام: بطن من جذام.
(3)
تفسير مجاهد ص 199، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 81 (342).
(4)
في ت 1، ت 2:"الذين".
خليفةً
(1)
؟
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكَره عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنَّ بنى آدمَ يُفْسِدون في الأرضِ ويَسْفِكون الدماءَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجّاجٌ، عن جريرِ بنِ حازِمٍ ومباركٍ، عن الحسن، وأبى بكرٍ، عن الحسنِ وقتادةَ:{فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنى لم
(3)
أَخْلُق خَلْقًا إلا كُنتم أعلمَ منه، فأخْبِرونى بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادِقين
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ تأويلُ ابنِ عباسٍ ومَن قال بقولِه.
ومعنى ذلك: فقال: أنْبِئونى بأسماءِ مَن عرَضْتُه عليكم أيتُها الملائكةُ القائلون: [أتَجعَلُ فى الأرضِ]
(5)
مَن يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدمَاءَ، مِن غيرِنا أم منا، شنحن نُسَبِّحُ بحمدِك ونُقَدِّسُ لك؟ إن كنتم صادقين في قِيلِكم أنى إن جعَلْتُ خليفتى في الأرضِ مِن غيرِكم، عَصَانى ذريتُه وأفْسَدوا فيها وسفَكوا الدماءَ، وإن جعَلْتُكم فيها، أطَعْتُمونى واتَّبَعْتُم أمرى، بالتعظيمِ لى والتقديسِ، فإنكم إذ كنتم لا تَعْلَمون أسماءَ هؤلاء الذين عرَضْتُهم عليكم مِن خَلْقى، وهم مَخْلوقون
(1)
تقدم بتمامه في ص 485.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 105 عن السدى به. وتقدم بتمامه في ص 488.
(3)
فى الأصل: "لن".
(4)
تقدم في ص 493.
(5)
في ص، م:"فيها".
موجودون تَرَوْنهم وتُعايِنونهم، وعَلِمه غيرُكم بتَعْليمِى إياه، فأنتم بما هو غيرُ موجودٍ مِن الأمورِ الكائِنَةِ التى لم توجَدْ بعدُ، وبما هو مُتَستِّرٌ من الأُمورِ -التى هى موجودةٌ- عن أعينِكم، أحْرَى أن تكونوا غيرَ عالمين، فلا تَسْألونى ما ليس لكم به علمٌ، فإنى أعلمُ بما يُصْلِحُكم ويُصْلِحُ خَلْقى.
وهذا الفعلُ مِن اللهِ تعالى ذكرُه بملائكتِه الذين قالوا له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . مِن جهةِ عِتابِه تعالى ذِكرُه إياهم -نظيرُ قولِه لنبيِّه نوحٍ صلّى اللهُ عليه، إذ قال:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} - {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45، 46]. فكذلك الملائكةُ سأَلت ربَّها أن تكونَ خُلفاءَه في الأرضِ ليُسَبِّحوه ويُقَدِّسوه فيها؛ إذ كان ذريةُ مَن أخْبَرهم أنه جاعلُه في الأرضِ خليفةً يُفْسِدون فيها ويَسْفِكون الدماءَ، فقال لهم تعالى ذكرُه:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . يعنى بذلك: إنى أعْلَمُ أن بعضَكم فاتحُ المعاصى وخاتِمُها. وهو إبليسُ، مُنْكِرًا بذلك
(1)
تعالى ذِكرُه قولَهم. ثم عرَّفهم موضِعَ هَفْوتِهم، في قِيلهم ما قالوا مِن ذلك، بتعريفِهم قُصورَ علمِهم عمّا هم له شاهِدون عِيانًا -فكيف بما لم يَرَوْه ولم يُخْبَروا عنه؟ - بعرْضِه ما عرَض عليهم مِن خلقِه الموجودين يومَئذٍ، وقيلِه لهم:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنكم إن اسْتَخْلَفْتُكم في أرْضى سبَّحْتمونى وقدَّسْتُمونى، وإن اسْتخْلَفْتُ فيها غيرَكم عَصانى ذُريتُه وأفْسَدوا وسَفَكوا الدماءَ. فلمَّا اتَّضَح لهم موضِعُ خطأِ قيلِهم، وبَدَت لهم هفوةُ زَلَّتِهم، أنابوا إلى اللهِ بالتوبةِ فقالوا:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} . فسارَعوا الرَّجْعةَ مِن
(1)
في ت 1، ت 2:"بعد ذلك".
الهَفْوةِ، وبادَروا الإنابةَ مِن الزَّلَّةِ، كما قال نوحٌ عليه السلام حِين عوتِب في مسألتِه، فقيل له:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} -: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(1)
[هود: 46، 47]. وكذلك فعْلُ كلِّ مُسَدَّدٍ للحقِّ مُوَفَّقٍ له، سَريعةٌ إلى الحقِّ إنابتُه، قريبةٌ إليه أوْبتُه.
وقد زعَم بعضُ نحْويِّى أهلِ البصرةِ أن قولَه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . لم يكنْ ذلك لأن الملَائكةَ ادَّعَوْا شيئًا، إنما أخْبَر عن جهْلِهم بعلمِ الغيبِ وعلمِه بذلك وفضلِه، فقال: أنْبِئونى إن كنتم صادقين. كما يقولُ الرجلُ للرجلِ: أنْبِئْنى بهذا إن كنتَ تَعْلَمُ. وهو يَعْلَمُ أنه لا يَعْلَمُ، يُرِيد أنه جاهِلٌ.
وهذا قولٌ إذا تدَبَّره متَدَبِّرٌ عَلِم أن بعضَه مفْسِدٌ بعضًا، وذلك أن قائلَه زعَم أن اللهَ تعالى ذكرُه قال للملائكةِ -إذ عرَض عليهم أهلَ الأسماءِ-:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} . وهو يَعْلَمُ أنهم لا يَعْلَمون ذلك
(2)
، ولا هم ادَّعَوْا [علمَ شيءٍ]
(3)
يوجِبُ أن يوبَّخوا بهذا القولِ. وزعَم أن قولَه: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} نظيرُ قولِ القائل
(4)
: أنْبِئْنى بهذا إن كنتَ تَعْلَمُ. وهو يَعْلَمُ أنه لا يَعْلمُ، يُرِيدُ أنه جاهلٌ. ولا شكَّ أن معنى قولِه:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . إنما هو: إن كنتم صادقينَ، إمّا في قولِكم، وإمّا في فعلِكم، لأن الصدقَ في كلامِ العربِ إنما هو صِدقٌ في الخبرِ لا في العلمِ، وذلك أنه غيرُ معقولٍ في لغةٍ مِن اللغاتِ أن يُقالَ: صدَق
(1)
سقطت هذه الآية من: ص، م، ت 1، ت 2.
(2)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(3)
في ص: "شيئًا".
(4)
في ر، م:"الرجل للرجل".
الرجلُ. بمعنى: عَلِم. فإذ كان ذلك كذلك، فقد وجَب أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه قال للملائكةِ -على تأويلِ قولِ هذا الذى حكَيْنا قولَه في هذه الآيةِ-:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وهو يَعْلَمُ أنهم غيرُ صادقين، يُرِيدُ بذلك أنهم كاذِبون، وذلك هو عينُ ما أنْكَره؛ لأنه زعَم أن الملائكةَ لم تَدَّعِ شيئًا، فكيف جاز أن يقالَ لها
(1)
؛ إن كنتم صادقين فأنبِئونى بأسماءِ هؤلاء
(2)
؟ مع خروج هذا القولِ الذى حكَينا عن صاحبِه، مِن أقوالِ جميعِ المُتَقَدِّمين والمُتَأخِّرِين مِن أهلِ التأويلِ والتفسيرِ.
وقد حُكِى عن بعضِ أهلِ التفسيرِ أنه كان يَتأوَّلُ قولَه: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . بمعنى: إذ كنتم صادقين.
ولو كانت {إِنْ} بمعنى "إذ" في هذا الموضعِ، لَوجَب أن تكونَ قراءتُها بفتحِ ألفِها؛ لأن "إذ" إذا تقَدَّمها فعلٌ مُستَقبَلٌ، صارت علةً للفعل وسببًا له، وذلك كقولِ القائلِ: أقومُ إذ قمتَ. فمعناه: أقومُ مِن أجلِ أنك قمتَ. والأمرُ بمعنى الاستِقبالِ. فمعنى الكلامِ لو كانت {إِنْ} بمعنى "إذ": أنبِئونى بأسماءِ هؤلاءِ مِن أجلِ أنكم صادِقون. فإذا وُضِعَت "إن" مكان
(3)
ذلك، قيل: أنبِئونى بأسماءِ هؤلاءِ أن كنتم صَادقين. مفتوحةَ الألفِ. وفى إجماعِ جميعِ قَرأةِ أهلِ الإسلامِ على كسرِ الألفِ مِن {إِنْ} دليلٌ واضحٌ على خطأِ تأويلِ مَن تأوَّل {إِنْ} بمعنى "إذ" في هذا الموضعِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، وفى م:"لهم".
(2)
بعده فى م، ت 1، ت 2:"هذا".
(3)
في ص: "في موضع".
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}.
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن ملائكته بالأوْبةِ إليه، وتسليمِ عِلْمِ ما [عَلِم ممّا]
(1)
لم يَعْلَموه له، وتَبَرِّيهم
(2)
مِن أن يَعْلَموا أو يَعْلَمَ أحدٌ شيئًا إلا ما علَّمه تعالى ذِكرُه.
وفى هذه الآياتِ الثلاثِ العِبْرةُ لمن اعْتَبر، والذكْرَى لمن ادَّكَر، والبيانُ لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ، عما أوْدَع اللهُ تعالى ذكرُه آىَ هذا القرآن مِن لَطائفِ الحِكَمِ التى تَعْجِزُ عن أوصافِها الألسنُ. وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه احْتَجَّ فيها لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مَن كان بين ظهرانَيْه مِن يهودِ بني إسرائيلَ، بإطلاعِه إياه مِن علومِ الغَيْبِ التى لم يكنْ تعالى ذكرُه أطْلَع عليها مِن خلقِه إلا خاصًّا، ولم يكنْ مُدْرَكًا علمُه إلا بالإنباءِ والإخبارِ؛ لتَتَقَرَّرَ عندَهم صحةُ نبوتِه، ويَعْلَموا أن ما أتاهم به فمِن عندِه، ودلَّ فيها على أن كلَّ مُخْبِرٍ خبرًا عما قد كان، أو عما هو كائنٌ مما لم يكنْ ولمّا يَأْتهِ به خبرٌ، ولم يُوضَعْ له على صحتِه بُرهانٌ، فمُتَقَوِّلٌ ما يَسْتَوْجِبُ به مِن ربِّه العقوبةَ.
ألا [تَرَى أن]
(3)
اللهَ ردَّ على ملائكتِه قِيلَهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وعرَّفهم أن قِيلَ ذلك لم يكنْ جائزًا لهم، بما عرَّفهم مِن قُصورِ علمِهم عندَ عَرْضِه ما عرَض عليهم مِن أهلِ الأسماءِ، فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فلم يَكُنْ لهم مَفْزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجزِ والتَّبَرِّى إليه أن يعلَموا إلّا مَا علَّمَهم بقولِهم: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} . فكان في ذلك أوضحُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"إن".
(2)
في ت 1، ت 2:"تنزيههم".
(3)
في ر: "تسمعون"، وفى ت 1، ت 2:"يسمعون".
الدلالةِ وأبينُ الحُجَّةِ على كذبِ مَقالةِ كلِّ مَن ادَّعَى شيئًا مِن علومِ الغيبِ، مِن الحُزاةِ
(1)
والكَهَنةِ والعافَةِ
(2)
والمُتنَجِّمةِ.
وذكَّر بها الذين وصَفْنا أمرَهم مِن أهلِ الكتابِ، سَوالفَ نعمِه على آبائِهم، وأياديَه عندَ أسلافِهم، عندَ إنابتِهم إليه، وإقبالِهم إلى طاعتهِ، مُسْتَعْطِفَهم بذلك إلى الرَّشادِ، ومُسْتَعْتِبَهم به إلى النجاة، وحذَّرهم -بالإصرارِ والتمادى في الغَىِّ
(3)
والضَّلالِ- حلولَ العِقابِ بهم، نظيرَ ما أحلَّ بعدوِّه إبليسَ، إذ تمادَى في الغَىِّ
(3)
والخَسَارِ
(4)
.
وأما تأويلُ قولِه: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} . فهو كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{قَالُوا سُبْحَانَكَ} تَنْزِيهًا للهِ مِن أن يكونَ أحدٌ يَعْلَمُ الغيبَ غيرَه، تُبْنا إليك، {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} تَبَرِّيًا منهم مِن علمِ الغيبِ، إلَّا ما علَّمتنا كما علَّمْتَ آدمَ
(5)
.
و"سبحانَ" مصدرٌ لا تصَرُّفَ له، ومعناه: تسبيحَكَ
(6)
. كأنهم قالوا: نُسَبِّحُك تَسْبيحًا، ونُنَزِّهُك تَنْزيهًا، ونُبَرِّئُك مِن أن نَعْلَمَ شيئًا غيرَ ما علَّمْتَنا.
القولُ في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ ذلك: إنك أنت يا ربَّنا العليمُ -مِن غيرِ تَعْليمٍ-
(1)
الحزاة: جمع حاز، وهو الذى يحزر الأشياء ويقدرها بظنه. النهاية 1/ 380.
(2)
في الأصل، م:"القافة". والعافة: جمع عائف، وهو المتكهن بالطير أو غيرها. التاج (ع ى ف).
(3)
في م: "البغى".
(4)
بعده في ص، ر، م:"قال".
(5)
تقدم بتمامه في ص 485.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2:"نسبحك".
بجميعِ
(1)
ما قد كان، وما هو كائنٌ، والعالمُ للغُيوبِ دون جميعِ خلقِك. وذلك أنهم نفَوْا عن أنفسِهم بقولِهم:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} . أن يكونَ لهم علمٌ إلا ما علَّمهم ربُّهم، وأثْبَتوا ما نَفَوْا عن أنفسِهم مِن ذلك لربِّهم بقولِهم:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . يَعْنون بذلك العالمَ مِن غيرِ تعليمٍ، إذ كان مَن سواك لا يَعْلَمُ شيئًا إلا بتعليمِ غيرِه إياه.
{الْحَكِيمُ} : هو ذو الحِكْمةِ، كما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ، قال: حدَّثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ: العليمُ الذى قد كمُل في علمِه، والحكيمُ الذى قد كمُل في حِكْمتِه
(2)
.
وقد قيل: إن معنى {الْحَكِيمُ} الحاكمُ، كما
(3)
العليمُ بمعنى العالمِ، والخبيرُ بمعنى الخابرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
قال أبو جعفرٍ: إن اللهَ تعالى ذكرُه عرَّف ملائكتَه الذين سأَلوه أن يَجْعَلَهم الخلفاءَ في الأرضِ ووصَفوا أنفسَهم بطاعتهِ والخضوعِ لأمرِه، دون غيرِهم الذين يفْسِدون فيها ويَسْفِكون الدماءَ - أنهم مِن الجهلِ بموَاقعِ تدْبيرِه ومحَلِّ قَضائِه، قبلَ إطْلاعِه إياهم عليه، على نحوِ جهلِهم بأسماءِ الذين عرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يُعَلِّمْهم فيَعْلَموه، وأنهم وغيرَهم مِن العبادِ لا يَعْلَمون مِن العلمِ إلا ما
(1)
في الأصل: "لجميع".
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره -كما في مجموع الفتاوى 17/ 220 - وأبو الشيخ في العظمة (98) من طريق عبد الله بن صالح به مطولا. وسيأتى في تفسير قوله: {الصَّمَدُ} .
(3)
بعده في م: "أن".
علَّمَهم إياه ربُّهم، وأنه يَخُصُّ بما شاء مِن العلمِ مَن شاء مِن الخلقِ، ويَمْنَعُه منهم مَن شاء، كما علَّم آدمَ أسماءَ من عرَض على الملائكةِ، ومنَعهم علمَها إلا بعدَ تعليمِه إياهم.
فأما تأويلُ قولِه: {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ} : [قال اللهُ: يا آدمُ أنبِئْهم]
(1)
. يقولُ: أخْبِرِ الملائكةَ. والهاءُ والميمُ في قولِه: {أَنْبِئْهُمْ} عائدتان على الملائكةِ. وقولُه: {بِأَسْمَائِهِمْ} يعنى: بأسماءِ الذين عرَضهم على الملائكةِ. والهاءُ والميمُ اللتان في {بِأَسْمَائِهِمْ} كنايةٌ عن ذكرِ {هَؤُلَاءِ} التى في قولِه: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} . {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} يقولُ: فلمّا أخْبَر آدمُ الملائكةَ بأسماءِ الذين عرَضهم عليهم، فلم يَعْرِفوا أسماءَهم، وأيْقَنوا خطأَ قِيلِهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . وأنهم قد هفَوْا
(2)
في ذلك، وقالوا ما لا يَعْلَمون كيفيَّةَ وقوعِ قَضاءِ ربِّهم في ذلك، لو وقَع على ما نطَقوا به - قال لهم ربُّهم:{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . والغيبُ: هو مما غاب عن أبصارِهم فلم يُعايِنوه. تَوبيخًا مِن اللهِ جلَّ وعزَّ لهم بذلك على ما سلَف مِن قيلِهم، وفرَط منهم مِن خطأِ مسألتِهم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيد، قال: حدَّثنا بشرُ ابنُ عُمارة، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباس:{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} . يقولُ: أخْبِرْهم بأسمائِهم، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أيُّها الملائكةُ خاصةً:{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، ولا يَعْلَمُه غيرى
(3)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قصةِ الملائكةِ
(1)
سقط من: م، وفى ص:"يقول أخبرهم".
(2)
بعده في ص: "عنده".
(3)
تقدم بتمامه في ص 485.
وآدمَ: فقال اللهُ للملائكةِ: كما لم تَعْلَموا هذه الأسماءَ، فليس لكم علمٌ أنما
(1)
أرَدْتُ أن أجْعَلَهم ليُفْسدوا فيها، هذا عِندِى
(2)
قد علِمْتُه، فكذلك أخْفَيْتُ عنكم أني أجْعَلُ فيها مَن يَعْصِيني ومَن يُطِيعُني. قال: وسبَق مِن اللهِ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]،. قال: ولم تَعْلَمِ الملائكةُ ذلك ولم يَدْرُوه. قال: فلما رأَوْا ما أعْطَى اللهُ آدمَ مِن العلمِ، أقرُّوا لآدمَ بالفضل
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} .
قال أبو جعفر: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فرُوِى عن ابنِ عباسٍ في ذلك ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} . يقولُ: ما تُظْهِرون، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. يقولُ: أعْلَمُ السرَّ كما أَعْلَمُ العَلانيةَ. يعنى ما كتَم إبليسُ في نفسِه مِن الكِبْرِ والاغْتِرارِ
(4)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباس، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال: قولُهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . فهذا الذى أبْدَوْا، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . يَعْنى ما أسَرَّ إبليسُ في نفسِه مِن الكبْرِ
(5)
.
(1)
في ص: "بما".
(2)
في ص، ر:"عبدي".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 107 عن المصنف.
(4)
تقدم بتمامه فى ص 485.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 106 عن السدي به. =
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازىُّ قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ قال: حدَّثنا عمرُو بنُ ثابتٍ، عن أبيه، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قولَه:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال: ما أسَرَّ إبليسُ في نفسِه
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ في قولِه: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تكْتُمُونَ} . قال: ما أسَرَّ إبليسُ في نفسِه مِن الكِبْرِ ألَّا يَسْجُدَ لآدمَ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ الأنْماطيُّ، قال: حدَّثنا مَهْديُّ بنُ مَيْمونٍ، قال سمِعْتُ الحسنَ بنَ دينارٍ قال للحسنِ ونحن جُلوسٌ عندَه في منزلِه: يا أبا سعيدٍ، أرأيْتَ قولَ اللهِ للملائكةِ:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . فما الذى كتَمَت الملائكةُ؟ فقال الحسنُ: إن اللهَ لمَّا خلَق آدمَ، رأَتِ الملائكةُ خلقًا عَجبًا، فكأنهم دخَلَهم مِن ذلك شيءٌ، فأقبَل بعضُهم إلى بعضٍ، وأسرُّوا ذلك بينَهم، فقالوا: ما يُهِمُّكم من هذا المخلوقِ! إن اللهَ لن يَخْلُقَ خلقًا إلا كُنَّا أكرمَ عليه منه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال: أسَرُّوا بينَهم فقالوا:
= وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 50 إلى المصنف عن ابن مسعود وناس من الصحابة.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 82 (354) من طريق الفضل بن خالد، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك عن ابن عباس بنحوه.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 83 عقب الأثر (357) معلقا. وعمرو بن ثابت ضعيف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 106 عن الثوري.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (185 - تفسير) من طريق مهدي بن ميمون به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 50 إلى عبد بن حميد.
يَخْلُقُ اللهُ ما [يَشاءُ أن يَخْلُقَ]
(1)
، فلن يَخْلُقَ خلقًا إلَّا ونحن أكرمُ عليه منه
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} : فكان الذي أَبدَوا حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} . وكان الذي كتَموا بينَهم قولُهم: لن يَخْلُقَ ربُّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلَمَ منه وأكرمَ. فعرَفوا أن اللهَ فضَّل آدمَ عليهم في العلمِ والكرمِ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ ما قاله ابنُ عباسٍ، وهو أن معنى قولِه:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} : وأعلمُ -مع علمِي غيبَ السماواتِ والأرضِ- ما تُظهِرون بألسنتِكم، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: وما كنتم تُخْفُونه في أنفسِكم، فلا يَخْفَى عليَّ شيءٌ، سواءٌ عندي سَرائرُكم وعَلانيَتُكم. والذي أظْهَروه بألسِنِتهم ما أخبَرَ اللهُ تعالى ذكرُه عنهم أنهم قالوه، وهو قولُه
(4)
: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . والذى كانوا يَكْتُمونه ما كان عليه منطويًا إبليسُ مِن الخلافِ على اللهِ في أمرِه، والتَّكَبُّرِ عن طاعتِه؛ لأنه لا خلافَ بينَ جميعِ أهلِ التأويلِ أن تأويلَ ذلك غيرُ خارجٍ مِن أحدِ الوجهَيْن اللذين وصَفْتُ، وهو ما قلْنا. والآخرُ ما ذكَرْنا مِن قولِ الحسنِ وقتادةَ، ومَن قال: إن معنى ذلك كِتْمانُ الملائكةِ بينَهم: لن يَخْلُقَ اللهُ خلقًا إلا كنا أكرمَ عليه منه. فإذ كان لا قولَ في
(1)
في الأصل، ر:"شاء".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 43.
(3)
بعده في ت 1، ت 2:"كتموا بينهم قولهم لن يخلق ربنا خلقا".
والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 83 (357) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
في م: "قولهم".
تأويلِ ذلك إلا أحدُ القولين اللذين وصَفْتُ، ثم كان أحدُهما غيرَ موجودةٍ على صحتِه الدَّلالةُ مِن الوجهِ الذى يَجِبُ التسليمُ له -صَحَّ الوجهُ الآخرُ. والذى حُكِى عن الحسنِ وقتادةَ ومَن قال بقولِهما في تأويلِ ذلك، غيرُ موجودةٍ الدَّلالة على صحتِه من الكتابِ، ولا من خبرٍ تجبُ به حجةٌ. والذى قاله ابنُ عباسٍ يَدلُّ على صحتِه خبرُ الله عن إبليسَ وعِصْيانِه إياه، إذ دعاه إلى السجودِ لآدم عليه السلام فأبَى واسْتَكْبَر، وإظهارُه لسائرِ الملائكةِ مِن معصيتِه وكِبْرِه ما كان له كاتمًا قبلَ ذلك.
فإن ظَنَّ ظانٌّ أن الخبرَ عن كِتمانِ الملائكةِ ما كانوا يَكْتُمون، لمَّا كان خارجًا مَخْرَجَ الخبرِ عن الجميعِ، كان غيرَ جائزٍ أن يكونَ ما رُوِى في تأويلِ ذلك عن ابنِ عباسٍ ومَن قال بقولِه، مِن أن ذلك خبرٌ عن كِتْمانِ إبليسَ الكبْرَ والمعصيةَ، صحيحًا، فقد ظَنَّ غيرَ الصوابِ. وذلك أن مِن شأنِ العربِ إذا أخْبَرَتْ خبرًا عن بعض جماعةٍ بغيرِ تسميةِ شخصٍ بعينِه أن تُخْرِجَ الخبرَ عنه مُخرَجَ الخبرِ عن الجميعِ، وذلك كقولِهم: قُتِل الجيشُ وهُزِموا. وإنما قُتِل الواحدُ أو البعضُ، وهُزم الواحدُ أو البعضُ، فتُخْرِجُ الخبرَ عن المهزومِ منهم والمقتولِ مُخْرَجَ الخبرِ عن جميعِهم، كما قال تعالى ذكرُه:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]. ذُكِر أن الذي نادَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزَلَت هذه الآيةُ فيه، كان رجلًا مِن جماعةٍ مِن بني تَميمٍ، كانوا قدِموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
. فأخْرَج الخبرَ عنه مُخْرَجَ الخبرِ عن الجماعةِ، فكذلك قولُه:{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . أخْرَج الخبرَ مُخْرَجَ الخبرِ عن الجميعِ، والمرادُ به الواحدُ منهم.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
(1)
سيأتي تخريجه في سورة الحجرات.
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}.
قال أبو جعفرٍ: أما قولُه عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا} . فمعطوفٌ على قولِه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} . كأنه قال لليهودِ الذين كانوا بينَ ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من بنى إسرائيلَ، مُعَدِّدًا عليهم نعمَه، ومُذَكِّرَهم آلاءَه، على نحوِ الذي قد وصَفْنا فيما مضَى قبلُ -: اذْكُروا فِعْلى بكم إذ أنْعَمْتُ عليكم، فخلَقْتُ لكم ما في الأرضِ جميعًا، وإذ قلتُ للملائكةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خليفةً، فكرَّمْتُ أباكم آدمَ بما آتَيْتُه مِن عِلْمى وفَضْلي وكَرامتي، وإذ أسْجَدتُ له مَلائِكتي فسجَدوا له. ثم اسْتَثْنى مِن جميعِهم إبليسَ، فدلَّ باستثنائِه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممَّن قد أُمِر بالسجودِ معهم، كما قال تعالى ذكرُه:{إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 11: 12]. فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمَر إبليسَ في من أمَره مِن الملائكةِ بالسجودِ لآدمَ، ثم اسْتَثْناه مما أخْبَر عنهم أنهم فعَلوه مِن السجودِ لآدمَ، فأخْرَجه مِن الصفةِ التى وصَفهم بها مِن الطاعةِ لأمرِه، ونفَى عنه ما أثْبَته لملائكتِه مِن السجودِ لعبدِه آدمَ.
ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فيه؛ هل هو مِن الملائكةِ أم هو مِن غيرِهم؟ فقال بعضُهم بما حدَّثنا به أبو كَرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان إبليسُ مِن حيٍّ مِن أحياءِ الملائكةِ يقال لهم: الجِنُّ. خُلِقوا مِن نارِ السَّمومِ مِن بينِ الملائكةِ. قال: وكان اسمُه الحارثَ. قال: وكان خازنًا مِن خُزَّانِ الجنةِ. قال: وخُلِقَت الملائكةُ مِن نورٍ غيرَ هذا الحيِّ قال: وخُلِقَت الجِنُّ الذين ذُكِروا في القرآنِ مِن مارجٍ مِن نارٍ؛ وهو لسانُ النارِ الذي يَكونُ في طَرَفِها إذا الْتَهَبَت
(1)
.
(1)
تقدم بتمامه في ص 482.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن خَلَّادِ بنِ
(1)
عَطاءٍ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان إبليسُ قبلَ أن يَرْكَبَ المعصيةَ مِن الملائكةِ، اسمُه عَزَازيلُ
(2)
، وكان مِن سكانِ الأرضِ، وكان مِن أشدِّ الملائكةِ اجْتِهادًا وأكثرِهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبْرِ، وكان مِن حيٍّ يُسَمَّوْن جنًّا
(3)
.
وحدَّثنا به ابنُ حُميدٍ مرةً أخرى، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن خلادِ بن (1) عطاءٍ، عن طاوسٍ، أو مُجاهِدٍ أبى الحَجَّاجِ، عن ابنِ عباسٍ وغيرِه بنحوِه، إلا أنه قال: كان مَلَكًا مِن الملائكةِ اسمُه عَزَازِيلُ
(4)
، وكان مِن سكانِ الأرضِ وعُمَّارِها، وكان سكانُ الأرضِ فيهم يُسَمَّوْن الجنَّ مِن بينِ الملائكةِ
(5)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ،
(1)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، وتفسير ابن كثير 1/ 110، والبداية والنهاية 1/ 129:"عن".
وفي الرواة: خلاد بن عطاء بن رباح، يروى عن أبيه. التاريخ الكبير 3/ 186.
وخلاد بن عبد الرحمن الصنعاني، يروى عن طاووس ومجاهد. تهذيب الكمال 8/ 356.
والمثبت كما في الأصل، وكذلك هو في تاريخ المصنف، والأضداد، وتفسير ابن كثير 5/ 165.
وفى الرواة: خلاد بن عطاء بن الشَّيْج، يروى عن طاووس. وقال ابن إسحاق: هو الشامي. التاريخ الكبير 3/ 186. وينظر ما سيأتي في تفسير الآية 50 من سورة الكهف.
(2)
في الأصل: "عزرائيل".
(3)
أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ، كما في تفسير ابن كثير 1/ 110.
وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 86. وينظر الدر المنثور 1/ 50.
(4)
في ر: "عزرايل".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 86. وأخرجه ابن الأنباري في الأضداد ص 334 من طريق ابن حميد وابن غانم، عن سلمة به مطولا.
وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: جُعِل إبليسُ على مُلْكِ سماءِ الدنيا، وكان مِن قبيلةٍ مِن الملائكةِ يُقالُ لهم: الجنُّ. وإنما سُمُّوا الجنَّ لأنهم خُزَّانُ الجنةِ، وكان إبليسُ مع مُلْكِه خازنًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسَيْنُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: كان إبليسُ مِن أشْرافِ الملائكةِ و
(2)
أكرمِهم قبيلةً، وكان خازنًا على الجنانِ، وكان له سلطانُ سماءِ الدنيا، وكان له سلطانُ الأرضِ. قال: قال ابنُ عباسٍ: وقولُه: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50]. إنما سُمِّى بالجَنَّانِ أنه كان خازنًا عليها. كما يُقالُ للرجلِ: مَكِّيٌّ، ومدَنيٌّ، وكوفيٌّ، وبصريٌّ. قاله
(3)
ابنُ جُرَيْجٍ
(4)
.
وقال آخَرون: هم سِبْطٌ مِن الملائكةِ قَبيلَةٌ، وكان اسمُ قبيلتِه الجِنَّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن صالحٍ مولى التوأمةِ وشريكِ بنِ أبى نَمِرٍ -أحدُهما أو كلاهما- عن ابنِ عباسٍ، قال: إن مِن الملائكةِ قبيلةً مِن الجنِّ، وكان إبليسُ منها، وكان يَسُوسُ ما بينَ السماءِ والأرضِ
(5)
.
(1)
تقدم بتمامه في ص 486.
(2)
زيادة من: م.
(3)
في النسخ: "قال". والمثبت مما سيأتي في تفسير سورة الكهف.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 81 إلى قوله: "وكان له سلطان الأرض". وسيأتي في سورة الكهف بزيادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 227 إلى المصنف وابن المنذر، بزيادة نحوه.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 81. وسيأتي في ص 541 من طريق آخر عن شريك، عن صالح، عن ابن عباس. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1131) من طريق سليمان بن بلال، عن شريك، عن كريب، عن ابن عباس.
حُدِّثْتُ عن الحُسَينِ بنِ الفَرَجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: أخْبَرَنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ يقولُ في قولِه: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} . قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: إن إبليسَ كان مِن أشرفِ الملائكةِ وأكرمِهم قبيلةً. ثم ذكَر مثلَ حديثِ ابنِ جُرَيْجٍ الأولِ سَواءً
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنى شَيْبانُ، قال: حدَّثنا سَلَّامُ بنُ مِسْكينٍ، عن قَتادةَ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: كان إبليسُ رئيسَ ملائكةِ سماءِ الدنيا
(2)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} : قَبيلٌ مِن الملائكةِ يُقالُ لهم: الجنُّ. وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: لو لم يَكُنْ مِن الملائكةِ لم يُؤْمَرْ بالسجودِ، وكان على خِزانةِ سماءِ الدنيا. قال: وكان قَتادةُ يقولُ: جُنَّ عن طاعةِ رِّبه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} . قال: كان مِن قَبِيلٍ مِن الملائكةِ يقالُ لهم: الجنُّ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال حدَّثنا سَلَمةُ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: أمَّا
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 81 عن عبدان المروزى، عن الحسين بن الفرج به.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1138) من طريق أبي معاذ به نحوه.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 86. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 50، 4/ 227 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 227 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبيه، إلى قوله: سماء الدنيا.
وأخرج باقيه أبو الشيخ في العظمة (1132) من طريق سلام بن مسكين، عن أبيه، عن قتادة.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 404.
العربُ فيقولون: ما الجنُّ إلَّا كلُّ ما اجْتَنَّ فلم يُرَ. قال: وأما قولُه: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} . أى: كان مِن الملائكةِ، وذلك أن الملائكةَ اجْتنُّوا فلم يُرَوْا، وقد قال اللهُ تعالى ذكرُه:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]. وذلك لقولِ قريشٍ: إن الملائكةَ بناتُ اللهِ. فيقولُ اللهُ جلَّ ذكرُه: إن تكنِ الملائكةُ بناتى فإبليسُ منها، وقد جعَلوا بينى وبينَ إبليسَ وذريتِه نسَبًا. قال: وقد قال الأعْشَى؛ أعْشَى بنى قيسِ بنِ ثَعْلبةَ البَكْرىُّ، وهو يَذْكُرُ سليمانَ بنَ داودَ وما أعطاه اللهُ عز وجل:
فلو كان شيءٌ خالدًا أو مُعمَّرًا
…
لكان سليمانُ البرِئَ مِن الدَّهرِ
بَرَاه إلهى واصطَفاه عِبادَه
…
وملَّكه ما بينَ ثريا
(1)
إلى مِصْرِ
وسخَّر من جنِّ الملائكِ تسعةً
…
قيامًا لديه يعملون بلا أجرِ
قال: فأبَت العربُ في لغتِها إلا أن الجنَّ كلُّ ما اجتَنَّ، وتقولُ: ما سمَّى اللهُ الجنَّ إلا أنهم اجْتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمَّى بنى آدمَ الإنسَ إلا أنهم ظهَروا فلم يجتنُّوا، فما ظهَر فهو إنسٌ، وما اجْتنَّ فلم يُر فهو جِنٌّ
(2)
.
وقال آخَرون بما حدَّثنا به محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى عَدِيٍّ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: ما كان إبليسُ مِن الملائكةِ طَرْفةَ عينٍ قطُّ، وإنه لأصلُ
(1)
في الأصل: "تونا"، وفى الأضداد:"ترنا".
(2)
أخرجه ابن الأنبارى في الأضداد ص 335 من طريق ابن حميد وابن غانم، عن سلمة به مختصرا.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره 5/ 165: وقد روى في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التى تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته الحق الذى بأيدينا، وفى القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة.
الجنِّ كما أن آدمَ أصلُ الإنسِ
(1)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يَزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ يقولُ في قولِه: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} : ألجأه إلى نَسَبِه، فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} الآية. وهم يَتَوالَدون كما يَتَوالَدُ بنو آدمَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: حدَّثنا أبو سعيدٍ اليَحْمَدىُّ
(3)
إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا سَوَّارُ بنُ الجَعْدِ اليَحْمَدِيُّ، عن شَهْرِ ابنِ حَوشَبٍ قولَه:{مِنَ الْجِنِّ} . قال: كان إبليسُ مِن الجنِّ الذين طرَدَتهم الملائكةُ، فأسَرَه بعضُ الملائكةِ فذهَب به إلى السماءِ
(4)
.
حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: إبليسُ أبو الجنِّ، كما آدمُ أبو الإنسِ
(5)
.
حدَّثنا علىُّ بنُ الحسنِ
(6)
، قال: حدَّثنى أبو نصرٍ أحمدُ بنُ محمدٍ الخَلَّالُ، قال: حدَّثنى سُنَيدُ بنُ داودَ، قال: حدَّثنى هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا عبدُ الرحمنِ بنُ يحيى، عن موسى بنِ نُمَيرٍ وعثمانَ بنِ سعيدِ بنِ كاملٍ، عن سعدِ بن مسعودٍ، قال:
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1156) من طريق ابن أبى عدى به.
وأخرجه ابن الأنبارى في الأضداد ص 337، وأبو الشيخ (1140) من طريق عوف به. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 110، 5/ 164: هذا إسناد صحيح.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1148) من طريق يزيد، عن سعيد، عن قتادة من قوله.
(3)
بعده في م: "حدثنا".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 87. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 227 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 110.
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسين".
كانت الملائكةُ تُقاتِلُ الجنَّ، فسُبِى إبليسُ وكان صغيرًا، فكان مع الملائكةِ فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجودِ لآدمَ سجَدوا، فأبى إبليسُ، فلذلك قال اللهُ:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثنا المباركُ بنُ مُجاهدٍ أبو الأزهرِ، عن شريكِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي نمِرٍ، عن صالحٍ مولى التَّوْأَمةِ، عن ابن عباسٍ، قال: إن مِن الملائكةِ قبِيلًا يقالُ لهم: الجنُّ. فكان إبليسُ منهم، وكان إبليسُ يسُوسُ ما بينَ السماءِ والأرضِ، فعصَى فمسَخه اللهُ شيطانًا رَجيمًا
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن شَريكٍ، [عن رجلٍ]
(3)
، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن اللهَ خلَق خلقًا فقال: اسْجُدوا لآدمَ. فقالوا: لا نَفْعَلُ. فبعَث اللهُ عليهم نارًا تَحْرِقُهم، ثم خلَق خلقًا آخَرَ، فقال: إنى خالقٌ بشرًا مِن طينٍ، فاسْجُدوا لآدمَ. قال: فأبَوْا، فبعَث اللهُ عليهم نارًا فأحْرَقَتهم. قال: ثم خلَق هؤلاءِ، فقال: اسْجُدوا لآدمَ. فقالوا: نعَم. قال: وكان إبليسُ مِن أولئك الذين أبَوا أن يَسجدوا لآدمَ
(4)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 87. وينظر العظمة (1143)، وتفسير ابن كثير 1/ 111.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 82. وأخرجه البيهقي في الشعب (144) من طريق زهير بن محمد، عن شريك به.
(3)
سقط من: الأصل، ص، ر.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 111 عن المصنف. وقال: وهذا غريب، ولا يكاد يصح إسناده؛ فإن فيه رجلا مبهما، ومثله لا يحتج به.
وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 87 عن محمد بن سنان، عن أبي عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه ابن الأنبارى في الأضداد ص 335، 336 من طريق أبى عاصم به مثله. وينظر ما سيأتي في تفسير الآية 28، 29 من سورة الحجر.
قال أبو جعفرٍ: وعلةُ مَن قال هذه المَقالةَ -[أن إبليسَ ليس هو مِن الملائكةِ]
(1)
- أن اللهَ تعالى ذكرُهُ أخبَر في كتابِه أنه خلَق إبليسَ من نارِ السَّمومِ، ومِن مارجٍ مِن نارٍ، ولم يخبِرْ عن الملائكةِ أنه خلَقها مِن شيءٍ من ذلك، وأن اللهَ أخْبَر
(2)
أنه مِن الجن.
قالوا: فغيرُ جائزٍ أن يُنْسَبَ إلى غيرِ ما نسَبه اللهُ إليه. قالوا: ولإبليسَ نَسْلٌ وذُرِّيةٌ، والملائكةُ لا تتَناسَلُ ولا تَتَوالَدُ.
قال أبو جعفرٍ: وهذه عِللٌ تُنْبئُ عن ضعفِ معرفةِ أهلِها، وذلك أنه غيرُ مُسْتَنْكَرٌ أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه خلَق أصنافَ ملائكتِه مِن أصنافٍ مِن خلقِه شَتَّى. فخلَق بعضًا مِن نُورٍ، وبعضًا مِن نارٍ، وبعضًا مما شاء مِن غيرِ ذلك. وليس في تَرْكِ اللهِ تعالى ذكرُه الخبرَ عما خلَق منه ملائكتَه، وإخبارِه عما خلَق منه إبليسَ، ما يوجِبُ أن يكونَ إبليسُ خارجًا مِن
(3)
معناهم، إذ كان جائزًا أن يكونَ خلق صِنفًا مِن ملائكتِه مِن نارٍ كان منهم إبليسُ، وأن يكونَ أفْرَد إبليسَ بأن خلَقه مِن نارِ السَّمومِ دون سائرِ ملائكتِه. وكذلك غيرُ مخرجِه أن يكونَ كان مِن الملائكةِ بأن كان له نسلٌ وذريةٌ، لِما ركَّب فيه من الشهوةِ واللذةِ التى نُزِعتْ من سائرِ الملائكةِ، لِما أراد اللهُ به
(4)
مِن المَعْصيةِ.
وأما خبرُ اللهِ تعالى ذكرُه عنه أنه مِن الجنِّ، فغيرُ مدفوعٍ أن يُسَمَّى
(5)
ما اجْتنَّ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
بعده في ص: "في كتابه".
(3)
في م: "عن".
(4)
في الأصل: "منهم"، وفى ص، ت 3:"بهم".
(5)
بعده في ص: "من الجن".
مِن الأشياءِ كلِّها عن الأبْصارِ جنًّا -كما قد ذكَرْنا قبلُ في شعرِ الأعْشَى- فيكونُ إبليسُ والملائكةُ منهم لاجْتِنانِهم عن أبصارِ بنى آدمَ.
القولُ في معنى: {إِبْلِيسَ} .
قال أبو جعفرٍ: وإبليسُ: إفْعِيلُ، مِن الإبْلاسِ، وهو الإياسُ مِن الخيرِ والندَمُ والحزنُ.
كما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ ابنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إبليسُ أبْلَسَه اللهُ مِن الخيرِ كلِّه، وجعَله شيطانًا رجيمًا عُقوبةً لمعصيتِه
(1)
.
حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: كان اسمُ إبليسَ الحارثَ، وإنما سُمِّى إبليسُ حينَ أبْلِس فقيرًا
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وكما قال اللهُ تبارك وتعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. يعنى به أنهم آيِسون مِن الخيرِ، نادِمون حُزْنًا، كما قال العجَّاجُ
(3)
:
يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا
(4)
قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأبْلَسَا
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 95. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 84 (362)، وابن الأنباري في الأضداد ص 336 من طريق بشر به بنحوه.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 50 إلى ابن المنذر. وتقدم بتمامه في ص 482.
(2)
في م: "فغير"، وغير منقوطة في ص.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 84 عقب الأثر (362) من طريق عمرو بن حماد به نحوه.
(3)
ديوانه ص 123.
(4)
رسم مكرِس ومكرَس: بعرت فيه الإبل وبوَّلت، فركب بعضه بعضًا. التاج (ك ر س).
وقال رُؤْبةُ
(1)
:
وحضَرَتْ
(2)
يومَ الخميسِ الأخْماسْ
وفى الوُجوهِ صُفْرةٌ وإبْلاسْ
يعنى به: اكْتئابًا وكُسوفًا.
فإن قال قائلٌ: فإن كان إبليسُ كما قلتَ إفعيلَ مِن الإبْلاسِ، فهلَّا صُرِف وأُجْرِى؟
قيل: تُرِك إجراؤُه اسْتِثْقالًا، إذ كان اسمًا لا نظيرَ له مِن أسماءِ العربِ، فشبَّهَته العرب -إذ كان كذلك- بأسماءِ العَجَمِ التى لا تُجْرَى، وقد قالوا: مرَرْتُ بإسحاقَ. فلم يُجْروه، وهو مِن: أسْحَقه اللهُ إسْحاقًا. إذ كان وقَع مبتدأً اسمًا لغيرِ العربِ، ثم تسَمَّت به العربُ، فجرَى مَجْراه -وهو مِن أسماءِ العجمِ- في الإعرابِ، فلم يُصْرَفْ، وكذلك أيوبُ، إنما هو فَيْعُولٌ
(3)
، مِن: آبَ يَئوبُ، [نظيرَ قَيُّومٍ من: قام يقومُ]
(4)
.
وتأويلُ قولِه: {أَبَى} . يعنى بذلك إبليسَ، أنه امْتَنع مِن السجودِ لآدمَ فلم يَسْجُدْ له، {وَاسْتَكْبَرَ} . يعنى بذلك أنه تكبَّر وتعَظَّم عن طاعةِ اللهِ في السجودِ لآدمَ.
وهذا وإن كان مِن اللهِ تعالى ذكرُه خبرًا عن إبليسَ، فإنه تَقْرِيعٌ لضُرَبائِه مِن
(1)
ديوانه (مجموع أشعار العرب) ص 67.
(2)
في الديوان: "عرفت".
(3)
في ص، ر، ت 1، ت 2، ت 3:"فعول"، وفى م:"فيعوع". وأيوب زنة فيعول، وقيل: فعول.
(4)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
خلقِ اللهِ الذين يَتَكَبَّرون عن الخضوعِ لأمرِ اللهِ، والانْقِيادِ لطاعتِه فيما أمَرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليمِ له فيما أوْجَب لبعضِهم على بعضٍ مِن الحقِّ. وكان ممَّن تكَبَّر عن الخضوعِ لأمرِ اللهِ، والتَّذَلُّلِ لطاعتِه، والتسليمِ لقضائِه فيما ألْزَمَهم مِن حقوقِ غيرِهم - اليهودُ الذين كانوا بينَ ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كذَّبوا
(1)
برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، [وهم بصفتِه عارفون]
(2)
، وبأنه للهِ رسولٌ عالمون. ثم اسْتَكْبَروا -مع علمِهم بذلك- عن الإقرارِ بنبوتِه، والإذْعانِ لطاعتِه، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم اللهُ بخبرِه عن إبليسَ الذى فعَل في استكبارِه عن السجودِ لآدمَ، حسدًا له وبَغْيًا، نظيرَ فعلِهم في التكبُّرِ عن الإذعانِ لمحمدٍ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ونبوتِه، إذ جاءهم بالحقِّ مِن عندِ ربِّهم، حسدًا وبَغْيًا.
ثم وصَف إبليسَ بمثلِ الذى وصَف به الذين ضرَبه لهم مثلًا، في الاستكبارِ والحسدِ والاسْتِنْكافِ عن الخضوعِ لمَن أمَره اللهُ بالخضوعِ له، فقال:{وَكَانَ} -يعنى إبليسَ- {مِنَ الْكَافِرِينَ} . مِن الجاحِدِين نعمَ اللهِ عليه، وأياديَه عندَه، بخلافِه عليه فيما أمَره به من السجودِ لآدمَ، كما كفَرَت اليهودُ نعمَ ربِّها التى آتاها وآباءَها قبلُ، مِن إطعامِ اللهِ أسْلافَهم المنَّ والسَّلْوَى، وإظلالِ الغَمامِ عليهم، وما لا يُحْصَى مِن نعمِه التى كانت لهم خُصوصًا، وما خصَّ الذين أدْرَكوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدْراكِهم إياه، ومشاهدتِهم [حُجَّةَ اللهِ عليهم]
(3)
، فجَحَدت نبوتَه بعد علمِهم به، ومعرفتِهم بنبوتِه، حسدًا وبَغْيًا، فنسَبه اللهُ تعالى ذكرُه إلى الكافرين، فجعَله مِن عِدادِهم في الدِّينِ والمِلَّةِ، وإن خالَفهم في الجنسِ والنسبةِ، كما جعَل أهلَ
(1)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كانوا".
(2)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وصفته عارفين".
(3)
في ص: "محمد صلى الله عليه وسلم".
النِّفاقِ بعضَهم مِن بعضٍ، لاجْتماعِهم على النفاقِ، وإن اخْتَلَفَت أنسابُهم وأجْناسُهم، فقال:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]. يعنى بذلك أن بعضَهم مِن بعضٍ في النفاقِ والضَّلالِ، فكذلك قولُه في إبليسَ:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . كان منهم في الكُفرِ باللهِ، والمخالفةِ لأمْرِه، وإن كان مخالِفًا جنسُه أجْناسَهم، ونِسْبتُه نِسْبتَهم. ومعنى قولِه:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . أى أنه كان حينَ أبَى السجودَ مِن الكافرين حينَئذٍ.
وقد رُوِى عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبى العاليةِ أنه كان يَقولُ في تأويلِ قولِه:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . في هذا الموضعِ: وكان مِن العاصِين.
حدَّثنى المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ العسقَلانيُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . يعنى: من
(1)
العاصِين
(2)
.
حدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بمثلِه.
وذلك شَبيهٌ بمعنى
(3)
قولِنا فيه.
وكان سجودُ الملائكةِ لآدمَ تَكْرِمةً لآدمَ، وطاعةً للهِ، لا عبادةً لآدمَ، كما حدثنا به بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريْعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . فكانت الطاعةُ للهِ،
(1)
سقط من: الأصل، ص، ر، م، ت 1، ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 85 (367) من طريق آدم به.
(3)
في الأصل: "لمعنى".
والسَّجْدةُ لآدمَ، أكْرَم اللهُ آدمَ أن أسْجَدَ له ملائكتَه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} .
قال أبو جعفرٍ: وفى هذه الآيةِ دَلالةٌ واضحةٌ على صحةِ قولِ مَن قال: إن إبليسَ أُخْرِج مِن الجنةِ بعدَ الاسْتكبارِ عن السجودِ {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} . فقد تبَينَّ أن إبليسَ إنما أزَلَّهما عن طاعةِ اللهِ بعدَ أن لُعِن وأظْهَر التكَبُّرَ؛ لأن سجودَ الملائكةِ لآدمَ كان بعدَ أن نُفخ فيه الروحُ، وحينئذٍ كان امْتِناعُ إبليسَ مِن السجودِ له، وعند الامتناعِ مِن ذلك حلَّت عليه اللعنةُ.
كما حدَّثنى موسى بنُ هارون، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكرَه عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مُرةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أن عدوَّ اللهِ إبليسَ أقْسَم بعِزَّةِ اللهِ لَيُغْوِيَنَّ آدمَ وذريَّتَه وزوجَتَه، إلا [عبادَ اللهِ]
(2)
المُخْلَصِين منهم، بعد أن لعَنه اللهُ، وبعدَ أن أُخْرِج مِن الجنةِ، وقبلَ أن يَهْبِطَ إلى الأرضِ، وعلَّم اللهُ آدمَ الأسماءَ كلَّها.
وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: لما فرَغ اللهُ مِن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 50 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم. وينظر تفسير ابن أبي حاتم 1/ 84 (364)، وتاريخ دمشق 7/ 400.
وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 84 (360) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن ابن عباس.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عباده".
إبليسَ ومُعاتَبتِه، وأبَى إلا المعصيةَ، أوقَع اللهُ عليه اللعنةَ، ثم أخْرَجه مِن الجنةِ، أقْبَل على آدمَ وقد علَّمه الأسماءَ كلَّها، فقال:{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} . إلى قولِه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
(1)
.
ثم اختلَفَ أهلُ التأويلِ في الحالِ التى خُلقت لآدمَ زوجتُه، والوقتِ الذى جُعِلَت له سكنًا؛ فقال ابنُ عباسٍ بما حدَّثنى به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكَره عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: فأُخْرِج إبْليسُ مِن الجنةِ حينَ لُعِن، وأُسْكِن آدمُ الجنةَ، فكان يَمْشِى فيها وَحْشًا
(2)
، ليس له زَوْجٌ يَسْكُنُ إليها، فنام نَوْمةً، فاسْتيقظ وإذا عند رأسِه امرأةٌ قاعدةٌ، خلَقها اللهُ من ضِلَعِه، فسَألَها: من أنْتِ؟ قالت: امْرَأةٌ. قال: ولمَ خُلِقْتِ؟ قالت: تسكنُ إلَىَّ. قالت له الملائكةُ -ينظُرون ما بلغَ علمُه-: ما اسْمُها يا آدمُ؟ قال: حواءُ. قالوا: ولِمَ سميت حواءَ؟ قال: لأنها خُلِقَتْ مِن شيءٍ حيٍّ. فقال اللهُ له: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}
(3)
.
فهذا الخبرُ يُنْبِئُ عن أن حَواءَ خُلِقَت بعدَ أن أُسكِن آدمُ الجنةَ، فجُعِلَت له سَكَنًا.
وقال آخَرون: بل خُلِقَت قبلَ أن يُسْكَنَ آدمُ الجنةَ.
(1)
تقدم بتمامه في ص 496.
(2)
أى وحده ليس معه غيره. اللسان (و ح ش).
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 103، 104. وأخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (820)، وابن عساكر في تاريخه 7/ 402 من طريق عمرو بن حماد به. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 85 (372) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدى من قوله.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: لما فرَغ اللهُ مِن مُعاتَبةِ إبليسَ، أقْبَل على آدمَ وقد علَّمَه الأسْماءَ كلَّها، فقال:{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} . إلى قولِه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . ثم ألْقَى السِّنَةَ على آدمَ -فيما بلَغَنا عن أهلِ الكتابِ مِن أهلِ التَّوْراةِ، وغيرِهم مِن أهلِ العلمِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ وغيرِه- ثم أخَذ ضِلَعًا مِن أضْلاعِه مِن شِقِّه الأيسرِ، ولأَم مكانَه لحمًا، وآدمُ نائمٌ لم يَهْبُبْ مِن نَوْمِه حتى خلَق اللهُ مِن ضِلَعِه تلك زوجتَه حَوَّاءَ، فسوَّاها امرأةً ليَسْكُنَ إليها، فلما كشَف عنه السِّنَةَ وهبَّ مِن نومتِه رآها إلى جنبِه، فقال -فيما يزْعُمون واللهُ أعلمُ-: لحْمى ودمى وزوجتى. فسكَن إليها، فلمّا زوَّجه اللهُ، وجعَل له سكنًا من نفسِه، قال له قِبَلًا
(1)
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: ويقالُ لامرأةِ الرجل: زوْجُه وزَوْجتُه. والزوجةُ بالهاءِ أكثرُ في كلامِ العربِ منها بغيرِ الهاءِ، والزوجُ بغيرِ الهاءِ يقالُ: إنها لغةٌ لأزْدِ شَنُوءةَ. فأمّا الزوجُ الذى لا اختلافَ فيه بينَ العربِ فهو زوجُ المرأةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} .
قال أبو جعفرٍ: أمّا الرَّغَدُ، فإنه الواسِعُ مِن العيشِ الهَنِئِ الذى لا يُعَنِّى صاحبَه، يقالُ: أرْغَد فلانٌ. إذا أصاب واسعًا مِن العيشِ الهَنِئِ، كما قال امرُؤُ القيسِ بنُ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فتلا". وقِبلا: عيانا ومقابلة، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولى أمره أو كلامه أحدا من ملائكته. النهاية 4/ 8.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 104. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 112 عن ابن إسحاق به.
حُجْرٍ
(1)
:
بينَما المرءُ تَراهُ ناعِمًا
…
يأمنُ الأحْداثَ في عيشٍ رغدْ
وكما حدَّثنا به موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ فى خبرٍ ذكَره عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} : والرَّغَدُ الهنِئُ
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسَى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهِدٍ قولَه:{رَغَدًا} . قال: لا حِسابَ عليهم
(3)
.
حدَّثنا المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بنِ أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ:{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} . أى: لا حسابَ عليهم.
حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ بنِ الحارثِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ،
(1)
لم نجده في ديوان امرئ القيس بهذه الرواية، ولكن لامرئ القيس قصيدة على نفس الوزن بها بيت شبيه، لعله المراد وليس فيه موضع الشاهد، وهو:
بينما المرء شهاب ثاقب
…
ضرب الدهر ثناه فخمد
ديوان امرئ القيس ص 217.
(2)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 164 عن المصنف من طريق السدى عن رجاله. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 (375) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدى من قوله. وهو تمام الأثر المتقدم في ص 547.
(3)
تفسير مجاهد ص 203، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 (374).
عن الضَّحَّاكِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} . قال: الرَّغَدُ سَعَةُ المَعيشةِ
(1)
.
فمعنى الآيةِ: وقلْنا يا آدمُ اسْكُن أنت وزوجُك الجنةَ، وكُلَا مِن الجنةِ رِزقًا واسعًا هَنيئًا مِن العيش حيثُ شئتُما.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} : ثم أتى
(2)
البلاءُ الذى كُتِب على الخلقِ على آدمَ، كما ابتُلِى الخلقُ قبلَه، إن اللهَ تعالى ذكرُه أحَلَّ له ما في الجنةِ أن يَأْكلَ منها رَغَدًا حيثُ شاءَ، غيرَ شجرةٍ واحدةٍ نُهِى عنها، وقَدَّم إليه فيها، فما زال به البلاءُ حتى وقَع بالذى نُهِى عنه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} .
قال أبو جعفرٍ: والشجَرُ في كلامِ العربِ كلُّ ما قام على ساقٍ، ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. يعنى بالنَّجْمِ ما نجَم مِن الأرضِ مِن نَبْتٍ، وبالشجَرِ ما اسْتَقَلَّ على ساقٍ.
ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في عينِ الشجَرةِ التى نُهِىَ عن أكلِ ثمرِها آدمُ عليه السلام؛ فقال بعضُهم: هى السُّنْبُلةُ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ إسماعيلَ الأحْمَسيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ الحميدِ الحِمَانيُّ،
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 85 (373) عن أبى زرعة، عن المنجاب به.
(2)
في م: "إن".
عن النضرِ، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الشجَرةُ التى نُهِىَ آدمُ عنها
(1)
السُّنْبُلةُ
(2)
.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، وحدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا عِمْرانُ بنُ عُيَيْنَةَ
(3)
، جميعًا عن حُصينٍ، عن أبى مالكٍ في قولِه:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . قال: هى السُّنْبلةُ
(4)
.
حدّثنا محمد بن بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ مَهْدىٍّ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازىُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيرىُّ، قالا جميعًا: حدَّثنا سفيانُ، عن حُصَيْنٍ، عن أبى مالكٍ مثلَه.
حدَّثنا أبو كُرَيْب وابنُ وَكيعٍ، قالا: حدَّثنا ابنُ إدْريسَ، قال: سمِعْتُ أبى، عن عطيةَ العوفىِّ في قولِه:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . قال: السُّنْبُلةُ".
حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يَزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: الشجَرةُ التى نُهِى عنها آدمُ هى السُّنْبلةُ
(5)
.
حدَّثنى المثنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا
(1)
في م: "عن أكل ثمرها".
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 (377)، وأبو الشيخ في العظمة (1059) من طريق محمد بن إسماعيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 52 إلى ابن المنذر وابن عساكر. والنضر بن عبد الرحمن متروك.
(3)
في م: "عتيبة". وينظر تهذيب الكمال 22/ 345.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 401 من طريق حصين به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 53 إلى وكيع وعبد بن حميد وأبى الشيخ.
(5)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 عقب الأثر (377) معلقا.
القاسمُ، قال: حدَّثنى رجلٌ مِن بنى تَميمٍ، أن ابنَ عباسٍ كتَب إلى أبى الجَلْدِ يَسْألُه عن الشجرةِ التى أكَل منها آدمُ، والشجرةِ التى تاب عندَها؟ فكتَب إليه أبو الجَلْدِ: سأَلْتَنى عن الشجرةِ التى نُهِىَ عنها آدمُ، وهى السُّنْبُلةُ، وسأَلْتَنى عن الشجرةِ التى تاب عندَها آدمُ، وهى الزَّيْتُونةُ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى إبنُ إسحاقَ، عن رجلٍ مِن أهْلِ العلمِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يقولُ: الشجرةُ التى نُهِىَ عنها آدمُ البُرُّ
(1)
.
حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنى إسحاقُ، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا ابنُ عُيَيْنةَ وابنُ المباركِ، عن الحسنِ بنِ عُمارةَ، عن المِنْهالِ بنِ عمرٍو، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت الشجرةُ التى نَهَى اللهُ عنها آدمَ وزوجتَه السُّنبلةَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ اليمنِ، عن
(3)
وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ اليَمانىِّ أنه كان يقولُ: هى البُرُّ، ولكنَّ الحَبَّةَ منها في الجنةِ ككُلَى البقرِ، ألينُ مِن الزُّبْدِ وأحْلَى مِن العسلِ، وأهلُ التَّوْراةِ يَقُولون: هى البُرُّ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن يعقوبَ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 113 عن ابن إسحاق به. وينظر الدر المنثور 1/ 52.
(2)
سيأتى بتمامه في تفسير الآية 22 من سورة الأعراف.
(3)
في الأصل: "وعن".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 (378) من طريق سلمة به.
ابنِ عُتْبةَ، أنه حدَّث أنها الشجرةُ التى تَحَنَّكُ
(1)
بها الملائكةُ للخَلْدَةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا ابنُ يَمانٍ، عن جابرِ بنِ يزيدَ بنِ رِفاعةَ، عن مُحارِبِ بنِ دِثارٍ، قال: هى السنْبُلةُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبو أُسامةَ، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ، قال: هى السنبلةُ التى جعَلها اللهُ رِزقًا لولدِه في الدنيا
(3)
.
وقال آخَرون: هى الكَرْمةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا [عبيدُ اللهِ]
(4)
، عن إسرائيلَ، عن السدىِّ، عمَّن حدَّثه، عن ابنِ عباسٍ، قال: هى الكَرْمةُ
(5)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكره عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدانىِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
(1)
في م: "تحتك".
(2)
في ص، م:"للخلد".
(3)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 عقب الأثر (377) معلقا.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد الله".
(5)
في ر، والمصادر:"الكرم".
والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 (376) من طريق عبيد الله به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 53 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وذكر السيوطي 1/ 53 عن المصنف، عن ابن عباس: هى اللوز. وقال: كذا في النسخة، وهى قديمة، وعندى أنها تصحفت من الكرم.
الشَّجَرَةَ}: هى الكَرْمُ، وَتَزْعُمُ اليهودُ أنها الحنْطةُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حَمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدىِّ، قال: الشجرةُ هى الكرْمُ.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، عن مُغيرةَ، عن الشعبىِّ، عن جَعْدةَ بنِ هُبَيْرةَ، قال: هو العِنَبُ. فى قولِه: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} .
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن خَلَّادٍ الصَّفَّارِ، عن بَيانٍ، عن الشعبىِّ، عن جَعْدةَ بنِ هُبَيْرةَ:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . قال: الكَرْمُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ وابنُ وَكيعٍ، قالا: حدَّثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن الشعبىِّ، عن جَعْدةَ بنِ هُبَيْرةَ، قال: الشجرةُ التى نُهِى عنها آدمُ شجرةُ الخمرِ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرىُّ، قال: حدَّثنا عَبَّادُ بنُ العَوَّامِ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ حسينٍ
(3)
، عن يَعْلَى بنِ مُسْلِمٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قولَه:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . قال: الكَرْمُ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سُفيانُ، عن السُّدِّىِّ، قال: العِنَبُ.
حدَّثنا القاسمُ قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ قيسٍ، قال: عِنَبٌ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 53 إلى المصنف عن ابن مسعود. وينظر تاريخ دمشق 7/ 401.
(2)
أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 53 - وأخرجه ابن سعد 1/ 34 من طريق بيان به. وعزاه السيوطي إلى أبى الشيخ.: وينظر تفسير ابن أبى حاتم 1/ 86 (376).
(3)
في ص: "حصين".
(4)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 عقب الأثر (376) معلقًا.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا خالدٌ الواسطىُّ، عن بَيانٍ، عن الشعبىِّ، عن جَعْدةَ بنِ هُبَيْرةَ:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . قال: الكَرْمُ.
وقال آخَرون: هى التِّينةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن بعضِ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: تينةٌ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: والقولُ في ذلك عندنا أن اللهَ تعالى ذكرُه أخْبَر عبادَه أن آدمَ وزوجَه قد أكَلا مِن الشجرةِ التى نهاهما عن الأكلِ منها، وأتَيا الخَطيئةَ التى نهاهما عن إتيانِها بأكلِهما ما أكَلا منها، بعدَ أن بيَّن اللهُ لهما عَينَ الشجرةِ التى نهاهما عن الأكلِ منها، وأشار لهما إليها بقولِه:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . ولم يَضَعِ اللهُ لعبادِه المخاطَبِين بالقرآنِ دَلالةً على أىِّ أشجارِ الجنةِ كان نَهْيُه آدمَ عليه السلام أن يَقْرَبَها، بنصٍّ عليها باسمِها، ولا بدَلالةٍ عليها، ولو كان للهِ جلّ ثناؤُه في العلمِ بأىِّ ذلك مِن أىٍّ رضًا، لم يُخْلِ عبادَه مِن نَصْبِ دَلالةٍ لهم عليها يَصِلون بها إلى معرفةِ عينِها، ليُطعوه بعلمِهم بها، كما فعَل ذلك في كلِّ ما في العلمِ به له رضًا.
فالصوابُ في ذلك أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذكرُه نهَى آدمَ عليه السلام وزوجتَه عن أكلِ شجرةٍ بعينِها مِن أشجارِ الجنةِ دون سائرِ أشجارِها، فخالَفا إلى ما نهاهما اللهُ عنه، فأكلا منها كما وصَفَهُما اللهُ به، ولا علمَ عندَنا [بأىِّ ذلك من أىٍّ]
(2)
. وقد
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 53 إلى المصنف عن بعض الصحابة.
وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 86 (379) من طريق ابن جريج عن مجاهد. وعزاه السيوطي إلى أبى الشيخ عن مجاهد. وينظر ما تقدم في ص 204.
(2)
في م: "أى شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا =
قِيلَ: كانت شجرةَ البُرِّ. وقيل: كانت شجرةَ العِنَبِ. وقيل: كانت شجرةَ التِّينِ. وجائزٌ أن تكونَ واحدةً منها، وذلك [عِلْمٌ إذا عُلِم]
(1)
لم يَنْفَعِ العالمَ به علمُه، وإنْ جَهِله جاهلٌ لم يضُرَّه جهلُه به.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتلَف أهلُ العربيةِ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فقال بعضُ نحْوىِّى الكوفيين: تأويلُ ذلك: ولا تَقْرَبا هذه الشجرةَ، فإنكما إن قرِبْتُماها كنتما مِن الظالمين. فصار الثانى في موضعِ جوابِ الجزاءِ، وجوابُ الجزاءِ يَعْمَلُ فيه أؤَلُه، كقولِك: إن تَقُمْ أَقُمْ. فتَجْزِمُ الثانىَ بجزمِ الأوَّلِ، فكذلك قولُه:{فَتَكُونَا} لماّ وقَعَتِ الفَاءُ في موضعِ شرطِ الأوَّلِ نُصِب بها، وصُيِّرَت بمنزلةِ "كى" في نصبِها الأفعالَ المستقبلةَ، للزومِها الاستقبالَ، إذ كان أصلُ الجزاءِ الاستقبالَ.
وقال بعضُ نحْويِّى أهلِ البصرةِ: تأويلُ ذلك: لا يكُنْ منكما قُرْبُ هذه الشجرةِ، فأن تكونا مِن الظالمين. غيرَ أنه زعَم أنّ "أن" غيرُ جائزٍ إظهارُها مع {لَا} ، ولكنَّها مُضْمَرةٌ لابد منها ليَصحَّ الكلامُ بعطفِ اسمٍ -وهى "أن"- على اسمٍ، كما غيرُ جائزٍ في قولِهم: عسى أن يَفْعَلَ: عسى الفعلُ. ولا في قولِك: ما كان لِيَفْعَلَ: ما كان لأن يَفْعَلَ.
وهذا القولُ الثانى يُفْسِدُه إجماعُ جميعِهم على تخطئةِ قولِ القائلِ: سرَّنى
= في السنة الصحيحة، فأنى يأتى ذلك من أتى".
(1)
في م: "إن علمه عالم".
تقومُ يا هذا. وهو يُرِيدُ: سرَّنى قيامُك. فكذلك يجِبُ أن يكونَ خطأً على هذا المذهب قولُ القائلِ: لا تقمْ. إذا كان المعنى: لا يكن منك قيامٌ. وفى إجْماعِ جميعِهم على صحةِ قولِ القائلِ: لا تَقُمْ. وفسادِ قولِ القائلِ: سرَّنى تَقُومُ. بمعنى: سرَّنى قيامُك - الدليلُ الواضحُ على فسادِ دعوى المُدَّعِى أن مع {لَا} التى في قوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . ضميرَ "أن"، وصحةِ القولِ الآخرِ.
وفى قولِه: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} . وجهان مِن التأويلِ، أحدُهما: أن يَكونَ {فَتَكُونَا} فى نيةِ العطفِ على قولِه: {وَلَا تَقْرَبَا} فيكونَ تأويلُه حينَئذٍ: ولا تَقْرَبا هذه الشجرةَ، ولا تكونا من الظالمين. فيكونَ {فَتَكُونَا} حينَئذٍ في معنى الجزمِ مجزومًا بما جُزِم به:{وَلَا تَقْرَبَا} . كما يقولُ القائلُ: لا تُكَلِّمْ عَمْرًا وتُؤْذِه. كما قال امرُؤُ القيسِ
(1)
.
فقلتُ له صوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ
…
فَيُذْرِكَ مِن أُخرَى القَطاةِ
(2)
فَتَزْلَقِ
فجزَم "يُذْرك" بما جزَم به "لا تَجْهَدَنَّه"، كأنه كرَّر النهىَ.
والثانى: أن يكونَ {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} . بمعنى جوابِ النهىِ، فيكونَ تأويلُه حينَئذٍ: تَقْرَبا هذه الشجرةَ، فإنكما إن قَرِبْتُماها كنتما مِن الظالمين. كما تقولُ: لا تَشْتُمْ زيدًا
(3)
فيَشْتُمَك مُجازاةً. فيكونَ {فَتَكُونَا} حينَئذٍ في موضعِ نَصبٍ إذ كان حرفًا عُطِفَ على غيرِ شكلِه، لمَّا كان فى {وَلَا تَقْرَبَا} حرفٌ عاملٌ فيه لا
(4)
يَصْلُحُ إعادتُه في {فَتَكُونَا} ، فنُصِب على ما قد بيَّنْتُ فى أولِ هذه المسألةِ.
(1)
ديوانه ص 174.
(2)
القطاة: موضع الردف عن الدابة خلف الفارس. اللسان (ق ط و).
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عمرًا".
(4)
في ص، م:"ولا".
وأما تأويلُ قولِه: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} . فإنه يعنى به: فتكونا من المُتَعدِّين إلى غيرِ ما أُذِن لهم فيه وأُبيح لهم. وإنما عَنَى بذلك أنكما إن قرِبْتُما هذه الشجرةَ كنتما على مِنْهاجِ مَن تَعدَّى حُدودي، وعَصَى أمري، واسْتَحلَّ مَحارِمي، لأنَّ الظالمين بعضُهم أولياءُ بعضٍ، واللهُ وليُّ المُتَّقِين.
وأصلُ الظلمِ في كلامِ العربِ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، ومنه قولُ نابغةِ بنى ذُبْيانَ
(1)
:
إلَّا أَوارِىَّ
(2)
لَأيًا ما أُبَيِّنُها
…
والنُّؤْىُ كالحوضِ بالمَظْلومةِ الجَلَدِ
فجعَل الأرضَ مظلومةً؛ لأنَّ الذي حفَر فيها النُّؤْىَ حفَر في غيرِ موضعِ الحفرِ، فجعَلها مظلومةً [لوضعِ الحُفْرةِ]
(3)
منها في غيرِ موضعِها. ومِن ذلك قولُ ابنِ قَمِيئةَ في صفةِ غَيْثٍ
(4)
:
ظلَم البِطاحَ
(5)
به
(6)
انْهلالُ
(7)
حَريصةٍ
(8)
…
فَصَفَا النِّطافُ
(9)
له بُعَيْدَ المُقْلَعِ
(10)
(1)
تقدم في ص 184.
(2)
في الأصل، م:"الأوارى". ويروى بالوجهين، وقد تقدم بدون الألف واللام في جميع النسخ في الموضع السابق.
(3)
في ص: "لموضع الحفر".
(4)
كذا نسبه المصنف، وورد هذا البيت في ديوان ابن قميئة ص 207 على أنَّه من الشعر المنسوب إليه وليس
في مخطوطة الديوان. والصواب أنه للحادرة، ينظر المفضليات ص 44، وديوان شعر الحادرة ص 308.
(5)
البطاح: بطون الأودية. التاج (ب ط ح).
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بها". وفى المفضليات: "له". والمثبت من الأصل، ص موافق لما في ديوان شعر الحادرة.
(7)
انهل المطر انهلالا: سال بشدة. اللسان (هـ ل ل).
(8)
الحريصة: السحابة التى تقشر وجه الأرض بمطرها. التاج (ح ر ص).
(9)
النطاف: القليل من الماء، وقيل: هى الماء الصافى قلَّ أو كثر. اللسان (ن ط ف).
(10)
المقلع: الإقلاع؛ وهو الإمساك والكف. التاج (ق ل ع).
وظلمُه إياه مَجِيئُه في غيرِ أوانِه، وانصبابُه في غيرِ مَصَبِّه. ومنه ظلمُ الرجلِ جَزورَه، وهو نحرُه إياه لغيرِ علَّةٍ، وذلك عندَ العربِ وَضْعُ النحرِ في غيرِ موضعِه.
وقد يتفَرَّعُ الظُّلْمُ في معانٍ يَطولُ بإحْصائِها الكِتابُ، سنُبيِّنُها في أماكنِهِا إذا أتيْنا عليها، إنِ اللهُ شاء ذلك، وأصلُ ذلك كُلِّه ما وصَفْنا من وضعِ الشيءِ في غيرِ موضِعِه.
القولُ في تأويلِ قولِهِ عز وجل: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَفتِ القَرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأَتْه عامَّتُهم: ({فَأَزَلَّهُمَا} . بتشديدِ اللامِ
(1)
، بمعنى: اسْتَزَلَّهما، مِن قولِك: زَلَّ الرجلُ في دينِه. إذا هفَا فيه وأخْطَأ، فأَتَى ما ليس له إتيانُه فيه، وأزلَّه غيرُه، إذا سبَّب له ما يَزِلُّ مِن أجلِه في دِينِه أو دنياه، ولذلك أضاف اللهُ تعالى ذكرُه إلى إبليسَ خروجَ آدمَ وزوجتِه مِن الجنةِ فقال:{فَأَخْرَجَهُمَا} . يعنى: إبليسُ أخرَجهما
(2)
{مِمَّا كَانَا فِيهِ} ؛ لأنه كان الذى سبَّب لهما الخطيئةَ التى عاقَبَهما اللهُ عليها بإخْراجِهما مِن الجنةِ.
وقرَأه آخَرون: (فأزَالهما)
(3)
. بمعنى إزالةِ الشيءِ عن الشيءِ، وذلك تَنْحِيتُه عنه.
وقد رُوِى عن ابنِ عباسٍ في تأويلِ قولِه: {فَأَزَلَّهُمَا} [ما حَدَّثَنَاهُ]
(4)
القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: قولُه: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} . قال: أغواهما
(5)
.
(1)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 153.
(2)
سقط من ص، م، ت 2.
(3)
وهى قراءة حمزة. المصدر السابق.
(4)
في ص: "الشيطان عنها، قال: أغواهما. حدثنا".
(5)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 87 (386) من طريق ابن جريجٍ به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 53 إلى ابن المنذر.
وأولى القراءتَيْن بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه: {فَأَزَلَّهُمَا} ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكرُه قد أخْبَر في الحرفِ الذى يتْلُوه بأنَّ إبليسَ أخرَجَهُما مما كانا فيه، وذلك هو مَعْنى قولِه:(فأزالهما)
(1)
. فلا وجهَ -إذ كان معنى الإزالةِ معنى التَّنْحِيةِ والإخْراجِ- أن يُقالَ: (فأزالهما الشيطانُ عنها فأخْرَجَهما مما كانا فيه) فيكونُ كقولِه: فأزالهما الشيطانُ عنها فأزالهما مما كانا فيه. ولكنِ المعنى المفهومُ أن يُقالَ: فاسْتَزَلَّهما إبليسُ عن طاعةِ اللهِ -كما قال تعالى ذكرُه: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} . وقرَأَت به القَرأَةُ- فأخْرَجَهما باسْتِزْلالِه إياهما عن
(2)
الجنةِ.
فإن قالَ قائلٌ: وكيف كان اسْتِزْلالُ إبليسَ آدمَ وزوجتَه عليهما السلام، حتى أُضِيفَ إليه إخراجُهما مِن الجنةِ؟
قيل: قد قالت العلماءُ في ذلك أقوالًا سنَذكُرُ بعضَها.
فحُكِى عن وهبِ بنِ مُنبِّهٍ فى ذلك ما حَدَّثَنَا به الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا عمرُ
(3)
بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ مُهْرِبٍ، قال: سمِعْتُ وهْبَ ابنَ مُنَبِّهٍ يقولُ: لمَّا أسْكَن اللهُ آدمَ وذريتَه، أو زوجتَه -الشكُّ مِن أبى جعفرٍ، وهو في أصلِ كتابِه: وذريتَه- ونهاه عن الشجرةِ، وكانت شجرةً غُصونُها مُتَشَعِّبٌ بعضُها في بعضٍ، وكان لها ثمرٌ تَأْكُلُه الملائكةُ لخُلدِهم، وهى الثمرةُ التى نهَى اللهُ عنها آدمَ وزوجتَه، فلمَّا أراد إبليسُ أن يَستَزِلَّهما، دخَل في جوفِ الحيَّةِ، وكانت للحيَّةِ أربعُ قَوائِمَ كأنها بُخْتيَّةٌ
(4)
مِن أحسنِ دابةٍ خلَقها اللهُ جلَّ ثناؤُه، فلمّا دخَلَت الحيةُ الجنةَ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فأزلهما".
(2)
في م: "من".
(3)
في م: "عمرو".
(4)
البختية: الأنثى من الجمال البُخْتِ، والذكر بختيٌّ، وهى جمال طوال الأعناق، وتجمع على بُخْت وبخاتيِّ -غير مصروف- واللفظة معربة. النهاية 1/ 101.
خرَج مِن جوفِها إبليسُ، فأخَذ مِن الشجرةِ التى نهى اللهُ عنها آدمَ وزوجتَه، فجاء بها
(1)
إلى حَوَّاءَ، فقال: انظُرى إلى هذه الشجرةِ، ما أطيبَ ريحَها، وأطيبَ طعمَها، وأحسنَ لونَها! فأخَذَت حواءُ فأكَلَت منها، ثم ذهَبَت بها إلى آدمَ، فقالت: انظُرْ إلى هذه الشجرةِ، ما أطيبَ ريحَها، وأطيبَ طعمَها، وأحسنَ لونَها! فأكَل منها آدمُ، فبدَت لهما سَوآتُهما، فدخَل آدمُ في جوفِ الشجرةِ، فناداه ربُّه: يا آدمُ، أين أنت؟ قال: أنا هذا
(2)
يا ربِّ. قال: ألا تَخرُجُ؟ قال: أَسْتَحْيِى منك يا ربِّ. قال: ملعونةٌ الأرضُ التى خُلِقْتَ منها لعنةً [تَتَحوَّلُ ثمارُها]
(3)
شوكًا. قال: ولم يَكُنْ في الجنةِ ولا في الأرضِ
(4)
شجرةٌ كان أفضلَ مِن الطَّلْحِ والسِّدْرِ. ثم قال: يا حَوَّاءُ، أنت التى غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحْمِلين حَمْلًا إلَّا حَملْتِه كَرْهًا، فإذا أرَدْتِ أن تَضَعِى ما في بطنِكِ أشْرَفْتِ على الموتِ مِرارًا. وقال للحيَّةِ: أنت التى دخَل الملعونُ في جوفِكِ، حتى غرَّ عبدِي، ملعونةٌ أنتِ لعنةً تتَحَوَّلُ قَوائِمُك في بطنِكِ، [ولا يكونُ]
(5)
لك رزقٌ إلَّا الترابُ، أنت عدوَّةُ بنى آدمَ، وهم أعداؤُكِ، حيثُ لقيتِ أحدًا منهم أخَذْتِ بعَقِبِه، وحيثُ لقِيَكِ شدَخ رأسَكِ. قال عمرُ
(6)
: قيل لوهبٍ: وما كانت الملائكةُ تَأْكُلُ؟ قال: يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ
(7)
.
وقد رُوِى عن ابنِ عباسٍ نحوُ هذه القصةِ.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
(2)
في م، ت 2:"هنا".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يتحول ثمرها".
(4)
في ص: "السماء".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، وتاريخ المصنّف:"لا يكن"، وفى ت 3:"لَمْ يكن".
(6)
في م: "عمرو".
(7)
تفسير عبد الرزاق 1/ 226، وأخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 108، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 87 (382) -مختصرا- عن الحسن بن يحيى به. وعندهم: لما أسكن الله آدم وزوجته الجَنَّة. بدون شك.
حَدَّثَنِي موسي، قال: حَدَّثَنَا عمرٌو، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السّدِّيِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لما قال اللهُ لآدمَ: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} . أراد إبليسُ أن يَدْخُلَ عليهما الجنةَ، فمنَعَه الخَزَنةُ، فأَتَى الحيةَ -وهى دابةٌ لها أربعُ قَوائِمَ، كأنَّها البعيرُ، وهى كأحسنِ الدوابِّ- فكلَّمها أن تُدْخِلَه في فُقْمِها
(1)
حتى تَدْخُلَ به إلى آدمَ، فأدْخَلَته في فُقْمِها
(2)
- [قال أبو جعفرٍ: والفُقْمُ جانبُ الشِّدْقِ]
(3)
- فمرَّت الحيةُ على الخَزَنةِ فدخَلَت ولا يَعْلَمون، لِمَا أَراد اللهُ مِن الأمرِ. فكلَّمه مِن فُقْمِها
(4)
، فلم يُبالِ كلامَه
(5)
، فخرَج إليه، فقال:{يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]. يقولُ: هل أَدُلُّك على شجرةٍ إن أكَلْت منها كنتَ مَلِكًا مثلَ اللهِ عز وجل، أو تكونا مِن الخالدِين فلا تَموتان أبدًا. وحلَف لهما باللهِ:{إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]. وإنما أراد بذلك لِيُبْدِيَ لهما ما تَوارَى عنهما مِن سَوْءاتِهما بهَتْكِ لباسِهما، وكان قد علِم أن لهما سَوْأَةً، لِمَا كانَ يَقْرَأُ مِن كتبِ الملائكةِ، ولم يَكُنْ آدمُ يَعْلَمُ ذلك، وكان لِباسُهما الظُّفْرَ، فأبَى آدمُ أن يَأْكُلَ منها، فتقَدَّمَت حَوَّاءُ فأكَلَت، ثم قالت: يا آدمُ كُلْ، فإني قد أكَلْت فلم يَضُرَّنِي. فلمَّا أكَل آدمُ بَدَت لهما سوءاتُهما، وطفِقا يَخصِفَان عليهما مِن ورقِ الجنةِ
(6)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، وتاريخ المصنّف، والدر المنثور:"فمها".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، والتاريخ، والدر:"فمها".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م، "فمها"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فمه".
(5)
في م، والدر:"بكلامه".
(6)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 106، 107. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 402 من طريق عمرو =
حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: حَدَّثَنِي مُحدِّثٌ أن الشيطانَ دخَل الجنةَ في صورةِ دابةٍ ذاتِ قوائمَ، فكان يُرى أنه
(1)
البعيرُ، قال: فلُعِن، فسقَطت قوائمُه فصار حيَّةً
(2)
.
حُدِّثت عن عمارٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: وحَدَّثَنَي أبو العاليةِ أن مِن الإبلِ ما كان أوَّلُها مِن الجنِّ. قال: فأُبِيحَت له الجنةُ كلُّها إلَّا الشجرةَ، وقيل لهما
(3)
: {لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} قال: فأتَى الشيطانُ حَوَّاءَ، فبدَأ بها، فقال: أنُهِيتُما عن شيءٍ؟ قالت: نعم، عن هذه الشجرةِ. فقال:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]. قال: فبدَأَت حواءُ فأكَلَت منها، ثم أمَرَت آدمَ فأكَل منها. قال: وكانت شجرةً مَن أكَل منها أحْدَث. قال: ولا يَنْبَغِى أن يَكونَ في الجنةِ حَدَثٌ. قال: {فَأَزَلَّهُمَا
(4)
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}. قال: فأخْرج آدمُ مِن الجنةِ
(5)
.
حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سَلَمةُ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، أن آدمَ حينَ دخَل الجنةَ ورأَى ما فيها مِن الكَرامةِ وما أعْطاه اللهُ منها، قال: لو
= ابن حماد به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1451 (8294، 8295، 8298) من طريق عمرو بن حماد به، عن السدى من قوله مختصرًا.
(1)
في ت 3: "كأنه".
(2)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 109.
(3)
في ص: "له".
(4)
في الأصل، ص:"فأزالهما". وهى قراءة حمزة كما تقدم.
(5)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 109، 110.
أن خُلْدًا كان. [فاغْتَمَز فيها]
(1)
منه الشيطانُ لمَّا سِمعَها منه، فأتاه مِن قِبَلِ الخُلْدِ
(2)
.
حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: حُدِّثْتُ أن أولَ ما ابْتَدَأهما به مِن كيدِه إياهما أنه ناح عليهما نِياحَةً
(3)
حَزَّنتهما
(4)
حينَ سمِعاها، فقالا له: ما يُبكِيك؟ قال: أَبْكِى عليكما؛ تَمُوتان فتُفارِقان ما أنتما فيه مِن النعمةِ والكَرامةِ. فوقَع ذلك في أنفسِهما، ثم أتاهما فوَسْوَس إليهما، فقال:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]. وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21]. أى: تكونان ملَكَين، أو تَخلُدان -إن لَمْ تكونا ملَكَين- في نعمةِ الجنةِ، فلا تَمُوتان. يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤُه:{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}
(5)
[الأعراف: 22].
وحَدَّثَنَي يونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَي، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: وسْوَس الشيطانُ إلى حَوَّاءَ في الشجرةِ حتى أتَى بها إليها، ثم حسَّنها في عينِ آدمَ. قال: فدعاها آدمُ لحاجتِه. قالت: لا، إلَّا أن تَأْتىَ ههنا. فلما أتَى قالت: لا، إلَّا أن تَأْكُلَ مِن هذه الشجرةِ. قال: فأكَلا منها فبدَت لهما سَوءاتُهما. قال: وذهَب آدمُ هاربًا في الجنةِ، فناداه ربُّه: يا آدمُ، أمنِّى تَفِرُّ؟ قال: لا يا ربِّ، ولكن حَياءً منك. قال: يا آدمُ، أَنَّى أُتِيتَ؟ قال: مِن قِبَلِ حواءَ أى ربِّ. فقال اللهُ: فإن لها عليَّ أن أُدْمِيَها
(1)
في م: "فاغتنمها". وقوله اغتمز فيها: يقال: سمعت منه كلمة فاغتمزتها في عقله، وأغمزت فيه، أى: وجدت فيه ما يستضعف لأجله. أساس البلاغة (غ م ز).
(2)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 110.
(3)
في ت 2، ت 3:"مناحة".
(4)
في م وتاريخ المصنّف: "أحزنتهما". وفى نسختين من نسخ التاريخ كالمثبت هنا.
(5)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 110، 111.
في كلِّ شهرٍ مرةً كما دَمَّتْ
(1)
هذه الشجرةَ، وأن أَجْعَلَها سَفِيهةً، فقد كنتُ خلَقْتُها حَلِيمةً، وأن أَجْعَلَها تَحْمِلُ كَرْهًا وَتَضَعُ كَرْهًا، فقد كنتُ جعَلْتُها تَحْمِلُ يُسْرًا
(1)
وتَضَعُ يُسْرًا
(2)
. قال ابنُ زيدٍ: ولولا البَليَّةُ التى أصابَتْ حَوَّاءُ لَكان نساءُ الدنيا لا يَحِضْنَ، ولَكُنَّ حَليماتٍ، وكُنَّ يَحْمِلْنَ يُسْرًا
(2)
ويَضَعْنَ يُسْرًا
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن يزيدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قُسَيْطٍ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، قال: سمِعْتُه يَحْلِفُ باللهِ ما يَسْتَثْنى: ما أكَل آدمُ مِن الشجرةِ وهو يَعْقِلُ، ولكنّ حَوَّاءَ سقَتْه الخمرَ، حتى إذا سكِر قادَتْه إليها فأكَل
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن ليثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ، عن طاوسٍ اليَمانىِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن عدُوَّ اللهِ إبليسَ عرَض نفسَه على دَوابِّ الأرضِ أنها تَحْمِلُه حتى تَدْخُلَ به
(4)
الجنةَ
(5)
حتى
(6)
يُكَلِّمَ آدمَ وزوجتَه، فكلُّ الدوابِّ أبَى ذلك عليه، حتى كلَّم الحَيَّةَ، فقال لها: أَمْنَعُكِ مِن ابنِ آدمَ، فأنتِ في ذِمَّتى إن أنتِ أدْخَلْتِنى الجنةَ. فجعَلَتْه بينَ نابينِ من أنيابِها، ثم دخَلَت به، فكلَّمَهما مِن فيها، وكانت كاسيةً تَمْشِى على أربعِ قَوائِمَ، فأعْراها اللهُ وجعَلها
(1)
في م: "أدميت"، وفي تاريخ المصنف:"أدمت". والمثبت هنا والذي في التاريخ كلاهما بمعنى، وينظر التاج (د م ى).
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يسيرا".
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 111. وتقدم طرف منه في ص 421.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 111، 112 مطولا.
(4)
سقط من: م.
(5)
بعده في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"معه"، وبعده في م:"معها".
(6)
في م: "و".
تَمْشِى على بطنِها. قال: يقولُ ابنُ عباسٍ: اقْتُلُوها حيث وجَدْتُموها، أخْفِروا ذِمَّةَ عدوِّ اللهِ فيها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: قال ابنُ إسحاقَ: وأهلُ التَّوراةِ يَدْرُسون: إنما كلَّم آدمَ الحيةُ. ولم يُفَسِّروا كتفسيرِ ابنِ عباسٍ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ قيسٍ، قال: نهَى اللهُ آدمَ وحوَّاءَ أن يَأْكُلا مِن شجرةٍ واحدةٍ في الجنةِ، ويَأْكُلا منها
(2)
رَغَدًا حيث شاءا، فجاء الشيطانُ فدخَل في جوفِ الحيةِ، فكلَّم حَوَّاءَ، ووسْوَس
(3)
إلى آدمَ، فقال:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21]. قال: فقطَعت
(4)
حَوَّاءُ الشجرةَ، فدَمِيَت الشجرةُ، وسقَط عنهما رياشُهما الذي كان عليهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]. لمَ أكَلْتَها وقد نهَيْتُك عنها؟ قال: ياربِّ، أطْعَمَتْنى حَوَّاءُ. قال لحَوَّاءَ: لمَ أطْعَمْتِه؟ قالت: أمَرَتْنِى الحيةُ. قال للحيةِ: لمَ أمَرْتِها؟ قالت: أمَرَنى إبليسُ. قال: ملعونٌ مَدْحورٌ؛ أما أنت يا حَوَّاءُ فكما أَدْمَيْتِ الشجرةَ، تَدْمَيْن
(5)
في كلِّ هلالٍ، وأما أنت يا حَيَّةُ فأَقْطَعُ قَوائمَك، فتَمْشِين جرًّا
(6)
على وجهِك، وسيَشْدَخُ رأسَك مَن
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 107، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 53 إلى عبد الرزاق.
(2)
في ر: "من الجنة".
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الشيطان".
(4)
في م: "فعضت".
(5)
في م: "فتدمين".
(6)
سقط من: ر. وفي م، وتاريخ المصنف:"جريا"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"جرى".
لَقِيَكِ بالحجرِ، اهْبِطوا بعضُكم لبعضٍ عدُوٌّ
(1)
.
فقد رُوِيَت هذه الأخبارُ -عمَّن روَيْناها عنه مِن الصحابةِ والتابعين وغيرِهم- في صفةِ استزلالِ إبليسَ عدوِّ اللهِ آدمَ وزوجتَه حتى أخْرَجَهما مِن الجنةِ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى ذلك بالحقِّ عندَنا ما كان لكتابِ اللهِ مُوافِقًا، وقد أخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه عن إبليسَ أنه وسْوَس لآدَمَ وزوجتِه ليُبْدِىَ لهما ما وُورِى عنهما مِن سَوْءاتِهما، وأنه قال لهما:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} . وأنه قاسَمهما: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} . مُدَلِّيًا لهما بغُرورٍ. ففى إخْبارِ اللهِ تعالى ذكرُه عن عدوِّ اللهِ أنه قاسَم آدمَ وزوجتَه بقيلِه لهما: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} . الدليلُ الواضحُ على أنه قد باشَر خطابَهما بنفسِه، إما ظاهرًا لأعينِهما، وإما مُسْتَجِنًّا في غيرِه، وذلك أنه غيرُ معقولٍ في كلامِ العربِ أن يُقالَ: قاسَم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبَّب له سببًا وصَل به إليه دونَ أن يَحْلِفَ له، والحَلِفُ لا يكونُ بتَسَبُّبِ السببِ، فكذلك قولُه:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]. لو كان ذلك كان منه إلى آدمَ على نحوِ الذي منه إلى ذريتِه -مِن تَزْيينِ أكلِ ما نهَى اللهُ آدمَ عن أكلِه مِن الشجرةِ، بغيرِ مباشرةِ خطابِه إياه بما اسْتَزَلَّه به مِن القولِ والحِيَلِ- لَما قال تعالى ذكرُه:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} . كما غيرُ جائزٍ أن يَقولَ اليومَ قائلٌ ممَّن أتَى معصيةً: قاسَمَنى إبليسُ أنه لى ناصحٌ فيما زيَّن لى مِن المعصيةِ التى أتَيْتُها. فكذلك الذي كان مِن آدمَ وزوجتِه لو كان على النحوِ الذي يكونُ فيما بينَ إبليسَ اليومَ وذريةِ آدمَ، لما قال تعالى ذكرُه:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} . ولكن
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 109.
ذلك كان إن شاءَ اللهُ على نحوِ ما قال ابنُ عباسٍ ومَن قال بقولِه.
فأما سببُ وصولِه إلى الجنةِ حتى كلَّم آدمَ بعدَ أن أخْرَجَه اللهُ منها وطرَده عنها، فليس فيما رُوى عن ابنِ عباسٍ ووهبِ بنِ مُنَبِّهٍ في ذلك معنًى يَجوزُ لذى
(1)
فَهمٍ مُدافعتُه، إذ كان ذلك قولًا لا يَدْفَعُه عقلٌ
(2)
، ولا خبرٌ يَلزَمُ تَصْديقُه مِن حُجَّةٍ بخلافهِ، وهو مِن الأمورِ المُمْكنةِ. فالقولُ في ذلك أنه قد وصَل إلى خطابِهما على ما أخْبَرنا اللهُ تعالى ذكرُه، وممكنٌ أن يَكونَ وصَل إلى ذلك بنحوِ الذي قاله المتأوِّلون، بل ذلك -إن شاء اللهُ- كذلك؛ لتتابعِ أقوالِ أهلِ التأويلِ على تصحيحِ ذلك، وإن كان ابنُ إسحاقَ قد قال في ذلك ما حدَّثنا به ابنُ حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: قال ابنُ
(3)
إسحاقَ في ذلك: [اللهُ أعلمُ، أكَمَا]
(4)
قال ابنُ عباسٍ وأهلُ التَّوْراةِ، أَمْ
(5)
خلَص إلى آدمَ وزوجتِه بسُلطانِه الذي جعَل اللهُ له ليَبْتَلِىَ به آدمَ وذريتَه؟ وأنه يَأْتى ابنَ آدمَ في نَوْمتِه وفي يَقَظتِه، وفي كلِّ حالٍ مِن أحوالِه، حتى يَخْلُصَ إلى ما أراد منه حتى يَدْعُوَه إلى المعصيةِ، ويُوقِعَ في نفسِه الشهوةَ وهو لا يَراه، وقد قال الله تعالى ذكرُه:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} . {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} . وقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]. وقد قال اللهُ جل ثناؤه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَعُوذُ
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"لذوى".
(2)
في ص: "قول".
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"أبو".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"والله أعلم، كما".
(5)
في م، ت 2:"إنه".
بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 1، 2]. إلى آخرِ السورةِ. ثم ذكَر الأخبارَ التى رُوِيَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ"
(1)
. ثم
(2)
قال ابنُ إسحاقَ: وإنما أمْرُ ابنِ آدمَ فيما بينَه وبينَ عدوِّ اللهِ كأمْرِه فيما بينَه وبينَ آدمَ، فقال الله:{فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]. ثم خلَص إلى آدمَ وزوجتهِ حتى كلَّمَهما
(3)
كما قصَّ اللهُ علينا مِن خبرِهما، فقال:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]. فخلَص إليهما
(4)
بما خلَص إلى ذريتِه مِن حيثُ لا يَرَيانِه -فاللهُ أعلمُ أيُّ ذلك كان- فتابا إلى ربِّهما.
قال أبو جعفرٍ: وليس في يقينِ ابنِ إسحاقَ -لو كان قد أيْقَن في نفسِه- أن إبليسَ لم يَخْلُصْ إلى آدمَ وزوجتِه بالمُخاطَبةِ بما أخْبَر اللهُ عنه أنه قال لهما وخاطَبَهما به، ما يَجوزُ لذى فهمٍ الاعتراضُ به على ما ورَد مِن القولِ مُسْتَفِيضًا في أهلِ العلمِ، مع دَلالةِ الكتابِ على صحةِ ما اسْتَفاض مِن ذلك بينَهم، فكيف بشَكِّه؟ واللهَ نَسْأَلُ التوفيقَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} .
وأما تأويلُ قولِه: {فَأَخْرَجَهُمَا} . فإنه يعنى: فأخْرَج الشيطانُ آدمَ وزوجتَه، {مِمَّا كَانَا فِيهِ} يعنى: مما كان فيه آدمُ وزوجتُه مِن رَغَدِ العيشِ في الجنةِ، وسَعَةِ نعيمِها الذي كانا فيه. وقد بيَّنَّا أن اللهَ تعالى ذكرُه إنما أضاف إخراجَهما مِن الجنةِ إلى
(1)
أخرجه البخارى (2039)، ومسلم (2175) من حديث صفية، رضي الله عنها.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، ت 1:"كلمها".
(4)
في ص: "إليها".
الشيطانِ، وإن كان اللهُ هو المُخْرِجَ لهما؛ لأن خروجَهما منها كان عن سببٍ مِن الشيطانِ، فأُضِيف ذلك إليه لتَسْبيبِه إياه، كما يقولُ القائلُ لرجلٍ وصَل إليه منه أذًى حتى تحَوَّل مِن أجلِه عن موضعٍ كان يَسْكُنهُ: ما حوَّلنى عن
(1)
موضِعى الذي كنتُ فيه إلا أنت. ولم يَكُنْ منه له تحويلٌ، ولكنه لمّا كان تحوُّلُه عن سببٍ منه جاز له إضافةُ تحويلِه إليه.
القولُ في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .
يُقالُ: هبَط فلانٌ أرضَ كذا، ووادىَ كذا. إذا حَلَّ ذلك، كما قال الشاعرُ
(2)
:
ما زِلْتُ أَرْمُقُهم حتَّى إذا هبَطَتْ
…
أَيْدِى الرِّكابِ بهم مِن راكِسٍ
(3)
فَلَقَا
(4)
وقد أبان هذا القولُ مِن اللهِ جل ثناؤُه عن صحةِ ما قلْنا مِن أن المُخْرِجَ آدمَ مِن الجنةِ هو اللهُ جل ثناؤُه، وأن إضافةَ اللهِ إلى إبليسَ ما أضاف إليه مِن إخراجِهما كان على ما وصَفْنا، ودلَّ بذلك أيضًا على أن هُبوطَ آدمَ وزوجتِه وعدوِّهما إبليسَ كان في وقتٍ واحدٍ، لجَمْعِ
(5)
اللهِ إياهم في الخبرِ عن إهْباطِهم، بعدَ الذي كان مِن خَطيئةِ آدمَ وزوجتِه، وتسبيبِ إبليسَ ذلك لهما، على ما وصَفَه ربُّنا تعالى ذكرُه عنهم.
(1)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(2)
هو زهير بن أبي سلمى، شرح ديوانه ص 37.
(3)
راكس: واد. معجم البلدان 2/ 735.
(4)
في ص: "فلتا"، وفي ت 1، ت 3:"قلقا". والفلق: المطمئن من الأرض بين ربوتين. اللسان (ف ل ق).
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بجمع"، وفي م:"يجمع".
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في المعنىِّ بقولِه: {اهْبِطُوا} . مع إجماعِهم على أن آدمَ وزوجتَه ممَّن عُنِى به.
فحدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبو أسامةَ، عن أبى عَوَانةَ، عن إسماعِيلَ بنِ سالمٍ، عن أبي صالحٍ:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال: آدمُ وحواءُ
(1)
والحيَّةُ
(2)
.
[حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ وموسى بنُ هارونَ، قالا: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. قال: فلعَن الحيةَ وقطَع قَوائمَها، وترَكها تَمْشِى على بطنِها، وجعَل رزقَها مِن الترابِ، وأهبَط إلى الأرضِ آدمَ وحواءَ وإبليسَ والحيةَ]
(3)
.
وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميْمونٍ، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال: آدمُ وإبليسُ والحيةُ
(4)
.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وإبليس". وسيأتى بهذه الزيادة من وجه آخر عن إسماعيل في ص 588.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 92 (416) من طريق أبي عوانة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 55 إلى أبي الشيخ من طريق قتادة، عن أبي صالح.
(3)
سقط من ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 92 عقب الأثر (416) من طريق عمرو به.
وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 112 بهذا الإسناد عن السدى بإسناده المعروف.
(4)
بعده في ت 1: "وحواء".
والأثر في تفسير مجاهد ص 200 بلفظ: إبليس وآدم. وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 112 بزيادة: حواء. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 404 من طريق الثورى، عن مجاهد بلفظ: آدم والحية والشيطان. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 55 إلى أبي الشيخ عن مجاهد بهذا اللفظ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : آدمُ وإبليسُ والحيّةُ ذريةُ بعضِهم أعداءٌ لبعضٍ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ:{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} . قال: آدمُ وذريتُه، وإبليسُ وذريتُه.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ بنُ أبى إياسٍ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ [في قوله:{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} . قال: يعنى آدمَ وإبليسَ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عُبيدُ اللهِ بنُ موسى، عن إسرائيلَ، عن السُّدىِّ، عمَّن حدَّثه]
(1)
، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال: [بعضُهم لبعضٍ عدو]
(2)
؛ آدمُ وحواءُ وإبليسُ والحيةُ.
حدَّثنى يونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدىٍّ، عن إسرائيلَ، عن إسماعيلَ السدىِّ، قال: حدَّثنى مَن سمِع ابنَ عباسٍ يقولُ: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال: آدمُ وحواءُ وإبليسُ والحيّةُ
(3)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه:
(1)
سقط من: ر.
(2)
في الأصل: "بعضكم لبعض عدو قال".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 112، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 89، 5/ 1455 (893، 8320) عن يونس به.
{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال: لهما ولذريتِهما.
قال أبو جعفرٍ: فإن قال قائلٌ: وما كانت عَداوةُ ما بينَ آدمَ وزوجتهِ وإبليسَ والحيةِ؟
قيل: أما عَداوةُ إبليسَ آدمَ وذريتَه، فحسَدُه إيّاه، واسْتِكبارُه عن طاعةِ اللهِ في السجودِ له حينَ قال لرِّبه:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12، ص: 76].
وأما عَداوةُ آدمَ وذريتِه إبليسَ، فعداوةُ المؤمنين إيّاه؛ لكفرِه باللهِ وعِصْيانِه ربَّه في تكبُّرِه عليه ومُخالفتِه أمرَه، وذلك مِن آدمَ ومؤمنِى ذريتِه إيمانٌ باللهِ.
وأما عَداوةُ إبليسَ آدمَ، فكفرٌ باللهِ.
وأما عَداوةُ ما بينَ آدمَ وذريتِه والحيّةِ، فقد ذكَرْنا ما رُوِى في ذلك عن ابنِ عباسٍ ووهبِ بنِ مُنَبِّهٍ، وذلك هى العَداوةُ التى بينَنا وبينَها، كما رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما سَالَمْنَاهُنَّ منذ حارَبْنَاهُنَّ، فمن تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ ثَأْرِهِنَّ فليس منَّا".
حدَّثنى محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: حدَّثنا حجاجُ بنُ رِشدين
(1)
، قال: حدَّثنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، عن ابنِ عَجْلانَ، عن أبيه، عن أبِى هُريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما سَالَمْنَاهُنَّ منذ حارَبْنَاهُنَّ، فمن تَرَكَ شَيئًا مِنْهُنَّ خِيفَةً فليس مِنَّا"
(2)
.
(1)
في م: "رشد".
(2)
أخرجه أحمد 15/ 360، 16/ 433 (9588، 10741)، وأبو داود (5248)، والطحاوى في المشكل (1338) من طرق عن ابن عجلان به. وأخرجه الحميدى (1156)، وأحمد 12/ 324=
وأحْسَبُ أن الحربَ التى بينَنا كان أصلُه ما ذكَره علماؤُنا الذين قدَّمْنا الروايةَ عنهم في إدخالِها إبليسَ الجنةَ بعدَ أن أخْرَجَه اللهُ منها، حتى اسْتَزَلَّه عن طاعةِ رِّبه في أكلِ
(1)
ما نُهِى عن أكلِه مِن الشجرةِ.
وقد حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا مُعاويةُ بنُ هشامٍ، وحدَّثنا محمدُ بنُ خلفٍ العَسْقلانيُّ، [قال: حدَّثنا آدمُ، جميعًا عن شَيْبانَ]
(2)
، عن جابرٍ، عن سعيدِ ابنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: سُئِل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن قتلِ الحيَّاتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خُلِقَتْ هى والإنسَانُ، كُلُّ واحِدٍ منهما عَدُوٌّ لصَاحِبِه، إن رَآها أَفْزَعَتْه، وإِن لَدَغَتْهُ أوْجَعَتْهُ، فاقْتُلْهَا حيث وَجَدْتهَا"
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلكِ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنى المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ العَسْقلانيُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ الرازىُّ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولهِ:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال: هو قولُه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}
(4)
.
وحُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبِى جعفرٍ، عن أبيه،
= (7366)، وابن حبان (5644) من طريق ابن عجلان أيضا، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عجلان به. وقال الدارقطنى في العلل 11/ 138: ولعل محمد بن عجلان سمعه عن أبيه، واستثبته من بكير بن الأشج.
(1)
في م: "أكله".
(2)
سقط من: ص.
(3)
إسناده ضعيف؛ لضعف جابر الجعفى. وأخرجه الطيالسى (2741)، والطبرانى في الأوسط (4500) من طريق جابر به.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 90، 5/ 1455 (401، 8323) من طريق آدم به.
عن الربيعِ في قولِه: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال: هو قولُه: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64].
وقال آخَرون: معنى ذلك: ولكم في الأرضِ قَرارٌ في القبورِ
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدىِّ:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال
(2)
: القبورُ
(3)
.
حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، عن إسرائيلَ، عن إسماعيلَ السُّدىِّ، قال: حدَّثنى مَن سمِع ابنَ عباسٍ قال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال: القبورُ
(4)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال: مُقامُهم فيها.
والمستقرُّ في كلام العربِ هو موضعُ الاستقرارِ، فإذ كان ذلك كذلك، فحيثُ كان مِن
(5)
الأرضِ موجودًا حالًّا، فذلك المكانُ مِن الأرضِ مُسْتَقَرُّه.
وإنما عنَى اللهُ جلّ وعزّ بذلك أن لهم في الأرضِ مستقرًّا ومَنْزِلًا بأماكنِهم
(1)
بعده في ر: "ولكم فيها بلاغ إلى الموت".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"يعنى"، وفى ت 3:"أعنى".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 5/ 1455 عقب الأثر (8321) من طريق عمرو به.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 89 (399) من طريق إسرائيل، عن السدى، عن ابن عباس.
(5)
بعده في م: "في".
ومُسْتَقَرِّهم مِن الجنةِ والسماءِ، وكذلك قولُه:{وَمَتَاعٌ} . يعنى به أنّ لهم فيها متاعًا بمتاعِهم في الجنةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: ولكم فيها بَلاغٌ إلى الموتِ.
ذِكر مَن قال ذلك
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدىِّ في قولِه:{وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . قال: يقولُ: بَلاغٌ إلى الموتِ
(1)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، عن إسرائيلَ، عن إسماعيلَ السُّدىِّ، قال: حدَّثنى مَن سمِع ابنَ عباسٍ: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . قال: الحياةُ.
[حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، عن إسرائيلَ، عن السديِّ، عمّن حدّثه، عن ابنِ عباسٍ: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}. قال: الحياةُ]
(2)
.
وقال آخَرون: يعنى بقولِه: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} : إلى قيامِ الساعةِ.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 90، 5/ 1456 (402، 8324) من طريق عمرو به.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 90، 5/ 1456 (403، 8325) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدى، عن عكرمة، عن ابن عباس.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . قال: إلى يومِ القيامةِ، إلى انقطاعِ الدنيا.
وقال آخَرون: {إِلَى حِينٍ}
(1)
: إلى أجلٍ.
ذكرُ من قال ذلك
حُدِّثْت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . قال: إلى أجلٍ
(2)
.
والمتاعُ في كلامِ العربِ كلُّ ما استُمْتِع به مِن شيءٍ، في
(3)
معاشٍ استُمْتِع به، أو رِياشٍ أو زينةٍ أو لذَّةٍ أو غيرِ ذلك. فإذ كان ذلك كذلك -وكان اللهُ تعالى ذكرُه قد جعَل حياةَ كلِّ حيٍّ متاعًا له يسْتَمتِعُ بها أيامَ حياتِه، وجعَل الأرضَ للإنسانِ مَتاعًا أيامَ حياتِه بقَرارِه عليها، واغْتِذائِه بما أخْرَج اللهُ عز وجل منها مِن الأقْواتِ والثِّمارِ، والتِذاذِه بما خلَق اللهُ فيها مِن الملاذِّ، وجعَلها مِن بعدِ وفاتِه لجثتِه كِفاتًا
(4)
، ولجسمِه منزلًا وقَرارًا، وكان اسمُ المتاعِ يَشْتَمِلُ جميعَ ذلك -كان أولى التأويلاتِ بالآيةِ- إذ
(5)
لم يَكُنِ اللهُ تعالى ذكرُه وضَع دَلالةً دَالَّةً على أنه قصَد بقولِه: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . بعضًا دونَ بعضٍ، وخاصًّا دونَ عامٍّ في عقلٍ ولا خبرٍ -أن يَكونَ ذلك في
(1)
بعده في ص، م:"قال".
(2)
ذكره القرطبى في تفسيره 1/ 321 عن الربيع.
(3)
في م: "من".
(4)
كِفاتا: أى تحفظهم وتحرزهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتحفظهم وتحرزهم أمواتا في بطنها. التاج (ك ف ت).
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إن".
معنى العامِّ، وأن يَكونَ الخبرُ أيضًا كذلك إلى وقتِ بُطولِ
(1)
اسْتِمْتاعِ بنى آدمَ وبنى إبليسَ بها، وذلك إلى أن تُبَدَّلَ الأرضُ غيرَ الأرضِ.
فإذ كان ذلك أولى التأويلاتِ بالآيةِ لما وصَفْنا، فالواجبُ إذن أن يَكونَ تأويلُ الآيةِ: ولكم في الأرضِ مَنازلُ ومَساكنُ تَسْتَقِرُّون فيها اسْتِقْرارَكم -كان- في السماواتِ، وفى الجنانِ في مَنازلِكم منها، واستمتاعٌ منكم بها وبما أخْرَجْتُ لكم منها، وبما جعَلْتُ لكم فيها مِن المَعاشِ والرِّياشِ والزَّينِ والملاذِّ، وبما أعطيتُكم على ظهرِها [من الحياةِ]
(2)
أيامَ حياتِكم، ومِن بعدِ وَفاتِكم لأرْماسِكم
(3)
وأجداثِكم تُدْفَنون فيها، وتَبْلُغون باستمتاعِكم بها إلى أن أُبَدِّلَكم بها غيرَها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} .
أما تأويلُ قولِه: {فَتَلَقَّى} . فإنه: أخَذ وقَبِل
(4)
. وأصلُه التَّفَعُّلُ مِن اللِّقاءِ، كما يَتَلَقَّى الرجلُ الرجلَ يستقبِلُه
(5)
عندَ قدومِه مِن [غَيْبةٍ أو سفرٍ، فكذلك ذلك]
(6)
في قولِه: {فَتَلَقَّى} . كأنه اسْتَقْبَله فتلَقَّاه بالقَبولِ حينَ أُوحِى إليه أو أُخْبِر به، فمعنى ذلك إذن: فلقّى اللهُ آدمَ كلماتِ توبةٍ، فتلقَّاها آدمُ مِن ربه وأخَذها عنه تائبًا، فتاب اللهُ عليه بقِيلِه إياها وقبولِه إياها مِن رِّبه.
كما حدَّثنى يونُسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} الآية. قال: لقَّاهما هذه الآيةَ: {رَبَّنَا
(1)
في ص، م:"يطول".
(2)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
الرمس: القبر. التاج (ر م س).
(4)
في م، ر:"قيل".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مستقبله".
(6)
في ص: "غيبته أو سفره فكان ذلك كذلك و".
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(1)
[الأعراف: 23].
وقد قرَأَ بعضُهم: (فَتَلَقَّى آدَمَ مِن ربِّهِ كَلماتٌ)
(2)
. فجعَل "الكلماتِ" هى المُتَلَقِّيةَ آدمَ. وذلك وإن كان مِن جِهةِ العربيةِ جائزًا -إذ كان كلُّ ما تَلقَّاه الرجلُ فهو له مُتَلَقٍّ، وما لقِيه ففد لقِيه، فصار للمتكلمِ أن يُوَجِّهَ الفعلَ إلى أيِّهما شاء، ويُخْرِجَ مِن الفعلِ أيَّهما أحبَّ- فغيرُ جائزٍ عندى في القراءةِ إلَّا رفعُ "آدمَ"
(3)
على أنَّه المُتَلَقِّى "الكلماتِ"؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن القَرأةِ وأهلِ التأويلِ مِن علماءِ السلفِ والخلفِ على توجيهِ التَّلَقِّى إلى آدمَ دونَ الكلماتِ، وغيرُ جائزٍ الاعْتراضُ عليها فيما كانت عليه مُجْمِعةً بقولِ مَن يجوزُ عليه السهوُ والخطأُ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في أعْيانِ الكلماتِ التى تَلقَّاها آدمُ مِن ربِّه؛ فقال بعضُهم بما حَدَّثَنَا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ عَطِيةَ، عن قيسٍ، عن ابنِ أبى ليلي، عن المِنْهالِ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} . قال: أىْ ربِّ، ألم تَخْلُقْنى بيدِك؟ قال: بلى. قال: أيْ ربِّ، ألم تَنفُخْ فيَّ مِن رُوحِك؟ قال: بلى. قال: أىْ رَبِّ، أَلَمْ تُسْكِنِّى جنَّتَك؟ قال: بلى. قال: أىْ ربِّ، ألم تَسْبِقْ رحمتُك غضبَك؟ قال: بلى. قال: أرأَيْتَ إن
(4)
تُبْتُ وأصْلَحْتُ، أراجِعى أنت إلى الجنةِ؟ قال: بلى
(5)
. قال: فهو قولُه: {فَتَلَقَّى آدَمُ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 116 عن ابن زيد.
(2)
هذه قراءة ابن كثير. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 153.
(3)
بل قراءة الرفع والنصب متواترتان.
(4)
بعده في م: "أنا".
(5)
في م: "نعم". وهو وجه الكلام، وتظاهرت النسخ على "بلى"، وكذا هو في التاريخ للمصنف، والمستدرك.
مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}
(1)
.
حَدَّثَنِي عليُّ بنُ الحسنِ، قال: حَدَّثَنَا مسلمٌ، قال: حَدَّثَنَا محمدُ بنُ مُصعبٍ، عن قيسِ بنِ الربيعِ، عن عاصمِ بنِ كُلَيْبٍ، عن سعيدِ بنِ مَعْبَدٍ
(2)
، عن ابنِ عباسٍ نحوَه
(3)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمِّي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} : فإنّ آدمَ قال لربِّه إذ عصاه: ربِّ، أَرأَيْتَ إن تُبْتُ وأصْلَحْتُ؟ فقال له ربُّه: إنى راجِعُك إلى الجنةِ
(4)
.
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} : ذُكِرَ لنا أنه قال: يا ربِّ، أَرأَيْتَ إن أنا تبتُ وأصلحتُ؟ قال: إذن أَرجِعَك إلى الجنةِ
(5)
. قال: وقال
(1)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 132. وأخرجه الآجرى في الشريعة (755، 910) من طريق قيس بن الربيع به. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 433 من طريق ابن أبي ليلى به.
وابن عطية هو الحسن بن عطية بن نجيح -كما سيأتي في 2/ 86 - وهو صدوق، وقد اختلف على قيس فيه.
وقد أخرجه الحاكم 2/ 545 من طريق الحسن بن عطية، عن الحسن بن صالح، عن المنهال به. وقال: صحيح الإسناد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 59 إلى عبد بن حميد وابن أبى الدنيا في التوبة وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
بياض في ص، وفى م:"جبير"، وفى ت 1، ت 2:"معيد" وينظر تفسير ابن كثير 1/ 116.
(3)
سعيد بن معبد مجهول، وقد اختلف على قيس فيه.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 116 عن العوفى عن ابن عباس.
(5)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 132. وأخرجه البَيْهَقِيُّ في الشعب (7174)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 7/ 435 من طريق شيبان، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 59 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وسيأتى من وجه آخر عن قتادة في ص 586.
الحسنُ
(1)
: إنهما قالا: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(2)
.
حَدَّثَنِي المثنّي، قال: حَدَّثَنَا آدمُ العَسْقَلانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: إن آدمَ لمَّا أصاب الخطيئةَ، قال: ياربِّ أرأَيْتَ إن تبتُ وأصلحتُ؟ فقال اللهُ: إذن أَرْجِعَك إلى الجنةِ. فهى مِن الكلماتِ. ومِن الكلماتِ أيضًا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(3)
.
حدَّثَنِي موسي، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السديِّ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: ربِّ، ألم تَخْلُقْنى بيدِك
(4)
؟ قيل له: بلى. قال: ونفَخْتَ فيَّ مِن رُوحِك؟ قيل له: بلى. قال: وسبَقَت رحمتُك
(5)
غضبَك؟ قيل له: بلى. قال: ربِّ، هل
(6)
كتبْتَ هذا عليَّ؟ قيل له: نعَم. قال: ربِّ، إن تبتُ وأصلحتُ هل أنت راجِعى إلى الجنةِ؟ قيل له: نعَم. قال الله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
(7)
[طه: 122].
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"الحسين".
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 91 عقب الأثر (410) معلقا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 59 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 116 عن أبي جعفر به.
(4)
في الأصل، ت 1:"بيديك".
(5)
بعده في الأصل: "إلى".
(6)
بعده في م: "كنت".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 90 عقب الأثر (407) من طريق عمرو به. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (186 - تفسير) -ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 7/ 433 - عن الحسن بن يزيد الأصم، =
وقال آخَرون بما حَدَّثَنَا به محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيْعٍ، قال: حَدَّثَنِي مَن سمِع عُبيدَ ابنَ عُميرٍ يقولُ: قال آدمُ عليه السلام: يا ربِّ، خَطيئتى التى أَخْطَأْتُها، أشيءٌ كتَبْتَه عليَّ قبلَ أن تَخْلُقَنِي، أو شيءٌ ابْتَدَعْتُه مِن قِبَلِ نفسِى؟ قال: بل
(1)
شيءٌ كتَبْتُه عليك قبلَ أن أَخْلُقَك. قال: فكما كتَبْتَه عليَّ فاغْفِرْه لى. قال: فهو قول اللهِ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}
(2)
.
حَدَّثَنَا ابنُ بشارٍ
(3)
، قال: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيْعٍ، [عن مجاهدٍ، عن]
(4)
عُبيدِ بنِ عُمَيْرٍ بمثلِه
(5)
.
حَدَّثَنَا ابنُ بشارٍ (3)، قال: حَدَّثَنَا وَكيعُ بنُ الجراحِ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن عبدِ العزبزِ بنِ رُفَيْعٍ، عمَّن سمِع عُبيدَ بنَ عُميرٍ يقولُ: قال آدمُ. فذكَر نحوَه
(6)
.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثورىُّ، عن
= عن السدى. وأخرجه ابن أبي حاتم أيضًا (407) من طريق إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس.
(1)
في م: "بلى".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 91 (409) من طريق ابن مهدى به. وأخرجه الدارميُّ في الرد على الجهمية ص 72، عن محمد بن كثير، عن سفيان به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سنان".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال أخبرني من سمع".
(5)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 434 من طريق مؤمل به. وقد خولف مؤمل في إسناده.
(6)
أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 59 - ومن طريقه الفريابي في القدر (121)، والآجرى في الشريعة (322)، وأبو الشيخ في العظمة (1023)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 273.
عبدِ العزيزِ بنِ رفيعٍ، عن عُبيدِ بنِ عُميرٍ مثلَه
(1)
.
حَدَّثنِي المثني، قال: حَدَّثَنَا أبو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيْعٍ، قال: أخْبَرَنى مَن سَمِع عُبيدَ بنَ عُميرٍ. بنحوِه.
وقال آخَرون بما حَدَّثَنِي به أحمدُ بنُ عثمانَ بنِ حَكيمٍ الأوْدىُّ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ الرحمنِ بنُ شَريكٍ، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن حُميدِ بنِ نَبْهانَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ [يزيدَ بنِ معاويةَ]
(2)
أنه قال: قولُه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} . قال آدمُ
(3)
: اللهم لا إلهَ إلَّا أنت سبحانَك وبحمدِك، أَسْتَغْفِرُك وأَتوبُ إليك، فَتُبْ عليَّ إنك أنت التوابُ الرحيمُ
(4)
.
حَدَّثنِي المثنّى بنُ إبراهيمَ، قال: حَدَّثَنَا أبو غَسَّانَ، قال:[حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ]
(5)
، وحَدَّثَنَا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازىُّ، قال: أخْبَرَنا أبو أحمدَ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ وقيسٌ، جميعًا عن خُصَيْفٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: قولُه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} حتى فرَغ منها
(6)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 44. وأخرجه الآجرى في الشريعة (323)، وابن عساكر في تاريخه 7/ 434 من طريق الحسن بن يحيى ومحمد بن حماد الطهراني، عن عبد الرزاق به.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"زيد عن".
(3)
سقط من: ص.
(4)
عبد الرحمن بن شريك ضعيف، وحميد بن نبهان لَمْ يتعين لنا.
وأخرجه البَيْهَقِيُّ في الشعب (7175)، وابن عساكر في تاريخه 7/ 435، 42/ 115 (ترجمة عبد الرَّحمن، طبعة مجمع اللغة بدمشق) -من طريق البَيْهَقِيُّ والخطيب وغيرهما- من طريق العوام بن حوشب، عن عبد الكريم المكتب -وعند البَيْهَقِيُّ: عبد الرحيم- عن عبد الرَّحمن بن يزيد. وعبد الكريم هو ابن أبى المخارق المعلم، ضعيف.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنبأنا أبو زهير".
(6)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 132، عن أحمد بن إسحاق الأهوازى وحده. وأخرجه ابن أبي حاتم =
حَدَّثَنِي المثني، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ كان يَقُولُ في قولِ اللهِ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} الكلماتُ: اللهمّ لا إلهَ إلَّا أنت سبحانَك وبحمدِك، ربِّ إنِّي ظَلَمتُ نفسِى، فاغْفِرْ لى إنك خيرُ الغافِرِين، اللهم لا إلهَ إلَّا أنت سُبحانَك وبحمدِك، ربِّ إنى ظلَمْتُ نفسى فارْحَمْنى إنك خيرُ الراحمين، اللهم لا إلهَ إلَّا أَنت سبحانَك وبحمدِك، ربِّ إنى ظلَمْتُ نفسي، فتُبْ عليَّ إنك أنت التَّوابُ الرَّحيمُ
(1)
.
حَدَّثَنَا ابنُ وَكيعٍ، قال: حَدَّثَنَا أبي، عن النضرِ بنِ عربيٍّ
(2)
، عن مُجاهِدٍ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: هو قولُه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} الآية
(3)
.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مُجاهدٍ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: أىْ ربِّ، أَتَتوبُ عليَّ إن تُبْتُ؟ قال: نعَم. فتاب آدمُ، فتاب عليه ربُّه.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاق، قال أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: هو قولُه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(4)
.
= في تفسيره 1/ 91 (410) من طريق سفيان به، عن خصيف، عن مجاهد وسعيد ابن جبير.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 91 (411) من طريق أبى حذيفة، عن شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 116 عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
(2)
في ت 1: "عمير"، وفي ت 2، ت 3:"عتير".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 59 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 44. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 435، من طريق محمد بن حماد =
[حَدَّثَنِي يونُسُ بنُ عبدِ الأعلي، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: هو قولُه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}]
(1)
.
وهذه الأقوالُ التى حكيْناها عمَّن حكيْناها عنه، وإن كانت مختلفةَ الألفاظِ، فإن معانيَها مُتَّفِقَةٌ في أن اللهَ تعالى ذكرُه لقَّى آدمَ كلماتٍ تلقَّاهن آدمُ مِن ربِّه فقبِلَهن، وعمِل بهن، وتاب -بقِيلِه إيَّاهن وعملِه بهن- إلى اللهِ مِن خطيئتِه، مُعْتَرفًا بذنبِه، مُتَنصِّلًا إلى رِّبه مِن خطيئتِه، نادمًا على ما سلَف منه مِن خلافِ أمرِه، فتاب اللهُ عليه بقبولِه الكلماتِ التى تَلقَّاهن منه، وندمِه على سالفِ الذنبِ منه.
والذى يَدُلُّ عليه كتابُ اللهِ جلّ ثناؤه أن الكلماتِ التى تَلقَّاهن آدمُ مِن ربِّه هن الكلماتُ التى أخْبَر جلّ ذكرُه عنه أنه قالها مُتَنَصِّلًا بقِيلِها إلى ربِّه، معترفًا بذنبِه، وهو قولُه:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وليس ما قاله مَن خالَف قولَنا هذا -مِن الأقوالِ التى حكَيْناها- بمدفوعٍ قولُه، ولكنه قولٌ لا شاهدَ عليه مِن حجةٍ يَجِبُ التسليمُ لها، فيَجوزَ لنا إضافتُه إلى آدمَ، وأنه مما تلَقَّاه مِن ربِّه عندَ إنابتِه إليه مِن ذنبِه.
وهذا الخبرُ الذى أخْبَر اللهُ عن آدمَ -من قيلِه الذى لقَّاه اللهُ إيّاه، فقاله تائبًا إليه مِن خطيئتِه- تَعريفٌ منه جلَّ ذِكرُه جميعَ المخاطَبِين، بكتابِه كيفيةَ التوبةِ إليه مِن
= الطهراني، عن عبد الرزاق به. وتقدم من وجه آخر عن قتادة في ص 581.
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 116 عن ابن زيد.
الذنوبِ، وتنبيهٌ للمُخاطَبِينَ بقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} . على موضعِ التوبةِ ممّا هم عليه مِن الكفرِ باللهِ، وأن خَلاصَهم مما هم عليه مُقِيمون مِن الضَّلالةِ نظيرُ خَلاصِ أبيهم آدمَ مِن خطيئتِه، مع تذكيرِه إيّاهم به السالفَ إليهم مِن النِّعمِ التى خصَّ بها أباهم آدمَ وغيرَه مِن آبائِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَتَابَ عَلَيْهِ} .
وقولُه: {فَتَابَ عَلَيْهِ} . يعنى على آدمَ، والهاءُ التى في {عَلَيْهِ} عائدةٌ على آدمَ. وقولُه:{فَتَابَ عَلَيْهِ} . يعْنى: رزَقه التوبةَ مِن خطيئتِه. والتوبةُ معناها الإنابةُ إلى اللهِ جلَّ ثناؤُه، والأَوْبةُ إلى طاعتِه مما يَكْرَهُ مِن معصيتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} .
وتأويلُ قولِه: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . أن اللهَ جل ثناؤُه هو التوابُ على مَن تاب إليه مِن عبادِه المُذْنبِين مِن ذنوبِه، التاركُ مُجازاتَه بإنابتِه إلى طاعتِه بعدَ معصيتِه بما سلَف مِن ذنبِه. وقد ذكَرْنا أن معنى التوبةِ مِن العبدِ إلى ربِّه إنابتُه إلى طاعتهِ، وأوْبتُه إلى ما يُرْضِيه، بتركِه ما يَسْخَطُه مِن الأمورِ التى كان عليها مُقيمًا مما يَكْرَهُه ربُّه. فكذلك توبةُ اللهِ على عبدِه، هو أن يَرْزُقَه ذلك، ويؤوبَ له
(1)
مِن غضبِه عليه إلى الرضا عنه، ومِن العقوبةِ إلى العفوِ والصَّفْحِ عنه.
وأما قولُه: {الرَّحِيمُ} فإنه يعنى أنه المُتَفَضِّلُ عليه مع التوبةِ بالرحمةِ، ورحمتُه إياه إقالتُه
(2)
عثرتَه وصَفْحُه عن عقوبةِ جُرْمِه.
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "إقالة".
وقد ذكَرْنا القول في تأويلِ قولِه: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} . فيما مضَى، فلا حاجةَ بنا إلى إعادتِه، إذ كان معناه في هذا الموضعِ هو معناه في ذلك الموضعِ.
وقد حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ ابنُ سالمٍ، عن أبى صالحٍ في قولِه:{اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} . قال: آدمُ وحوَّاءُ والحيّةُ وإبليسُ
(1)
.
القولُ في تأويل قولِه جلّ ثناؤه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} .
وتأويلُ قولِه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} : فإن يأْتِكم، و"ما" التى مع "إن" توكيدٌ للكلامِ، ولدخولِها مع "إن" أُدخِلَت النونُ المشُدَّدةُ في {يَأْتِيَنَّكُمْ} تفرقةً بدخولِها بينَ "ما" التى تَأْتى بمعنى توكيدِ الكلامِ -التى تُسَمِّيها أهلُ العربيةِ صِلةً وحَشْوًا- وبين "ما" التى تأتى بمعنى "الذى"، فتُؤْذِنُ بدخولِها في الفعلِ أنَّ "ما" التى مع "إن" التى بمعنى الجزاءِ توكيدٌ، وليست "ما" التى بمعنى "الذى".
وقد قال بعضُ نحوِيِّى [أهلِ البصرةِ]
(2)
: إنَّ "إمَّا": "إنْ"، زِيدَت معها "ما"، وصار الفعلُ الذى بعدَه بالنونِ الخفيفةِ أو الثقيلةِ، وقد يَكونُ بغيرِ نونٍ، وإنما حسُنَت فيه النونُ لمَّا دخَلَته "ما"؛ لأن "ما" نفىٌ، وهى مما ليس بواجبٍ، وهى الحرفُ الذى يَنْفِى الواجبَ، فحسُنَت فيه النونُ، نحوَ قولهم: بعينٍ ما أَرَيَنْكَ. حينَ أُدْخِلَت فيها "ما" حسُنَت النونُ فيما ههنا.
وقد أنْكَر جماعةٌ مِن أهلِ العربيةِ دعوى قائلِ
(3)
هذه المقالةِ أن "ما" التى مع:
(1)
تقدم في ص 572 من طريق آخر عن إسماعيل.
(2)
في م: "البصريين".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قائلى".
بعينٍ ما أرينك، بمعنى الجحدِ، وزعَموا أن ذلك بمعنى التوكيدِ للكلامِ.
وقال آخَرون: بل هو حَشْوٌ في الكلامِ، ومعناها الحذفُ، وإنما معْنى الكلامِ: "بعينٍ أراك. وغيرُ جائزٍ أن يُجْعَلَ مع الاختلافِ فيه أصلًا يُقاسُ عليه غيرُه.
القولُ في تأويلِ قولِهِ جلّ ثناؤُه: {مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} .
والهُدَى في هذا الموضعِ البيانُ والرَّشادُ، كما حدَّثنى المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ العَسْقلانىُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} . قال: الهُدَى الأنبياءُ والرسلُ والبَيانُ
(1)
.
فإن كان ما قال أبو العاليةِ في
(2)
ذلك كما قال، فالخِطابُ بقولِ:{اهْبِطُوا} . وإن كان لآدمَ وزوجتِه، فيَجِبُ أن يَكونَ مُرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما، فيَكونَ ذلك حينَئذٍ نظيرَ قولِه:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. بمعنى: أتَيْنا بما فينا مِن الخَلْقِ طائِعِين. ونظيرَ قولِه في قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِهِم مَنَاسِكَهم)
(3)
. فجمَع قبلَ أن تَكونَ ذريةٌ، وهو في قراءتِنا:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]. وكما يقولُ القائلُ لآخرَ: كأنك قد تزَوَّجْتَ ووُلِد لك وكثُرتُم وعزَزْتُم. ونحوِ ذلك مِن الكلامِ.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 93 (419) من طريق آدم به.
(2)
في ص: "من".
(3)
سيأتى تخريج هذه القراءة في موضعها من التفسير.
وإنما قلْنا: إن ذلك هو الواجبُ على التأويلِ الذى ذكَرْناه عن أبى العاليةِ؛ لأن آدمَ كان هو النبىَّ عليه السلام أيامَ حياتِه بعدَ أن أُهْبِط إلى الأرضِ، والرسولَ مِن اللهِ تعالى ذكرُه إلى ولدِه، فغيرُ جائزٍ أن يكونَ مَعْنِيًّا -وهو الرسولُ- بقولِه:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} . خطابًا له ولزوجتِه: فإما يأتينّكم مِنى
(1)
أنبياءُ ورسلٌ. إلا على ما وصَفْتُ مِن التأويلِ.
وقولُ أبى العاليةِ في ذلك -وإن كان وجهًا مِن التأويلِ تَحْتَمِلُه الآيةُ- فأقربُ إلى الصوابِ منه عندى، وأشبهُ بظاهرِ التِّلاوةِ أن يكونَ تأويلُها: فإما يَأْتِيَنَّكم
(2)
يا معشرَ مَن أُهْبِطَ
(3)
إلى الأرضِ مِن سمائى -وهو آدمُ وزوجتُه وإبليسُ، كما قد ذكَرْنا قبلُ في تأويلِ الآيةِ التى قبلَها- إما يَأْتِيَنَّكم منى ييانٌ مِن أمرِى وطاعتى ورَشادٌ إلى سبيلى ودِينى، فمَن اتَّبَعه منكم فلا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزنون، وإن كان قد سلَف منهم قبلَ ذلك إلىَّ معصيةٌ وخلافٌ لأمْرى وطاعتى. يُعَرِّفُهم بذلك تعالى ذكرُه أنه التائبُ على مَن تاب إليه مِن ذنوبِه، والرحيمُ بمن
(4)
أناب إليه، كما وصَف نفسَه بقولِه:{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
وذلك أن ظاهرَ الخِطابِ بذلك إنما هو للذين قال لهم جلَّ ثناؤُه: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} . والذين خُوطِبوا به هم مَن سَمَّيْنا في قولِ الحُجَّةِ مِن الصحابةِ والتابعين الذين قد قدَّمْنا الروايةَ
(5)
عنهم. وذلك وإن كان خطابًا مِن اللهِ تعالى ذِكرُه لمن أُهْبِط حينَئذٍ مِن السماءِ إلى الأرضِ، فهو سنَّةُ اللهِ في جميعِ خلقِه، وتعريفٌ منه بذلك
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هدى".
(2)
بعده في م: "منى".
(3)
في م: "أهبطته".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2:"لمن".
(5)
بعده في ص: "به".
الذين أخْبَر عنهم في أولِ هذه السورةِ بما أخْبَر عنهم في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . وفى قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 6، 8]. أن
(1)
حُكْمَه فيهم -إن تابوا إليه وأنابوا، واتَّبَعوا ما أتاهم مِن البيانِ مِن عندِ اللهِ على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم- أنهم عندَه في الآخرةِ ممَّن لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنون، وأنهم إن هلَكوا على
(2)
كُفرِهم وضَلالتِهم قبلَ الإنابةِ والتوبةِ، كانوا مِن أهلِ النارِ المُخَلَّدِين فيها.
وقولُه: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} . يعنى: فمَن تبِع بَيانى الذى أُبَيِّنُه
(3)
على ألْسُنِ رُسُلى، أو مع رسلى.
كما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ العسقلانىُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} يعنى: بَيانى
(4)
.
وقولُه: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} . يعنى: فهم آمِنون في أهوالِ القيامةِ مِن عقابِ اللهِ، غيرُ خائِفِين عذابَه؛ بما أطاعوا اللهَ في الدنيا، واتَّبَعوا أمرَه وهُداه وسبيلَه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يومَئذٍ على ما خلَّفوا بعدَ وفاتِهم في الدنيا.
كما حدَّثنى يونُسُ ابنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} . يقولُ: لا خوفٌ عليكم أمامَكم، وليس شيءٌ أعظمَ في صدرِ الذى يَموتُ ممَّا بعدَ الموتِ، فأمَّنهم منه وسلَّاهم عن الدنيا، فقال:{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
(1)
في ص، م:"وأن".
(2)
في الأصل: "من"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"آتيته".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 93 (422) من طريق آدم.
وقولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} . يعنى: والذين جحَدوا آياتى وكذَّبوا رُسُلى. وآياتُ اللهِ حُجَجُه أدلَّتُه على وحدانيَّتِه وربوبيَّتِه، وما جاءت به الرسلُ مِن الأعْلامِ والشَّواهدِ على ذلك، وعلى صدقِها فيما أنبأَتْ عن ربِّها، وقد بيَّنا أن معنى الكفرِ التَّغْطيةُ على الشئِ
(1)
.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} ، يعنى: أهلُها الذين هم أهلُها دونَ غيرِهم، المُخلَّدون فيها أبدًا
(2)
إلى غيرِ أمَدٍ ولا نهايةٍ.
كما حدَّثنى عُقبةُ بنُ سِنانٍ البصرىُّ، قال: حدَّثنا غَسَّانُ بنُ مُضَرَ، قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ يَزيدَ، وحدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللهِ العَنْبَرىُّ، قال: حدَّثنا بشرُ بن المُفَضَّلِ، قال: حدَّثنا أبو مَسْلَمةَ
(3)
، وحدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ وأبو بكرِ بنُ
(4)
عونٍ، قالا: حدَّثنا إسماعيلُ ابنُ عُلَيَّةَ، عن سعيدِ بنِ يزيدَ، عن أبي نَضْرةَ، عن أبى سعيدٍ الخُدْرىِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أهْلُ النَّارِ الذِين هم أهْلُها، فإنَّهم لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحْيَوْنَ، ولكِنَّ أقْوَامًا أصَابَتْهم النَّارُ بخَطايَاهم -أو بذُنُوبهم- فأمَاتَتْهم إمَاتَةً، حتى إِذا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ في الشَّفَاعَةِ"
(5)
.
(1)
تقدم في ص 262.
(2)
في ر: "هم فيها خالدون".
(3)
بعده في م: "سعيد بن يزيد". وهو اسم أبى مسلمة.
(4)
بعده في الأصل، ص:"أبى".
(5)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 182، وابن صاعد في زوائده على زهد ابن المبارك (1269) من طريق عقبة بن سنان ويعقوب بن إبراهيم به.
وأخرجه مسلم (185)، وابن ماجه (4309) من طريق بشر بن المفضل به. وأخرجه أحمد 17/ 134، 135 (11077)، وحسين المروزى وابن صاعد في زوائدهما على زهد ابن المبارك (1269)، وأبو يعلى (1097، 1370)، وابن حبان (7485)، وابن منده في الإيمان (832) من طريق ابن علية به.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} .
يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} . ولدَ
(1)
يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ خليلِ الرحمنِ. وكان يعقوبُ يُدْعَى إسرائيلَ، بمعنى: عبدُ اللهِ وصَفْوتُه مِن خلقِه. و"إيلُ" هو اللهُ تعالى ذكرُه، و"إسْرَا": هو العبدُ، كما قيل: جبريلُ. بمعنى: عبدُ اللهِ.
وكما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا جريرُ بنُ عبدِ الحميدِ، عن الأعمشِ، عن إسماعيلَ بنِ رَجاءٍ، عن عُمَيْرٍ مولَى ابنِ عباسٍ، عن ابنِ عباسٍ، أن إسرائيلَ كقولِك: عبدُ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا جَريرٌ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن عبدِ اللهِ ابنِ الحارثِ قال:"إيلُ" اللهُ بالعِبْرانيةِ
(3)
.
وإنما خاطَب اللهُ جلّ وعزّ بقولِه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} أَحبارَ اليهودِ مِن بنى إسرائيلَ الذين كانوا بينَ ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنسَبهم إلى يعقوبَ، كما نسَب ذريةَ آدمَ إلى آدمَ، فقال:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وما أشْبَه ذلك.
وإنما خصَّهم بالخطابِ في هذه الآيةِ والتى بعدَها مِن الآىِ التى ذكَّرهم فيها نعَمَه -وإن كان قد تقدَّم ما أنْزَل فيهم وفى غيرِهم فى أولِ هذه السورةِ ما
(1)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يا ولد".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 182 (963)، والبيهقى في الشعب (165)، والخطيب في المتفق والمفترق 1/ 398 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش به. وسيأتى في 2/ 296 بهذا الإسناد. وينظر تغليق التعليق 4/ 175.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 182 (967) من طريق جرير به. وسيأتى في 2/ 295 بهذا الإسناد.
قد تقَدَّم -أن الذي احْتَجَّ به مِن الحُجَجِ في
(1)
الآياتِ التى فيها أنباءُ أسْلافِهم وأخبارُ أوائلِهم، وقَصَصُ الأمورِ التى هم بعلمِها مَخْصوصون دونَ غيرِهم مِن سائرِ الأممِ، ليس عندَ
(2)
غيرِهم مِن العلمِ بصحتِه وحقيقتِه مثلُ الذي لهم مِن العلمِ به، إلا لمن اقتَبَس علمَ ذلك منهم، فعرَّفهم باطِّلاعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على علمِها -مع بُعْدِ قومِه وعَشيرتِه مِن معرفتِها، وقلَّةِ مُزاولةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم دراسةَ الكتبِ التى فيها أنباءُ ذلك- أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَصِلْ إلى علمِ ذلك إلا بوحىٍ مِن اللهِ تعالى ذكرُه وتنزيلٍ منه ذلك إليه، لأنهم مِن عِلْمِ صحةِ ذلك بمَحلٍّ ليس به مِن الأممِ غيرُهم، فلذلك تعالى ذكرُه خصَّ بقولِه:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} خطابَهم.
كما حدَّثنا به ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} قال: يا أهلَ الكتابِ، للأحْبارِ مِن يهودَ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} .
ونعمتُه التى أنْعَمها على بنى إسرائيلَ
(4)
اصْطفاؤُه منهم الرسلَ، وإنزالُه عليهم الكتبَ، واسْتِنْقاذُه إياهم مما كانوا فيه مِن البلاءِ والضَّرَّاءِ مِن فرعونَ وقومِه، إلى التَّمْكينِ لهم في الأرضِ، وتَفْجيرِ عُيونِ الماءِ مِن الحجرِ، وإطعامِ المنِّ والسَّلْوَى، فأمَر جل ثناؤُه أعْقابَهم أن يَكونَ ما سلَف منه إلى آبائِهم على ذِكْرٍ منهم
(5)
، وألا يَنْسَوْا صَنيعَه إلى أسلافِهم وآبائِهم، فيُحِلَّ بهم مِن النِّقَمِ ما أحَلَّ بمَن نسِى نعمَه عندَه منهم
(1)
في ص، م:"و".
(2)
في ص: "عندهم".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 534، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 95 (434) من طريق سلمة به.
(4)
بعده في ر: "وتلك النعم"، وبعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"جل ذكره".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وكَفَرَها وجحَد صنائعَه عندَه.
كما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أى: بَلائى
(1)
عندَكم وعند آبائِكم؛ لِمَا كان نجّاهم به مِن فرعون وقومِه
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ العسقلانيُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} قال: نعمتُه أن جعَل منهم الأنبياءَ والرسلَ، وأنْزَل عليهم الكتبَ
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} : يعنى نعمتَه التى أنْعَم على بنى إسرائيلَ فيما سمَّى وفيما سِوَى ذلك؛ فجَّر لهم الحجرَ، وأنْزَل عليهم المنَّ والسلوى، وأنْجاهم مِن عُبوديةِ
(4)
آلِ فرعونَ
(5)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال: نعمةٌ عامةٌ، ولا نعمةَ أفضلُ مِن نعمةِ الإسلامِ، والنِّعمُ بعدُ تبَعٌ لها. وقرَأ قولَ اللهِ تعالى ذِكْرُه:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} الآية [الحجرات: 17].
(1)
في م: "آلائى".
(2)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 95 (435) من طريق آدم به.
(4)
في الأصل: "عبودة"، وفى ص:"عيون".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 95 (436) من طريق ابن أبي نجيح به.
وتذكيرُ اللهِ تعالى ذكرُه الذي ذكَّر بهذه الآيةِ مِن نعَمِه على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تَذْكيرِ موسى صلواتُ الله عليه أسلافَهم على عهدِه الذي أخْبَر اللهُ عنه أنه قاله لهم، وذلك قولُه:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: قد تقَدَّم بَيانُنا عن معنى العهدِ فيما مضَى مِن كتابِنا هذا، واختلافِ المُخْتَلِفِين في تأويلِه
(1)
، والصوابِ عندَنا مِن القولِ فيه. وهو في هذا الموضعِ عهدُ الله ووصيتُه التى أخَذ على بنى إسرائيلَ في التَّوراةِ أن يُبيِّنوا للناسِ أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه رسولُ اللهِ، وأنهم يَجِدونه مَكتوبًا عندَهم أنه نبيُّ اللهِ، وأَن يُؤمِنوا به وبما جاءبه مِن عندِ اللهِ.
{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وعهدُه إليهم
(2)
أنهم إذا فعَلوا ذلك أدْخَلَهم الجنةَ، كما قال تعالى ذكرُه:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} الآية [المائدة: 12]. وكما قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية [الأعراف: 156، 157].
وكما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ،
(1)
تقدم في ص 435 - 439.
(2)
فى ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إياهم".
عن ابنِ عباسٍ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} : الذي أخَذْتُ في أعْناقِكم للنبىِّ محمدٍ إذ جاءكم، ثم {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أى: أُنْجِزْ لكم ما وعَدْتُكم عليه بتصديقِه واتباعِه، بوضعِ ما كان عليكم مِن الإصْرِ والأغْلالِ التى كانت في أعْناقِكم بذنوبِكم التى كانت مِن أحداثِكم
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . قال: عهدُه إلى عبادِه؛ دينُه
(2)
الإسلامُ أن يَتَّبِعوه، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . يعنى الجنةَ
(3)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} : أمّا {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} ، فما عهِدْتُ إليكم في الكتابِ، وأمّا {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} ، فالجنةُ، عهِدْتُ إليكم أنكم إن عمِلْتُم بطاعتى أدْخَلْتُكم الجنةَ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ في قولِه:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال: ذلك الميثاقُ الذي أخَذ عليهم في "المائدةِ": {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} إلى آخرِ الآيةِ. فهذا عهدُ اللهِ الذي عهِد إليهم، وهو عهدُ اللهِ فينا، فمن أوْفَى بعهدِ اللهِ وفَى اللهُ له بعهدِه.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 534. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 95، 96 (438، 441) من طريق سلمة به.
(2)
في م: "دين".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 95، 96 (439)، وعقب (441) من طريق آدم به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 118 عن السدي.
حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . يقولُ: أَوْفوا بما أمَرْتُكم به مِن طاعتى، ونهَيْتُكم عنه مِن معصيتى في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفى غيرِه، {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. يقولُ: أَرْضَ عنكم وأُدْخِلْكم الجنةَ
(1)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . قال: أَوْفوا بأمرِى أُوفِ بالذى وعَدْتُكم. وقرَأ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} حتى بلَغ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} [التوبة: 111]. قال: هذا عهدُه الذي عهِد لهم.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ قولِه جلّ وعز: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} : وإياى فاخْشَوْا واتَّقُوا أيها المُضَيِّعون عَهْدى مِن بنى إسرائيلَ، والمُكَذِّبون رَسولى الذي قد أخَذْتُ ميثاقَكم فيما أنْزَلْتُ مِن الكتبِ على أنْبيائى أن تُؤْمِنوا به وتَتَّبِعوه -أن أُحِلَّ بكم مِن عقوبتى- إن لم تُنِيبُوا وتَتوبُوا إليَّ باتِّباعِه والإقرارِ بما أنْزَلْتُ إليه - ما أحْلَلْتُ بمَن خالف أمرى وكذَّب رُسلى مِن أسْلافِكم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي محمد، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أى
(2)
: أن أُنزِلَ بكم ما أَنْزَلْتُ بمَن كان قبلَكم مِن آبائِكم مِن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 95، 96 (437، 440) من طريق المنجاب به.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
النَّقِماتِ التى قد عرَفْتُم مِن المَسْخِ وغيرِه
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنى آدمُ العَسْقلانيُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . يقولُ: فاخْشَوْنِ
(2)
.
حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يقولُ: وإياىَ فاخْشَوْنِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَآمِنُوا} : صدِّقوا، كما قد قدَّمْنا البيانَ عنه قبلُ
(4)
. ويَعْنى بقولِه: {بِمَا أَنْزَلْتُ} . ما أنْزَل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن القرآنِ. ويعنى بقولِه: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} . أن القرآنَ مُصَدِّقٌ لما مع اليهودِ مِن بنى إسرائيلَ مِن التوراةِ، فأمَرهم بالتَّصْديقِ بالقرآنِ، وأخْبَرَهم أن في تصديقِهم بالقرآنِ تصديقًا منهم للتوراةِ، لأن الذي في القرآنِ مِن الأمرِ بالإقرارِ بنبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقِه واتِّباعِه، نظيرُ الذي مِن ذلك في التوراةِ والإنجيلِ، ففي تصديقِهم بما أُنْزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم تصديقٌ منهم لما معهم مِن التوراةِ، وفى تكذيبِهم به تكذيبٌ منهم لما معهم مِن التوراةِ.
وقولُه جل ثناؤُه: {مُصَدِّقًا} . قطعٌ مِن الهاءِ المتروكةِ في {أَنْزَلْتُ}
(5)
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 534. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 96 (442) من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 96 (443) من طريق آدم به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 96 عقب الأثر (443) من طريق عمرو به.
(4)
تقدم في ص 254.
(5)
في ص، م:"أنزلته".
مِن ذكر "ما". ومعنى الكلامِ: وآمِنوا بالذى أنْزَلْتُه مصدقًا لما معكم أيُّها اليهودُ. والذى معهم هو التوراةُ والإنجيلُ.
كما حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنى عيسى ابنُ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِ الله تعالى ذكرُه:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} . يقولُ: {بِمَا
(1)
أَنْزَلْتُ} القرآنُ، {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} التوراةُ والإنجيلُ
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ العَسْقلانيُّ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} . يقولُ: يا معشرَ أهلِ الكتابِ، آمِنوا بما أنْزَلْتُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مصدِّقًا لما معكم، يقولُ: لأنهم يَجِدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندَهم في التوراةِ والإنجيلِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} .
قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: كيف قيل: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} والخطابُ خبرٌ
(4)
لجميعٍ، وقولُه
(5)
: {كَافِرٍ} واحدٌ؟ وهل نُجِيزُ -إن كان ذلك
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إنما".
(2)
تفسير مجاهد ص 201، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 96 (445)، بدون ذكر التوراة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور ص 16 (مخطوط) إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 96 (444) من طريق آدم به.
(4)
في ص، م:"فيه".
(5)
سقط من: م.
جائزًا- أن يَقولَ قائلٌ: لا تكونوا أولَ رجلٍ قام؟
قيل له: إنما يَجوزُ توحيدُ ما أُضِيف إليه "أفَعْل" وهو خبرٌ لجميعٍ، إذا كان اسمًا مشتقًّا مِن "فَعَلَ ويَفْعُلُ"؛ لأنه يؤدِّى عن المرادِ معه المحذوفَ مِن الكلامِ، وهو "مَن"، ويَقومُ مَقامَه في الأداءِ عن معنى ما كان يؤَدِّى عنه "مَن"، مِن الجمعِ والتأنيثِ، وهو في لفظٍ واحدٍ. ألا تَرَى أنك تقولُ: ولا تكونوا أولَ مَن يَكْفُرُ به. فـ"مَن" بمعنى جمعٍ، وهو غيرُ مُتَصَرِّفٍ تَصَرُّفَ الأسماءِ للتثنيةِ والجمعِ والتأنيثِ، فإذا أُقِيم الاسمُ المشتقُّ مِن "فَعَلَ ويَفْعُلُ" مُقامَه، جرَى وهو موحَّدٌ مَجْراه في الأداءِ عما كان يُؤَدِّى عنه "مَنْ" مِن معنى الجمعِ والتأنيثِ، كقولِك: الجيشُ مُنْهَزِمٌ
(1)
، والجُنْدُ مُقْبِلٌ
(2)
. فتُوَحِّدُ الفعلَ لتوحيدِ لفظِ الجيشِ والجندِ، وغيرُ جائزٍ أن يُقالَ: الجيشُ رجلٌ، والجندُ غلامٌ. حتى تقولَ: الجندُ غِلْمانٌ، والجيشُ رجالٌ. لأن الواحدَ مِن عددِ الأسماءِ التي هى غيرُ مشتقةٍ مِن "فَعَلَ ويَفْعُلُ" لا يُؤَدِّى عن معنى الجماعةِ منهم، ومِن ذلك قولُ الشاعر
(3)
:
وإذا هُمُ طعِموا فأَلْأَمُ طاعِمٍ
…
وإذا هُمُ جاعوا
(4)
فشرُّ جِياعِ
فوحَّد مرَّةً على ما وصَفْتُ مِن نيةِ "مَن"، وإقامةِ الظاهرِ مِن الاسمِ الذى هو مشتقٌّ مِن "فَعَلَ ويَفْعُلُ" مُقامَه، وجمَع أُخرى على الإخراجِ على عددِ الأسماءِ المُخْبَرِ عنهم، ولو وحَّد حيثُ جمَع أو جمَع حيثُ وحَّد، كان صوابًا جائزًا.
وأما تأويلُ ذلك فإنه يَعْنى به: يا معشرَ أحبارِ أهلِ الكتابِ، صدِّقوا بما أنْزَلْتُ
(1)
في م: "ينهزم".
(2)
في م: "يقبل".
(3)
ذكره أبو زيد في النوادر ص 152، والفراء في معانى القرآن 1/ 33.
(4)
في النوادر: "عاعوا". وهى رواية في البيت.
على رسولى محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن القرآنِ المُصَدِّقِ كتابَكم، والذى عندَكم مِن التوراةِ والإنجيلِ المعهودِ إليكم فيهما أنه رسولى ونبيِّىَ المبعوثُ بالحقِّ، ولا تكونوا أولَ أُمّتِكم
(1)
كذَّب به وجحَد أنه مِن عندِى، وعندَكم مِن العلمِ به ما ليس عندَ غيرِكم.
وكفرُهم به جُحودُهم أنه مِن عندِ اللهِ.
والهاءُ التي في {بِهِ} مِن ذكرِ "ما" التي مع قولِه: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} .
كما حدَّثني القاسمُ، قال: حدَّثنى الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ في قولِه: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} : بالقرآنِ
(2)
.
ورُوِى عن أبي العاليةِ في ذلك ما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . يقولُ: ولا تكونوا أولَ مَن كفَر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقال بعضُهم: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . يعنى: بكتابِكم. ويتَأَوَّلُ أن في تكذيبِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابِهم؛ لأن في كتابِهم الأمرَ باتِّباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان مِن ظاهرِ ما تَدُلُّ عليه التلاوةُ بعيدانِ، وذلك أن اللهَ جَلَّ ثناؤُه أمَر المُخاطَبِين بهذه الآيةِ في أولِها بالإيمانِ بما أُنْزَل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى ذكرُه:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} . ومَعقولٌ أن الذى أنْزَلَه اللهُ في
(1)
في م: "من".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 64 إلى المصنف.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 97 (447) من طريق آدم به.
عصرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو القرآنُ لا محمدٌ، لأن محمدًا صلواتُ اللهِ عليه رسولٌ مُرْسَلٌ لا تَنْزِيلٌ مُنْزَلٌ، والمُنْزَلُ هو الكتابُ، ثم نهاهم أن يكونوا أولَ مَن يَكْفُرُ بالذى أمَرهم بالإيمانِ به في أولِ الآيةِ -مِن أهلِ الكتابِ، فذلك هو الظاهرُ المفهومُ، ولم يَجْرِ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ ذكرٌ ظاهرٌ فيُعادَ عليه بذكرِه مَكْنِيًّا في قولِه:{وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . وإن كان غيرَ مُحالٍ في الكلامِ أن يُذكَرَ مَكْنِىُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهرٌ في الكلامِ.
وكذلك لا معنى لقولِ مَن زعَم أن العائدَ مِن الذِّكْرِ في {بِهِ} على "ما" التي في قوله: {لِمَا مَعَكُمْ} . لأن ذلك وإن كان مُحْتَمِلًا ظاهرَ الكلامِ، فإنه بعيدٌ مما يَدُلُّ عليه ظاهرُ التِّلاوةِ والتنزيلِ؛ لما وصَفْنا قبلُ مِن أن الأمرَ
(1)
بالإيمانِ به في أولِ الآيةِ هو القرآنُ، فكذلك الواجب أن يكونَ النهىُ عن الكفرِ به في آخرِها هو القرآنَ. فأما أن يكونَ المأمورُ بالإيمانِ به غيرَ المنهىِّ عن الكفرِ به في كلامٍ واحدٍ وآيةٍ واحدةٍ، فذلك غيرُ الأشهرِ الأظهرِ في الكلامِ، هذا مع بُعْدِ معناه في التأويلِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} : وعندَكم فيه مِن العلمِ ما ليس عندَ غيرِكم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك، فحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} .
(1)
فى م: "المأمور".
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 534، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 97 (446) من طريق سلمة به.
يقولُ: لا تَأْخُذوا عليه أجرًا. قال: وهو مَكتوبٌ عندَهم في الكتابِ الأولِ: يا بنَ آدمَ، علِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمْتَ مَجّانًا
.
وقال آخَرون بما حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} . يَقولُ: لا تَأْخُذوا طَمعًا قليلًا وتَكْتُموا اسمَ اللهِ، فذلك الطَّمَعُ هو الثمنُ
(2)
.
فتأويلُ الآيةِ إذن: لا تَبِيعوا ما آتيْتُكم مِن العلمِ بكتابى وآياتِه بثمنٍ خَسيسٍ وعَرَضٍ مِن الدنيا قليلٍ. وبيعُهم إياه تركُهم إبانةَ ما في كتابِهم مِن أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم للناسِ وأنه مَكتوبٌ فيه أنه النبيُّ الأميُّ الذى يَجِدونه مَكتوبًا عندَهم في التوراةِ والإنجيلِ، بثمنٍ قليلٍ، وهو رِضاهم بالرِّياسةِ على أتْباعِهم مِن أهلِ ملَّتِهم ودينِهم، وأخذِهم الأجرَ ممَّن بيَّنوا له ذلك على ما بيَّنوا له منه.
وإنما قلْنا: معنى ذلك: لا تَبِيعوا؛ لأن مُشْتَرِىَ الثمنِ القليلِ بآياتِ اللهِ بائعٌ الآياتِ بالثمنِ، فكلُّ واحدٍ مِن الثمنِ والمُثَمَّنِ مَبِيعٌ لصاحبِه، وصاحبُه به مُشْتَرٍ
(3)
.
وأما معنى ذلك على ما تأوَّله أبو العاليةِ: فبيِّنوا للناسِ أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا تَبْتَغوا عليه منهم أجرًا. فيكونُ حينَئذٍ نهيُه عن أخذِ الأجرِ على تَبْيينِه هو النهىَ عن شراءِ الثمن القليلِ بآياتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعز: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)} .
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 97 (449) والخطيب في الكفاية ص 153 من طريق آدم به. وأخرجه ابن على 3/ 1023 - ومن طريقه ابن عساكر فى تاريخه 18/ 179 - ، وأبو نعيم في الحلية 2/ 220، والخطيب ص 154 من طريق أبي جعفر به نحوه. وأخرجه أبو خيثمة في العلم (68) عن إسحاق بن سليمان الرازى عن أبى جعفر عن الربيع قوله.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 97 (451) من طريق عمرو به.
(3)
في الأصل: "مُشْتَرًى".
(1)
قال أبو جعفرٍ: يقولُ: فاتَّقونِ في بيعِكم آياتى بالخَسِيسِ مِن الثمنِ، وشِرائِكم بها القليلَ مِن العِوضِ
(1)
، وكفرِكم بما أنْزَلْتُ على رسولى، وجُحودِكم نبوَّةَ نبيِّى
(2)
- أن أُحِلَّ بكم ما أحْلَلْتُ بأسلافِكم
(3)
الذين سلَكوا سبيلَكم مِن المَثُلاتِ والنَّقِماتِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} .
قال أبو جعفرٍ: يعنى بقولِه: {وَلَا تَلْبِسُوا} : لا تَخْلِطوا. واللَّبْسُ هو الخَلْطُ، يقالُ منه: لَبَسْتُ عليه هذا الأمرَ أَلْبِسُه لَبسًا، إذا خلَطْتَه عليه
(4)
.
كما حُدِّثْنا عن المِنْجابِ، عن بشرٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قوله:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. يقولُ: لخلَطْنا عليهم ما يَخْلِطون
(5)
.
ومنه قولُ العَجَّاجِ
(6)
لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بالتَّجَنِّى
غَنِينَ واسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّى
يعنى بقوله: لبَسْنَ: خلَطْنَ. وأما اللُّبْسُ فإنه يقالُ. منه: لبِستُه ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا. وذلك في الكِسْوةِ يَكْتَسِيها فيَلْبَسُها.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"العرض".
(2)
في م: "نبيه".
(3)
في م: "بأخلافكم".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليهم".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1267 (7134) عن أبي زرعة، عن منجاب به.
(6)
ديوانه ص 185.
ومن اللُّبْسِ قولُ الأخطلِ
(1)
:
ولقد لبِسْتُ لهذا الدهرِ أعْصُرَه
…
حتى تجَلَّل رأسى الشَّيْبُ واشْتَعَلا
ومِن اللَّبْسِ قولُ اللهِ جل ثناؤُه: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} .
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف كانوا يَلْبِسون الحقَّ بالباطلِ وهم كفارٌ؟ وأىُّ حقٍّ كانوا عليه مع كفرِهم باللهِ؟
قيل: إنه كان فيهم مُنافِقون منهم يُظْهِرون التَّصْديقَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ويَسْتَبْطِنون الكفرَ به، وكان عُظْمُهم يَقُولون: محمدٌ نبىٌّ مبعوثٌ، إلا أنه مبعوثٌ إلى غيرِنا. فكان لَبْسُ المنافقِ منهم الحقَّ بالباطلِ إظهارَه الحقَّ بلسانِه وإقرارَه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جِهارًا، وخلْطَه ذلك الظاهرَ مِن الحقِّ بالباطلِ الذى يَسْتَبْطِنُه، وكان لَبْسُ المُقِرِّ منهم بأنه مَبعوثٌ إلى غيرِهم، الجاحدِ أنه مبعوثٌ إليهم، إقرارَه بأنه مبعوثٌ إلى غيرِهم -وهو الحقُّ- وجحودَه أنه مَبعوثٌ إليهم وهو الباطلُ، وقد بعَثه اللهُ إلى الخلقِ كافَّةً، فذلك خلْطُهم الحقَّ بالباطلِ ولَبْسُهم إياه به.
كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} . قال: لا تَخْلِطوا الصدقَ بالكذبِ
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} . يقولُ: لا تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ، وأدُّوا
(1)
شرح ديوان الأخطل ص 347.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 64 إلى المصنف.
النَّصيحةَ لعبادِ اللهِ في أمرِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} : اليهوديةَ والنصرانيةَ بالإسلامِ.
وحدَّثنى يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} . قال: الحقُّ التوراةُ التي أنْزَل اللهُ تعالى ذكرُه على موسى، والباطلُ الذى كتَبوه بأيديهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه؛ {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} .
قال أبو جعفرٍ: وفى قولِه: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} وجهان مِن التأويلِ؛ أحدُهما: أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه نهاهم عن أن يَكْتُموا الحقَّ، كما نهاهم عن أن يَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ. فيَكونُ تأويلُ ذلك حينَئذٍ: ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ، ولا تكْتُموا الحقَّ. ويَكونُ قولُه:{وَتَكْتُمُوا} عندَ ذلك مَجْزومًا بما جُزِم به {تَلْبِسُوا} عَطْفًا عليه.
والوجهُ الآخرُ منهما: أن يَكونَ النهىُ مِن اللهِ تعالى ذكرُه لهم عن أن يَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ، ويكونَ قولُه:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} خبرًا منه عنهم بكِتمانِهم الحقَّ الذى يَعْلَمونه. فيَكونُ قولُه حينَئذٍ: {وَتَكْتُمُوا} منصوبًا لانْصرافِه عن معنى قولِه: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} . إذ كان قولُه: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ} نهيًا، وقولُه:{وَتَكْتُمُوا} خبرًا معطوفًا عليه غيرَ جائزٍ أن يُعادَ عليه ما عمِل في
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 98 (454) من طريق آدم به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 64 إلى المصنف.
قولِه: {تَلْبِسُوا} مِن الحرفِ الجازمِ، وذلك هو المعنى الذي يُسَمِّيه النَّحْويون صَرْفًا
(1)
. ونظيرُ ذلك في المعنى والإعرابِ قولُ الشاعرِ
(2)
:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتَأْتِىَ مثلَه
…
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
فنصَب "تأتى" على التأويل الذى قلْنا في قولِه: {وَتَكْتُمُوا} ؛ لأنه لم يَرِدْ: لا تَنْهَ عن خلقٍ ولا تأتِ مثلَه. وإنما معناه: لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وأنت تَأتى مثلَه. فكان الأولُ نهيًا والثانى خبرًا، إذ عطَفه على غيرِ شكلِه.
فأما الوجهُ الأولُ مِن هذين الوجهين اللذين ذكَرْنا أن الآية تَحْتَمِلُهما، فهو على مذهبِ ابنِ عباسٍ الذي حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ ابنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} . يقولُ: لا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} . أى: ولا تَكْتُموا الحقَّ.
وأما الوجهُ الثانى منهما، فهو على مذهبِ أبى العاليةِ ومُجاهدٍ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن
(1)
ينظر تعريف المصنف للصرف في 6/ 92، وينظر المصطلح الكوفى ص 105 وما بعدها.
(2)
البيت مختلف في نسبته؛ فقال صاحب الخزانة 8/ 564: المشهور أنه لأبى الأسود الدؤلى.
ونسبه سيبويه في الكتاب 3/ 42 للأخطل. وقد نسبه الآمدى في المؤتلف والمختلف ص 273 للمتوكل الليثى.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 64 إلى المصنف.
أبى العاليةِ: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: كتَموا نَعْتَ
(1)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بنِ ميمونٍ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ نحوَه.
وأما تأويلُ الحقِّ الذي كتَموه وهم يَعْلَمونه، فإنه ما حدَّثنا به ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ مولى زيدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} . يقولُ: لا تَكْتُموا ما عندَكم مِن المعرفةِ برسولى، وما جاء به، وأنتم تَجِدونه عندَكم فيما تَعْلَمون مِن الكتبِ التى بأيديكم
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} . يقولُ: إنكم قد علِمْتُم أن محمدًا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال: يَكْتُمُ أهلُ الكتابِ
(1)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2:"بعث".
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 98 (456) من طريق آدم به.
(3)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 99 عقب الأثر (458) معلقا.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 534، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 98 (457) من طريق سلمة به.
محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يَجِدونه مكتوبًا عندَهم في التوراةِ والإنجيلِ.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال: الحقُّ هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: كتَموا نَعْتَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهم يَجِدونه مَكتوبًا عندَهم
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ
(3)
، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ: تَكْتُمون محمدًا وأنتم تَعْلَمون، وأنتم تَجِدونه عندَكم في التوراةِ والإنجيلِ.
فتأويلُ الآيةِ إذن: ولا تَخْلِطوا على الناسِ أيُّها الأحبارُ مِن أهلِ الكتابِ في أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به مِن عندِ ربِّه، وتزْعموا أنه مَبْعوثٌ إلى [بعضِ أجْناسِ الأممِ دون بعضٍ، أو تُنافِقوا في أمرِه، وقد علِمْتُم أنه مَبعوثٌ إلى]
(4)
جميعِكم، وجميعِ الأممِ غيرِكم، فتَخْلِطوا بذلك الصدقَ بالكذبِ، وتَكْتُموا به ما تَجِدونه في كتابِكم مِن نعْتِه وصفتِه، وأنه رسولى إلى الناسِ كافَّةً، وأنتم تَعْلَمون أنه
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 99 (458) عن أبى زرعة، عن عمرو به.
(2)
تقدم مختصرا في ص 633.
(3)
في ر، ت 1، ت 2:"الحسن".
(4)
سقط من: ص.
رسولى، وأن ما جاء به إليكم فمِن عندى، وتَعْرِفون أن مِن عهدى الذي أخَذْتُ عليكم في كتابِكم الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} .
قال أبو جعفرٍ: ذُكِر أن أحبارَ اليهودِ والمنافِقِين كانوا يَأْمُرون الناسَ بإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ ولا يَفْعَلونه، فأمَرهم اللهُ تعالى ذكرُه بإقامِ الصلاةِ مع المسلمين المُصدِّقِين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وإيتاءِ زكاةِ أموالِهم معهم، وأن يَخْضَعوا للهِ تبارك وتعالى ولرسولِه كما خضَعوا.
كما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن قَتادةَ في قولِه:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . قال: فَرِيضتان واجِبتان، فأدُّوهما إلى اللهِ جلّ ثناؤه.
وقد بيَّنا معنى إقامةِ الصلاةِ فيما مضَى مِن كتابِنا هذا، فكرِهْنا إعادتَه في هذا الموضعِ
(1)
.
وأما إيتاءُ الزكاةِ فهو أداءُ الصدقةِ المفروضةِ، وأصلُ الزكاةِ نَماءُ المالِ وتَثْميرُه وزيادتُه. ومِن ذلك قيل: زكا الزرعُ، إذا كثُر ما أخْرَج اللهُ جلّ وعزّ منه، وزكَتِ النفقةُ، إذا كَثُرت. وقيل: زكا الفردُ، إذا صار زوجًا بزيادةِ الزائدِ عليه حتى صار به شَفْعًا، كما قال الشاعرُ
(2)
:
(1)
ينظر ما تقدم في ص 247.
(2)
البيت في اللسان (خ س ى).
كانوا خَسًا أو زَكًا مِن دونِ أربعةٍ
…
لم يُخْلَقوا وجُدودُ
(1)
الناسِ تَعْتَلِجُ
(2)
[قال أبو جعفرٍ: خسًا: الوترُ، وزكًا: الشَّفْعُ]
(3)
.
وقال الرَّاجزُ
(4)
:
فلا خَسًا عَدِيدُه ولا زَكا
كما شِرارُ البَقْلِ أطرافُ السَّفَا
قال أبو جعفرٍ: السفا: شَوكُ البُهْمَى، والبُهْمى: الذي يكونُ مُدَوَّرًا في السُّلَّاءِ
(5)
. يعنى بقولِه: ولا زكَا: لم يُصَيِّرْهم شَفْعًا مِن وِتْرٍ بحُدوثِه فيهم.
وإنما قيل للزكاةِ: زكاةٌ، وهى مالٌ تَخْرُجُ مِن مالٍ؛ لتثميرِ اللهِ جلَّ وعزّ -بإخراجِها مما أُخْرِجَت منه- ما بِقى عندَ ربِّ المالِ مِن مالِه. وقد يَحْتَمِلُ أن تَكونَ سُمِّيت زكاةً لأنها تطهيرٌ لما بقِى مِن مالِ الرجلِ، وتخليصٌ له مِن أن تكونَ فيه مَظْلِمةٌ لأهلِ السُّهْمانِ، كما قال اللهُ جل ثناؤُه مخبرًا عن نبيه موسى صلواتُ اللهِ عليه:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74]. يعنى: بريئةً مِن الذنوبِ طاهرةً. وكما يقالُ للرجلِ: هو عَدْلٌ زَكِىٌّ. بذلك المعنى.
قال أبو جعفرٍ: وهذا الوجهُ أعجبُ إلىَّ في تأويلِ زكاةِ المالِ مِن الوجهِ الأولِ،
(1)
جدود: حظوظ. اللسان (ج د د).
(2)
تعتلج: تتصارع. اللسان (ع ل ج).
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(4)
هو هريم بن جواس التميمى، والرجز بروايات مختلفة في الأغانى 21/ 30، وطبقات فحول الشعراء 2/ 739، ومعجم الشعراء ص 473.
(5)
في النسخ: "السلى". والصواب ما أثبتناه. والسلاء: جمع سلاءة وهو شوك النخل. اللسان (س ل أ). وينظر تعليق الشيخ شاكر.
وإن كان الوجهُ الأولُ مقولًا
(1)
في تأويلِها. وإيتاؤُها: إعطاؤُها أهلَها.
وأما الركوعُ، فهو الخضوعُ للهِ جلّ ثناؤه بالطاعةِ، يُقالُ منه: ركَع فلانٌ لكذا وكذا إذا خضَع له. ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
بِيعَت بكَسْرٍ لَئِيمٍ واسْتَغاث بها
…
مِن الهُزالِ أبوها بعدَ ما رَكَعا
يعنى: بعدَ ما خضَع مِن شدةِ الحاجةِ والجَهْدِ.
وهذا أمرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه لمن ذكَر مِن أحبارِ بنى إسرائيلَ ومُنافقِيها - بالإنابةِ
(3)
والتوبةِ إليه، وبإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ، والدخولِ مع المسلمين في الإسلامِ، والخضوعِ له بالطاعةِ، ونَهْىٌ منه لهم عن كِتْمانِ ما قد علِموا مِن نبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ تَظاهُرِ حُجَجِه عليهم، مما قد وصَفْنا قبلُ فيما مضَى مِن كتابِنا هذا، وبعدَ الإعْذارِ إليهم والإنْذارِ، وبعدَ تذكيرِهم نعمَه إليهم وإلى أسلافِهم؛ تَعَطُّفًا منه بذلك عليهم وإبلاغًا إليهم في المَعْذِرةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتلَف أهلُ التأويلِ في معنى "البِرِّ" الذي كان المخاطَبون بهذه الآيةِ يَأْمُرون الناسَ به، ويَنْسَوْن أنفسَهم، بعدَ إجماعِ جميعِهم على أن كلَّ طاعةٍ للهِ فهى تُسَمَّى بِرًّا.
فرُوِى عن ابنِ عباسٍ ما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ، عن عِكْرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت، س:"مقبولا".
(2)
هو عصام بن عبيد الزمانى. والبيت في الوحشيات لأبى تمام ص 86، والحيوان للجاحظ 4/ 281،
والشطر الأول فيهما: بيعت بوكس قليل فاستقل بها
(3)
في م: "بالإبانة".
عباسٍ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . أى: تَنْهَوْن الناسَ عن الكفرِ بما عندَكم مِن النبوةِ والعهدِ مِن التوراةِ، وتَتْرُكون أنفسَكم وأنتم تَكْفُرون بما فيها مِن عَهْدى إليكم في تصديقِ رسولى، وتَنْقُضون مِيثاقى، وتَجْحَدون ما تَعْلَمون مِن كتابى
(1)
.
وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} . يقولُ: أتَأْمُرُون الناسَ بالدخولِ في دينِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وغيرِ ذلك مما أُمِرْتُم به مِن إقام الصلاةِ [وإيتاءِ الزكاةِ]
(2)
، {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}
(3)
.
وقال آخَرون بما حدَّثنى به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنى عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . قال: كانوا يَأْمُرُون الناسَ بطاعةِ اللهِ وهم يَعْصُونه
(4)
.
وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . قال: كان بنو إسرائيلَ يَأْمُرون الناسَ بطاعةِ اللهِ وبتَقْواه وبالبرِّ ويُخالِفون، فعيَّرهم اللهُ جلّ ثناؤه
(5)
.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا الحجاجُ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} : أهلُ الكتابِ والمنافِقون كانوا يَأْمُرون الناسَ
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 534، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 101، 102 (473، 476، 479) من طريق سلمة به.
(2)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 64 إلى المصنف، وسيأتى تمامه في ص 616، 617.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره (478) من طريق عمرو به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 44. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 101 (477) عن الحسن بن يحيى به.
بالصومِ والصلاةِ، ويَدَعُون العملَ بما يَأْمُرون به الناسَ، فعيَّرهم اللهُ جلّ ثناؤه بذلك، فمن أمَر بخيرٍ فلْيَكُنْ أشدَّ الناسِ فيه مُسارَعةً
(1)
.
وقال آخَرون بما حدَّثنى به يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ هؤلاء اليهودُ كان إذا جاء الرجلُ يَسْأَلهم ما ليس فيه حقٌّ ولا رِشْوةٌ ولا شيءٌ، أمَروه بالحقِّ، فقال اللهُ جلّ ثناؤه لهم:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
(2)
.
وحدَّثني عليُّ بنُ الحسنِ، قال: حدَّثنا مسلمٌ الجَرْمِيُّ، قال: حدَّثنا مَخْلَدُ ابنُ الحسينِ، عن أيوبَ السَّخْتِيانىِّ، عن أبي قِلَابةَ في قولِ اللهِ:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} . قال: قال أبو الدَّرْداءِ: لا يَفْقَهُ الرجلُ كلَّ الفقهِ حتى يمقُتَ الناسَ في ذاتِ اللهِ، ثم يَرْجِعَ إلى نفسِه فيَكونَ لها أشدَّ مَقْتًا
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وجميعُ الذي قال في تأويلِ هذه الآيةِ مَن ذكَرْنا قولَه متقاربُ المعنى؛ لأنهم وإن اخْتَلَفوا في صفةِ "البِرِّ" الذي كان القومُ يَأمُرون به غيرَهم الذين وصَفَهم اللهُ جل ثناؤه بما وصَفَهم به، فهم مُتَّفِقون في أنهم كانوا يَأْمُرُون الناسَ بما للهِ فيه رضًا مِن القولِ والعملِ، ويُخالِفون ما أمَروهم به مِن ذلك إلى غيرِه بأفعالِهم.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 121 عن ابن جريج.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 121 عن ابن زيد.
(3)
أخرجه معمر في جامعه (20473)، وابن أبي شيبة 13/ 306، والخطابى في العزلة ص 82، وأبو نعيم في الحلية 1/ 211، والبيهقي في الأسماء والصفات (619) من طريق أيوب به بنحوه. وزاد معمر في أوله: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهًا كثيرة. وأبو قلابة لم يدرك أبا الدرداء، قال الحافظ في الفتح 13/ 383: رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
فالتأويلُ الذى يَدُلُّ على صحتِه ظاهرُ التِّلاوةِ إذن: أتَأْمُرون. الناسَ بطاعةِ اللهِ وتَتْركون أنفسَكم تَعْصِيه؟ فهلَّا تَأْمُرونها بما تَأْمُرُون به الناسَ مِن طاعةِ ربِّكم جلَّ وعز؟ مُعَيِّرَهم بذلك ومقبِّحًا [لهم قبيحَ]
(1)
ما أتَوْا به
(2)
.
ومعنى نسيانِهم أنفسَهم في هذا الموضعِ نظيرُ النسيانِ الذي قال جل ثناؤُه: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. بمعنى: ترَكوا طاعةَ اللهِ فترَكهم اللهُ مِن ثوابِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {تَتْلُونَ الْكِتَابَ} .
قال أبو جعفرٍ: يعني بقولِه: {تَتْلُونَ الْكِتَابَ} : تَدْرُسون وتَقْرَءون.
كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} . يقُولُ: تَدْرُسون الكتابَ بذلك
(3)
.
ويعنى بـ {الْكِتَابَ} : التَّوْراةَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} .
قال أبو جعفرٍ: يعني بقولِه: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : أفلا تَفْقَهون وتَفْهَمون قُبْحَ ما تَأْتون مِن معصيتِكم ربَّكم التي تأْمُرون الناسَ بخِلافِها وتَنْهَونهم عن رُكوبِها، وأنتم راكبُوها، وأنتم تَعْلَمون أن الذي عليكم مِن حقِّ اللهِ وطاعتِه في اتباعِ محمد صلى الله عليه وسلم والإيمانِ به وبما جاء به، مثلُ الذي على مَن تَأْمُرونه باتِّباعِه.
كما حدَّثنا به محمدُ بنُ العَلاءِ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا
(1)
في الأصل: "لهم قبح"، وفي م "إليهم".
(2)
في ص: "منه".
(3)
تقدم أوله في ص 614.
بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . يقولُ: أفلا تَفقهون. فنهاهم عن هذا الخُلُقِ القَبيحِ
(1)
.
وهذا يَدُلُّ على صحةِ ما قلْنا مِن أمرِ أحْبارِ يهودِ بني إسرائيلَ غيرَهم باتِّباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يَقُولون: هو مَبعوثٌ إلى غيرِنا. كما ذكَرْنا قبلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .
قال أبو جعفرٍ: يعني بقولِه تعالى ذكرُه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} : واستَعِينوا على الوفاءِ بعهدى الذي عاهَدتموني في كتابِكم -مِن طاعتى واتباعِ أمرى، وتركِ ما تَهْوَوْنه مِن الرِّياسةِ وحبِّ الدنيا، إلى ما تَكْرَهونه مِن التسليمِ لأمْرِي، واتباعِ رسولي محمدٍ صلى الله عليه وسلم - بالصبرِ عليه والصلاةِ.
وقد قيل: إن معنى الصبرِ في هذا الموضعِ الصومُ، والصومُ بعضُ معاني الصبرِ [عندَنا، بل تأويلُ]
(2)
ذلك عندَنا أن اللهَ تعالى ذكرُه أمَرهم بالصبرِ على كُلِّ ما كرِهَتْه نفوسُهم مِن طاعةِ اللهِ وترْكِ مَعاصِيه.
وأصلُ الصبرِ منعُ النفسِ مَحابَّها وكفُّها عن هَواها؛ ولذلك قيل للصابرِ على المصيبةِ: صابرٌ، لكفِّه نفسَه عن الجَزَعِ. وقيل لشهرِ رمضانَ: شهرُ الصَّبرِ، لصبرِ صائميه عن المَطاعِمِ والمشَارِبِ نهارًا. وصَبرُه إياهم عن ذلك: حَبْسُه لهم وكفُّه إياهم عنه، كما تَصْبِرُ الرجلَ المسئَ للقتلِ، فتَحْبِسُه عليه حتى تَقْتُلَه، ولذلك قيل: قتَل فلانٌ فلانًا صَبْرًا. يعني به: حبَسه عليه حتى قتَله، فالمقتولُ مَصْبورٌ، والقاتلُ صابرٌ.
وأما الصلاةُ فقد ذكَرْنا معناها فيما مضَى
(3)
.
(1)
تقدم أوله في ص 614.
(2)
في ص: "عند تأويل من تأول".
(3)
ينظر ما تقدم في ص 248، 249.
فإن قال قائلٌ: قد علِمنا معنى الأمرِ بالاستعانةِ بالصبرِ على الوَفاءِ بالعهدِ والمحافظةِ على الطاعةِ، فما معنى الأمرِ بالاستعانةِ بالصلاةِ على طاعةِ اللهِ وتركِ مَعاصِيه، والتَّعَرِّى عن الرِّياسةِ وترْكِ الدنيا؟
قيل: إن الصلاةَ فيها تلاوةُ كتابِ اللهِ جل ثناؤه، الداعيةِ آياتهُ إلى رفضِ الدنيا، وهجرِ نَعيمِها، المُسَلِّيةِ النفوسَ عن زينتِها وغُرورِها، المُذَكِّرةِ الآخرةَ وما أعدَّ اللهُ فيها لأهلِها، ففي الاعتبارِ بها المعونةُ لأهلِ طاعةِ اللهِ جل جلاله على الجِدِّ فيها، كما رُوِى عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان إذا حزَبَه أمرٌ
(1)
فزِع إلى الصلاةِ.
حدَّثنى بذلك إسماعيلُ بنُ موسى الفَزاريُّ، قال: أخبرنا الحسينُ
(2)
بنُ زياد
(3)
الهَمْدانيُّ، [عن ابنِ جُرَيجٍ]
(4)
، عن عكرمةَ بنِ عمارٍ، عن محمدِ بنِ عُبَيدِ بنِ أبي قُدامةَ، عن عبدِ العزيزِ بنِ اليمَانِ، عن حُذيفةَ، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا حزَبه أمرٌ فزِع إلى الصلاةِ
(5)
.
(1)
حزَبه أمر: أي إذا نزل به مُهِمٌّ أو أصابه غم. النهاية 1/ 377.
(2)
كذا في النسخ، والصواب: الحسن. كما في الثقات 8/ 168 والمصادر، ولعله: الحسن بن زياد اللؤلؤى، وهو ضعيف، والله أعلم.
(3)
سقط من: ر، وفي م:"رتاق".
(4)
سقط من: ص، وفي م، ر:"عن ابن جرير".
(5)
إسناده ضعيف؛ عبد العزيز بن اليمان مجهول. وأخرجه ابن قانع في معجمه 2/ 189 عن العنزى -هو الحسن بن عليل- عن إسماعيل به. وأخرجه ابن قانع أيضًا، وابن منده -كما في أسد الغابة 3/ 506، 507 - من طريق عمر بن إبراهيم ومحمد بن إسحاق الثقفي، عن إسماعيل به، ولم يذكرا في إسناده حذيفة. وهكذا ذكره ابن حبان في الثقات 8/ 168، والمزى في التحفة 3/ 50. ووقع في أسد الغابة، والتحفة: محمد بن عبد الله بن أبي قدامة. وينظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على المسند 10/ 57 (6548).
وأخرجه البخاري في الكبير 1/ 172 معلقا عن النضر بن محمد الجرشى، عن عكرمة به موصولا.
وحدَّثنى سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: حدَّثنا خلفُ بنُ الوليدِ الأزْديُّ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ زكريا، عن عكرمةَ بنِ عمارٍ، عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الدُّؤَليِّ، قال: قال عبدُ العزيزِ أخو حُذَيْفةَ: قال حذيفةُ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا حزَبه أمرٌ صلَّى
(1)
.
وكذلك رُوِى عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأَى أبا هريرة مُنْبَطِحًا على بطنِه فقال له: "اشكَنْب دَرْد"
(2)
. قال: نعم. قال: "قُمْ فَصَلِّ فإِنَّ في الصَّلاةِ شِفَاءً"
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد 5/ 388 (الميمنية) عن خلف بن الوليد به. وأخرجه أحمد -أيضًا- وأبو داود (1319)، والخطيب 6/ 274 من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة به. ووقع عند أبي داود: ابن أخي حذيفة.
وأخرجه ابن قانع في معجمه 2/ 189، وأبو نعيم -كما في أسد الغابة 3/ 507 - من طريق سريج بن يونس، عن ابن أبي زائدة به، ولم يذكر في إسناده حذيفة. وهكذا ذكره المزى في التحفة 3/ 50. ووقع في أسد الغابة: ابن أخي حذيفة. وصوبه أبو نعيم، والحافظ في الإصابة 5/ 250.
والصواب أنه أخو حذيفة. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحوينى 2/ 356.
(2)
في الأصل "اشتكيت ذرنا". وفي المسند: "اشكنب ذرد" وفي سنن ابن ماجه: "اشكمت درد"، وفي التاريخ الصغير:"أشكم درد". وهي كلمة فارسية تعنى: أتشتكى بطنك؟ ينظر الذيل على النهاية ص 274، والمعجم الذهبي ص 375، وفيه "شكم درد: مغص".
(3)
حديث منكر، والصواب أنه موقوف. وأخرجه أحمد 15/ 28، 29، 131 (9066، 9240)، وابن ماجه (3458)، والعقيلى 2/ 48، وابن على في الكامل 3/ 985، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ص 275، وابن شاهين في الجزء الخامس من الأفراد (65)، وتمام في الفوائد (1143 - الروض البسام)، وابن الجوزى في العلل المتناهية 1/ 170، 171، وغيرهم من طريق ذوَّاد بن عُلبة، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي هريرة، مرفوعًا. وذوَّاد ضعيف، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا.
ورواه الصلت بن الحجاج عن ليث مثل رواية ذوَّاد بن عُلبة. أخرجه أبو الشيخ ص 276، وابن على 4/ 1400، وابن الجوزى 1/ 171.
وقال ابن عدى: هذا معروف بذوَّاد بن عُلبة عن ليث، أسنده، وغيره أوقفه على أبي هريرة. وهذا الصلت بن الحجاج رواه أيضًا كما رواه ذوَّاد مرفوعًا. . . والصلت في بعض أحاديثه ما ينكر عليه، بل عامته كذلك.
وقال ابن الجوزى: ولعله أخذه من ذواد. . . وقد رُوى هذا الحديث عن أبي هريرة موقوفًا، وهو أصح.
والموقوف أخرجه البخاري في الصغير 2/ 235 - وعنه العقيلي، وابن عدى، وابن الجوزى 1/ 172 - =
فأمَر اللهُ جلَّ ثناؤُه الذين وصَف أمرَهم مِن أحْبارِ بني إسرائيلَ أن يَجْعَلوا مَفْزَعَهم -في الوفاءِ بعهدِ اللهِ الذي عاهَدوه- إلى الاستعانةِ بالصبرِ والصلاةِ كما أمَر نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له:{فَاصْبِرْ} يا محمدُ {عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]. فأمَره جل ثناؤُه في نَوائبِه بالفزَعِ إلى الصبرِ والصلاةِ.
وقد حدَّثنا محمدُ بنُ العَلاءِ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ قالا: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا عُيَيْنةُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، أن ابنَ عباس نُعِى إليه أخوه قُثَمُ وهو في سفرٍ، فاسْتَرْجَع ثم تنَحَّى عن الطريقِ، فأناخ فصلَّى ركعتَيْن، أطال فيهما الجلوسَ، ثم قام يَمْشِي إلى راحلتهِ وهو يقولُ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}
(1)
.
وأما أبو العاليةِ فإنه كان يَقولُ بما حدَّثنى به المثنى بنُ إبراهيمُ، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفر، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
= عن ابن الأصبهانى، عن المحاربى، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، موقوفًا.
وقال ابن الأصبهانى: رفعه ذوَّاد، وليس له أصل، أبو هريرة لم يكن فارسيا، إنما مجاهد فارسى.
وأخرجه العقيلي، وابن عدى -أيضًا- من طريقين آخرين عن ليث به موقوفًا. وليث ضعيف. وينظر التحديث بما قيل: لا يصح فيه حديث ص 139.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (231 - تفسير) -ومن طريقه البيهقي في الشعب (9682) - عن ابن علية به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 68 إلى ابن المنذر.
وأخرجه سعيد أيضًا (189، 232) عن هشيم، عن خالد بن صفوان، عن زيد بن علي، عن ابن عباس، وفيه: نعى إليه ابن له.
وأخرجه البخاري في الكبير 3/ 156 من طريق هشيم به عن ابن عباس، أنه أصابته مصيبة فصلى.
وأخرجه الحاكم 2/ 269، 270 - وعنه البيهقي في الشعب (9681) - من طريق هشيم، عن خالد، عن زيد، عن أبيه، عن ابن عباس أنه جاءه نعى بعض أهله.
وَالصَّلَاةِ}. قال: يَقولُ: اسْتَعينوا بالصبرِ والصلاةِ على مَرضاةِ اللهِ، واعْلَموا أنهما مِن طاعةِ اللهِ تعالى ذكرُه
(1)
.
وقال ابنُ جُرَيْجٍ بما حدَّثنا به القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ في قولِه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} . قال: إنهما مَعونتان على رحمةِ اللهِ
(2)
.
وحدَّثني يُونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية. قال: قال المشرِكون: واللهِ يا محمدُ إنك لَتَدْعُونا إلى أمرٍ كبيرٍ. قال: إلى الصلاةِ والإيمانِ باللهِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} .
قال أبو جعفرٍ: يعني جلّ وعزّ بقولِه: {وَإِنَّهَا} : وإن الصلاةَ. والهاءُ والألفُ في {وَإِنَّهَا} عائدتان على الصلاةِ.
وقد قال بعضُهم: إن قولَه: {وَإِنَّهَا} . بمعنى: إن إجابةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ولم يَجْرِ لذلك بلفظِ الإجابةِ ذِكْرٌ فتُجْعَلَ الهاءُ والألفُ كنايةً عنه، وغيرُ جائزٍ تركُ الظاهرِ المفهومِ مِن الكلامِ إلى باطنٍ لا دَلالةَ على صحتِه.
ويعنى بقولِه جلَّ وعزَّ: {لَكَبِيرَةٌ} : لَشديدةٌ ثقيلةٌ.
كما حدَّثنا يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخْبَرَنا يزيدُ
(4)
، قال: أخْبَرَنا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 102 (481) من طريق آدم به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 124، عن ابن جريج.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 68 إلى المصنف.
(4)
في م: "ابن زيد".
جُوَيْبِرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} . قال: إنها لثَقيلةٌ
(1)
.
ويعنى بقولِه: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} : إلَّا على الخاضِعين لطاعتِه، الخائفِين سَطَواتِه، المُصَدِّقِين بوعدِه ووَعِيدِه.
كما حَدَّثَنِي المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} : يعنى المُصَدِّقين بما أنْزَل اللهُ
(2)
.
وحَدَّثَني المثني، قال: حَدَّثَنَا آدمُ العَسْقلانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} : يعنى الخائِفين
(3)
.
وحَدَّثني مُحمَّدُ بنُ عَمْرٍو
(4)
قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، قالِ: حَدَّثَنَا [عيسي، عن ابنِ أبي نجيحٍ]
(5)
، عن مُجاهدٍ:{إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} . قال: المؤمنين حقًّا
(6)
.
وحَدَّثني المثني، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 103 (487) معلقا عن يزيد به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 103 (489) من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 103 (491) من طريق آدم به.
(4)
في م: "جعفر".
(5)
في م: "سفيان عن جابر".
(6)
تفسير مجاهد ص 201، ومن طريقه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 4/ 172 - وابن أبي حاتم تفسيره 1/ 103 (490) وينظر تفسير الثورى ص 45.
وحَدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَي، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ قال: قال ابنُ زيدٍ: الخشوعُ الخوفُ والخشيةُ للهِ عز وجل. وقرَأ قولَ الله تبارك وتعالى: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]. قال: قد أذَلَّهم الخوفُ الذى نزَل بهم وخشَعوا له.
وأصلُ الخشوعِ التَّواضعُ والتَّذللُ والاسْتِكانةُ، ومنه قولُ الشاعرِ
(1)
:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبيرِ تواضَعَتْ
…
سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
يعنى: والجبالُ خُشَّعٌ مُتَذَلِّلةٌ لعِظَمِ المُصيبةِ بفَقْدِه.
فمعنى الآيةِ: واستَعِينوا أيُّها الأحبارُ مِن أهلِ الكتابِ بحبسِ أنفسِكم على طاعةِ اللهِ جل وعز، وكفِّها عن مَعاصى اللهِ، وبإقامةِ الصلاةِ المانعةِ مِن الفَحْشاءِ والمُنْكرِ، المُقَرِّبةِ مِن رضا اللهِ، العظيمةِ إقامتُها إلَّا على المُتَواضِعِين للهِ المُسْتَكِينين لطاعتِه المُتذَلِّلِين مِن مَخافتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} .
قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: وكيف أخْبَر اللهُ جلَّ وعزَّ عمَّن قد وصَفه بالخشوعِ له بالطاعةِ أنه يَظُنُّ أنه مُلاقِيه، والظنُّ شكٌّ، والشاكُّ في لقاءِ اللهِ جلَّ ثناؤه عندَك باللهِ كافرٌ؟
قيل: إن العربَ قد تُسَمِّى اليقينَ ظنًّا، والشكَّ ظنًّا، نظيرَ تسميتِهم الظُّلمةَ سُدْفةً، والضياءَ سُدفةً، والمُغيثَ صارخًا، والمُسْتَغِيثَ صارخًا، وما أشْبَهَ ذلك مِن الأسماءِ التى تُسمِّى بها الشيءَ وضدَّه، ومما يَدُلُّ على أنَّه يُسَمَّى به اليقينُ، قولُ دُرَيْدِ ابنِ الصِّمَّةِ
(2)
:
(1)
هو جرير، والبيت في ديوانه 2/ 913.
(2)
الأصمعيات ص 107، وشرح ديوان الحماسة 2/ 812.
فقلتُ لهم ظُنُّوا بألْفَىْ مُدَجَّجٍ
…
سَراتُهمُ
(1)
في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
(2)
يعنى بذلك: تَيَقَّنوا ألفَىْ مُدَجَّجٍ تَأْتِيكم.
وقولُ عَمِيرةَ بنِ طارقٍ
(3)
:
بأن تَغْتَزوا
(4)
قوْمى وأَقْعُدَ فيكمُ
…
وأَجْعَلَ منى الظنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا
يعنى: وأجْعَل منى اليَقينَ غيبًا مُرَجَّمًا.
والشواهدُ مِن أشعارِ العربِ وكلامِها على أنَّ الظنَّ في معنى اليقينِ أكثرُ مِن أن تُحْصَي، وفيما ذكَرْنا لمَن وُفِّق لفهمِه كِفايةٌ.
ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]. وبمثلِ الذى قلْنا في ذلك جاء تفسيرُ المُفَسِّرِين.
ذكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنِي المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حَدَّثَنَا آدمُ، قال: حَدَّثَنَا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} . قال: الظنُّ ههنا يقينٌ
(5)
.
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن
(1)
السراة، جمع سري، والسرى الرئيس، وهو جمع عزيز لا يكاد يوجد له نظير؛ لأنه لا يجمع فعيل على فعلة. المصباح (س ر ى).
(2)
السَّرْد: اسم جامع للدروع وسائر الحلق، والمسرد: تداخل الحلق بعضها في بعض. اللسان (س ر د).
(3)
الأضداد لابن الأنبارى ص 14، والنقائض 1/ 53، 2/ 785.
(4)
في الأصل: "تعتزوا" وفى م: "يعتزوا"، وفى ت 1، ت 2:"تعبروا". وغير منقوطة في ص والمثبت من مصادر التخريج.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (493) من طريق آدم به.
جابرٍ، عن مُجاهدٍ، قال: كلُّ ظنٍّ في القرآنِ يَقينٌ، {إِنِّي ظَنَنْتُ} [الحاقة: 20]، و {ظَنُّوا}
(1)
.
حَدَّثَنِي المثني، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ، قال: حَدَّثَنَا أبو داودَ الحَفَرىُّ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كلُّ ظنٍّ في القرآنِ فهو عِلْمٌ
(2)
.
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حَدَّثَنَا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} : أمَّا {يَظُنُّونَ} فَيَسْتَيْقِنون
(3)
.
حَدَّثَنِي القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} : علِموا أنهم ملاقو ربهم. قال: هي كقولِه: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} . يقولُ: علِمْتُ
(4)
. حَدَّثَنِي يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللهِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} . قال: لأنهم لَمْ يُعايِنوا، فكان ظنُّهم يَقينًا، وليس ظنًّا في شكٍّ. وقرَأ:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} .
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} . فأُضِيف المُلاقون إلى الربِّ جلَّ وعزَّ، وقد علِمْتَ أن معناه: الذين يَظُنُّون أنهم يَلْقَوْن ربَّهم؟ وإذا كان المعنى كذلك، فمِن كلامِ العربِ تركُ الإضافةِ وإثباتُ النونِ، وإنما تُسْقِطُ
(1)
ذكره ابن كثير في التفسير 1/ 125 عن المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 126 عن المصنف. وقال ابن كثير: وهذا سند صحيح. وأخرجه الثورى في تفسيره ص 45، قال: قال مجاهد. . .
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 104 عقب الأثر (494) من طريق عمرو به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 126 عن ابن جريج.
النونَ وتُضِيفُ في الأسماءِ المبْنِيَّةِ مِن الأفعالِ إذا كانت بمعنى "فَعَل"، فأما إذا كانت بمعنى "يفْعَل"، و"فاعِل"، فشأنُها إثباتُ النونِ وتركُ الإضافةِ.
قيل: لا تَدافُعَ بينَ جميعِ أهلِ المعرفةِ بلغاتِ العربِ وأَلْسُنِها في إجازةِ إضافةِ الاسمِ المَبنيِّ من "فَعَل" و"يفعَلُ"، وإسقاطِ النونِ، وهو بمعنى "يفْعَل"، و"فاعِل" -أعْنِى بمعنى الاسْتِقْبالِ وحالِ الفعلِ- ولمَّا يَنْقَضِ، فلا وجهَ لمسألةِ السائلِ عن ذلك لمَ قيل.
وإنما اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في السببِ الذى مِن أجلِه أُضِيفَ وأُسْقِطَت النونُ؛ فقال نحْويُّو البصرةِ: أُسْقِطَت النونُ مِن {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وما أشْبَهَه مِن الأفعالِ التى في لفظِ الأسماءِ، وهى في معنى "يفعل"، أو فى
(1)
معنى ما لَمْ يَنْقَضِ [من الفعلِ]
(2)
، اسْتِثْقالًا لها، وهى مُرادةٌ، كما قال جل ثناؤُه:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وكما قال: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} [القمر: 27]. ولمَّا يُرْسِلْها بعدُ، وكما قال الشاعر
(3)
:
هل أنتَ باعثُ دينارٍ لحاجتِنا
…
أوَ عبدَ رَبٍّ أخا عَوْنِ بنِ مِخْراقِ
فأضاف "باعث
(4)
" إلى "الدينارِ" ولمَّا يَبْعَثْ، ونصَب "عبدَ ربٍّ" عطفًا على موضعِ "دينارٍ"؛ لأنه في معنى
(5)
نصبٍ وإن خُفِض، وكما قال الآخرُ
(6)
:
والحافظو عورةِ العَشِيرةِ لا
…
يَأْتِيهمُ مِن وَرائِهم نَطَفُ
(7)
(1)
في ص، ر، م:"وفى".
(2)
سقط من: ص، ر، م.
(3)
الكتاب لسيبويه 1/ 171، وذكر الاختلاف في نسبته في الخزانة ومما قيل: إنه مصنوع. ثم قال: والله أعلم بالحال. الخزانة 8/ 219.
(4)
في الأصل، م، ت 1، ت 2:"باعثا".
(5)
في م: "موضع".
(6)
الكتاب 1/ 186، وينظر الخلاف في نسبته في الخزانة 4/ 283.
(7)
النطف: العيب والشر والفساد. القاموس المحيط (ن ط ف).
بنصبِ "العورةِ" وخفضِها، فالخفضُ على الإضافةِ، والنصبُ على حذفِ النونِ اسْتِثْقالًا وهى مُرادةٌ. وهذا قولُ نحْويِّى البصرةِ.
وأما نحْويُّو الكوفةِ فإنهم قالوا: جائزٌ في {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} الإضافةُ، وهو في معنى "يَلْقَوْن"، وإسقاطُ النونِ منه؛ لأنه في لفظِ الأسماءِ، فله في الإضافةِ إلى الأسماءِ حظُّ الأسماءِ، وكذلك حكمُ كلِّ اسمٍ كان له نَظيرًا. قالوا: وإذا أُثْبِتت في شيءٍ من ذلك النونُ وتُركت الإضافةُ، فإنما تفعلُ ذلك به لأنَّ له معنى "يفعل" الذى لَمْ يَكنْ ولم يَجِبْ بعدُ. قالوا: فالإضافةُ فيه للفظِ، وتركُ الإضافةِ للمعنى.
فتأويلُ الآيةِ إذن: واسْتَعِينوا على الوَفاءِ بعَهْدى بالصبرِ عليه والصلاةِ، وإن الصلاةَ لكبيرةٌ إلَّا على الخائِفِين عِقابي، المُتَواضِعِين لأمْرِي، المُوقِنين بلِقائى والرجوعِ إليَّ بعدَ مَماتِهم.
وإنما أخْبَر اللهُ جل ثناؤُه أن الصلاةَ كبيرةٌ إلَّا على مَن هذه صفتُه؛ لأنَّ مَن كان غيرَ مُوقِنٍ بمَعادٍ، ولا مُصَدِّقٍ بمَرْجِعٍ ولا ثَوابٍ ولا عِقابٍ، فالصلاةُ عندَه عَناءٌ وضَلالٌ؛ لأنه لا يَرْجُو بإقامتِها إدراكَ نفعٍ، ولا دفعَ ضُرٍّ، وحُقَّ لمَن كانت هذه الصفةُ صفتَه أن تكونَ الصلاةُ عليه كبيرةً، وإقامتُها عليه ثقيلةً، وله فادحةً.
وإنما خفَّت على المؤمنين المُصَدِّقِين بلقاءِ اللهِ عز وجل، الراجِين عليها جَزيلَ ثَوابِه، الخائِفين بتَضْييعِها أليمَ عقابِه، لِمَا يَرْجُون بإقامتِها في مَعادِهم مِن الوصولِ إلى ما وعَد اللهُ عليها أهلَها، ولِمَا يَحْذَرون بتَضْييعِها ما أوْعَد مُضَيِّعِيها. فأمَر اللهُ تعالى ذكرُه أحبارَ بنى إسرائيلَ الذين خاطَبهم بهذه الآياتِ أن يَكونوا مِن مُقِيمِيها، الراجِين ثوابَها، إذا كانوا أهلَ يقينٍ أنهم إلى اللهِ جلَّ وعزَّ راجِعون، وإياه في القيامةِ مُلاقُون.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} .
قال أبو جعفرٍ: والهاءُ والميمُ اللتان في قولِه: {وَأَنَّهُمْ} مِن ذكرِ الخاشِعِين، والهاءُ التى في {إِلَيْهِ} مِن ذكرِ الربِّ جلَّ وعزَّ في قولِه:{مُلَاقُو رَبِّهِمْ} فتأويلُ الكلمةِ: وإنها لكبيرةٌ إلَّا على الخاشِعينِ المُوقِنينِ أنهم إلى ربِّهم راجِعون.
ثم اخْتُلِف في تأويلِ "الرجوعِ" الذى في قولِه: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ؛ فقال بعضُهم بما حَدَّثَنِي به المثنى بنُ إبراهيمَ، قال؛ حَدَّثَنَا آدمُ، قال: حَدَّثَنَا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . قال: يَسْتَيْقِنون أنهم يَرْجعون إليه يومَ القيامةِ
(1)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك أنهم إليه يَرْجعون بموتِهم.
وأولى التأويلَيْن بالآيةِ القولُ الذى قاله أبو العاليةِ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤه قال في الآية التى قبلَها: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]. فأخْبَر جلَّ ثناؤُه أن مَرْجِعَهم إليه بعد نَشْرِهم وإحيائِهم مِن مَماتِهم، وذلك لا شكَّ يومَ القيامةِ، فكذلك تأويلُ قولِه:{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .
القولُ في تأويل قولِه جل ثناؤه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ ذلك في هذه الآيةِ نظيرُ تأويلِه في التى قبلَها في قولِه: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . وقد ذكَرْتُه
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 104 (495) من طريق آدم به.
هنالك
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} .
قال أبو جعفرٍ: وهذا أيضًا مما ذكَّرهم اللهُ جل جلاله مِن آلائِه ونعمِه عندَهم. ويَعْنى بقولِه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} : أنى فضَّلْتُ أسْلافَكم. فنَسَب نِعَمَه على آبائِهم وأسْلافِهم إلى أنها نِعَمٌ منه عليهم؛ إذ كانت مآثِرُ الآباءِ مآثِرَ للأبناءِ، والنعمُ عندَ الآباءِ نِعَمًا عند الأَبناءِ، لِكونِ الأبناءِ مِن الآباءِ. وأخْرَج جل ذكرُه قولَه:{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} مُخْرَجَ العُمومِ وهو يُريدُ به خصوصًا، لأن المعنى: وأنى فضَّلْتُكم على عالَمِ مَن كنتم بينَ ظَهْرَيه وفى زمانِه.
كالذى حدَّثنا به محمدُ بنُ عبدِ الأعْلَى الصَّنْعانىُّ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ ثَوْرٍ، عن مَعْمَرٍ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ:{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: فضَّلهم على عالَمِ ذلك الزمانِ
(2)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . قال: بما أُعْطُوا مِن المُلكِ والرُّسلِ والكتبِ على عالَمِ مَن كان في ذلك الزمانِ، فإن لكل زمان عالَمًا
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال: على مَن هم بينَ ظَهْرَانَيْه
(4)
.
(1)
ينظر ما تقدم في ص 593.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 44، 45، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 68 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره (497) من طريق آدم به.
(4)
تفسير مجاهد ص 201، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 68 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال مُجاهِدٌ في قولِه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: على مَن هم بينَ ظَهرَانَيْه
(1)
وحدَّثنى يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سأَلْتُ ابنَ زيدٍ عن قولِ اللهِ جل ثناؤُه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . قال: عالَمِ ذلك الزمانِ. وقرَأ قولَ اللهِ تبارك وتعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]. قال: هذه لمَن أطاعَه واتَّبَع أمرَه، وقد كان فيهم القِرَدةُ، وهم أبْغَضُ خلقِه إليه. قال: وقال لهذه الأمةِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. قال: هذه لمَن أطاعه واتَّبَع أمرَه جل وعز واجْتَنَب مَحارمَه.
قال أبو جعفرٍ: والدليلُ على صحةِ ما قلْنا مِن أن تأويلَ ذلك على الخصوصِ الذى وصَفْنا ما حدَّثنى به يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، وحدَّثنا الحسنُ ابنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، جميعًا عن بَهْزِ بنِ حَكيمٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ألَا إِنَّكم وَفَّيْتُم سَبْعين أُمَّةً": قال يعقوبُ في حديثه: "أنْتُم آخِرُها". وقال الحسنُ: "أنْتُم خَيْرُها وأكْرَمُها على اللهِ".
فقد أنْبَأ هذا الخبرُ عن النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم أن بنى إسرائيل لم يكونوا مُفَضَّلِين على أمةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وأن معنى قولِه:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 26]. وقولِه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . على ما بيَّنا مِن تأويلِه، وقد أتَيْنا على بيانِ تأويلِ قولِه:{الْعَالَمِينَ} . بما فيه الكفايةُ في غيرِ هذا الموضعِ، فأغْنَى ذلك عن
(1)
في الأصل، ص:"ظهريه".
إعادتِه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} .
وتأويلُ قولِه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} : واتَّقوا يومًا لا تَجْزِى فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا. وجائزٌ أيضًا أن يَكونَ تأويلُه: واتَّقُوا يومًا لا تَجْزِيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، كما قال الراجز
(2)
:
قد صبَّحَتْ صبَّحَها السلامُ
بكَبِدٍ خالَطَها سَنامُ
في ساعةٍ يُحَبُّها الطَّعامُ
وهو يعنى: يُحَبُّ فيها الطعامُ. فحُذِفَت الهاءُ الراجعةُ على "اليومِ"؛ إذ فيه اجتزاءٌ بما ظهَر مِن قولِه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} الدالِّ على المحذوفِ منه - عما حُذِف، إذ كان معلومًا معناه.
وقد زعَم قومٌ مِن أهلِ العربيةِ أنه لا يَجوزُ أن يَكونَ المحذوفُ في هذا الموضعِ إلا الهاءَ.
وقال آخَرون: لا يجوزُ أن يكونَ المحذوفُ إلا "فيه".
وقد دلَّلْنا فيما مضَى على جَوازِ حذفِ كلِّ ما دل الظاهرُ [من الكلام]
(3)
عليه
(4)
.
(1)
ينظر ما تقدم في ص 144.
(2)
الرجز في الكامل للمبرد 1/ 34.
(3)
سقط من: ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ينظر ما تقدم في ص 139.
وأما المعنى في قولِه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . فإنه تحذيزٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عبادَه الذين خاطَبَهم بهذه الآيةِ، عقوبته أن تَحِلَّ بهم يومَ القيامةِ، وهو اليومُ الذى لا تَجْزِى فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، ولا يَجْزِى فيه والدٌ عن ولدِه، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والدِه شيئًا.
وأما تأويلُ قولِه {لَا تَجْزِي نَفْسٌ} . فإنه يعنى: لا تُغْنى.
كما حدَّثنى به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} : أما {تَجْزِي} فتُغْنِى
(1)
.
وأصلُ الجزاءِ في كلامِ العربِ القَضاءُ والتَّعْويضُ، يقالُ: جزَيْتُه قَرْضَه ودَيْنَه، أَجْزِيه جَزاءً. بمعنى: قضَيْتُه دَيْنَه. ومِن ذلك قيل: جزَى اللهُ فلانًا عنى خيرًا أو شرًّا. بمعنى: أثابه عنى، وقضاه عنى ما لزِمنى له بفعلِه الذى سلَف منه إلىَّ.
وقد قال قومٌ مِن أهلِ العلمِ بلغةِ العربِ: يُقالُ: أجْزَيْتُ عنه كذا. إذا أعَنْتَه عليه، وجزَيْتُ عنك فلانًا. إذا كافَأْتَه.
وقال آخَرون منهم: بل: جزَيْتُ عنك: قضَيْتُ عنك، وأجْزَيْتُ: كفَيْتُ.
وقال آخَرون منهم: بل هما بمعنًى واحدٍ، يُقالُ: جزَتْ عنك شاةٌ وأجْزَتْ، وجزَى عنك درهمٌ وأجْزَى، ولا تَجْزِى عنك شاةٌ ولا تُجْزِى. بمعنًى واحدٍ. إلا أنهم ذكَروا أنَّ: جزَت عنك، ولا تُجْزِى عنك، مِن لغةِ أهلِ الحجازِ، وأن: أجْزَأ وتُجْزِئُ، مِن لغةِ غيرِهم. وزعَموا أن تميمًا خاصَّةً مِن بينِ قبائلِ العربِ تقولُ: أجْزَأَتْ عنك شاةٌ، وهى تُجْزِئُ عنك.
وزعَم آخَرون أن "جَزَى" بلا همزٍ: قضَى، و"أجْزَأ" بالهمزِ: كافَأ.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 104 (498) من طريق عمرو بن حماد به.
فمعنى الكلامِ إذن: واتَّقُوا يومًا لا تَقْضِى نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، ولا تُغْنى عنها غِنًى.
فإن قال قائلٌ: وما معنى: لا تَقْضِى نفسٌ عن نفسٍ شيئًا
(1)
، ولا تُغْنى عنها غِنًى؟
قيل: هو أن أحدَنا اليومَ ربما قضَى عن ولدِه أو والدِه أو ذى الصَّداقةِ والقَرابةِ دَيْنَه، وأما في الآخرةِ -فإنه فيما أتَتْنا به الأخبارُ، عنها- يَسُرُّ الرجلَ أن يَبْرُدَ
(2)
له على ولدِه أو والدِه حقٌّ، وذلك أن قضاءَ الحقوقِ في القيامةِ مِن الحسناتِ والسيئاتِ.
كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ ونصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدىُّ، قالا
(3)
: حدَّثنا المُحاربيُّ، عن أبى خالدٍ الدالانىِّ
(4)
يزيدَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن زيدِ بنِ أبى أُنَيْسةَ، عن سعيدِ بنِ أبى سعيدٍ المَقْبُرىِّ، عن أبى هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ عَبْدًا كانت عندَه لأَخيه مَظْلِمَةٌ فِى عِرْضٍ -قال أبو كُرَيْبٍ
(5)
في حديثِه: أو مَالٍ- جاءَه
(6)
فاسْتَحَلَّهُ قبلَ أَن يُؤْخَذَ منه وليس ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فإِن كانت له حَسَنَاتٌ أَخَذُوا مِن حَسَنَاتِه، وإن لم تكنْ لَه حَسَنَاتٌ حَمَلُوا عليه من سَيِّئَاتِهم"
(7)
.
(1)
سقط من ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
برد لى حقى على فلان: وجب ولزم وثبت. تاج العروس (ب ر د).
(3)
في ر، م:"قال".
(4)
في م: "الدولابى".
(5)
في م: "بكر".
(6)
في م، ت 1، ت 2:"أو جاه".
(7)
أخرجه الترمذى (2419) عن نصر بن عبد الرحمن به. وأخرجه الترمذى أيضا، وأبو يعلى (6539) من طريق المحاربى به. وأخرجه الطيالسى (2440، 2446)، وأحمد 15/ 377، 16/ 337 (9615، 10573)، والبخارى (2449) من طريق سعيد المقبرى به.
وحدَّثنى أبو عثمانَ المُقَدَّمىُّ، قال: حدَّثنا الفَرَوىُّ
(1)
، قال: حدَّثنا مالكٌ، عن المَقْبُرىِّ، عن أبيه، عن أبى هريرةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(2)
.
حدَّثنا خَلَّادُ بنُ أسْلَمَ، قال: حدَّثنا أبو همامٍ الأهْوازىُّ، قال: أخْبَرَنا عبدُ اللهِ ابنُ سعيدٍ، عن سعيدٍ، عن أبى هريرةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنى موسى بنُ سهلٍ الرَّمْلىُّ، قال: حدَّثنا نُعَيْمُ بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا عبدُ العزيزِ الدَّراوَرْدىُّ، عن عمرِو بنِ أبى عمرٍو، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَمُوتَنَّ أحدُكم وَعليه دَيْنٌ، فَإِنَّه ليس هناك دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ؛ إِنَّما تَقْتَسِمُون هُناك
(3)
الحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ". وأشار رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدِه يمينًا وشمالًا.
حدَّثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا سلمُ بنُ قادمٍ، قال: حدَّثنا أبو مُعاويةَ هاشمُ بنُ عيسى، قال: أخْبَرَنى الحارثُ بنُ مُسلمٍ، عن الزهرىِّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِ حديثِ أبى هريرةَ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: فذلك معنى قولِه: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . يعنى أنها
(1)
في ر، م، ت 3:"القروى". وينظر تهذيب الكمال 2/ 471.
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 344 من طريق إسحاق بن محمد الفروى به.
وأخرجه ابن حبان (7362) من طريق خالد بن أبى يزيد، عن زيد بن أبى أنيسة، عن مالك به.
وخالفه أبو خالد الدالانى، فرواه عن زيد، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، كما سبق.
وأصحاب مالك يروونه عنه، عن سعيد، عن أبى هريرة. أخرجه البخارى (6534)، وغيره. وينظر علل الدارقطنى 10/ 356 - 358، ومسند الطيالسى (2440).
(3)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"هنالك".
(4)
إسناده ضعيف؛ هاشم بن عيسى، هو ابن أبى هريرة، قال العقيلى: منكر الحديث، وهو وأبوه مجهولان بالنقل. وأخرجه الطبرانى في الأوسط (5159) عن محمد بن الحسين الأنماطى، عن سلم به. وينظر المجمع 10/ 355.
لا تَقْضِى عنها شيئًا لزِمها لغيرِها؛ لأن القَضاءَ هنالك مِن الحسناتِ والسيئاتِ على ما وصَفْنا. وكيف يَقْضِى عن غيرِه غُرْمًا
(1)
لزِمه مَن كان يَسُرُّه أن يَثْبُتَ له على ولدِه أو والدِه حقٌّ فيَأْخُذَه منه ولا يَتَجافَى له عنه؟
وقد زعَم بعضُ نحويِّى البصرةِ أن معنى قولِه: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} : لا تَجْزِى منها أن تكونَ مكانَها.
وهذا قولٌ يَشْهَدُ ظاهرُ القرآنِ على فَسادِه؛ وذلك أنه غيرُ معقولٍ في كلامِ العربِ أن يَقولَ القائلُ: ما أغْنَيْتَ عنى شيئًا. بمعنى: ما أغْنَيْتَ منى أن تكونَ مكانى. بل إذا أرادوا الخبرَ عن شيءٍ أنه لا يَجْزِى مِن شيءٍ، قالوا: لا يَجْزِى هذا مِن هذا. ولا يَسْتَجِيزون أن يَقولوا: لا يَجْزِى هذا مِن هذا شيئًا.
فلو كان تأويلُ قولِه: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . ما قاله مَن حكَيْنا قولَه، لقال: واتَّقوا يومًا لا تَجْزِى نفسٌ عن نفسٍ. كما يقالُ: لا تجزِى نفسٌ مِن نفسٍ. ولم يَقُلْ: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . وفى صحةِ التنزيلِ بقولِه: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أوضحُ الدَّلالةِ على صحةِ ما قلْنا، وفسادِ قولِ مَن ذكَرْنا قولَه في ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} .
قال أبو جعفرٍ: و"الشَّفاعةُ" مصدرٌ مِن قولِ الرجلِ: شفَع لى فلانٌ إلى فلانٍ شَفاعةً. وهو طلَبُه إليه في قضاءِ حاجتِه، وإنما قيل للشفيعِ: شَفيعٌ وشافعٌ. لأنه ثنَّى المُسْتَشْفِعَ به
(2)
، فصار له شَفْعًا، وكان ذو الحاجةِ قبلَ اسْتِشْفاعِه به في حاجتِه فَردًا،
(1)
في ر، م:"ما"، وفى ت 2، ت 3:"عن ما".
(2)
في م: "له".
فصار صاحبُه له فيها شافعًا، وطلبه فيه وفى حاجتهِ شَفاعةً، ولذلك سُمِّى الشفيعُ في الدارِ والأرضِ شفيعًا؛ لمصيرِ البائعِ به شَفْعًا.
فتأويلُ الآيةِ إذن: واتَّقوا يومًا لا تَقْضِى نفسٌ عن نفسٍ حقًّا لزِمها للهِ عز وجل ولا لغيرِه، ولا يَقْبَلُ اللهُ منها شفاعةَ شافعٍ، فيَتْرُكَ لها ما لزِمها مِن حقٍّ.
وقيل: إن اللهَ جل ثناؤُه خاطَب أهلَ هذه الآيةِ بما خاطَبهم به فيها؛ لأنهم كانوا مِن يهودِ بنى إسرائيلَ، وكانوا يقولون: نحن أبناءُ اللهِ وأَحبَّاؤُه وأولادُ أنبيائِه، وسيَشْفَعُ لنا عندَه آباؤُنا. فأخْبَرَهم اللهُ تعالى ذكرُه أن نفسًا لا تَجْزِى عن نفسٍ شيئًا في القيامةِ، ولا يُقْبَلُ منها شفاعةُ أحدٍ فيها حتى يُسْتَوْفَى لكلِّ ذى حقٍّ منها حقُّه.
كما حَدَّثَنِي عباسُ بنُ أبى طالبٍ، قال: حَدَّثَنَا حجاجُ بنُ نُصَيْرٍ، عن شعبةَ، عن العَوَّامِ بنِ مُزَاحِمٍ
(1)
-رجلٌ مِن بنى قيسِ بنِ ثَعْلَبةَ- عن أبي عثمانَ النَّهْدىِّ، عن عثمانَ بنِ عفانَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الجَمَّاءَ لَتَقْتَصُّ مِن القرْنَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ"
(2)
.
وكما قال اللهُ جلَّ ثناؤُه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ
(1)
هكذا في النسخ، وهو قول ابن معين. وفى ر:"مراحم". والصواب: مراجم. بالراء والجيم. ينظر المؤتلف للدارقطني 4/ 2078، وتعجيل المنفعة 2/ 88.
(2)
إسناده ضعيف؛ حجاج بن نصير ضعيف. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند 1/ 542 (520)، والبزار (387)، والعقيلى في الضعفاء 1/ 285، وابن عدى في الكامل 2/ 649، والدارقطني في العلل 3/ 64 من طرق عن حجاج بن نصير به.
وأخرجه العقيلى 1/ 285، 286، وابن عدى 2/ 650، والدارقطني 3/ 65 من طريق غندر، عن العوام، عن أبي السليل، عن سلمان، موقوفًا. وهو الصواب. قال ابن عدى: قال لنا ابن صاعد: وليس هذا من حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما رواه أبو عثمان، عن سلمان من قوله. وينظر العلل لابن أبي حاتم (2142، 2166)، وعلل الدارقطنيّ.
ومعناه في صحيح مسلم (2582) عن أبى هريرة مرفوعًا.
نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47]. فآيَسَهم اللهُ جل ذكرُه مما كانوا أطْمَعوا فيه أنفسَهم مِن النجاةِ مِن عذابِ اللهِ -مع تكذيبهم بما عرَفوا مِن الحقِّ، وخلافِهم أمرَ اللهِ تعالى ذكرُه في اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما جاءهم به مِن عندِه- بشفاعةِ آبائِهم وغيرِهم مِن الناسِ كلِّهم، وأخْبَرَهم أنه غيرُ نافعِهم عندَه إلَّا التوبةُ إليه مِن كفرِهم، والإنابةُ مِن ضَلالِهم، وجعَل ما سنَّ فيهم مِن ذلك إمامًا لكلِّ مَن كان على مِثل منهاجِهم؛ لئلا يَطْمَعَ ذوو الإلحادِ في رحمةِ اللهِ.
قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ وإن كان مَخْرَجُها عامًّا في التِّلاوةِ، فإن المرادَ بها خاصٌّ في التأويلِ؛ لتَظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"شَفَاعَتى لأَهْلِ الكَبَائِرِ مِن أُمَّتِى"
(1)
. وأنه قال: "ليس مِن نَبِيٍّ إِلَّا وقد أُعْطِىَ دَعْوَةً، وإنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتى شَفاعَةً لأُمَّتي، وهى نائِلَةٌ منهم من لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا"
(2)
. فقد تبَيَّن بذلك أنَّ اللهَ جل ثناؤُه قد يَصْفَحُ لعبادِه المؤمنين بشفاعةِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم لهم عن كثيرٍ مِن عُقوبةِ إجْرامِهم بينَهم وبينَه، وأن قولَه:{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} . إنما هي لمن مات على كفرِه غيرَ تائبٍ إلى اللهِ عز وجل. وليس هذا مِن مَواضِعِ الإطالةِ في القولِ في الشَّفاعةِ والوَعْدِ والوَعيدِ فَنَسْتَقْصِىَ الحِجاجَ في ذلك، وسنَأْتى على ما فيه الكفايةُ في مَواضِعِه إن شاء اللهُ تعالى.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} .
قال أبو جعفرٍ: و"العَدْلُ" في كلامِ العربِ -بفتحِ العينِ- الفِدْيةُ.
(1)
أخرجه الطيالسى (2138)، وأحمد 20/ 439 (13222)، وأبو داود (4739)، والترمذى (2435)، وغيرهم من حديث أنس.
(2)
أخرجه البخاري (6304، 7474)، ومسلم (198، 199) من حديث أبى هريرة بنحوه.
كما حدَّثني المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: أنبأنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} قال: يعنى فِداءً
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدّىِّ:{وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} : أما {عَدْلٌ} فيَعْدِلُها، مِن العَدْلِ. يقولُ: لو جاءت بملْءِ الأرضِ ذهبًا تَفْتَدِى به ما تُقُبِّل منها.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . قال: لو جاءت بكلِّ شيءٍ لَمْ يُقْبلْ منها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال مُجاهِدٌ: قال ابنُ عباسٍ: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . قال: بَدَلٌ، والبَدَلُ الفِدْيةُ
(3)
.
حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعلي، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . قال: لو أن لها مِلْءَ
(4)
الأرضِ ذهبًا لَمْ يُقْبَلْ منها؛ [لم يُؤْخَذْ منها]
(5)
فِداءٌ. قال: ولو جاءَت بكلِّ شيءٍ لَمْ يُقْبَلْ منها.
حدَّثنا نَجيحُ بنُ إبراهيمَ، قال: أخبرنا عليُّ بنُ حَكيمٍ، قال: أخبرنا حُميدُ بنُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 105 (501) من طريق آدم به.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 45.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 68 إلى المصنّف وابن المنذر.
(4)
في ص: "مثل".
(5)
سقط من: ر، م.
عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن عمرِو بنِ قيسٍ المُلَائيِّ، عن رجلٍ مِن بنى أُميةَ مِن أهلِ الشامِ، أحْسَن عليه الثناءَ، قال: قيل: يا رسولَ اللهِ، ما العَدْلُ؟ قال:"العَدْلُ الفِدْيَةُ"
(1)
.
قال أبو جعفر: وإنما قيل للفِدْيةِ مِن الشئِ والبَدَلِ منه: عَدْلُه؛ لمُعادَلتِه إياه وهو مِن غيرِ جنسِه، ومَصِيرِه له مثلًا مِن وَجهِ الجَزاءِ، لا مِن وجهِ المُشابَهةِ في الصورةِ والخِلْقةِ، كما قال تعالى ذكره:{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]. بمعنى: وإن تَفْدِ كلَّ فِدْيةٍ لا يُؤْخَذْ منها. يقالُ منه: هذا عَدْلُه وعَدِيلُه. وأما العِدْلُ -بكسرِ العينِ- فهو مِثْلُ الحِمْلِ المَحْمولِ على الظهرِ، يقالُ مِن ذلك: عندى غلامٌ عِدْلُ غُلامِك، وشاةٌ عِدْلُ شاتِك. بكسرِ العينِ، إذا كان غلامًا يَعْدِلُ غلامًا، وشاةً تَعْدِلُ شاةً، وكذلك ذلك في كلِّ مثْلٍ للشيءِ مِن جنسِه، فإذا أُريد أن عندَه قيمتَه مِن غيرِ جنسِه نُصِبَت العينُ، فقيل: عندى عَدْلُ شاتِك مِن الدراهمِ. وقد ذُكِر عن بعضِ العربِ أنه يَكْسِرُ العينَ مِن العَدْلِ الذى هو بمعنى الفِديةِ [والمعادلةِ]
(2)
ما عادلَتْه مِن جهةِ الجَزاءِ؛ وذلك لتَقارُبِ معنى العَدْلِ والعِدْلِ عندَهم. وأما واحدُ الأعْدالِ فلم يُسْمَعْ فيه إلَّا عِدْلٌ بكسرِ العينِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} .
وتأويلُ قولِه جل جلاله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} . يعنى: إنهم يومَئذٍ لا يَنْصُرُهم ناصرٌ، كما لا يَشْفَعُ لهم شافعٌ، ولا يُقْبَلُ منهم عَدْلٌ ولا فِديةٌ، بَطَلَت هنالك المُحاباةُ، واضْمَحَلَّت الرِّشَا والشَّفاعاتُ، وارْتَفَع مِن القومِ التعاوُنُ
(1)
إسناده ضعيف؛ عمرو بن قيس من أتباع التابعين، وشيخه مجهول. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 68 إلى المصنّف. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 127.
(2)
في ر، م، ت 2:"لمعادلة"، وفى ت 1، ت 3:"المعادلة".
والتَّناصُرُ، وصار الحُكمُ إلى العَدلِ الجَبَّارِ الذى لا يَنْفَعُ لديه الشُّفَعاءُ والنُّصَراءُ، فيَجْزِى بالسيئةِ مثلَها، وبالحسنةِ أضْعافَها، وذلك نظيرُ قولِه جلَّ ثناؤُه:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 24 - 26].
وكان ابنُ عباسٍ يقولُ فى معنى: {لَا تَنَاصَرُونَ} . ما حُدِّثْتُ به عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} : ما لكم
(1)
لا تَمانَعون منا، هَيْهاتَ
(2)
، ليس ذلك لكم اليومَ
(3)
.
وقد قال بعضُهم في معنى قولِه: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} : وليس لهم مِن اللهِ يومَئذٍ نَصيرٌ يَنْتَصِرُ لهم مِن اللهِ إذا عَاقَبَهم.
وقد قيل: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} بالطلبِ فيهم والشَّفاعةِ والفِدْيةِ.
قال أبو جعفرٍ: والقولُ الأولُ أولى بتأويلِ الآيةِ؛ لما وصَفْنا مِن أن اللهَ جل ثناؤُه إنما أعْلَم المخاطَبِين بهذه الآيةِ أن يومَ القيامةِ يومٌ لا فِدْيةَ فيه
(4)
لمن اسْتَحَقَّ مِن خلقِه عُقوبتَه، ولا شَفاعةَ فيه، ولا ناصرَ له، وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا، فأخْبَر أن ذلك يومَ القيامةِ مَعْدومٌ لا سبيلَ لهم إليه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} .
(1)
بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"اليوم".
(2)
في الأصل: "أيهات"، على إبدال الهاء همزة، مثل هراق وأراق.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 273 إلى المصنّف.
(4)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وأما تأويلُ قولِه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} . فإنَّه عَطْفٌ على قولِه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} . فكأنه قال: اذْكُروا نِعْمتى التى أنْعَمْتُ عليكم، واذْكُروا إنعامَنا عليكم إذ نَجَّيْناكم مِن آلِ فرعونَ، بإنجائِنا لكم منهم.
وأما: [{مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}]
(1)
فإنهم أهلُ دينِه وقومُه وأشْياعُه.
وأصلُ "آل": أهلٌ، أُبْدِلَت الهاءُ همزةً، كما قالوا: ماءٌ
(2)
. فأبْدَلوا الهاءَ همزةً، فإذا صغَّروه قالوا: مُوَيْهٌ. فردُّوا الهاءَ في التَّصْغيرِ، وأخْرَجوه على أصلِه، وكذلك إذا صغَّروا "آلًا"، قالوا: أُهَيْلٌ. وقد حُكِى سَماعًا مِن العربِ في تَصْغيرِ "آلٍ"؛ أُوَيْلٌ. وقد يُقالُ: فلانٌ مِن آلِ النساءِ. يُرادُ أنه منهن خُلِق. ويقالُ ذلك أيضًا بمعنى أنه يُرِيدُهن ويَهْواهن، كما قال الشاعرُ
(3)
:
فإنكَ
(4)
مِن آلِ النِّساءِ وإنَّما
…
يَكُنَّ لِأَدْنَى لا وِصالَ لِغائبِ
وأحسنُ أماكنِ "آل" أن يُنْطَقَ به مع الأسماءِ المشهورةِ، مثلَ قولِهم: آلُ النَّبِيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وآلُ عليٍّ، وآلُ العباسِ، وآلُ عَقيلٍ. وغيرُ مُسْتَحْسَنٍ استعمالُه مع المجهولِ وفى أسماءِ الأرَضِين وما أشبهَ ذلك. غيرُ حسنٍ عندَ أهلِ العلمِ بلسانِ
(5)
العربِ أن يُقالَ: رأيْتُ آلَ الرجلِ، وزارنى
(6)
آلُ المرأةِ. ولا: رأيْتُ آلَ البصرةِ، وآلَ
(1)
سقط من: ر، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ر، م:"ماه".
(3)
البيت في الصاحبى ص 434 غير منسوب، ونسبه في الخصائص 3/ 27 إلى كُثَيِّر، وليس في ديوانه، ونسبه في البحر المحيط 2/ 262 إلى جميل، وليس في ديوانه أيضًا.
(4)
في مصادر التخريج: "بثينة".
(5)
في الأصل: "بلغات".
(6)
في م: "رآنى".
الكوفةِ. وقد ذُكِر عن
(1)
العربِ سَماعًا أنَّها تقولُ: رأيْتُ آلَ مكةَ، وآلَ المدينةِ. وليس ذلك في كلامِهم بالمستعملِ الفاشى.
وأما {فِرْعَوْنَ} فإنه يقالُ: إنه اسمٌ كانت مُلوكُ العَمالِقةِ بمصرَ تُسَمَّى به، كما كانت ملوكُ الرومِ يُسمَّى بعضُهم قيصَرَ، وبعضُهم هِرقْلَ، وكما كانت ملوكُ فَارسَ تُسَمَّى الأكاسِرةَ واحدُهم كِسْرَي، وملوكُ اليمنِ تُسَمَّى التَّبَابِعةَ، واحدُهم تُبَّعٌ.
وأما فرعونُ موسى الذى أخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه عن بنى إسرائيلَ أنه نجَّاهم منه، فإنه يقالُ: إن اسمَه [الذى هو اسمُه]
(2)
الوَليدُ بنُ مُصْعبٍ. كذلك ذكَر محمدُ بنُ إسحاقَ أنه بلَغه عن اسمِه. حدَّثنا بذلك محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ
(3)
.
[وقد قيل: إن اسمَه]
(4)
مصعبُ بنُ الرّيَّانِ.
وإنما جاز أن يقالَ: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} . والخطابُ به لمن لَمْ
(5)
يُدْرِكْ فرعونَ ولا المُنَجَّيْنَ منه؛ لأنَّ المُخَاطَبِين بذلك كانوا أبناءَ مَن نجَّاهم مِن فرعونَ وقومِه، فأضاف ما كان مِن نعمِه على آبائِهم إليهم، وكذلك ما كان مِن كُفرانِ آبائِهم، على وجهِ الإضافةِ، كما يقولُ القائلُ لآخرَ: فعَلْنا بكم كذا وكذا
(6)
،
(1)
بعده في ص، م:"بعض".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 387.
(4)
في م: "أن اسمه الوليد بن".
(5)
سقط من: ص، ر، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وفعَلْنا بكم كذا، وقتَلْناكم وسبَيْناكم. والمُخْبِرُ إما أن يكونَ يعنى قومَه وعَشيرتَه بذلك، أو أهلَ بلدِه ووطنِه، كان المَقولُ له ذلك أدْرَكَ ما فُعِل بهم مِن ذلك أو لم يُدْرِكْه، كما قال الأخطلُ يُهاجِى جَريرَ بنَ عَطِيَّةَ
(1)
:
ولقد سَما
(2)
لكمُ الهُذَيْلُ
(3)
فنالَكم
…
بإرَابَ
(4)
حيث يُقَسِّمُ الأَنْفالَا
(5)
في فَيْلَقٍ
(6)
يَدْعُو الأراقِمَ
(7)
لم تَكُنْ
…
فُرْسانُه عُزْلًا ولا أَكْفالَا
(8)
ولم يَلْقَ
(9)
جَريرٌ هُذَيلًا ولا أدْرَكه، ولا أدْرَك إرَابَ ولا شهِدَه، ولكنه لما كان يومًا مِن أيامِ قومِ الأخْطَلِ على قومِ جَريرٍ، أضاف الخطابَ إليه وإلى قومِه، فكذلك خطابُ اللهِ عز وجل مَن خاطَبه بقولِه:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} . لمَّا كان فعلُه ما فعَل مِن ذلك بقومِ مَن خاطَبه بالآيةِ وآبائِهم، [أضاف فعْلَه ذلك الذى فعَله بآبائِهم إلى المُخاطَبِين بالآيةِ]
(10)
وقومِهم.
(1)
ديوان الأخطل ص 391.
(2)
سما لهم: نهض لقتالهم، وتساموا: تباروا. اللسان (س م و).
(3)
الهذيل: هو الهذيل بن هبيرة التغلبى. النقائض ص 77.
(4)
إراب: ماء من مياه بنى يربوع، كانت فيه لتغلب وقعة على بنى يربوع. معجم ما استعجم 1/ 133.
(5)
في الأصل، ص:"الأثقالا"، وفى ت 1، ت 3:"الأثقال" والنفل: الغنيمة والهبة. اللسان (ن ف ل).
(6)
الفيلق: الكتيبة الكثيرة السلاح. اللسان (ف ل ق).
(7)
الأرقم من الحيات ما فيه بياض وسواد، والجمع أراقم. اللسان (ر ق م).
والأراقم هنا: هم من بنى تغلب، جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعاوية والحارث بنو بكر بن حبيب، مر كاهن بأمهم وهم في قطيفة لها فقالت: ينظر إلى ولدى هؤلاء. فقال: والله لكأنما رمونى بعيون الأراقم. النقائض ص 78.
(8)
الكفل من الرجال: الذي يكون في مؤخر الحرب، وإنما همته في التأخير والفرار. اللسان (ك ف ل).
(9)
في ص: "يلحق".
(10)
سقط من: ص، ر.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .
قال أبو جعفرٍ: وفى قولِه: {يَسُومُونَكُمْ} . وجهان مِن التأويلِ؛ أحدُهما: أن يَكونَ خبرًا مُسْتَأْنَفًا عن فِعْلِ فرعونَ ببنى إسرائيلَ، فيَكونَ معناه حينَئذٍ: واذْكُروا نعمتى عليكم إذ نَجَّيناكم
(1)
مِن آلِ فرعونَ، وكانوا مِن قبلُ يَسُومُونكم سُوءَ العذابِ.
وإذا كان ذلك تأويلَه كان موضعُ {يَسُومُونَكُمْ} رفعًا
(2)
.
والوجهُ الثانى: أن يَكونَ {يَسُومُونَكُمْ} حالًا، فيكونَ تأويلُه حينَئذٍ: وإذ نجَّيْناكم مِن آلِ فرعونَ سائميكم سُوءَ العذابِ. فيكونَ حالًا مِن {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} .
وأما تأويلُ قولِه: {يَسُومُونَكُمْ} . فإنه: يُورِدُونَكم، ويُذِيقُونكم، ويُولُونكم. يقالُ منه: سامه خُطَّةَ ضَيْمٍ. إذا أولاه ذلك وأذاقه
(3)
، كما قال الشاعرُ
(4)
:
*إن سِيمَ خَسْفًا
(5)
وجهُه تَرَبَّدَا
(6)
*
وأما تأويلُ قولِه: {سُوءَ الْعَذَابِ} فإنه يعنى: ما ساءَهم مِن العذابِ. وقد قال بعضُهم: أشدَّ العذابِ. ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأَ العذابِ.
فإن قال لنا قائلٌ: وما ذلك العذابُ الذى كانوا يُسومُونهم
(7)
؟
قيل: هو ما وصَفه اللهُ تعالى ذكْرُه في كتابِه فقال: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
(1)
في ص: "نجيتكم".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"وجها".
(3)
سقط من: ر، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
هو عمرو بن سالم الخزاعى، من أبيات قالها يستنصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وبنى بكر. والأبيات في سيرة ابن هشام 2/ 394، 395.
(5)
الخسف: الإذلال، وأن يحملك الإنسان ما تكره. التاج (خ س ف).
(6)
تربد وجهه: تغير من الغضب. التاج (ر ب د).
(7)
بعده في ر، م، ت 2، ت 3:"الذى كان يسوءهم"، وفى ت 1:"الذى يسوءهم".
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}.
وقد قال محمدُ بنُ إسحاقَ في ذلك ما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حدَّثنا ابنُ إسحاقَ، قال: كان فرعونُ يُعَذِّبُ بني إسرائيلَ، فيَجْعَلُهم خَدَمًا وخَوَلًا
(1)
، وصنَّفهم في أعمالِه
(2)
؛ فصِنفٌ يَبْنون، وصِنْفٌ يَزْرَعون له، فهم في أعمالِه، ومَن لم يَكُنْ منهم في صَنْعةٍ له مِن عملِه، فعليه الجزيةُ، فسامَهم كما قال اللهُ عز وجل:{سُوءَ الْعَذَابِ}
(3)
.
وقال السُّدِّىُّ: جعَلهم في الأعمالِ القَذِرةِ، وجعَل يُقَتِّلُ أبناءَهم، ويستحيى نساءَهم. حدَّثنى بذلك موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} .
فأضاف اللهُ جل ثناؤُه ما كان مِن فعلِ آلِ فرعونَ ببنى إسرائيلَ مِن سَوْمِهم إياهم سُوءَ العذابِ، وذَبْحِهم أبناءَهم، واسْتِحْيائِهم نساءَهم، إليهم دونَ فرعونَ -وإن كان فعلُهم ما فعَلوا مِن ذلك كان بقوةِ فرعونَ وعن أمرِه- لمباشرتِهم ذلك بأنفسِهم، فبيِّنٌ بذلك أن كلَّ مباشرٍ قتْلَ نفسٍ أو تعذيبَ حىٍّ بنفسِه، وإن كان عن أمْرِ غيرِه، ففاعلُه المُتَولِّى ذلك هو المستحقُّ إضافةَ ذلك إليه، وإن كان الآمِرُ قاهرًا الفاعلَ المأمورَ بذلك- سلطانًا كان الآمرُ، أو لِصًّا حاربًا
(5)
، أو مُتَغَلِّبًا فاجرًا -كما أضاف جل ثناؤُه تذبيحَ أبناءِ بني إسرائيلَ واستحياءَ نسائِهم إلى آلِ فرعونَ دون فرعونَ، وإن كانوا بقوةِ فرعونَ وأمرِه إياهم بذلك فعَلوا ما فعَلوا، مع غلبتِه إياهم
(1)
الخَوَل: حشم الرجل وأتباعه، ويقع على العبد والأمة. ينظر النهاية 2/ 88.
(2)
في الأصل: "أعمالهم".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 387. وتقدم أوله في ص 642.
(4)
سيأتي مطولا في ص 649.
(5)
في م: "خاربا". والحارب: المُشلِّح، وهو قاطع الطريق. ينظر اللسان (ح ر ب، ش ل ح).
وقهرِه لهم، فكذلك كلُّ قاتلٍ نفسًا بأمرِ غيرِه ظلمًا، فهو المقتولُ به عندَنا قِصاصًا، وإن كان قتلُه إياه بإكراهِ غيرِه له على قتلِه.
وأما تأويلُ ذَبْحِهم أبناءَ بني إسرائيلَ، واستحيائِهم نساءَهم، فإنه كان فيما ذُكِر لنا عن ابنِ عباسٍ وغيرِه كالذى حدَّثنا به العباسُ بنُ الوليدِ الآمُلىُّ وتَميمُ بنُ المُنْتَصرِ الواسطىُّ، قالا: حدَّثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخْبَرَنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: حدَّثنا القاسمُ بنُ أبى
(1)
أيوبَ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: تذاكَر فرعونُ وجُلساؤُه ما كان اللهُ تعالى ذكرُه وعَد إبراهيمَ خليلَه عليه السلام أن يجْعَلَ في ذريتِه أنبياءَ ومُلوكًا، فأْتمروا وأجْمَعوا أمرَهم على أن يَبعَثَ رجالًا معهم الشِّفَارُ
(2)
، يَطُوفون في بني إسرائيلَ، فلا يَجِدون مولودًا ذكرًا
(3)
إلا ذَبَحوه، ففعَلوا، فلمَّا رأَوْا أن الكبارَ مِن بني إسرائيلَ يَمُوتون بآجالِهم، وأن الصغارَ يُذَبَّحون، قال: تُوشكون أن تُفْنُوا بني إسرائيلَ، فتَصيروا إلى أن تُباشِروا مِن الأعمالِ والخِدْمةِ ما كانوا يَكْفُونكم، فاقْتُلوا عامًا كلَّ مولودٍ ذكرٍ، فَيقِلَّ
(4)
أبناؤُهم، ودَعُوا عامًا. فحمَلَتْ أمُّ موسى بهارونَ في العامِ الذى لا يُذْبَحُ فيه الغِلْمانُ، فولَدَته عَلانيةً آمنةً
(5)
، حتى إذا كان القابلُ حمَلَت بموسى
(6)
.
وقد حدَّثنا عبدُ الكريمِ بنُ الهَيْثمِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشارٍ الرَّمَادىُّ،
(1)
سقط من النسخ، وينظر تهذيب الكمال 23/ 336.
(2)
الشفار جمع شفرة، وهو السكين العظيم وما عُرِّض من الحديد وحُدِّد. القاموس المحيط (ش ف ر).
(3)
سقط من: ص، ر.
(4)
في ص، ت 3:"فتقتل"، وفى ت 1:"فيقتل".
(5)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمه". وغير واضحة في الأصل، والمثبت موافق لما في تفسير ابن كثير 5/ 279، والدر المنثور 4/ 296، وغيرهما كما سيأتي.
(6)
سيأتي تخريجه في تفسير الآية 40 من سورة طه، في حديث الفتون الطويل.
قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، قال: حدَّثنا أبو سعدٍ
(1)
، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قالت الكَهَنةُ لفرعونَ: إنه يُولَدُ في هذا العامِ مولودٌ يَذْهَبُ بمُلْكِك. قال: فجعَل فرعونُ على كلِّ ألفِ امرأةٍ مائةَ رجلٍ، وعلى كلِّ مائةٍ
(2)
عشرةً، وعلى كلِّ عشرةٍ رجلًا، فقال: انْظُروا كلَّ امرأةٍ حاملٍ في المدينةِ، فإذا وضَعَت حَمْلَها فانْظُروا إليه، فإن كان ذكرًا فاذْبَحوه، وإن كان أنثى فخَلُّوا عنها
(3)
. وذلك قولُه: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}
(4)
.
حدَّثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: إن فرعونَ ملَكهم أربعَمائةِ سنةٍ، فقالت الكَهَنةُ: إنه سيُولَدُ العامَ بمصرَ غلامٌ يَكونُ هلاكُك
(5)
على يديه. فبعَث في أهلِ مصرَ نساءً قَوابِلَ، فإذا ولَدَت امراةٌ غلامًا أُتِى به فرعونُ فقتَله، ويَسْتَحْيى الجَوارىَ
(6)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ بنُ الحجَّاجِ، قال حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ في قولِه:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} الآية. قال: إن فرعونَ ملَكهم أربعَمائةِ سنةٍ، وإنه أتاه آتٍ، فقال: إنه سيَنْشَأُ في
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد". وهو أبو سعد سعيد بن المرزبان البقال الأعور. وليس هو أبا سعيد عبد الكريم بن مالك الجزرى، فقد جاء مصرحا بأنه أبو سعد الأعور في تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2773 (15675).
(2)
بعده في الأصل: "امرأة".
(3)
في الأصل: "عنه".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 69 إلى المصنف. وأبو سعد البقال ضعيف.
(5)
في ص، ر:"هلاكه".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 105 (505) من طريق آدم به.
مصرَ غلامٌ مِن بني إسرائيلَ، فيَظْهَرُ عليك، ويَكونُ هَلاكُك على يديه. فبعَث في أهلِ مصرَ نساءً. فذكَر نحوَ حديثِ آدمَ.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ بنُ نصرٍ، عن السُّدِّىِّ، قال: كان مِن شأنِ فرعونَ أنه رأَى رؤيا
(1)
في مَنامِه، أن نارًا أقْبَلَت مِن بيتِ القدسِ حتى اشْتَمَلَت على بيوتِ مصرَ، فأحْرَقَت القِبْطَ وترَكَت بني إسرائيلَ، وأخْرَبَت بيوتَ مصرَ، فدعا السَّحَرةَ والكَهَنةَ
(2)
والقافَةَ والحازَةَ، فسأَلهم عن رُؤْياه، فقالوا له: يَخْرُجُ مِن هذا البلدِ الذى جاء بنو إسرائيلَ منه -يَعْنون بيتَ المقدسِ- رجلٌ يَكونُ على وجهِه هَلاكُ مصرَ. فأمَر ببنى إسرائيلَ ألا يُولَدَ لهم غلامٌ إلا ذبَحوه، ولا تُولَدَ لهم جاريةٌ إلا تُرِكَت. وقال للقِبْطِ: انظُروا مَمْلوكيكم الذين يَعْمَلون خارجًا فأدْخِلوهم، واجْعَلوا بنى إسرائيلَ يَلُون تلك الأعمالَ القَذِرةَ. فجعَل بنى إسرائيلَ في أعمالِ غلمانِهم، وأدْخَلوا غلمانَهم، فذلك حينَ يقولُ اللهُ تبارك وتعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: تجَبَّر في الأرضِ، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} يعنى بني إسرائيلَ [حينَ جعَلهم في الأعمالِ القَذِرةِ، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4]. فجعَل لا يُولَدُ لبنى إسرائيلَ]
(3)
مَوْلودٌ إلا ذُبِح، فلا يَكْبَرُ الصغيرُ، وقذَف اللهُ في مَشْيَخةِ بني إسرائيلَ الموتَ، فأسْرَع فيهم، فدخَل رءوسُ القِبْطِ على فرعونَ، فكلَّموه، فقالوا: إن هؤلاء القومَ
(4)
قد وقَع فيهم الموتُ، فيُوشِكُ أن يَقَعَ العملُ على غِلمانِنا بذبحِ أبنائِهم، فلا تَبْلُغُ الصِّغارُ وتَفْنَى
(1)
سقط من: ر، م.
(2)
بعده في م: "والعافة".
(3)
سقط من: ص.
(4)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
الكِبارُ، فلو أنك كنتَ تُبْقِى مِن أولادِهم. فأمَر أن يُذَبَّحوا سنةً ويُتْرَكوا سنةً، فلما كان في السنةِ التى لا يُذَبَّحون فيها، وُلِد هارونُ فتُرِك، فلما كان في السنةِ التى يُذَبَّحون فيها حمَلت بموسى
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: ذُكِر لى أنه لما تَقارَب زمانُ موسى أتى مُنَجِّمو فرعونَ وحُزَاتُه
(2)
إليه، فقالوا
(3)
: تَعَلَّمْ
(4)
أنَّا نَجِدُ في علمِنا أن مولودًا مِن بني إسرائيلَ قد أظلَّك زمانُه الذى يُولَدُ فيه، يَسْلُبُك مُلْكَك، ويَغْلِبُك على سلطانِك، ويُخْرِجُك مِن أرضِك، ويُبَدِّلُ دينَك. فلما قالوا له ذلك أمَر بقتلِ كلِّ مولودٍ يُولَدُ مِن بني إسرائيلَ [مِن الغِلْمَانِ، وأمَر بالنساءِ يُسْتَحْيَيْنَ، فجمَع القَوابلَ مِن نساءِ أهلِ
(5)
مَمْلكتِه، فقال لهن: لا يَسْقُطُ على أيْدِيكُنَّ غلامٌ مِن بني إسرائيلَ]
(6)
إلا قَتَلْتموه
(7)
. فكنَّ يَفْعَلْنَ ذلك، وكان يَذْبَحُ مَن فوقَ ذلك مِن الغلمانِ، ويَأْمُرُ بالحَبَالَى فيُعَذَّبْنَ حتى يطْرَحْنَ ما في بُطونِهنَّ
(8)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن عبدِ اللهِ بنِ
(1)
في الأصل: "موسى".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 106 (506) من طريق عمرو به.
وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 388 عن موسى بن هارون به عن السدى بإسناده المعروف. وسيفرق المصنف بقيته فيما يأتى.
(2)
في م: "أحزابه".
(3)
بعده في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
(4)
في م: "نعم".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
فى ص، م:"قتلتنه".
(8)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 387. وتقدم أوله في ص 645.
أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ، قال: لقد ذُكِر أنه كان لَيَأْمُرُ بالقَصَبِ فيُشَقُّ حتى يُجعَلَ أمثالَ الشِّفَارِ، ثم يُصَفُّ بعضُه إلى بعضٍ، ثم يُؤْتَى بالحَبَالَى مِن بنى إسرائيلَ، فيُوقَفْنَ عليه فيَحُزُّ أقْدامَهن، حتى إن المرأةَ منهن لَتَمْصَعُ
(1)
بولدِها فيَقَعُ
(2)
بينَ رِجْلَيْها، فَتَظَلُّ تَطَؤُه تَتَّقِى
(3)
به حَدَّ القَصَبِ عن
(4)
رِجْلَيْها
(5)
، لِمَا بلَغ مِن جَهدِها، حتى أسْرَف فى ذلك، وكاد يُفْنِيهم، فقيل له: أفْنَيتَ الناسَ، وقطَعْتَ النَّسْلَ، وإنهم خَوَلُك وعُمَّالُك
(6)
. فأمَرَ
(7)
أن يُقْتَلَ الغِلْمانُ عامًا ويُسْتَحْيَوْا عامًا، فوُلِد هارونُ فى السنةِ التى يُسْتَحْيَا فيها الغِلْمانُ، ووُلِد موسى فى السنةِ التى فيها يُقْتَلون
(8)
.
فالذى قاله مَن ذكَرْنا قولَه مِن أهلِ العلمِ كان ذَبحَ آلِ فرعونَ أبناءَ بنى إسرائيلَ واستحياءَهم نساءَهم. فتأويلُ قولِه إذن -على ما تأوَّله الذين ذكَرْنا قولَهم- {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ
(9)
}: يسْتَبقُونَهن فلا يَقْتُلونهن.
وقد يَجِبُ على تأويلِ مَن قال بالقولِ الذى ذكَرْنا عن ابنِ عباسٍ وأبى العاليةِ والربيعِ بنِ أنسٍ والسُّدىِّ فى تأويلِ قولِه: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} . أنه تَرْكُهم الإناثَ مِن القتلِ عندَ وِلادتِهن إياهن -أن يكونَ جائزًا أن تُسَمَّى الطفلُ
(10)
مِن
(1)
مصعت المرأة بولدها: ألقت به. التاج (م ص ع).
(2)
بعده فى: ص، ر، م، ت 2:"من".
(3)
فى الأصل: "وتتقى".
(4)
فى الأصل: "من".
(5)
فى ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"رجلها".
(6)
فى ص: "غلمانك".
(7)
فى الأصل، ص، ر، ت 1، ت 2، ت 3:"فتأمر". والمثبت موافق لما فى تاريخ المصنف.
(8)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 387، 388.
(9)
فى الأصل، ت 2:"نساءهم".
(10)
فى م، ت 2:"الطفلة".
الإناثِ فى حال صِباها وبعدَ وِلادتِها
(1)
امرأةً، والصَّبايا الصغارُ وهن أطفالٌ نساءً؛ لأنهم تأوَّلوا قولَ اللهِ جل وعزّ:{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : يَسْتَبْقون الإناثَ مِن الوِلْدانِ عندَ الوِلادةِ فلا يَقْتُلونهن.
وقد أنْكَر ذلك مِن قولِهم ابنُ جُرَيْجٍ، فقال بما حدَّثنا به القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ بنُ داودَ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ قولَه:{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} . قال: يَسْتَرِقُّون نساءَكم.
فحاد ابنُ جُرَيْجٍ بقولِه هذا عما قاله [مَن ذكَرْنا قولَه]
(2)
فى قولِه: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} . إنه اسْتِحْياءُ الصَّبايا الأطفالِ
(3)
، إذ لم يَجِدْهن يَلْزَمُهن اسمُ نساءٍ، ثم دخَل فيما هو أعظمُ مما أنْكَر بتأويلِه {وَيَسْتَحْيُونَ}: ويَسْترِقُّون. وذلك تأويلٌ غيرُ موجودٍ فى لغةٍ عربيةٍ ولا أعْجَميةٍ، وذلك أن الاسْتِحياءَ إنما هو اسْتِفْعالٌ مِن الحياةِ، نظيرُ الاسْتِبْقاءِ مِن البَقاءِ، والاسْتِسْقاءِ مِن السَّقْىِ، وهو مِن معنى الاسْتِرقاقِ بمعزِلٍ.
وقد تأوَّل
(4)
آخَرون قولَه: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} . بمعنى: يُذَبِّحون رجالَكم [أبناءَ آبائِكم]
(5)
. وأنْكَروا أن يَكونَ المَذْبوحون الأطفالَ، وقد قرَن بهم النساءَ، فقالوا: فى إخبارِ اللهِ جل ثناؤُه أن المستحيَيْن هم النساءُ، الدَّلالةُ الواضحةُ على أن الذين كانوا يُذَبَّحون هم الرجالُ دون الصِّبْيانِ؛ لأن المُذَبَّحِين لو كانوا هم
(1)
فى ص، ت 2، ت 3:"ولادها".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
بعده فى ص، ر، م:"قال".
(4)
فى ر، م:"قال".
(5)
فى م: "آباء أبنائكم".
الأطفالَ لَوَجَب أن يكونَ المُسْتَحْيَوْن هم الصَّبايا. قالوا: وفى إخبارِ اللهِ عز وجل أنهم النساءُ ما يُبينُ عن
(1)
أن المُذَبَّحِين هم الرجالُ.
وقد أغْفَل قائلو هذه المَقالةِ -مع خروجِهم مِن تأويلِ أهلِ التأويلِ مِن الصحابةِ والتابعين- موضعَ الصوابِ، وذلك أن الله جل ثناؤُه قد أخْبَر عن وَحيه إلى أمِّ موسى أنه أمَرها أن تُرْضِعَ موسى، فإذا خافَت عليه أن تُلْقِيَه فى التابوتِ، ثم تُلْقِيَه فى اليَمِّ، فمعلومٌ بذلك أن القومَ لو كانوا إنما كانوا
(2)
يَقْتُلون الرجالَ ويَتْرُكون النساءَ، لم يَكُنْ بأمِّ موسى حاجةٌ إلى إلقاءِ موسى فى اليَمِّ، أو لو أن موسى كان رجلًا لم تَجْعَلْه أمُّه فى التابوتِ.
ولكن ذلك عندَنا على ما تأوَّله ابنُ عباسٍ ومَن حكَيْنا قولَه قبلُ، مِن ذبْحِ آلِ فرعونَ الصِّبيانَ وترْكِهم مِن القتلِ الصَّبايا. وإنما قيل:{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} إذ
(3)
كان الصَّبايا داخلاتٍ مع أُمهاتِهن -وأمهاتُهن لا شكَّ نساءٌ- فى الاسْتِحياءِ؛ لأنهم لم يكونوا يَقْتلون صغارَ النساءِ ولا كِبارَهن، فقيل:{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يعنى بذلك الوالداتِ والمولوداتِ، كما يُقالُ: قد أقبلَ الرجالُ. وإن كان فيهم صِبْيانٌ. فكذلك قولُه: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} . وأما مِن الذكورِ فإنه لمَّا لم يَكُنْ يُذْبَحُ إلا المولودون قيل: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} ولم يَقُلْ: يُذَبِّحون رجالَكم.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى ذكرُه: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} .
قال أبو جعفرٍ: أما قولُه: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . فإنه يعنى: وفى الذى فعَلْنا بكم مِن إنجائِنا كم
(4)
مما كنتم فيه مِن عذابِ آلِ فرعونَ إياكم -على
(1)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: م.
(3)
فى الأصل: "إذا".
(4)
فى ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إنجائنا إياكم".
ما وصَفْتُ- بلاءٌ لكم مِن ربِّكم عظيمٌ.
ويعنى بقولِه {بَلَاءٌ} : نعمةٌ، كما حدَّثنى المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثنى مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . قال: نعمةٌ
(1)
.
وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ فى قولِه:{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} : أما البلاءُ فالنعمةُ
(2)
.
وحدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مُجاهدٍ:{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . قال: نعمةٌ مِن ربِّكم عظيمةٌ
(3)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَ حديثِ سُفيانَ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ:{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . قال: نعمةٌ عظيمةٌ.
وأصلُ البلاءِ فى كلامِ العربِ الاختبارُ والامتِحانُ، ثم يُسْتَعْمَلُ فى الخيرِ والشرِّ؛ لأن الامتحانَ والاختبارَ قد يَكونُ بالخيرِ كما يكونُ بالشرِّ، كما قال اللهُ جل
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 106 (507) من طريق أبى صالح به.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 106 عقب الأثر (507) من طريق عمرو به. وينظر ما تقدم فى ص 648.
(3)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 69 إلى وكيع. وذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 106 عقب الأثر (507) معلقا.
ثناؤُه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]. يقول: اخْتَبَرْناهم. وكما قال جل ثناؤه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. ثم تُسَمِّى العربُ الخيرَ بلاءً، والشرَّ بلاءً، غيرَ أن الأكثرَ فى الشرِّ أن يُقالَ: بلَوتُه أبْلُوه بلاءً، وفى الخيرِ: أبْلَيْتُه أبْلِيه إبلاءً وبلاءً. ومِن ذلك قولُ زُهَيْرِ بنِ أبى سُلْمَى
(1)
:
جزَى اللهُ بالإحسانِ ما فعَلا بكم
…
فأبْلَاهما خيرَ البلاءِ الذى يَبْلُو
فجمَع بينَ اللغتَيْنِ؛ لأنه أراد: فأنْعَم اللهُ عليهما خيرَ النِّعَمِ التى يَخْتَبِرُ بها عبادَه.
القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} .
أما تأويلُ قولِه: {وَإِذْ فَرَقْنَا} . فإنه عطفٌ على: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} ، بمعنى: واذْكُروا نِعْمتىَ التى أنعمتُ عليكم، واذْكُروا إذ نجَّيناكم مِن آلِ فرعونَ، وإذ فرَقْنا بكم البحرَ.
ومعنى قولِه: {فَرَقْنَا بِكُمُ} : فصَلْنا بكم البحرَ؛ لأنهم كانوا اثنَىْ عشَرَ سِبْطًا، ففرَق البحرَ اثنَىْ عشَرَ طريقًا، فسلَك كلُّ سِبْطٍ منهم طريقًا منها، فذلك فَرْقُ اللهِ جلَّ ثناؤُه بهم البحرَ، وفصلُه بهم بتفريقِهم
(2)
فى طرُقِه الاثنَىْ عشَرَ
(3)
.
كما حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ: لما أتَى موسى البحرَ كَنَاه أبا خالدٍ، وضرَبه فانْفَلَق، فكان كلُّ فِرْقٍ كالطَّوْدِ
(1)
شرح ديوان زهير ص 109.
(2)
فى الأصل، ص:"بتفرقهم".
(3)
فى الأصل: "العشر".
العظيم، فدخَلَت بنو إسرائيلَ، وكان فى البحرِ اثنا عشَرَ طريقًا، فى كلِّ طريقٍ سِبْطٌ
(1)
.
وقد قال بعضُ نحويِّى البصرةِ: معنى قولِه: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} : فرَقْنا بينَ الماءِ وبينَكم، يريدُ بذلك: فصَلْنا بينَكم وبينَه وحجَزْنا حيث مرَرْتُم فيه.
وذلك خلافُ ما فى ظاهرِ التلاوةِ؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما أخْبَر أنه فرَق البحرَ بالقومِ، ولم يُخْبِرْ أنه فرَق بينَ القَوْمِ وبينَ البحرِ فيَكونَ التأويلُ ما قاله قائلُ
(2)
هذه المَقالةِ. وفرقُه البحرَ بالقومِ إنما هو تفريقه البحرَ بهم على ما وصَفْنا مِن افتراقِ سُبُلِه
(3)
بهم على ما جاءت به الآثارُ.
القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} .
إن قال لنا قائلٌ: كيف غرَّق اللهُ آلَ فرعونَ ونجَّى بنى إسرائيلَ؟
قيل: كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظىِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ شدَّادِ بنِ الهادِ، قال: لقد ذُكِر لى أنه خرَج فرعونُ فى طلبِ موسى على سبعين ألفًا مِن دُهْمِ الخيلِ سوى ما فى جندِه مِن شِيَةِ
(4)
الخيلِ، وخرَج موسى حتى إذا قابَله البحرُ فلم يكنْ له عنه مُنْصَرَفٌ، طلَع فرعونُ فى جندِه مِن خلفِهم، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ} موسى {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]. أى:
(1)
سيأتى بتمامه فى ص 681.
(2)
فى ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قائلو".
(3)
فى ص، م:"سبيله".
(4)
الشِّيَة: سواد فى بياض أو بياض فى سواد. اللسان (و ش ى).
للنجاةِ- وقد وعَدَنى ذلك، ولا خُلْفَ لوعدِه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: أوْحَى اللهُ جلَّ وعزَّ -فيما ذُكر لى- إلى البحرِ: إذا ضرَبك موسى بعَصاه فانفلِقْ له. قال: فبات
(2)
البحرُ يَضْرِبُ بعضُه بعضًا فَرَقًا
(3)
مِن اللهِ وانتظارَه
(4)
أمرَه، فأوْحَى اللهُ إلى موسى:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} ، فضرَبه بها، وفيها سُلطانُ اللهِ الذى أعْطاه، {فَانْفَلَقَ
(5)
فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]. أى: كالجبل على نَشَزٍ
(6)
مِن الأرضِ. يقول اللهُ لموسى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]. فلما اسْتَقَرَّ له
(7)
البحرُ على طريقٍ قائمةٍ يبَسٍ سلَك فيه موسى ببنى إسرائيلَ، وأتْبَعه فرعونُ بجنودِه
(8)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظىِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ شَدَّادِ بنِ الهادِ الليثىِّ، قال: حُدِّثْتُ أنه لما دخَلت بنو إسرائيلَ
(9)
، فلم يَبْقَ منهم أحدٌ، أقبلَ فرعونُ وهو على حِصانٍ له مِن الخيلِ
(1)
فى ر، ت 1، ت 2، ت 3:"لموعوده".
والأثر أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 420. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 8/ 2769 (15655) من طريق سلمة به.
(2)
فى م: "فثاب".
(3)
الفرق: الخوف. اللسان (ف ر ق).
(4)
فى م: "انتظار".
(5)
فى الأصل، ص:"فانفرق".
(6)
فى م: "يبس". والنشز: المتن المرتفع من الأرض. اللسان (ن ش ز).
(7)
فى ر، م:"لهم".
(8)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 420. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 8/ 2772، 2773 (15670، 15677) من طريق سلمة به.
(9)
بعده فى ص، م:"البحر".
حتى وقَف على شَفِيرِ البحرِ، وهو قائمٌ على حالِه، فهاب الحصانُ أن يَنْفُذَ، فعرَض له جبريلُ عليه السلام على فرسٍ أنثى وَدِيقٍ
(1)
، فقرَّبَها منه فشمَّها الفحلُ، فلمَّا شمَّها قدَّمها
(2)
، فتقَدَّم معه
(3)
الحصانُ عليه فرعونُ، فلما رأَى جندُ
(4)
فرعونَ فرعونَ قد دخَل، دخَلوا معه، وجبريلُ أمامَه، وهم يَتْبَعون فرعونَ، وميكائيلُ على فرسٍ مِن خلفِ القومِ يَشْحَذُهم
(5)
، يقولُ: الْحَقُوا بصاحبِكم. حتى إذا فصَل جبريلُ مِن البحرِ ليس أمامَه أحدٌ، ووقَف مِيكائيلُ على ناحيتِه الأخرى ليس خلفَه أحدٌ، طبَّق عليهم البحرُ، ونادَى فرعونُ حينَ رأَى مِن سلطانِ اللهِ وقُدرتِه ما رأَى، وعرَف ذلَّه
(6)
، وخَذَلَتْه نفسُه -: {[لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي]
(7)
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
(8)
[يونس: 90].
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن أبى إسحاقَ الهَمْدانىِّ، عن عمرِو بنِ مَيْمونٍ الأوْدىِّ في قولِه:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . قال: لمَّا خرَج موسى ببنى إسرائيلَ بلَغ ذلك فرعونَ، فقال: لا تَتْبَعوهم حتى يَصِيحَ الديكُ. قال: فواللهِ ما صاح ليلتَئذٍ ديكٌ حتى أصْبَحوا، فدعا بشاةٍ فذُبِحَت، ثم قال: لا أَفْرُغُ مِن كبدِها حتى يَجْتَمِعَ إلىَّ ستُّمائةِ ألفٍ مِن القِبْطِ. فلم يَفْرُغْ مِن كبدِها حتى اجتمَع إليه ستُّمائة ألفٍ من
(1)
الفرس الوديق: هى التى تشتهى الفحل. النهاية 5/ 168.
(2)
في م: "تبعها"، وقدَّمها: أى زجرها وأمرها بالتقدم. ينظر اللسان (ق د م).
(3)
في م: "معها".
(4)
في الأصل: "جنود"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"خيل".
(5)
في م: "يسوقهم". ويشحذهم يسوقهم بمعنى.
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"زلته".
(7)
في ر، ت 1، ت 2، ت 3:"آمنت بالذى"، وفى م:"آمنت أنه لا إله إلا الذى".
(8)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 420، 421. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 8/ 2775، 2776 (15687) من طريق سلمة به.
القبطِ، ثم سار، فلما أتى موسى البحرَ قال له رجل من أصحابِه يُقالُ له: يُوشَعُ بنُ نُونٍ: أين أمَرَك ربُّك يا موسى؟ قال: أمامَك. يُشِيرُ إلى البحرِ، فأقْحَم يُوشَعُ فرسَه في البحرِ حتى بلَغ الغَمْرَ
(1)
، فذهَب به، ثم رجَع، فقال: أين أمَرَك ربُّك يا موسى؟ فواللهِ ما كذَبْتَ ولا كُذِبْتَ، ففعَل ذلك ثلاثَ مراتٍ، ثم أوْحَى اللهُ إلى موسى:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} . يقولُ: مثلَ جبلٍ. ثم سار موسى ومَن معه، وأتْبَعَهم فرعونُ في طريقِهم، حتى إذا تَتامُّوا فيه أطْبَقه اللهُ عليهم، فلذلك قال:{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . قال مَعْمَرٌ: قال قتادةُ: كان مع موسى ستُّمائةِ ألفٍ، وأتْبَعَه فرعونُ على ألفِ ألفٍ ومائتى
(2)
ألفِ حِصانٍ
(3)
.
حدَّثنا عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشَّارٍ الرَّمَادىُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، قال: قال [أبو سعدٍ]
(4)
، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أوْحَى اللهُ إلى موسى أن أسْرِ بعبادى ليلًا إنكم متبَعون. قال: فسرَى موسى ببنى إسرائيلَ ليلًا، فأتْبَعهم فرعونُ في ألفِ ألفِ حِصانٍ سِوَى الإناثِ، وكان موسى في ستِّمائةِ ألفٍ، فلمَّا عايَنَهم فرعونُ، قال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا
(1)
الغمر: معظم البحر. تاج العروس (غ م ر).
(2)
في م: "مائة".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 45، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 106، 107 (508) عن الحسن بن يحيى به. وأخرجه أيضا 8/ 2771 (15667) من طريق إسرائيل، عن أبى إسحاق به، ببعضه. وينظر تاريخ المصنف 1/ 414.
وأخرج ابن أبى حاتم أيضا 8/ 2774، 2775 (15682، 15686) من طريق يونس وإسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود نحوه.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبو سعيد". وينظر ما تقدم في ص 647.
لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 54 - 56]. فسرَى موسى ببنى إسرائيلَ حتى هجَموا على البحرِ، فالْتَفَتوا، فإذا هم برَهَجِ
(1)
دوابِّ فرعونَ فقالُوا: يا موسى: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]. هذا البحرُ أمامَنا، وهذا فرعونُ قد رَهِقَنا
(2)
بمَن معه: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. قال: فأوْحَى اللهُ جل ثناؤُه إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} . وأوْحَى إلى البحرِ أنِ اسْمَعْ لموسى، وأَطِعْ إذا ضرَبك. قال: فبات
(3)
البحرُ له أَفْكَلٌ -يعنى: له رِعْدةٌ- لا يَدْرِى مِن أىِّ جَوانبِه يَضْرِبُه. قال: فقال يُوشَعُ لموسى: بما أُمِرْتَ؟ قال: أُمِرْتُ أن أَضْرِبَ البحرَ. قال: فاضْرِبْه. قال: فضرَب موسى البحرَ بعصاه، فانْفَلَق، فكان فيه اثنا عشَرَ طريقًا، كلُّ طريقٍ كالطَّوْدِ العظيمِ، فكان لكلِّ سِبْطٍ منهم طريقٌ يَأْخُذون فيه، فلمَّا أخَذوا في الطريقِ، قال بعضُهم لبعضٍ: ما لنا لا نَرَى أصحابَنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابُنا لا نَرَاهم؟ قال: سِيروا فإنهم على طريقٍ مثلِ طريقِكم. قالوا: لا نَرْضَى حتى نَرَاهم.
قال سفيانُ: قال عمارٌ الدُّهْنىُّ: قال موسى: اللهمَّ أعِنِّى على أخلاقِهم السيئةِ. قال: فأوْحَى اللهُ إليه أن قُلْ بعصاك هكذا. وأوْمَأ إبراهيمُ بيدِه يُدِيرُها على البحرِ، قال موسى بعَصاه على الحِيطانِ هكذا، فصار فيها كِواءٌ
(4)
يَنْظُرُ بعضُهم إلى بعضٍ.
(1)
الرهج: الغبار. اللسان (ر هـ ج).
(2)
رهق فلان فلانا: تبعه فقارب أن يلحقه. اللسان (ر هـ ق).
(3)
في م: "فثاب".
(4)
في م: كوى. وكِواء وكُوًى: جمع كُوَّة، وهى الخرق في الحائط. اللسان (ك و ى).
قال سفيانُ: قال أبو سعدٍ
(1)
، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ: فساروا حتى خرَجوا مِن البحرِ، فلما جاز آخِرُ قومِ موسى هجَم فرعونُ على البحرِ هو وأصحابُه، وكان على فرسٍ أدهمَ ذَنُوبٍ
(2)
حِصانٍ، فلما هجَم على البحرِ هاب الحِصانُ أن يَتَقَحَّمَ
(3)
في البحرِ، فمثَل له جبريلُ عليه السلام على فرسٍ أنثى وَدِيقٍ، فلما رآها الحِصانُ تَقَحَّم خلفَها، وقيل لموسى: اتْرُكِ البحرَ رَهْوًا -قال: طُرُقًا على حالِه- قال: ودخَل فرعونُ وقومُه البحرَ، فلمَّا دخَل آخِرُ قومِ فرعونَ، وجاز آخرُ قومِ موسى، أَطْبَق البحرُ على فرعونَ وقومِه فأُغرِقوا
(4)
.
وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ، أن اللهَ أمَر موسى أن يَخْرُجَ ببنى إسرائيلَ، فقال:{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} . فخرَج موسى وهارونُ في قومِهما، وأُلْقِى على القِبْطِ الموتُ، فمات كلُّ بِكْرِ رَجُلٍ، فأصْبَحوا يَدْفِنونهم، فشُغِلوا عن طلبِهم حتى طلَعَت الشمسُ، فذلك حينَ يقولُ اللهُ جل وعزَّ:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} . وكان موسى على سَاقةِ بنى إسرائيلَ، وكان هارونُ أمامَهم يَقْدُمُهم، فقال المؤمنُ لموسى: يا نبىَّ اللهِ، أين أُمِرْتَ؟ قال: البحرَ. فأراد أن يَقْتَحِمَ، فمنَعه موسى، وخرَج موسى في ستِّمائةِ ألفٍ وعشرين ألفَ مُقاتِلٍ - لا يَعُدُّون ابنَ العشرين لصِغَرِه، ولا ابنَ الستين لكِبَرِه، وإنما عَدُّوا ما بينَ ذلك سوى الذريةِ، وتبِعهم فرعونُ على مُقَدِّمتِه هامانُ في ألفِ ألفٍ وسبعِمائةِ ألفِ حِصانٍ، ليس فيها مادِيانةٌ
(5)
-يعنى الأنثى- وذلك حينَ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد". وينظر ما تقدم في ص 647.
(2)
الذنوب: وافر شعر الذنب. النهاية 2/ 170.
(3)
في م: "يقتحم".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 8/ 2771، 2773 (15665، 15675) من طريق ابن عيينة به، مختصرًا. وينظر ما سيأتى في ص 669 - 671.
(5)
في الأصل: "ماذيانه"، وفى م:"ماذبانه"، وفى ت 1، ت 3:"مادبانه"، وفى ت 2:"ماربانه".=
يقولُ اللهُ: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 53، 54]. يعنى بنى إسرائيلَ، فتَقدَّم هارونُ فضرَب البحرَ، فأبَى البحرُ أن يَنْفَتِحَ، وقال: مَن هذا الجبارُ الذى يَضْرِبُنى؟ حتى أتاه موسى، فكنَاه أبا خالدٍ وضرَبه، {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]. يقولُ: كالجبلِ العظيمِ. فدخَلَت بنو إسرائيلَ، وكان في البحرِ اثنا عشَرَ طريقًا، في كلِّ طريقٍ سِبْطٌ - وكانت الطرقُ انْفَلَقَت بجُدْرانٍ- فقال كلُّ سِبْطٍ: قد قُتِل أصحابُنا. فلمّا رأَى ذلك موسى، دعا اللهَ، فجعَلها
(1)
لهم قَناطرَ كهيئةِ الطِّيقانِ، فنظَر آخرُهم إلى أولِهم، حتى خرَجوا جميعًا، ثم دنا فرعونُ وأصحابُه، فلما نظَر فرعونُ إلى البحرِ مُنْفَلِقًا، قال: ألا تَرَوْنَ البحرَ فَرِق منى؟ قد انْفَتَح لى حتى أُدْرِكَ أعْدائى فأَقْتُلَهم. فذلك قولُ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64]. يقولُ: قرَّبنا ثمَّ الآخَرين. يعنى آلَ فرعونَ. فلما قام فرعونُ على أفْواهِ الطُّرُقِ أبَتْ خيلُه أن تَقْتَحِمَ
(2)
، فنَزل جبريلُ عليه السلام على ماديانةٍ
(3)
، فشامَّت
(4)
الحُصُنُ
(5)
رِيحَ الماديانةِ
(6)
، فاقْتَحَمت
(7)
في أَثَرِها، حتى إذا همَّ أوَّلُهم أن يَخْرُجَ ودخَل آخرُهم، أُمِر البحرُ أن يَأْخُذَهم، فالْتَطَم عليهم
(8)
.
= وماديانة: فارسية معربة. ينظر المعجم الذهبى ص 532.
(1)
في الأصل: "فجعله"
(2)
في الأصل: "تتقحم".
(3)
في الأصل، ص، ر:"ماذيانه"، في م:"ماذبانة"، وفى ت 2:"ماربانه".
(4)
في الأصل: "فشمت".
(5)
فى م: "الحصان".
(6)
في الأصل: "المازيانه"، وفى ت 2:"الماربانه".
(7)
في م: "فاقتحم".
(8)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 8/ 2770، 2772، 2773 - 2775 (15661، 15669، 15676، 15679، 15684) مفرقًا عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.=
وحدَّثنى يُونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لما أخَذ عليهم فرعونُ الأرضَ إلى البحرِ قال لهم فرعونُ: قُولوا لهم يَدْخُلوا البحرَ إن كانوا صادِقِين. فلما رآهم أصحابُ موسى قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]. فقال موسى للبحرِ: أَلسْتَ تَعْلَمُ أنِّى رسولُ اللهِ؟ قال: بَلَى. قال: وتَعْلَمُ أن هؤلاء عبادٌ مِن عبادِ اللهِ، أمَرَنى أن آتِىَ بهم؟ قال: بلى. قال: وتَعْلَمُ أن هذا عدوُّ اللهِ؟ قال: بلى. قال: فافرُقْ
(1)
لى طريقًا ولمَن معى. قال: يا موسى، إنما أنا عبدٌ مملوكٌ، ليس لى أمْرٌ إلا أن يَأْمُرَنى اللهُ. فأوْحَى اللهُ إلى البحرِ إذا ضرَبك موسى بعصاه فانْفَرِقْ، وأوْحَى إلى موسى أن اضْرِبِ البحرَ. وقرَأ قولَ اللهِ جلَّ وعزَّ:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]. وقرَأ قولَه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24]: سهلًا ليس فيه تَعَدٍّ، فانْفَرَق اثنتى عشْرةَ فِرْقةً، فسلَك كلُّ سِبْطٍ في طريقٍ. قال: فقالوا لفرعونَ: إنهم قد دخَلوا البحرَ. قال: ادْخُلوا عليهم. قال: وجبريلُ في آخرِ بني إسرائيلَ يقولُ لهم: لِيَلْحَقْ آخرُكم أولَكم. وفى أولِ آلِ فرعونَ يقولُ لهم: رُوَيْدًا يَلْحَقْ آخرُكم أولكم. فجعَل كلُّ سِبْطٍ في البحرِ يقولون للسِّبْطِ الذين دخَلوا قبلَهم: قد هلكوا. فلما دخَل ذلك قُلُوبَهم أوحى اللهُ إلى البحرِ فجعَل لهم قَناطرَ يَنْظُرُ هؤلاء إلى هؤلاء، حتى إذا خرَج آخِرُ هؤلاء، ودخَل آخرُ هؤلاء، أمَر اللهُ البحرَ فأطْبَقَ على هؤلاء.
ويعنى بقولِه: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . أى: تَنْظُرون إلى فَرْقِ اللهِ بكم البحرَ، وإهلاكِه آلَ فرعونَ في الموضعِ الذى نجّاكم فيه، وإلى عظيمِ سُلطانِه في الذى أراكم مِن طاعةِ البحرِ إياه، مِن مَصيرِه رُكامًا فِرَقًا كهيئةِ الأطْوادِ الشامخةِ، غيرَ زائلٍ عن حَدِّه؛ انقيادًا لأمرِه، وإذْعانًا لطاعتِه، وهو سائلٌ ذائبٌ قبلَ ذلك.
= وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 413 - 415 عن موسى بن هارون به عن السدى بإسناده المعروف. وتقدم أوله في ص 649.
(1)
في م: "انفرق".
يُوقِفُهم بذلك جلَّ ذكرُه على موضعِ حُجَجِه عليهم، ويُذَكِّرُهم آلاءَه عندَ أوائلِهم، ويُحَذِّرُهم - [بتكذيبِهم]
(1)
نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم- أن يَحِلَّ بهم ما حلَّ بفرعونَ وآلِهِ في تكذيبِهم موسى صلواتُ اللهِ عليه.
وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أن معنى قولِه: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . كمعنى قولِ القائلِ: ضُرِبْتَ وأهلُك يَنْظُرون، فما أتَوْك ولا أغاثوك
(2)
. يعنى: وهم قريبٌ بِمَرْأًى ومَسْمَعٍ. وكقولِ اللهِ عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]. وليس هناك رؤيةٌ، إنما هو علمٌ.
والذى دعاه إلى هذا التأويلِ أنه وجَّه قولَه: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . إلى غَرَقِ آلِ فرعونَ، فقال: قد كانوا في شُغُلٍ مِن أن يَنْظُروا مما اكْتَنَفَهم مِن البحرِ من أن يَرَوْا فرعونَ وغَرَقَه.
وليس الذى تأوَّله تأويلَ الكلامِ، إنما التأويلُ: وأنتم تنظرون إلى فَرْقِ اللهِ عز وجل البحرَ لكم -ممَّا قد وصَفتُ آنِفًا- والْتِطامِ أمْواجِ البحرِ بآلِ فرعونَ في الموضعِ الذى صيَّر لكم من البحرِ طريقًا يَبَسًا. وذلك لا شكَّ كان نظرَ عِيانٍ لا نظرَ علمٍ، على ما ظنَّه قائلُ هذا القولِ الذى حكَيْنا.
القولُ في تَأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَإِذْ وَاعَدْنَا} .
اخْتَلَفَتِ القَرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم: {وَاعَدْنَا}
(3)
. بمعْنى أن اللهَ تعالى واعَد موسى مُوافَاةَ
(4)
الطُّورِ لمُناجاتِه، فكانت المُواعَدةُ مِن اللهِ لموسى، ومِن موسى لربِّه. وكان مِن حجتِهم على اختيارِهم قراءةَ:{وَاعَدْنَا} على: (وعَدْنا)
(1)
في م، ت 1:"في تكذيبهم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أعانوك".
(3)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر والكسائى وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 154.
(4)
في ر: "مراقاة"، وفى م:"ملاقاة".
أن قالوا: كلُّ اتِّعادٍ
(1)
كان بينَ اثنين للالتقاءِ أو
(2)
للاجتماعِ، فكلُّ واحدٍ منهما مُواعِدٌ صاحبَه ذلك، فلذلك -زعَموا
(3)
- وجَب أن يُقضَى لقراءةِ مَن قرَأ: {وَاعَدْنَا} بالاختيارِ على قراءةِ مَن قرَأ: (وَعَدْنَا).
وقرَأه بعضُهم: (وَعَدْنَا)
(4)
. بمعْنى أن اللهَ تعالى ذكرُه الواعدُ موسى، والمنفردُ بالوعدِ دونَه. وكان مِن حجتِهم في اختيارِهم ذلك أن قالوا: إنما تكونُ المُواعَدةُ بينَ البشرِ، فأما اللهُ جل ثناؤُه، فإنه المنفردُ بالوعدِ والوَعيدِ في كلِّ خيرٍ وشرٍّ. قالوا: وبذلك جاء التنزيلُ في القرآنِ كلِّه، فقال اللهُ جل ثناؤُه:{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7]. قالوا: فكذلك الواجبُ أن يكونَ هو المنفردَ بالوعدِ في قولِه: (وإذْ وَعَدْنا مُوسَى).
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ عندَنا في ذلك [مِن القولِ]
(5)
أنهما قِراءتان قد جاءَت بهما الأُمَّةُ، وقرَأَت بهما القرأةُ، وليس في القراءةِ بإحداهما إبطالُ معنى الأُخْرى، وإن كان في إحداهما زيادةُ معنًى على الأُخْرى مِن جهةِ الظاهرِ والتِّلاوةِ؛ فأما مِن جهةِ المفهومِ بهما، فإنهما متَّفِقتان، وذلك أن مَن أخْبَر عن شخصٍ أنه وعَد غيرَه اللقاءَ بموضعٍ مِن الموَاضعِ، فمَعْلُومٌ أن الموعودَ ذلك واعدٌ صاحبَه مِن لقائِه بذلك المكانِ مثلَ الذى وعَده مِن ذلك صاحبُه، [إذا كان راضيًا مُجيبًا صاحبَه إلى ما وعده مثلَ الذى وعده من ذلك صاحبُه]
(6)
، إذا كان وعدُه إياه ذلك عن اتفاقٍ منهما عليه. ومعلومٌ أن موسى صلواتُ اللهِ عليه لم يَعِدْه ربُّه الطورَ إلا عن رِضا موسى بذلك؛ إذ
(1)
فى م: "إيعاد".
(2)
فى ص: "و".
(3)
بعده فى م: "أنه".
(4)
وهى قراءة أبى عمرو. السبعة لابن مجاهد ص 154.
(5)
سقط من: ص.
(6)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2.
كان موسى غيرَ مَشْكوكٍ فيه، أنه كان بكلِّ ما أمَره اللهُ به راضيًا، وإلى محبتِه فيه مُسارِعًا، ومعقولٌ أن اللهَ تعالى لم يَعِدْ موسى ذلك إلا وموسى عليه السلام له
(1)
مُسْتَجِيبٌ، وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن اللهَ تعالى ذكرُه كان قد وعَد موسى الطورَ، ووعَده موسى اللقاءَ، فكان اللهُ عز ذكرُه لموسى واعدًا فواعِدًا له المُناجاةَ على الطُّورِ، وكان موسى واعدًا لربِّه مُواعِدًا له اللقاءَ، فبأىِّ القراءتَيْن مِن:"وعَد وواعَد" قرَأ القارئُ، فهو للحقِّ
(2)
في ذلك -مِن جهةِ التأويلِ واللغةِ- مُصِيبٌ؛ لما وصَفْنا مِن العِلَل قبلُ.
ولا معنى لقولِ القائلِ: إنما تكونُ المُواعَدةُ بينَ البشرِ، وإن اللهَ تبارك وتعالى بالوعدِ والوَعيدِ مُنْفَرِدٌ في كلِّ خيرٍ وشرٍّ. وذلك أن انفرادَ اللهِ بالوعدِ والوَعيدِ في الثوابِ والعِقابِ، والخيرِ والشرِّ، والنفعِ والضَّرِّ، الذى هو بيدِه، وإليه دونَ سائرِ خلقِه - لا يُحِيلُ الكلامَ الجارىَ بينَ الناسِ في استعمالِهم إياه عن وُجوهِه، ولا يُغَيِّرُه عن مَعانيه. والجارى بينَ الناسِ مِن الكلامِ المفهومِ ما وصَفْنا، مِن أنّ كلَّ اتِّعادٍ
(3)
كان بينَ اثنين، فهو وعدٌ مِن كُلِّ واحدٍ منهما، ومُواعَدةٌ بينَهما، وأن كلَّ واحدٍ منهما واعِدٌ صاحبَه مُواعِدُه
(4)
، وأن الوعدَ، الذى يكونُ به الانفرادُ مِن الواعِدِ دونَ الموعودِ، إنما هو ما كان بمعنى الوعدِ الذى هو خلافُ الوَعيدِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {مُوسَى} .
قال أبو جعفرٍ: وموسى -فيما بلَغَنا- كلِمتان بالقِبْطيةِ، يُعْنَى بهما: ماءٌ وشجرٌ. فـ "مو": هو الماءُ، و"سا": هو الشجرُ. وإنما سُمِّى بذلك -فيما
(1)
في ر: "له إليه"، وفى م:"إليه".
(2)
في م: "الحق".
(3)
في م: "إيعاد".
(4)
في ص، ر، م:"مواعد".
بلَغَنا- لأن أمَّه لما جعَلَتْه في التابوتِ -حينَ خافَت عليه مِن فرعونَ- وألْقَتْه في اليمِّ، كما أوْحَى اللهُ إليها، وقيل: إن اليَمَّ الذى ألْقَتْه فيه هو النّيلُ؛ دفَعَتْه أمواجُ اليمِّ حتى أدْخَلَته بينَ أشجارٍ عندَ بيتِ فرعونَ، فخرَج جَوارِى آسِيةَ امرأةِ فرعونَ يَغْتَسِلْنَ، فوجَدْن التابوتَ، فأخَذْنَه، فسُمِّى [باسمِ المكانِ]
(1)
الذى أُصِيب فيه، وكان ذلك بمكانٍ
(2)
فيه ماءٌ وشجرٌ، فقيل:"موسى"، ماءٌ وشجرٌ.
كذلك حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ
(3)
. قال أبو جعفرٍ: وهو موسى بنُ عمرانَ بنِ يصهرَ
(4)
بنِ قاهثَ
(5)
بنِ لَاوِى بنِ يعقوبَ إسرائيلِ اللهِ بنِ إسحاقَ ذبيحِ اللهِ
(6)
بنِ إبراهيمَ خليلِ اللهِ، فيما زعَم ابنُ إسحاقَ، حدَّثنى بذلك ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ عنه
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .
قال أبو جعفرٍ: ومعنى ذلك: وإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعينَ لَيْلَةً بتمامِها. فالأربعون الليلةِ
(8)
كلُّها داخلةٌ في الميعادِ.
وقد زعَم بعضُ نحويِّى البصرةِ أن معناه: وإذ
(9)
واعَدْنا موسى
(1)
في ر: "بالمكان".
(2)
في م: "المكان".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 390 عن موسى بن هارون به عن السدى بإسناده. وفيه أن الشجر شا - بالشين المعجمة. وتقدم أوله في ص 649.
(4)
في الأصل: "يسهر".
(5)
في ر: "فاهث".
(6)
سيأتى تعليقنا في تفسير سورة الصافات أن الصحيح في الذبيح أنه إسماعيل عليه السلام.
(7)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 385.
(8)
في م: "ليلة".
(9)
في م: "إذا".
انْقِضاءَ أربعين ليلةً، أى رأسَ الأربعين. ومثَّل ذلك بقولِه:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وبقولِهم: اليومَ أربعون منذُ خرَج فلانٌ، واليومَ يومان. أى اليومُ تمامُ يومين وتمامُ أربعين.
قال أبو جعفرٍ: وذلك خلافُ ما جاءَت به الروايةُ عن أهلِ التأويلِ، وخلافُ ظاهرِ التِّلاوةِ. فأما ظاهرُ التلاوةِ، فإن اللهَ جل وعز قد أخْبرَ أنه واعَد موسى أربعين ليلةً، فليس لأحدٍ إحالةُ ظاهرِ خبرِه إلى باطنٍ بغيرِ بُرْهانٍ دالٍّ على صحتهِ.
وأما أهلُ التأويلِ، فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكرُه، وهو ما حدَّثنى به المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن أبى العاليةِ قولَه:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} . قال: يعنى ذا القَعْدةِ وَعشرًا مِن ذى الحِجَّةِ، وذلك حينَ خلَّف موسى أصحابَه، واسْتَخْلَف عليهم هارونَ، فمكَث على الطُّورِ أربعين ليلةً، وأُنْزِل عليه التوراةُ في الألواحِ -وكانت الألواحُ مِن بَرَدٍ
(1)
- فقرَّبه الربُّ
(2)
نَجِيًّا وكلَّمه، وسمِع صَريفَ
(3)
القلمِ، وبلَغَنا أنه لم يُحْدِثْ حَدَثًا في الأربعين ليلةً حتى هبَط مِن الطُّورِ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنحوِه.
(1)
في م: "زبرجد".
(2)
بعده في م: "إليه".
(3)
في ر: "صرير". وهما بمعنى.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 107 (511) من طريق آدم به، دون قوله: وكانت الألواح من برد. وأخرجه ابن أبى حاتم أيضا 5/ 1563 (8959). وفيه: من بردى.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: وعَد اللهُ موسى -حينَ أهْلَك فرعونَ وقومَه، ونجَّاه وقومَه- ثلاثين ليلةً، ثم أتمَّها بعشرٍ، فتمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً، يَلْقاه
(1)
فيها بما
(2)
شاء، واسْتَخْلَف موسى هارونَ على بنى إسرائيلَ، وقال: إنى مُتَعَجِّلٌ إلى ربى، فاخْلُفْنى في قومى، ولا تَتَّبِعْ سبيلَ المفسدين. فخرَج موسى إلى ربِّه مُتَعَجِّلًا للقائِه شوقًا إليه، وأقام هارونُ في بنى إسرائيلَ ومعه السامرىُّ، يَسِيرُ بهم على أَثَرِ موسى ليُلْحِقَهم به
(3)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: انْطَلَق موسى واسْتَخْلَف هارونَ على بنى إسرائيلَ، وواعَدَهم ثلاثين ليلةً، وأتَمّهَا اللهُ بعشرٍ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ قولِه: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} : ثم اتَّخَذْتُم في أيامِ مُواعَدَتى موسى العجلَ إلهًا مِن بعدِ أن فارَقَكم موسى مُتَوَجِّهًا إلىَّ للمَوْعِدِ. والهاءُ في قولِه: {مِنْ بَعْدِهِ} عائدةٌ على ذكرِ موسى.
فأخْبَر جلَّ ثناؤُه المُخالِفِين نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن يهودِ بنى إسرائيلَ المُكَذِّبين به، المخاطَبِين بهذه الآيةِ عن فِعلِ آبائِهم وأسلافِهم، وتَكْذيبِهم رُسُلَهم، وخلافِهم أنبياءَهم، مع تَتابُعِ نِعَمِه عليهم، وسُبوغِ
(5)
آلائِه لديهم، مُعَرِّفَهم بذلك
(1)
في م: "تلقاه ربه".
(2)
في ص: "ما".
(3)
ينظر تاريخ الطبرى 1/ 421، 425. وما سيأتى في ص 671.
(4)
سيأتى بتمامه في ص 670، 671.
(5)
في ص، ت 3:"شيوع"، وفى ت 1، ت 2:"وبسيوغ".
أنهم -من [خلافِهم محمدًا]
(1)
صلى الله عليه وسلم، وتَكذيبِهم به
(2)
، وجُحودِهم رسالتَه، مع علمِهم بصدقِه- على مثلِ مِنْهاجِ آبائِهم وأسْلافِهم، ومُحَذِّرَهم مِن نزولِ سَطْوتِه بهم -بمُقامِهم على ذلك مِن تكذيبِهم- ما نزَل بأوائِلهم المُكَذِّبينَ بالرسلِ مِن المَسْخِ واللَّعْنِ وأنواعِ النَّقِماتِ.
وكان سببَ اتخاذِهم العجلَ ما حدَّثنى به عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ عُيينةَ، قال: حدَّثنا أبو سعدٍ
(3)
، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما هجَم فرعونُ على البحرِ هو وأصحابُه، وكان فرعونُ على فَرَسٍ أدْهَمَ ذَنُوبٍ حِصانٍ، فلما هجَم على البحرِ هاب الحِصانُ أن يَتقحَّمَ
(4)
في البحرِ، فتَمَثَّل له جبريلُ على فرسٍ أنثى وَدِيقٍ، فلما رآها [حصانُ فرعونَ]
(5)
تقَحَّم خلفَها. قال: وعرَف السامرىُّ جبريلَ؛ لأن أمَّه حينَ خافَت أن يُذْبَحَ خلَّفَتْه في غارٍ وأطْبَقَت عليه، فكان جبريلُ يَأْتِيه فيَغْذُوه بأصابعِه، فيَجِدُ في إحْدى
(6)
أصابعِه لبنًا، وفى الأخْرى عسلًا، وفى الأخرى سمنًا، فلم يَزَلْ يَغْذُوه حتى نَشَأ، فلما عايَنه في البحرِ عرَفه، فقبَض قَبْضةً مِن أثرِ فرَسِه. قال: أخَذ مِن تحتِ الحافرِ قَبضةً -قال سفيانُ: وكان ابنُ مسعودٍ يَقْرَؤُها: (فقَبضْتُ قَبْضَةً مِن أَثَرِ فرسِ الرسولِ) - قال أبو سعدٍ: قال عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ: وأُلْقِى في رُوعِ
(7)
السامرىِّ أنك لا تُلْقِيها على
(1)
في ص: "خلاف محمد".
(2)
سقط من: الأصل، ص.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد". وينظر ما تقدم في ص 647.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقتحم".
(5)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحصان".
(6)
سقط من: ص، وفى ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعض".
(7)
الروع، بالضم: القلب والعقل، ووقع ذلك في روعى. أى: في نفسى وخلَدى وبالى. اللسان (ر و ع).
شيءٍ فتقولُ: كُنْ كذا وكذا. إلا كان
(1)
، فلم تَزَلِ القَبضةُ معه في يدِه حتى جاوَز البحرَ، فلما جاوَز موسى وبنو إسرائيلَ البحرَ، وأغْرَق اللهُ آلَ فرعونَ قال موسى لأخيه هارونَ:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]. ومضَى موسى لموعدِ ربِّه، قال: وكان مع بنى إسرائيلَ حَلْىٌ مِن حَلْىِ آلِ فرعونَ قد تَعَوَّرُوه
(2)
، فكأنهم تَأثَّمُوا منه، فأخْرَجوه لتَنْزِلَ النارُ فتَأْكُلَه، فلما جمَعوه، قال السامرىُّ بالقبضةِ التى كانت في يدِه هكذا، فقذَفها فيه -وأوْمَأ أبو
(3)
إسْحاقَ بيدِه هكذا- وقال: كُنْ عِجْلًا جسدًا له خُوارٌ. فصار عجلًا جسدًا له خُوارٌ، فكان تَدْخُلُ الريحُ في دُبُرِه وتَخْرُجُ مِن فيه، ويُسْمَعُ له صوتٌ، فقال:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88]. فعكَفوا على العجلِ يَعْبُدُونه، فقال هارونُ:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}
(4)
[طه: 90، 91].
حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدىِّ: لما أمَر اللهُ موسى أن يَخْرُجَ ببنى إسرائيلَ -يعنى مِن أرضِ مصرَ- أمَر موسى بنى إسرائيلَ أن يَخْرُجوا، وأمَرهم أن يَسْتَعِيروا الحَلْىَ مِن القِبْطِ، فلما نجَّى اللهُ موسى ومَن معه مِن بنى إسرائيلَ مِن البحرِ، وغرق آلَ فرعونَ، أتَى جبريلُ إلى موسى يَذْهَبُ به إلى اللهِ، فأقْبَل على فرسٍ، فرآه السامرىُّ فأنْكَره، ويقالُ
(5)
: إنه فرَسُ الحياةِ. فقال حينَ رآه: إن لهذا لشأنًا. فأخَذ مِن تربةِ الحافرِ حافرِ الفرسِ، فانطَلَق موسى واسْتَخْلَف هارونَ
(1)
فى ر، ت 1، ت 2، ت 3:"يكون".
(2)
تعوّر الشئَ: استعاره. اللسان (ع و ر).
(3)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابن". وأبو إسحاق هو إبراهيم بن بشار.
(4)
ينظر ما تقدم في ص 658 - 660.
(5)
في ص، م:"قال".
على بنى إسرائيلَ، وواعَدهم ثلاثين ليلةً، وأتمَّها اللهُ بعشرٍ، فقال لهم هارونُ: يا بنى إسرائيلَ: إن الغَنيمةَ لا تَحِلُّ لكم، وإن حَلْىَ القِبطِ إنما هو غَنيمةٌ، فاجْمَعوها [جميعًا، واحْفِروا]
(1)
لها حُفْرةً
(2)
فادْفِنوها، فإن جاء موسى فأحَلَّها أخَذْتُموها، وإلا كان شيئًا لَمْ تَأْكُلوه. فجمَعوا ذلك الحلْىَ في تلك الحُفْرةِ، وجاء السامريُّ بتلك القَبْضةِ فقذَفها، فأخْرَج اللهُ مِن الحَلْىِ عِجْلًا جسدًا له خُوارٌ، وعدَّت بنو إسرائيلَ موعِدَ موسي، فعدُّوا الليلةَ يومًا واليومَ يومًا، فلما كان تمامُ العشرين، خرَج لهم العِجْلُ، فلما رأَوه قال لهم السامرىُّ:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . يقولُ: ترَك موسى إلهَه ههنا وذهَب يَطْلُبُه. فعكَفوا عليه يَعْبُدونه، وكان يَخُورُ وَيمْشِي، فقال لهم هارونُ: يا بنى إسرائيلَ {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} . يقولُ: إنما ابْتُلِيتُم به. يقولُ
(3)
: بالعِجْلِ، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} . فأقام هارونُ ومَن معه مِن بنى إسرائيلَ لا يُقاتِلونهم، وانْطَلَق موسى إلى إلهِه يُكَلِّمُه، فلما كلَّمه قال له:{مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 83 - 85]. فأخْبَرَه خبرَهم، قال موسى: يا ربِّ، هذا السامريُّ أمَرَهم أن يَتَّخِذوا العِجْلَ، أرأيْتَ الرُّوحَ مَن نفَخها فيه؟ قال الربُّ: أنا. قال: ربِّ، أنت إذن أضْلَلْتَهم
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال؛ حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: كان فيما ذُكِر لى
(1)
في ص: "جميعها فاحفروا".
(2)
في الأصل: "حفيرة".
(3)
في ر: "أى".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2768 (15650) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به، بأوله. وأخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 421، 422 عن موسى بن هارون به، عن السدى بإسناده. وتقدم أوله في ص 649.
أن موسى قال لبنى إسرائيلَ فيما أمَره اللهُ عز وجل به: اسْتَعِيروا منهم -يعنى مِن آلِ فرعونَ- الأمتعةَ والحَلْىَ والثِّيابَ، فإنى مُنَفِّلُكم أموالَهم مع هَلاكِهم. فلما أذَّن فرعونُ في الناسِ، كان مما يُحَرِّضُ به على بنى إسرائيلَ أن قال حينَ [ساروا: لَمْ يَرْضَوْا أن خرَجوا]
(1)
بأنفسِهم حتى ذهَبوا بأموالِكم معهم
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ إسحاقَ، عن حكيمِ بنِ جُبَيْرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان السامرىُّ رجلًا مِن أهلِ باجَرْمَا
(3)
، وكان مِن قومٍ يَعْبُدون البقرَ، وكان حُبُّ عبادةِ البقرِ في نفسِه، وكان قد أظْهَر الإسلامَ في بنى إسرائيلَ، فلما فصَل
(4)
هارونُ في بنى إسرائيلَ وفصَل موسى إلى ربِّه، قال لهم هارونُ: أنتم قد حُمِّلْتُم أوْزارًا مِن زينةِ القومِ -آلِ فرعونَ- وأمتعةً وحَلْيًا، فتَطهَّروا منها، فإنها نَجَسٌ. وأوْقَد لهم نارًا فقال: اقْذِفوا ما كان معكم مِن ذلك فيها. قالوا: نعم. فجعَلوا يَأْتُون بما كان فيهم
(5)
مِن تلك الأمتعةِ وذلك الحَلْىِ فيَقْذِفون به فيها، حتى إذا تكَسَّر الحَلْىُ فيها، ورأى السامريُّ أثرَ فرسِ جبريلَ، فأخَذ ترابًا مِن أثرِ حافرِه، ثم أقْبَل إلى النارِ
(6)
، فقال لهارونَ: يا نبيَّ اللهِ، أُلْقى ما فى يدى؟ قال: نعم. ولا يَظُنُّ هارونُ إلَّا أنه كبعضِ ما جاء به غيرُه مِن ذلك الحلْىِ والأمتعةِ، فقذَفه فيها وقال: كنْ عِجْلًا جسدًا له خُوَارٌ. فكان للبلاءِ
(1)
في م: "سار ولم يرضوا أن يخرجوا".
(2)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 419.
(3)
باجرما؛ بفتح الجيم وسكون الراء وميم وألف مقصورة: قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة. معجم البلدان 1/ 454.
(4)
في م: "فضل". وفصل فلان من عندى فصولا: إذا خرج. اللسان (ف ص ل).
(5)
في ر، م:"معهم".
(6)
في تاريخ المصنّف: "الحفرة".
والفتنةِ، فقال:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} . فعكَفوا عليه، وأحبُّوه حبًّا لَمْ يُحِبُّوا مثلَه شيئًا قطُّ، يقولُ اللهُ جلَّ ذكرُه:{فَنَسِيَ} . أى ترَك ما كان عليه مِن الإسلامِ -يعنى السامرىَّ- {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89]. قال
(1)
: وكان اسمُ السامرىِّ موسى بنَ ظَفَرَ، وقَع في أرضِ مصرَ فدخَل في بنى إسرائيلَ، فلما رأَى هارونُ ما وقَعوا فيه قال:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} . فأقام هارونُ في مَن معه مِن المسلمين ممَّن لَمْ يُفْتَتَنْ، وأقام مَن يَعْبُدُ العِجْلَ على عبادةِ العِجْلِ، وتخَوَّف هارونُ إن سار بمَن معه مِن المسلمين أن يقولَ له موسى:{فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]. وكان له هائبًا مُطِيعًا
(2)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لما أنْجَى اللهُ عز وجل بنى إسرائيلَ مِن فرعونَ، وأغْرَق فرعونَ ومَن معه، قال موسى لأخيه هارونَ:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} . قال: لما خرَج موسى وأمَر هارونَ [ما أمَرَه]
(3)
، وخرَج موسى مُتَعَجِّلًا مَسْرورًا إلى اللهِ، قد عرَف موسى أن المرءَ إذا أنجَح
(4)
في حاجةِ سيدِه كان يَسُرُّه أن يَتَعَجَّلَ إليه. قال: وكان حينَ خرَجوا اسْتَعاروا حَلْيًا وثيابًا مِن آلِ فرعونَ، فقال لهم هارونُ: إن هذه الثيابَ والحَلْىَ لا تَحِلُّ لكم، فاجْمَعوا نارًا فألْقُوه فيها فأحْرِقوه. قال: فجمَعوا نارًا.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه المصنّف في تاريخه 1/ 424، 425.
(3)
في ص: "بما أمره"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما أمره به".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"نجح". يقال: نجح فلان، وأنجح: إذا أصاب طلبته. النهاية 5/ 18.
قال: فكان السامرىُّ قد نظَر إلى أثرِ دابَّةِ جبريلَ، وكان جبريلُ على فرسٍ أنثي، وكان السامريُّ في قومِ موسى. قال: فنظَر إلى أثرِه فقبَض منه قبضةً، فيبِسَت عليها يدُه، فلما ألْقَى قومُ موسى الحَلْىَ في النارِ، وألْقَى السامريُّ معهم القَبْضةَ، صوَّر اللهُ جلَّ وعزَّ ذلك لهم عِجْلًا ذهبًا، فدخَلَتْه الريحُ، فكان له خُوَارٌ، فقالوا: ما هذا؟ فقال السامرىُّ الخبيثُ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . الآية إلى قولِه: {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 88 - 91]. قال: حتى إذا أتَى موسى الموعدَ قال اللهُ: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} . فقرَأ حتى بلَغ: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: 84 - 86].
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِه:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} . قال: العِجْلُ حَسيلُ
(1)
البقرةِ. قال: حَلْىٌ اسْتَعارُوه مِن آلِ فرعونَ، فقال لهم هارونُ: أخْرِجوه فتَطَهَّروا منه وأحْرِقوه. وكان السامريُّ
(2)
أخَذ قَبْضةً مِن أثرِ فرسِ جبريلَ، فطرَحه فيه فانْسَبَك، وكان له كالجوفِ تَهْوِى فيه الرياحُ.
حَدَّثَنِي المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: إنما سُمِّى العِجْلَ؛ لأنهم عَجِلوا فاتَّخَذوه قبلَ أن يَأْتِيَهم موسى
(3)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثني
(1)
الحسيل: ولد البقرة الأهلية، وعم به بعضهم فقال: هو ولد البقرة. اللسان (ح س ل).
(2)
بعده في م: "قد".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 108 (512) من طريق آدم به.
عيسي، [وحَدَّثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبْلٌ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}: حسيلُ البقرةِ. قال: حَلْىٌ استَعارُوه من آلِ فرعونَ، فقال لهم هارونُ: أخرِجوه فتطهَّروا منه وأحْرِقُوه. وكان السامِرىُّ أخَذ قبْضةً من أثرِ فرسِ جبريلَ فطرَحه فيه فانْسَبَك، وكَان له كالجوفِ تَهْوِى فيه الرياحُ]
(1)
.
وتأويلُ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} . يعنى: وأنتم واضعو العبادةِ في غيرِ موضعِها؛ لأنَّ العبادةَ لا تَنْبَغِى إلَّا للهِ تعالى ذكرُه، وعبَدْتُم أنتم العجلَ ظلمًا منكم، ووضعًا للعبادةِ في غيرِ موضعِها.
وقد دلَّلْنا في غيرِ هذا الموضعِ مما مضَى مِن كتابِنا، أن أصْلَ كلِّ ظُلمٍ وضْعُ الشيءِ فى غيرِ مَوْضعِه، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} .
قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ قولِه: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} . يقولُ: ثم
(3)
ترَكْنا مُعاجَلتَكم بالعقوبةِ مِن بعدِ ذلك. أى: مِن بعدِ اتخاذِكم العجلَ إلهًا.
كما حَدَّثَنِي به المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ العَسْقلانيُّ، قال:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحو حديث القاسم، عن الحسن، حدَّثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدَّثنا أبو حذيفة، قال: حدَّثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه". وقوله: "الحسن". صوابه: الحسين، كما تقدم.
والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 108، 109، 4/ 1104 (513، 524، 6196) مفرقا من طريق ورقاء، عن ابن أبى نجيح إلى قوله: فتطهروا منه.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 559.
(3)
سقط من: ص، م.
حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} . يعنى: مِن بعدِ ما اتَّخَذْتُم العجلَ
(1)
.
وأما تأويلُ قولِه: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . فإنه يعنى به: لتَشْكُروا. ومعنى: "لعل" في هذا الموضعِ معنى "كى"
(2)
. وقد بيَّنْتُ فيما مضَى قبلُ أن أحدَ معانى "لعل" معنى "كى" بما فيه الكفايةُ عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(3)
.
فمعنى الكلامِ إذن: ثم عَفَونا عنكم مِن بعدِ اتخاذِكم العجلَ إلهًا [لتَشْكُروا لى]
(4)
على عَفْوى عنكم، إذ كان العفوُ يُوجِبُ الشكرَ على أهلِ اللُّبِّ والعقلِ.
القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} .
قال أبو جعفرٍ: يعنى بقولِه: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : واذْكُروا أيضًا إذ آتَيْنا موسى الكتابَ والفُرقانَ. ويعنى بالكتابِ التوراةَ، وبالفُرقانِ الفصلَ بينَ الحقِّ والباطلِ.
كما حَدَّثَنِي المثني، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيع، عن أبى العاليةِ في قولِه:{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} . قال: فرَق فيه
(5)
بينَ الحقِّ والباطلِ
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 108 (515) من طريق آدم به.
(2)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ينظر ما تقدم في ص 387.
(4)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لتشكرونى".
(5)
في ص: "الله فيه"، وفى م:"به".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 109 (521) من طريق آدم به.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسي، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} . قال: الكتابُ هو الفُرقانُ، فُرقانٌ بينَ الحقِّ والباطلِ
(1)
.
حَدَّثَنِي المثني، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حَدَّثَنِي القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريْجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} . قال: الكتابُ هو الفُرقانُ، فرَق بينَ الحقِّ والباطلِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حَجاجٌ، عن ابنِ جُريْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الفُرْقانُ جِماعُ اسمِ التوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ والفُرقانِ
(2)
.
وقال ابنُ زيدٍ في ذلك بما حَدَّثَنِي به يونسُ، قال: أخْبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سألْتُه -يعنى ابنَ زيدٍ- عن قولِ اللهِ جلَّ وعزَّ: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} . فقال: أما "الفُرْقانُ" الذى قال اللهُ جلَّ وعزَّ: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]. فذلك يومُ بدرٍ، يومَ فرَق اللهُ بينَ الحقِّ والباطلِ، والقضاءُ الذى فرَق به بينَ الحقِّ والباطلِ. قال: فكذلك أعْطَى اللهُ موسى الفُرقانَ، فرَق اللهُ بينَهم، وسلَّمه اللهُ وأنجاه، فرَق بينَهم بالنصرِ، فكما جعَل اللهُ ذلك بينَ محمدٍ و
(3)
المشركين، فكذلك جعَله بينَ موسى وفرعونَ.
(1)
تفسير مجاهد ص 202، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 69 إلى عبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 69 إلى المصنّف وابن المنذر.
(3)
في ص: "وبين".
قال أبو جعفرٍ: وأولى [هذيْن التأويلَيْن]
(1)
بتأويلِ الآيةِ ما رُوِى عن ابنِ عباسٍ وأبى العاليةِ ومُجاهدٍ، مِن أن الفرقانَ الذى ذكَر اللهُ أنه آتاه موسى في هذا الموضعِ هو الكتابُ الذى فرَق به
(2)
بينَ الحقِّ والباطلِ، وهو نعتٌ للتوراةِ وصفةٌ لها. فيكونُ تأويلُ الآيةِ حينَئذٍ: وإذ آتينا موسى التوراةَ التى كتَبناها
(3)
له في الألواحِ، وفرَقْنا بها بينَ الحقِّ والباطلِ. فيكونُ الكتابُ نعتًا للتوراةِ أُقِيم مُقامَها اسْتِغْناءً به عن ذكرِ التوراةِ، ثم عطَف عليه الفرقانَ، إذ
(4)
كان مِن نعتِها. وقد بيَّنَّا معنى الكتابِ فيما مضَى مِن كتابِنا هذا، وأنه بمعنى المكتوبِ
(5)
.
وإنما قلْنا: هذا التأويلُ أولى بالآيةِ -وإن كان مُحْتَمِلًا غيرُه مِن التأويلِ- لأن الذى قبلَه من
(6)
ذِكْرِ الكتابِ، وأن معنى الفرقانِ الفَصْلُ -وقد دلَّلْنا على ذلك فيما مضَى مِن كتابِنا هذا- فإلحاقُه، إذ كان كذلك، بصفةِ ما ولِيه أولَى مِن إلحاقِه بصفةِ ما بَعُد منه.
وأما تأويلُ قولِه جلَّ ثناؤُه: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . فنظيرُ قولِه تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . ومعناه: لِتَهْتَدوا. فكأنه قال تعالى: واذْكُروا أيضًا إذ آتيْنا موسى التوراةَ التى تَفْرُقُ بينَ الحقِّ والباطلِ، لتَهْتَدوا بها وتَتَّبِعوا الحقَّ الذى فيها؛ لأنى جعَلْتُها كذلك هُدًى لمن اهْتَدَى بها واتَّبع ما فيها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
(1)
في ص: "هذه التأويلات".
(2)
في ص: "فيه".
(3)
في ر: "اكتتبناها".
(4)
بعده في ر: "الفرقان".
(5)
ينظر ما تقدم في ص 95.
(6)
سقط من: م.
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}.
وتأويلُ ذلك: واذْكُروا أيضًا إذ قال موسى لقومِه مِن بنى إسرائيلَ: يا قومِ إنكم ظلَمْتُم أنفسَكم. وظلمُهم إياها كان فعلَهم بها ما لم يكنْ لهم أن يَفْعَلوه بها، مما أوْجَب لهم العقوبةَ مِن اللهِ تعالى، وكذلك كلُّ فاعلٍ فعلًا يَسْتَوْجِبُ به العقوبةَ مِن اللهِ تعالى، فهو ظالمٌ لنفسِه بإيجابِه العقوبةَ لها مِن اللهِ تعالى، وكان الفعلُ الذى فعَلوه فظلَموا به أنفسَهم، هو ما أخْبَر اللهُ عنهم مِن ارْتِدادِهم باتخاذِهم العجلَ ربًّا بعدَ فِراقِ موسى إياهم. ثم أمَرهم موسى بالمراجعةِ مِن ذنبِهم، والإنابةِ إلى اللهِ جلَّ وعزَّ مِن رِدَّتِهم بالتوبةِ إليه، والتسليمِ لطاعتِه فيما أمَرهم به، وأخْبَرَهم أن توبتَهم مِن الذنبِ الذى رَكِبوه قَتْلُهم أنفسَهم -وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أن معنى التوبةِ الأوْبَةُ مما يَكْرَهُه اللهُ إلى ما يَرْضاه مِن طاعتِه
(1)
- فاسْتَجاب القومُ لما أمَرهم به موسى مِن التوبةِ مما ركِبوا مِن ذنوبهم إلى ربِّهم، على ما أمَرَهم به.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ ابنُ الحجاجِ، عن أبى إسحاقَ، عن أبى عبدِ الرحمنِ أنه قال في هذه الآيةِ:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . قال: عمَدوا إلى الخنَاجرِ، فجعَل يَطْعُنُ بعضُهم بعضًا.
حدَّثنى عباسُ بنُ محمدٍ، قال: حدَّثنا حجاجُ بنُ محمدٍ، قال ابنُ جُرَيْجٍ: أخْبَرَنى القاسمُ بن أبى بَزَّةَ، أنه سمِع سعيدَ بنَ جُبيرٍ ومُجاهِدًا قالا: قام بعضُهم إلى
(1)
ينظر ما تقدم في ص 587.
بعضٍ بالخنَاجرِ يَقْتُلُ بعضُهم بعضًا، لا يَحِنُّ
(1)
رجلٌ على رجلٍ قريبٍ ولا بَعيدٍ، حتى ألْوَى
(2)
موسى بثوبِه، فطرَحوا ما بأيديهم، فتكَشَّف عن سبعين ألفَ قَتيلٍ، وإن اللهَ أوْحَى إلى موسى أنْ حَسْبِى فقد اكْتَفَيْت. فذلك حينَ ألْوَى بثوبِه
(3)
.
حدَّثنى عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ عُيَيْنةَ، قال: قال أبو سعدٍ
(4)
، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال موسى لقومِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . قال: أمَر موسى قومَه -عن أمرِ ربِّه- أن يَقْتُلوا أنفسَهم. قال: فاحْتَبى
(5)
الذين عكَفوا على العجلِ فجلَسوا، وقام الذين لم يَعْكُفوا على العجلِ وأخَذوا الخنَاجرَ بأيديهم، وأصابَتهم ظلمةٌ شديدةٌ، فجعَل يَقْتُلُ بعضُهم بعضًا، فانْجَلَت الظلمةُ عنهم وقد أجْلَوْا عن سبعينَ ألفَ قتيلٍ، كلُّ مَن قُتِل منهم كانت له توبةٌ، وكلُّ مَن بَقِى
(6)
كانت له توبةٌ
(7)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدىِّ، قال: لما رجَع موسى إلى قومِه قال: {يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} . إلى قولِه: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 86، 87]. فألْقَى مُوسى
(1)
في ر: "يحزن"، وفى تفسير ابن أبى حاتم:"يحنو". وحن عليه: عطف. اللسان (ح ن ن).
(2)
ألوى بثوبه: إذا لمع وأشار. اللسان (ل و ى).
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 110 (528) من طريق حجاج به.
(4)
في م: "سعيد". وينظر ما تقدم في ص 647.
(5)
في م: "فاختبأ". والاحتباء: أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب. النهاية 1/ 335.
(6)
بعده في ص: "منهم".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 131 عن المصنف. وينظر ما تقدم في ص 647.
الألْواحَ وأخَذَ برأسِ أخيه يَجُرُّه إليه {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} . إلى قولِه. {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]. فترَك هارونَ ومال إلى السامرىِّ، فقال:{مَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} . إلى قولِه: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 95 - 97]. ثم أخَذه فذبَحه، ثم حرَقه
(1)
بالمِبْردِ، ثم ذَرَّاه في اليَمِّ، فلم يَبْقَ بحرٌ يَجْرى يومَئذٍ إلا وقَع فيه شيءٌ منه، ثم قال لهم موسى: اشْرَبوا منه. فشرِبوا، فمَن كان يُحِبُّه خرَج على شاربِه
(2)
الذهبُ، فذلك حينَ يقولُ:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]. فلما سُقِط في أيدى بنى إسرائيلَ حينَ جاء موسى، ورَأوْا أنهم قدْ ضَلُّوا قالوا:{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149]. فأبَى اللهُ أن يَقْبَلَ توبةَ بنى إسرائيلَ إلا بالحالِ التى كرِهوا أن يُقاتِلوهم حينَ عبَدوا العجلَ، فقال لهم موسى:{يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . قال: فصَفُّوا صفَّيْن، ثم اجْتَلَدوا بالسيوفِ، فاجْتَلَد الذين عبَدوه والذين لم يَعْبُدوه بالسيوفِ، فكان مَن قُتِل مِن الفريقَيْن شهيدًا، حتى كثُر القتلُ، حتى كادوا أن يَهْلِكوا، حتى قُتِل بينَهم سبعون ألفًا، وحتى دعا موسى وهارونُ: ربَّنا هلَكَتْ بنو إسرائيلَ، ربَّنا البقيةَ البقيةَ. فأمَرهم أن يَضَعوا السلاحَ، وتاب عليهم، فكان مَن قُتِل شهيدًا، ومَن بَقِى كان مُكَفَّرًا عنه، فذلك قولُه:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
(3)
.
(1)
حرق الحديد بالمبرد: برده وحك بعضه ببعض. اللسان (ح ر ق).
(2)
في الأصل، م:"شاربيه".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 423، 424 عن موسى، عن عمرو، عن أسباط، عن السدى، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرج آخره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 111 (533) من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدى.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو الباهلىُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} . قال: كان موسى أمَر قومَه -عن أمرِ ربِّه- أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضًا بالخنَاجرِ، فجعَل الرجلُ يَقْتُلُ أباه ويَقْتُلُ ولدَه، فتاب اللهُ عليهم
(1)
.
[وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}. قال: كان أمَر موسى قومَه -عن أمرِ رِّبه- أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضًا، ولا يَقْتُلَ الرجلُ أباه ولا أخاه، فبلَغَ ذلك في ساعةٍ من نهارٍ سبعين ألفًا]
(2)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية. قال: فصاروا صفَّيْن، فجعَل يَقْتُلُ بعضُهم بعضًا، فبلَغ القَتْلَى ما شاء اللهُ، ثم قيل لهم: قد تِيبَ على القاتلِ والمقتولِ.
حدَّثنا المثنى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثنى الليثُ، قال: حدَّثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: لما أُمِرَت بنو إسرائيلَ بقتلِ أنفسِها برَزُوا ومعهم موسى، فاضْطَربُوا
(3)
بالسيوفِ، وتَطاعَنوا بالخنَاجرِ، وموسى رافعٌ يديه، حتى إذا فتَر، أتاه بعضُهم فقالوا: يا نبىَّ اللهِ، ادْعْ اللهَ لنا. وأخَذوا بعَضُدَيْه يَسنُدُون
(4)
يديه، فلم يَزَلْ أمرُهم على ذلك حتى إذا قبِل اللهُ توبتَهم، قبَض أيدىَ بعضِهم عن بعضٍ،
(1)
تفسير مجاهد ص 202، وفيه: ففعلوا. بدل قوله: فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "فتضاربوا".
(4)
في م: "يشدون"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"يسدون".
فألْقَوُا السلاحَ، وحزِن موسى وبنو إسرائيلَ للذى كان مِن القتلِ فيهم، فأوْحَى اللهُ إلى موسى: ما
(1)
يَحْزُنُك؟ أمّا مَن قُتِل منكم
(2)
فحىٌّ عندى يُرْزَقُ
(3)
وأمَّا مَن بقِى فقد قَبِلْتُ توبتَه. [فبشَّر بذلك موسى بنى]
(4)
إسرائيلَ
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن الزهرىِّ وقتادةَ في قولِه:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . قالا
(6)
: قاموا صفَّيْنِ يقتُلُ بعضُهم بعضًا، حتى قيل لهم: كُفُّوا. قال قتادةُ: كانت شهادةً للمقتولِ، وتوبةً للحىِّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال لى عطاءٌ: سمِعْتُ عُبَيدَ بنَ عُميرٍ يقولُ: قام بعضُهم إلى بعضٍ يَقْتُلُ بعضُهم بعضًا، ما يتوقَّى
(7)
الرجلُ أباه ولا أخاه ولا ابنَه [ولا]
(8)
أحدًا، حتى نزَلَتِ التوبةُ. قال ابنُ جُريجٍ: وقال ابنُ عباسٍ: بلَغ قَتلاهم سبعين ألفًا، ثم رفَع اللهُ عنهم القتلَ، وتاب عليهم.
(1)
في م: "لا".
(2)
في الأصل: "منهم". والمثبت موافق لما في تفسير ابن كثير.
(3)
فى الأصل: "يرزقون".
(4)
في م، وتفسير ابن كثير:"فسر بذلك موسى وبنو".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 131 عن المصنف، وقال: إسناد جيد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 70 إلى المصنف وأحمد في الزهد.
(6)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(7)
في الأصل: "يىدىا"، وفى ص:"تبرانا".
ولعل ما في الأصل وص تصحف من: "يترابأ". كما أثبتها الشيخ شاكر، ورابأت الشئ ورابأت فلانا: حذرته واتقيته. ورابأ الرجلَ: اتقاه. اللسان (ر ب أ).
(8)
سقط من: الأصل.
قال ابنُ جُرَيْجٍ: قاموا صفَّيْن فاقْتَتلوا بينَهم، فجعَل اللهُ القتلَ لمَن قُتِل منهم شَهادةً، وكانت توبةً لمن بقِى، وكان قتلُ بعضِهم بعضًا أن اللهَ علِم أن ناسًا منهم علِموا أن العِجْلَ باطلٌ، فلم يَمْنَعْهم أن يُنْكِروا عليهم إلا مخافةَ القتالِ، فلذلك أُمِرُوا
(1)
أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضًا.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: لما رجَع موسى إلى قومِه، وأحْرَق العِجلَ وذَرَّاه في اليَمِّ، خرَج إلى ربِّه بمَن اخْتار مِن قومِه، فأخَذَتْهم الصاعقةُ ثم بُعِثوا، سأل موسى ربَّه التوبةَ لبنى إسرائيلَ مِن عبادةِ
(2)
العجلِ، فقال: لا، إلا أن يَقْتُلوا أنفسَهم. قال: فبلَغَنى أنهم قالوا لموسى: نَصْبِرُ لأمرِ اللهِ. فأمَر موسى مَن لم يكنْ عبَد العجلَ أن يَقْتُلَ مَن عَبدَه، فجلَسوا بالأفْنِيةِ، وأصلَت
(3)
عليهم القومُ السيوفَ، فجعَلوا يَقْتُلونهم، وبكَى موسى وبَهَش
(4)
إليه الصِّبْيانُ والنساءُ يَطْلُبون العفوَ عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمَر موسى أن [يُرْفَعَ عنهم السيفُ]
(5)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لما رجَع موسى إلى قومِه، وكان
(6)
سبعون رجلًا قد اعْتَزَلوا مع هارونَ العجلَ لم يَعْبُدوه، فقال لهم
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمر".
(2)
بداية خرم في النسخة (ص) وينتهى في ص 691.
(3)
في م: "سلت". وأصلت السيف: جرده من غمده، اللسان (ص ل ت)،
(4)
بهَشْتُ إلى الرجل وبهش إلىّ: تهيأْتُ للبكاء وتهيأ له. اللسان (ب هـ ش).
(5)
في م، وتفسير ابن كثير:"ترفع عنهم السيوف".
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 131، 132 عن ابن إسحاق.
وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 427، 428، عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقة بن يسار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
(6)
في م، ت 3:"كانوا".
موسى: انْطَلِقوا إلى موعدِ ربِّكم. فقالوا: يا موسى، أمَا مِن توبةٍ؟ قال: بلى
(1)
، اقْتُلُوا أنفُسَكم {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} الآية. فاخْتَرَطوا السيوفَ والجِرَزةَ
(2)
والخنَاجرَ والسَّكاكِينَ، قال: وبُعِثت عليهم ضَبابةٌ. قال: فجعَلوا يَتَلامَسون بالأيدى ويَقْتُلُ بعضُهم بعضًا. قال: ويَلْقَى الرجلُ أباه وأخاه فيَقْتُلُه ولا يَدْرِى، قال: ويَتَنادَوْن فيها: رحِم اللهُ عبدًا صبَر حتى يَبلُغَ اللهُ رضاه. وقرَأ قولَ اللهِ جل ثناؤُه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33] قال: فقَتْلاهم شُهداءُ، وتِيب على أحيائِهم. وقرَأ:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
فالذى ذكَرْنا -عمَّن روَيْنا عنه الأخبارَ التى روَيْناها- كان توبةَ القومِ مِن الذنبِ الذى أتَوْه فيما بينَهم وبينَ ربِّهم، بعبادتِهم العجلَ، مع ندمِهم على ما سلَف منهم مِن ذلك.
وأما معنى قولِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} . فإنه يعنى: ارْجِعوا إلى طاعةِ خالقِكم وإلى ما يُرْضِيه عنكم.
كما حدَّثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} . أى: إلى خالقِكم
(3)
.
وهو مِن: بَرَأ اللهُ الخلقَ [يَبْرَؤُهم بَرْءًا]
(4)
، فهو بارِئُهم
(5)
. والبَرِيَّةُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بل".
(2)
الجرزة، جمع الجُرْز: العمود من الحديد. اللسان (ج ر ز).
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 110 (526) من طريق آدم به.
(4)
في م: "يبرؤه".
(5)
في م: "بارئ".
الخلقُ، وهى فَعِيلةٌ بمعنى مفعولةٍ، غيرَ أنها لا تُهْمَزُ، كما لا يُهْمَزُ "مَلَكٌ"، وهو مِن " [لأكْتُ"؛ لأنه]
(1)
جرَى بتركِ الهمزِ كذلك. كما قال نابغةُ بنى ذُبْيانَ
(2)
.
إلا سُليمانَ إذ قال الإلهُ
(3)
له
…
قُمْ في البَرِيَّةِ فاحْدُدْها
(4)
عن الفَنَدِ
(5)
وقد قيل: إن البَرِيَّةَ إنما لم تُهْمَزْ لأنها فعيلةٌ مِن البَرَى، والبَرَى الترابُ، فكأنَّ تأويلَه على قولِ مَن تأوَّله كذلك أنه مخلوقٌ مِن الترابِ.
وقال بعضُهم: إنما أُخِذَت البَرِيَّةُ مِن قولِك: بَرَيْتُ العودَ. فلذلك لم يُهْمَزْ.
قال أبو جعفرٍ: وتركُ الهمزِ مِن "بارئِكم" جائزٌ، والإبْدالُ منها جائزٌ. فإذ كان ذلك جائزًا في "بارِئِكم"، فغيرُ مُسْتَنْكَرٍ أن تكونَ البَرِيَّةُ مِن: بَرَى اللهُ الخلقَ. بتركِ الهمزةِ.
وأما قولُه: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} . فإنه يعنى بذلك: توبتُكم بقتلِكم أنفسَكم، وطاعتُكم ربَّكم، خيرٌ لكم عندَ بارئِكم؛ لأنكم تَنْجُون بذلك مِن عقابِه في الآخرةِ على ذنبِكم، وتَسْتَوْجِبون به الثوابَ منه.
وقولُه: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} . [يقولُ: فتاب اللهُ عليكم]
(6)
بما فعَلْتُم مما أمَرَكم به
(1)
في م: "لأك، لكنه".
(2)
ديوانه ص 13.
(3)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"المليك".
(4)
حد الرجل عن الأمر يحده حدا: منعه وحبسه، تقول: حددت فلانا عن الشر. أى منعته. اللسان (ح د د). والبيت فيه.
(5)
الفَنَد: الخطأ في القول والرأى. تاج العروس (ف ن د).
(6)
في م: "أى".
مِن قتْلِ بعضِكم بعضًا. وهذا مِن المحذوفِ الذى اسْتُغْنى بالظاهرِ منه عن المتروكِ؛ لأن معنى الكلامِ: فتُوبوا إلى بارئِكم فاقْتُلوا أنفسَكم، ذلكم خيرٌ لكم عندَ بارئِكم، فتُبْتم فتاب اللهُ عليكم. فترَك ذِكْرَ قولِه: فتبْتُم. إذ كان في قولِه: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} . دَلالَةٌ بينةٌ على اقْتِضاءِ الكلامِ: فتبْتُم.
ويعنى بقولِه: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} : رجَع لكم ربُّكم إلى ما أحْبَبْتُم مِن العفوِ عن ذنوبكم وعظيمِ ما ركِبْتُم، والصفحِ عن جُرْمِكم، {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. يعنى: الراجعُ لمن أناب إليه بطاعتِه إنى ما يُحِبُّ مِن العفوِ عنه. ويعنى بـ {الرَّحِيمُ} : العائدُ عليه
(1)
برحمتِه المُنْجيةِ مِن عقوبتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} .
وتأويلُ ذلك: واذْكُروا أيضًا إذ قلْتُم: يا موسى لن نُصَدِّقَك ولن نُقِرَّ بما جئْتَنا به حتى نَرَى اللهَ
(2)
عِيانًا، برفعِ الساترِ بينَنا وبينَه، وكشفِ الغِطاءِ دونَنا ودونَه، حتى نَنْظُرَ إليه بأبصارِنا. كما تُجْهَرُ الرَّكِيَّةُ
(3)
، وذلك إذا كان ماؤُها قد غطَّاه الطِّينُ، فنُقِّى
(4)
ما قد غطَّاه حتى ظهَر الماءُ وصفا. يقالُ منه
(5)
: جَهَرْتُ الرَّكِيَّةَ أَجْهَرُها جَهْرًا وجَهْرةً. ولذلك قيل: قد جاهَر
(6)
فلانٌ بهذا الأمرِ
(1)
في م: "إليه".
(2)
بعده في ر: "جهرة أى"، وبعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جهرة".
(3)
الرَّكيَّة: البئر. اللسان (ر ك ى).
(4)
غير منقوطة في الأصل، وفى ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فنفى"، والمثبت كما في اللسان نقلا عن الأخفش، ويحتمله ما في الأصل. وينظر اللسان (ج هـ ر).
(5)
بعده في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قد".
(6)
في م، ت 1:"جهر".
مُجاهَرةً وجِهارًا. إذا أظْهَره لرأْىِ العينِ وأعلَنه، كما قال الفَرَزْدَقُ بنُ غالبٍ
(1)
:
مِن اللائى يَظَلُّ
(2)
الألْفُ منه
…
مُنِيخًا
(3)
مِن مَخافتِه جِهارًا
(4)
وكما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . قال: علانيةً
(5)
.
وحُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . قال
(6)
: عِيانًا
(7)
.
وحدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} : حتى يَطْلُعَ إلينا
(8)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . أى: عِيانًا
(9)
.
(1)
شرح ديوان الفرزدق ص 443.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يضل".
(3)
في م، ت 2:"مسحا"، وفى ت 3:"متيحا".
(4)
في شرح الديوان: "نهارا". فلا شاهد فيه للمصنف.
والشاهد في بيت آخر للفرزدق من نفس القصيدة هو قوله:
ولكن اللئام إذا هجونى
…
غضبت فكان نصرتى الجهارا
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 132 عن ابن جريج به. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 111 (534) من طريق أبى الحويرث، عن ابن عباس، وأبو الحويرث صدوق سيئ الحفظ.
(6)
في ر: "قال علانية"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
(7)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 111 عقب الأثر (535) من طريق ابن أبى جعفر به.
(8)
سيأتى بتمامه في ص 696، 2/ 47.
(9)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 111 (535) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة.
فذكَّرهم بذلك جلّ ذكرُه كثرةَ
(1)
اختلافِ آبائِهم، وسُوءَ استقامةِ أسلافِهم لأنبيائِهم، مع كثرةِ مُعاينتِهم مِن آياتِ اللهِ وعِبَرِه
(2)
ما تَثْلُجُ
(3)
بأقلِّها الصدورُ، وتَطْمَئِنُّ بالتصديقِ معها النفوسُ، وذلك مع تَتابُعِ الحُجَجِ عليهم، وسُبوغِ النِّعَمِ مِن اللهِ لديهم، وهم مع ذلك مرةً يَسْألون نبيَّهم أن يَجْعَلَ لهم إلهًا غيرَ اللهِ، ومرَّةً يَعْبُدون العِجْلَ مِن دونِ اللهِ، ومرةً يقولون: لن
(4)
نُصَدِّقَك حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً. وأخرى يقولون له إذا دُعُوا إلى القتالِ: اذْهَبْ أنت وربُّك فقاتِلا إنا ههنا قاعِدُون. ومرةً يُقالُ لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58]. فيقولون: حِنْطةٌ في شَعيرةٍ. ويَدْخُلون البابَ مِن قِبَلِ أَسْتاهِهِم، مع غيرِ ذلك مِن أفعالِهم التى آذَوْا بها نبيَّهم عليه السلام التى يَكْثُرُ إحْصاؤُها.
فأعْلَمَ ربُّنا تبارك اسمُه وتعالى ذكرُه الذين خاطَبَهم بهذه الآياتِ مِن يهودِ بنى إسرائيلَ الذين كانوا بينَ ظَهْرانَيْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يَعْدُوا أن يَكُونوا -في تكذيبِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجُحودِهم نبوَّتَه، وتركهم الإقرارَ به، وبما جاء به، مع علمِهم به، ومعرفتِهم بحقيقةِ أمرِه- كأسْلافِهم وآبائِهم الذين [قصَّ اللهُ]
(5)
عليهم قَصَصَهم في ارْتِدادِهم عن دينِهم مرةً بعدَ أخرى، وتَوَثُّبِهم على نبيِّهم موسى صلوات اللهِ وسلامُه عليه تارةً بعدَ أخرى، مع عظيمِ بَلاءِ اللهِ عندَهم، وسُبوغِ آلائِه عليهم.
(1)
سقط من: ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في الأصل، ت 3:"غيره".
(3)
ثلِجت نفسى بالشئِ ثَلَجا، وثلَجت، تثلُج وتثلَج ثلوجا: اشتَفَتْ به واطمأنت إليه. اللسان (ث ل ج).
(4)
في ر، م:"لا".
(5)
في ر، م، ت 1، ت 3:"فصل"، وفى ت 2:"فصل الله".
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ الصاعقةِ التى أخَذَتْهم؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا به الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} . قال: ماتوا
(1)
.
وحُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ: {فَأَخَذَتْكُمُ
(2)
الصَّاعِقَةُ}. قال: سمِعوا صوتًا فصَعِقوا. يقولُ: ماتوا
(3)
.
وقال آخَرون بما حدَّثنى موسى بنُ هارونَ الهَمْدانيّ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} : والصاعقةُ نارٌ
(4)
.
وقال آخَرون بما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: أخذَتْهم الرَّجْفةُ، وهى الصاعقةُ، فماتوا جميعًا
(5)
.
وأصلُ الصاعقةِ كلُّ أمرٍ هائلٍ مَن
(6)
رآه أو عايَنه أو أصابه، حتى يَصِيرَ مِن هَوْلِه
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 46. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 112 (538) عن الحسن بن يحيى به.
(2)
فى الأصل، ر، ت 3:"فأخذتهم".
(3)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فماتوا".
والأثر أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 112 (539) من طريق ابن أبى جعفر به.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 112 (540) من طريق عمرو به. وستأتى بقيته في ص 695.
(5)
جزء من الأثر المتقدم في ص 684.
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
وعَظيمِ شأنِه إلى هلاكٍ وعطبٍ أو
(1)
إلى ذَهابِ عقلٍ وغُمورِ فَهمٍ أو فقدِ بعض آلاتِ الجسمِ؛ صوتًا كان ذلك أو نارًا أو زَلْزَلَةً أو رَجْفًا. ومما يَدُلُّ على أنه قد يكونُ مَصْعوقًا وهو حَىٌّ غيرُ ميتٍ، قولُ اللهِ عز وجل:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]. يعنى مَغْشِيًّا عليه. ومنه قولُ جَريرِ بنِ عَطِيَّةَ
(2)
:
وهل كان الفَرَزْدَقُ غيرَ قِرْدٍ
…
أصابَتْه الصَّواعِقُ فاسْتَدَارَا
فقد عُلِم أن موسى لم يكنْ حين غُشِى عليه وصَعِق، ميِّتًا؛ لأن اللهَ جلّ ثناؤه قد أخْبَر عنه أنه لمَّا أفاق قال:{تُبْتُ إِلَيْكَ} . ولا شَبَّه جَريرٌ الفَرَزْدقَ وهو حىٌّ بالقِرْدِ ميتًا، ولكن معنى ذلك ما وصَفْنا.
ويعنى بقولِه: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} : وأنتم تَنظُرون إلى الصاعقةِ [التى أصابَتْكم. يقولُ: أخَذَتْكم الصاعقةُ عِيانًا]
(3)
جَهارًا وأنتم تَنْظُرون إليها
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} .
يعنى بقولِه: {بَعَثْنَاكُمْ} : أحْيَيْناكم.
وأصلُ البعثِ إثارةُ الشئِ مِن مَحَلِّه. ومنه قيل: بعَث فلانٌ راحلتَه، إذا أثارها مِن مَبْرَكِها لِتسيرَ
(5)
، كما قال الشاعر
(6)
:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
ديوانه 2/ 887.
(3)
سقط من: ر.
(4)
إلى هنا ينتهى الخرم بالنسخة ص والمشار إلى بدايته في ص 684.
(5)
في ر، م:"للسير".
(6)
هو النابغة الذبيانى، والبيت في ديوانه ص 251.
فأبْعَثُها وَهِيَّ صَنِيعُ
(1)
حَوْلٍ
…
كرُكْنِ الرَّعْنِ ذِعْلِبَةً وَقاحَا
والرَّعْنُ: مُنْقَطعُ أنفِ الجبلِ، والذِّعْلِبَةُ: الخفيفةُ، والوَقاحُ: الشديدةُ الحافرِ أو الخُفِّ. ومِن ذلك قيل: بعَثْتُ فلانًا لحاجتي. إذا أقَمْتَه مِن مكانِه الذي هو فيه للتَّوَجُّهِ فيها. ومنه قيل ليومِ القيامةِ: يومُ البعثِ؛ لأنه يومٌ يُثارُ الناسُ فيه مِن قبورِهم لموقفِ الحسابِ.
ويعني بقولِه: {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} : مِن بعدِ
(2)
موتِكم بالصاعقةِ التي أهْلكَتْكم.
وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . يقولُ: فعَلْنا ذلك بكم لِتَشْكروني على ما أَوْلَيْتُكم مِن نعمتِي عليكم
(3)
، بإحْيائي إياكم، [اسْتِيناءً مني لكم]
(4)
، لِتُراجِعوا التوبةَ مِن عظيمِ ذنبِكم، بعدَ إحلالي العقوبةَ بكم بالصاعقةِ التي أحْلَلْتُها بكم، فأماتَتْكم بعظيمِ [خطاياكم التي كانت]
(5)
منكم فيما بينَكم وبينَ ربِّكم.
وهذا القولُ على تأويلِ مَن تأوَّل قولَه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} : ثم أحْيَيْناكم.
وقال آخَرون: معنى قولِه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} . أى: بعَثْناكم أنبياءَ.
حدَّثني بذلك موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ،
(1)
صنيع حول: رعت وعلفت حولا حتى سمنت؛ وصنعة الفرس: حسن القيام عليه، اللسان (ص ن ع).
(2)
سقط من: ص.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
سقط من: ر، وفي م:"استبقاء مني لكم"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"استثناء مني لكم". واستأنيتُ بفلان: لم أعجله، ويقال: استأن في أمرك. أي لا تعجل. اللسان (أ ن ى).
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2:"خطئكم الذي كان"، وفي ر:"خطاياكم الذي كان".
عن السديِّ
(1)
وتأويلُ الكلامِ على ما تأوَّله السديُّ: فأخَذَتْكم الصاعقةُ، ثم أحْيَيْناكم مِن بعدِ موتِكم، وأنتم
(2)
تَنْظُرون إلى إحيائِنا كم
(3)
مِن بعدِ موتِكم، ثم بعَثْناكم أنبياءَ لعلكم تَشْكُرون.
وزعَم السُّديُّ أن ذلك مِن المُقَدَّمِ الذي معناه التأخيرُ، والمُؤَخَّرِ الذي معناه التقديمُ.
حدَّثنا بذلك موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ.
وهذا تأويلٌ يَدُلُّ ظاهرُ التلاوةِ على خلافِه، مع إجماعِ أهلِ التأويلِ على تخطئتِه، فالواجبُ على تأويلِ السديِّ الذي حكَيْناه عنه أن يكونَ معنى قولِه:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : تَشكروني
(4)
على تَصْيِيرى إياكم أنبياءَ.
وكان سببَ قيلِهم لموسى ما أخْبَر اللهُ عنهم أنهم قالوه له مِن قولِهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . ما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ
(5)
، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: لما رجَع موسى إلى قومِه، ورأَى ما هم فيه مِن عبادةِ العِجْلِ، وقال لأخيه وللسامريِّ ما قال، وحرَّق العجلَ وذرَّاه في البحرِ
(6)
اخْتار موسى منهم سبعين رجلًا؛ الخيِّرَ فالخيِّرَ، وقال: انْطَلِقوا إلى اللهِ
(1)
سيأتي بتمامه في ص 695.
(2)
في الأصل: "لعلكم".
(3)
في م: "إحيائنا إياكم".
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
في ر: "مسلمة".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"اليم".
فتُوبوا إليه مما صنَعْتُم، وسَلُوه التوبةَ على مَن ترَكْتُم وراءَكم مِن قومِكم، صوموا وتطهَّروا وطهِّروا ثيابَكم. فخرَج بهم إلى طُورِ سَيْناءَ لميقاتٍ وقَّته له ربُّه، وكان لا يَأْتِيه إلا بإذنٍ منه وعلمٍ، فقال له السبعون -فيما ذُكِر لي- حينَ صنعوا ما أمَرهم به، وخرَجوا للقاءِ ربِّه، قالوا: يا موسى، اطْلُبْ لنا إلى ربِّك نَسْمَعْ كلامَ ربِّنا. فقال: أفْعَلُ. فلما دنا موسى مِن الجبلِ وقَع عليه [عمودُ الغَمامِ]
(1)
حتى تغَشَّى الجبلَ كلَّه، ودنا موسى فدخَل فيه، وقال للقومِ: ادْنُوا. وكان موسى إذا كلَّمه
(2)
وقَع على جَبهتِه نورٌ ساطعٌ لا يَسْتطيعُ أحدٌ مِن بني آدمَ أن يَنْظُرَ إليه، فضُرِب دونَه بالحجابِ
(3)
، ودنا القومُ حتى إذا دخَلوا في الغَمامِ وقَعوا سُجودًا، فسمِعوه وهو يُكَلِّمُ موسى يَأْمُرُه ويَنْهاه: افْعَل ولا تَفْعَلْ. فلما فرَغ إليه
(4)
مِن أمرِه انْكَشَف
(5)
عن موسى الغَمامُ، فأقبل إليهم فقالوا لموسى:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . فأَخذَتْهم الرجفةُ، وهي الصاعقةُ، فماتوا جميعًا، وقام موسى يُناشِدُ ربَّه ويَدْعُوه ويَرْغَبُ إليه ويقولُ:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155]. قد سَفِهوا، أفتُهْلِكُ مَن ورائي مِن بني إسرائيلَ [بما فعَل]
(6)
السُّفهاءُ منا؟ -أى: إن هذا لهم هَلاكٌ- اخْتَرْتُ منهم سبعين رجلًا، الخيِّرَ فالخيِّرَ، أَرْجِعُ إليهم وليس معي منهم رجلٌ واحدٌ، فما الذي يُصَدِّقوني به أو يَأْمَنوني عليه بعدَ هذا؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]. فلم يَزَلْ موسى يُناشِدُ ربَّه [ويسْألُه]
(7)
(1)
في ص: "عمود غمام"، وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"الغمام".
(2)
بعده في م: "ربه".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحجاب".
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
في م: "وانكشف".
(6)
في م: "بما تفعل". وفي ت 1: "مما يفعل"، وفي ت 2:"بما تفعل".
(7)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
ويَطْلُبُ إليه، حتى ردَّ إليهم
(1)
أرْواحَهم، وطلَب إليه التوبةَ لبني إسرائيلَ مِن عبادةِ العِجْلِ، فقال: لا، إلا أن يَقْتُلوا أنفسَهم
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ بنُ نصرٍ، عن السديِّ: لما تابَت بنو إسرائيلَ مِن عبادةِ العِجْلِ، وتاب اللهُ عليهم بقتلِ بعضِهم بعضًا كما أمَرَهم به، أمَر اللهُ تعالى موسى أن يَأْتِيَه في ناسٍ مِن بني إسرائيلَ يَعْتَذِرون إليه مِن عبادةِ العِجْلِ، ووعَدَهم موْعِدًا، فاخْتار موسى مِن قومِه سبعين رجلًا على عَيْنِه، ثم ذهَب بهم ليَعْتَذِروا، فلما أتَوْا ذلك المكانَ قالُوا:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . فإنك قد كلَّمْتَه فأرِناه، فأخَذَتْهم الصاعقةُ فماتوا، فقام موسى يَبْكِي ويَدْعُو اللهَ ويقولُ: ربِّ ماذا أقولُ لبني إسرائيلَ إذا أتَيْتُهم وقد أهْلَكْتَ خِيارَهم؟ {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} . فأوْحَى اللهُ إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممَّن اتَّخَذ العِجْلَ. فذلك حينَ يقولُ موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [إلى قَولِه]
(3)
(4)
[الأعراف: 155، 156]. وذلك قولُه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} . ثم إن اللهَ أحْياهم فقاموا وعاشوا رجلًا رجلًا
(5)
، يَنْظُرُ بعضُهم إلى بعضٍ كيف يَحْيَوْنَ، فقالوا: يا موسى أنت تَدْعُو اللهَ فلا تَسْألُه
(6)
شيئًا إلا أعْطاك، فادْعُه يَجْعَلْنا
(1)
في ص: "إليه".
(2)
تقدم تخريجه في ص 684.
(3)
زيادة من تاريخ الطبري.
(4)
بعده في تاريخ الطبري: "يقول: تبنا إليك".
(5)
سقط من: ص.
(6)
في ص: "تطلب".
أنبِياءَ، فدعا اللهَ فجعَلهم أنبياءَ، فذلك قولُه:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} . ولكنه قدَّم حرفًا وأخَّر حرفًا
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: قال لهم موسى -لما رجَع مِن عندِ ربِّه بالألواحِ قد كُتِب فيها التوراةُ، فوجَدَهم يَعْبُدون العِجْلَ، فأمَرَهم بقتلِ أنفسِهم ففعَلوا، فتاب اللهُ عليهم
(2)
-: إن هذه الألواحَ فيها كتابُ اللهِ، فيه أمرُه الذي أمَرَكم به
(3)
، ونَهْيُه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومَن يَأْخُذُه بقولِك أنت! لا واللهِ حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً، حتى يَطْلُعَ اللهُ إلينا
(4)
فيقولَ: هذا كتابي فخُذُوه، فما له لا يُكَلِّمُنا كما كَلَّمك
(5)
أنت يا موسى، فيقولُ: هذا كتابي فخُذوه؟ وقرَأ قولَ اللهِ تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . قال: فجاءت غَضْبةٌ مِن اللهِ، فجاءَتْهم صاعقةٌ بعدَ التوبةِ، فصَعَقَتهم فماتوا أجْمَعُون. قال: ثم أحْياهم اللهُ مِن بعدِ موتِهم. وقرَأ قولَ اللهِ تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . فقال لهم موسى: خُذوا كتابَ اللهِ. فقالوا: لا. فقال: أيُّ شيءٍ أصابَكم؟ قالوا: أصابنا أنَّا مِتنا ثم حَيِينا. قال: خُذوا كتابَ اللهِ. فقالوا: لا. قال: فبعَث اللهُ ملائكةً فنَتَقتِ الجبلَ فوقَهم
(6)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن
قَتادةَ في قولِه: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 428، 429 عن موسى بن هارون به عن السدي بإسناده.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فقال".
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"علينا".
(5)
سقط من: ص، م.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 133 عن ابن زيد.
مَوْتِكُمْ}. قال: أخَذَتْهم الصاعقةُ، ثم بعَثهم اللهُ ليُكْمِلوا بقيةَ آجالِهم
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ ابنِ أنسٍ في قولِه:{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} . قال: هم السبعون الذين اخْتارَهم موسى فساروا معه. قال: فسمِعوا كلامًا، فقالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . قال: فسمِعوا صوتًا فصَعِقوا. يقولُ: ماتوا
(2)
. فذلك قولُه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} . فبُعِثوا مِن بعدِ موتِهم؛ لأن موتَهم ذاك كان عقوبةً لهم، فبُعِثوا لبقيةِ آجالِهم
(3)
.
فهذا ما رُوِى في السببِ الذي مِن أجلِه قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} .
ولا خبرَ عندَنا بصحةِ شيءٍ مما قاله مَن ذكَرْنا قولَه في سببِ قِيلِهم ذلك لموسى تقومُ به حجةٌ [فيُسَلَّمَ له]
(4)
، وجائزٌ أن يكونَ ذلك بعضَ ما قالوه، فإذ كان لا خبرَ بذلك تقومُ به حُجةٌ، فالصوابُ مِن القوِل فيه أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذكرُه قد أخْبَر عن قومِ موسى أنهم قالوا له: {يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} . كما أخْبَر عنهم أنهم قالوه، وإنما أخْبَر اللهُ بذلك عنهم الذين خُوطِبوا بهذه الآياتِ تَوْبيخًا
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 46. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 112 (543) عن الحسن بن يحيى به.
(2)
بعده في الأصل: "قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}. قال: أخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله ليكملوا بقية آجالهم. . . حدَّثنا إسحاق، قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}. قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً}. فصعقوا. يقول: ماتوا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 112 (539، 544) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
في م: "فتسلم لهم".
لهم على كفرِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، [وقد]
(1)
قامَت حجَّتُه على مَن احتَجَّ به عليه، ولا حاجةَ لمَن انْتَهَت إليه إلى معرفةِ السببِ الداعي كان
(2)
لهم إلى قيلِ ذلك، وقد قال الذين أخْبَرنا عنهم الأقوالَ التي ذكَرْناها، وجائزٌ أن يكونَ بعضُها حقًّا كما قالوا.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} .
قال أبو جعفرٍ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} . عطفٌ على قولِه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} . فتأويلُ الآيةِ: ثم بعَثْناكم مِن بعدِ موتِكم، وظلَّلنا عليكم الغَمامَ -وعدَّد عليهم سائرَ ما أنْعَم به عليهم- لعلكم تَشْكُرون.
والغَمامُ جماعُ غَمامةٍ، كما السَّحابُ جماعُ سَحابةٍ، والغَمامُ هو ما غَمَّ السماءَ فألْبَسَها، مِن سَحابٍ وقَتَامٍ، وغيرِ ذلك مما يَسْتُرُها عن أعينِ الناظرين، وكلُّ مغطًّى [فإن العربَ]
(3)
تُسَمِّيه مَغْمومًا.
وقد قيل: إن الغَمامَ التي ظلّلها اللهُ على بني إسرائيلَ لم تَكنْ
(4)
سَحابًا.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ قولَه:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} . قال: ليس بالسَّحابِ
(5)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ،
(1)
في الأصل، ص، ر:"فقد".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص: "فالعرب".
(4)
في الأصل، ر:"يكن".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 134 عن الثوري به.
عن مُجاهِدٍ قولَه: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} . قال: ليس بالسَّحابِ
(1)
، هو الغَمامُ الذى يَأْتى اللهُ فيه يومَ القيامةِ، لم يكنْ إلا لهم
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللهِ جلَّ وعزَّ:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} . قال: هو بمنزلةِ السَّحابِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسين، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} . قال: غَمامٌ أبْرَدُ مِن هذا وأطيبُ، وهو الذى يَأْتى اللهُ جلَّ وعزَّ فيه يومَ القيامةِ. في قولِه: {فِي ظُلَلٍ
(3)
مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. وهو الذى جاءَت فيه الملائكةُ يومَ بدرٍ. قال ابنُ عباسٍ: وكان معهم في التِّيهِ
(4)
.
وإذ كان معنى الغَمامِ ما وصَفْنا، مما غمَّ السماءَ مِن شيءٍ فغطَّى وجهَها عن الناظرِ إليها، فليس الذى ظلَّله اللهُ على بني إسرائيلَ فوصَفه بأنَّه كان غَمامًا، بأوْلَى بوصفِه إياه بذلك أن يكونَ سَحابًا، منه بأن يكونَ غيرَ ذلك مما ألْبَس وجهَ السماءِ مِن شيءٍ.
وقد قيل: إنه ما ابيضَّ مِن السَّحابِ
(5)
.
(1)
بعده في ص: "وبإسناده عن مجاهد قال ليس بالسحاب".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 113 (549) من طريق أبي حذيفة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 70 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(3)
في الأصل: "ظل".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 134 عن الحسين به. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 113 (550) بإسناده عن ابن جريج، قال: قال آخرون: هو غمام أبرد من هذا وأطيب.
(5)
بعده في الأصل طمس مقداره ست كلمات.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ المنِّ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنى به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} . قال؛ المَنُّ صَمْغةٌ
(1)
.
وحدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} . يقولُ: كان المنُّ يَنْزِلُ عليهم مثلَ الثلجِ
(2)
.
وقال آخَرون: هو شَرابٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، قال: المنُّ شرابٌ كان يَنْزِلُ عليهم مثل العسلِ، فيَمْزُجونه بالماءِ ثم يَشْرَبونه
(3)
.
وقال آخَرون: المنُّ عسلٌ.
(1)
تفسير مجاهد ص 203، ومن طريقه عبد بن حميد والفريابى، كما في تغليق التعليق 4/ 173.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 114 (553) من طريق سفيان، عن ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 70 إلى وكيع.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 46. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 114 (556) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، مطولا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 115 (558) من طريق ابن أبى جعفر به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: المنُّ عسلٌ كان يَنْزِلُ لهم مِن السماءِ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا إسرائيلُ، عن جابرٍ، عن عامرٍ، قال: عَسلُكم هذا جزءٌ مِن سبعين جزءًا مِن المنِّ
(2)
.
وقال آخَرون: المنُّ الخبزُ
(3)
الرُّقَاقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثنى عبدُ الصمدِ، قال: سمِعْتُ وهبًا، وسُئِل ما المَنُّ؟ قال: خبزُ الرُّقاقِ، مثلُ الذُّرَةِ، أو
(4)
مثلُ النَّقِىِّ
(5)
.
وقال آخَرون: المنُّ الزَّنْجبيلُ
(6)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ: المنُّ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 135. عن ابن زيد.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 135. عن المصنف.
(3)
في م: "خبز".
(4)
في م، ت 2:"و".
(5)
النقى: هو الدقيق الحُوَّارى، وهو الذى يُنَقَّى من لُباب البُرّ. ينظر تاج العروس (ح و ر).
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 115 (557) من طريق إسماعيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 70 إلى عبد بن حميد. وسيأتى بتمامه في ص 709.
(6)
في م: "الترنجبين". وسيأتى التعليق عليها.
كان يَسْقُطُ على [الشجرِ الزنْجبيلِ]
(1)
.
وقال آخَرون: المنُّ هو الذى يَسْقُطُ على الشجرِ الذى يَأْكُلُه الناسُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا الحِمَّانىُّ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن مُجالِدٍ، عن عامرٍ في قولِه:{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} . قال: المنُّ الذى يَقَعُ على الشجرِ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرىُّ، قال: حدَّثنا شَريكٌ، عن مُجالدٍ، عن عامرٍ، قال: المنُّ هذا الذى يَقَعُ على الشجرِ.
وحُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{الْمَنَّ} . قال: المنُّ الذى يَسْقُطُ مِن السماءِ على الشجرِ فيأْكُلُه الناسُ.
حدَّثنى القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: كان المنُّ يَنْزِلُ على شْجرِهم، فيَغْدُون إليه
(2)
فيَأْكُلون منه ما شاءوا
(3)
.
(1)
في م: "شجر الترنجبين"، وفى تاريخ المصنف:"الشجر الترنجبين"، والمثبت موافق لما في تفسير ابن أبي حاتم، وتفسير ابن كثير 1/ 134.
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 430 عن موسى بن هارون به عن السدى بإسناده، مطولا.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 114 (555) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به. وسيأتى مطولا في ص 707، 708.
(2)
في ص، م:"عليه".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 114 (552) من طريق على بن أبى طلحة، عن ابن عباس، =
[وقد قيل: إن المنَّ التَّرنْجَبينُ]
(1)
.
وقال بعضُهم: المنُّ: الذى يَسْقُطُ على الثُّمامِ
(2)
والعُشَرِ
(3)
، وهو حُلْوٌ كالعسلِ، وإياه عَنَى الأعْشَى ميمونُ بنُ قيسٍ بقولِه
(4)
:
لو أُطعِموا المنَّ والسَّلْوَى مكانَهمُ
…
ما أبْصَرَ الناسُ طعْمًا فيهمُ نَجَعَا
وتَظاهَرَت الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكَمْأةُ مِنَ المَنِّ، وماؤُها شِفاءٌ للعينِ"
(5)
.
وقال بعضُهم: المنُّ شرابٌ حُلْوٌ كانوا يَطْبُخونه فيَشْرَبونه.
وأما أُميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ الثقفىُّ فإنه جعَله في شِعْرِه عسلًا، فقال يَصِفُ أمرَهم في التِّيهِ وما رُزِقوا فيه
(6)
:
فرَأَى اللهُ أنهم بمَضِيعٍ
…
لا بذى مَزْرَعٍ ولا مَثْمُورا
(7)
= وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 70 إلى ابن المنذر.
(1)
في ر: "وقيل: المن عسل".
والترنجبين: طل يقع من السماء، ندى شبيه بالعسل، جامد متحبب، وتأويله عسل الندى. الجامع لمفردات الأدوية والأغذية 1/ 137.
(2)
الثمام: نبت معروف في البادية، ولا تجهده النعم إلا في الجدوبة. اللسان (ث م م).
(3)
العشر: شجر له صمغ وفيه حراق مثل القطن يقتدح به. اللسان (ع ش ر).
(4)
زيادة من: م، ت 1، ت 2، ت 3. والبيت في ديوان الأعشى ص 109.
(5)
أخرجه البخارى (5708)، ومسلم (2049)، وغيرهما من حديث سعيد بن زيد. وينظر مسند الطيالسى (2519)، وتفسير ابن كثير، تحقيق أبى إسحاق الحوينى 2/ 405 - 416.
(6)
ديوان أمية ص 44.
(7)
المضيع والمِضيعَة: الاطراح والهوان. اللسان (ض ى ع).
فسَنَاها
(1)
عليهمُ غادياتٍ
…
ومرَى مُزْنَهم خَلايَا وخُورَا
(2)
عسلًا ناطفًا وماءً فُرَاتًا
…
وحَلِيبًا ذا بَهْجةٍ مُرْمُورَا
(3)
فجعَل المنَّ الذى كان يَنْزِلُ عليهم عسلًا ناطِفًا، والناطفُ هو القاطرُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَالسَّلْوَى} .
و"السَّلْوى" اسمُ طائرٍ يُشْبِهُ السُّمَانَى، واحدُه
(4)
وجِماعُه بلفظٍ واحدٍ، وكذلك السُّمَانَى لفظُ جِماعِها وواحدِها سَواءٌ. وقد قيل: إن واحدَ السَّلْوَى سَلْواةٌ.
ذكرُ مَن قال ما قلنا في ذلك
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: أخبرنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ، [فى خبرٍ ذكَره عن أبى مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مرةَ الهَمْدانىِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم]
(5)
: السَّلْوَى طيرٌ يُشْبِهُ
(1)
في م: "فعناها"، وهى رواية، وفى الديوان:"فعفاها". وسناها: سقاها. اللسان (س ن و).
(2)
غاديات جمع غادية: وهى السحابة التى تنشأ غدوة، ومرى الناقة مريا: مسح ضرعها للدرة. والخلايا: جمع خلية، وهى الناقة التى خليت للحلب. والخور: الإبل الحمر إلى الغبرة، رقيقات الجلود طوال الأدبار، ولها شعر ينفذ، ووبرها أطول من سائر الوبر. ينظر اللسان (غ د و، م ر ى، خ ل ى، خ و ر).
(3)
في ص: "مزمورا"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، والديوان:"ممرورا". وبعده في م: "الممرور الصافى من اللبن". وبعده في ت 1، ت 2، ت 3:"المرمور الصافى من اللبن"، وفى حاشية ص:"المرمور الصافى من اللبن". وفى القاموس مادة (مرمر): المُرمورة بالضم الجارية الناعمة الرِّجراجة.
(4)
في الأصل، م:"واحدة".
(5)
سقط من الأصل، ص.
السُّمَانَى
(1)
وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ، قال: كان طيرًا أكبرَ مِن السُّمانَى.
وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ، قال: السَّلْوَى طيرٌ
(2)
كانت تَحْشُرُها عليهم الريحُ الجَنوبُ
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال: السَّلْوَى طائرٌ
(4)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ: السَّلْوَى طائرٌ
(5)
.
وحُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: السَّلْوَى هو السُّمَانَى
(6)
.
حدَّثنى أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: أخْبَرَنا أبو أحمدَ، قال: أخبرنا شَريكٌ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 138 عن المصنف به. وسيأتى مطولا في ص 707، 708.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3:"طائر".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 46. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 115 (562) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، مطولا.
(4)
تفسير مجاهد ص 203.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"طير".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 115 (560) من طريق على بن أبى طلحة، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن أبى حاتم أيضا (559) من طريق جهضم، عن ابن عباس. وينظر تفسير ابن كثير، تحقيق أبى إسحاق الحوينى 2/ 416، 417.
مُجالِدٍ، عن عامرٍ، قال: السَّلْوَى السُّمانَى.
[حدَّثنى المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن مُجالِدٍ، عن عامرٍ، قال: السلوى السُّمانَى]
(1)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ ابنِ أنسٍ: السلوى كان طيرًا يَأْتِيهم مثلَ السُّمانَى
(2)
.
وحدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: السَّلْوَى طيرٌ.
وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثنى عبدُ الصمدِ، قال: سمِعْتُ وهبًا وسُئِل: ما السَّلْوَى؟ فقال: طيرٌ سَمِينٌ مثلُ الحَمامِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا قُرَّةُ، عن الضحاكِ، قال: السُّمانَى هو السلوى
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: فإن قال قائلٌ: وما كان سببُ تَظْليلِ اللهِ الغَمامَ وإنزالِه المنَّ والسلوى على هؤلاء القومِ؟
قيل: قد اخْتَلَف أهلُ العلمِ في ذلك، ونحن ذاكِرون ما حضَرَنا منه.
(1)
سقط من: الأصل، ص.
والأثر ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 115 عقب الأثر (561) معلقا.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 115 عقب الأثر (561) من طريق ابن أبى جعفر به.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 116 (563) من طريق إسماعيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 71 إلى عبد بن حميد.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 71 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.
فحدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ: لمّا تاب اللهُ على قومِ
(1)
موسى وأحْيَا السبعين الذين اخْتارَهم موسى بعدَ ما أماتهم، أمَرهم اللهُ بالسيرِ
(2)
إلى أَرِيحا، وهى أرضُ بيتِ المقدسِ، فساروا حتى إذا كانوا قريبًا منها
(3)
بعَث موسى اثنَىْ عشَرَ نَقيبًا، فكان مِن أمرِهم وأمرِ الجبَّارِين وأمْرِ قومِ موسى ما قد قصَّ اللهُ في كتابِه، فقال قومُ موسى لموسى:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . فغضِب موسى فدعا عليهم، فقال:{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، فكانت عَجْلةً من موسى عجِلَها، فقال اللهُ:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 25، 26]. فلما ضُرِب عليهم التيهُ ندِم موسى، وأتاه قومُه الذين كانوا معه يُطيعونه فقالوا له: ما صنَعْتَ بنا يا موسى؟ فلما ندِم أوْحَى اللهُ إليه: [لا تَأْسَ]
(4)
على القومِ الفاسِقِين -أى: لا تَحْزَنْ على القومِ الذين سمَّيْتُهم فاسِقِين- فلم يَحْزَنْ. فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بماءٍ ههنا؟ أين الطعامُ؟ فأنْزَل اللهُ عليهم المنَّ، فكان يَسْقُطُ على [الشجرِ الزَّنْجبيلِ]
(5)
، والسَّلْوى وهو طيرٌ يُشْبِهُ السُّمانَى، فكان يَأْتى أحدُهم فيَنْظُرُ إلى الطيرِ فإن كان سَمينًا ذبَحه وإلا أرْسَله، فإذا سمِن أتاه. فقالوا: هذا الطعامُ، فأين الشرابُ؟ فأُمِر موسى، فضرَب بعصاه الحجرَ فانْفَجَرت منه اثنتا عشْرةَ عينًا، فشرِب كلُّ سِبْطٍ مِن عينٍ. فقالوا: هذا الطعامُ والشرابُ، فأين الظلُّ؟ فظلَّل عليهم الغَمامَ. فقلوا: هذا الظلُّ، فأين اللِّباسُ؟ فكانت ثيابُهم تَطولُ
(1)
سقط من: ص.
(2)
في م: "بالمسير".
(3)
في ص، ونسخة من تاريخ المصنف:"منهم".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن لا تأس".
(5)
في م، وتاريخ المصنف:"شجر الترنجبين". وينظر ما تقدم في ص 702.
معهم كما تَطولُ الصِّبْيانُ، ولا يَتَخَرَّقُ لهم ثوبٌ، فذلك قولُه:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} . وقولُه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: لما تاب اللهُ على بنى إسرائيلَ وأمَر موسى أن يَرْفعَ عنهم السيفَ مِن عبادةِ العجلِ، أمَر موسى أن يَسِيرَ
(2)
بهم إلى الأرضِ المقدسةِ، وقال: إنى قد كتَبْتُها لكم دارًا وقَرارًا ومَنْزِلًا، فاخْرُجْ إليها وجاهِدْ مَن فيها مِن العدوِّ، فإنى ناصرُكم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرضِ المقدَّسةِ بأمرِ اللهِ، حتى إذا نزَل التِّيهَ بينَ مصرَ والشامِ، وهى بلادٌ ليس فيها خَمَرٌ
(3)
ولا ظلٌّ، دعا موسى ربَّه حين آذاهم الحرُّ، فظلَّل عليهم بالغَمامِ، ودعا لهم بالرزقِ، فأنْزَل عليهم المنَّ والسَّلْوَى.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع [بنِ أنسٍ، وحُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع]
(4)
قولَه: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} . قال. ظلَّل عليهم الغَمامَ في التِّيهِ، [ما هو في قدرِ]
(5)
خمسةِ فَراسِخَ أو ستةٍ، كلما أصْبَحوا ساروا غادِين، فأمْسَوا فإذا هم في مكانِهم الذى ارْتَحَلوا منه، فكانوا كذلك حتى مرَّت أربعون سنةً. قال: وهم في ذلك يَنْزِلُ عليهم المنُّ والسلوى، ولا تَبْلَى ثيابُهم، ومعهم حجرٌ مِن حجارةِ الطُّورِ يَحْمِلونه معهم، فإذا
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 429، 430 عن موسى بن هارون به عن السدى بإسناده.
(2)
في ص: "يسبق".
(3)
الخمر بالتحريك: ما واراك من شجر وغيره، كالجبل وغيره. التاج (خ م ر).
(4)
سقط من: الأصل، ص.
(5)
في ص: "فإذا هو في قدر"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"تاهوا في".
نزَلوا ضرَبه موسى بعصاه، فانْفَجَرَتْ منه اثنتا عشْرةَ عينًا.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثنى عبدُ الصمدِ، قال: سمِعْتُ وهبًا يقولُ: إن بنى إسرائيلَ لما حرَّم اللهُ عليهم أن يَدْخُلوا الأرضَ المُقَدَّسةَ أربعين سنةً يَتيهون في الأرضِ، شكَوْا إلى موسى فقالوا: ما نَأْكُلُ؟ فقال: إن اللهَ سيَأْتِيكم بما تَأْكُلون. قالوا: مِن أين لنا إلا أن يمْطِرَ علينا خُبزًا! قال: إن اللهَ عز وجل سيُنْزِلُ عليكم خُبزًا مَخْبوزًا. فكان يُنْزِلُ عليهم المنَّ -سُئِل وهبٌ: ما المنُّ؟ قال: خُبزُ الرُّقاقِ مثلُ الذرةِ أو مثلُ النَّقيِّ- قالوا: وما نَأْتدِمُ؟ وهل بُدٌّ لنا مِن لحمٍ؟ قال: فإن اللهَ يَأْتِيكم به. فقالوا: مِن أين لنا إلا أن تَأتِيَنا به الريحُ! قال: فإن [اللهَ يأتيكم]
(1)
به. فكانت الريحُ تَأْتِيهم بالسَّلْوَى -فسُئِل وهبٌ: ما السلوى؟ قال: طيرٌ سَمِينٌ مثلُ الحَمامِ، كان يَأْتِيهم فيَأْخُذون منه مِن سبتٍ إلى سبتٍ- قالوا: فما نَلْبَسُ؟ قال: لا يَخْلَقُ لأحدِكم ثوبٌ أربعين سنةً. قالوا: فما نَحْتَذِى؟ قال: لا يَنْقَطِعُ لأحدِكم شِسْعٌ
(2)
أربعين سنةً. قالوا: فإنه يُولدُ فينا أولادٌ، فما نَكْسُوهم؟ قال: ثوبُ
(3)
الصغيرِ يَشِبُّ معه. قالوا: فمِن أين لنا الماءُ؟ قال: يَأْتِيكم به اللهُ. قالوا: فمِن أين إلا أن يَخْرُجَ لنا مِن الحجرِ! فأمَر اللهُ موسى أن يَضْرِبَ بعصاه الحجرَ. قالوا: فبمَ نُبْصِرُ إذ تَغْشانا الظُّلْمةُ؟ فضرَب لهم عمودًا
(4)
مِن نورٍ في وسَطِ عسكرِهم أضاء عسكرَهم كلَّه. قالوا: فبمَ نَسْتَظِلُّ، فإن الشمسَ
(5)
علينا
(1)
غير واضحة في الأصل، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الريح تأتيكم".
(2)
الشسع: سير يمسك النعل بأصابع القدم. الوسيط (ش س ع).
(3)
في ص، ر، ت 1، ت 2:"الثوب".
(4)
في م: "عمود".
(5)
بعده في ص: "قال".
شديدهٌّ؟ قال: يُظِلُّكم اللهُ بالغَمامِ
(1)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ. فذكَر نحوَ حديثِ موسى، عن عمرِو بنِ حمادٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال ابنُ عباسٍ: خُلِق لهم في التِّيهِ ثيابٌ لا تَخْلَقُ ولا تَدْرَنُ.
قال: وقال ابنُ جُرَيْجٍ: إن أخَذ الرجلُ مِن المَنِّ والسَّلْوَى فوقَ طعامِ يومٍ فسَد، إلا أنهم كانوا يَأْخُذُون في يومِ الجمعةِ طعامَ يومِ السبتِ فلا يُصْبِحُ فاسدًا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِ اللهِ جلّ ثناؤُه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: وهذا مما اسْتُغْنِى بدَلالةِ ظاهرِه [عن ذكرِ]
(4)
ما تُرِك منه، وذلك أن تأويلَ الآيةِ: وظلَّلْنا عليكم الغَمامَ وأنْزَلْنا عليكم المنَّ والسَّلْوى، وقلْنا لكم: كلوا مِن طيباتِ ما رزَقْناكم. فتُرِك ذكرُ قولِه: وقلنا لكم. لِما بيَّنّا مِن دَلالةِ الظاهرِ في الخطابِ عليه.
وعنَى جلَّ ذكرُه بقولِه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} : كلوا مِن شَهِيّاتِ
(5)
رِزْقِنا
(1)
تقدم طرف منه في ص 701، 706.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن أسباط عن السدى".
(3)
ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 139 عن الحسين به.
وبعده في الأصل: "تم الجزء الثانى والحمد لله حمدًا كثيرًا [. . .] وصلى الله على [. . . .] وأهله الطيبين وسلم تسليما. يتلوه الجزء الثالث القول في تأويل قول الله جلَّ ثناؤه كلوا من طيبات ما رزقناكم. قال أبو جعفر".
(4)
في م: "على".
(5)
في م: "مشتهيات".
الذى رزَقْناكموه.
وقد قيل: عنَى بقولِه: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} : مِن حلالِه الذى أبَحْناه لكم فجعَلْناه لكم رزقًا.
والأولُ مِن القولَيْن أولَى بالتأويلِ؛ لأنه وصْفُ ما كان القومُ فيه مِن هَنِئَ العيشِ الذى أعْطاهم، فوصْفُ ذلك بالطَّيِّب الذى هو بمعنى اللَّذَّةِ أحْرَى مِن وصفِه بأنه حلالٌ مُباحٌ.
و {مَا} التى
(1)
مع: {رَزَقْنَاكُمْ} بمعنى الذى، كأنه قال
(2)
: كلوا مِن طيباتِ الرزقِ الذى رزَقْناكموه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} .
وهذا أيضًا مِن الذى اسْتُغْنى بدَلالةِ ظاهرِه على ما تُرِك منه، وذلك أن معنى الكلامِ: كلوا مِن طيباتِ ما رزَقْناكم، فخالَفوا ما أمَرْناهم به، وعصَوا ربَّهم، ثم رسولَنا إليهم، وما ظلَمونا. فاكْتُفِى بما أُظهِر عما تُرِك.
وقولُه: {وَمَا ظَلَمُونَا} . يقولُ: وما ظلَمونا بفعلِهم ذلك ومعصيتِهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
ويعنى بقولِه: {وَمَا ظَلَمُونَا} . وما وضَعوا فعلَهم ذلك وعِصْيانَهم إيانا موضعَ مَضَرَّةٍ علينا، ومَنْقَصةٍ لنا، [ولكنهم وضَعوه مِن أنفسِهم موضعَ مَضَرَّةٍ عليها ومَنْقَصةٍ لها]
(3)
.
(1)
في الأصل: "الذى".
(2)
في ص، م:"قيل".
(3)
سقط من: الأصل.
كما حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بشرٌ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . قال: يَضُرُّون
(1)
.
وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أن أصلَ الظلمِ وضعُ الشئِ في غيرِ موضعِه، بما فيه الكِفايةُ، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه
(2)
.
وكذلك ربُّنا جلَّ ثناؤُه لا تَضُرُّه معصيةُ عاصٍ، ولا يَتَحَيَّفُ خَزائنَه ظلمُ ظالمٍ، ولا تَنْفَعُه طاعةُ مُطيعٍ، ولا يَزِيدُ في مُلْكِه عدلُ عادلٍ، بل نفسَه يَظْلِمُ الظالمُ، وحظَّها يَبْخَسُ العاصى، وإياها يَنْفَعُ الطائعُ
(3)
، وحظَّها يُصِيبُ العادلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} .
والقريةُ التى أمَرَهم اللهُ أن يَدْخُلوها فيَأْكُلوا منها رَغَدًا حيث شاءوا -فيما ذُكِر لنا- بيتُ المَقْدِس.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} . قال: بيتُ المقدسِ
(4)
.
وحدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ: {وَإِذْ
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 116 (567) عن أبى زرعة، عن المنجاب به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 71 إلى أبى الشيخ.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 559، 560.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المطيع".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 46، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 116 (569) عن الحسن بن يحيى به.
قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}: أما القريةُ فبيتُ
(1)
المقدسِ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} : يعنى بيتَ المَقدِسِ
(3)
.
وحدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سألْتُه -يعنى ابنَ زيدٍ- عن قولِه: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا} . قال: هى أَرِيحا، وهى قريبةٌ مِن بيتِ المَقْدِسِ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} .
يعنى بذلك: فكُلوا مِن هذه القريةِ حيث شِئْتُم عيشًا هَنِيئًا واسعًا بغيرِ حِسابٍ.
وقد بيَّنَّا معنى الرَّغَدِ فيما مضَى مِن الكتابِ
(5)
، وذكَرْنا أقوالَ أهلِ التأويلِ فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} .
أما البابُ الذى أُمِروا أن يَدْخُلوه، فإنه قيل: هو بابُ الحِطَّةِ مِن بيتِ المقدسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فقرية بيت".
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 116 عقب الأثر (569) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 116 عقب الأثر (569) من طريق ابن أبى جعفر به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 139.
(5)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كتابنا". وينظرما تقدم في ص 549، 550.
نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . قال: بابُ الحِطَّةِ مِن بابِ إيلِياءِ
(1)
بيتِ المقدسِ
(2)
.
وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ} : أما البابُ فبابٌ مِن أبوابِ بيتِ المقدسِ
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} : فإنه أحدُ أبوابِ بيتِ المقدسِ، وهو يُدْعَى بابَ حِطَّةٍ.
وأما قولُه: {سُجَّدًا} . فإن ابنَ عباسٍ كان يَتأوَّلُه بمعنى الرُّكَّعِ.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: ثنا سُفيانُ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ بنِ عمرٍو، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . قال: رُكَّعًا مِن بابٍ صغيرٍ
(4)
.
حدَّثنى الحسنُ بنُ الزِّبْرِقانِ النَّخَعىُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {وَادْخُلُوا الْبَابَ
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3، وتفسير ابن أبى حاتم "من".
(2)
تفسير مجاهد ص 203، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 117 (574). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 71 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 117 عقب الأثر (574) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.
(4)
سيأتى مطولًا في ص 725، 726.
سُجَّدًا}. قال: أُمِروا أن يَدْخُلوا رُكَّعًا
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وأصلُ السجودِ الانْحِناءُ لمن سُجِد له مُعَظَّمًا بذلك، فكلُّ مُنْحَنٍ لشيءٍ تَعْظيمًا له [وخُشُوعًا]
(2)
فهو له ساجدٌ، ومنه قولُ الشاعرِ
(3)
:
بجَمْعٍ
(4)
تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراتِه
…
تَرَى الأُكْمَ فيه
(5)
سُجَّدًا للحَوافِرِ
(6)
يعنى بقولِه: سُجَّدًا: خاشعةً خاضعةً.
ومِن ذلك قولُ أعْشَى بنى
(7)
قيسِ بنِ ثَعْلَبةَ
(8)
:
يُراوِحُ مِن صلواتِ المَليـ
…
ـكِ طَوْرًا سُجودًا وطَوْرًا جؤَارَا
فلذلك تأوَّل ابنُ عباسٍ قولَه: {سُجَّدًا} : رُكَّعًا؛ لأن الراكعَ مُنْحَنٍ، وإن كان الساجدُ أشدَّ انْحِناءً منه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} .
وتأويلُ قولِه: {حِطَّةٌ} : فِعْلةٌ. مِن قولِ القائلِ: حطَّ اللهُ عنك خَطاياك، فهو
(1)
سيأتى مطولًا في ص 725، 726.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
هو زيد الخيل، والبيت له في المعانى الكبير 2/ 890، والكامل 2/ 201، وغير منسوب في الصناعتين ص 286.
(4)
فى الصناعتين، والكامل:"بجيش".
(5)
في المعانى الكبير، والكامل:"منه".
(6)
البلق: جمع أبلق وبلقاء، وهى الفرس التى يرتفع تحجيلها إلى الفخذين. والحجرات: جمع حَجْرة، وهى الناحية، والأكم جمع أكمة وهى التل. اللسان (ح ج ر، ب ل ق، أ ك م).
(7)
في م: "بن".
(8)
ديوانه ص 53.
يَحُطُّها حِطَّةً. بمنزلةِ الرِّدَّةِ والجِدَّةِ
(1)
والمِدَّةِ، مِن: جدَدْتُ
(2)
ومدَدْتُ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ: {حِطَّةٌ} ؛ فقال بعضُهم بنحوِ الذى قلْنا في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال: قال الحسنُ وقَتادةُ: أى: احْطُطْ عنا خَطايانا
(3)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} : يحطُّ اللهُ بها عنكم ذنبَكم وخطيئتَكم
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال ابنُ عباسٍ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال: يَحُطُّ اللهُ
(5)
عنكم خَطاياكم.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا وَكِيعٌ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} : مَغْفِرةٌ
(6)
.
وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال: تُحَطُّ عنكم خَطاياكم
(7)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحدة".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حددت".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 47. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 119 (584) عن الحسن بن يحيى به.
(4)
في م: "خطاياكم".
(5)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
سيأتى مطولًا في ص 725، 726.
(7)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 118 عقب الأثر (580) من طريق ابن أبى جعفر به.
حدَّثَنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال لى عَطاءٌ في قولِه: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال: سمِعْنا أنه يَحُطُّ عنهم خَطاياهم
(1)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك: قولوا: لا إلهَ إلا اللهُ. كأنهم وجَّهوا تأويلَه: قولوا الذى يَحُطُّ عنكم خَطاياكم، وهو قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المثنى وسعدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحَكَمِ، قالا: حدَّثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: حدَّثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال: قولوا: لا إلهَ إلا اللهُ
(2)
.
وقال آخَرون بمثلِ معنى قولِ عِكْرمةَ، إلا أنهم جعَلوا القولَ الذى أُمِروا بقيلِه الاسْتغفارَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ الزِّبْرِقانِ، قال: حدَّثنا أبو أُسامةَ، عن سُفيانَ، عن الأعمشِ،
(1)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 118 عقب الأثر (580) معلقا.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 118 (582) من طريق حفص به. وأخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (205) من طريق حفص، عن الحكم، عن عكرمة، عن ابن عباس، مطولا.
وأخرجه سلمة بن شبيب في زوائده على تفسير عبد الرزاق 1/ 47، والطبرانى في الدعاء (1564) من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة قوله. وإبراهيم بن الحكم ضعيف.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 71 إلى عبد بن حميد. وسيأتى في سورة الأحزاب: 70، وسورة فصلت: 6، 7، 30، وسورة الفتح: 26، وسورة النبأ: 38، وسورة النازعات: 18، وسورة الأعلى:14.
عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال: أُمِرُوا أن يَستَغفِروا
(1)
.
وقال آخَرون نحوَ
(2)
قولِ عِكْرمةَ، إلا أنهم قالوا: القولُ الذى أُمِروا أن يَقُولوه هو أن يَقُولوا: هذا الأمرُ حقٌّ كما قيل لكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بشرٌ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قال. قولوا: هذا الأمرُ حقٌّ كما قيل لكم
(3)
.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في المعنى الذى مِن أجلِه رُفِعَت "الحِطَّةُ"؛ فقال بعضُ نحويِّى أهلِ البصرةِ: رُفِعَت "الحِطًّةُ" بمعنى قولوا: ليكنْ منك
(4)
حِطَّةٌ لذُنوبنا. كما تقولُ للرجلِ: سَمْعُك.
وقال آخَرون منهم: هى كلمةٌ أمَرَهم اللهُ أن يقولوها مرفوعةً، وفرَض عليهم قِيلَها كذلك.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(5)
: رُفِعَت "الحِطَّةُ" بضَميرِ "هذه"، كأنه قال: وقولوا: هذه حطةٌ.
وقال آخَرُ منهم: هى مرفوعةٌ بضَميرٍ معناه الخبرُ، كأنه قال: قولوا: ما هو
(1)
سيأتى مطولًا في ص 725، 726.
(2)
فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"نظير".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 118 (581) عن أبى زرعة، عن منجاب.
(4)
في ص، ر، م، ت 3:"منكم".
(5)
في ص، ر، م:"الكوفيين".
حطةٌ. فتكونُ "حطةٌ" حينَئذٍ خبرًا لـ "ما".
قال أبو جعفرٍ: والذى هو أقربُ عندى في ذلك إلى الصوابِ وأشْبَهُ بظاهرِ الكتابِ، أن يكونَ رفَع {حِطَّةٌ} بنيةِ خبرٍ محذوفٍ قد دلَّ عليه ظاهرُ التِّلاوةِ، وهو: دخولُنا البابَ سجدًا حطةٌ. فكفَى مِن تَكريرِه بهذا اللفظِ ما دل عليه الظاهرُ مِن التنزيلِ، وهو قولُه
(1)
: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . كما قال جلَّ ثناؤُه: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةٌ
(2)
إِلَى رَبِّكُمْ) [الأعراف: 164]. بمعنَى: مَوْعِظتُنا إياهم مَعْذِرةٌ إلى ربِّكما. فكذلك عندى تأويلُ قولِه: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . يعنى بذلك: وإذ قلْنا: ادْخُلُوا هذه القريَةَ وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا، وقولوا: دخولُنا ذلك سُجَّدًا حِطّةٌ لذنوبِنا. وهذا القولُ على نحوِ تأويلِ الربيعِ بنِ أنسٍ وابنِ [جُرَيْجٍ وابنِ]
(3)
زيدٍ، الذى ذكَرْناه آنِفًا.
وأما على تأويلِ قولِ عكرمةَ، فإن الواجب أن تكونَ القراءةُ بالنصبِ في:{حِطَّةٌ} ؛ لأن القومَ إن كانوا أُمِروا أن يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ. أو أن يقولوا: نَسْتَغْفِرُ اللهَ. فقد قيل لهم: قولوا هذا القولَ. فـ"قولوا" حينَئذٍ واقعٌ على الحِطَّةِ؛ لأن الحِطَّةَ على قولِ عكرمةَ هى قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ. وإذا
(4)
كانت هى قولَ: لا إلهَ إلا اللهُ. فالقولُ عليها واقعٌ، كما لو أمَر رجلٌ رجلًا بقولِ الخيرِ، لقال
(5)
له: قل خيرًا. نصبًا، ولم يكنْ صوابًا أن يقولَ له: قل خيرٌ. إلا على اسْتِكْراهٍ شَديدٍ.
(1)
في الأصل: "قولوا".
(2)
سيأتى تعليق المصنف على قراءة الرفع في سورة الأعراف.
(3)
سقط من: ص.
(4)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إذ".
(5)
في م، ت 2:"فقال".
وفى إجماعِ القرأةِ على رفعِ "الحطة" بيانٌ واضحٌ على خلافِ الذى قاله عكرمةُ مِن التأويلِ في قولِه: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} .
وكذلك الواجبُ على التأويلِ الذى روَيْناه عن الحسنِ وقَتادةَ في قولِه: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} . أن تكونَ القراءةُ في {حِطَّةٌ} نَصْبًا؛ لأنَّ مِن شأنِ العربِ إذا وضَعوا المصادرَ مَواضِعَ الأفعالِ، وحذَفوا الأفعالَ، أن يَنْصِبوا المصادرَ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
أُبِيدُوا
(2)
بأَيْدِى عُصْبَةٍ
(3)
وسُيوفُهم
…
على أُمَّهاتِ الهامِ ضربًا شآمِيَا
وكقولِ القائلِ للرجلِ: سمعًا وطاعةً. بمعنى: أسمَعُ
(4)
سمعًا وأُطيعُ
(5)
طاعةً. وكما قال جلَّ ثناؤُه: {مَعَاذَ اللهِ} [يوسف: 23، 79]. بمعنى: نَعوذُ باللهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {نَغْفِرْ لَكُمْ} .
يعنى بقولِه جلّ ثناؤُه: {نَغْفِرْ لَكُمْ} : نَتَغَمَّدْ لكم بالرحمةِ خَطاياكم، ونَسْتُرْها عليكم، فلا نَفْضَحْكم بالعقوبةِ عليها.
وأصلُ الغَفْرِ التغطيةُ والسترُ، فكلُّ ساترٍ شيئًا فهو غافرُه. ولذلك
(6)
قيل للبَيْضةِ مِن الحديدِ التى تُتَّخَذُ جُنَّةً للرأسِ: مِغْفَرٌ؛ لأنَّها تُغَطِّى الرأسَ وتجُنُّه. ومنه غِمْدُ
(1)
هو الفرزدق، والبيت في ديوانه ص 890.
(2)
في الديوان: "أناخوا".
(3)
في الديوان: "طاعة".
(4)
في الأصل، ر، ت 1، ت 2، ت 3:"اسمع".
(5)
في الأصل، ر، ت 1، ت 2، ت 3:"أطع".
(6)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ومن ذلك".
السيفِ، وهو ما [تَغَمَّدَه فواراه]
(1)
، [ومن ذلك]
(2)
قيل لزِئْبِرِ
(3)
الثوبِ: غَفْرةٌ
(4)
. لتغطيتِه الثوبَ
(5)
، وحئولِه
(6)
بينَ الناظرِ والنظرِ إليه
(7)
. ومنه قولُ أوسِ بنِ حُجْرٍ
(8)
:
ألا
(9)
أُعْتِبُ
(10)
ابنَ العَمِّ إن كان جاهلًا
…
وأغْفِرُ عنه الجهلَ إن كان أجْهَلَا
يعنى بقولِه: وأغفرُ عنه الجهلَ: أسْترُ عليه جهلَه بحِلْمى عنه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {خَطَايَاكُمْ} .
والخَطايا جمعُ خَطِيَّةٍ بغيرِ هَمْزٍ، كما المَطايا جمعُ مَطِيَّةٍ، والحَشايَا جمعُ حَشِيَّةٍ، وإنما تُرِك جمعُ الخَطايا بالهمزِ؛ لأنَّ تركَ الهَمْزِ في خَطيةٍ أكثرُ مِن الهمزِ، فجُمِع على
(11)
خَطايَا، على أنَّ
(11)
واحدتَها غيرُ مَهْموزةٍ. ولو كانت الخطايا مَجْموعةً على خَطيئةٍ بالهمزِ لقيل: خَطائى. على مثالِ قبيلةٍ وقَبائِلَ، وصَحيفةٍ وصَحائفَ. وقد تُجْمَعُ خَطيئةٌ بالتاءِ فتُهْمَزُ، فيُقالُ: خَطيئاتٌ.
(1)
في م: "يغمده فيواريه".
(2)
في ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولذلك".
(3)
الزئبر: ما يعلو الثوب الجديد مثل ما يعلو الخز. اللسان (زأبر).
(4)
في م: "غفر".
(5)
في م: "العورة"، وفي ت 1:"العيون"، وفي ت 3:"للعيون".
وبعده خرم في النسخة "ص" إلى ص 672 من الجزء الثاني، أثناء تفسير الآية 146 من سورة البقرة.
(6)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حوله".
(7)
في م: "إليها".
(8)
ديوانه ص 82.
(9)
في م: "فلا".
(10)
أعتبه: أعطاه العتبى ورجع إلى مسرته، وتقول: قد أعتبنى فلان. أى ترك ما كنت أجد عليه من أجله، ورجع إلى ما أرضانى عنه، بعد إسخاطه إياى عليه. اللسان (ع ت ب).
(11)
سقط من: الأصل.
والخَطيئةُ فَعِيلةٌ، مِن: خَطِئ الرجلُ يَخْطَأُ خِطأً. وذلك إذا عدَال عن سبيلِ الحقِّ. ومنه قولُ الشاعرِ
(1)
:
[وإنَّ مُهاجِرَيْن]
(2)
تكَنَّفاه
…
[عبادَ
(3)
اللهِ قد]
(4)
خطِئا وحابا
(5)
يعنى: أضَلَّا الحقَّ وأثِما.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)} .
وتأويلُ ذلك ما رُوِى لنا عن ابنِ عباسٍ، وهو ما حدَّثنا به القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال ابنُ عباسٍ: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} : مَن كان منكم مُحْسِنًا زِيد في إِحْسانِه، ومَن كان مُخْطِئًا نَغْفِرْ له خَطيئتَه.
فتأويلُ الآيةِ: وإذ قلنا: ادْخُلوا هذه القريةَ، مُباحًا لكم أكلُ
(6)
ما فيها مِن الطَّيِّباتِ، ومُوَسَّعًا عليكم بغيرِ حسابٍ، وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا، وقولوا: سُجودُنا هذا للهِ حِطَّةٌ مِن ربِّنا لذنوبِنا، يَحُطُّ به آثامَنا. نتَغَمَّد لكم ذُنوبَ المُذْنِبِ منكم، فنَسْتُرها عليه، ونَحُطّ أوْزارَها عنه، ونَزِيدُ
(7)
المحسِنَ
(8)
منكم -
(1)
هو أمية بن الأسكر، والبيت في ذيل الأمالى ص 109، والأغانى 21/ 10، والخزانة 6/ 19.
(2)
في الأغاني، والخزانة:"أتاه مهاجران".
(3)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لعمر".
(4)
في ذيل الأمالى: "ليترك شيخه"، وفى الأغاني، والخزانة:"ففارق شيخه".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، ومصادر التخريج:"خابا".
(6)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كل".
(7)
في م: "سنزيد".
(8)
في الأصل، م، ت 1، ت 2، ت 3:"المحسنين".
إلى إحسانِنا
(1)
السالفِ عندَه- إحْسانًا.
ثم أخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه عن عظيمِ جَهالتِهم، وسُوءِ طاعتِهم ربَّهم، وعِصْيانِهم لأنبيائِهم، واسْتِهْزائِهم برسلِهم
(2)
، مع عظيمِ آلاءِ اللهِ عندَهم وعَجائبِ ما أراهم مِن آياتِه وعِبَرِه، مُوبِّخًا بذلك أبناءَهم الذين خُوطِبوا بهذه الآياتِ، ومُعْلِمَهم أنهم [لن يَعْدوا]
(3)
-في تكذيبِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجحودِهم نبوَّتَه، مع عظيمِ إحسانِ اللهِ بمَبْعَثِه فيهم إليهم، وعَجائبِ ما أظْهَر على يديه مِن الحُجَجِ بينَ أظْهُرِهم- أن يكونوا كأسْلافِهم الذين وصَف صفتَهم، وقصَّ عليهم
(4)
أنباءَهم في هذه الآياتِ، فقال جل ثناؤُه:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} .
وتأويلُ قولِه: {فَبَدَّلَ} : فغيَّر. ويعني بقولِه: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} : الذين فعَلوا ما لَمْ يكنْ لهم فعلُه. ويعنى بقولِه: {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} : بدَّلوا قولًا غيرَ الذى أُمِروا أن يَقُولوه، فقالوا خِلافَه. وذلك هو التبديلُ والتَّغْييرُ الذى كان منهم.
وكان تبديلُهم بالقولِ الذى أُمِروا أن يَقُولوه قولًا غيرَه، ما حدَّثني به محمدُ بنُ
(1)
في الأصل: "إحسانه".
(2)
في م: "برسله".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إن تعدوا".
(4)
في م: "علينا".
عُبيدٍ
(1)
المُحاربيُّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ المبُاركِ، عن مَعْمرٍ، عن همامٍ، عن أبى هريرةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِه:{حِطَّةٌ} . قال: "بدَّلوا فقالوا: حبَّةٌ"
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن همامِ بنِ مُنَبِّهٍ، أنه سمِع أبا هريرةَ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قال اللهُ تبارك وتعالى لبنى إسرائيلَ: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
(3)
لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}. فبدَّلوا، فدخَلوا البابَ يَزْحَفون
(4)
على أسْتاهِهم، وقالوا: حبَّةٌ في شَعَرةٍ
(5)
"
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ وعليُّ بنُ مجاهدٍ، قالا: حدَّثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن صالحِ بنِ كيسانَ، عن صالحٍ مولى التوأمةِ، عن أبي هريرَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال
(7)
: وحدَّثني
(8)
محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن سعيدِ
(1)
في م، ت 2:"عبد الله"، وفى ت 1، ت 3:"عبد". وينظر تهذيب الكمال 26/ 70.
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (10990)، وابن المقرئ في معجمه (158) من طريق محمد بن عبيد به.
وأخرجه أحمد 13/ 471 (8110)، والبخارى (4479)، والنسائي (10989) من طرق عن ابن المبارك به، إلَّا أنه في رواية النسائي موقوفًا.
(3)
في صحيح مسلم: "يُغْفَر". وهى قراءة نافع. ينظر حجة القراءات ص 97.
(4)
في ر، ت 1، ت 2، ت 3:"يرجعون".
(5)
في ر، م:"شعيرة". وهى رواية الكشميهني. فتح البارى 8/ 304.
(6)
أخرجه أحمد 13/ 535 (8230)، والبخارى (3403، 4641)، ومسلم (3015)، والترمذى (2956)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 117، 119 (575، 587)، وابن حبان (6251) من طريق عبد الرزاق به.
(7)
يعنى محمد بن إسحاق.
(8)
في م: "حدثت عن".
ابنِ جبيرٍ، أو عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"دخَلوا البابَ الذى أُمِروا أن يدخُلوا منه سجّدًا، يزحَفون على أستاهِهم يقولون: حنطةٌ في شعيرةٍ"
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ مَهْديٍّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن السُّدِّيّ، عن أبى سعدٍ
(2)
، عن أبى الكَنودِ، عن عبدِ اللهِ:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} . قالوا: حِنْطةٌ حمراءُ فيها شَعيرةٌ. فأنْزَل اللهُ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
(3)
.
حدَّثني موسي، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّىِّ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . فرفَعوا رُءوسَهم وبدَّلوا. فزعَم السُّدِّىُّ، عن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ أنه قال: إنهم قالوا: هِطى سُمْقاثا أزبه هَزْبا. وهو بالعربيةِ: حبةُ حنطةٍ حمراءُ مثقوبةٌ، فيها شعرةٌ سوداءُ. فذلك قولُه:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ بنِ عمرٍو، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 535، وفيه: عن ابن إسحاق قال: حدَّثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم، عن ابن عباس. وصالح مولى التوأمة اختلط. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 141.
(2)
في م: "سعيد".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 119 (588) من طريق ابن مهدى به، دون ذكر ابن مسعود. وأخرجه الطبرانى في الكبير (9027) من طريق الفريابي، عن سفيان به عن ابن مسعود. وينظر علل أحمد 2/ 144، 145 (922)، وتفسير ابن كثير 1/ 142.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 119 (589) عن أبي زرعة، عن عمرو به، دون قول السدى.
{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: رُكَّعًا
(1)
مِن بابٍ صغيرٍ، فجعَلوا يَدْخُلون مِن قِبَلِ أسْتاهِهم، ويقولون: حِنْطةٌ. فذلك قولُه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
(2)
.
حدَّثني الحسنُ
(3)
بنُ الزِّبْرِقانِ النَّخَعيُّ، قال: حدَّثنا أبو أُسامةَ، عن سُفيانَ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ بنِ عمرٍو، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أُمِروا أن يَدْخُلوا رُكَّعًا ويقولوا: {حِطَّةٌ} . قال: أُمِروا أن يَسْتَغفِروا. قال: فجعَلوا يَدْخُلون مِن قِبَلِ أسْتاهِهم مِن بابٍ صغيرٍ، ويقولون: حِنطةٌ. يَسْتَهْزِئون، فذلك قولُه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}.
حدَّثني الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ والحسنِ:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . قالا: دخَلوها على غيرِ الجهةِ التى أُمِروا بها
(4)
، دخَلوها مُتَزَحِّفِين على أوْراكِهم، وبدَّلوا قولًا غيرَ الذى قِيل لهم، فقالوا: حبَّةٌ في شَعيرةٍ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسي، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ، قال:[أمَر موسى قومَه]
(6)
أن يَدْخُلوا البابَ سُجَّدًا ويقولوا:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ركوعا".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 117، 119 (572، 576، 590)، والحاكم 2/ 262 من طريق سفيان به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وتقدم طرف منه في ص 716، 718.
(3)
في الأصل: "الحسين".
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
في الأصل: "شعرة". والأثر تقدم تخريجه في ص 716.
(6)
كذا. ومن المعلوم أن نبى الله موسى صلى الله عليه وسلم قد مات في التيه الذى عاقبهم الله به بعد خذلانهم إياه وعصيانهم أمره في دخول بيت المقدس وقتال العمالقة. ولما انقضت المدة التى كتبها الله عليهم. دخلوا بيت المقدس وقاتلوا العمالقة وفتحها الله لهم على يد نبى الله يوشع بن نون. ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب =
حِطَّةٌ. وطُؤْطِئَ لهم البابُ ليَسْجُدوا، فلم يَسْجُدوا، ودخَلوا على أدبارِهم، وقالوا: حِنْطةٌ
(1)
.
حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ: أمَر موسى قومَه أن يَدْخُلوا المسجدَ ويقولوا: حِطَّةٌ. وطُؤطِئَ لهم البابُ ليَخْفِضوا
(2)
رءوسَهم، فلم يَسْجُدوا، فدخَلوا على أجْنُبِهم
(3)
إلى الجبلِ -وهو الجبلُ الذي تجَلَّى له ربُّه جل ثناؤُه- وقالوا: حِنْطةٌ. فذلك التبديلُ الذي قال اللهُ تعالى ذكرُه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} .
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . قال: فدخَلوا على أسْتاهِهم مُقْنِعى
(4)
رءوسِهم.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن
(5)
النضرِ بنِ عَربىٍّ
(6)
، عن عكرمةَ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . قال
(7)
: فدخَلوا مُقْنِعى رءوسِهم. {وَقُولُوا حِطَّةٌ} . فقالوا: حِنْطةٌ، حبَّةٌ حمراءُ فيها شَعَرةٌ
(8)
. قال (5): فذلك قولُه: {فَبَدَّلَ
= سجدًا ويقولوا حطة. وينظر تاريخ المصنف 1/ 432 - 442، وتفسير ابن كثير 1/ 139، والبداية والنهاية 2/ 221 - 242.
(1)
تقدم تخريجه في ص 713.
(2)
في م: "ليقولوا".
(3)
في م: "أستاههم"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"استهم".
(4)
المُقْنِع: الرافع رأسَه في السماء. التاج (ق ن ع).
(5)
سقط من: م.
(6)
في م: "عدى".
(7)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شعيرة".
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، [قال: قال لى عطاءٌ في قولِه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، قال: أما تبديلُهم فسَمِعْنا أنهم قالوا: حنطةٌ. قال ابنُ جُرَيجٍ]
(2)
: وقال ابنُ عباسٍ: لما دخَلوا قالوا: حبةٌ في شعَرةٍ
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما دخَلوا البابَ قالوا: حبةٌ في شعيرةٍ. فبدَّلوا قولًا غيرَ الذي قيل لهم.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}
(4)
: فكان سجودُ أحدِهم على خَدِّه. {وَقُولُوا حِطَّةٌ} يحطُّ عنكم خطيئاتِكم
(5)
. فقالوا: حِنْطةٌ. وقال بعضُهم: حبةٌ في شَعيرةٍ. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
(6)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} : يَحُطُّ اللهُ بها عنكم ذنبَكم وخَطيئاتِكم. قال: فاسْتَهْزَءوا
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 120 عقب الأثر (590) معلقا.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شعيرة".
(4)
بعده في م، ت 1:"قال".
(5)
في م: "خطاياكم".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 118 (578) من طريق ابن أبي جعفر به إلى قوله: على خده.
به -يعنى بموسى- وقالوا: ما يَشاءُ موسى أن يَلْعَبَ بنا إلا لعِب بنا، حِطَّةٌ حِطَّةٌ! أىُّ شيءٍ حطةٌ؟ وقال بعضُهم لبعضٍ: حِنْطةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} .
يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} : على الذين فعَلوا ما لم يكنْ لهم فعلُه مِن تَبْديلِهم القولَ الذي أمَرهم اللهُ أن يَقُولوه قولًا غيرَه، ومَعْصيتِهم إياه فيما أمَرهم به، ورُكوبِهم ما قد نهاهم [عنه و]
(1)
عن رُكوبِه {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} .
والرِّجْزُ في لغةِ [أهلِ الحجازِ]
(2)
العذابُ، وهو غيرُ الرِّجْسِ
(3)
، وذلك أن [الرِّجْسَ هو النَّتْنُ]
(4)
. ومنه الخبرُ الذي رُوِى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الطاعونِ أنه قال: "إنه رِجْزٌ عُذِّب به بعضُ الأممِ الذين قبلَكم".
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَنى يونُسُ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: أخْبَرَنى عامرُ بنُ سعدِ بنِ أبى وَقَّاصٍ، عن أُسامةَ بنِ زيدٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا الوَجَعَ -أو السُّقْمَ- رِجْزٌ عُذِّب به بعضُ الأممِ قبلَكم"
(5)
.
(1)
زيادة من: ر.
(2)
في م: "العرب".
(3)
في م: "الرجز".
(4)
في م: "الرجز: البثر".
(5)
أخرجه مسلم (2218/ 96) من طريق ابن وهب به.
وأخرجه أحمد 5/ 207، 208 (الميمنية)، والبخارى (6974)، ومسلم (2218/ 96)، وغيرهم من طريق الزهرى به نحوه. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 142، 143.
حدَّثنى أبو شَيْبةَ بنُ أبي بكرِ بنِ أبى شَيْبةَ، قال: حدَّثنا عمرُ بنُ حفصٍ، قال: حدَّثنى أبى، عن الشَّيْبانيِّ، عن رياحِ
(1)
بنِ عَبِيدةَ، عن عامرِ بنِ سعدٍ، قال: شهِدْتُ أسامةَ بنَ زيدٍ عندَ سعدِ بنِ مالكٍ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الطاعونَ رِجْزٌ أُنْزِل على مَن كان قبلَكم -أو على بنى إسرائيلَ-".
وبمثلِ الذي قلْنا في
(2)
ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{رِجْزًا} . قال: عذابًا
(3)
.
حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} . قال: الرِّجْزُ الغضبُ
(4)
.
حُدِّثتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبى روقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{رِجْزًا} . قال: كلُّ شيءٍ في كتابِ اللهِ جل ثناؤُه من الرِّجزِ يعنى به العذابَ
(5)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لما قيل لبنى إسرائيلَ: ادخُلوا البابَ سجَّدًا وقولوا: حطةٌ. فَبَدَّل الذين ظَلَموا منهم قولًا غيرَ
(1)
في م: "رباح".
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تأويل".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 45.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 120 (593) من طريق آدم به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 120 (592) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.
الذي قيل لهم، بعَث اللهُ عليهم الطاعونَ، فلم يُبْقِ منهم أحدًا. وقرَأ:{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . قال: وبقِى الأبناءُ، ففيهم الفضلُ والعبادةُ التى تُوصَفُ في بنى إسرائيلَ والخيرُ، وهلَك الآباءُ كلُّهم؛ أهلَكَهم الطاعونُ.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: الرِّجْزُ العذابُ، وكلُّ شيءٍ في القرآنِ رِجْزٌ فهو عذابٌ.
قال أبو جعفَرٍ: وقد دلَّلْنا على أن تأويلَ الرِّجْزِ العذابُ. وعذابُ اللهِ عز وجل أصنافٌ مختلفةٌ، وقد أخْبَر جل ثناؤُه أنه أنْزَل على الذين وصَفْنا أمْرَهم الرِّجْزَ مِن السماءِ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك كان طاعونًا، وجائزٌ أن يكونَ ذلك كان غيرَه، ولا دَلالةَ في ظاهرِ القرآنِ ولا في أثرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه ثابتٍ أىُّ أصنافِ العذابِ كان ذلك.
فالصوابُ مِن القولِ فيه أن يُقالَ كما قال جل ثناؤُه: [أنزل اللهُ]
(1)
عليهم رِجْزًا من السماءِ بفسقِهم. غيرَ أنه يَغْلِبُ على نَفْسى
(2)
صحةُ ما قاله ابنُ زيدٍ، للخبرِ الذي ذكَرْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في إخبارِه عن الطاعونِ أنه رِجْزٌ، وأنه عُذِّب به قومٌ قبلَنا، وإن كنتُ لا أقولُ: إن ذلك كذلك يَقينًا؛ لأن الخبرَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا بَيانَ فيه أىُّ أمَّةٍ عُذِّبَت بذلك، وقد يجوزُ أن يكونَ الذين عُذِّبوا به كانوا غيرَ الذين وصَف اللهُ صفتَهم في قولِه:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} .
(1)
في م: "فأنزلنا".
(2)
في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"النفس".
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} .
[ومعْنى ذلك: بفِسْقِهم]
(1)
.
وقد دلَّلْنا فيما مضَى مِن كتابِنا
(2)
على أن معنى الفِسْقِ الخروجُ مِن الشئِ
(3)
.
فتأويلُ قولِه: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . إذن: بما كانوا يَتْرُكون طاعةَ اللهِ فيَخْرُجون عنها إلى معصيتِه وخلافِ أمرِه.
(1)
سقط من: ص، ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
بعده في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"هذا".
(3)
ينظر ما تقدم في ص 434.