المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌ ‌ ‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَإِذِ - تفسير الطبري جامع البيان - ت التركي - جـ ٢

[ابن جرير الطبري]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} .

يعنى جلّ ثناؤه بقولِه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} : وإذ اسْتَسْقانا موسى لقومِه؛ أى: سأَلَنا

(1)

نَسْقِى قومَه ماءً. فترَك ذكرَ المسئولِ

(2)

ذلك، والمَعْنِىّ الذى سأَل موسى، إذ كان فيما ذكَر مِن الكلامِ الظاهرِ دَلالةٌ على معنى ما ترَك [وحذَف]

(3)

.

وكذلك قولُه: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} . مما اسْتُغْنِى بدَلالةِ الظاهرِ على المَتْروكِ منه، وذلك أن معنى الكلامِ: فقلْنا: اضْرِبْ بعصاك الحجرَ. فضرَبه فانْفَجَرَت. فترَك ذكْرَ الخبرِ عن ضَرْبِ موسى الحجرَ؛ إذ كان فيما ذكَر دَلالةٌ على المرادِ منه.

وكذلك قولُه: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} . إنما معناه: قد علِم كلُّ أناسٍ منهم مَشْرَبَهم. فترَك ذكرَ "منهم" لدَلالةِ الكلامِ عليه.

وقد دلَّلْنا على أن "أناس"

(4)

جمعٌ لا واحدَ له مِن لفظِه -فيما مضى- وأن

(1)

بعده في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن".

(2)

بعده في حاشية الأصل: "في الأم: له".

(3)

زيادة من: الأصل.

(4)

في م: "الناس". وهو ما تقدم في 1/ 274.

ص: 5

الإنسانَ لو جُمِع على لفظِه لَقيل: أناسينُ

(1)

وأَناسِيَةٌ.

وقومُ موسى هم بنو إسرائيلَ الذين قصَّ اللهُ عز وجل قَصَصَهم في هذه الآياتِ. وإنما اسْتَسْقَى لهم ربَّه جلَّ ثناؤُه الماءَ في الحالِ التى تاهوا فيها في التِّيهِ.

كما حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} الآية. قال: كان هذا إذ هم في البَرِّيَّةِ اشْتَكَوْا إلى نبيِّهم الظَّمأَ، فأُمِروا بحجرٍ طُورانىٍّ

(2)

مِن الطُّورِ، أن يَضْرِبَه موسى بعَصاه، فكانوا يَحْمِلونه معهم، فإذا نزَلوا ضرَبه موسى بعصاه، فانْفَجَرَت منه اثنتا عشْرةَ عينًا، لكلِّ سِبْطٍ عينٌ مَعلومةٌ، مُسْتَفيدٌ

(3)

ماؤُها لهم

(4)

.

حدَّثنى تَميمُ بنُ المُنْتَصِرِ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا أصْبَغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ذلك فى التِّيهِ، ظُلِّل عليهم الغَمامُ، وأُنْزِل عليهم المنُّ والسَّلْوَى، وجُعل لهم ثيابٌ لا تَبْلَى ولا تَتَّسِخُ، وجُعِل بينَ ظَهْرانَيْهِم حجرٌ مُرَبَّعٌ، وأُمِر موسى فضَرب بعصاه الحجرَ، فانفجَرتْ منه اثنتا عشْرةَ عينًا، في كلِّ ناحيةٍ منه ثلاثُ عيونٍ، لكلِّ سبطٍ عينٌ، ولا يَرْتَحِلون مَنْقَلةً

(5)

إلا وجَدوا ذلك الحجرَ منهم

(6)

بالمكانِ الذى كان به منهم

(6)

في

(1)

في م: "أناسى". وهو جمع صحيح بإبدال الياء من النون.

(2)

في م: "طورى أى"، وفى تفسير ابن حاتم:"طورى".

(3)

فى م: "مستفيض".

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 121 (597، 601) من طريق شيبان، عن قتادة، مختصرًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 72 إلى عبد بن حميد.

(5)

المنقلة: المرحلة من مراحل السفر. اللسان (ن ق ل).

(6)

في م: "معهم".

ص: 6

المنزلِ الأولِ.

حدَّثنى عبدُ الكريمِ، قال: أخْبَرَنا إبراهيمُ بنُ بشَّارٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن [أبى سَعْدٍ]

(1)

، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ذلك في التِّيهِ، ضرَب لهم موسى الحجرَ، فصار فيه اثنتا عشْرةَ عينًا مِن ماءٍ، لكلِّ سِبْطٍ منهم عينٌ يَشْرَبون منها

(2)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} : [فانْفَجر لهم الحجَرُ بضربةِ موسى اثنتى]

(3)

عشْرَةَ عينًا، لكلِّ سِبْطٍ منهم عينٌ، كلُّ ذلك كان في تِيهِهم حينَ تاهوا

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ قولَه:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} . قال: خافوا الظَّمأَ في تِيهِهم حينَ تاهوا، فانْفَجَر لهم الحجرُ اثنتَىْ عشْرةَ عينًا، ضرَبه موسى. قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال ابنُ عباسٍ: الأسْباطُ بنو يَعقوبَ، كانوا اثْنَى عن عشَرَ رجلًا، كلُّ واحدٍ منهم ولَد

(1)

في م، ت 3، وتفسير ابن كثير:"أبى سعيد". والصواب المثبت، وهو أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان، كما تقدم في 1/ 647.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 72 إلى المصنف. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 143 عن سفيان الثورى، عن أبى سعيد، عن عكرمة به.

وسفيان هو ابن عيينة، كما جاء مصرحًا بذلك في 1/ 647، وإبراهيم بن بشار الرمادى مشهور بالرواية عنه، ولا يعرف له رواية عن الثورى.

(3)

في م: "فانفجرت منه اثنتا".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 7

سِبْطًا

(1)

؛ أُمَّةً مِن الناسِ

(2)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ قال: قال ابنُ زيدٍ: اسْتَسْقَى لهم موسى في التِّيهِ، فسُقُوا في حَجرٍ مثلِ رأسِ الشاةِ. قال: يُلْقُونه في جانبِ

(3)

الجُوَالِقِ

(4)

إذا ارْتَحَلوا، ويَقْرَعُه موسى بالعصا إذا نزَل، فتَنْفَجِرُ منه اثنتا عشْرَةَ عينًا، لكلِّ سبطٍ منهم عينٌ، فكان بنو إسرائيلَ يَشْرَبون منه، حتى إذا كان الرحيلُ اسْتَمْسَكَت العُيونُ، وقيل به

(5)

فأُلْقِى في جانبِ الجُوَالِقِ، فإذا نزَل رمَى به، فقرَعه بالعصا، فتفَجَّرَت عينٌ مِن كلِّ ناحيةٍ مثلَ البحرِ.

وحدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ، قال: كان ذلك في التِّيهِ

(6)

.

وأما قولُه: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} . فإنما أخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤُه بذلك عنهم، [فخصَّ بالنَّبأِ عنهم بذلك]

(7)

؛ لأن معناهم -في الذى أخْرَج اللهُ لهم مِن الحجرِ الذى وصَف في هذه الآيةِ صفتَه مِن الشربِ- كان مُخالِفًا معانىَ سائرِ الخلقِ فيما أخْرَج اللهُ لهم مِن المياهِ مِن الجبالِ والأرَضِينَ، التى لا مالكَ لها سوى اللهِ جلَّ وعزَّ. وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه كان جعَل لكلِّ سِبْطٍ مِن الأسباطِ الاثنَىْ عشَرَ،

(1)

بعده في م: "و".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 140 إلى المصنف مقتصرًا على آخره.

(3)

في م: "جوانب".

(4)

الجوالق: وعاء من الأوعية معروف، فارسى معرب. اللسان (ج ل ق).

(5)

قيل به. أى: رُفع وحُمل، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده. أى أخذ، وقال برجله. أى مشى. ينظر النهاية 4/ 124.

(6)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 430، 431 عن موسى بن هارون به، عن السدى بإسناده، مطولًا.

(7)

سقط من: ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 8

عينًا مِن الحجرِ الذى وصَف صفتَه فى هذه الآيةِ، يَشْرَبُ منها دونَ سائرِ الأسباطِ غيرِه، لا يَدْخُلُ سِبْطٌ منهم فى شِرْبِ سِبْطٍ غيرِه، فكان مع ذلك لكلِّ عينٍ مِن تلك العيونِ الاثنتَىِ العشْرةَ موضعٌ مِن الحجرِ، قد عرَفه السِّبْطُ الذى منه شِرْبُه

(1)

، فلذلك خصَّ جلَّ ثناؤُه هؤلاء بالخبرِ عنهم أن كلَّ أناسٍ منهم كانوا عالِمِين بمَشْرَبِهم دونَ غيرِهم مِن الناسِ، إذ كان غيرُهم -فى الماءِ الذى لا يَمْلِكُه أحدٌ- شُركاءَ فى مَنابعِه ومَسايلِه، وكان كلُّ سِبْطٍ مِن هؤلاء [كان منفردًا]

(2)

بشرْبِ مَنبَعٍ مِن مَنابعِ الحجرِ -دونَ سائرِ مَنابعِه- خاصٍّ لهم دونَ سائرِ الأسْباطِ غيرِهم، فلذلك خصَّ بالخبرِ عنهم أن كلَّ أناسٍ منهم قد علِموا مَشْرَبَهم.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ} .

وهذا أيضًا مما اسْتُغْنى بذكرِ ما هو ظاهرٌ منه عن ذكرِ ما تُرِك ذكرُه. وذلك أن تأويلَ الكلامِ: فقلنا: اضْرِبْ بعصاك الحجرَ. فضرَبه، فانْفَجَرَت منه اثنتا عشْرةَ عينًا، قد علِم كلُّ أناسٍ منهم

(3)

مَشْرَبَهم، فقيل لهم: كلوا واشْرَبوا مِن رزقِ اللهِ. أخْبَر جلَّ ثناؤُه أنه أمَرَهم بأكلِ ما رزَقهم فى التِّيهِ مِن المنِّ والسلوى، وبشربِ ما فجَّر لهم

(4)

مِن الماءِ مِن الحجرِ المُتعاوَرِ

(5)

الذى لا قَرارَ له فى أرضٍ، ولا سبيلَ إليه [لماءٍ، ولكنَّه]

(6)

يَتَدَفَّقُ بعيونِ الماءِ، ويَزْخَرُ بيَنابيعِ العَذْبِ الفُراتِ، بقدرةِ ذى الجَلالِ والإكْرامِ.

(1)

الشرب، بالكسر: النصيب من الماء والحصة منه. المصباح المنير (ش ر ب).

(2)

فى ر، م:"مفردا".

(3)

زيادة من: ر.

(4)

بعده فى ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه".

(5)

اعتوَروا الشئ وتعوَّروه وتعاوَروه: تداولوه فيما بينهم. اللسان (ع و ر).

(6)

فى ر: "لماء لكنه"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"لمالكيه".

ص: 9

ثم تقَدَّم جلَّ ثناؤُه إليهم -مع [إباحتِه لهم]

(1)

ما أباح، وإنعامِه عليهم بما أنْعَم

(2)

مِن العيشِ الهَنِئِ- بالنهىِ عن السعْىِ فى الأرضِ فسادًا، والعَثَا فيها استكبارًا، فقال تعالى ذكرُه لهم:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَا تَعْثَوْا} : لا تَطْغَوا، ولا تَسْعَوْا فى الأرضِ مُفْسِدِين.

كما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبى العاليةِ. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. يقولُ: لا تَسْعَوا فى الأرضِ فَسادًا

(3)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . [قال: لا تَطْغَوا فى الأرضِ مفسدين]

(4)

. لا تَعْثَ: لا تَطْغَ.

حدَّثنا بشرٌ، [قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ]

(5)

، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . أى: لا تَسِيروا فى الأرضِ مُفْسِدِين

(6)

.

حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرٌ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ

(1)

فى م: "إباحتهم".

(2)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"به عليهم".

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 122 (606) من طريق آدم به.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

سقط من: الأصل.

(6)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 122 (607) من طريق شيبان، عن قتادة.

ص: 10

عباسٍ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} : لا تَسْعَوْا فى الأرضِ

(1)

.

وأصلُ العَثَا شدةُ الإفسادِ، [بل هو أشدُّ الإفسادِ]

(2)

، يُقالُ منه: عَثِى فلانٌ فى الأرضِ -إذا تَجاوَز فى الإفسادِ إلى غايتِه- يَعْثَى عَثًا، مقصورٌ، وللجماعةِ: هم يَعْثَوْن. وفيه لُغَتان أُخْرَيان، إحداهما: عَثَا يَعْثُو عُثُوًّا

(3)

. ومَن قرَأ بهذه اللغةِ، فإنه يَنْبَغِى له أن يَضُمَّ الثاءَ مِن "يعثُو"، ولا أعْلَمُ قارئًا يُقْتَدَى بقراءتِه قرَأ به. ومَن نطَق بهذه اللغةِ مُخْبِرًا عن نفسِه قال: عثَوْتُ أَعْثُو. ومَن نطَق باللغةِ الأولى قال: عَثيتُ أَعْثَى.

والأخرى منهما: عاث يَعِيثُ عَيْثًا وعُيُوثًا وعَيَثانًا، كلُّ ذلك بمعنًى واحدٍ. ومِن العَيْثِ قولُ رُؤْبةَ بنِ العَجَّاجِ

(4)

:

وعاثَ فِينَا مُسْتَحِلٌّ عَائِثُ

مُصَدِّقٌ أو تاجِرٌ مُقاعِثُ

(5)

يعنى بقولِه: عاث فينا: أفْسَد فينا.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} .

(1)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 72 إلى المصنف وابن أبى حاتم.

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

ضبطت فى الأصل هكذا: "عَثْوًا".

(4)

ديوانه ص 30.

(5)

المصدق: الذى يقبض أموال الصدقة والزكاة. والمقاعث: الذى يستأصل المال ويستوعبه. اللسان (ص د ق، ق ع ث).

ص: 11

قال أبو جعفرٍ رحمه الله: قد دلَّلْنا فيما مضَى قبلُ على معنَى الصبرِ، وأنه كَفُّ النفْسِ وحبسُها عن الشئِ

(1)

. فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآيةِ إذن: واذْكُروا إذ قلتم يا معشرَ بنى إسرائيلَ: لن نُطِيقَ حبسَ أنفسِنا على طعامٍ واحدٍ -وذلك الطعامُ الواحدُ هو ما أخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤُه أنه أطْعَمَهموه فى تِيهِهم، وهو السلْوى فى قولِ بعضِ أهلِ التأويلِ، وفى قولِ وهبِ بنِ مُنَبِّهٍ هو الخبزُ النَّقِىُّ مع اللحمِ- فاسْألْ لنا ربَّك يُخْرِجْ لنا مما تُنْبِتُ الأرضُ مِن البَقْلِ والقِثَّاءِ، وما سَمَّى اللهُ مع ذلك وذكَر أنهم سأَلوه موسى.

وكان سببَ مسألتِهم موسى ذلك فيما بلَغَنا ما حدَّثنا به بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} . قال: كان القومُ فى البرِّيَّةِ قد ظُلِّل عليهم الغَمامُ، وأُنْزِل عليهم المنُّ والسَّلْوَى، فملُّوا ذلك، وذكَروا عيشًا كان لهم بمصرَ، فسأَلوه موسى، فقال اللهُ تبارك وتعالى:{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ فى قولِه:{لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} . قال: ملُّوا طعامَهم، وذكَروا عيشَهم الذى كانوا فيه قبلَ ذلك، قالُوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا}

(3)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبى العاليةِ فى قولِه:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} . قال: كان طعامُهم السلوى، وشرابُهم المنَّ، فسأَلوا ما ذُكِر، فقيل لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ

(1)

ينظر ما تقدم فى 1/ 617.

(2)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 47، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 123 (611) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 12

لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}. قال أبو جعفرٍ الرازىُّ

(1)

: وقال قتادةُ: إنهم لما قدِموا الشامَ فقَدوا أَطْعماتِهم

(2)

التى كانوا يَأْكُلُونها، فقالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} . وكانوا قد ظُلِّل عليهم الغَمامُ، وأُنْزِل عليهم المنُّ والسلْوى، فملُّوا ذلك، وذكَروا عيشًا كانوا فيه بمصرَ

(3)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، [عن مجاهدٍ]

(4)

فى قولِ اللهِ: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} : المنُّ والسلْوى، فاسْتَبْدَلوا به البَقْلَ وما ذُكِر معه

(5)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ بمثلِه سَواءً.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ بمثلِه.

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ: أُعْطُوا فى التِّيهِ ما أُعْطُوا، فأَجَمُوا

(6)

ذلك، فقالوا: {يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أطعمتهم".

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 122، 123 (609، 612) من طريق آدم به.

(4)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(5)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فملوا" وهما بمعنى. وانظر التاج (أ ج م).

ص: 13

وَبَصَلِهَا}

(1)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرنا ابنُ زيدٍ، قال: كان طعامُ بنى إسرائيلَ فى التِّيهِ واحدًا، وشرابُهم واحدًا، كان شرابُهم عسلًا يَنْزِلُ لهم مِن السماءِ، يُقالُ له: المنُّ. وطعامُهم طيرٌ يقالُ له: السَّلوى. يأكلُون الطيرَ، ويشربُون العسلَ، لم يكونوا يعرِفون خبزًا ولا غيرَه، فقالوا: يا موسى، إنَّا لن نَصْبِرَ على طعامٍ واحدٍ، {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ}. فقرَأ حتى بلَغ:{اهْبِطُوا مِصْرًا} .

وإنما قال جلَّ ثناؤُه: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} . ولم يَذْكُرِ الذى سأَلوه أن يَدْعُوَ ربَّه ليُخْرجَه لهم مِن الأرضِ، فيقولوا

(2)

: ادْعُ لنا ربَّك يُخْرِجْ لنا كذا وكذا مما تُنْبِتُه الأرضُ مِن بقلِها وقِثَّائِها؛ لأن "مِن" تأتى بمعنى التبعيضِ لما بعدَها، فاكتُفِى بها مِن ذِكْرِ المُبَعَّضِ

(3)

، إذ كان معلومًا بدخولِها معنى ما أُرِيد بالكلامِ الذى هى فيه، كقولِ القائلِ: أصَبْتُ

(4)

اليومَ عندَ فلانٍ مِن الطعامِ. يُرِيدُ: أصبْتُ

(5)

شيئًا منه.

وقد قال بعضُهم: "مِن" ههنا بمعنى الإلغاءِ والإسْقاطِ، كأنَّ معنى الكلامِ عندَه: يُخْرِجْ لنا ما تُنْبِتُ الأرضُ من بقلِها. واسْتَشْهَد على ذلك بقولِ العربِ: ما

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 122 (610) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به. وينظر تاريخ المصنف 1/ 431.

(2)

فى م: "فيقول: قالوا".

(3)

فى م: "التبعيض".

(4)

فى م: "أصبح".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 14

رأيْتُ مِن أحدٍ. بمعنى: ما رأيْتُ أحدًا. وبقولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَيُكَفِّرُ

(1)

عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271]. وبقولِهم: قد كان مِن حديثٍ، فخَلِّ عنى حتى أذْهَبَ. يُرِيدون: قد كان حديثٌ.

وقد أنْكَر مِن أهلِ العربيةِ جماعةٌ أن تَكونَ "مِنْ" بمعنى الإلغاءِ فى شيءٍ مِن الكلامِ، وادَّعَوْا أن دخولَها فى كلِّ موضعٍ دخَلَت فيه [إيذانٌ بأنَّ]

(2)

المتكلمَ مُرِيدٌ بعضَ ما أُدْخِلَت فيه لا جميعَه، وأنها لا تَدْخُلُ فى موضعٍ إلا لمعنًى مفهومٍ.

فتأويلُ الكلامِ إذن -على ما وصَفْنا مِن أمرِ مَن ذكَرْنا-: فادْعُ لنا ربَّك يُخْرِجْ لنا بعضَ ما تُنْبِتُ الأرضُ من بَقْلِها وقِثَّائِها.

والبَقْلُ والقِثَّاءُ والعَدَسُ والبَصَلُ، هو ما قد عرَفه الناسُ بينَهم مِن نباتِ الأرضِ وحبِّها.

وأما الفومُ، فإن أهلَ التأويلِ مختلِفون

(3)

فيه؛ فقال بعضُهم: هو الحِنْطةُ والخبزُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ ومُؤَمَّلٌ، قالا: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ

(4)

، عن عطاءٍ، قال: الفُومُ الخبزُ

(5)

.

(1)

فى الأصل: "يكفر". وينظر ما سيأتى عند تأويل هذه الآية.

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"مؤذن أن".

(3)

فى ر، م:"اختلفوا".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبى نجيح".

(5)

تفسير الثورى ص 45.

ص: 15

حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سُفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ ومُجاهِدٍ قولَه:{وَفُومِهَا} . قالا: خُبْزُها

(1)

.

حدَّثني زكريا بنُ يحيى بنِ أبى زائدةَ ومحمدُ بنُ عمرٍو، قالا: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَفُومِهَا} . قال: الخبز

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ والحسنِ: الفومُ هو الحبُّ الذى يَخْتَبِزُ الناسُ.

حدَّثنا الحسنُ، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ والحسنِ مثلَه

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا حُصَيْنٌ، عن أبى مالكٍ في قولِه:{وَفُومِهَا} . قال: الحنطةُ

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّي، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن يونُسَ، عن الحسنِ وحُصَيْنٍ، عن أبى مالكٍ في قولِه:{وَفُومِهَا} . الحِنْطةُ

(5)

.

حدَّثني المُثَنَّي، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن قَتادةَ، قال: الفُومُ الحبُّ الذى يَخْتَبِزُ الناسُ منه.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 145 عن الثوري به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 72 إلى وكيع وعبد بن حميد.

(2)

تفسير مجاهد ص 204.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 47.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (190 - تفسير) عن خالد بن عبد الله، عن حصين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 72 إلى عبد بن حميد.

(5)

سقط من الأصل.

والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 145 عن هشيم به.

ص: 16

حدَّثني موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَفُومِهَا} : هو الحِنْطةُ

(1)

.

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال لى عَطاءُ بنُ أبى رَباحٍ قولَه: {وَفُومِهَا} . قال: خبزُها. قالها مجاهدٌ.

حدَّثني يحيى بنُ عثمانَ السَّهْميُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَفُومِهَا} . يقولُ: الحِنْطةُ والخبزُ

(2)

.

حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَفُومِهَا} قال: هو البُرُّ بعينِه، الحِنْطةُ

(3)

.

حدَّثني عليُّ بنُ الحسنِ، قال: ثنا مسلمٌ الجَرْميُّ، قال: ثنا عيسى بنُ يونُسَ، عن رِشْدينَ بنِ كُرَيْبٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ:{وَفُومِهَا} . قال: الفومُ الحِنْطةُ بلسانِ بنى هاشمٍ

(4)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال

(5)

ابنُ زيدٍ: الفُومُ الخبزُ

(6)

.

حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ المصرىُّ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 123 عقب الأثر (614) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان 2/ 6 - عن أبيه عن عبد الله بن صالح به، دون قوله: والخبز. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 72 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 123 (613) من طريق عكرمة، عن ابن عباس، بلفظ: الخبز.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 145 عن الضحاك به.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 145 عن المصنّف. ورشدين ضعيف.

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لى".

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 145.

ص: 17

منصورٍ اليَحْصَبيُّ، عن نافعِ بنِ أبى نُعَيْمٍ، أن عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ سُئِل عن قولِ اللهِ:{وَفُومِهَا} . قال: الحِنْطةُ، أما سمِعْتَ قولَ أُحَيْحةَ بنِ الجُلَاحِ، وهو يقولُ:

قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصًا واحدًا

ورَد المدينةَ عن زِراعةِ فُومِ

(1)

وقال آخَرون: هو الثُّومُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ، قال: هو هذا الثُّومُ

(2)

.

حدَّثني المثنَّي، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: الفُومُ الثُّومُ

(3)

.

وهى في بعضِ القراءةِ: (وثومِها).

وقد ذُكِر أن تسميةَ الحِنْطةِ والخبزِ جميعًا فُومًا مِن اللغةِ القديمةِ. حُكِى سماعًا مِن أهلِ هذه اللغةِ: فَوِّموا لنا. بمعنى: اخْتَبِزوا لنا.

وذُكِر أن ذلك في

(4)

قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (وثومِها)

(5)

. بالثاءِ. فإن كان

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 123 (614) من طريق نافع به. وهو لَمْ يدرك ابن عباس.

وأخرجه الطبرانى في الكبير (10597) من طريق جويبر، عن الضحاك في المسائل التى سألها نافع بن الأزرق لابن عباس، والأثر في مسائل نافع ص 40.

والبيت في الأغاني 19/ 2، واللسان (ف و م) منسوب إلى أبي محجن الثقفى. وفى الأغاني "فول" بدلًا من "فوم". وهو في المسائل مختلف عن ههنا.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 144 عن ليث بن أبى سليم، عن مجاهد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 123 عقب الأثر (615) من طريق عبد الله بن أبى جعفر به.

(4)

سقط من: م.

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (191 - تفسير)، وابن أبي داود في المصاحف ص 54 =

ص: 18

ذلك صحيحًا فإنه مِن الحروفِ المُبْدَلةِ، كقولِهم: وقَعوا في عاثُورِ

(1)

شَرٍّ وعافورِ شرٍّ. وكقولِهم للأَثَافيِّ: أَثَاثيُّ، وللمَغافيرِ: مَغاثِيرُ، وما أشْبَهَ ذلك مما تُقْلَبُ فيه

(2)

الثاءُ فاءً، والفاءُ ثاءً؛ لتَقارُبِ مَخْرجِ الفاءِ مِن مَخْرَجِ الثاءِ. والمَغافيرُ شَبيهٌ [بالصَّمْغَةِ والعسلِ، ينزِلُ من السماءِ]

(3)

يَقَعُ على الشجرِ وغيرِها

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} . قال موسى لهم: أتَأْخُذون الذى هو أخسُّ خَطَرًا وقيمةً وقَدْرًا مِن العيشِ، بدلًا بالذى هو خيرٌ منه خطرًا وقيمةً وقدرًا؟ وذلك كان استبدالَهم.

وأصلُ الاسْتِبْدالِ هو تركُ شيءٍ لآخرَ غيرِه مكانَ المتروكِ.

ومعنى قولِه: {أَدْنَى} : أخَسُّ وأوضعُ وأصغرُ قَدْرًا وخَطَرًا. وأصلُه مِن قولِهم: هذا رجلٌ دَنِيٌّ بَيِّنُ الدَّناءةِ، وإنه ليُدَنِّى في الأمورِ. بغيرِ همزٍ. إذا كان يَتَتَبَّعُ خسائسَها

(5)

. وقد ذُكِر الهمزُ عن بعضِ العربِ فيه سماعًا منهم، يقولون: ما كنتَ دَنِيئًا، ولقد دَنأْتَ. وأنْشَدنى بعضُ أصحابِنا عن غيرِه أنه سمِع بعضَ بنى كِلابٍ

= بأسانيد ضعيفة.

(1)

العاثور: ما أُعدَّ ليقع فيه أحد. التاج (ع ث ر).

(2)

سقط من: ر، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في ر: "بالشيء الحلو يشبه بالعسل ينزل من السماء حار"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالشيء الحلو يشبه بالعسل ينزل من السماء حلوا".

(4)

في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"نحوها".

(5)

في م: "خسيسها".

ص: 19

يُنْشِدُ بيتًا للأعْشَى

(1)

:

باسِلةُ الوَقْعِ سَرابِيلُها

بِيضٌ إلى دانئِها

(2)

الظاهرِ

يَهْمِزُ الدانئَ. وأنه سمِعهم يقولون: إنه لَدانئٌ خَبيثٌ. بالهمزِ. فإن كان ذلك عنهم صحيحًا، فالهمزُ فيه لغةٌ، وتركُه أخْرَى.

ولا شكَّ أن من اسْتَبْدَل بالمنِّ والسلْوى البَقْلَ والقِثَّاءَ والعَدَسَ والبَصَلَ والثُّومَ، فقد اسْتَبْدَلَ الوَضِيعَ مِن العيشِ بالرفيعِ منه.

وقد تأوَّل بعضُهم قولَه: {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} بمعنى: الذى هو أقربُ. ووجَّه قولَه: {أَدْنَى} إلى أنه أفْعَلُ؛ مِن الدُّنُوِّ الذى هو بمعنى القربِ.

وبنحوِ الذى قلنا في معنى قولِه: {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} . قاله عددٌ مِن أهلِ التأويلِ في تأويلِه.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يَزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} . يقولُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هو شرٌّ بالذى هو خيرٌ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ قولَه:{الَّذِي هُوَ أَدْنَى} . قال: أَرْدَأُ

(4)

.

(1)

ديوانه ص 147.

(2)

في الديوان: "جانبها".

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منه".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 124 (617) من طريق يزيد بن زريع به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 73 إلى المصنّف.

ص: 20

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} .

وتأويلُ ذلك: فدعا موسي، فاسْتَجَبْنا له، فقلْنا لهم: اهْبِطوا مصرًا. وهو مِن

(1)

المحذوفِ الذى اجْتُزِئ بدَلالةِ ظاهرِه عن

(2)

ذِكْرِ ما حُذِف وتُرِك منه.

وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أنَّ معنى الهبوطِ إلى المكانِ إنما هو النزول إليه والحُلولُ به

(3)

.

فتأويلُ الآيةِ إذن: وإذ قلتُم: يا موسي، لن نصبِرَ على طعامٍ واحدٍ، فادْعُ لنا ربَّك يُخْرِجْ لنا مما تُنْبِتُ الأرضُ من بقلِها وقثَّائِها وفُومِها وعدَسِها وبصلِها. قال موسى لهم: أَتَسْتَبْدِلُون الذى هو أَخَسُّ وأَرْدَأُ مِن العيشِ بالذى هو خيرٌ منه؟ فدعا لهم موسى ربَّه أن يُعْطِيَهم ما سأَلوه، فاسْتَجاب اللهُ له دعاءَه، فأعْطاهم ما طلَبوا، وقال اللهُ تعالى ذكره لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فإن لكم ما سألتُم.

ثم اخْتَلفت القَرأَةُ في قراءةِ قولِه: {اهْبِطُوا مِصْرًا} . فقرَأته عامَّةُ القَرأةِ: {اهْبِطُوا مِصْرًا} بتَنْوينِ "المِصْرِ" وإجْرائِه. وقرَأه بعضُهم بتركِ التنوينِ وحذفِ الألفِ منه

(4)

. فأما الذين نَوَّنوه وأجْرَوْه، فإنهم عنَوْا به مصرًا مِن الأمصارِ لا مصرًا بعينِه. فتأويلُه على قراءتِهم: اهْبِطوا مصرًا مِن الأمصارِ، لأنكم في [البَرِّ و]

(5)

البَدْوِ، والذى طلَبْتُم لا يكونُ في البَوادِى والفَيافِي، وإنما يكونُ في القُرى والأمصارِ؛ فإنَّ لكم إذا هبَطْتُموه

(6)

ما سألْتُم مِن العيشِ. وقد يجوزُ أن يكونَ بعضُ

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

في م: "على".

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 571.

(4)

وهذه قراءة الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب، وهى كذلك في مصحف أُبيّ وابن مسعود وبعض مصاحف عثمان. المصاحف لابن أبي داود ص 57، والبحر المحيط 1/ 234.

(5)

سقط من: م.

(6)

بعده في الأصل: "به".

ص: 21

مَن قرَأ ذلك بالإجْراءِ والتَّنْوينِ، كان تأويلُ الكلامِ عندَه: اهْبِطوا مصرًا البلدةَ التى تُعْرَفُ بهذا الاسمِ، وهى مصرُ التى خرَجوا عنها. غيرَ أنه أجْراها ونوَّنها اتِّباعًا منه خَطَّ المصحفِ؛ لأنَّ في المصحفِ ألفًا ثابتةً في "مصرَ"، فيَكونُ سبيلُ قراءتِه ذلك بالإجْراءِ والتنوينِ سبيلَ قراءةِ مَن قرأ:(كَانَتْ قَوَارِيرًا (15) قَوَارِيرًا مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان: 15، 16]. مُنَوَّنةً

(1)

، اتِّباعًا منه خطَّ المُصْحفِ.

وأما الذى لَمْ يُنَوِّنْ "مصرَ"، فإنه لا شكَّ أنه عنَى "مصرَ" التى تُعْرَفُ بهذا الاسمِ بعينِها دونَ سائرِ البُلْدانِ غيرِها.

وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك نظيرَ اخْتِلافِ القَرأةِ في قراءتِه؛ فحدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ:{اهْبِطُوا مِصْرًا} أىْ: مِصرًا مِن الأمصارِ، {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}

(2)

.

حدَّثني موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّديِّ:{اهْبِطُوا مِصْرًا} : مِن الأمصارِ، {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} . فلمَّا خرَجوا مِن التِّيهِ رُفع المنُّ والسَّلْوَى وأكَلوا البُقولَ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثَنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ:{اهْبِطُوا مِصْرًا} . قال: مِصْرًا مِن الأمصارِ، زعَموا أنهم لَمْ يَرْجِعوا إلى مصرَ.

(1)

وهى قراءة نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، وقرأ ابن كثير بالتنوين في الأولي، وبغير تنوين في الثانية. السبعة لابن مجاهد ص 663، 664.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 124 عقب الأثر (618) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 73 إلى عبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 124 (621) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد، به مختصرًا.

ص: 22

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن قَتادةَ في قولِه:{اهْبِطُوا مِصْرًا} . قال: يعنى مصرًا مِن الأمصارِ.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {اهْبِطُوا مِصْرًا} . قال: مِصْرًا مِن الأمصارِ، ومصرُ لا تُجْرَى في الكتابِ

(1)

. فقالوا: أىُّ مصرٍ؟ قال: الأرضُ المقدَّسةُ

(2)

. وقرَأ قولَ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 21].

وقال آخَرون: هى مصرُ التى كان بها فرعونُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{اهْبِطُوا مِصْرًا} . قال: يعنى به مصرَ فرعونَ

(3)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ مثلَه.

ومِن حُجَّةِ مَن قال: إن اللهَ تعالى ذكرُه إنما عنَى بقولِه: {اهْبِطُوا مِصْرًا} . مصرًا مِن الأمصارِ دون مصرِ فرعونَ بعينِها - أن اللهَ تبارك وتعالى جعَل أرضَ الشامِ لبنى إسرائيلَ مَساكنَ بعدَ أن أخْرَجَهم مِن مصرَ، وإنما ابْتَلاهم بالتِّيهِ بامتناعِهم على موسى صلى اللهُ عليه في حربِ الجبَابرةِ، إذ قال لهم:{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} . {قَالُوا يَامُوسَى

(4)

إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الكلام".

(2)

بعده في م: "التى كتب الله لهم".

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 124 (619) من طريق آدم به.

(4)

بعده في م: "إن فيها قومًا جبارين. إلى قوله".

ص: 23

وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. فحرَّم اللهُ عز وجل على قائلِى ذلك -فيما ذُكِر لنا- دخولَها حتى هلَكوا في التِّيهِ، وابْتَلاهم بالتَّيَهانِ في الأرضِ أربعين سنةً، ثم أهْبَط ذرِّيّتَهم الشامَ، فأسْكَنَهم الأرضَ المقدَّسةَ، وجعَل هلاكَ الجبَابرةِ على أيديهم مع يُوشَعَ بنِ نُونٍ، بعدَ وفاةِ موسى عليه السلام. قالوا

(1)

: فرَأَيْنا اللهَ جلَّ ثناؤُه قد أخْبَر عنهم أنه كتَب لهم الأرضَ المقدسةَ، ولم يُخْبِرْنا عنهم أنه ردَّهم إلى مصرَ بعدَ إخراجِه إيَّاهم منها، فيَجُوزَ لنا أن نَقْرَأَ:(اهبِطوا مصرَ). ونتَأَوَّلَه أنه ردَّهم إليها.

قالوا: فإن احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بقولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59].

قيل له

(2)

: فإن اللهَ جلّ ثناؤُه إنما أوْرَثهم ذلك فملَّكهم إيَّاها، ولم يَرُدَّهم إليها، وجعَل مَساكنَهم الشامَ.

وأما الذين قالوا: إنما عنَى اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {اهْبِطُوا} . مصرَ، فإن مِن حُجَّتِهم التى احْتَجُّوا بها الآيةَ التى قال فيها:{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} . وقولَه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28]. قالوا: فأخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه أنه قد ورَّثهم ذلك وجعَلها لهم، فلم يكونوا ليَرِثوها ثم لا يَنْتَفِعوا بها.

قالوا: ولا يَكونون مُنْتَفِعِين بها إلا [بمصيرِهم أو]

(3)

بمَصيرِ بعضِهم إليها، وإلا فلا وجهَ للانتفاعِ بها إن لم يَصِيروا، أو يَصِرْ بعضُهم إليها.

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "لهم".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 24

قالوا: وأُخرى أنها في قراءةِ أبيِّ ابنِ كعبٍ وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: (اهبِطوا مصرَ). بغيرِ ألفٍ. قالوا: ففى ذلك الدَّلالةُ البينةُ على أنها مصرُ بعينِها.

والذى نقولُ به في ذلك أنه لا دَلالةَ في كتابِ اللهِ جلَّ ثناؤُه على الصوابِ مِن هذين التأويلَيْن، ولا خبرَ به عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم يَقْطَعُ مجيئُه العذرَ، وأهلُ التأويلِ مُتَنازِعون تأويلَه.

فأولى الأقوالِ في ذلك عندَنا بالصوابِ

(1)

أن يُقالَ: إن موسى سأَل ربَّه أن يُعْطِىَ قومَه ما سأَلوه مِن نباتِ الأرضِ -على ما بيَّنه اللهُ جلَّ ثناؤُه في كتابِه- وهم في الأرضِ تائِهون، فاسْتَجاب اللهُ لموسى دعاءَه، وأمَره أن يَهْبِطَ بمَن معه مِن قومِه قَرارًا مِن الأرضِ التى تُنْبِتُ

(2)

ما سأَل لهم مِن ذلك، إذ كان ما

(3)

سأَلوه لا يُنْبِتُه إلَّا القُرَى والأمصارُ، فإنَّه

(4)

قد أعْطاهم ذلك إذا

(5)

صاروا إليه. وجائزٌ أن يَكونَ ذلك القَرارُ مصرَ، وجائزٌ أن يكونَ الشامَ.

فأما القراءةُ فإنها بالألفِ والتنوينِ: {اهْبِطُوا مِصْرًا} . وهى القراءةُ التى لا يَجوزُ عندى غيرُها؛ لإجماعِ خُطوطِ مصاحفِ المسلمين، واتفاقِ قراءةِ القَرأَةِ على ذلك، ولم يَقْرَأْ بتركِ التنوينِ فيه وإسقاطِ الألفِ منه إلا مَن لا يَجوزُ الاعْتِراضُ به على الحُجَّةِ فيما جاءَت به مِن القراءةِ مُسْتَفِيضًا فيها

(6)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} .

(1)

في ر، م:"والصواب".

(2)

بعده في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لهم".

(3)

في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذى".

(4)

في ر، م:"وأنه".

(5)

في ر، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إذ".

(6)

في ر: "بينها"، وكتب فوقها:"فيها"، وأشار إلى نسخة، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بينها". وإلى هنا ينتهى الجزء الموجود عندنا من النسخة "ر" وهو نهاية المجلد الأول منها.

ص: 25

يعنى جلّ ثناؤه بقولِه: {وَضُرِبَتْ} . أى: فُرِضَت ووُضِعَت عليهم الذِّلةُ وأُلْزِمُوها، مِن قولِ القائلِ: ضرَب الإمامُ الجِزْيةَ على أهلِ الذِّمةِ، وضرَب الرجلُ على عبدِه الخَراجَ. يعنى بذلك [أنَّه فرَضه ووظَّفه وألزمه]

(1)

إيَّاه، وهو من قولِهم: ضرَب الأميرُ على الجيشِ البَعْثَ. يُرادُ به: ألْزَمَهموه.

وأما "الذِّلةُ" فإنَّها الفِعْلةُ، مِن قولِ القائلِ: ذلَّ فلانٌ يَذِلُّ ذُلًّا وذِلَّةً. كالصِّفْوةِ

(2)

، مِن: صفا

(3)

هذا الأمرُ. والقِعْدةِ، مِن: قعَد.

و"الذِّلةُ" هى الصَّغارُ الذى أمَر اللهُ عبادَه المؤمنين ألا يُعْطُوهم أمانًا -على القَرارِ على ما هم عليه مِن كفرِهم به وبرسلِه

(4)

- إلا أن يَبْذُلوا الجزيةَ عليه لهم، فقال تبارك اسمُه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ

(5)

، عن الحسنِ وقتادةَ في قولِه:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} . قالا: يُعْطُون الجِزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون

(6)

.

وأما "المَسْكَنةُ" فإنّها مصدرُ المِسْكينِ، يقالُ: ما فيهم أسْكَنُ مِن فلانٍ. و: ما كان مِسْكينًا. و: لقد تَمَسْكن تمَسْكُنًا

(7)

. ومِن العربِ مَن يقولُ: تسكَّن

(8)

(1)

في م: "وضعه فألزمه".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كالصغرة".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"صغر".

(4)

في م: "برسوله".

(5)

في الأصل: "عمار".

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 47. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 125 (623) عن الحسن بن يحيى به.

(7)

في م: "مسكنة".

(8)

في م: "تمسكن".

ص: 26

تسكُّنًا

(1)

. و "المَسْكَنةُ" في هذا الموضعِ مَسْكَنةُ الفاقةِ والحاجةِ، وهى خُشوعُها وذُلُّها.

كما حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{وَالْمَسْكَنَةُ} . قال: الفاقةُ

(2)

.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ قولَه:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} . قال: الفقرُ

(3)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} . قال: هؤلاء يهودُ بنى إسرائيلَ. قلتُ له: هم قِبْطُ مصرَ؟ قال: وما لقِبْطِ مصرَ وهذا، لا واللهِ ما هم هم، ولكنهم اليهودُ، يهودُ بنى إسرائيلَ.

فأخْبَرَ

(4)

اللهُ عز وجل أنه أَبْدَلهم

(5)

بالعِزِّ ذُلًّا، وبالنِّعْمةِ بُؤْسًا، وبالرِّضا عنهم غَضَبًا، جَزاءً منه لهم على كُفرِهم بآياتِه، وقتلِهم أنبياءَه ورسلَه؛ اعتداءً وظلمًا منهم بغيرِ حقٍّ، و [عصيانًا منهم]

(6)

له، وخلافًا عليه، تعالى ربُّنا وجلَّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} .

يعنى بقولِه: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} : انْصَرَفوا ورجَعوا. ولا يُقالُ: باءُوا. إلَّا موصولًا؛ إمَّا بخيرٍ وإما بشرٍّ، يُقالُ منه: باء فلانٌ بذنبِه، يَبُوءُ به بَوْءًا وبَواءً

(7)

. ومنه

(1)

في م: "تمسكنًا".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 125 (627) من طريق آدم به.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 125 عقب الأثر (627) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فأخبرهم".

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يبدلهم".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عصيانهم".

(7)

في الأصل، ت 2:"بُؤُوءًا".

ص: 27

قولُ اللهِ عز وجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]. يعنى: تَنْصَرِفَ مُتَحَمِّلَهما

(1)

وتَرْجِعَ بهما، قد صارا عليك دُونى.

فمعنى الكلامِ إذن: فرجَعوا مُنْصَرِفِين مُتَحَمِّلِين غَضَبَ اللهِ، قد صار عليهم مِن اللهِ غَضَبٌ، ووجَب عليهم منه سَخَطٌ. كما حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ في قولِه:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} . فحدَث عليهم غَضَبٌ مِن اللهِ

(2)

.

حدَّثنا يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أخْبَرَنا يَزيدُ، قال: أخْبَرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} . قال: اسْتَحَقُّوا الغضَبَ مِن اللهِ

(3)

.

وقد بيَّنَّا معنى غضَبِ اللهِ جلَّ ثناؤُه على عبدِه فيما مضَى مِن كتابِنا هذا، فأغْنَى عن إعادتِه في هذا المكانِ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {ذَلِكَ} . ضرْبَ الذِّلةِ والمَسْكَنةِ عليهم، وإحلالَ

(5)

[غضبِه بهم]

(6)

، فدلَّ بقولِه:{ذَلِكَ} -وهو يعنى به ما وصَفْنا- على أن قولَ القائلِ: ذلك. يَشْمَلُ المعانىَ الكثيرةَ إذا أُشِير به إليها.

(1)

في الأصل: "محتملهما".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 126 (631) من طريق ابن أبى جعفر به.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 126 عقب الأثر (631) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 73 إلى المصنف.

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 189، 190.

(5)

في م: "إحلاله".

(6)

في ت 3: "الغضب عليهم".

ص: 28

ويعنى بقولِه: {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} . مِن أجْلِ أنهم كانوا يَكْفُرون. يقولُ: فعَلْنا [الذى فعلْنا]

(1)

بهم -مِن إحلالِ الذُّلِّ والمَسْكَنةِ والسَّخَطِ بهم- مِن أجْلِ أنهم كانوا يَكْفُرون بآياتِ اللهِ، ويَقْتُلون النَّبِيين بغيرِ الحقِّ. كما قال أعْشَى بنى ثَعْلبةَ

(2)

:

مَلِيكيَّةٌ جاوَرَتْ بالحِجَا

زِ قَوْمًا عُدَاةً وأرضًا شَطِيرَا

بما قد ترَبَّعُ روْضَ القَطَا

(3)

وروْضَ التَّناضِبِ

(4)

حتى تَصِيرَا

(5)

يعنى بذلك: جاوَرَتْ

(6)

هذه المرأةُ قومًا عُدَاةً وأرضًا بَعيدةً مِن أهلِه، مكانَ

(7)

قُرْبِها كان منه ومِن قومِه وبدلًا؛ مِن

(8)

تَرُّبعِها رَوْضَ القَطَا ورَوْضَ التَّناضِبِ.

فكذلك قولُه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} . يقولُ: كان ذلك منا [مِنْ أجلِ كفرِهم]

(9)

بآياتِنا، وجَزاءً لهم بقتلِهم أنْبياءَنا.

وقد بيَّنَّا فيما مضَى مِن كتابِنا أن معنى الكفرِ تَغْطيةُ الشيءِ وسترُه، وأن آياتِ اللهِ حُججُه وأعلامُه وأدلتُه على توحيدِه وصدقِ رسلِه

(10)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ديوانه ص 93.

(3)

روض القطا: من أشهر رياض العرب وأكثرها دورا في أشعارهم، وهى بين السّلى والعرمة شرق مدينة الرياض. معجم البلدان 2/ 856، ومعجم الأماكن الواردة في المعلقات العشر ص 230 وما بعدها.

(4)

التناضب: من أضاة بنى غفار فوق سرف، على مرحلة من مكة. تاج العروس (ن ض ب).

(5)

حتى تصيرا: حتى تحضر المياه، والمصير: الموضع الذى تصير إليه المياه. اللسان (ص ى ر).

(6)

بعده في م: "بهذا المكان".

(7)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمكان".

(8)

"من" هنا تعليلية، يريد: من أجل.

(9)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بكفرهم".

(10)

ينظر ما تقدم في 1/ 262.

ص: 29

فمعنى الكلامِ إذن: فعَلْنا بهم ذلك مِن أجْلِ أنهم كانوا يَجْحَدون حُجَجَ اللهِ على توحيدِه وتصديقِ رسلِه، [ويُدَافِعون حقيقتَها]

(1)

، ويُكَذِّبون بها.

ويعنى بقولِه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : ويَقْتُلون رسلَ اللهِ الذين ابْتَعَثَهم لإنباءِ ما أرْسَلَهم به عنه لمن أُرْسِلوا إليه.

وهم جِماعٌ، واحدُهم نبىٌّ بغيرِ همزٍ، وأصلُه الهمزُ؛ لأنه مِن: أنْبَأ عن اللهِ، فهو يُنْبِئُ عنه إنْباءً. وإنما الاسمُ منه مُنْبِئٌ، ولكنه صُرِف وهو مُفْعِلٌ إلى فَعِيلٍ، كما صُرِف سَميعٌ إلى فَعِيلٍ مِن مُفْعِلٍ، وبَصِيرٌ مِن مُبْصِرٍ، وأشْبَاهُ ذلك. أُبْدِلَ مكانَ الهمزةِ مِن النبئِ الياءُ، فقيل: نبىٌّ. هذا ويُجْمَعُ النبىُّ أيضًا أنْبياءَ، وإنما جمَعوه كذلك لإلحاقِهم النبىَّ، بإبدالِ الهمزةِ منه ياءً، بالنُّعوتِ التى تَأْتى على تقديرِ فَعِيلٍ مِن ذَواتِ الياءِ والواوِ، وذلك أنهم إذا جمَعوا ما كان مِن النُّعوتِ على تقديرِ فَعِيلٍ مِن ذواتِ الياءِ والواوِ، جمَعُوه على أَفْعِلاءَ، كقولهم: ولىٌّ وأوْلِياءُ، ووَصِىٌّ وأَوْصِياءُ، ودَعِىٌّ وأَدْعِياءُ. ولو جمَعوه على أصلِه الذى هو أصلُه، وعلى أن الواحدَ نبئٌ مَهْموزٌ، لجَمَعوه على فُعَلاءَ، فقيل: همُ النُّبآءُ. على مثالِ النُّبَغاءِ

(2)

، لأن ذلك جمعُ ما كان على فَعِيلٍ مِن غيرِ ذَواتِ الياءِ والواوِ مِن النُّعوتِ، كجمعِهم الشريكَ شُرَكاءَ، والعليمَ عُلَماءَ، والحَكِيمَ حُكَماءَ، وما أشْبَهَ ذلك. قد حُكِى سَماعًا مِن العربِ في جمعِ النبىِّ: النُّبآءُ. وذلك مِن لغةِ الذين يَهْمِزون النبئَ ثم يَجْمَعونه النُّبآءَ، على ما قد بيَّنْتُ. ومِن ذلك قولُ عباسِ بنِ مِرْداسٍ السُّلَمىِّ، في مدحِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

:

(1)

في م: "ويدفعون حقيتها".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"النبآء".

(3)

سيرة ابن هشام 2/ 461.

ص: 30

يا خاتَمَ النُّبآءِ إنك مُرْسَلٌ

[بالحقِّ خيرُ هُدَى الإلهِ]

(1)

هُدَاكا

فقال: يا خاتمَ النُّبآءِ. على أن واحدَهم نبئٌ مَهْموزٌ.

وقد قال بعضُهم: النبىُّ والنبوَّةُ غيرُ مَهْموزَيْنِ، لأنهما مأْخوذان مِن النَّبوَةِ، وهى مثلُ النَّجْوةِ، وهما

(2)

المكانُ المرتفعُ، وكان يقولُ: إن أصلَ النبيِّ الطريقُ. ويَسْتَشْهِدُ على ذلك ببيتِ القُطَاميِّ

(3)

:

لمَّا وَرَدْنَ نبِيًّا واسْتَتَبَّ لنا

(4)

مُسْحَنْفِرٌ

(5)

كخُطوطِ السَّيْحِ

(6)

مُنْسَحِلُ

(7)

ويقولُ: إنما سُمِّى الطريقُ نبيًّا؛ لأنه ظاهرٌ مُسْتَبِينٌ، مِن النَّبْوةِ. ويقولُ: لم أسْمَعْ أحدًا يَهْمِزُ النبيَّ

(8)

. وقد ذكَرْنا ما في ذلك، وبيَّنَّا ما فيه الكفايةُ إن شاء اللهُ.

ويعنى بقولِه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . أنهم كانوا يَقْتُلون رُسُلَ اللهِ بغيرِ إذنِ اللهِ لهم بقتلِهم، مُنْكِرِين رسالتَهم، جاحِدِين نبوتَهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} .

وقولُه: {ذَلِكَ} ردٌّ على {ذَلِكَ} الأولِ. ومعنى الكلامِ: وضُرِبَت عليهم الذِّلَّةُ والمَسْكَنةُ، وباءوا بغضبٍ مِن اللهِ؛ مِن أجْلِ كفرِهم بآياتِ اللهِ وقتلِهم النبيِّين بغيرِ الحقِّ، ومِن أجْلِ عِصْيانِهم ربَّهم واعتدائِهم حدودَه. فقال جل ثناؤُه: {ذَلِكَ

(1)

في م: "بالخير كل هدى السبيل"، وفى السيرة:"بالحق كل هدى السبيل".

(2)

في م: "هو".

(3)

ديوانه ص 27.

(4)

في م: "بنا".

(5)

مسحنفر: ممتد. اللسان (سحفر).

(6)

في م: "النسج". والسيح: قيل: العباءة المخططة. وقيل: نوع من البرود. اللسان (س ى ح).

(7)

السحل: الكشط والقشر. اللسان (س ح ل).

(8)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

ص: 31

بِمَا عَصَوْا}. والمعنى: ذلك بعصيانِهم وكونِهم

(1)

مُعْتَدِين.

والاعتداءُ تَجاوُزُ الحدِّ الذى حدَّه اللهُ تعالى ذكرُه لعبادِه إلى غيرِه، وكلُّ مُتجاوِزٍ حدَّ شيءٍ إلى غيرِه فقد تَعَدَّاه إلى ما تجاوَز إليه. فمعنى الكلامِ: فعَلْتُ بهم ما فعَلْتُ مِن ذلك بما عصَوْا أمرى، وتَجاوَزوا حدِّى إلى ما نهَيْتُهم عنه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} .

أما {الَّذِينَ آمَنُوا} ، فهم المُصَدِّقُون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به مِن الحقِّ مِن عندِ اللهِ، وإيمانُهم بذلك تصديقُهم به، على ما قد بيَّنَّا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا

(2)

.

وأما {وَالَّذِينَ هَادُوا} ، فهم اليهودُ، ومعنى {هَادُوا}: تابوا، يقالُ منه: هادَ القومُ يَهودُون [هِوَادًا وَهِيَادةً]

(3)

. وقيل: إنما سُمِّيَت اليهودُ يهودًا؛ مِن أجلِ قولِهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156].

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ

(4)

، قال: إنما سُمِّيَتِ اليهودَ؛ مِن أجْلِ أنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه {وَالنَّصَارَى} .

{وَالنَّصَارَى} جمعٌ، واحدُهم نَصْرَانُ، كما واحدُ السَّكارَى سَكْرانُ، وواحدُ النَّشَاوَى نَشْوانُ، وكذلك جمعُ كلِّ نعتٍ كان واحدُه على فَعْلانَ، فإن جمعَه على فَعَالَى، إلا أن المستفيضَ مِن كلامِ العربِ في واحدِ النَّصارَى نَصْرانيٌّ،

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كفرهم".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 240.

(3)

في م، ت 1، ت 2:"هودًا وهادة".

(4)

بعده في ت 2: "قال مجاهد".

ص: 32

وقد حُكِى عنهم سَماعًا: نَصْرانُ. بطرحِ الياءِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

تَرَاه إذا دَار

(2)

العَشِيُّ مُحَنِّفًا

[ويُضْحِى لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ]

(3)

شامِسُ

وسُمِع منهم في الأنثى نَصْرانةٌ. قال الشاعر

(4)

:

* [نَصْرانةٌ لم تَحَنَّفِ]

(5)

*

وقد سُمِع في جَمْعِهم "أنصارٌ" بمعنى النَّصارَى. قال الشاعرُ

(6)

:

لمَّا رأيْتُ نَبَطًا أنْصارَا

شَمَّرْتُ عن رُكْبَتِىَ الإزارَا

كنتُ لهم مِن النَّصارَى جارَا

وهذه الأبياتُ التى ذكَرْتُها تَدُلُّ على أنهم سُمُّوا نَصارَى لنُصْرةِ بعضِهم بعضًا، وتَناصُرِهم بينَهم. وقد قيل: إنهم إنما سُمُّوا نَصارَى؛ مِن أجْلِ أنهم نزَلوا أرضًا يقالُ لها: ناصِرةُ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: النصارى إنما سُمُّوا نَصارَى؛ مِن أجلِ أنهم نزَلُوا أرضًا يقال لها: ناصِرةُ

(7)

.

(1)

البيت في الأضداد ص 181، ونقله أبو حيان في البحر المحيط 1/ 238 عن المصنف.

(2)

في م: "زار".

(3)

في الأضداد: "تراه ويضحى وهو نفران".

(4)

هو أبو الأخزر الحمانى، والبيت في الكتاب 3/ 256، 411، واللسان (ح ن ف).

(5)

في م: "فكلتاهما خرت وأسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنف

يقال: أسجد. إذا مال".

(6)

الأبيات في معانى القرآن 1/ 44، وأمالى ابن الشجرى 1/ 79، 371، واللسان (ن ص ر).

(7)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 147.

ص: 33

ويقولُ آخَرون: لقولِه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} [الصف: 14].

وقد ذُكِر عن ابنِ عباسٍ مِن طريقٍ غيرِ مُرْتَضًى أنه كان يقولُ: إنما سُمِّيَت النصارى نَصارَى؛ لأن قريةَ عيسى ابنِ مَرْيمَ كانت تُسَمَّى ناصِرةَ، وكان أصحابُه يُسَمَّوْن النَّاصِرِيِّين، وكان يقالُ لعيسى: الناصرىُّ.

حُدِّثْتُ بذلك عن هشامِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، قال: إنما سُمُّوا نَصارَى؛ لأنهم كانوا بقريةٍ يقالُ لها: ناصِرةُ. يَنْزِلُها عيسى ابنُ مريمَ، فهو اسمٌ تَسَمَّوْا به، ولم يُؤْمَروا به

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]. قال: تَسَمَّوْا بقريةٍ يقالُ لها: ناصِرةُ. كان عيسى ابنُ مريمَ صلى اللهُ عليه يَنْزِلُها

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالصَّابِئِينَ} .

و"الصابِئون" جمعُ صابئ، وهو المُسْتَحْدِثُ سِوَى دينِه دينًا، كالمُرْتَدِّ مِن أهلِ الإسلامِ عن دينِه. وكلُّ خارجٍ مِن دينٍ كان عليه إلى آخَرَ غيرِه تُسَمِّيه العربُ صابِئًا، يقالُ منه: صبَأ فلانٌ يَصْبَأُ صَبْأً. ويقالُ: صبَأَتِ النُّجومُ. إذا طلَعَت، وصبَأ علينا فلانٌ مِنْ

(4)

موضعِ كذا وكذا. يعنى به: طلَع.

(1)

أخرجه ابن سعد 1/ 53، 54 من طريق هشام بن محمد به مطولا.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى المصنف.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 187.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 34

واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مَن يَلْزَمُه هذا الاسمُ مِن أهلِ المِلَلِ، فقال بعضُهم: يَلْزَمُ ذلك كلَّ خارجٍ مِن دينٍ إلى غيرِ دينٍ. وقالوا: الذين عنَى اللهُ بهذا الاسمِ قومٌ لا دينَ لهم.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، جميعًا عن سُفيانَ، عن ليثٍ، عن مُجاهِدٍ: الصَّابِئُون ليسوا بيهودَ ولا نَصارَى، ولا دينَ لهم

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن الحجاجِ ابنِ أرْطاةَ، عن القاسمِ بنِ أبى بَزَّةَ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن الحجاجِ، عن مُجاهِدٍ، قال: الصابئون بينَ المجوسِ واليهودِ، لا تُؤْكَلُ ذَبائحُهم، ولا تُنْكَحُ نساؤُهم

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن حجاجٍ، عن قَتادةَ، عن الحسنِ مثلَ ذلك

(2)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ:{وَالصَّابِئِينَ} : بينَ اليهودِ والمجوسِ، لا دينَ لهم

(2)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

(1)

تفسير مجاهد ص 204، وتفسير عبد الرزاق 1/ 47، ومصنفه (10207)، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 127 (638) من طريق وكيع، عن سفيان به. والأثر في تفسير الثورى ص 46 من قوله.

(2)

ذكره القرطبى في تفسيره 1/ 434.

ص: 35

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال مُجاهِدٌ: {وَالصَّابِئِينَ} : بينَ المجوسِ واليهودِ، لا دينَ لهم. قال ابنُ جُرَيْجٍ: قلتُ لعَطاءٍ: {وَالصَّابِئِينَ} : زعَموا أنها قَبيلةٌ مِن نحوِ السَّوَادِ، ليسوا بمجوسٍ ولا يهودَ ولا نَصارَى. قال: قد سمِعْنا ذلك، وقد قال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: قد صَبَأ

(1)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالصَّابِئِينَ}

(2)

. قال: الصابئون دينٌ مِن الأديانِ، كانوا [بالجزيرةِ، جزيرةِ]

(3)

المَوْصِلِ، يقولون: لا إلهَ إلا اللهُ. وليس لهم عملٌ ولا كتابٌ ولا نبيٌّ، إلا قولَ: لا إلهَ إلا اللهُ. قال: ولم يُؤْمِنوا برسولِ اللهِ، فمِن أجْلِ ذلك كان المشركون يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه: هؤلاء الصابِئون. يُشَبِّهُونهم بهم

(4)

.

وقال آخَرون: هم قومٌ يَعْبُدون الملائكةَ ويُصَلُّون

(5)

القبلةَ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: حدَّثنا المُعْتَمِرُ، عن أبيه، عن الحسنِ، قال: نُبِّئَ

(6)

زيادٌ أن الصابئين يُصَلُّون

(5)

القِبْلةَ، ويُصَلُّون الخمسَ، فأراد أن يَضَعَ عنهم الجِزْيةَ، قال: فخُبِّر بعدُ أنهم يَعْبُدون الملائكةَ.

(1)

ذكره ابن أبى حاتم 1/ 127 عقب الأثر (638) معلقًا.

(2)

في الأصل، م:"الصابئون". والمثبت هو القراءة هنا، وما في الأصل، م هو قراءة الآية 69 من سورة المائدة.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بجزيرة".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 149 عن ابن وهب به.

(5)

بعده في م: "إلى".

(6)

في م، ت 1، ت 2:"حدَّثنى".

ص: 36

حدَّثنا بشر، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَالصَّابِئِينَ} . قال: الصابئون قومٌ يَعْبُدون الملائكةَ، ويُصَلُّون

(1)

القِبْلةَ، ويَقْرَءون الزَّبورَ

(2)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: الصابئون فرقةٌ مِن أهلِ الكتابِ يَقْرَءون الزَّبورَ. قال أبو جعفرٍ -يَعْنِى الرازىَّ-: وبلَغَنى أيضًا أن الصابئين قومٌ يَعْبُدون الملائكةَ، ويَقْرَءون الزَّبورَ، ويُصَلُّون (1) القِبْلَةَ

(3)

.

وقال آخَرون: بل هم طائفةٌ مِن أهلِ الكتابِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، قال: سألتُ

(4)

السُّدِّىَّ عن الصابِئِين، فقال: هم طائفةٌ مِن أهلِ الكتابِ

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} .

يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : مَن صدَّق باللهِ،

(1)

بعده في م: "إلى".

(2)

ذكره ابن كثير 1/ 149 عن سعيد، عن قتادة. وسيأتى في سورة الحج، الآية 17 من طريق معمر عن قتادة، مطولا.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 127، 128، (639، 642) من طريق آدم به.

(4)

في م: "سئل".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 127 عقب الأثر (639) من طريق أسباط، عن السدى. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى وكيع.

ص: 37

وأقَرَّ بالبَعْثِ بعدَ المَماتِ يومَ القيامةِ، {وَعَمِلَ صَالِحًا} فأطاع اللهَ، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. يعني بقولِه:{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فلهم ثوابُ عملِهم الصالحِ عندَ ربِّهم.

فإن قال لنا قائلٌ: فأين تمامُ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} ؟ [قيل: تمامُه]

(1)

جملةُ قولِه: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . لأن معناه: مَن آمَن منهم باللهِ واليومِ الآخِرِ. فترَك ذكرَ "منهم" لدلالةِ الكلامِ عليه؛ اسْتِغْناءً بما ذكَر عمَّا ترَك ذكْرَه.

فإن قال: وما معنى هذا الكلامِ؟

قيل معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، مَن يُؤْمِنْ منهم

(2)

باللهِ واليومِ الآخِرِ فلهم أجرُهم عندَ ربِّهم.

فإن قال: وكيف يُؤْمِنُ المؤمنُ؟

قيل: ليس المعنى في المؤمنِ المعنى الذي ظنَنْتَه، مِن انْتِقالٍ مِن دينِ إلى دينِ، كانتقالِ [اليهودِ والنصارى]

(3)

إلى الإيمانِ -وإن كان قد قيل: إن الذين عُنُوا بذلك مَن كان مِن أهلِ الكتابِ على إيمانِه بعيسى صلى اللهُ عليه، وبما جاء به، حتى أدْرَك محمدًا صلى الله عليه وسلم: فآمَن به وصدَّقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذْ

(4)

أدْرَكوا محمدًا صلى الله عليه وسلم: آمِنُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به- ولكن معنى إيمانِ المؤمنِ في هذا الموضعِ ثباتُه على إيمانِه وتركُه تَبديلَه.

(1)

في ت 1، ت 3:"قبل إتمامه".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "اليهودي والنصرانى".

(4)

في الأصل: "إذا".

ص: 38

وأما إيمانُ اليهودِ والنصارى والصابئين، فالتصديقُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، فمَن يُؤْمِنْ منهم بمحمدٍ وبما جاء به واليومِ الآخرِ، ويَعْمَلْ صالحًا، فلم يُبَدِّلْ ولم يُغَيِّرْ، حتى تُوُفِّى على ذلك كلِّه

(1)

، فله ثوابُ عملِه وأجرُه عندَ ربِّه، كما وصَف جلَّ ثناؤُه.

فإن قال قائلٌ: وكيف قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . وإنما لفظُ {مَنْ} لفظُ واحدٍ، والفعلُ معه مُوَحَّدٌ؟

قيل: إنَّ "مَن"، وإن كان الذي يليه مِن الفعلِ مُوَحَّدًا، فإن له معنى الواحدِ والاثنين والجمعِ، والتذكيرِ والتأنيثِ؛ لأنه في كلِّ هذه الأحوالِ على هيئةٍ واحدةٍ وصورةٍ واحدةٍ لا يَتَغَيَّرُ، فالعربُ تُوَحِّدُ معه الفعلَ وإن كان في معنى جَمْعٍ، للفظِه، وتَجْمَعُ أخرى معه الفعلَ لمعناه، كما قال تعالى ذكرُه:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} [يونس: 42، 43]. فجمَع مرةً مع {مَنْ} الفعلَ لمعناه، ووحَّد أخرى معه الفعلَ، لأنه في لفظِ واحدٍ

(2)

، كما قال الشاعرُ

(3)

:

ألِمَّا

(4)

بسَلْمَى عنهما إنْ عرَضْتُما

وقُولَا لها عُوجِى على مَن تَخَلَّفوا

فقال: تخَلَّفوا. فجمَع

(5)

، وجعَل "مَن" بمنزلةِ "الذين". قال الفَرَزْدَقُ

(6)

:

(1)

سقط من ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م، ت 1، ت 2:"الواحد".

(3)

البيت لامرئ القيس، وهو في الديوان ص 324 من قصيدة له، ويقال أيضًا: إنها لرجل من كندة.

(4)

الإلمام: الزيارة في الأحايين. اللسان (ل م م).

(5)

سقط من: م.

(6)

ديوانه ص 870.

ص: 39

[تَعالَ فإن عاهَدْتَنى]

(1)

لا تَخُونُني

نَكُنْ مثلَ مَن يا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ

فثنَّى "يصطحبان" لمعنى "مَن". فكذلك قولُه: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . وحَّد {آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} للفظِ {مَنْ} ، وجمَع ذكْرَهم في قولِه:{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لمعناه؛ لأنه في معنى جمعٍ.

وأما قولُه: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فإنه يعني به جلَّ ذكرُه: ولا خوفٌ عليهم فيما قدِموا عليه مِن أهوالِ القيامةِ، ولا هم يَحْزَنون على ما خلَّفوا وراءَهم مِن الدنيا وعيشِها، عندَ مُعاينتِهم ما أعَدَّ اللهُ لهم مِن الثوابِ والنَّعيمِ المُقيمِ عندَه.

ذكْرُ مَن قال: عُنِى بقولِه: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} . مؤمنو أهلِ الكتابِ الذين أدْرَكوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية. قال: نزَلَت هذه الآيةُ في أصحابِ سَلْمانَ الفارسيِّ، وكان سلمانُ رجلًا مِن جُنْدَيْسَابُورَ

(2)

، وكان مِن أشرافِهم، وكان ابنُ الملكِ صديقًا له مؤاخيًا، لا يقضي واحدٌ منهما أمرًا دونَ صاحبِه، وكانا يَركبانِ

(3)

إلى الصيدِ جميعًا، فبينما هما في الصيدِ إذ رُفِع لهما بيتٌ مِن عَباءٍ

(4)

، فأتَياه فإذا هما فيه برجلٍ بينَ يديه مُصْحفٌ يَقرَأُ فيه وهو يَبْكِى،

(1)

في الديوان: "تعش فإن واثقتنى".

(2)

في م: "جندا يسابور". وجنديسابور: من بلاد فارس. ينظر معجم ما استعجم 2/ 397.

(3)

في الأصل: "يركنان".

(4)

في م: "خباء". والعباء: ضرب من الأكسية فيه خطوط. تاج العروس (ع ب أ).

ص: 40

فسأَلاه: ما هذا؟ فقال: الذى يُرِيدُ أن يَعْلَمَ هذا لا يَقِفُ موقفَكما، فإن كنتما تُرِيدانِ أن تَعْلَما ما فيه فانْزِلا حتى أُعَلِّمَكما. فنزَلا إليه، فقال لهما: هذا كتابٌ

(1)

جاء مِن عندِ اللهِ، أمَر فيه بطاعتِه، ونهَى [فيه عن معصيتِه:]

(2)

ألا تزْنىَ، ولا تَسرِقَ، ولا تَأْخُذَ أموالَ الناسٍ بالباطلِ -فقصَّ عليهما ما فيه- وهو الإنجيلُ الذي أنْزَل اللهُ على عيسى. فوقَع فى قلوبهما وتابَعاه فأسْلَما، وقال لهما: إن ذبيحةَ [قومِكما عليكما]

(3)

حرامٌ. فلم يَزالا معه كذلك يَتَعَلَّمان منه، حتى كان عيدٌ للملكِ، فجعَل

(4)

طعامًا، ثم جمَع الناسَ والأشرافَ، وأرْسَل إلى ابنِ الملكِ، فدعاه إلى صَنِيعِه ليَأْكُلَ مع الناس، فأبَي الفتى وقال: إنى عنك مَشْغولٌ، فكلْ أنت وأصحابُك. فلما أكْثَر عليه مِن الرسلِ، أخْبَرَهم أنه لا يَأْكُلُ مِن طعامِهم، فبعث الملكُ إلى ابنِه، فدعاه وقال: ما أمْرُك هذا

(5)

؟ قال: إنا لا نَأْكُلُ مِن ذبائِحكم، إنكم كفارٌ، ليس تَحِلُّ ذبائحُكم. فقال له الملكُ: مَن أمَرَك بهذا؟ فأخْبَرَه أن الراهبَ أمَره

(6)

بذلك، فدعا الراهبَ فقال: ماذا يَقُولُ ابنى؟ قال: صدَق ابنُك. قال له: لولا أن الدمَ فينا عظيمٌ لقتَلْتُك، ولكن اخْرُجْ مِن أرضِنا. فأجَّلَه أجَلًا. قال سلمانُ: فقمْنا نَبْكِى عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقَيْن، فإنا في بِيعةٍ بالموصلِ مع ستين رجلًا نَعْبُدُ اللهَ فيها، فائْتونا فيها. فخرَج الراهبُ، وبقِى سَلْمانُ وابنُ الملكِ، فجعَل سلمانُ يقولُ لابنِ الملكِ: انْطَلِقْ بنا. وابنُ الملكِ يقولُ: نعم. وجعَل ابنُ

(1)

بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن معصيته فيه".

(3)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"قومكم عليكم".

(4)

جعل هنا: صنع. والجعل والصنع واحد. التاج (ج ع ل).

(5)

سقط من: الأصل.

(6)

في ت 1: "أخبره".

ص: 41

الملكِ يَبيعُ مَتاعَه يُرِيدُ الجَهازَ

(1)

، فلمَّا أبْطَأ على سلمانَ، خرَج سلمانُ حتى أتاهم، فنزَل على صاحبِه، وهو ربُّ البِيعةِ، وكان أهلُ تلك البِيعةِ [أفضلَ مرتبةً مِن]

(2)

الرُّهْبانِ، فكان سَلْمانُ معه

(3)

يَجْتَهِدُ في العبادةِ، ويُتْعِبُ نفسَه، فقال له الشَّيخُ: إنك غلامٌ حَدَثٌ، تَكَلَّفُ

(4)

مِن العبادةِ ما لا تُطِيقُ، وأنا خائفٌ أن تَفْتُرَ وتَعْجِزَ، فارْفُقْ بنفسِك وخَفِّفْ عنها

(5)

. فقال له سلمانُ: أرَأَيْتَ الذى تَأْمُرُنى به، أهو

(6)

أفضلُ أو الذي أَصْنَعُ؟ قال: لا

(7)

، بل الذي تَصْنَعُ؟ قال: فخلِّ عنى. قال: ثم إن صاحبَ البِيعةِ دعاه، فقال: أتَعْلَمُ أن هذه البِيعةَ لي، وأنا أحَقُّ الناسِ بها، ولو شئتُ أن أُخْرِجَ هؤلاء منها لَفعَلْتُ! ولكنى رجلٌ أضْعُفُ عن عبادةِ هؤلاء، وأنا أُرِيدُ أن أتحوَّلَ مِن هذه البِيعةِ إلى بِيعةٍ أخرى، هم أهونُ عبادةً مِن هؤلاء، فإن شئتَ أن تُقِيمَ هاهنا فأقِمْ، وإن شئتَ أن تَنْطَلِقَ معى فانْطَلِقْ. فقال له سلمانُ: أىُّ البِيعَتَيْن أفضلُ أهلًا؟ قال: هذه. قال سلمانُ: فأنا أكونُ في هذه. فأقام سلمانُ بها، وأوْصَى صاحبُ البِيعةِ عالِمَ البِيعةِ بسَلمانَ، فكان سلمانُ يَتَعَبَّدُ معهم. ثم إن الشيخَ العالِمَ أراد أن يَأْتىَ بيتَ المقدسِ، [فدعا سلمانَ، فقال: إنى أريدُ أن آتىَ بيتَ المقدسِ، فإن شئتَ]

(8)

أن تَنْطلِقَ معى فانطلِقْ، وإن شئتَ أن تُقِيمَ فأقِمْ. قال له سلمانُ: أيُّهما أفضلُ؛ أنْطَلِقُ معك أوْ

(9)

أُقِيمُ؟ قال: لا، بل تَنْطَلِقُ معى. فانْطَلَق

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"الجهاد".

(2)

في م: "من أفضل"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"أفضل من".

(3)

في م: "معهم".

(4)

في م: "تتكلف"، وفى ت 2:"فكلف".

(5)

في م: "عليها".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".

(7)

سقط من: م.

(8)

في م: "فقال لسلمان: إن أردت"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فإن شئت".

(9)

في م: "أم".

ص: 42

معه، فمرُّوا بمُقْعَدٍ على ظهرِ الطريقِ مُلْقًى، فلما رآهما نادَى: يا سيدَ الرُّهْبانِ، ارْحَمْنى رحِمك

(1)

اللهُ. فلم يُكَلِّمْه، ولم يَنْظُرْ إليه، وانْطَلَقا حتى أتَيَا بيتَ المقدسِ، فقال الشَّيخُ لسلمانَ: اخْرُجْ فاطْلُبِ العلمَ، فإنه يَحْضُرُ هذا المسجدَ عُلماءُ أهلِ الأرضِ. فخرَج سلمانُ يَسْمَعُ منهم، فرجَع يومًا حَزينًا، فقال له الشَّيخُ: ما لك يا سلمانُ؟ قال: أَرَى الخيرَ كلَّه قد ذهَب به مَن كان قبلَنا مِن الأنبياءِ وأتباعِهم. قال له الشَّيخُ: يا سلمانُ، لا تَحْزَنْ، فإنه قد بقِى نبيٌّ ليس مِن نبيٍّ أفضلَ تَبَعًا منه، وهذا زمانُه الذي يَخْرُجُ فيه، ولا أُرَانى أُدْرِكُه، وأما أنت فشابٌّ فلعلك أن تُدْرِكَه، وهو يَخْرُجُ في أرضِ العربِ، فإن أدْرَكْتَه فآمِنْ به واتَّبِعْه. فقال له سلمانُ: فأخْبِرْنى عن علامتِه بشيءٍ. قال: نعم، هو مَخْتومٌ في ظهرِه بخاتمِ النُّبُوةِ، وهو يَأْكُلُ الهَديَّةَ، ولا يَأْكُلُ الصدقةَ. ثم رجَعا حتى بلَغا مكانَ المُقْعَدِ، فناداهما فقال: يا سيدَ الرُّهْبانِ، ارْحَمْنى رحِمك

(1)

اللهُ. فعطَف إليه حمارَه، وأخَذ بيدِه فرَفَعه، وضرَب به الأرضَ، ودعا له، وقال: قُمْ بإذنِ اللهِ. فقام صحيحًا يَشْتَدُّ

(2)

. فجعَل سلمانُ يَتَعَجَّبُ وهو يَنْظُرُ إليه يَشْتَدُّ، وسار الراهبُ، فتغَيَّب عن سلمانَ، ولا يَعْلَمُ سَلْمانُ. ثم إن سلمانَ فزِع، فطلَب الراهبَ، [فلقِى رجلين]

(3)

مِن العربِ مِن كَلْبٍ، فسأَلهما: هل رأيْتُما الراهبَ؟ فأناخ أحدُهما راحلتَه، قال: نِعْمَ راعى الصِّرْمةِ

(4)

هذا

(5)

! فحمَله فانْطَلَق به إلى المدينةِ. قال سلمانُ: فأصابَنى مِن الحزنِ شيءٌ لم يُصِبْنى مثلُه قطُّ. فاشْتَرَتْه امرأةٌ مِن جُهَيْنةَ، فكان يَرْعَى عليها هو وغلامٌ لها يَتَراوَحان الغنمَ، هذا يومًا وهذا يومًا، وكان سلمانُ يَجْمَعُ الدراهمَ يَنْتَظِرُ خروجَ

(1)

في م: "يرحمك".

(2)

يشتد: يسرع ويعدو. اللسان (ش د د).

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فلقيه رجلان".

(4)

الصرمة: القطيع من الإبل والغنم. انظر اللسان (ص ر م).

(5)

في ت 1، ت 2:"هذه".

ص: 43

محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فبينا هو يومًا يَرْعَى، إذ أتاه صاحبُه الذى يَعْقُبُه، فقال له

(1)

: أشَعَرْتَ أنه

(2)

قدِم اليومَ المدينةَ رجلٌ يَزْعُمُ أنه نبىٌّ؟ فقال له سلمانُ: أَقِمْ في الغنمِ حتى آتِيَك. فهبَط سلمانُ إلى المدينةِ، فنظَر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ودار حولَه، فلمَّا رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عرَف ما يُرِيدُ، فأرْسَل ثوبَه، حتى خرَج خاتمُه، فلمَّا رآه أتاه وكلَّمه، ثم انْطَلَق، فاشْتَرَى بدينارٍ، ببعضِه شاةً فشواها

(1)

، وببعضِه خبزًا، ثم أتاه به، فقال:"ما هذا؟ " قال سلمانُ: هذه صدقةٌ، قال:"لا حاجةَ لى بها، فأخْرِجْها فلْيَأْكُلْها المُسْلِمون". ثم انْطَلَق فاشْتَرَى بدينارٍ آخرَ خبزًا ولحمًا، فأتَى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما هذا؟ " قال: هذه هديَّةٌ. قال: "فاقْعُدْ فكُلْ

(2)

". فقعَد فأكَلا جميعًا منها، فبينا هو يُحَدِّثُه إذ ذكَر أصحابَه، فأخْبَرَه خبرَهم، فقال: كانوا يَصُومون ويُصَلُّون ويُؤْمِنون بك، ويَشْهَدون أنك ستُبْعَثُ نبيًّا. فلما فرَغ سلمانُ مِن ثنائِه عليهم قال له نبىُّ اللهِ: "يا سَلْمانُ، هم مِن أهلِ النارِ". فاشْتَدَّ ذلك على سلمانَ، وقد كان قال له سلمانُ: لو أدْرَكوك صدَّقوك واتَّبَعوك. فأنْزَل اللهُ هذه الآيةَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فكان إيمانُ اليهودِ أنه مَن تمَسَّك بالتَّوْراةِ وسنةِ موسى [كان مؤمنًا]

(3)

، حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان مَن تمَسَّك بالتَّوْراةِ وأخَذ بسنةِ موسى فلم يَدَعْها، و

(4)

يَتَّبِعْ عيسى كان هالكًا. وإيمانُ النصارى أنه مَن تمَسَّك بالإنجيلِ منهم وشرائعِ عيسى، كان مؤمنًا مَقْبولًا منه، حتى جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فمن لم يَتَّبِعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم

(1)

سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

بعده في م، ت 1، ت 3:"قد".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

بعده في م: "لم".

ص: 44

منهم ويَدَعْ ما كان عليه مِن سنةِ عيسى والإنجيلِ، كان هالكًا

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية. قال: سأل

(2)

سلمانُ الفارسىُّ النبيَّ

(3)

صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأَى مِن أعمالِهم، قال:"لم يَمُوتوا على الإسلامِ". قال سلمانُ: فأظْلَمَت علىَّ الأرضُ، وذكرتُ

(4)

اجتهادَهم

(5)

. فنزَلَت هذه الآيةُ، فدعا سلمانَ فقال:"نَزَلَت هذه الآيةُ فى أصحابِك". ثم قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن مات على دينِ عيسى، ومن (2) مات على دينِ الإسلامِ قبلَ أن يَسْمَعَ بى، فهو على خيرٍ، ومَن سمِع بىَ اليومَ ولم يُؤْمِنْ بى فقد هلَك"

(6)

.

وقال ابنُ عباسٍ بما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثنى مُعاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} . إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فأنْزَل

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 73 إلى المصنف -بلفظه- وابن أبى حاتم. وهو عند ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 127 (636)، والواحدى في أسباب النزول ص 16 من طريق عمرو بن حماد به، مختصرا.

وأخرجه الواحدى -أيضا- وابن عساكر في تاريخه 21/ 418، 419 من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدى، عن أبى مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مختصرا. وذكره الذهبى في السير 1/ 522 - 525 من طريق عمرو به عن السدى بإسناده، مطولا.

(2)

سقط من: م.

(3)

في م: "للنبى".

(4)

في م، ت 1:"ذكر".

(5)

في الأصل: "أخبارهم".

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 74 إلى المصنف. وأخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 15 من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: لما قص سلمان. . . وأخرجه ابن أبى عمر المدنى في مسنده -كما في الدر المنثور 1/ 73 - ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 126 (634) من طريق ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال: قال سلمان:

ومجاهد لم يسمع من سلمان.

ص: 45

اللهُ جلَّ ثناؤُه بعدَ هذا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

(1)

[آل عمران: 85].

[حدَّثنا ابنُ البَرْقىِّ قال: حدَّثنا عمرُو بنُ أبى سلمةَ، عن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ فى قولِ اللهِ جلَّ وعزَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. قال: هى منسوخةٌ، نسخَتها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا}]

(2)

.

وهذا الخبرُ يَدُلُّ على أن ابنَ عباسٍ كان يَرَى أن اللهَ تعالى ذكرُه قد كان وعَد مَن عمِل صالحًا مِن اليهودِ والنصارى والصابئين على عملِه في الآخرةِ الجنةَ، ثم نسَخ ذلك بقولِه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .

فتأويلُ الآيةِ إذن على ما ذكَرْنا عن مجاهدٍ والسدىِّ: إن الذين آمَنوا مِن هذه الأمةِ، والذين هادُوا والنصارى والصابئين -مَن آمَن مِن اليهودِ والنصارى والصابئين باللهِ واليومِ الآخرِ- فلهم أجرُهم عندَ ربِّهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون.

والذى قلْنا مِن التأويلِ الأولِ أشْبَهُ بظاهرِ التَّنْزيلِ؛ لأن اللهَ تعالى ذِكرُه لم يَخْصُصْ بالأجرِ على العملِ الصالحِ مع الإيمانِ بعضَ خلقِه دونَ بعضٍ منهم، والخبرُ بقولِه:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . عن جميعِ مَن

(3)

ذكَر في أولِ الآيةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} .

الميثاقُ المِفْعالُ، مِن الوَثيقةِ؛ إما بيمينٍ، وإما بعهدٍ، أو غيرِ ذلك مِن الوَثائقِ.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 126 (635)، وابن الجوزى في ناسخه ص 130 من طريق أبى صالح به.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: ت 1، وفى م، ت 2، ت 3:"ما".

ص: 46

ويعنى بقولِه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} . الميثاقَ الذى أخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه أنه أخَذ منهم في قولِه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83 - 85]. الآيات التى ذكَر معها.

وكان سببَ أخذِ الميثاقِ عليهم فيما ذكَر ابنُ زيدٍ ما حدَّثنى يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لما رجَع موسى مِن عندِ ربِّه بالألواحِ قال لقومِه بنى إسرائيلَ: إن هذه الألواحَ فيها كتابُ اللهِ، وأمْرُه الذى أمَرَكم به، ونَهْيُه الذى نهاكم عنه. فقالوا: ومَن يَأْخُذُه بقولِك أنت؟ لا واللهِ حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً، حتى يَطلُعَ اللهُ إلينا

(1)

فيقولَ: هذا كتابى فخُذُوه. فما لَه لا يُكَلِّمُنا كما كلَّمَك أنت يا موسى! فيقولُ: هذا كتابى فخُذُوه. قال: فجاءت غَضْبةٌ مِن اللهِ، فجاءَتهم صاعقةٌ فصَعَقَتْهم، فماتوا أجْمَعون. قال: ثم أحْياهم اللهُ مِن بعدِ موتِهم، فقال لهم موسى: خُذُوا كتابَ اللهِ. فقالوا: لا. قال: أىُّ شيءٍ أصابكم؟ قالوا: مِتْنا ثم حَيِينا. قال: خذُوا كتابَ اللهِ. قالوا: لا. فبعَث اللهُ ملائكةً، فنتَقَت الجبلَ فوقَهم. [وقرَأ:{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء: 154]. قال: فرُفِع فوقَهم]

(2)

. فقيل لهم: أتَعْرِفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطُّورُ. قال: خُذُوا الكتابَ، وإلا طرَحْناه عليكم. قال: فأخَذوه بالميثاقِ. وقرَأ قولَ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . حتى بلَغ: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . قال: ولو كانوا أخَذُوه أولَ مرةٍ لأخَذوه بغيرِ مِيثاقٍ

(3)

.

(1)

في م: "علينا".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

تقدم هذا الأثر في 1/ 696.

ص: 47

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} .

أمَّا الطُّورُ فإنه الجبلُ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ العَجَّاجِ

(1)

:

دانَى جناحَيْهِ

(2)

مِن الطُّورِ فمَرّ

تَقَضِّىَ

(3)

البازِى إذا البازِى كَسَرْ

(4)

وقيل: إنه اسمُ جبلٍ بعينه. وذكَروا

(5)

أنه الجبلُ الذى ناجَى اللهُ عليه موسى.

وقيل: إنه مِن الجبالِ ما أنْبَتَ دون ما لم يُنْبِتْ.

ذكرُ مَن قال: هو الجبل كائنًا ما كان

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال: أمَر موسى قومَه أن يَدْخُلُوا البابَ سُجَّدًا ويَقُولوا: حِطَّةٌ. وطُؤْطِئ لهم

(6)

البابُ ليَسْجُدوا، فلم يَسْجُدوا ودخَلوا على أدْبارِهم، وقالوا: حِنْطةٌ. فنتَق فوقَهم الجبلَ -يقولُ: أخْرَج أصْلَ الجبلِ مِن الأرضِ، فرفَعه فوقَهم كالظُّلَّةِ- والطُّورُ بالسُّريانيةِ الجبلُ -تخويفًا، [فدخَلوا سُجَّدًا على خوفٍ- أو حَرْفٍ، شكَّ أبو عاصمٍ]

(7)

-أعينُهم إلى الجبلِ، هو الجبلُ الذى تجَلَّى له ربُّه

(8)

.

(1)

ديوانه ص 28.

(2)

دانى جناحيه: ضمهما.

(3)

تقضى: أصلها: تقضَّض، فقلب الضاد الأخيرة ياء استثقالًا. وتقضض الطائر: هوى في طيرانه يريد الوقوع. تاج العروس (ق ض ض).

(4)

كسر: إذا ضم من جناحيه شيئا وهو يريد الوقوع أو الانقضاض. التاج (ك س ر).

(5)

في م: "ذكر".

(6)

في الأصل: "عليهم".

(7)

في م: "أو خوفا، شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف".

(8)

تفسير مجاهد ص 203، 204، وتقدم أوله في 1/ 714.

ص: 48

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ، قال: رُفِع الجبلُ فوقَهم كالظُّلَّةِ

(1)

، كالسَّحابةِ، فقيل لهم: لتُؤْمِنُنَّ أو ليَقَعَنَّ عليكم. فآمَنوا. والجبلُ بالسُّرْيانيةِ الطُّورُ.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} . قال: الطورُ جبلٌ

(2)

كانوا بأصلِه، فرُفِع عليهم فوقَ رءوسِهم، فقال: لتَأْخُذُنَّ أمْرِى، أو لأَرْمِيَنَّكم به

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ:{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} . قال: الطورُ الجبلُ، اقْتَلَعه اللهُ، فرفَعه فوقَهم، فقال:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} . فأَقَرُّوا بذلك

(4)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} . قال: رفَع فوقَهم الجبلَ، يُخَوِّفُهم به

(5)

.

حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن النَّضْرِ بنِ عَرَبىٍّ، عن عِكْرمةَ، قال: الطُّورُ الجبلُ

(6)

.

حدَّثنا موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ: لما قال اللهُ تعالى ذكرُه لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} . فأبَوْا أن يَسْجُدوا، وأمَر اللهُ جلَّ ذكرُه الجبلَ أن يَقَعَ عليهم، فنظروا إليه وقد غشِيَهم، فسقَطوا سُجَّدًا،

(1)

سقط من: م.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الجبل".

(3)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 75 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 47.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 129 عقب الأثر (652) من طريق أبى جعفر، عن الربيع من قوله.

(6)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 129 عقب الأثر (652) معلقًا.

ص: 49

فسجَدوا

(1)

على شِقٍّ، ونظَروا بالشقِّ الآخَرِ، فرحِمَهم اللهُ، فكشَفه عنهم، [فقالوا: ما سجدةٌ أحبَّ إلى اللهِ مِن سجدةٍ كشَف بها العذابَ عنكم. فهم يسجُدون لذلك على شقٍّ]

(2)

، وذلك قولُه:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171]. وقولُه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}

(3)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: الجبلُ بالسُّرْيانيةِ الطُّورُ، [وهو بالعربيةِ الجبلُ]

(4)

.

وقال آخَرون: الطورُ اسمٌ للجبلِ الذى ناجَى اللهُ جل جلاله عليه موسى عليه السلام.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الطُّورُ الجبلُ الذى أُنْزِلَت عليه -يعنى على موسى- التَّوْراةُ، وكانت بنو إسرائيلَ أسفلَ منه

(5)

. قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال لى عَطاءٌ: رفَع الجبلَ على بنى إسرائيلَ، فقال: لتُؤْمِنُنَّ به أو ليَقَعَنَّ عليكم. فذاك قولُه: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}

(6)

.

وقال آخَرون: الطُّورُ مِن الجبالِ ما أنْبَتَ خاصَّةً.

(1)

سقط من: م.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 130 (654) من طريق عمرو بن حماد به.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى المصنف.

(6)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 129 (653) من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء.

ص: 50

ذكرُ من قال ذلك

حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{الطُّورَ} قال: الطورُ مِن الجبالِ ما أنْبَت، وما لم يُنْبِتْ فليس بطُورٍ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} .

اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: هو مما اسْتُغنِى بدلالةِ الظاهرِ المذكورِ عما تُرِك ذكرُه منه

(2)

، وذلك أن معنى الكلامِ: ورفَعْنا فوقَكم الطُّورَ، وقلْنا لكم: خُذُوا ما آتَيْناكم بقوةٍ، وإلا قذَفْناه عليكم.

وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: أخْذُ الميثاقِ قولٌ، فلا حاجةَ بالكلامِ إلى إضمارِ قولٍ فيه، فيكونَ مِن كلامَيْن، غيرَ أنه يَنْبَغِى لكلِّ ما خالَف القولَ مِن الكلامِ الذى هو بمعنى القولِ أن تكونَ معه "أن"، كما قال تعالى ذكرُه:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1]. قال: ويجوزُ بحذْفِ

(3)

"أن".

قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا أن كلَّ كلامٍ نُطِق به، مفهومٌ به معنى ما أُرِيد منه

(4)

، ففيه الكِفايةُ مِن غيرِه.

ويعنى بقولِه: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} : ما أمَرْناكم به في التَّوْراةِ. وأصلُ الإيتاءِ الإعطاءُ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 129 (651) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"له".

(3)

في م: "أن تحذف".

(4)

سقط من: الأصل، م، ت 1، ت 2.

ص: 51

ويعنى بقولِه: {بِقُوَّةٍ} : بجِدٍّ، و

(1)

تأديةِ ما [أُمِرْتم به]

(2)

فيه وافْتُرِض عليكم.

كما [حدَّثنا عبدُ الكريمِ، قال: حدَّثنا]

(3)

إبراهيمُ بنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ عُيَيْنةَ، قال: [حدَّثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{بِقُوَّةٍ} قال: بجدٍّ

(4)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال]

(5)

: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} . قال: بعَمَلٍ

(6)

بما فيه

(7)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} . [أي: بطاعةِ اللهِ

(8)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفارىُّ، قال: أخبَرنا عبيدُ اللهِ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} ]

(9)

. قال: بطاعةٍ

(10)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن

(1)

في م: "في".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمركم".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثت عن".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى المصنف.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

في م: "تعملوا"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"يعمل".

(7)

تفسير مجاهد ص 205، ومن طريقه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 4/ 173 - وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 130 (657).

(8)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 130 (656) من طريق آدم به.

(9)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 130 عقب الأثر (656) من طريق أبى جعفر به.

ص: 52

قَتادَةَ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} . قال: القوةُ الجِدُّ، وإلا قَذَفْتُه

(1)

عليكم. قال: فأقَرُّوا بذلك أنهم يَأْخُذُون ما أُوتُوا بقوةٍ

(2)

.

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السدىِّ:{بِقُوَّةٍ} : يعنى بجِدٍّ واجْتِهادٍ

(3)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ، وسألْتُه عن قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} . قال: خُذُوا الكتابَ الذى جاء به موسى بصدقٍ وحقٍّ.

[حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ}. قال: كتابُكم، لتأْخُذُنَّه أو لَيَقعَنَّ عليكم الطُّورُ. قالوا: نأخُذُه. وأقَرُّوا ثم نقَضُوا الميثاقَ بعدَ ذلك]

(4)

.

فتأويلُ الآيةِ إذن: خُذُوا ما افْتَرَضْنا عليكم في كتابِنا مِن الفرائضِ فاقْبَلوه، واعْمَلوا باجتهادٍ منكم في أدائِه، مِن غيرِ تَقْصيرٍ ولا تَوانٍ. وذلك هو معنى أخْذِهم إياه بقوةٍ وبجِدٍّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)} .

يعنى تعالى ذكرُه: واذْكُروا ما فيما آتَيْناكم مِن كتابِنا مِن وعدٍ ووعيدٍ

(5)

، وتَرْغيبٍ وتَرْهيبٍ، فاتْلُوه واعْتَبِروا به، وتَدَبَّروه، [كى إذا فعَلْتم ذلك تَتَّقونى]

(6)

،

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"قذفه".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 47، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 130 (658) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

عزاه الحافظ في الفتح 8/ 161 إلى المصنف.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 129 (653) من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، نحوه.

(5)

بعده في م، ت 2:"شديد".

(6)

في م: "إذا فعلتم ذلك كى تتقوا".

ص: 53

وتَخافوا عِقابى، بإصْرارِكم على ضَلالِكم، فتُنيبُوا إلى طاعتى، وتَنْزِعوا عما أنتم عليه مِن مَعصيتى.

كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن داودَ بنِ الحُصينِ، عن عِكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال: تَنْزِعون عما أنتم عليه

(1)

.

والذى آتاهم اللهُ تعالى ذكرُه هو التوراةُ، كما حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} . يقولُ: واذْكُروا ما في التوراةِ [واعمَلُوا به]

(2)

.

حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} . يقولُ: [اقرَءوا ما]

(3)

في التَّوْراةِ

(4)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سأَلْتُ ابنَ زيدٍ عن قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} . قال: اعْمَلوا بما فيه بطاعةِ اللهِ تعالى ذكرُه وصدقٍ. قال: وقال: اذكُروا

(5)

ما فيه، ولا

(6)

تَنْسَوْه ولا تُغْفِلوه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعز: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} : ثم أعْرَضْتُم. وإنما هو "تفَعَّلْتُم"،

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى المصنف وابن إسحاق.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 130 (659) من طريق آدم به بنحوه، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 150.

(3)

في م: "أمروا بما"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"أمروا ما".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 130 عقب الأثر (659) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"واذكروا".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لا".

ص: 54

مِن قولِهم: ولَّانى فلانٌ دُبُرَه. إذا اسْتَدْبَر عنه وخلَّفه خلفَ ظهرِه، ثم يُسْتَعْمَلُ ذلك في كلِّ تاركٍ طاعةَ أَمْرٍ، [وهاجرِ خِلٍّ]

(1)

، ومُعْرِضٍ بوجهٍ

(2)

، فيقالُ: فلانٌ قد تَوَلَّى عن طاعةِ فلانٍ، وتوَلَّى عن مُواصلتِه. ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه:{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76]. يعنى بذلك: خالَفوا ما كانوا وعَدوا اللهَ مِن قولِهم: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75]. ونبَذوا ذلك وراءَ ظُهورِهم.

ومِن شأنِ العربِ استعارةُ الكلمةِ ووضعُها مكانَ نَظيرتِها، كما قال أبو ذُؤَيْبٍ

(3)

الهُذَلىُّ:

فليس كعَهْدِ

(4)

الدارِ يا أمَّ مالكٍ

ولكن أحاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ

وعاد الفتى كالكَهْلِ ليس بقائِلٍ

سوى العَدْلِ

(5)

شيئًا واسْتَراح العَواذِلُ

يعنى بقولِه: أحاطَت بالرِّقابِ السَّلاسلُ. أن الإسلام صار في منعِه إيانا ما كنا نَأْتِيه في الجاهليةِ مما حرَّمه اللهُ علينا في الإسلامِ، بمنزلةِ السَّلاسلِ المُحيطةِ برِقابِنا التى تَحُولُ بينَ مَن كانت في رقبتِه، مع الغُلِّ الذى في يدِه، وبينَ ما حاول أن يَتَناوَلَه.

ونَظائرُ ذلك في كلامِ العربِ أكثرُ مِن أن تُحْصَى. فكذلك قولُه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} . يعنى بذلك أنكم ترَكْتُم العملَ بما أخَذْنا ميثاقَكم وعهودَكم على العملِ به بجدٍّ واجْتهادٍ، بعدَ إعطائِكم ربَّكم المَواثيقَ على العملِ به، والقيامِ بما

(1)

في م: "بها عز وجل".

(2)

في م: "بوجهه".

(3)

كذا في النسخ، وكذا قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ص 112، والبيتان من قصيدة لأبى خراش

الهذلى يرثى بها زهير ابن العجوة. ديوان الهذليين 2/ 150.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لعهد".

(5)

في الأصل: "العذل"، وفى م:"الحق". وينظر شرح أشعار الهذليين 3/ 1223.

ص: 55

أمَرَكم به في كتابِكم، فنبَذْتُموه وراءَ ظهورِكم.

وكنَى بقولِه: {ذَلِكَ} . عن جميعِ ما قبلَه في الآيةِ المتقدمةِ، أعنى قولَه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الآية.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . فلولا أن اللهَ تفَضَّل عليكم بالتوبةِ بعدَ نَكثِكمُ

(1)

الميثاقَ الذى واثَقْتُموه -إذ رفَع فوقَكم الطورَ- بأنكم تَجْتَهِدون في طاعتِه، وأداءِ فَرائضِه، والقيامِ بما أمَرَكم به، والانْتِهاءِ عما نَهاكم عنه في الكتابِ الذى آتاكم، فأنْعَم عليكم بالإسلامِ، ورحمتُه التى رحِمَكم بها، فتَجاوَز عنكم خَطيِئتَكم التى ركِبْتُموها، بمراجعتِكم طاعةَ ربِّكم - لكنتم مِن الخاسرين.

وهذا وإن كان خطابًا لمن كان بينَ ظهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ الكتابِ أيامَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبرٌ عن أسلافِهم، فأُخْرِج

(2)

مُخْرَجَ الخَبَرِ

(3)

عنهم، على نحوِ ما قد بيَّنَّا فيما مضَى، من أن القَبيلةَ مِن العربِ تُخاطِبُ القَبيلةَ عندَ الفَخارِ أو غيرِه، بما مضَى مِن فِعلِ أسْلافِ المخاطِب بأسْلافِ المخاطَبِ، فتُضِيفُ فِعْلَ أسْلافِ المُخاطِبِ إلى أنفسِها، فتقولُ: فعَلْنا

(4)

وفعَلْنا

(4)

. [وما فُعِل بأسلافِ المخاطَبِ إلى المخاطِبِ لهم بقولِهم: فعَلنا بكمْ]

(5)

[وفعلْنا بكم]

(6)

. وقد ذكَرْنا بعضَ

(1)

فى ت 2، ت 3:"نقضكم"، وفى ت 1:"نبذكم".

(2)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الخبر".

(3)

فى م: "المخبر".

(4)

بعده فى م: "بكم".

(5)

سقط من: م.

(6)

زيادة من: ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 56

الشواهِدِ في ذلك مِن شعرِهم فيما مضَى

(1)

.

وقد زعَم بعضُهم أن الخطابَ في هذه الآياتِ إنما أُخْرِج بإضافةِ الفعلِ إلى المُخاطَبِين، والفعلُ لغيرِهم؛ لأن المخاطَبِين بذلك كانوا يَتَوَلَّوْن مَن كان فعَل ذلك مِن أوائلِ بني إسرائيلَ، فصيَّرهم اللهُ منهم مِن أجلِ وِلايتِهم لهم.

وقال بعضُهم: إنما قيل ذلك كذلك؛ لأن سامِعيه كانوا عالِمين -وإن كان الخطابُ خرَج خطابًا للأحْياءِ مِن بني إسرائيلَ وأهلِ الكتابِ- أن

(2)

المعنى في ذلك إنما هو خبرٌ عما [قد مضَى]

(3)

مِن أنْباءِ أسلافِهم، فاسْتُغْنِى بعلم السامِعِين بذلك عن ذكرِ أسْلافِهم بأعْيانِهم. ومثَّل ذلك بقولِ الشاعرِ

(4)

:

إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْنى لَئِيمةٌ

ولم تَجِدِى مِن أن تُقِرِّى به بُدًّا

فقال: إذا انْتَسَبْنا. و "إذا" تَقْتَضِى مِن الفعلِ مُسْتَقْبلًا، ثم قال: لم تَلِدْنى لَئِيمةٌ. فأخْبَر عن ماضٍ مِن الفعلِ، وذلك أن الوِلادةَ قد مَضَت وتقدَّمَت، وإنما فعَل ذلك -عندَ المُحْتَجِّ به- لأن السامعَ قد فهِم معناه.

فجعَل ما ذكَرْنا مِن خطابِ اللهِ أهلَ الكتابِ الذين كانوا بينَ ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيامَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بإضافةِ أفعالِ أسْلافِهم إليهم - نظيرَ ذلك.

والأولُ الذى قُلْنا هو المُسْتَفِيضُ في

(5)

كلامِ العربِ وخِطابِها.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 642، 643.

(2)

في م: "إذ".

(3)

في م: "قص الله".

* من هنا يبدأ خرم في المخطوطة الأصل وينتهى في ص 159.

(4)

معانى القرآن 1/ 61، وفى حاشية الأمير على مغنى اللبيب 1/ 25: في حاشية السيوطي: قائله زائدة بن صعصعة الفقعسى. ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى 1/ 89.

(5)

في م: "من".

ص: 57

وكان أبو العاليةِ يقولُ في قولِه: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} -فيما ذُكِر لنا- نحوَ القولِ الذى قُلْناه.

حدَّثنى المثنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ

(1)

، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . قال: فضلُ اللهِ الإسلامُ، ورحمتُه القرآنُ

(2)

.

وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، [عن أبيه]

(3)

، عن الربيعِ بمثلِه

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} .

قال أبو جعفرٍ: فلولا فَضْلُ اللهِ عليكم ورَحْمَتُه إياكم، بإنقاذِه إياكم بالتوبةِ عليكم مِن خَطيئتِكم وجُرْمِكم، لكنتم الباخِسِين أنفسَكم حُظوظَها دائمًا، الهالِكِين بما اجْتَرَمْتُم مِن نَقْضِ ميثاقِكم، وخلافِكم أمرَه وطاعتَه.

وقد تقَدَّم بيانُنا قبلُ بالشَّواهدِ عن

(5)

معنى الخَسارِ، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(6)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} .

(1)

في النسخ: "النضر". وهو من الأسانيد الدائرة.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 131 عقب الأثر (662) من طريق آدم به.

(3)

سقط من النسخ، وهو من الأسانيد الدائرة.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 131 عقب الأثر (662، 664) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

في ت 2: "على".

(6)

ينظر ما تقدم في 1/ 442.

ص: 58

يعنى بقولِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} : ولقد عرَفْتُم، كقولِك: قد عَلِمْتُ أخاك، ولم أَكُنْ أَعْلَمُه. يعنى: عرَفْتُه ولم أَكُنْ أَعْرِفُه. كما قال جلَّ ثناؤُه: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. يعنى: لا تَعْرِفونهم، اللهُ يَعْرِفُهم.

وقولُه: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} . أى: الذين تَجاوَزُوا حَدِّى، وركِبوا ما نهَيْتُهم عنه في يومِ السبتِ، وعصَوْا أمْرى.

وقد دلَّلْتُ فيما مضَى على أن الاعْتِداءَ أصلُه تَجاوُزُ الحدِّ في كلِّ شيءٍ، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

قال: وهذه الآيةُ وآياتٌ بعدَها تَتْلُوها، مما عدَّد جلَّ ثناؤُه فيها على بنى إسرائيلَ -الذين كانوا بينَ خِلالِ دُورِ الأنصارِ زمانَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، الذين ابْتَدَأ بذكرِهم في أولِ هذه السورةِ مِن نَكْثِ أسْلافِهم عهدَ اللهِ ومِيثاقَه- ما كانوا يُبْرِمون مِن العقودِ، وحذَّر المُخاطَبين بها أن يَحِلَّ بهم -بإصرارِهم على كفرِهم ومُقامِهم على جُحودِ نبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتركِهم اتباعَه والتصديقَ بما جاءَهم به مِن عندِ ربِّه- مثلُ الذى حلَّ بأوائلِهم مِن المَسْخِ والرَّجْفِ والصَّعْقِ، وما لا قِبَلَ لهم به مِن غَضَبِ اللهِ وسَخَطِه.

كالذى حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} يقولُ: ولقد عرَفْتُم. وهذا تحذيرٌ لهم مِن المعصيةِ، يقولُ: احْذَرُوا أن يُصِيبَكم ما أصاب أصحابَ السبتِ إذ عصَوْنى، {اعْتَدَوْا} ، يقولُ: اجْتَرَءوا، {فِي السَّبْتِ}. قال: لم يَبْعَثِ اللهُ نبيًّا إلا أمَره بالجُمُعةِ، وأخْبَرَه بفضلِها وعِظَمِها في السَّماواتِ وعندَ الملائكةِ، وأنَّ الساعةَ تَقُومُ فيها، فمَن اتَّبَع الأنبياءَ فيما

(1)

ينظر ما تقدم في ص 32.

ص: 59

مضَى، كما اتَّبَعَتْ أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمدًا، قَبِل الجُمُعةَ، وسمِع وأطاع وعرَف فضلَها، وثبَت عليها بما أمَره اللهُ تعالى به ونبيُّه صلى الله عليه وسلم، ومَن لم يَفْعَلْ ذلك كان بمنزلةِ الذين ذكَر اللهُ في كتابِه، فقال:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . وذلك أن اليهودَ قالت لموسى حين أمَرَهم بالجمعةِ، وأخْبَرَهم بفضلِها: يا موسى، كيف تَأْمُرُنا بالجُمُعةِ وتُفَضِّلُها على الأيامِ كلِّها، والسبتُ أفضلُ الأيامِ كلِّها؛ لأن اللهَ خلَق السماواتِ والأرضَ والأقْواتَ في ستةِ أيامٍ، وسبَت

(1)

له كلُّ شيءٍ مُطِيعًا يومَ السبتِ، وكان آخرَ الستةِ؟

قال: وكذلك قالت النصارَى لعيسى ابنِ مريمَ حينَ أمَرَهم بالجُمُعةِ، قالوا له: كيف تَأْمُرُنا بالجمعةِ، وأولُ الأيامِ أفضلُها وسيِّدُها، والأولُ أفضلُ، واللهُ واحدٌ، والواحدُ الأولُ أفضلُ؟ فأوْحَى اللهُ إلى عيسى أنْ دَعْهم والأحدَ، ولكن ليَفْعَلوا فيه كذا وكذا مما أمَرَهم به، فلم يَفْعَلوا، فقصَّ اللهُ تعالى قَصَصَهم في الكتابِ بمعصيتِهم.

قال: وكذلك قال اللهُ لموسى حينَ قالت له اليهودُ ما قالوا في أمرِ السبتِ أنْ دَعْهم والسبتَ فلا يَصِيدوا فيه سمكًا ولا غيرَه، ولا يَعْمَلوا شيئًا، كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبتُ ظهَرَتِ الحِيتانُ على الماءِ، فهو قولُه:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163]. يقولُ: ظاهرةً على الماءِ -ذلك لمعصيتِهم موسى- وإذا كان غيرُ يومِ السبتِ صارت صيدًا كسائرِ الأيامِ، فهو قولُه:{وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} . ففعَلَت الحيتانُ ذلك ما شاء اللهُ، فلما رأَوْها كذلك طمِعوا في أخْذِها، وخافوا العقوبةَ، فتناوَل بعضُهم منها، فلم تَمْتَنِعْ

(1)

سبت له: سكن وخشع وانقطع إلا عن العبادة. ينظر التاج (س ب ت).

ص: 60

عليه، وحذِر العقوبةَ التى حذَّرهم موسى مِن اللهِ تعالى، فلما رأَوا أن العقوبةَ لا تَحِلُّ بهم عادوا وأخْبَرَ بعضُهم بعضًا بأنهم قد أخَذوا السمكَ ولم يُصِبهم شيءٌ، فكثَّروا في ذلك، وظنُّوا أن ما قال لهم موسى كان باطلًا، وهو قولُ اللهِ جلَّ ثناؤُه:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} يقولُ لهؤلاء الذين صادوا السمكَ: فمسَخهم اللهُ قِرَدةً بمعصيتِهم. يقولُ: إذن لم يَحْيَوْا في الأرضِ إلا ثلاثةَ أيامٍ، ولم تَأْكُلْ، ولم تَشْرَبْ، ولم تَنْسُلْ، وقد خلَق اللهُ القردةَ والخنازيرَ، وسائرَ الخلقِ في الستةِ الأيامِ التى ذكَر اللهُ في كتابِه، فمسَخ هؤلاءِ القومَ في صورةِ القِردةِ، وكذلك يَفْعَلُ بمَن شاء كما يَشاءُ، ويُحَوِّلُه كما يَشاءُ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن داودَ بنِ الحُصينِ، عن عِكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: إن اللهَ إنما افْتَرَض على بنى إسرائيلَ اليومَ الذى افترض عليكم في عيدِكم، يومَ الجمعةِ، فخالَفوا إلى السبتِ فعظَّموه، وترَكوا ما أُمِروا به، فلمَّا أبَوْا إلا لزومَ السبتِ ابْتَلاهم اللهُ فيه، فحرَّم عليهم ما أحَلَّ لهم في غيرِه، وكانوا في قريةٍ بينَ أَيْلَةَ والطُّورِ يقالُ لها: مَدْيَنُ. فحرَّم اللهُ عليهم في السبتِ الحيتانَ؛ صيدَها وأكلَها، وكانوا إذا كان يومُ السبتِ أقْبَلَت إليهم شُرَّعًا إلى ساحلِ بَحْرِهم، حتى إذا ذهَب السبتُ ذهَبْنَ، فلم يَرَوْا حُوتًا صغيرًا ولا كبيرًا، حتى إذا كان يومُ السبتِ أتَينَ إليهم شُرَّعًا، حتى إذا ذهَب السبتُ ذهَبْنَ، فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأَمَدُ، وقَرِموا

(2)

إلى الحيتانِ عمَد رجلٌ منهم، فأخَذ حوتًا سرًّا يومَ السبتِ، فخَزَمَه

(3)

بخيطٍ، ثم أرْسَله في

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75، 3/ 137 إلى المصنف مختصرًا، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 151 عن الضحاك به، نحوه.

(2)

القَرَمُ، بالتحريك: شدة الشهوة إلى اللحم. اللسان (ق ر م).

(3)

خزم الشئ يخزمه خزمًا: شكه. اللسان (خ ز م).

ص: 61

الماءِ، وأوْتَد له وَتدًا في الساحلِ، فأوْثَقه ثم ترَكه، حتى إذا كان الغدُ جاء فأخَذَه -أى: إنى لم آخُذْه في يومِ السبتِ- ثم انْطَلَق به فأكَلَه، حتى إذا كان يومُ السبتِ الآخرِ عاد لمثلِ ذلك، ووجَد الناسُ ريحَ الحيتانِ، فقال أهلُ القريةِ: واللهِ لقد وجَدْنا ريحَ الحيتانِ. ثم عثَروا على ما صنَع ذلك الرجلُ، قال: ففعَلوا كما فعَل، وأكَلوا سرًّا زمانًا طويلًا، لم يَعْجَلِ اللهُ عليهم بعقوبةٍ حتى صادوها علانيةً وباعوها بالأسواقِ، وقالت طائفةٌ منهم مِن أهلِ البقيَّةِ

(1)

: ويحَكم! اتَّقُوا اللهَ. ونهَوْهم عما كانوا يَصْنَعون. وقالت طائفةٌ أُخرى لم تَأْكُلِ الحيتانَ، ولم تَنْهَ القومَ عما صنَعوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} لسخطِنا أعمالَهم

(2)

، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].

قال ابنُ عباسٍ: فبينما هم على ذلك أصْبَحَت تلك البَقِيَّةُ في أنديَتِهم ومساجدِهم، وفقَدوا الناسَ فلا يَرَوْنهم، فقال بعضُهم لبعضٍ: إن للناسِ لَشأنًا، فانْظُروا ما هو. فذهَبوا يَنْظُرون في دُورِهم، فوجَدوها مُغَلَّقةً عليهم، قد دخَلوا ليلًا، فغلَّقوها على أنفسِهم، كما يُغَلِّقُ الناسُ على أنفسِهم، فأصْبَحوا فيها قِرَدةً؛ إنهم لَيَعْرِفون الرجلَ بعينِه، وإنه لَقِرْدٌ، والمرأةَ بعينِها وإنها لَقِرْدةٌ، والصبىَّ بعينِه وإنه لَقِرْدٌ.

قال: يقولُ ابنُ عباسٍ: فلولا ما ذكَر اللهُ أنه أنْجَى الذين نَهَوْا عن السُّوء لَقُلْنا: أهْلَك الجميعَ منهم. قالوا: وهى القريةُ التى قال اللهُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية

(3)

.

(1)

في م: "التقية". وأهل البقية: هم أهل الفهم والطاعة. قال القتيبى: أولو بقية من دين قوم لهم بقية: إذا كانت بهم مُسكة وفيهم خير. ينظر اللسان (ب ق ى).

(2)

في ت 3: "عليهم".

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 5/ 1597 - 1602 مفرقًا من طريق ابن إسحاق به. وعزاه السيوطي=

ص: 62

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} : أُحِلَّت لهم الحيتانُ، وحُرِّمَت عليهم يومَ السبتِ بَلاءً مِن اللهِ، ليَعْلَمَ مَن يُطِيعُه ممَّن يَعْصِيه، فصار القومُ ثلاثةَ أصنافٍ؛ فأما صِنفٌ فأمْسَك ونَهَى عن المعصيةِ، وأمَّا صِنْفٌ فأمْسَك عن حُرْمةِ اللهِ، وأما صِنفٌ فانْتَهَك حُرْمةَ اللهِ ومرَد على المعصيةِ، فلما أبَوْا إلا الاعْتِداءَ إلى ما نُهُوا عنه، قال اللهُ لهم:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . فصاروا قِرَدةً لها أذْنابٌ تَعاوَى، بعدَ ما كانوا رجالًا ونساءً

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} . قال: نُهُوا عن صيدِ الحيتانِ يومَ السبتِ، فكانت تَشْرَع إليهم يومَ السبتِ، وبُلُوا بذلك فاعْتَدَوْا فاصْطادُوها، فجعَلَهم اللهُ قِرَدةً خاسِئِين

(2)

.

حدَّثنى موسى قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . قال: فهم أهلُ أَيْلةَ، وهى القريةُ التى كانت حاضرةَ البحرِ، فكانت الحيتانُ إذا كان يومُ السبتِ -وقد حرَّم اللهُ على اليهودِ أن يَعْمَلوا في السبتِ شيئًا- لم يَبْقَ في البحرِ حُوتٌ إلا خرَج حتى يُخْرِجْنَ خَراطِيمَهن مِن الماءِ، فإذا كان يومُ الأحدِ لزِمْنَ سُفْلَ البحرِ، فلم يُرَ منهن شيءٌ حتى يكونَ يومُ السبتِ، فذلك قولُه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي

= في الدر المنثور 3/ 137 إلى أبى الشيخ.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى المصنف وعبد بن حميد. وأخرج آخره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 133 (671) من طريق شيبان، عن قتادة.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 132 (667) عن الحسن بن يحيى به. وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 47، 48 عن قتادة والكلبى.

ص: 63

كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ}. فاشْتَهَى بعضُهم السمكَ، فجعَل الرجلُ يَحْفِرُ الحَفِيرةَ، ويَجْعَلُ لها نهرًا إِلى البحرِ، فإذا كان يومُ السبتِ فتَح النهرَ، فأقْبَل الموجُ بالحيتانِ يَضْرِبُها حتى يُلْقِيَها في الحَفيرةِ، ويُريدُ الحوتُ أن يَخْرُجَ فلا يُطِيقَ مِن أجلِ قلَّةِ ماءِ النهرِ، فيَمْكُثُ، فإذا كان يومُ الأحدِ جاء فأخَذَه، فجعَل الرجلُ يَشْوِى السَّمكَ، فيَجِدُ جارُه ريحَه، فيَسْأَلُه فيُخْبِرُه، فيَصْنَعُ مثلَ ما صنَع جارُه، حتى إذا فشَا فيهم أكلُ السمكِ قال لهم علماؤُهم: ويحَكم إنما تَصْطادون السمكَ يومَ السبتِ، وهو لا يَحِلُّ لكم. فقالوا: إِنما صِدْناه يومَ الأحدِ حينَ أخَذْناه. فقال الفقهاءُ: لا، ولكنكم صِدْتُموه يومَ فتَحْتُم له الماءَ، فدخَل. فقالوا: لا. وعَتَوْا أن يَنْتَهُوا، فقال بعضُ الذين نهَوْهم لبعضٍ:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} . يقولُ: لمَ تَعِظُونهم وقد وعَظْتُموهم فلم يُطِيعوكم. فقال بعضهم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . فلما أبَوْا قال المسلمون: واللهِ لا نُساكِنُكم في قريةٍ واحدةٍ. فقسَموا القريةَ بجدارٍ، ففتَح المسلمون بابًا والمُعْتَدون في السبتِ بابًا، ولعَنهم داودُ، فجعَل المسلمون يَخْرُجون من بابِهم، والكفارُ مِن بابِهم، فخرَج المسلمون ذاتَ يومٍ، ولم يَفْتَحِ الكفارُ بابَهم، فلمَّا أبْطَئُوا عليهم تسَوَّر المسلمون عليهم الحائطَ، فإذا هم قِرَدةٌ يَثِبُ بعضُهم على بعضٍ، ففتَحوا عنهم، فذهَبوا في الأرضِ، فذلك قولُ اللهِ عز وجل:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]. فذلك حينَ يقولُ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78]. فهم القردةُ

(1)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 132 (669) من طريق عمرو بن حماد به، إلى قوله: حتى يكون=

ص: 64

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِه:{الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . قال: لم يُمْسَخوا، إنما هو مَثَلٌ ضرَبه اللهُ لهم، مِثْلَ ما ضرَب مَثَلَ الحمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . قال: مُسِخَت قلوبُهم، ولم يُمْسَخوا قِرَدةً، وإنما هو مَثَلٌ ضرَبه اللهُ لهم، كمثلِ الحمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا

(2)

.

وهذا القولُ الذى قاله مُجاهِدٌ قولٌ لظاهرِ ما دل عليه كتابُ اللهِ مُخالِفٌ، وذلك أن اللهَ أخْبَر في كتابِه أنه جعَل منهم القِرَدةَ والخنَازيرَ وعَبَدَ الطاغوتَ، كما أخْبَر عنهم أنهم قالوا لنبيِّهم:{أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]. وأن اللهَ تعالى ذكرُه أصْعَقَهم عندَ مَسألتِهم ذلك ربَّهم، وأنهم عبَدوا العِجْلَ، فجعَل توبتَهم قتلَ أنفسِهم، وأنهم أُمِروا بدُخولِ الأرضِ المقدسةِ، فقالوا لنبيِّهم:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 124]. فابْتَلاهم بالتِّيهِ، فسواءٌ [قال قائلٌ]

(3)

: هم لم يَمْسَخْهم قردةً. وقد أخْبَر جلَّ ذكرُه أنه جعَل منهم قِردةً وخنازيرَ - وآخرُ قال: لم يَكُنْ شيءٌ مما أخْبَر اللهُ عن بنى إسرائيلَ أنه كان منهم؛ مِن الخلافِ

= يوم السبت. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 152، 153 عن السدى بتمامه.

(1)

تفسير مجاهد ص 205 بنحوه.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 133 (672) عن أبيه، عن أبى حذيفة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 75 إلى ابن المنذر، وانظر التاريخ الكبير لابن أبى خيثمة (184).

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"قال قائلهم".

ص: 65

وكان أبو العاليةِ يقولُ في قولِه: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} -فيما ذُكِر لنا- نحوَ القولِ الذى قُلْناه.

حدَّثنى المثنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ

(1)

، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . قال: فضلُ اللهِ الإسلامُ، ورحمتُه القرآنُ

(2)

.

وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، [عن أبيه]

(3)

، عن الربيعِ بمثلِه

(4)

.

القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} .

قال أبو جعفرٍ: فلولا فَضْلُ اللهِ عليكم ورَحْمَتُه إياكم، بإنقاذِه إياكم بالتوبةِ عليكم مِن خَطيئتِكم وجُرْمِكم، لكنتم الباخِسِين أنفسَكم حُظوظَها دائمًا، الهالِكِين بما اجْتَرَمْتُم مِن نَقْضِ ميثاقِكم، وخلافِكم أمرَه وطاعتَه.

وقد تقَدَّم بيانُنا قبلُ بالشَّواهدِ عن

(5)

معنى الخَسارِ، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(6)

.

القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} .

(1)

في النسخ: "النضر". وهو من الأسانيد الدائرة.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 131 عقب الأثر (662) من طريق آدم به.

(3)

سقط من النسخ، وهو من الأسانيد الدائرة.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 131 عقب الأثر (662، 664) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

في ت 2: "على".

(6)

ينظر ما تقدم في 1/ 442.

ص: 66

يعنى: إن طرَدْتَه انْطَرَد ذَليلًا صاغرًا. فكذلك معنى قولِه: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . أى: مُبْعَدِين مِن الخيرِ أذِلَّاءَ صُغَراءَ.

كما حدَّثنا ابنُ

(1)

بشارٍ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . قال: صاغِرِين

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن رجلٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيْفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنى الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{خَاسِئِينَ} . قال: صاغِرِين

(3)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . أى: أَذِلَّةً صاغِرِين

(4)

.

وحُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ: خاسِئًا: يعنى ذَليلًا

(5)

.

(1)

سقط من النسخ: وهو محمد بن بشار، وقد سبق مرارًا.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 133 عقب الأثر (674)، معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى المصنف.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 48.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 133 عقب الأثر (674) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76، 6/ 248 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبى حاتم. وعزاه أيضا في 1/ 76 إلى ابن المنذر بلفظ: صاغرين.

ص: 67

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ الهاءِ والألفِ في قولِه: {فَجَعَلْنَاهَا} . وعلامَ هى عائدةٌ؟ فرُوِى عن ابنِ عباسٍ فيها قولان:

أحدُهما، ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَجَعَلْنَاهَا} : فجعَلْنا تلك العقوبةَ، وهى المَسْخَةُ، نَكالًا

(1)

.

فالهاءُ والألفُ من قولِه: {فَجَعَلْنَاهَا} . على قولِ ابنِ عباسٍ هذا، كنايةٌ عن المَسْخةِ، وهى "فَعْلةٌ" مِن: مسَخهم اللهُ مَسْخةً.

فمعنى الكلامِ على هذا التأويلِ: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} : فصاروا قردةً مَمْسُوخِين. {فَجَعَلْنَاهَا}

(2)

: فجعَلْنا عُقوبتَنا ومَسْخَنا إياهم {نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} .

والقولُ الآخَرُ مِن قولَىِ ابنِ عباسٍ ما حدَّثنى به محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَجَعَلْنَاهَا} : يعنى الحِيتانَ.

والهاءُ والألفُ على هذا القولِ مِن ذكرِ الحيتانِ، ولم يَجْرِ لها ذكرٌ، ولكن لما كان في الخبرِ دلالةٌ كنَى عن ذكرِها، والدلالةُ على ذلك قولُه:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} .

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى المصنف.

(2)

سقط من: ت 2.

ص: 68

وقال آخَرون: فجعَلْنا القريةَ التى اعْتَدَى أهلُها في السبتِ. فالهاءُ والألفُ في قولِ هؤلاءِ كِنايةٌ عن قريةِ القومِ الذين مُسِخوا.

وقال آخَرون: معنى ذلك: فجعَلْنا القِرَدةَ الذين مُسِخوا نَكالًا لما بينَ يديها وما خلفَها. فجعَلوا الهاءَ والألفَ كنايةً عن القردةِ.

وقال آخَرون: {فَجَعَلْنَاهَا} يعنى به: فجعَلْنا الأُمةَ التى اعْتَدَتْ في السبتِ نَكالًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {نَكَالًا} .

والنَّكالُ مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: نكَّل فلانٌ بفلانٍ تَنْكيلًا ونَكالًا. وأصلُ النَّكالِ العقوبةُ، كما قال عدىُّ بنُ زيدٍ العِبادىُّ

(1)

:

لا [يُسْخِطُ المليكَ]

(2)

ما يسعُ

(3)

الـ

ـعبدَ ولا في نَكالِه تَنْكيرُ

وبمثلِ الذى قلْنا في ذلك رُوِى الخبرُ عن ابنِ عباسٍ.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: حدَّثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{نَكَالًا} . يقولُ: عقوبةً

(4)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنى إسحاقُ، قال: حدَّثنى ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه،

(1)

التبيان 1/ 292.

(2)

في م: "يحط الضليل"، وفى ت 1، ت 2:"تسحه العبيك"، وفى ت 3:"تسخط العبليك". والمثبت من التبيان. وينظر تعليق الشيخ شاكر.

(3)

في م: "يصنع".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى المصنف.

ص: 69

عن الربيعِ في قولِه: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا} . أى: عقوبةً

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم بما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} . يقولُ: ليَحْذَرَ مَن بعدَهم عُقوبتى، {وَمَا خَلْفَهَا}. يقولُ: الذين كانوا بقُوا معهم

(2)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} : لِمَا خلا لهم مِن الذُّنوبِ، {وَمَا خَلْفَهَا}. أى: عِبْرةً لمن بقِى مِن الناسِ

(3)

.

وقال آخَرون بما حدَّثنى ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن داودَ بنِ الحُصَيْنِ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} . أى مِن القُرَى

(4)

.

وقال آخَرون بما حدَّثنا به بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: قال الله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} : مِن ذُنوبِ القومِ، {وَمَا خَلْفَهَا} أى: للحِيتانِ التى أصابوا.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ،

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 134 عقب الأثر (677) من طريق ابن أبى جعفر به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى المصنف.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 134 عقب الأثر (677، 681) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 133، 134 (676، 680) من طريق ابن إسحاق به.

ص: 70

عن قتادةَ في قولِه: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} : مِن ذنوبِها، {وَمَا خَلْفَهَا}: مِن الحيتانِ

(1)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنى عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} : ما مضَى مِن خَطاياهم إلى أن هلَكوا به.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} . يقولُ: {بَيْنَ يَدَيْهَا} : ما مضَى مِن خَطاياهم، {وَمَا خَلْفَهَا}: خَطاياهم التى هلَكوا بها

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه، إلا أنه قال:{وَمَا خَلْفَهَا} : خَطيئتُهم التى هلَكوا بها.

وقال آخَرون بما حدَّثنى به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} . قال: أما ما {بَيْنَ يَدَيْهَا} : فما سلَف مِن عملِهم، {وَمَا خَلْفَهَا}: فمَن كان بعدَهم مِن الأممِ أن يَعْصُوا، فيَصْنَعَ اللهُ بهم مثلَ ذلك

(3)

.

وقال آخَرون بما حدَّثنى به ابنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} : يعنى الحِيتانَ جعَلها نَكالًا لما بينَ يديها وما خلفَها مِن الذنوبِ التى

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 48. وينظر تفسير ابن أبى حاتم 1/ 134 (677، 678، 682).

(2)

تفسير مجاهد ص 205، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 134 (682).

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 134 عقب الأثر (677) من طريق عمرو به نحوه.

ص: 71

عمِلوا قبلَ الحِيتانِ، وما عمِلوا بعدَ الحِيتانِ، فذلك قولُه:{مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}

(1)

.

وأوْلَى هذه التأويلاتِ بتأويلِ الآيةِ ما رواه الضَّحَّاكُ عن ابنِ عباسٍ، وذلك لما وصَفْنا مِن أن الهاءَ والألفَ في قولِه:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا} . بأن تكونَ مِن ذِكْرِ العقوبةِ والمَسْخةِ التى مُسِخها القومُ أولى منها بأن تكونَ مِن ذكرِ غيرِها؛ مِن أجلِ أن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما يُحَذِّرُ خلقَه بأسَه وسَطْوتَه، وبذلك يُخَوِّفُهم، وفى إبانتِه عزَّ ذكرُه بقولِه:{نَكَالًا} . أنه عنَى به العقوبةَ التى أحَلَّها بالقومِ - ما يُعْلِمُ أنه عنَى بقولِه: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} . فجعَلْنا عقوبتَنا التى أحْلَلْناها بهم عُقوبةً لما بينَ يديها وما خلفَها، دونَ غيرِه مِن المعانى. وإذا كانت الهاءُ والألفُ بأن تكونَ مِن ذكرِ المَسْخةِ والعُقوبةِ أولى منها بأن تكونَ مِن ذكرِ غيرِها، فكذلك العائدُ في قولِه:{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} . مِن الهاءِ والألفِ، أن يكونَ مِن ذكرِ الهاءِ والألفِ اللتين في قولِه:{فَجَعَلْنَاهَا} . أولى مِن أن يَكونَ مِن غيرِه.

فتأويلُ الكلامِ -إذا كان الأمرُ على ما وصَفْنا-: فقلنا لهم: كونوا قردةً خاسِئِين. فجعَلْنا عُقوبتَنا لهم عقوبةً لما بينَ يديها مِن ذنوبِهم السالفةِ منهم، مَسْخَنا إياهم، وعقوبتَنا لهم، ولما خلْفَ عقوبتِنا لهم مِن أمثالِ ذنوبهم، أن يَعْمَلَ بها عاملٌ، فيُمْسَخوا مثلَ ما مُسِخوا، وأن يَحِلَّ بهم مثلُ الذى حلَّ بهم. تَحْذيرًا مِن اللهِ تعالى ذكرُه عبادَه أن يَأْتوا مِن مَعاصِيه، مثلَ الذى أتَى المَمْسُوخون فيُعاقَبوا عقوبتَهم.

وأما الذى قال في تأويلِ ذلك {فَجَعَلْنَاهَا} : يعنى الحِيتانَ؛ عُقوبةً لما بينَ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى المصنف بنحوه.

ص: 72

يدى الحِيتانِ مِن ذنوبِ القومِ وما بعدَها مِن ذنوبهم. فإنه أبْعَدَ في الانْتِزاعِ؛ وذلك أن الحِيتانَ لم يَجْرِ لها ذكرٌ فيُقالَ: {فَجَعَلْنَاهَا} .

فإن ظنَّ ظانٌّ أن ذلك جائزٌ وإن لم يكنْ جرَى للحيتانِ ذكرٌ؛ لأن العربَ قد تَكْنِى عن الاسمِ ولم يَجْرِ له ذكرٌ، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغيرُ جائزٍ أن يُتْرَكَ المفهومُ مِن ظاهرِ الكتابِ -والمعقولُ به ظاهرٌ في الخطابِ والتنزيلِ- إلى باطنٍ لا دلالةَ عليه مِن ظاهرِ التنزيلِ، ولا خبرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم منقولٍ، ولا فيه مِن الحجةِ إجماعٌ مُسْتَفِيضٌ.

وأما تأويلُ مَن تأوَّل ذلك: لما بينَ يديها مِن القُرَى، وما خلفَها. فَيُنْظَرُ إلى تأويلِ مَن تأوَّل ذلك: بما بينَ يدى الحِيتانِ وما خلفَها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَوْعِظَةً} .

والموعظةُ مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: وعَظْتُ الرجلَ أَعِظُه وَعْظًا ومَوْعِظةً. إذا ذكَّرْتَه.

فتأويلُ الآيةِ: فجعَلْناها نَكالًا لمَا بينَ يديها وما خلفَها وتَذْكِرةً للمتقين، لِيَتَّعِظوا بها ويَعْتَبِرُوا ويَتَذَكَّروا بها.

كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَوْعِظَةً} . يقولُ: وتذكرةَ وعِبْرةً للمتقين

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {لِلْمُتَّقِينَ (66)} .

وأما المُتَّقُون فهم الذين اتَّقَوْا بأداءِ فرائضِه واجْتِنابِ مَعاصِيه.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى المصنف.

ص: 73

كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . يقولُ: للمؤمنين الذين يَتَّقُون الشِّركَ، ويَعْمَلون بطاعتى

(1)

.

فجعَل تعالى ذكرُه ما أحَلَّ بالذين اعْتَدَوْا في السبتِ مِن عقوبتِه مَوْعِظةً للمتقين خاصَّةً، وعِبْرةً للمؤمنين دون الكافرين به إلى يومِ القيامةِ.

كالذى حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن داودَ بنِ الحصينِ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ في قولِه:{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} : إلى يومِ القيامةِ

(2)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . أى: بعدَهم

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ مثلَه

(4)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ: أما {مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} : فهم أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(5)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . قال: فكانت موعظةً للمتقين خاصَّةً

(6)

.

(1)

تقدم في 1/ 238، 239.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم 1/ 135 (684) من طريق ابن إسحاق به.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 135 عقب الأثر (686) معلقا.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 48.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 135 (688) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(6)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 135 (685) من طريق أبى جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية.

ص: 74

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ في قولِه:{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . أى: لمَن بعدَهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)} .

وهذه الآيةُ مما وبَّخ اللهُ بها المخاطَبِين مِن بنى إسرائيلَ في نَقْضِ أوائلِهم الميثاقَ الذى أخَذه اللهُ عليهم بالطاعةِ لأنْبيائِه، فقال لهم: واذْكُروا أيضًا مِن نَكْثِكم مِيثاقى، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} -وقومُه بنو إسرائيلَ، إذ ادَّارَءُوا في القَتيلِ الذى قُتِل فيهم إليه-:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . والهُزُؤُ: اللَّعِبُ والسُّخْريةُ، كما قال الراجزُ

(1)

:

قد هزِئَتْ منى أُمُّ طَيْسَلَهْ

قالَتْ أَرَاهُ مُعْدِمًا لا شيءَ لَهْ

يعنى بقولِه: قد هَزِئَت: قد سخِرَت ولعِبَت.

ولا يَنْبَغِى أن يَكونَ مِن أنْبياءِ اللهِ -فيما أخْبَرَتْ عن اللهِ مِن أمرٍ أو نهيٍ- هُزُؤٌ أو لعبٌ، فظنُّوا بموسى أنه في أمرِه إياهم -عن أمرِ اللهِ تعالى ذكرُه بذبحِ البقرةِ عندَ تَدَارُئِهم في القتيلِ إليه

(2)

- هازئٌ لاعبٌ، ولم يَكُنْ لهم أن يَظُنُّوا ذلك بنبىِّ اللهِ، وهو يُخْبِرُهم أن اللهَ هو الذى أمَرَهم بذبحِ البقرةِ.

(1)

هو صخير بن عميرٍ التميمى، والرجز في الأصمعيات ص 234، وأمالى القالى 2/ 284، وسمط اللآلى ص 930، واللسان (ط س ل) على اختلاف في روايته.

(2)

بعده في م: "أنه".

ص: 75

وحُذِفَت الفاءُ مِن قولِه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . وهو جوابٌ، لاسْتِغْناءِ ما قبلَه مِن الكلامِ عنه، وحُسْنِ السكوتِ على قولِه:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . فجاز لذلك إسقاطُ الفاءِ مِن قولِه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . كما جاز وحَسُن إسقاطُها مِن قولِه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا} [الحجر: 57، 58، والذاريات: 31، 32]. ولم يَقُلْ: "فقالوا: إنا أُرْسِلْنا". ولو قيل: "فقالوا". كان حسنًا أيضًا جائزًا. ولو كان ذلك على كلمةٍ واحدةٍ لم تُسْقَطْ منه الفاءُ، وذلك أنك إذا قلتَ: قمتُ وفعَلتُ كذا وكذا. لم

(1)

تَقُلْ: قمتُ فعلتُ كذا وكذا؛ لأنها عطفٌ لا استفهامٌ يُوقَفُ عليه.

فأخْبَرَهم موسى -إذ قالوا له ما قالوا- أن المُخْبِرَ عن اللهِ جل ثناؤُه بالهُزْءِ والسخريةِ مِن الجاهِلِين، وبرَّأ نفسَه مما ظنُّوا به مِن ذلك، فقال:{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . يعنى: مِن السفهاءِ الذين يَرْوُون عن اللهِ الكذبَ والباطلَ.

وكان سببَ قيلِ موسى لهم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ما حدَّثنا به محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ أيوبَ، عن محمد بنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: كان في بنى إسرائيلَ رجلٌ عَقيمٌ -أو عاقرٌ- قال: فقتَله وليُّه، ثم احْتَمَله، فألْقاه في سِبْطٍ غيرِ سِبْطِه. قال: فوقَع بينَهم فيه الشرُّ، حتى أخَذوا السلاحَ، قال: فقال أولو النُّهَى: أتَقْتَتِلون وفيكم رسولُ اللهِ؟ قال: فأتَوا نبىَّ اللهِ، فقال: اذْبَحوا بقرةً. فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} . إلى قولِه: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . قال: فضُرِب، فأخْبَرَهم بقاتلِه. قال: ولم تُؤْخَذِ البقرةُ إلا بوزنِها ذهبًا. قال: ولو أنهم

(1)

في النسخ: "ولم". والصواب ما أثبت.

ص: 76

أخَذُوا أدْنى بقرةٍ لَأَجْزَأَت عنهم. فلم يُوَرَّثْ قاتلٌ بعدَ ذلك

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: حدَّثنى أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِ اللهِ:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قال: كان رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ، وكان غَنِيًّا، ولم يَكُنْ له ولدٌ، وكان له قريبٌ، وكان وارثَه، فقتَله ليَرِثَه، ثم ألْقاه على مَجْمَعِ الطريقِ، وأتَى موسى، فقال له: إن قريبى قُتِل، وأُتِى

(2)

إلىَّ أمرٌ عظيمٌ، وإنى لا أَجِدُ أحدًا يُبَيِّنُ لى مَن

(3)

قتَله غيرَك يا نبىَّ اللهِ. قال: فنادَى موسى في الناسِ: أَنْشُدُ اللهَ مَن كان عندَه مِن هذا علمٌ إلا بيَّنه لنا. فلم يَكُنْ عندَهم علمُه، فأقْبَل القاتلُ على موسى، فقال: أنت نبىُّ اللهِ، فاسْأَلْ لنا ربَّك أن يُبَيِّن لنا. فسأَل ربَّه، فأوْحَى اللهُ إليه:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . فعجِبوا وقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ} -يعنى: لا هَرِمةٌ- {وَلَا بِكْرٌ} -يعنى: ولا صغيرةٌ- {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} -أى: نَصَفٌ بينَ البِكْرِ والهَرِمةِ- قالوا {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} -أى: صافٍ لونُها- {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} -أى: تُعْجِبُ الناظِرِين- قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} -أى: لم يُذَلِّلْها العملُ- {تُثِيرُ الْأَرْضَ} -يعنى: ليستْ بذَلولٍ فتُثِيرَ الأرضَ- {وَلَا تَسْقِي

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 48 عن معمر، عن أيوب به. وأخرجه آدم بن أبى إياس وعبد بن حميد في تفسيرهما -كما في تفسىير ابن كثير 1/ 154 - وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 136 (690)، والبيهقى 6/ 220 من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 76 إلى ابن المنذر.

(2)

في تفسير ابن كثير: "وإنى".

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 77

الْحَرْثَ} -يقولُ: ولا تَعْمَلُ في الحَرْثِ- {مُسَلَّمَةٌ} -يعنى: مُسَلَّمةٌ مِن العيوبِ- {لَا شِيَةَ فِيهَا} -يقولُ: لا بَياضَ فيها- قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . قال: ولو أن القومَ حينَ أُمِرُوا أن يَذْبَحوا بقرةً اسْتَعْرَضوا بقرةً مِن البقرِ فذبَحوها، لَكانت إياها، ولكنَّهم شدَّدوا على أنفسِهم فشدَّد اللهُ عليهم، ولولا أن القومَ اسْتَثْنَوْا فقالوا:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} . لما هُدُوا إليها أبدًا، فبلَغَنا أنهم لم يَجِدوا البقرةَ التى نُعِتَت لهم إلا عندَ عَجوزٍ عندَها يَتامَى، وهى القَيِّمةُ عليهم، فلما علِمَت أنهم لا يَزْكو

(1)

لهم غيرُها أضْعَفَت عليهم الثمنَ، فأتَوْا موسى فأخْبَروه أنهم لم يَجِدوا هذا النعتَ إلا عندَ فلانةَ، وأنها سأَلَتْهم أضعافَ ثمنِها، فقال لهم موسى: إن اللهَ قد كان خفَّف عليكم فشدَّدتُم على أنفسِكم، فأعْطُوها رِضاها وحُكْمَها. ففعَلوا واشْتَرَوْها، فذبَحوها، فأمَرَهم موسى أن يَأْخُذوا عَظْمًا منها فيَضْرِبوا به القَتيلَ، ففعَلوا، فرجَع إليه رُوحُه، فسمَّى لهم قاتلَه، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخَذوا قاتلَه -وهو الذى كان أتَى موسى فشكَا إليه- فقتَله اللهُ على أسوأِ عملِه

(2)

.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . قال: كان رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ مُكْثِرًا مِن المالِ، وكانت له ابنةٌ، وكان له ابنُ أخٍ محتاجٌ، فخطَب إليه ابنُ أخيه ابنتَه، فأبَى أن يُزَوِّجَه إياها، فغضِب الفتى، وقال: واللهِ لَأَقْتُلَنَّ عمِّى، ولآخُذَنَّ

(1)

أى لا يصلح.

(2)

أخرجه آدم بن أبى إياس في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير 1/ 154 - ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 140 عقب الأثر (716)، 1/ 141، 142 (724، 729، 730) مفرقا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78، 79 إلى المصنف مختصرًا.

ص: 78

مالَه، ولأَنْكِحَنَّ ابنتَه، ولَآكُلَنَّ دِيتَه. فأتاه الفتى، وقد قَدِم تجارٌ في بعضِ أسْباطِ بنى إسرائيلَ، فقال: يا عمِّ، انْطَلِقْ معى، فخُذْ لى مِن تجارةِ هؤلاء القومِ لعلى أُصِيبُ فيها

(1)

، فإنهم إذا رأَوْك معى أعْطَوْنى. فخرَج العمُّ مع الفتى ليلًا، فلمَّا بلَغ الشيخُ ذلك السِّبطَ قتَله الفتى، ثم رجَع إلى أهلِه، فلما أصْبَح جاء كأنه يَطْلُبُ عمَّه، كأنه لا يَدْرِى أين هو، فلم يَجِدْه، فانْطَلَق نحوَه، فإذا هو بذلك السِّبطِ مُجْتَمِعِين عليه، فأخَذَهم وقال: قتَلْتُم عمِّى، فأدُّوا إليَّ دِيَتَه. وجعَل يَبْكِى، ويَحْثُو الترابَ على رأسِه، ويُنادِى: واعمَّاه! فرفَعَهم إلى موسى، فقضَى عليهم بالديةِ، فقالوا له: يا رسول اللهِ، ادْعُ لنا حتى يَتَبَيَّنَ له مَن صاحبُه، فيُؤْخَذَ صاحبُ الجَريمةِ

(2)

، فواللهِ إن ديتَه علينا لَهَيِّنةٌ، ولكنا نَسْتَحِى أن نُعَيَّرَ به. فذلك حينَ يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤُه:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . فقال لهم موسى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . قالوا: نَسْأَلُك عن القَتيلِ، وعمَّن قتَله، وتَقولُ: اذْبَحوا بقرةً! أتَهْزَأُ بنا؟ قال موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . قال: قال ابنُ عباسٍ: فلو اعْتَرَضوا بقرةً فذبَحوها لَأَجْزَأَت عنهم، ولكنهم شدَّدُوا وتعَنَّتُوا موسى، فشدَّد اللهُ عليهم، فقالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} -والفارِضُ: الهَرِمةُ التى لا تَلِدُ، والبِكْرُ: التى لم تَلِدْ إلا ولدًا واحدًا، والعَوانُ: النَّصَفُ التى بينَ ذلك، التى قد وَلَدَت وولَد ولدُها- {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}. قالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} -قال: تُعْجِبُ الناظرين- قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} . قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا

(1)

في تفسير ابن كثير: "منها".

(2)

في ت 1، ت 3:"الفرجة"، وفى ت 2:"المرحة".

ص: 79

ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} -مِن بَياضٍ، ولا سَوادٍ، ولا حُمْرةٍ- قالوا:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . فطلَبوها فلم يَقْدِروا عليها.

وكان رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ مِن أبَرِّ الناسِ بأبيه، وأن رجلًا مرَّ به معه لؤْلُؤٌ يَبِيعُه، فكان أبوه نائمًا تحتَ رأسِه المِفْتاحُ، فقال له الرجلُ: تَشْتَرِى منى هذا اللؤلؤَ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يَسْتَيْقِظَ أبي، فآخُذَه بثمانين ألفًا. فقال له الآخرُ: أيْقِظْ أباك، وهو لك بستين ألفًا. فجعَل التاجرُ يَحُطُّ له حتى بلَغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخرُ على أن يَنْتَظِرَ حتى يَسْتَيْقِظَ أبوه، حتى بلَغ مائةَ ألفٍ، فلما أكْثَر عليه قال: لا واللهِ، لا أَشْتَرِيه منك بشيءٍ أبدًا. وأبَى أن يُوقِظَ أباه، فعوَّضه اللهُ مِن ذلك اللؤلؤِ أن جعَل له تلك البقرةَ، فمرَّت به بنو إسرائيلَ يَطْلُبون البقرةَ، فأبْصَروا البقرة عندَه، فسأَلوه أن يَبِيعَهم إياها بقرةً ببقرةٍ، فأبَى. فأعْطَوْه ثنْتَيْن فأبَى، فزادُوه حتى بلَغوا عشرًا فأبَى، فقالوا: واللهِ لا نَتْرُكُك حتى نَأْخُذَها منك. فانْطَلَقوا به إلى موسى، فقالوا: يا نبيَّ اللهِ، إنا وجَدْنا البقرةَ عندَ هذا، فأبَى أن يُعْطِينَاها، وقد أَعْطَيْناه ثمنًا. فقال له موسى: أَعْطِهم بقرتَك. فقال: يا رسولَ اللهِ، أنا أحَقُّ بمالى. فقال: صدَقْتَ. وقال للقومِ، أرْضُوا صاحبَكم. فأعْطَوْه وزنَها ذهبًا فأبَى، فأضْعَفوا له مثلَ ما أعْطَوْه وزنَها، حتى أعْطَوْه وزنَها عشْرَ مراتٍ، فباعَهم إياها، وأخَذ ثمنَها، فقال: اذْبَحوها. فذبَحوها، فقال: اضْرِبوه ببعضِها، فضرَبوه بالبَضْعةِ التى بينَ الكَتِفَيْن فعاش، فسأَلوه: مَن قتَلك؟ فقال لهم: ابنُ أخى، قال: أَقْتُلُه، وآخُذُ مالَه، وأَنْكِحُ ابنتَه. فأخَذوا الغلامَ، فقتَلوه

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال. ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، وحدَّثني يونُسُ، قال:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 136 - 143 (691، 692، 693، 698، 700، 716، 728، 738) مفرقا من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 80

أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، عن ابنِ زيدٍ، [وحدَّثني عن مُجاهِدٍ]

(1)

، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، قال: حدَّثني خالدُ بنُ يزيدَ، عن مُجاهِدٍ، وحدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ

(2)

عبدِ الكَريمِ، قال: حدَّثني عبدُ الصَّمَدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبًا يَذْكُرُ، وحدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ، وحَجَّاجٌ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ ومحمدِ بنِ قيسٍ، وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمى، قال: أخْبَرَني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ. فذكَر جميعُهم أن السببَ الذى مِن أجلِه قال لهم موسى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} نحوُ السببِ الذى ذكَره عَبيدةُ وأبو العاليةِ والسُّدىُّ، غيرَ أن بعضَهم ذكَر أن الذى قتَل القَتيلَ الذى اخْتُصِم في أمرِه إلى موسى كان أخا المقتولِ، وذكَر بعضُهم أنه كان ابنَ أخيه. وقال بعضُهم: بل كانوا جَماعةً وَرَثةً اسْتَبْطئوا حياتَه. إلا أنهم جميعًا مُجْمِعون على أن موسى إنما أمَرهم بذبحِ البقرةِ مِن أجلِ القَتيلِ إذ احْتَكموا إليه -عن أمرِ اللهِ إياهم بذلك- فقالوا له: وما ذَبْحُ البقرةِ يُبيِّنُ لنا خُصومَتَنا التى اخْتَصَمْنا فيها إليك في قتلِ مَن قُتِل، فادُّعِى على بعضِنا أنه القاتل، أتَهْزَأُ بنا؟

كما حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: قُتِل قَتيلٌ مِن بنى إسرائيلَ، فطُرِح في سِبْطٍ مِن الأسْباطِ، فأتَى أهلُ ذلك القَتيلِ إلى ذلك السِّبْطِ، فقالوا: أنتم واللهِ قتَلْتُم صاحبَنا؟ قالوا: لا واللهِ. فأتَوْا موسى، فقالوا: هذا قَتيلُنا بينَ أظْهُرِهم، وهم واللهِ قتَلوه. فقالوا: لا واللهِ يا نبيَّ اللهِ، طُرِح علينا. فقال لهم

(1)

كذا في النسخ، والصواب حذفه. وتفسير ابن زيد مشهور.

(2)

في النسخ: "عن". وهو خطأ وقد تقدم في 1/ 701، 709، وسيأتي في ص 115 بهذا الإسناد على الصواب.

ص: 81

موسى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . فقالوا: أتَسْتَهْزِئُ بنا؟ وقرَأ قولَ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . قالوا: نَأْتِيك فنَذْكُرُ قَتيلَنا والذى نحن فيه، فتَسْتَهْزِئُ بنا؟ فقال موسى:{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ، وحجاجٌ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ ومحمدِ بنِ قيسٍ: لمَّا أتَى أولياءُ القَتيلِ والذين ادَّعَوا عليهم قتلَ صاحبِهم، موسى، وقصُّوا قصتَهم عليه، أوْحَى اللهُ إليه أن يَذْبَحوا بقرةً، فقال لهم موسى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . قالوا: وما البقرةُ والقَتيلُ؟ قال: أقولُ لكم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وتقولون: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: فقال الذين قيل لهم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} -بعد أن عَلِموا واسْتَقَرَّ عندَهم أن الذى أمَرَهم به موسى عليه السلام مِن ذلك عن أمرِ اللهِ مِن ذَبْحِ بقرةٍ، جِدٌّ وحقٌّ-:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} . فسأَلوا موسى أن يَسْأَلَ ربَّه لهم ما كان اللهُ قد كفاهم بقولِه لهم: اذبَحوا بقرةً. لأنه جلَّ ثناؤُه إنما أمَرهم بذبحِ بقرةٍ مِن البقرِ -أيُّ بقرةٍ شاءوا ذبْحَها، مِن غيرِ أن يَحْصُرَ لهم ذلك على نوعٍ منها دونَ نوعٍ، أو صِنفٍ دونَ صنفٍ- فقالوا بجَفاءِ أخْلاقِهم وغِلَظِ طَبائِعهم وسُوءِ أفهامِهم، وتكلُّفِ ما قد وضَع اللهُ عنهم مَئُونتَه؛ تَعنُّتًا منهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثني عمى، قال: حدَّثني أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، مال: لما قال لهم موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ

(1)

قال ابن كثير في تفسيره 1/ 157: هذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بنى إسرائيل، وهى مما يجوز نقلها، ولكن لا نصدق ولا نكذب، فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.

ص: 82

الْجَاهِلِينَ}. قالوا له يَتَعَنَّتونه: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} .

فلمَّا تكَلَّفوا جهلًا منهم ما تكَلَّفوا -مِن البحثِ عما كانوا قد كُفُوه مِن صفةِ البقرةِ التى أُمِروا بذبحِها؛ تَعَنُّتًا منهم بنبيِّهم موسى، صلواتُ اللهِ عليه، بعدَ الذى كانوا أظْهَروا له مِن سُوءِ الظنِّ به فيما أخْبَرَهم عن اللهِ. جلَّ ثناؤُه بقولِهم:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} - عاقَبهم عز وجل بأن خصَّ بذبحِ ما كان أمَرهم بذبحِه مِن البقرِ، على نوعٍ منها دونَ نوعٍ، فقال لهم جلَّ ثناؤُه -إذ سأَلوه، فقالوا: ما هى، ما صفتُها، وما حِلْيتُها

(1)

؟ حَلِّها لنا لنَعْرِفَها.- قال: {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {لَا فَارِضٌ} : لا مُسِنَّةٌ هَرِمةٌ. يقالُ منه: فَرَضَت البقرةُ تَفْرِضُ فُروضًا، [وفرُضت]

(2)

. يعنى بذلك: أسَنَّتْ. ومِن ذلك قولُ الشاعرِ

(3)

:

يا رُبَّ ذى ضِغْنٍ علىَّ فارِضِ

له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ

(4)

يعنى بقولِه: "فارض". قديمٌ: يَصِفُ ضِغْنًا قديمًا. ومنه قولُ الآخَرِ

(5)

لها

(6)

زِجاجٌ

(7)

ولَهاةٌ فارِضُ

(8)

(1)

الحلية: الصفة. وحلِّها: صِفْها. انظر اللسان (ح ل ى).

(2)

سقط من: م.

(3)

مجالس ثعلب ص 364، والمعاني الكبير 2/ 850، 851، والحيوان 6/ 67، والأضداد ص 28 وغيرها.

(4)

القروء: جمع قرء، وهو وقت الحيض. قال الجاحظ: كأنه ذهب إلى أن حقده يخبو تارة ثم يستعر، ثم يخبو ثم يستعر.

(5)

البيت الأول في اللسان (ز ج ج)، والثانى في المخصص 1/ 162.

(6)

في م: "له"، والتصويب من اللسان.

(7)

الزِّجاج: هى الأنياب، على الاستعارة، وأصل الزُّجّ: الحديدة التي تركب أسفل الرمح، يركز به الرمح في الأرض. انظر التاج (ز ج ج).

(8)

معناها هنا: العظيمة الضخمة. وانظر اللسان (ف ر ض).

ص: 83

حَدْلاءُ كالوَطْبِ نَحَاهُ الماخِضُ

(1)

وبمثلِ الذى قلنا في تأويلِ {فَارِضٌ} قال المُتَأوِّلون.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عليُّ بنُ سعيدٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا عبدُ السلامِ بنُ حربٍ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهِدٍ:{لَا فَارِضٌ} . قال: لا كبيرةٌ

(2)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ عَطِيَّةَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن خُصَيفٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، أو عن عِكْرمةَ -شكَّ شَريكٌ-:{لَا فَارِضٌ} . قال: الكبيرةُ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: أخْبَرَني أبي، قال: حدَّثني عمى، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَا فَارِضٌ} . الفارضُ الهَرِمةُ.

حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا فَارِضٌ} . يقولُ: ليست بكبيرةٍ هَرِمةٍ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا فَارِضٌ} : الهَرِمةُ

(4)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هدلاء كالوطب تجاه الماخض". والمثبت من المخصص. قال في المخصص: رجل أحدل وامرأة حدلاء. قال: والأحدل من الرجال الذى في منكبيه ورقبته انكباب إلى صدره.

والوطب: سقاء اللبن من جلد. ونحاه: صرفه وأماله. والماخض من: مخض اللبن، إذا أخذ زبده.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137، 138 (695، 701) من طريق عبد السلام بن حرب به.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (694) معلقًا عن عكرمة.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 137 (694) من طريق ابن جريج به. =

ص: 84

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ: الفارضُ الكبيرةُ

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهدٍ قولَه:{لَا فَارِضٌ} قال: الكبيرةُ.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{لَا فَارِضٌ} : يعنى: لا هَرِمةٌ

(2)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ: الفارضُ الهَرِمةُ

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: قال مَعْمَرٌ: قال قَتادةُ: الفارضُ الهَرِمةُ. يقولُ: ليست بالهَرِمةِ ولا البِكرِ، عَوانٌ بينَ ذلك

(5)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ: الفارضُ الهَرِمةُ التى لا تَلِدُ

(6)

.

= وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 77، 78 إلى ابن المنذر وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس. وينظر التحفة 5/ 90، وتهذيب الكمال 20/ 115، والفتح 8/ 667، 9/ 418، وهدى السارى ص 374.

(1)

تفسير مجاهد ص 206.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (694) من طريق آدم به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (694) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (694) معلقًا.

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 48.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (694) من طريق عمرو به.

ص: 85

وحدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: الفارضُ الكبيرةُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا بِكْرٌ} .

و"البِكْرُ" مِن إناثِ البَهائمِ وبنى آدمَ ما لم يَفْتَحِلْه الفَحْلُ، وهي مَكْسورةُ الباءِ، لم يُسْمَعْ منه "فَعَل" ولا "يَفْعَل". وأما "البَكْرُ" بفتحِ الباءِ فهو الفَتِىُّ مِن الإبلِ.

وإنما عنَى جل ثناؤُه بقولِه: {وَلَا بِكْرٌ} : ولا صَغيرةٌ لم تَلِدْ.

كما حدَّثنى علىُّ بنُ سعيدٍ الكِنْدىُّ، قال: ثنا عبدُ السلامِ بنُ حربٍ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهِدٍ:{وَلَا بِكْرٌ} : صغيرةٌ

(1)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ: البِكْرُ الصغيرةُ

(2)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا الحسنُ بنُ عَطِيَّةَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن خُصَيفٍ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، أو عكرمةَ -شكَّ

(3)

-: {وَلَا بِكْرٌ} . قال: الصغيرةُ

(4)

.

حدثَّنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ الخُراسانىِّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا بِكْرٌ} : الصغيرةُ

(5)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 (695) من طريق عبد السلام بن حرب به.

(2)

تفسير مجاهد ص 206.

(3)

يعني شريكًا، كما تقدم في ص 84.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (698) معلقًا عن عكرمة.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 (696) من طريق ابن جريج به.

ص: 86

قَتادةَ: {وَلَا بِكْرٌ} : ولا صَغيرةٌ

(1)

.

حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا بِكْرٌ} : ولا صغيرةٌ ضَعيفةٌ

(2)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَلَا بِكْرٌ} : يعني: ولا صغيرةٌ

(3)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، مثلَه.

وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ في "البكرِ": لم تَلِدْ إلا ولدًا واحدًا

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {عَوَانٌ} .

قال أبو جعفرٍ: العَوانُ النَّصَفُ التي قد ولَدَت بَطْنًا بعدَ بطنٍ، وليست بنعتٍ للبِكْرِ. يقالُ منه: قد عوَّنَتْ. إذا صارت كذلك.

وإنما معنى الكلامِ: قال: إنه يَقولُ: إنها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ

(5)

، عَوانٌ بينَ ذلك. ولا بَجوزُ أن يَكونَ {عَوَانٌ} إلا مبتدأً؛ لأنَّ قولَه:{بَيْنَ ذَلِكَ} كِنايةٌ عن الفارِضِ والبِكْرِ، فلا يجوزُ أن يَكونَ مُتَقَدِّمًا عليهما. ومنه قولُ الأخْطَلِ

(6)

:

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (698) معلقًا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 (697) عن أبي زرعة، عن منجاب به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 عقب الأثر (698) من طريق آدم به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 137 (698) من طريق عمرو به.

(5)

بعده في م: "بل".

(6)

شرح ديوان الأخطل ص 83.

ص: 87

وما بمكةَ

(1)

مِن شُمْطٍ مُحَفِّلةٍ

وما بيَثْرِبَ مِن عُونٍ وأبْكارِ

(2)

وجمعُها عُونٌ، يُقالُ: امرأةٌ عَوانٌ مِن نِسوةٍ عُونٍ، ومنه قولُ تَمِيمِ بنِ مُقْبِلٍ

(3)

:

ومَأْتَمٍ

(4)

كالدُّمَى حُورٍ مَدامِعُها

لم تَيْأَسِ

(5)

العَيْشَ أبْكارًا ولا عُونَا

و"بقرةٌ عَوانٌ"، و"بقرٌ عُونٌ". قال: وربما قالت العربُ: "بقرٌ عُونٌ"، مثلَ "رُسُلٍ"؛ يَطْلُبون بذلك الفرقَ بينَ جمعِ "عَوانٍ" مِن البقرِ، وجمعِ "عَانَةٍ" مِن الحُمُرِ، ويقالُ: هذه حربٌ عَوانٌ. إذا كانت حربًا قد قُوتِل فيها مرةً بعدَ مرةٍ، يُمَثَّلُ ذلك بالمرأةِ التي قد ولَدَت بطنًا بعدَ بطنٍ، وكذلك يُقالُ: حاجةٌ

(6)

عَوَانٌ. إذا كانت قد قُضِيَت مرةً بعدَ مرةٍ.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ أن ابنَ زيدٍ أنْشَدَه:

قُعودٌ لَدَى الأبْوابِ طُلَّابُ حاجةٍ

عَوَانٍ مِن الحاجاتِ أو حاجةً بِكْرَا

قال أبو جعفرٍ: والبيتُ للفَرَزْدقِ

(7)

.

وبنحوِ الذي قلْنا فى ذلك تأوَّله أهلُ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا علىُّ بنُ سعيدٍ الكِنْدىُّ، ثنا عبدُ السلامِ بنُ حربٍ، عن خُصَيفٍ، عن

(1)

في المصدر: "بزمزم".

(2)

الشمط، جمع أشمط وشمطاء، والشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده. ومحفلة: من الحفيل والاحتفال وهو الجد والاجتهاد.

(3)

ديوانه ص 325.

(4)

المأتم: جماعة النساء أو الرجال في خير أو شر. اللسان (أ ت م).

(5)

في الديوان: "تبأس".

(6)

في م: "حالة".

(7)

ديوان الفرزدق ص 227.

ص: 88

مُجاهِدٍ: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وَسَطٌ، قد ولَدَتْ بطنًا أو بطنَيْن

(1)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{عَوَانٌ} قال: العَوانُ: العانِسُ النَّصَفُ

(2)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ: العوانُ: النَّصَفُ

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ عَطِيةَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن خُصَيفٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، أو عكرمةَ -شكَّ شَريكٌ- {عَوَانٌ}. قال: بينَ ذلك

(4)

.

حُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{عَوَانٌ} . قال: بينَ الصغيرةِ والكبيرةِ، وهي أقوى ما يكونُ مِن البقرِ والدَّوابِّ، وأحسنُ ما يكونُ

(5)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ الخُراسانىِّ، عن ابنِ عباسٍ:{عَوَانٌ} قال: النَّصَفُ.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 (701) من طريق عبد السلام بن حرب به. وأخرجه عبد بن حميد -كما في تفسير ابن كثير 2/ 506، تحقيق أبي إسحاق الحوينى- من طريق خصيف به.

(2)

أخرجه عبد بن حميد -كما في تفسير ابن كثير 3/ 506، تحقيق أبي إسحاق الحوينى- من طريق ابن أبي نجيح به.

(3)

تفسير مجاهد ص 206.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 عقب أثر (699) معلقًا عن عكرمة.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 (699) من طريق منجاب به.

ص: 89

{عَوَانٌ} نَصَفٌ

(1)

.

وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ: العَوانُ نَصَفٌ بينَ ذلك

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال. ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرىُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن خُصَيفٍ، عن مُجاهِدٍ:{عَوَانٌ} : التي

(3)

تُنْتَجُ شيئًا بشرطِ [أن تَكونَ]

(4)

التي قد نُتِجَت بَكْرةً أو بَكْرتَيْن.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ: العَوانُ النَّصَفُ التي بينَ ذلك، التي قد وَلَدَت وولَدَ ولدُها

(5)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: العَوانُ بينَ ذلك ليست ببكرٍ ولا كبيرةٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَيْنَ ذَلِكَ} .

يعني بقولِه: {بَيْنَ ذَلِكَ} : بينَ البِكْرِ والهَرِمةِ.

كما حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{بَيْنَ ذَلِكَ} . أي: بينَ البِكْرِ والهَرِمةِ

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 عقب الأثر (699) من طريق آدم به.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 عقب الأثر (699) معلقًا.

(3)

بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"لم".

(4)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 (700) من طريق عمرو بن حماد به.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 138 عقب الأثر (699) من طريق آدم به.

ص: 90

فإن قال قائلٌ: قد علِمْتَ أن "بينَ" لا تَصْلُحُ إلا أن تَكونَ مع شيئَيْن فصاعدًا، فكيف قيل:{بَيْنَ ذَلِكَ} . و {ذَلِكَ} واحدٌ في اللفظِ؟

قيل: إنما صلَحَت مع كونِها واحدةً؛ لأنَّ "ذلك" بمعنى اثنين، والعربُ تَجْمَعُ في "ذلك" و"ذاك" شيئين ومعنيَيْن مِن الأفعالِ، كما يقولُ القائلُ: أَظُنُّ أخاك قائمًا، وكان عمرٌو أباك. ثمَّ يقولُ: قد كان ذاك، وأَظُنُّ ذلك. فيَجْمَعُ بـ"ذاك" و"ذلك" الاسمَ والخبرَ الذي كان لابد لـ "أظنُّ"

(1)

و"كان" منهما.

فمعنى الكلامِ: قال: إنه يقولُ: إنها بقرةٌ لا مُسِنَّةٌ هَرِمةٌ، ولا صَغيرةٌ لم تَلِدْ، ولكنها بقرةٌ نَصَفٌ قد وَلَدَت بطنًا بعدَ بطنٍ بينَ الهَرَمِ والشبابِ. فجمَع {ذَلِكَ} معنى الهَرَمِ والشبابِ، لما وصَفْنا، ولو كان مكانَ "الفارِضِ والبِكْرِ" اسمَا شخصَيْن لم يُجْمَعْ مع "بينَ""ذلك"، وذلك أن "ذلك" لا يُؤَدِّى عن اسمِ شخصين، وغيرُ جائزٍ لمَن قال: كنتُ بينَ زيدٍ وعمرٍو. أن يقولَ: كنتُ بينَ ذلك. وإنما يَكونُ ذلك مع أسماءِ الأفعالِ دون أسماءِ الأشخاصِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)} .

يقولُ اللهُ لهم جلَّ ثناؤُه: افْعَلوا ما آمُرُكم به تُدْرِكوا حاجاتِكم وطَلباتِكم عندي، واذْبَحوا البقرةَ التي أمَرْتُكم بذبحِها، تَصِلوا -بانتهائِكم إلى طاعتى بذبحِها- إلى العلمِ بقاتلِ قَتيلِكم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} .

ومعنى ذلك: قال قومُ موسى لموسى: ادعُ لنا ربَّك يُبَيِّنْ لنا لونَ البقرةِ التي

(1)

في النسخ: "للظن". والمثبت هو الصواب.

ص: 91

أمَرْتَنا بذبحِها. وهذا أيضًا تعنُّتٌ آخرُ منهم بعدَ الأولِ، وتكلُّفُ طلبِ ما قد كانوا كُفوه في المرةِ الثانيةِ والمسألةِ الآخِرةِ، وذلك أنهم لم يكونوا حُصِروا في المرةِ الثانيةِ، إذ قيل لهم بعد مسألتِهم عن حِلْيةِ البقرةِ التي كانوا أُمِروا بذبحِها، فأبَوْا إلا تكلُّفَ ما قد كُفُوه مِن المسألةِ عن صفتِها، فحُصِروا على نوعٍ دونَ سائرِ الأنواعِ؛ عقوبةً مِن اللهِ لهم على مَسألتِهم التى سأَلوها نبيَّهم صلى الله عليه وسلم تعنُّتًا منهم له، ثمَّ لم يَحْصُرْهم على لونٍ منها دونَ لونٍ، فأبَوْا إلا تَكَلُّفَ ما كانوا عن تَكَلُّفِه أغْنِياءَ، فقالوا -تعنُّتًا منهم لنبيِّهم صلى الله عليه وسلم كما ذكَر ابنُ عباسٍ-:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} فقيل لهم عقوبةً لهم: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} فحُصِروا على لونٍ منها دونَ لونٍ، ومعنى ذلك: أن البقرةَ التي أمَرْتُكم بذبحِها صفراءُ فاقعٌ لونُها.

قال ومعنى قولِه: {يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} : أىُّ شيءٍ لونُها؟ فلذلك كان اللونُ مرفوعًا؛ لأنه مُرافَعُ "ما"، وإنما لم يُنْصَبْ "ما" بقولِه:{يُبَيِّنْ لَنَا} لأنَّ أصلَ "أىٍّ" و"ما" جمعُ مُتَفَرِّقِ الاستفهامِ. يقولُ

(1)

القائلُ: بَيِّنْ لنا أسوداءُ هذه البقرةُ أم صفراءُ؟ فلما لم يَكُنْ [لقولِه: بيِّنْ لنا. أن يقعَ على الاستفهامِ متفرِّقًا، لم يكنْ له أن يقعَ]

(2)

على "أىٍّ"؛ لأنه جمعُ ذلك المتفرِّقِ، وكذلك كلُّ ما كان مِن نظائرِه، فالعملُ فيه واحدٌ في "ما" و"أىٍّ".

واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {صَفْرَاءُ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: سوداءُ شديدةُ السَّوادِ.

(1)

في النسخ: "كقول". والمثبت يقتضيه السياق.

(2)

في النسخ: "كقوله بين لنا ارتفع على الاستفهام منصرفا لم يكن له ارتفع". والمثبت هو الصواب. وينظر معانى القرآن للفراء 1/ 46 - 48.

ص: 92

ذكرُ مَن قال ذلك منهم

حدَّثنى أبو مسعودٍ إسماعيلُ بنُ مسعودٍ الجَحْدرىُّ، قال: ثنا نوحُ بنُ قيسٍ، عن محمدِ بنِ سيفٍ، عن الحسنِ:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال: سوداءُ شديدةُ السَّوادِ

(1)

.

حدَّثنى أبو زائدةَ زكريا بنُ يحيى بنِ أبى زائدةَ والمثنى بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا نوحُ بنُ قيسٍ، عن محمدِ بنِ سيفٍ، عن أبى رَجاءٍ، عن الحسنِ مثلَه

(2)

.

وقال آخَرون: معنى ذلك: صفراءُ القَرْنِ والظِّلْفِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى هشامُ بنُ يونُسَ النَّهْشَلىُّ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، عن أشْعثَ، عن الحسنِ في قولِه:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . قال: صفراءُ القَرنِ والظِّلْفِ.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنى هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا جُوَيْبِرٌ، عن كَثيرِ بنِ زيادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . قال: كانت وَحْشِيَّةً

(3)

.

حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاويةَ، عن إبراهيمَ، عن أبى حفصٍ، عن

(1)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (192 - تفسير)، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 (709) من طريق نوح بن قيس به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 140 (715) من طريق مسلم بن إبراهيم به. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 158: وهذا غريب.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 138 (704) من طريق هشيم به.

ص: 93

مَغْراءَ، أو عن رجلٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ:{بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . قال: صفراءُ القَرْنِ والظِّلْفِ

(1)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: هى صَفْراءُ.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا الضَّحَّاكُ بنُ مَخْلَدٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال: لو أخَذُوا بقرةً صَفراءَ لأَجْزَأَت عنهم

(2)

.

قال أبو جعفرٍ: وأَحْسَبُ أن الذى قال في قولِه: {صَفْرَاءُ} : يَعْنى به سوداءَ. ذهَب إلى قولِه

(3)

في نعتِ الإبلِ السودِ: هذه إبلٌ صُفْرٌ، وهذه ناقةٌ صفراءُ. يعْنى بها سوداءَ، وإنما قيل ذلك في الإبلِ لأن سوادَها يَضْرِبُ إلى الصُّفْرةِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(4)

:

تلك خَيْلِى منه

(5)

وتلك رِكابِى

(6)

هن صُفْرٌ أولادُها كالزَّبِيبِ

يعنى بقولِه: عن صُفْرٌ: هن سُودٌ، وذلك إن وُصِفَت الإبلُ به فليس مما تُوصَفُ به البقرُ، مع أن العربَ لا تَصِفُ السَّوادَ بالفُقوعِ، وإنما تَصِفُ السوادَ -إذا وصَفَتْه بالشِّدةِ- بالحُلوكةِ ونحوِها، فتقولُ: هو أسودُ

(1)

إبراهيم هو ابن يزيد الخوزى متروك. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 (708) من طريق ليث بن أبى سليم، عن مغراء، عن سعيد بن جبير. وأخرجه ابن أبى حاتم أيضًا 1/ 139 (707) من طريق شريك، عن الأعمش، عن مغراء، عن ابن عمر في قوله:{صَفْرَاءُ} . قال صفراء الظلف.

(2)

تفسير مجاهد ص 205، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 (706).

(3)

كذا في النسخ، ولعل صوابها:"قولهم".

(4)

هو الأعشى الكبير، والبيت في ديوانه ص 68.

(5)

في م: "منها".

(6)

الركاب: الإبل التى يسار عليها، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها. التاج (ر ك ب).

ص: 94

حالكٌ وحانِكٌ وحُلْكُوكٌ، وأسودُ غِرْبيبٌ ودَجُوجىٌّ. ولا تقولُ: هو أسودُ فاقعٌ. وإنما تقولُ: هو أصفرُ فاقعٌ. فوصْفُه إياه بالفُقوعِ مِن الدليل البينِ على خلافِ التأويلِ الذى تأوَّل قولَه: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} المتأوِّلُ بأن معناه سوداءُ شديدةُ السوادِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} .

يعنى: خالصٌ لونُها. والفُقوعُ في الصُّفْرةِ نظيرُ النُّصُوعِ في البَياضِ، وهو شِدَّتُه وصَفاؤُه.

كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، قال: قال قَتادةُ: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} : هى الصافى لونُها

(1)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . أى: صافٍ لونُها

(2)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بمثلِه

(3)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدىِّ:{فَاقِعٌ} . قال: نَقِىٌّ لونُها

(4)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَاقِعٌ لَوْنُهَا} : شديدةُ الصُّفْرةِ، تَكادُ مِن

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 49.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 عقب الأثر (711) من طريق آدم به.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 عقب الأثر (711) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 عقب الأثر (711) من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 95

صُفرتِها تَبْيَضُّ

(1)

. قال أبو جعفرٍ: أُراه أبيضَ.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} . قال: شديدةٌ صفرتُها.

يقالُ منه: فقَع لونُه يَفْقَعُ، ويَفْقُعُ، فَقْعًا وفُقوعًا فهو فاقعٌ. كما قال الشاعرُ:

حمَلْتُ عليه الوَرْدَ

(2)

حتى ترَكْتُه

ذَليلًا يَسُفُّ التُّرْبَ واللَّوْنُ فاقعُ

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

يعنى بقولِه: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} : تُعْجِبُ هذه البقرةُ، في حُسنِ خَلْقِها ومَنظرِها وهَيئتِها، الناظرَ إليها.

كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أى: تُعْجِبُ الناظِرِين

(3)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثنى عبدُ الصَّمَدِ بنُ مَعْقلٍ، أنه سمِع وهبًا:{تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} : إذا نظَرْتَ إليها يُخَيَّلُ إليك أن شُعاعَ الشمسِ يَخْرُجُ مِن جلدِها

(4)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ:{تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قال: تُعْجِبُ الناظِرِين

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 140 (714) عن محمد بن سعد به.

(2)

الورد من الخيل: بين الكميت والأشعر.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 140 عقب الأثر (716) معلقًا.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 140 (717) من طريق إسماعيل بن عبد الكريم به.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 140 (716) من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 96

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (70)} .

قال أبو جعفرٍ: يعنى بقوله: {قَالُوا} : قال قومُ موسى الذين أُمِروا بذبحِ البقرةِ، لموسى. فترَك ذكرَ "موسى"، وذكَر عائدَ ذكرِه اكْتِفاءً بما دلَّ عليه ظاهرُ الكلامِ. وذلك أن معنى الكلامِ: قالوا له: ادْعُ لنا ربَّك. فلم يَذْكُرْ "له" لما وصَفْنا.

وقولُه: {يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} خبرٌ مِن اللهِ عن القومِ بجَهْلةٍ منهم ثالثةٍ، وذلك أنهم لو كانوا إذ أُمِروا بذبحِ البقرةِ ذبَحوا أيَّتَها تَيَسَّرَتْ مما يَقَعُ عليه اسمُ بقرةٍ كانت عنهم مُجْزِئةً، ولم يَكُنْ عليهم غيرُها، لأنهم لم يَكُونوا كُلِّفوها بصفةٍ دون صفةٍ، فلمَّا سأَلوا بيانَها بأيَّةِ صفةٍ هى، فبيَّن لهم أنها بسِنٍّ مِن الأسْنانِ دونَ سِنِّ سائرِ الأسْنانِ، فقيل لهم: هى عَوانٌ بينَ الفارِضِ والبِكْرِ الضَّرَعِ

(1)

. فكانوا -إذ بُيِّنَتْ لهم سنُّها- لو ذبَحوا أدْنَى بقرةٍ بالسنِّ التى بُيِّنَت لهم كانت عنهم مُجْزِئةً؛ لأنهم لم يَكُونوا كُلِّفوها بغيرِ السنِّ التى حُدَّتْ لهم، ولا كانوا حُصِروا على لونٍ منها دونَ لونٍ، فلما أبَوْا إلا أن تكونَ مُعَرَّفةً لهم بنُعوتِها، مُبَيَّنةً بحُدودِها التى تُفَرِّقُ بينَها وبينَ سائرِ بَهائمِ الأرضِ، فشدَّدوا على أنفسِهم، شدَّد

(2)

اللهُ عليهم بكثرةِ سُؤالِهم نبيَّهم واختلافِهم عليه.

ولذلك قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه: "ذرَونى ما ترَكْتُكم، فإنما أُهلك مَن كان قبلَكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا أمَرْتُكم بشيءٍ فأْتُوه، وإذا نهَيْتُكم عن

(1)

الضَّرَعُ، بالتحريك، والضارع: الصغير من كل شيء. وقيل: الصغير السن الضعيف الضاوى النحيف. اللسان (ض ر ع).

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"فشدد".

ص: 97

شيءٍ فانْتَهُوا عنه ما اسْتَطَعْتُم"

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: ولكنَّ القومَ لما زادوا نبيَّهم موسى صلى الله عليه وسلم أذًى وتَعنُّتًا، زادهم اللهُ عقوبةً وتشديدًا.

كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال؛ ثنا عَثَّامُ بنُ علىٍّ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ بنِ عمرٍو، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لو أخَذوا أدْنَى بقرةٍ اكْتَفَوْا بها، لكنهم شدَّدوا فشدَّد اللهُ عليهم

(2)

.

حدَّثنا محمد

(3)

بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: ثنا المُعْتَمِرُ، قال: سَمِعْتُ أيوبَ، عن محمدِ بنِ سِيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: لو أنَّهم أخَذُوا أدْنَى بقرةٍ لأَجْزَأَت عنهم.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن هشامِ بنِ حسانَ، جميعًا عن ابنِ سِيرينَ، عن عَبيدةَ السَّلْمانىِّ، قال: سأَلوا وشدَّدوا، فشُدِّد عليهم.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا ابنُ عُيَيْنةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عكرمةَ، قال: لو أخَذ بنو إسرائيلَ بقرةً لأَجْزَأَت عنهم، ولولا قولُهم:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} ما وجَدُوها

(4)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ،

(1)

أخرجه أحمد 12/ 325، 468 (7367، 7501)، والبخارى (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبى هريرة.

وقوله: "فإذا أمرتكم بشئ فأتوه، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم". خطأ، صوابه:"فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم". وانظر الفتح 13/ 260 - 263.

(2)

ذكره ابن كثير 1/ 158 عن المصنف. وقال: إسناد صحيح. وقد رواه غير واحد عن ابن عباس.

(3)

في م، ت 1:"عمر"، وفى ت 2، ت 3:"عمرو". وتقدم على الصواب كما أثبتناه في ص 76.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 50، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (193 - تفسير) عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 77 إلى الفريابى وابن المنذر مرفوعًا.

ص: 98

عن مُجاهِدٍ في قولِ اللهِ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} : لو أخَذُوا بقرةً ما كانت لأَجْزَأَت عنهم، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ}. قال: لو أخَذُوا بقرةً مِن هذا الوصفِ لأَجْزَأَت عنهم، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}. قال: لو أخَذوا بقرةً صفراءَ لأجزأتْ عنهم، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} الآية

(1)

.

حدَّثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ بنحوِه، وزاد فيه: ولكنهم شدَّدوا فشُدِّد عليهم.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال مُجاهِدٌ: لو أخَذُوا بقرةً ما كانت، أَجْزَأَت عنهم. قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال لى عَطاءٌ: لو أخَذُوا أدْنَى بقرةٍ كفَتْهم. قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنما أُمِرُوا بأدْنى بقرةٍ، ولكنَّهم لما شَدَّدوا على أنفسِهم شدَّد اللهُ عليهم، وايْمُ اللهِ لو أنهم لم يَسْتَثْنوا ما بُيِّنَت لهم آخرَ الأبَدِ"

(2)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: لو أن القومَ حينَ أُمِروا أن يَذْبَحوا بقرةً اسْتَعْرَضوا بقرةً مِن البقرِ فذبَحوها لكانَت إيَّاها، ولكنهم شدَّدوا على أنفسِهم، فشدَّد اللهُ عليهم، ولولا أن القومَ اسْتَثْنَوا فقالوا:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} لما هُدُوا إليها أبدًا

(3)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 205، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 139 (706) مختصرًا.

(2)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 77 إلى المصنف عن ابن جريج مرفوعًا.

(3)

تقدم مطولا في ص 77، 78.

ص: 99

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، قال: ذُكِر لنا أن نبىَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "إنما أُمِر القومُ بأدْنَى بقرةٍ، ولكنَّهم لما شدَّدوا على أنفسِهم شُدِّد عليهم، والذى نفسُ محمدٍ بيدِه لو لم يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَت لهم آخرَ الأبَدِ"

(1)

.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّىِّ في خبرٍ ذكَرَه عن أبى مالكٍ، وعن أبى صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لو أَعْرَضوا

(2)

بقرةً فذبَحوها لأَجْزَأَت عنهم، ولكنهم شدَّدوا وتعنَّتوا موسى، فشدَّد اللهُ عليهم

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: قال أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ: قال ابنُ عباسٍ: لو أن القومَ نظَروا أدْنى بقرةٍ -يعنى بنى إسرائيلَ- لأجزأت عنهم، ولكن شدَّدوا فشُدِّد عليهم، فاشْتَرَوها بملءِ جلدِها دَنانيرَ.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: لو أخَذُوا بقرةً كما أمَرَهم اللهُ كفاهم ذلك، ولكنَّ البلاءَ في هذه المسائلِ، فقالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} فشُدِّد عليهم، فقال:{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} . قال: وشُدِّد عليهم أشدَّ مِن الأولِ. فقرَأ حتى بلَغ: {مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} . فأبَوْا أيضًا فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} ، فشُدِّد عليهم فقال: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 77 إلى المصنف.

(2)

في م: "اعترضوا".

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 137 (693) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدى، عن ابن عباس.

ص: 100

لَا شِيَةَ فِيهَا}. قال: فاضْطُرُّوا إلى بقرةٍ لا يُعْلَمُ على صفتِها غيرُها، هى صفراءُ ليس فيها سَوادٌ ولا بياضٌ.

قال أبو جعفرٍ: وهذه الأقوالُ التى ذكَرْناها عمن ذكرناها عنه مِن الصحابةِ والتابعِين والخالِفِين بعدَهم، مِن قولِهم: إن بنى إسرائيلَ لو كانوا أخَذوا أدْنى بقرةٍ فذبَحوها أجْزَأَت عنهم، ولكنهم شدَّدوا فشدَّد اللهُ عليهم -مِن أوضحِ الدلالةِ على أن القومَ كانوا يَرَون أن حكمَ اللهِ فيما أمَر ونهَى في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم على العمومِ الظاهرِ دونَ الخُصوصِ الباطنِ، إلا أن يَخُصَّ بعضَ ما عمَّه ظاهرُ التَّنْزيلِ، كتابٌ مِن اللهِ أو رسولُ اللهِ، وأن التنزيلَ أو الرسولَ إن خصَّ بعضَ ما عمَّه ظاهرُ التنزيلِ بحكمٍ خلافِ ما دَلَّ عليه الظاهرُ، فالمخصوصُ مِن ذلك خارجٌ مِن حكمِ الآيةِ التى عمَّت ذلك الجنسَ خاصةً، وسائرُ حكمِ الآيةِ على العمومِ، على نحوِ ما قد بيَّناه في كتابِنا "كتابِ الرِّسالةِ" مِن "لطيفِ القولِ في البيانِ عن أصولِ الأحكامِ"- في قولِنا في العمومِ والخصوصِ، وموافقةِ قولِهم في ذلك قولَنا، ومذهبِهم مذهبَنا، وتَخْطئتِهم قولَ القائلين بالخصوصِ في الأحكامِ، وشَهادتِهم على فسادِ قولِ مَن قال: حُكمُ الآيةِ الجائيةِ مَجِئَ العمومِ على العُمومِ ما لم يُخْتَصَّ منها بعضُ ما عمَّته الآيةُ، فإن خُصَّ منها بعضٌ، فحُكمُ الآيةِ حينَئذٍ على الخصوصِ فيما خُصَّ منها، وسائرُ ذلك على العمومِ.

وذلك أن جميعَ مَن ذكَرْنا قولَه آنِفًا -ممَّن عاب على

(1)

بنى إسرائيلَ مسألتَهم نبيَّهم صلى الله عليه وسلم عن صفةِ البقرةِ التى أُمِروا بذبحِها وسنِّها وحِلْيتِها- رأَوْا أنهم كانوا في مسألتِهم رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مُخْطِئِين، وأنهم لو كانوا اسْتَعْرَضوا أدْنى بقرةٍ مِن البقرِ -إذ أُمِروا بذبحِها بقولِه:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فذبَحوها-

(1)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"عن".

ص: 101

كانوا للواجبِ عليهم مِن أمرِ اللهِ في ذلك مُؤَدِّين، وللحقِّ مُطِيعِين، إذ لم يَكُنِ القومُ حُصِروا على نوعٍ مِن البقرِ دونَ نوعٍ، وسنٍّ دونَ سنٍّ.

ورأَوا مع ذلك أنهم إذ سأَلوا موسى عن سنِّها، فأخْبَرَهم عنها وحصَرَهم منها على سنٍّ دونَ سنٍّ، ونوعٍ دونَ نوعٍ، وخَصَّ مِن جميعِ أنواعِ البقرِ نوعًا منها، كانوا في مسألتِهم إياه المسألةَ الثانيةَ بعد الذى خصَّ لهم من أنواعِ البقرِ، من الخطأِ على مثلِ الذى كانوا عليه من الخطأِ في مسألتِهم إياه المسألةَ الأولى.

وكذلك رَأَوْا أنهم في المسألةِ الثالثةِ على مثلِ الذى كانوا عليه مِن ذلك في الأولى والثانيةِ، وأن اللازمَ كان لهم في الحالةِ الأولى استعمالُ ظاهرِ الأمرِ، وذبحُ أىِّ بهيمةٍ شاءوا مما وقَع عليها اسمُ بقرةٍ.

وكذلك رأَوْا أن اللازمَ كان لهم في الحالةِ الثانيةِ استعمالُ ظاهرِ الأمرِ، وذبحُ أىِّ بهيمةٍ شاءوا مما وقَع عليها اسمُ بقرةٍ عَوَانٍ لا فارضٍ ولا بِكْرٍ، ولم يَرَوْا أن حكمَهم -إذ خُصَّ لهم بعضُ البقرِ دونَ البعضِ فى الحالةِ الثانيةِ- انْتَقَل عن اللازمِ كان لهم في الحالةِ الأولى مِن استعمالِ ظاهرِ الأمرِ إلى الخصوصِ.

ففى إجماعِ جميعِهم على ما رَوَينا عنهم مِن ذلك -مع الروايةِ التى رَوَيناها عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالموافقةِ لقولِهم- دليلٌ واضحٌ على صحةِ قولِنا في العمومِ والخصوصِ، وأن أحكامَ اللهِ جل ثناؤُه في آىِ كتابِه -فيما أمَر ونهَى- على العمومِ مالم يَخُصَّ ذلك ما يَجبُ التسليمُ له، وأنه إذا خُصَّ منه شيءٌ فالمخصوصُ منه خارجٌ حكمُه مِن حكمِ الآيةِ العامةِ الظاهرِ، وسائرُ حكمِ الآيةِ على ظاهرِها العامِّ، ومُؤَيِّدٌ حقيقةَ ما قلْنا في ذلك، وشاهدٌ عَدْلٌ على فسادِ قولِ مَن خالَف قولَنا فيه.

وقد زعَم بعضُ مَن عظُمَت جَهالتُه، واشْتَدَّت حَيْرتُه، أن القومَ إنما سأَلوا موسى ما سأَلوا بعدَ أمْرِ اللهِ إياهم بذبحِ بقرةٍ مِن البقرِ؛ لأنهم ظنُّوا أنهم أُمِروا بذبحِ بقرةٍ بعينِها

ص: 102

خُصَّت بذلك، كما خُصَّت عصا موسى في معناها، فسأَلوه أن يُحَلِّيَها لهم ليَعْرِفوها.

ولو كان الجاهلُ تدبَّر قولَه هذا، لسهُل عليه ما اسْتَصْعَب مِن القولِ، وذلك أنه اسْتَعْظَم مِن القومِ مسألتَهم نبيَّهم ما سأَلوه تَشَدُّدًا منهم في دينِهم، ثم أضاف إليهم مِن الأمرِ ما هو أعْظَمُ مما اسْتَنْكَرَه أن يَكونَ كان منهم، فزعَم أنهم كانوا يرَوْن أنه جائزٌ أن يَفْرِضَ اللهُ عليهم فرضًا ويَتَعَبَّدَهم بعبادةٍ، ثم لا يُبَيِّنَ لهم ما يَفْرِضُ عليهم ويَتَعَبَّدُهم به، حتى يَسْأَلوا بيانَ ذلك لهم، فأضاف إلى اللهِ تعالى ذكرُه ما لا يَجوزُ إضافتُه إليه، ونسَب القومَ مِن الجهلِ إلى ما لا يُنْسَبُ المجانينُ إليه، فزعَم أنهم كانوا يَسْأَلون ربَّهم أن يَفْرِضَ عليهم الفَرائضَ، فنعوذُ باللهِ مِن الحَيْرةِ، ونَسْأَلُه التوفيقَ والهِدايةَ.

وأما قولُه: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} . فإن البقرَ جِماعُ بقرةٍ.

وقد قرَأ بعضُهم: (إن الباقرَ)

(1)

. وذلك وإن كان في الكلامِ جائزًا لمَجيئِه في كلامِ العربِ وأشعارِها، كما قال ميمونُ بنُ قيسٍ

(2)

:

وما ذنبُه أن عافَتِ الماءَ باقِرٌ

وما إن تَعافُ الماءَ إلا ليُضْرَبا

(3)

وكما قال أميةُ

(4)

:

ويَسُوقون باقِرَ [السَّهْلِ للطَّوْ

دِ]

(5)

مَهازِيلَ خَشْيةً أن تَبُورَا

(1)

وبها قرأ محمد ذو الشامة وعكرمة ويحيى بن يعمر. ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 14، والبحر المحيط 1/ 253.

(2)

ديوان الأعشى ص 115.

(3)

قال الجاحظ: وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب؛ إما لكدر الماء، أو لقلة العطش، ضربوا الثور ليقتحم الماء؛ لأن البقر تتبعه كما تتبع الشَّوْلُ الفحل. الحيوان 1/ 18.

(4)

ديوانه ص 45.

(5)

في النسخ: "الطود للسَّهْل". والمثبت من الديوان. يقول الجاحظ في ذكر نيران العرب: "ونار أخرى، وهى النار التى كانوا يستمطرون بها في الجاهلية الأولى، فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار، اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من =

ص: 103

- فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به لمخالفتِه القراءةَ الجائيةَ مَجِئَ الحُجَّةِ، بنقلِ مَن لا يَجوزُ عليه -فيما نقَلوه مُجْمِعِين عليه- الخطأُ والسَّهْوُ والكذبُ.

وأما تأويلُ: {تَشَابَهَ عَلَيْنَا} فإنه يعنى به: الْتَبَس علينا.

والقَرَأَةُ مختلفةٌ في تِلاوتِه؛ فبعضُهم كانوا يَتْلُونه: {تَشَابَهَ عَلَيْنَا} .

بتخفيفِ الشينِ ونصبِ الهاءِ على مثالِ "تَفَاعَلَ" ويُذَكِّرُ الفعلَ وإن كان البقرُ جِماعًا؛ لأن مِن شأنِ العربِ تَذْكيرَ كلِّ فعلِ جمعٍ كانت واحدتُه بالهاءِ، وجمعُه بطرحِ الهاءِ وتأنيثَه، كما قال اللهُ تعالى في نظيرِه في التَّذْكيرِ:{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]. فذكَّر "المُنْقَعِرَ"، وهو مِن صفةِ "النخلِ" لتذكيرِ لفظِ "النخلِ". وقال في موضعٍ آخرَ:{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. فأنَّث "الخاويةَ" وهى مِن صفةِ النخلِ -بمعنى النخلِ؛ لأنها وإن كانت في لفظِ الواحدِ المذكرِ -على ما وصَفْنا قبلُ- فهى جِماعُ نخلةٍ.

وكان بعضُهم يَتْلُوه: (إنَّ البقَرَ تَشَّابَهُ علينا)

(1)

. بتشديدِ الشين وضمِّ الهاءِ، فيُؤَنِّثُ الفعلَ بمعنى تأنيثِ "البقرِ"، كما قال:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} . ويُدْخِلُ في أولِ "تَشَابَه" تاءً تَدُلُّ على تأنيثِها، ثم تُدْغَمُ التاءُ الثانيةُ في شينِ "تَشَابَهَ"؛ لتَقارُبِ مَخْرَجِها ومَخْرَجِ الشينِ، فتَصِيرُ شِينًا مُشَدَّدةً، وتُرْفَعُ الهاءُ بالاستقبالِ والسلامةِ مِن الجَوازمِ والنَّواصبِ.

وكان بعضُهم يَتْلُوه: (إنَّ البقَرَ يَشَّابَهُ علينا)

(2)

. فيُخْرِجُ "يَشَّابَه" مُخْرَجَ الخبرِ عن الذَّكَرِ؛ لِما ذكَرْنا مِن العلةِ في قراءةِ مَن قرَأ ذلك: {تَشَابَهَ} بالتخفيفِ،

= البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها، السَّلَع والعُشَر، ثم صعدوا بها في جبل وعْر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع، فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا. الحيوان 4/ 466.

(1)

هى قراءة الأعرج، ورويت عن الحسن. البحر المحيط 1/ 254.

(2)

هى قراءة ابن مسعود. السابق.

ص: 104

ونصبِ الهاءِ، غيرَ أنه كان يَرْفَعُه بالياءِ التى يُحْدِثُها في أولِ "تشَابَهَ" التى تأتى بمعنى الاستقبالِ، وتُدْغَمُ التاءُ في الشينِ، كما فعَله القارئُ في (تَشَّابَهُ) بالتاءِ والتشديدِ.

والصوابُ في ذلك مِن القراءةِ عندَنا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} . بتخفيفِ شينِ "تَشَابَهَ" ونصبِ هائِه، بمعنى "تَفَاعَلَ"، لإجماعِ الحُجُّةِ مِن القَرَأةِ على تَصْويبِ ذلك ورفعِهم

(1)

ما سواه مِن القراءاتِ، ولا يُعْتَرَضُ على الحُجَّةِ بقولِ مَن يَجُوزُ عليه فيما نقَل السهوُ والغَفْلةُ والخطأُ.

وأما قولُه: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} . فإنهم عنَوْا: وإنا إن شاء اللهُ لمُبَيَّنٌ لنا ما الْتَبَس علينا وتَشَابَهَ مِن أمرِ البقرةِ التى أُمِرْنا بذبحِها. ومعنى "اهْتِدائِهم" في هذا الموضعِ معنى "تَبَيُّنِهم" أىُّ ذلك الذى لزِمهم ذَبْحُه مما سواه مِن أجناسِ البقرِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} .

وتأويلُ ذلك: قال موسى: إن اللهَ يقولُ: إن البقرةَ التى أمَرْتُكم بذبحِها بقرةٌ لا ذَلولٌ. ويعنى بقولِه: {لَا ذَلُولٌ} . أى: لم يُذَلِّلْها العملُ. فمعنى الآيةِ: إنها بقرةٌ لم تُذَلِّلْها إثارةُ الأرضِ بأظْلافِها، ولا سُنِىَ عليها

(2)

الماءُ، فيُسْقَى عليها الزرعُ، كما يقالُ للدابةِ التى قد ذلَّلها الركوبُ أو العملُ: دابةٌ ذَلولٌ بَيِّنةُ الذِّلِّ. بكسر الذَّالِ، ويُقالُ في مثلِه مِن بنى آدمَ: رجلٌ ذَليلٌ بَيِّنُ الذِّلِّ والذِّلَّةِ.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} . يقولُ: صعبةٌ لم يُذِلَّها عملٌ، {تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ}

(3)

.

(1)

كذا بالنسخ، ولعل الصواب:"دفعهم".

(2)

سنِيت الدابة وغيرها تسنَى: إذا سقى عليها. اللسان (س ن ى).

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 141 (727) من طريق شيبان، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى عبد بن حميد.

ص: 105

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} . يقولُ: بقرةٌ ليست بذَلولٍ يُزرَعُ عليها، وليْسَت تَسقى الحرثَ

(1)

.

حدثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} . أى: لم يُذِلَّها العملُ. {تُثِيرُ الْأَرْضَ} . يعنى: ليست بذَلولٍ فتُثِيرَ الأرضَ. {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} . يقولُ: ولا تَعْمَلُ

(2)

في الحرثِ

(3)

.

حُدثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} . يقولُ: لم يُذِلَّها العملُ، {تُثِيرُ الْأَرْضَ}. يقولُ: تُبِينُ الأرضَ

(4)

بأظْلافِها. {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} . يقولُ: ولا تعمَلُ (2) في الحرثِ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: قال الأعرجُ: قال مجاهدٌ قولَه: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} . يقولُ: ليست بذَلولٍ فتفعَلَ ذلك

(5)

.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: ليست بذَلولٍ تُثِيرُ الأرضَ، ولا تَسْقِى الحرثَ.

ويعنى بقولِه: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} : تَقْلِبُ الأرضَ للحرثِ، يقالُ منه: أثَرْتُ الأرضَ أُثِيرُها إثارةً، إذا قلَبتَها للزرعِ.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 142 (728) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

تقدم مطولا في ص 77.

(4)

أبانت الماشية الأرض، إذا فصلتها عن بعضها. اللسان (ب ى ن).

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 141 (723) من طريق حجاج به.

ص: 106

وإنَّما وصَفها جلَّ ثناؤُه بهذه الصفةِ؛ لأنَّها كانت -فيما قيل- وَحْشيَّةً.

حَدَّثَنِي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا جُوَيْبِرٌ، عن كَثيرِ بنِ زيادٍ، عن الحسنِ، قال: كانت وَحْشيَّةً

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مُسَلَّمَةٌ} .

ومعنى {مُسَلَّمَةٌ} : مُفَعَّلةٌ، مِن السلامةِ، يقالُ منه: سُلِّمَتْ تُسلَّمُ فهى مُسلَّمةٌ.

ثم اختَلف أهلُ التأويلِ في المعنى الذى سُلِّمَت منه، فوصَفَها اللهُ بالسلامةِ منه؛ فقال مجاهدٌ بما حَدَّثَنَا به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{مُسَلَّمَةٌ} . يقولُ: مُسَلَّمةٌ مِن الشِّيَةِ، و {لَا شِيَةَ فِيهَا}: لا بياضَ فيها ولا سوادَ

(2)

.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {مُسَلَّمَةٌ} . قال: مُسَلَّمةٌ من الشِّيَةِ، {لَا شِيَةَ فِيهَا}: لا بياضَ فيها ولا سَوادَ.

وقال آخَرون: مُسَلَّمةٌ مِن العيوبِ.

(1)

تقدم في ص 93.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 142 (732، 735) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 78 إلى عبد بن حميد.

ص: 107

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} . أى: مُسلَّمةٌ مِن العيوبِ

(1)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{مُسَلَّمَةٌ} . يقولُ: لا عيبَ فيها

(2)

.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{مُسَلَّمَةٌ} . يعنى: مُسَلَّمةٌ مِن العيوبِ

(3)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بمثلِه

(4)

.

حَدَّثَنَا القاسِمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنَي حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: قال ابنُ عباسٍ: قولُه: {مُسَلَّمَةٌ} : لا عَوارَ فيها

(5)

.

والذي قاله ابنُ عباسٍ وأبو العاليةِ ومن قال بمثلِ قولِهما في تأويلِ ذلك، أوْلَى بتأويلِ الآيةِ مما قاله مجاهدٌ؛ لأنَّ سَلامَتَها لو كانت مِن سائرِ أنواعِ الألوانِ سِوَى لونِ جلدِها، لكان في قولِه:{مُسَلَّمَةٌ} . مُكْتَفًى عن قولِه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} . وفى قولِه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} ، ما يُوَضِّحُ عن أن معنى قولِه:{مُسَلَّمَةٌ} . غيرُ معنى

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى المصنّف وعبد بن حميد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 49، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 142 (733) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 142 عقب الأثر (733) من طريق آدم به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 142 عقب الأثر (733) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى المصنّف.

ص: 108

قولِه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} . وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلامِ أنه يقولُ: إنها بقرةٌ لَمْ تُذَلِّلْها إثارةُ الأرضِ وقَلْبُها للحِراثةِ ولا السُّنُوُّ عليها للمزَارعِ، وهى مع ذلك صحيحةٌ مُسَلَّمةٌ مِن العيوبِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا شِيَةَ فِيهَا} .

يعنى بقولِه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} : لا لونَ فيها يُخالِفُ لونَ جلدِها. وأصلُه مِن: وَشْىِ الثوبِ. وهو تحسينُ عُيوبِهِ التى تَكونُ فيه بضُروبٍ مختلفةٍ مِن ألوانِ سَدَاه ولُحْمتُه، يقالُ منه: وَشَيْتُ الثوبَ فأنا أَشِيه شِيَةً ووَشْيًا. ومنه قيل للساعى بالرجلِ إلى السلطانِ أو غيرِه: واشٍ. لكذبِه عليه عندَه وتحسينِه كذبَه بالأباطيلِ، يقالُ منه: وشَيْتُ به إلى السلطانِ وِشايةً. ومنه قولُ كعبِ بنِ زُهَيْرٍ

(1)

:

تَسْعَى الوُشَاةُ بجنْبَيها

(2)

وقولُهمُ

إنك يا بنَ أبى سُلْمَى لَمَقْتولُ

والوُشاةُ جمع واشٍ، يعنى أنهم يَتقوَّلون بالأباطيلِ، ويُخبِرُونه أنه إن لحِق بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم قتَلَه.

وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أن الوَشْىَ العلامةُ. وذلك لا معنى له، إلَّا أن يكونَ أراد بذلك تحسينَ الثوبِ بالأعْلامِ؛ لأنه معلومٌ أن القائلَ: وشَيْتُ بفلانٍ إلى فلانٍ. غيرُ جائزٍ أن يُتوهَّمَ عليه أنه أراد: جعَلْتُ له عندَه علامةً.

وإنما قيل: {لَا شِيَةَ فِيهَا} . وهى مِن: وَشَيْتُ؛ لأنَّ الواوَ لما أُسقِطَت مِن أولِها أُبدِلَتْ مكانَها الهاءُ في آخرِها، كما قيل: وزَنْتُه زِنةً و [وَسَيْتُه سِيَةً]

(3)

،

(1)

ديوانه ص 19.

(2)

في م: "جنابيها".

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"وشيته شية". وسيته: حلَقته. ينظر اللسان (و س ى).

ص: 109

ووَعَدْتُه عِدَةً، وودَيْته دِيَةً.

وبمثلِ الذى قلنا في معنى قولِه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} قال أهلُ التأويلِ.

حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا شِيَةَ فِيهَا} . أى: لا بياضَ فيها

(1)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ، مثلَه

(2)

.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{لَا شِيَةَ فِيهَا} . يقولُ: لا بَياضَ فيها

(3)

.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهِدٍ:{لَا شِيَةَ فِيهَا} . أى: لا بياضَ فيها ولا سَوادَ

(4)

.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن أبيه، عن عطيةَ:{لَا شِيَةَ فِيهَا} . قال: لونُها واحدٌ، ليس فيها لونٌ سِوَى لونِها

(5)

.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 عقب الأثر (736) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى عبد بن حميد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 49.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 عقب الأثر (736) من طريق آدم به.

(4)

تقدم في ص 107.

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 عقب الأثر (737) معلقا.

ص: 110

حَدَّثَنِي موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{لَا شِيَةَ فِيهَا} : مِن بياضٍ ولا سوادٍ ولا حُمرةٍ

(1)

.

حَدَّثَنِي يونسُ بنُ عبدِ الأعلَي، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {لَا شِيَةَ فِيهَا} : هى صفراءُ ليس فيها بياضٌ ولا سوادٌ.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع:{لَا شِيَةَ فِيهَا} . يقولُ: لا بياضَ فيها

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} .

اختَلف أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ قولِه: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . فقال بعضُهم: معنى ذلك: الآن بيَّنْتَ لنا الحقَّ فتبَيَّنَّاه، [وعرَفْنا أيَّةَ بقرةٍ عَنيتَ]

(3)

.

وممَّن قال ذلك قتادةُ:

حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . أى: الآن بيَّنتَ لنا

(4)

.

وقال بعضُهم: ذلك خبرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه عن القومِ أنهم نسَبوا نبيَّ اللهِ موسى صلواتُ اللهِ عليه إلى أنه لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهم بالحقِّ في أمرِ البقرةِ قبلَ ذلك.

وممَّن رُوِى عنه معنى هذا القولِ عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 (738) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 عقب الأثر (736) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

في م، ت 2:"وعرفناه، أنه بقرة عينت".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 (739) من طريق شيبان، عن قتادة.

ص: 111

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: اضطُرُّوا إلى بقرةٍ لا يَعْلَمون على صفتِها غيرَها، وهى صفراءُ ليس فيها سَوادٌ ولا بياضٌ، فقالوا: هذه بقرةُ فلانٍ، {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . وقبلَ ذلك واللهِ قد جاءَهم بالحقِّ

(1)

.

وأولى التأويلين عندَنا بقولِه: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . قولُ قتادةَ، وهو أن تأويلَه: الآن بيَّنتَ لنا الحقَّ في أمرِ البقرِ

(2)

، فعرَفْنا أيُّها

(3)

الواجبُ علينا ذبحُها منها؛ لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه قد أخبَر عنهم أنهم قد أطاعوه، فذبَحوها بعد قِيلِهم هذا مع غِلَظِ مؤنةِ ذبحِها عليهم وثِقَلِ أمْرِها، فقال:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . وإن كانوا قد قالوا -بقولِهم: الآن بيَّنْتَ لنا الحقَّ- هُراءً

(4)

مِن القولِ، وأتَوْا خطأً وجهلًا مِن الأمرِ، وذلك أن نبيَّ اللهِ موسى صلى الله عليه وسلم كان مُبَيِّنًا لهم -في كلِّ مسألةٍ سأَلوها إياه، وردٍّ

(5)

رادُّوه في أمرِ البقرةِ- الحقَّ، وإنما يُقالُ: الآن بَيَّنْتَ لنا الحقَّ لمن لَمْ يَكُنْ مُبَيِّنًا قبلَ ذلك، فأما مَن كان كلُّ قِيلِه -فيما أبان عن اللهِ تعالى ذكْرُه- حقًّا وبيانًا، فغيرُ جائزٍ أن يقالَ له في بعضِ ما أبان عن اللهِ في أمرِه ونهيِه، وأدَّى عنه إلى عبادِه مِن فرائضِه التى أوجَبها عليهم:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . كأنَّه لم يَكُنْ جاءهم بالحقِّ قبلَ ذلك.

وقد كان بعضُ مَن سلَف يَزعُمُ أن القومَ ارْتَدُّوا عن دينِهم، وكفَروا بقولِهم لموسى:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} . ويَزعُمُ أنهم نفَوْا أن يكونَ موسى أتاهم بالحقِّ في أمْرِ البقرةِ قبلَ ذلك، وأن ذلك مِن فعْلِهم وقِيلِهم كفرٌ.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 159 مقتصرًا على آخره. وتقدم بطوله في ص 100، 101.

(2)

في النسخ: "البقرة". والمثبت يقتضيه السياق.

(3)

في م، ت 2:"أنَّها"، وفى ت 1، ت 3:"أنه".

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3:"هزوا".

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"رده".

ص: 112

وليس الذى قال مِن ذلك عندَنا كما قال؛ لأنهم أذْعَنوا بالطاعةِ بذبحِها، وإن كان قيلُهم الذى قالوه لموسى جَهْلةً منهم وهَفْوَةً مِن هَفَواتِهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} .

يعنى بقولِه: {فَذَبَحُوهَا} : فذبَح قومُ موسى البقرةَ التى وصَفها اللهُ لهم، وأمَرهم بذبحِها.

ويعنى بقولِه: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . أى: قارَبوا أن يَدَعوا ذبْحَها، ويترُكوا فرْضَ اللهِ عليهم في ذلك.

ثم اختَلف أهلُ التأويلِ في السببِ الذى مِن أجلِه كادوا أن يُضِيعوا فرْضَ اللهِ عليهم في ذبحِ ما أمَرهم بذبحِه مِن ذلك؛ فقال بعضُهم: ذلك السببُ كان غلاءَ ثمنِ البقرةِ التى أُمِروا بذبحِها، وبُيِّنَت لهم صفتُها.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا أبو معشرٍ المدنيُّ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ في قولِه:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . قال: لغلاءِ ثمنِها

(1)

.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُبيدٍ الهِلاليُّ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ الخطابِ، قال: ثنا أبو معشرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرظيُّ:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . قال: مِن كثرةِ قيمتِها.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 49.

ص: 113

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: أخبَرنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، وحجاجٌ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ ومحمدِ بنِ قيسٍ -في حديثٍ فيه طُولٌ، ذكَر أن حديثَ بعضِهم دخَل في حديثِ بعضٍ- قولَه:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} : لكثرةِ الثمنِ، أخَذوها بمِلْءِ مَسْكِها ذهبًا مِن مالِ المقتولِ، فكان سَواءً، لَمْ يَكُنْ فيه فَضْلٌ فذبَحوها

(1)

.

حُدِّثتُ عن المنجابِ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . يقولُ: كادوا لا يَفعَلون، ولم يَكُنِ الذى أرادوا؛ لأنهم أرادوا أَلَّا يَذْبَحُوها، وكلُّ شيءٍ في القرآن "أَكادُ

(2)

" و

(3)

"كادوا" و

(3)

"لو"، فإنه لا يكونُ، وهو مثلُ قولِه:{أَكَادُ أُخْفِيهَا}

(4)

[طه: 15].

وقال آخَرون: لَمْ يكادوا أن يفعَلوا ذلك، خوفَ الفضيحةِ إن أطْلَع اللهُ على قاتلِ القتيلِ الذى اختَصَموا فيه إلى موسى.

والصوابُ مِن التَّأْويلِ عندَنا أن القومَ لَمْ يكادوا يفعَلون ما أمَرهم اللهُ به مِن ذبحِ البقرةِ للخَلَّتين كلتيهما؛ إحداهما: غَلاءُ ثَمنِها مع ما ذُكِر لنا من صِغَرِ خطَرِها وقلةِ قيمتِها. والأخرى: خوفُ عظيمِ الفضيحةِ على أنفسِهم بإظهارِ اللهِ نبيَّه موسى صلواتُ اللهِ عليه وأتباعَه على قاتلِه

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 1/ 144 (743) من طريق أبى معشر، عن محمد بن كعب.

(2)

في م، ت 2:"كاد".

(3)

في م، ت 2:"أو".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 143 (742) عن أبي زرعة، عن المنجاب به. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 160.

(5)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 160.

ص: 114

فأما غلاءُ ثَمنِها فإنه قد رُوِى لنا فيه ضُروبٌ مِن الرِّواياتِ.

فحَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ، قال: اشترَوْها بوزنِها عشْرَ مراتٍ ذهبًا، فباعَهم صاحبُها

(1)

إياها وأخَذ ثَمنَها

(2)

.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَي، قال: ثنا المعتمِرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ أيوبَ، عن محمدِ بنِ سِيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: اشترَوْها بمِلْءِ جلدِها دنانيرَ.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهِدٍ، قال: كانت البقرةُ لرجلٍ يَبَرُّ أُمَّه، فرزَقه اللهُ أن جعَل تلك البقرةَ له، فباعَها بمِلْءِ جلدِها ذهبًا

(3)

.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، قال: حَدَّثَنِي خالدُ بنُ يزيدَ، عن مجاهِدٍ، قال: أعْطَوْا صاحبَها مِلْءَ مَسْكِها ذهبًا، فباعَها منهم.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ

(4)

عبدِ الكريمِ، قال: حَدَّثَني عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبًا يقولُ: اشترَوْها منه على أن يَمْلَئوا له جلدَها دنانيرَ، ثم ذبَحوها فعمَدوا إلى جلدِ البقرةِ فملئوه دنانيرَ، ثم دفَعوها إليه.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ

(5)

، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمِّى

(6)

، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: وجَدوها عندَ رجلٍ يزعُمُ أنه ليس بائعَها

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"صاحبهم".

(2)

تقدم مطولًا في ص 80.

(3)

ينظر ما تقدم في ص 81.

(4)

في النسخ: "عن". وانظر ما تقدم في ص 81.

(5)

في م: "سعيد".

(6)

في م، ت 1، ت 3:"يحيى".

ص: 115

بمالٍ أبدًا، فلم يَزالوا به حتى جعَلوا له أن يَسْلُخوا له مَسْكَها، فيملئوه له دنانيرَ، فرضِى به فأعْطاهم إياها

(1)

.

حَدَّثَنِي المُثَّني، قال: ثنا آدمُ، قال: حَدَّثَنَا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: لَمْ يجِدُوها إلَّا عندَ عَجوزٍ، وإنها سألتْهم أضعافَ ثمنِها، فقال لهم موسى: أعْطُوها رِضاها وحُكْمَها. ففعَلوا، واشترَوْها فذبَحوها

(2)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، قال: قال أيوبُ، عن ابنِ سِيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: لَمْ يَجِدوا هذه البقرةَ إلَّا عندَ رجلٍ واحدٍ، فباعَها بوزنِها ذهبًا -أو مِلْءِ مَسْكِها ذهبًا- فذبَحوها

(3)

.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن هشامِ بنِ حسانَ، عن محمدِ بنِ سِيرينَ، عن عَبيدةَ السَّلْمانِيِّ، قال: وجَدوا البقرةَ عندَ رجلٍ، فقال: إنى لا أَبِيعُها إلَّا بمِلءِ جلدِها ذهبًا. فاشتَرَوْها بمِلءِ جلدِها ذهبًا.

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: جعَلوا يَزِيدون صاحبَها حتى ملئوا له مَسْكَها -وهو جلدُها- ذهبًا.

وأما صِغَرُ خَطَرِها وقلةُ قيمتِها، فإن الحسنَ بنَ يحيى حَدَّثَنَا، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ عُيَيْنَةَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سُوقةَ، عن عكرمةَ، قال: ما كان ثمنُها إلَّا ثلاثةَ دنانيرَ

(4)

.

(1)

انظر ما تقدم في ص 87.

(2)

تقدم مطولًا في ص 78.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 49، وتقدم مطولًا في ص 77.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 50، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 144 (744) عن الحسن بن يحيى به. وقال ابن كثير: إسناد جيد.

ص: 116

وأما ما قلْنا مِن خوفِهم الفضيحةَ على أنفسِهم، فإن وهبَ بنَ مُنَبِّهٍ كان يقولُ: إن القومَ إذ أُمِروا بذبحِ البقرةِ إنما قالوا لموسى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . لعِلْمِهم بأنهم سيَفتضِحون إذا ذُبِحَت، فحادُوا عن ذبحِها.

حُدِّثْتُ بذلك عن إسماعيلَ بنِ عبدِ الكريمِ، عن عبدِ الصمدِ بنِ مَعْقِلٍ، عن وهبِ بنِ مُنَبِّهٍ.

وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: إن القومَ بعدَ أن أحْيَا اللهُ الميتَ فأخبَرهم بقاتلِه، أنْكَرَت قَتَلَتُه قَتْلَه، فقالوا: واللهِ ما قتَلْناه. بعدَ أن رَأَوُا الآيةَ والحقَّ.

حَدَّثَنِي بذلك محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} : واذْكُروا يا بنى إسرائيلَ إذ قتَلْتُم نفسًا. والنفسُ التى قتَلوها هى النفسُ التى ذكَرْنا قصتَها في تأويلِ قولِه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} .

وقولُه: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} . يعنى: فاختَلَفْتُم وتنازَعْتُم. وإنما هو: فتَدارَأتُم فيها. على مثالِ "تَفاعَلْتُم"، مِن الدَّرْءِ، والدَّرْءُ العِوَجُ. ومنه قولُ أبى

(2)

النَّجْمِ العِجْليِّ:

خَشْيةَ طغّامٍ إذا هَمَّ جَسَرْ

يَأْكُلُ ذا الدَّرْءِ ويُقْصِى مَن حَقرْ

يعنى ذا العِوَجِ والعُسْرِ، ومنه قولُ رُؤْبةَ بنِ العَجّاجِ

(3)

:

(1)

سيأتى في ص 129.

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

ديوان رؤبة ص 166.

ص: 117

أدْرَكْتُها قُدّامَ كلِّ مِدْرَهِ

(1)

بالدَّفْعِ عنى دَرْءَ كلِّ عُنْجُهِ

(2)

ومنه الخبرُ الذى حَدَّثَنَا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مصعبُ بنُ المقدامِ، عن إسرائيلَ، عن إبراهيمَ بنِ المهاجرِ، عن مجاهدٍ، عن السائبِ، قال: جاءنِي عثمانُ وزهيرٌ ابنا أميةَ

(3)

، فاسْتَأْذَنا لى على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أنا أعْلَمُ به منكما، ألم تَكُنْ شَرِيكى في الجاهليةِ؟ " قلتُ: نعم، بأبى أنت وأمي، فنِعْم الشَّريكُ، كنتَ لا تُمارِى ولا تُدارِى

(4)

.

يعنى بقولِه: لا تُدارِى. لا تخالِفُ رفيقَك وشريكَك ولا تُنازِعُه ولا تُشارُّه

(5)

.

وإنما أصلُ {فَادَّارَأْتُمْ} : فتدَارَأْتُمْ. ولكنَّ التاءَ قريبةٌ

(6)

مِن مَخرجِ الدالِ -

(1)

درهت عن القوم: دفعت عنهم، ومدره القوم، بالكسر: الدافع عنهم. اللسان (د ر هـ).

(2)

العنجه والعنجهي، بالضم: المتكبر ذو العظمة. التاج (ع ج هـ).

(3)

كذا في النسخ. والصواب: عثمان بن عفان، وزهير بن أبى أمية. انظر الآحاد والمثاني، والمسند، والإصابة 2/ 572.

(4)

أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (692) عن أبي كريب به، وسقط منه ذكر مجاهد.

وأخرجه أحمد 24/ 258، 259 (15500) عن أسود بن عامر، عن إسرائيل به.

واختلف في إسناده، فقيل: عن مجاهد، عن السائب. وقيل: عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب. وقيل: عن مجاهد، عن قيس بن السائب. وقيل غير ذلك.

وقال ابن عبد البر: مضطرب جدًّا، منهم من يجعل الشركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائب بن أبى السائب، ومنهم من يجعلها لأبي السائب أبيه، ومنهم من يجعلها لقيس بن السائب، ومن يجعلها لعبد الله بن السائب، وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة. وينظر العلل لابن أبي حاتم (350)، والاستيعاب 2/ 572 - 574، وأسد الغابة 2/ 315، 316، 4/ 423، والتحفة 3/ 256، ونصب الراية 3/ 474، والإصابة 3/ 22، 23، 5/ 471 - 473، وتهذيب التهذيب 3/ 449.

(5)

لا يشارِي، من المشاراة، وهى الملاجّة، وقيل: لا يشاري، من الشر. اللسان (ش ر ى).

(6)

بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"المخرج".

ص: 118

وذلك أن مَخرجَ التاءِ مِن طرفِ اللسانِ وأصولِ الثَّنيَّتَيْنِ

(1)

، ومَخرجَ الدالِ مِن طرفِ اللسانِ وأطرافِ الثَّنيَّتَيْنِ - فأُدْغِمَتِ التاءُ في الدالِ، فجُعِلَت دالًا مُشدَّدةً، كما قال الشاعرُ

(2)

:

تُولِى الضَّجِيعَ إذا ما اسْتافَها

(3)

خَصِرًا

(4)

عَذْبَ المَذَاقِ إذا ما اتَّابَعَ القُبَلُ

يُرِيدُ: إذا ما تَتَابَعَ القُبَلُ. فأدْغَم إحدى التاءَيْن في الأخرى.

فلما أُدْغِمَتِ التاءُ في الدالِ، فجُعِلَت دالًا مثلَها سكَنَت، فجلَبوا

(5)

ألفًا ليَصِلوا إلى الكلامِ بها، وذلك إذا كان قبلَه شيءٌ؛ لأنَّ الإدْغامَ لا يَكونُ إلَّا وقبلَه شيءٌ، ومنه قولُ اللهِ جل ثناؤُه:{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف: 38]. إنما هو: تَدَارَكوا. ولكنَّ التاءَ منها أُدْغِمَت في الدالِ، فصارَت دالًا مُشَدَّدةً، وجُعِلَت فيها ألفٌ -إذا وُصِلَت بكلامٍ- قبلَها ليَسْلَمَ الإدغامُ. وإذا لَمْ يَكُنْ قبلَ ذلك ما يُواصِلُه، وابْتُدِئَ به، قيل: تَدَاركوا وتَثاقَلوا. فأظهَروا الإدغامَ. وقد قيل: يقالُ: ادَّارَكوا وادَّارَأوا.

وقد قيل: إن معنى قولِه: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} : فتدافَعْتُم فيها. مِن قولِ القائلِ: درَأْتُ هذا الأمرَ عنى. ومِن قولِ اللهِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]. بمعنى: يَدفَعُ عنها العذابَ.

وهذا قولٌ قريبُ المعنى مِن القولِ الأولِ؛ لأنَّ القومَ إنما تَدافَعوا قَتْلَ قَتيلٍ،

(1)

في م: "الشفتين".

(2)

البيت في معانى القرآن للفراء 1/ 438.

(3)

في م، ت 2:"اشتاقها"، وفى ت 1، ت 3:"استاقها"، والمثبت من معانى القرآن، واستافها: شمها. التاج (س و ف).

(4)

الخصر: البارد من كلِّ شيء، ويريد هنا ريقها. التاج (خ ص ر).

(5)

في ت 1: "يجعلها"، وفى ت 2، ت 3:"فجعلنا".

ص: 119

فانْتَفَى كلُّ فريقٍ منهم أن يكونَ قاتِلَه، كما قد بيَّنَّا قبلُ فيما مضَى مِن كتابِنا هذا

(1)

.

وبنحوِ الذى قلنا في معنى قولِه: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} . قال أهلُ التأويلِ.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال. حَدَّثَنِي عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} . قال: اختَلَفتُم فيها.

حَدَّثَنَا المثني، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(2)

.

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} . قال بعضُهم: أنتم قتَلتُموه. وقال الآخَرون: أنتم قتَلتُموه

(3)

.

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} . قال: اختَلفتُم، وهو التنازُعُ؛ تَنَازَعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا

(3)

.

وكان تدارُؤُهم في النفسِ التى قتَلُوها كما حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: صاحبُ البقرةِ رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ، قتَله رجلٌ، فألْقاه على بابِ ناسٍ آخَرِين، فجاء أوْلياءُ المقتولِ فادَّعَوْا دمَه عندَهم، [فانتفَوْا - أو انتَفَلوا]

(4)

- منه

(5)

. شكَّ أبو عاصمٍ.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن

(1)

ينظر ما تقدم في ص 75.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 144 (746) من طريق أبى حذيفة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى عبد بن حميد.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 160.

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3:"فانتقلوا أو انتقلوا".

(5)

انتفلت من الشيء وانتفيت منه، تبرأت منه. اللسان (ن ف ل، ن ف ى).

ص: 120

مجاهدٍ بمثلِه سواءً، إلا أنه قال: فادَّعَوْا دمَه عندَهم فانتَفَوْا. ولم يَشُكَّ فيه

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قَتيلٌ كان في بنى إسرائيلَ، فقذَف كلُّ سِبْطٍ منهم، حتى تَفاقَم بينَهم الشرُّ، حتى تَرافَعوا في ذلك إلى نبىِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأوحَى اللهُ إلى موسى أن اذْبَحْ بقرةً، فاضْرِبْه ببعضِها، فذُكر لنا أن وليَّه الذى كان يَطلُبُ بدمِه هو الذى قتَله مِن أجلِ ميراثٍ كان بينَهم

(2)

.

حدَّثنى ابنُ سعدٍ، [قال: حدثنى أبى]

(3)

، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ

(4)

في شأنِ البقرةِ: وذلك أن شيخًا مِن بنى إسرائيلَ على عهدِ موسى كان مُكْثِرًا مِن المالِ، وكان بنو أخيه فُقراءَ لا مالَ لهم، وكان الشيخُ لا ولدَ له، وكان

(5)

بنو أخيه ورَثَتَه، فقالوا: ليت عمَّنا قد مات فورِثْنا مالَه. وإنه لما تَطاوَل عليهم ألا يموتَ عمُّهم أتاهم الشيطانُ، فقال: هل لكم إلى أن تَقتُلوا عمَّكم فتَرِثوا مالَه، وتُغرِموا أهلَ المدينةِ التى لسْتُم بها دِيَتَه؟ -وذلك أنهما كانتا مدينتَيْن كانوا في إحداهما، فكان القتيلُ إذا قُتِل وطُرِح

(6)

بينَ المدينتَيْن، قِيس ما بينَ القَتيلِ وما بينَ المدينتَيْن، فأيُّهما كانت أقربَ إليه غَرِمَتِ الديةَ- وأنهم لما سوَّل لهم الشيطانُ ذلك، وتطاوَلَ عليهم ألا يموتَ عمُّهم، عَمَدوا إليه فقتَلوه، ثم عمَدوا فطرَحوه على بابِ المدينةِ التى ليسوا فيها، فلمّا أصبَح أهلُ المدينةِ جاء بنو أخى الشيخِ، فقالوا: عمُّنا قُتِل على بابِ مدينتِكم

(7)

، فواللهِ لَتَغْرَمُنَّ لنا دِيَةَ عمِّنا. فقال أهلُ المدينةِ: نُقسِمُ باللهِ ما

(1)

تفسير مجاهد ص 206، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 144 (745). وينظر ما تقدم في ص 81.

(2)

ينظر ما تقدم في ص 80، 81.

(3)

سقط من: م.

(4)

بعده في ت 1، ت 2:"قوله".

(5)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

في ت 1، ت 2، ت 3:"يطرح".

(7)

في ت 2: "هذه المدينة".

ص: 121

قتَلْنا، ولا علِمْنا قاتلًا، ولا فتَحْنا بابَ مدينتِنا منذُ أغلِقَ حتى أصبَحْنا. وإنهم عمَدوا إلى موسى، فلمّا أَتَوْا قال بنو أخى الشيخ: عمُّنا وجَدناه مقتولًا على بابِ مدينتِهم. وقال أهلُ المدينةِ: نُقسِمُ باللهِ ما قتَلْناه، [ولا علِمنا قاتلًا]

(1)

، ولا فتَحْنا بابَ المدينةِ مِن حينَ أغلَقْناه حتى أصبَحْنا. وأن جبريلَ جاء بأمرِ ربِّنا السميعِ العليمِ إلى موسى، فقال: قل لهم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فتَضْرِبوه ببعضِها

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا حسينٌ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، وحجاجٌ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ ومحمدِ بنِ قيسٍ -دخَل حديثُ بعضِهم في حديثِ بعضٍ- قالوا: إن سِبْطًا مِن بنى إسرائيل لمَّا رَأَوْا كثرةَ شُرورِ الناسِ بَنَوْا مدينةً فاعتزَلوا شُرُورَ الناسِ، فكانوا إذا أمسَوْا لم يترُكوا أحدًا منهم خارجًا إلّا أدخَلوه، وإذا أصبَحوا قام رئيسُهم فنظَر وتشرَّف

(3)

، فإذا لم يَرَ شيئًا فتَح المدينةَ فكانوا مع الناسِ حتى يُمْسوا، وكان رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ له مالٌ كثيرٌ، ولم يكن له وارثٌ غيرُ ابنِ

(4)

أخيه، فطال عليه حياتُه، فقتَله ليَرِثَه، ثم حمَله فوضَعه على بابِ المدينةِ، ثم كَمَن في مكانٍ هو وأصحابُه، قال: فتشرَّف رئيسُ المدينةِ على بابِ المدينةِ فنظَر فلم يَرَ شيئًا، ففتَح البابَ، فلمَّا رأى القتيلَ رَدَّ البابَ فناداه [ابنُ أخى]

(5)

المقتولِ وأصحابُه: هيهاتَ! قتلتُموه ثم تَرُدُّون البابَ. وكان موسى لمَّا رأى القَتْلَ كثيرًا في أصحابِه بنى إسرائيلَ، كان إذا رأى القتيلَ بين ظَهْرَىِ القومِ أخذَهم.

(1)

سقط من: م، ت 1.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 155، 156 عن المصنف. وأخرجه ابن أبى الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت (54) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه.

(3)

تشرف الشئ واستشرفه: وضع يده على حاجبه كالذى يستظل من الشمس حتى يبصره ويستبينه. اللسان (ش ر ف).

(4)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"أخو".

ص: 122

فكاد يكونُ بينَ أخى المقتولِ وبين أهلِ المدينةِ قتالٌ، حتى لبِس الفريقان السلاحَ، ثم كفَّ بعضُهم عن بعضٍ، فأتَوْا موسى فذكَروا له شأنَهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إن هؤلاء قتَلوا قتيلًا ثم ردُّوا البابَ. وقال أهلُ المدينةِ: يا رسولَ اللهِ، قد عرَفْتَ اعتزالَنا الشرورَ، وبنَيْنا مدينةً -كما رأيتَ- نعتزِلُ شرورَ الناسِ، ما قتَلْنا ولا عَلِمْنا قاتلًا، فأوحَى اللهُ تعالى ذِكْرُه إليه أن يذبَحوا بقرةً، فقال لهم موسى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}

(1)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن هشامِ بنِ حسانَ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: كان في بنى إسرائيل رجلٌ عقيمٌ وله مالٌ كثيرٌ، فقتَله ابنُ أخٍ له، فجرَّه فألقاه على بابِ ناسٍ آخَرِين

(2)

، ثم أصبَحوا فادَّعاه عليهم حتى تسلَّح هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يَقتَتِلوا، فقال ذَوُو النُّهَى منهم: أتقتَتلون وفيكم نبىُّ اللهِ؟ فأمسَكوا حتى أَتَوْا موسى، فقصُّوا عليه القصةَ، فأمرَهم أن يَذبَحوا بقرةً فَيَضْرِبوه ببعضِها، فقالوا:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} . قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}

(3)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: قتيلٌ مِن بنى إسرائيلَ طُرِح في سِبْطٍ مِن الأسباطِ فأتَى أهلُ ذلك السِّبْطِ إلى ذلك السبطِ، فقالوا: أنتم واللهِ قتلتُم صاحبَنا. فقالوا: لا واللهِ. فأتَوْا إلى موسى فقالوا: هذا قَتيلُنا بين أظهُرِهم، وهم واللهِ قتَلوه. فقالوا: لا واللهِ يا نبيَّ اللهِ، طُرِح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (1).

قال أبو جعفرٍ: فكان اختلافُهم وتنازعُهم وخصامُهم بينَهم في أمرِ القتيلِ

(1)

ينظر ما تقدم في ص 81، 82.

(2)

بعده فى ت 1، ت 2، ت 3:"أو فى آخرين".

(3)

تقدم بطوله في ص 77، 78.

ص: 123

الذى ذكرْنا أمْرَه على ما رَوَيْنا عن علمائِنا مِن أهلِ التأويلِ، هو الدَّرْءُ الذى قال اللهُ جلَّ ثناؤه لذُرِّيَّتِهم وبقايا أولادِهم:{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)} .

ويعنى بقولِه: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} : واللهُ مُعْلِنٌ ما كنتم تُسِرُّونه مِن قَتْلِ القتيلِ الذى قتَلتم ثم ادَّارَأْتُم فيه.

ومعنى "الإخراجِ" في هذا الموضعِ: الإظهارُ والإعلانُ لمن خفِى ذلك عنه، وإطْلاعُهم عليه، كما قال اللهُ تعالى ذكره:{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 25]. يعنى بذلك: يُظْهِرُه ويُطْلِعُه مِن مَخْبَئِه بعدَ خَفائِه.

والذى كانوا يَكْتُمونه فأخرَجه، هو قَتْلُ القاتلِ القتيلَ، كما كتَم ذلك القاتلُ ومَن علِمه ممَّن شايَعه على ذلك حتى أظهرَه اللهُ وأخرَجه، فأعَلن أمْرَه لمَن لا يَعلمُ أمْرَه.

وعنَى جلَّ ذكرُه بقوله: {تَكْتُمُونَ} : تُسِرُّون وتُغَيِّبون.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال: تُغَيِّبون

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} : ما كنتم تُغَيِّبون.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} .

يعنى جلَّ ذكرُه بقولهِ: {فَقُلْنَا} : لقومِ موسى الذين ادَّارَءوا في القتيلِ -

(1)

تفسير مجاهد ص 206، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 144 (748). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 78 إلى عبد بن حميد.

ص: 124

الذى قد تقدَّم وَصْفُنا أمْرَه-: اضرِبوا القتيلَ. والهاءُ التى في قوله: {اضْرِبُوهُ} مِن ذِكْرِ القتيلِ، {بِبَعْضِهَا} أى: ببعضِ البقرةِ التى أمرَهم اللهُ بذبْحِها فذبَحوها.

ثم اختَلف العلماءُ في البعض الذى ضُرِب به القتيلُ مِن البقرةِ، وأىِّ عُضْوٍ كان ذلك منها؛ فقال بعضُهم: ضُرِب بفَخِذِ البقرةِ القتيلُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، في مجاهدٍ، قال: ضُرِب بفخِذِ البقرةِ فقام حيًّا، فقال: قتلنى فلانٌ. ثم عاد في مِيتَتِه

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: ضُرِب بفَخِذِ البقرةِ. ثم ذكَر مثلَه.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن النَّضْرِ بنِ عَرَبىٍّ، عن عكرمةَ:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} . قال: [بفخِذِها، فلمَّا ضُرِب بها]

(2)

عاش وقال: قتلنى فلانٌ. ثم عاد إلى حالِه

(3)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن خالدِ بنِ يزيدَ، عن مجاهدٍ، قال: ضُرب بفخِذِها الرجلُ فقام حيًّا، فقال: قتَلنى فلانٌ. ثم عاد في مِيتَتِه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، قال:

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 79 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

في ت 2: "ضرب بفخذها".

(3)

أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 79 - وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 145 (752) من طريق النضر ابن عربى به بنحوه.

ص: 125

قال أيوبُ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ: ضرَبوا المقتولَ ببعضِ لحمِها. وقال معمرٌ: قال قتادةُ: ضرَبوه بلحمِ الفخِذِ فعاش، فقال: قتَلنى فلانٌ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكر لنا أنهم ضرَبوه بفخِذِها فأحياه اللهُ، فأنبأ بقاتلِه الذى قتَله وتكلَّم، ثم مات

(2)

.

وقال آخَرون: الذى ضُرب به منها هو البَضْعةُ

(3)

التى بين الكَتِفَيْنِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} : فضرَبوه بالبَضْعةِ التى بين الكتفينِ فعاش، فسألوه: مَن قتَلك؟ فقال لهم: ابنُ أخى

(4)

.

وقال آخَرون: الذى أُمِرُوا أن يَضرِبوه به منها عظمٌ مِن عظامِها.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: أمرَهم موسى أن يأخذوا عظمًا منها فيَضْرِبوا به القتيلَ، ففعَلوا، فرجَع إليه رُوحُه، فسمَّى لهم قاتلَه ثم عاد ميتًا كما كان، فأُخذ قاتلُه -وهو الذى أتَى موسى فشكا إليه- فقتَله اللهُ على أسْوأِ عَمَلِه

(5)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 49.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 145 عقب الأثر (752) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 79 إلى عبد بن حميد.

(3)

البضعة: القطعة من اللحم. اللسان (ب ض ع). والمراد به غضروف الكتف كما سيأتى في كلام المصنف.

(4)

تقدم مطولًا في ص 80.

(5)

تقدم مطولًا في ص 78.

ص: 126

وقال آخَرون بما حدَّثنى به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: ضرَبوا الميتَ ببعضِ آرابِها

(1)

، فإذا هو قاعدٌ، قالوا: مَن قتَلك؟ قال: ابنُ

(2)

أخى. قال: وكان قتَله وطرَحه

(3)

على ذلك السِّبْطِ، أراد أن يَأخُذَ دِيَتَه

(4)

.

والصوابُ مِن القولِ في تأويلِ قولِه عندنا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} . أن يقالَ: أمرَهم اللهُ جلَّ ثناؤه أن يَضرِبوا القتيلَ ببعضِ البقرةِ لِيَحْيا المضروبُ. ولا دَلالةَ في الآيةِ، ولا خبرَ تقومُ به حُجَّةٌ، على أيِّ أبعاضِها التى أُمر القومُ أن يَضرِبوا القتيلَ به. وجائزٌ أن يكونَ الذى أُمروا أن يَضرِبوه به هو الفَخِذَ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك الذَّنَبَ وغُضْروفَ الكَتِفِ وغيرَ ذلك مِن أبعاضِها. ولا يَضُرُّ الجهلُ بأىِّ ذلك ضرَبوا القتيلَ، ولا ينفَعُ العلمُ به، مع الإقرارِ بأن القومَ قد ضرَبوا القتيلَ ببعضِ البقرةِ بعدَ ذَبْحِها، فأحياه اللهُ.

فإن قال قائلٌ: وما كان معنى الأمرِ بضرْبِ القتيلِ ببعضِها؟

قيل: لِيَحْيا فَيُنْبِئَ نبيَّ اللهِ موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادَّارءوا فيه مَن قاتِلُه.

فإن قال قائلٌ: وأين الخبرُ عن أن

(2)

اللهَ جلَّ ثناؤه أمرَهم بذلك لذلك؟ قيل: تُرك ذلك اكتفاءً بدلالةِ ما ذُكر مِن الكلامِ الدالِّ عليه، نحوَ الذى ذكَرْنا مِن نظائرِ ذلك فيما مضَى.

(1)

الإرب: العضو، والجمع آراب. اللسان (أ ر ب).

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"طرح".

(4)

ينظر ما تقدم في ص 81، 82.

ص: 127

ومعنى الكلامِ: فقُلْنا: اضْرِبوه ببعضِها لِيَحْيا. فضرَبوه فحَيى -كما قال جل ثناؤه: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]. والمعنى: فضُرب فانفَلَق- يدُلُّ على ذلك قولُه: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى} .

وقولُه: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى} . مُخاطبةٌ مِن اللهِ عبادَه المؤمنين، واحتجاجٌ منه على المشركين المكذِّبين بالبعثِ، [وأمرُهم بالاعتبارِ]

(1)

بما كان منه جل ثناؤه مِن إحياءِ قتيلِ بني إسرائيلَ بعد مَماتِه في الدنيا، فقال لهم تعالى ذكرُه: أيُّها المكذِّبون بالبعثِ بعد المماتِ، اعتَبِروا بإحيائى هذا القتيلَ بعد مَماتِه، فإنى كما أحييتُه في الدنيا فكذلك أُحْيِى الموتى بعد مماتِهم، فأبعثُهم يومَ البعثِ.

فإنما احتجَّ جل ذكرُه بذلك على مُشْرِكى العربِ وهم قومٌ أُمِّيُّون لا كتابَ لهم؛ لأن الذين كانوا يعلَمون علْمَ ذلك مِن بني إسرائيلَ كانوا بين أظهُرِهم وفيهم نزلتْ هذه الآياتُ، فأخبَرهم جل ذكرُه بذلك ليتعرَّفوا عِلْمَ مَن قِبَلَهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} .

يعنى جلَّ ذِكْرُه: ويُرِيكم اللهُ أيُّها الكافرون المُكذِّبون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به مِن عندِ اللهِ مِن آياتِه -وآياتُه: أعلامُه وحُجَجُه الدالَّةُ على نُبُوتِه- لِتَعْقِلوا وتَفْهَموا أنه مُحِقٌّ صادقٌ فتؤمنوا به وتتَّبِعوه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} .

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"وأمر منهم بالاختبار".

ص: 128

يعنى بذلك كُفَّارَ بني إسرائيلَ، وهم -فيما ذُكر- بنو أخى المقتولِ، فقال لهم: ثم قسَتْ قلوبُكم. أي: جَفَتْ وغلُظتْ وعَسَتْ، كما قال الراجزُ

(1)

:

وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسا لُدَّتى

(2)

يُقالُ: قسا وعسا وعتا، بمعنًى واحدٍ، وذلك إذا جفا وغلُظ وصلُب. يُقالُ منه: قسا قلبُه يَقسُو قَسْوًا وقَسوةً وقَساوةً وقَساءً.

ويعنى بقولِه: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : مِن بعدِ أن أحيا المقتولَ لهم الذى ادَّارءوا في قتْلِه، فأخبرَهم بقاتلِه، وما السببُ الذى مِن أجْلِه قتَله. كما قد وصَفْنا قبلُ على ما جاءت به

(3)

الآثارُ والأخبارُ، وفصَل اللهُ تعالى ذكرُه بخبرِه بين المُحِقِّ منهم والمُبْطِلِ. وكانت قساوةُ قلوبِهم التى وصَفهم اللهُ بها أنهم -فيما بلَغَنا- أنكَروا أن يَكُونوا هم قتَلوا القتيلَ الذى أحياه اللهُ، فأخبَر بني إسرائيلَ بأنهم كانوا قَتَلَتَه بعدَ إخبارِه إيّاهم بذلك، وبعدَ مِيتَتِه الثانيةِ.

كما حدثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمِّى، قال: حدثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: لمَّا ضُرِب المقتولُ ببعضِها -يعنى ببعضِ البقرةِ- جلَس حيًّا

(4)

، فقِيل له: مَن قتَلك؟ فقال: بنو أخى قتَلونى. ثم قُبِض، فقال بنو أخيه حينَ قُبِض: واللهِ ما قتَلْناه. فكذَّبوا بالحقِّ بعدَ إذ رأَوْه، فقال اللهُ:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : يعنى بني أخى الشيخِ، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}

(5)

.

(1)

مجاز القرآن 1/ 158.

(2)

في النسخ: "لدنى". والمثبت من مجاز القرآن، واللدة: التِّرب، وهو الذى يولد معك في وقت واحد. التاج (و ل د).

(3)

سقط من: م، ت 2.

(4)

بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"ما كان قط".

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 162 عن عطية العوفى به.

ص: 129

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} . يقولُ: مِن بعدِ ما أراهم اللهُ مِن إحياءِ الموتى، وبعدَ ما أراهم مِن أمْرِ القَتيلِ ما أراهم، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}

(1)

.

[حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قولِه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}: من بعدِ هذه الآيةِ، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}]

(2)

.

[حدَّثنى المثنَّى، قال: حدثنا آدمُ، قال: حدثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}]

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} .

يعنى بقولِه: {فَهِىَ} . قلوبَكم، يقولُ: ثم صلُبتْ قلوبُكم -بعدَ إذ رأيتُم الحقَّ فتبيَّنْتُموه وعَرَفْتُموه- عن الخُضوعِ له والإذعانِ لواجبِ حقِّ اللهِ عليكم، فقلوبُكم كالحجارةِ صلابةً ويُبْسًا، وغِلَظًا وشِدَّةً، أو أشدُّ صلابةً -يعنى قلوبَكم- عن الإذعانِ لواجبِ حقِّ اللهِ عليهم، والإقرارِ له باللازمِ مِن حقوقِه لهم من الحجارةِ.

فإن سأل سائلٌ فقال: وما وجهُ قولِه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} و"أوْ" عند أهلِ العربيةِ إنما تأتى في الكلامِ لمعنى الشكِّ، واللهُ تعالى جل ذكرُه غيرُ جائزٍ في خبرِه الشكُّ؟

قيل: إن ذلك على غيرِ الوجهِ الذى توهَّمْتَه مِن أنه شكٌّ مِن اللهِ جل ذكرُه فيما

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 146 (757) من طريق شيبان، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81 إلى عبد بن حميد.

(2)

سقط من: م، ت 2. والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 50، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 146 (758) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

سقط من: م.

ص: 130

أَخبَر عنه، ولكنه خبرٌ منه عن قلوبهم القاسيةِ أنها -عند عبادِه الذين هم أصحابُها الذين كذَّبوا بالحقِّ بعد ما رأوُا العظيمَ مِن آياتِ اللهِ- كالحجارةِ قسوةً أو أشدُّ مِن الحجارةِ عندهم وعند مَن عرَف شأنَهم، وقد قال في ذلك جماعةٌ من أهلِ العربيةِ أقوالًا؛ فقال بعضُهم: إنما أراد اللهُ جلَّ ثناؤه بقولِه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . وما أشبهَ ذلك من الأخبارِ التى تأتى بـ "أو" كقولِه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وكقولِ اللهِ جلَّ ذكرُه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. فهو عالمٌ أىُّ ذلك كان. قالوا: ونظيرُ ذلك قولُ القائلِ: أكلتُ بُسْرَةً أوْ رُطَبَةً. وهو عالمٌ أىَّ ذلك أكَل، ولكنَّه أبْهَم على المخاطَبِ، كما قال أبو الأسودِ الدِّيلىُّ

(1)

:

أُحِبُّ مُحَمّدَا حُبًّا شَدِيدًا

وعَبَّاسًا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا

فإنْ يَكُ حُبُّهُمْ رَشَدًا أُصِبْه

وَلَسْتُ بِمُخْطئٍ إنْ كانَ غَيّا

قالوا: ولا شكَّ أن أبا الأسودِ لم يكن شاكًّا في أن حُبَّ مَن سمَّى رَشَدٌ، ولكنه أَبْهَم على مَن خاطَبه به. وقد ذُكِرَ عن أبي الأسودِ أنه لما قال هذه الأبياتَ قيل له: شكَكتَ؟ فقال: كلَّا واللهِ. ثم انتزَع

(2)

بقولِ اللهِ عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . فقال: أوَ كان شاكًّا مَن أخبَر بهذا في الهادى من الضلالِ؟!

وقال بعضُهم: ذلك كقولِ القائلِ: ما أطعمتُك إلَّا حُلْوًا أوْ حامضًا. وقد أطعَمه النوعين جميعًا. فقالوا: فقائلُ ذلك لم يكنْ شاكًّا أنه قد أطعَم صاحبَه الحُلْوَ والحامضَ كليهما، ولكنه أراد الخبرَ عمَّا أطعَمه إيَّاه أنه لم يَخرُجْ عن هذين النوعين.

(1)

ديوانه (نفائس المخطوطات) ص 32، 33.

(2)

انتزع: تمثل. التاج. (ن ز ع).

ص: 131

قالوا: فكذلك قولُه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . إنما معناه: فقلوبُهم لا تَخرُجُ من أحدِ هذين المَثَليْنِ؛ إمّا أن تكونَ مَثلًا للحجارةِ في القسوةِ، وأما أن تكونَ أشدَّ منها قسوةً. ومعنى ذلك على هذا التأويلِ: فبعضُها كالحجارةِ قسوةً، وبعضُها أشدُّ قسوةً من الحجارةِ.

وقال بعضُهم: "أو" في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . بمعنى: وأشدُّ قسوةً. كما قال تبارك وتعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]. بمعنى: وكفورًا. وكما قال جريرُ بنُ عطيةَ

(1)

؛

نال الخلافةَ أوْ كانَتْ له قَدَرًا

كمَا أتَى رَبَّهُ موسى على قَدَرِ

يعنى: نال الخلافةَ وكانت له قَدَرًا. وكما قال النابغةُ

(2)

:

قالَتْ [ألا لَيْتَما]

(3)

هَذَا الحَمامُ لَنا

إلى حَمامَتِنا أوْ

(4)

نِصْفُهُ فَقَدِ

(5)

يريدُ: ونصفُه.

وقال آخَرون: "أو" في هذا الموضعِ بمعنى "بل". فكان تأويلُه عندَهم: فهى كالحجارةِ بل أشدُّ قسوةً. كما قال جل ثناؤه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . بمعنى: بل يزيدون

(6)

.

(1)

تقدم البيت في 1/ 355.

(2)

ديوانه ص 16.

(3)

في الديوان: "فياليتما".

(4)

في الديوان: "و".

(5)

فقد: حسب. اللسان (ق د د).

(6)

ينظر معانى القرآن للفراء 1/ 72.

ص: 132

وقال آخَرون: معنى ذلك: فهى كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً عندَكم.

قال أبو جعفرٍ: ولكلٍّ ممَّا قيل مِن هذه الأقوالِ التى حكَيْنا وجهٌ ومَخرَجٌ في كلامِ العربِ، غيرَ أن أعجبَ الأقوالِ إلىَّ

(1)

في ذلك ما قلْناه أوَّلا، ثم القولُ الذى ذكرْناه عمَّن وجَّه ذلك إلى أنه بمعنى: فهى أوْجُهٌ في القسوةِ من أن تكونَ كالحجارةِ أو أشدَّ. على تأويلِ أن منها كالحجارةِ، ومنها أشدَّ قسوةً؛ لأن "أو" وإن استُعمِلتْ في أماكنَ مِن أماكنِ "الواوِ" حتى يَلتبِسَ معناها ومعنى "الواوِ" -لتقارُبِ معنيَيْهما في بعضِ تلك الأماكنِ- فإن أصلَها أن تأتىَ بمعنى أحدِ الاثنينِ، فتوجيهُها إلى أصلِها -[مَن وجَد]

(2)

إلى ذلك سبيلًا- أعجبُ إلىَّ مِن إخراجِها عن أصلِها ومعناها المعروفِ لها.

قال: وأمّا الرفعُ في قولِه: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . فمِن وجهينِ؛ أحدُهما: أن يكونَ عطفًا على معنى الكافِ التى في قوله: {كَالْحِجَارَةِ} . لأن معناها الرفعُ؛ وذلك أن معناها معنى "مِثْل": فهى مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ قسوةً من الحجارةِ.

والوجهُ الآخَرُ: أن يكونَ مرفوعًا على معنى تكريرِ "هى" عليه، فيكونَ تأويلُ ذلك: فهى كالحجارةِ أو هى أشدُّ قسوةً مِن الحجارةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} .

يعنى بقولِه جلَّ ذكرُه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} : وإن

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"التى".

(2)

كذا في النسخ، ولعل الصواب: ما وجدنا، أو: متى وجدنا.

ص: 133

مِن الحجارةِ لحجارةً

(1)

يتَفجَّرُ منها الماءُ الذى تكونُ منه الأنهارُ. فاسْتُغْنى [بذكْرِ الأنهارِ عن ذكْرِ الماءِ]

(2)

، وإنما ذُكِّر فقيل:{مِنْهُ} للفظِ "ما".

والتفجُّرُ التفعُّلُ مِن: تفجَّر

(3)

الماءُ، وذلك إذا تنزَّل خارجًا مِن منبعِه، وكلُّ سائلٍ شخَص خارجًا من موضِعِه ومكانِه فقد انفجَر، ماءً كان ذلك أو دمًا أو صديدًا أو غيرَ ذلك، ومنه قولُ عُمرَ بنِ لَجَأٍ

(4)

:

وَلمَّا أنْ قُرِنْتُ

(5)

إلى جَرِيرٍ

أَبَى ذُو بَطْنِهِ [إلَّا انْفِجارَا]

(6)

يعنى: إلَّا خُروجًا وسَيَلانًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: وإن مِن الحجارةِ لَحِجارةً تَشَّقَّقُ. وتَشَقُّقُها تَصَدُّعُها، وإنما هى: لَما يَتَشَقَّقُ، ولكنَّ التاءَ أُدْغِمَتْ في الشِّين فصارتْ شِينًا مُشَدَّدةً.

وقولُه: {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} . [يقولُ: فيخرُجُ منه الماءُ]

(7)

فيكونُ عينًا نابعةً [وأنهارًا]

(8)

جاريةً.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} .

(1)

في م: "حجارة".

(2)

في م، ت 1، ت 3:"بذكر الماء عن ذكر الأنهار".

(3)

في النسخ: "فجر". والمثبت هو الصواب.

(4)

البيت في طبقات فحول الشعراء 1/ 432، والأغانى 8/ 72.

(5)

في النسخ: "قربت". والمثبت من مصدرى التخريج.

(6)

في مصدرى التخريج: "إلا انحدارا".

(7)

سقط من: م، ت 3.

(8)

في ت 1، ت 2، ت 3:"لا أنهارًا".

ص: 134

قال أبو جعفرٍ: يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: وإن مِن الحجارةِ لَمَا

(1)

يَهْبِطُ -أى: يَتَرَدَّى- مِن رأسِ الجبلِ إلى الأرضِ والسَّفْحِ مِن خوفِ اللهِ وخشيتِه. وقد دلَّلْنا على معنى الهبوطِ فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(2)

.

وأُدْخِلَتْ هذه اللَّاماتُ اللواتى في "ما" توكيدًا للخَبرِ.

وإنما وصَف اللهُ تعالى ذكرُه الحجارةَ بما وصفَها به -مِن أن منها

(3)

المتفجِّرَ منه

(4)

الأنهارُ، وأن منها المتشقِّقَ بالماءِ، وأن منها الهابطَ مِن خشيةِ اللهِ، بعدَ الذى جعَل منها لقلوبِ الذين أَخبَر عن قسوةِ قلوبهم مِن بنى إسرائيل مَثَلًا- معذرةً منه جلَّ ثناؤه لها دونَ الذين أخبَر عن قسوةِ قلوبهم من بنى إسرائيل؛ إذ كانوا بالصفةِ التى وصفَهم اللهُ بها من التكذيبِ برُسُلِه والجُحودِ لآياتِه بعد الذى أراهم من الآياتِ والعِبَرِ، وعايَنوا مِن عجائبِ الأدلةِ والحُجَجِ، مع ما أعطاهم تعالى ذكرُه مِن صحةِ العقولِ، ومَنَّ به عليهم من سلامةِ النفوسِ التى لم يُعْطِها الحَجَرَ والمَدَرَ، ثم هو مع ذلك منه ما يَتفجَّرُ بالأنهارِ، ومنه ما يتَشَقَّقُ بالماءِ، ومنه ما يَهبِطُ مِن خشيةِ اللهِ، فأخبَر تعالى ذِكْرُه أن مِن الحجارةِ ما هو أَلْيَنُ من قلوبِهم لِمَا

(5)

يُدْعَوْن إليه مِن الحقِّ. كما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ

(6)

.

وبنحوِ الذى قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3: الحجارة".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 571.

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3:"منها".

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"عما".

(6)

سيرة ابن هشام 1/ 536، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81 إلى المصنف وابن إسحاق وابن أبى حاتم. وهو عند ابن أبى حاتم 1/ 147 (765) من طريق سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبى محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 162.

ص: 135

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجِيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} . قال: كلُّ حجَرٍ يتفجَّرُ منه الماءُ، أو يَتَشَقَّقُ عن ماءٍ، أو يَتَرَدَّى مِن رأسِ جبَلٍ، فهو مِن خشيةِ اللهِ عز وجل، نزَل بذلك القرآنُ

(1)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنى بشرٌ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . ثم عذَر الحجارةَ ولم يَعْذِرْ شَقىَّ ابنِ آدمَ، فقال:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ}

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ مثلَه.

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: ثم عذَر اللهُ الحجارةَ فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}

(3)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 207، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 147 (764)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81 إلى عبد بن حميد.

(2)

تقدم أوله في ص 130.

(3)

تقدم أوله منه في ص 129.

ص: 136

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ أنه قال فيها: كلُّ حجرٍ انفجَر منه ماءٌ، أو تشقَّقَ عن ماءٍ، أو تردَّى من جبلٍ، فمن خشيةِ الله، نزَل به القرآنُ.

ثم اختَلف أهلُ النحوِ في معنى هُبُوطِ ما هبَط مِن الحجارةِ مِن خَشيةِ اللهِ.

فقال بعضُهم: إن هبوطَ ما هبَط منها من خشيةِ اللهِ: تَفَيُّؤُ ظلالِه

(1)

.

وقال آخَرون: ذلك الجبلُ الذى صار دكًّا إذ تجلَّى له ربُّه

(2)

.

وقال بعضُهم: ذلك كان منه، ويكونُ بأن اللهَ جلَّ ذكرُه أعطَى بعضَ الحجارةِ المعرِفةَ والفَهمَ، فعقَل طاعةَ اللهِ فأطاعه، كالذى رُوِى عن الجِذْعِ الذى كان يَسْتَنِدُ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطَب، فلمَّا تحوَّل عنه حَنَّ

(3)

. وكالذى رُوِى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ حَجَرًا كانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ في الجاهلِيَّةِ، إنِّى لَأَعْرِفُهُ الآنَ"

(4)

.

وقال آخَرون: بل قولُه: {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} . كقولِه: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]. ولا إرادةَ له. قالوا: وإنما أُرِيدَ بذلك أنه مِن عِظَمِ أمْرِ اللهِ يُرَى كأنه هابطٌ خاشِعٌ مِن ذُلِّ خشيةِ اللهِ، كما قال زيدُ الخَيْلِ

(5)

:

بِجَمْعٍ تضِلُّ البُلْقُ في حَجَرَاتِهِ

ترَىَ الأُكْمَ فِيها سُجَّدًا للحَوَافِرِ

(1)

يشير إلى الآية 48 من سورة النحل 48.

(2)

يعنى الآية 143 من سورة الأعراف.

(3)

أخرجه أحمد 22/ 117، 187 (14206، 14282)، والبخارى (3584) من حديث جابر. وينظر البداية والنهاية 8/ 679.

(4)

أخرجه الطيالسى (818)، وأحمد 5/ 89 (الميمنية)، ومسلم (2277) من حديث جابر بن سمرة. وينظر البداية والنهاية 8/ 694.

(5)

تقدم البيت في 1/ 715.

ص: 137

وكما قال سُوَيْدُ بنُ أبى كاهِلٍ يَصِفُ عَدُوًّا له يُرِيدُ أنه ذَلِيلٌ

(1)

:

ساجِدَ المَنْخَرِ إذْ يَرْفَعُهُ

خاشِعَ الطَّرْفِ أَصَمَّ

(2)

المُسْتَمَعْ

وكما قال جريرُ بنُ عطيةَ

(3)

:

لَمَّا أتى خَبَرُ الرَّسُولِ تَضَعْضَعَتْ

سُورُ المَدِينَةِ والجبالُ الخُشَّعُ

وقال آخَرون: معنى قولِه: {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} . أى: يُوجبُ الخشيةَ لغيرِه بدلالتِه على صانعِه، كما قيل: ناقةٌ تاجرةٌ: إذا كانت مِن نَجابتِها وفراهتِها تدعو الناسَ إلى الرغبةِ فيها، كما قال جريرُ بنُ عطيةَ

(4)

:

وأَعوَرَ مِن نَبْهانَ أمّا نَهارُه

فأعْمَى وأمّا لَيْلُه فبَصِيرُ

فجعَل الصفةَ لليلِ والنهارِ، وهو يُرِيدُ بذلك صاحبَه النَّبْهانىَّ الذى يَهْجُوه مِن أجْلِ أنه فيهما كان ما وصَفه به.

وهذه الأقوالُ وإن كانت غيرَ بعيداتِ المعنى ممَّا تَحْتَمِلُه الآيةُ من التأويلِ، فإن تأويلَ أهلِ التأويلِ مِن علماءِ سلَفِ الأمةِ بخلافِها، فلذلك لم نَسْتَجِزْ صرْفَ تأويلِ الآيةِ إلى معنًى منها.

وقد دلَّلْنا فيما مضَى على معنى الخشيةِ، وأَنها الرهبةُ والمخافةُ، فكرِهْنا إعادةَ ذلك في هذا الموضعِ

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} .

(1)

البيت في المفضليات ص 201، والأضداد لابن الأنبارى ص 295.

(2)

في ت 2، ت 3:"أذل".

(3)

تقدم البيت في 1/ 623، والرواية هناك:"خبر الزبير تواضعت". وكذا في الديوان.

(4)

تقدم البيت في 1/ 332.

(5)

تقدم البيت في 1/ 598.

ص: 138

يعنى بقولِه: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} : وما اللهُ بغافلٍ -يا معشرَ المكذِّبينَ بآياتِه، والجاحدينَ نبوّةَ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والمتقوِّلِين عليه الأباطيلَ من بنى إسرائيلَ وأحبارِ اليهودِ- عما تعمَلون من أعمالِكم الخبيثةِ، وأفعالِكم الرديئةِ، ولكنه يُحصِيها عليكم، فيجازِيكم بها في الآخرةِ أو يعاقِبُكم بها في الدنيا.

وأصلُ الغَفْلةِ عن الشئِ تَرْكُه على وجهِ السهوِ عنه والنسيانِ له. فأخبَرهم تعالى ذكرُه أنه غيرُ غافلٍ عن أفعالِهم الخبيثةِ ولا ساهٍ عنها، بل هو لها مُحْصٍ، ولها حافظٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {أَفَتَطْمَعُونَ} . أصحابَ

(1)

محمدٍ. [يقولُ: {أَفَتَطْمَعُونَ}]

(2)

أى: أفتَرْجُونَ يا معشرَ المؤمنين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، والمُصَدِّقِين ما جاءكم به مِن عندِ اللهِ، أن يُؤْمِنَ لكم يهودُ بنى إسرائيلَ.

ويعنى بقولِه: {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} : أن يُصَدِّقوكم بما جاءكم به نبيُّكم صلى الله عليه وسلم محمدٌ مِن عندِ ربِّكم.

كما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} : يعنى أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن يُؤْمِنوا لكم، يقولُ: أفتَطْمَعونَ أن يُؤْمِنَ لكم اليهودُ

(3)

؟

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} الآية. قال: هم اليهودُ

(4)

.

(1)

في م: "يا أصحاب".

(2)

سقط من: م.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 148 (769) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81 إلى عبد بن حميد.

ص: 139

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} .

قال أبو جعفرٍ: أما "الفريقُ" فَجَمْعٌ، كالطائفةِ، لا واحدَ له مِن لفظِه، وهو "فَعيلٌ" مِن "التَّفَرُّقِ"، سُمِّىَ به الجِماعُ كما سُمِّيَت الجماعةُ بـ "الحِزْبِ" مِن "التَّحزُّبِ"، وما أشْبَهَ ذلك، ومنه قولُ أعْشَى بنى ثَعْلبةَ

(1)

:

أجَدُّوا

(2)

فلمَّا خِفْتُ أنْ يَتَفَرَّقُوا

فَرِيقَيْن مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوِّبُ

(3)

يعنى بقولِه: {مِنْهُمْ} : مِن بنى إسرائيلَ. وإنما جعَل اللهُ الذين كانوا على عهدِ موسى ومَن بعدَهم مِن بنى إسرائيلَ، مِن اليهودِ الذين قال اللهُ لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} . لأنهم كانوا آباءَهم وأسْلافَهم، فجعَلهم منهم إذ كانوا عَشائرَهم وفَرَطَهم وأسْلافَهم، كما يَذْكُرُ الرجلُ اليومَ الرجلَ، وقد مضَى على مِنهاجِ الذاكرِ وطريقتِه، وكان مِن قومِه وعَشيرتِه، فيقولُ: كان منا فلانٌ. يعنى أنه كان مِن أهلِ طريقتِه ومذهبِه، أو مِن قومِه وعَشيرتِه، فكذلك قولُه {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الذين عَنَى اللهُ بقولِه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنى به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى

(1)

ديوان الأعشى ص 201.

(2)

في م: "أخذوا". وأجد في السير: أسرع فيه. اللسان (ج د د).

(3)

التصويب: الانحدار وهو خلاف التصعيد. اللسان (ص و ب).

ص: 140

نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : فالذين يُحَرِّفونَه والذين يَكْتُمونَه هم العلماءُ منهم

(1)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} . قال: هى التوراةُ حرَّفوها

(2)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} . قال: التوراةُ التى أنْزَلها عليهم يُحَرِّفونها، يَجْعَلون الحلالَ فيها حرامًا، والحرامَ فيها حلالًا، والحقَّ فيها باطلًا، والباطلَ فيها حقًّا؛ إذا جاءَهم المُحِقُّ برِشْوةٍ أخْرَجوا له كتابَ اللهِ، وإذا جاءَهم المُبْطِلُ برِشْوةٍ أخرجوا له ذلك الكتابَ فهو فيه مُحِقٌّ، وإن جاء أحدٌ يَسْأَلُهم شيئًا ليس فيه حقٌّ ولا رِشوةٌ ولا شيءٌ أَمَروه بالحقِّ، فقال لهم:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

(3)

.

وقال آخرون في ذلك بما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: أخْبَرَنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ فى قولِه: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 149 (773) من طريق ابن أبى نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 149 (774) عن أبى زرعة، عن عمرو به.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 165 عن ابن وهب به.

ص: 141

كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: فكانوا يَسْمَعون مِن ذلك كما يَسْمَعُ أهلُ النُّبوةِ، ثم يُحَرِّفونه مِن بعدِ ما عقَلوه وهم يَعْلَمون

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ في قولِه:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ} الآية. قال: ليس قولُه: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ} : يَسْمَعون التوراةَ، كلُّهم قد سمِعها، ولكنَّهم الذين سألوا موسى رؤيةَ ربِّهم فأخَذَتْهم الصاعقةُ فيها

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: بلَغنى عن بعضِ أهلِ العلمِ أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حِيلَ بيننا وبينَ رؤيةِ اللهِ عز وجل، فأَسْمِعْنا كلامَه حين يُكَلِّمُك. فطلَب ذلك موسى إلى ربِّه، فقال: نعم، فَمُرْهم فليتَطَهَّروا، ولْيُطَهِّروا ثيابَهم، ويَصُوموا. ففعَلوا، ثم خرَج بهم حتى أتَى الطُّورَ، فلما غَشِيهم الغَمامُ أمرَهم موسى عليه السلام فوقَعوا سجودًا، وكلَّمه ربُّه، فسمِعوا كلامَه يَأْمُرُهم ويَنْهاهم، حتى عَقَلوا ما سمِعوا، ثم انْصَرف بهم إلى بنى إسرائيلَ، فلما جاءوهم حرَّف فريقٌ منهم ما أمَرهم به، وقالوا حين قال موسى لبنى إسرائيلَ: إن اللهَ قد أمرَكم بكذا وكذا. قال ذلك الفريقُ الذى ذكَرهم اللهُ: إنما قال كذا وكذا. خلافًا لِما قال اللهُ عز وجل لهم، فهم الذين عَنَى اللهُ لرسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وأَوْلى التأويلين اللذين ذكرتُ بالآيةِ وأَشْبَهُهما بما دلَّ عليه ظاهرُ التلاوةِ، ما قاله الربيعُ بنُ أنسٍ، والذى حكاه ابنُ إسحاقَ عن بعضِ أهلِ العلمِ، مِن أن اللهَ تعالى

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 148 (771) من طريق ابن أبى جعفر به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 148 (770) من طريق سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبى محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 148 (772) من طريق سلمة به، إلى قوله: ثم انصرف بهم إلى بنى إسرائيل. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 164 عن ابن إسحاق به، مطولا.

ص: 142

ذِكْرُه إنما عَنَى بذلك مَن سمِع كلامَه مِن بنى إسرائيلَ سماعَ موسى إياه منه، ثم حرَّف ذلك وبدَّل مِن بعدِ سماعِه وعلمِه به وفهمِه إياه. وذلك أن اللهَ جل ثناؤُه إنما أخْبَر أن التحريفَ كان مِن فريقٍ منهم كانوا يَسْمَعون كلامَ اللهِ عز وجل، اسْتِعْظامًا مِن اللهِ لِما كانوا يَأْتون مِن البهتانِ بعد توكيدِ الحجةِ عليهم والبرهانِ، وإيذانًا منه تعالى ذِكْرُه عبادَه المؤمنين، وقطَع أطماعَهم مِن إيمانِ بقايا نسلِهم بما أتاهم به محمدٌ مِن الحقِّ والنورِ والهُدَى، فقال لهم: كيف تَطْمَعون في تصديقِ هؤلاء اليهودِ إياكم، وإنما تُخْبِرونهم -بالذى تُخْبِرونهم مِن الأنْباءِ عن اللهِ عز وجل عن غيبٍ لم يُشاهِدوه ولم يُعاينِوه، وقد كان بعضُهم يَسْمَعُ مِن اللهِ كلامَه وأمْرَه ونهيَه، ثم يُبَدِّلُه ويُحَرِّفُه ويَجْحَدُه، فهؤلاء الذين بينَ أَظْهُرِكم مِن بقايا نسلِهم أحْرَى أن يَجْحَدوا ما أَتَيْتُموهم به مِن الحقِّ وهم لا يَسْمَعونه مِن اللهِ، وإنما يَسْمَعونه منكم -وأقربُ إلى أن يُحَرِّفوا ما في كُتُبِهم مِن صفةِ نبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونعتِه، ويُبَدِّلوه وهم به عالمون، فيَجْحَدوه ويُكَذِّبوا- مِن أوائلِهم الذين باشَروا كلامَ اللهِ مِن اللهِ جل ثناؤُه ثم حرَّفوه مِن بعدِ ما عقَلوه وعلِموه، مُتَعمِّدين التحريفَ.

ولو كان تأويلُ الآيةِ على ما قاله الذين زعَموا أنه عَنَى بقولِه: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ} : يَسْمَعون التوراةَ. لم يَكُنْ لِذِكْرِ قولِه: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ} . مَعْنًى مَفْهومٌ؛ لأن ذلك قد سمِعه المُحرِّفُ منهم وغيرُ المُحرِّفِ، فخصوصُ المحرِّفِ منهم بأنه كان يَسْمَعُ كلامَ اللهِ -إن كان التأويلُ على ما قاله الذين ذكَرنا قولَهم دونَ غيرِهم ممن كان يَسْمَعُ ذلك سماعَهم- لا مَعْنَى له.

فإن ظنَّ ظانٌّ إنما صَلَح أن يُقالَ ذلك لقولِه: {يُحَرِّفُونَهُ} . فقد أغْفَل وجهَ الصوابِ في ذلك، وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقِيلَ: أفتَطْمَعون أن يُؤْمِنوا لكم

ص: 143

وقد كان فريقٌ منهم يُحَرِّفون كلامَ اللهِ مِن بعدِ ما عقَلوه وهم يَعْلَمون. ولكنه جل ثناؤُه أخْبَر عن خاصٍّ من اليهودِ كانوا أُعْطوا، مِن مُباشَرَتِهم سَماعَ كلامِ اللهِ تعالى، ما لم يُعْطَه أحدٌ غيرُ الأنبياءِ والرُّسُلِ، ثم بدَّلوا وحرَّفوا ما سمِعوا مِن ذلك، فلذلك وصَفهم بما وصَفهم به للخصوصِ الذى كان خَصَّ به هؤلاء الفريقَ الذى ذكَرهم في كتابِه تعالى ذِكْرُه.

ويعنى بقولِه: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} : ثم يُبَدِّلون مَعْناه وتأويلَه ويُغَيرونه. وأصلُه مِن انحرافِ الشئِ عن جهتِه، وهو ميلُه عنها إلى غيرِها، فكذلك قولُه:{يُحَرِّفُونَهُ} . أى: يُمِيلونه عن وجهِه ومَعْناه الذى هو مَعْناه إلى غيرِه. فأخْبَر اللهُ جل ثناؤُه أنهم فعَلوا ما فعَلوا مِن ذلك على علمٍ منهم بتأويلِ ما حرَّفوا، وأنه بخلافِ ما حرَّفوه إليه، فقال:{يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} . يعنى: مِن بعدِ ما عقَلوا تأويلَه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . أى: يَعْلَمون أنهم في تحرِيفِهم ما حرَّفوا مِن ذلك مُبْطِلون كاذِبون. وذلك إخْبارٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه عن إقدامِهم على البُهتِ، ومُناصَبتِهم العداوةَ له ولرسولِه موسى صلى الله عليه وسلم، وأن بقاياهم -مِن مُناصَبتِهم العداوةَ للهِ ولرسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بغيًا وحسدًا- على مثلِ الذى كان عليه أوائلُهم مِن ذلك فى عصرِ موسى عليه الصلاة والسلام.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}

أما قولُه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} . فإنه خبرٌ مِن اللهِ جل ذِكْرُه عن الذين أيْأَس أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن إيمانهم -مِن يهودِ بنى إسرائيلَ الذين كان فريقٌ منهم يَسْمَعون كلامَ اللهِ ثم يُحرِّفونه مِن بعدِ ما عَقَلوه وهم يَعْلَمون- وهم الذين إذا لقُوا الذين آمنوا باللهِ ورسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنّا. يعنى

ص: 144

بذلك أنهم إذا لقُوا الذين صَدَّقوا باللهِ وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولِه

(1)

، وبما جاء به مِن عندِ اللهِ قالوا: آمنا. أى: صدَّقنا بمحمدٍ وبما صَدَّقتُم به، وأقْرَرنا بذلك. أَخْبر اللهُ عز وجل عنهم أنهم تَخَلقوا بأخلاق المنافقين وسلَكوا مِنهاجَهم.

كما حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عَمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن جدِّه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} : وذلك أن نفرًا مِن اليهودِ كانوا إذا لَقُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. وإذا خلا بعضُهم إلى بعضٍ قالوا: أتُحدِّثونهم بما فتَح اللهُ عليكم.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} : يعنى المنافقين مِن اليهودِ كانوا إذا لَقُوا أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا

(2)

.

وقد رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ في تأويلِ ذلك قولٌ آخرُ، وهو ما حدَّثنا به ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفَضْلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ، عن عِكْرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} . أى: بصاحبِكم

(3)

رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصةً

(4)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدَّىَّ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} الآية. قال: هؤلاء ناسٌ مِن اليهودِ آمنوا ثم نافقوا

(5)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 165 عن الضحاك به.

(3)

في ت 2، ت 3:"صاحبكم".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 165 عن ابن إسحاق به.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 149 (779) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

ص: 145

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} .

يعنى بقولِه: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} . أى: إذا خلا بعضُ هؤلاء اليهودِ الذين وصَف اللهُ صفتَهم - إلى بعضٍ منهم، فصاروا في خَلاءٍ مِن الناسِ غيرِهم، وذلك هو الموضعُ الذى ليس فيه غيرُهم، {قَالُوا} يعنى قال بعضُهم لبعضٍ:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} .

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} . يعنى: بما أمَركم اللهُ به. فيقولُ الآخَرون: إنما نَسْتَهْزِئُ بهم ونَضْحَكُ.

وقال آخَرون بما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} . أى: بصاحبِكم

(1)

رسولِ اللهِ، ولكنَّه إليكم خاصَّةً. وإذا خلا بعضُهم إلى بعضٍ قالوا: لا تُحَدِّثوا العربَ بهذا، فإنكم قد كنتُم تَسْتَفْتِحون به عليهم فكان منهم. فأنْزَل اللهُ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} . أى: تُقِرُّون بأنه نبىٌّ، وقد علِمْتُم أنه قد أُخِذ له الميثاقُ عليكم باتِّباعِه، وهو يُخْبِرُهم أنه النبىُّ

(2)

الذى كُنَّا نَنْتَظِرُ ونَجِدُه في كتابِنا، اجْحَدُوه ولا تُقِرُّوا لهم به. يقولُ اللهُ:

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"صاحبكم".

(2)

بعده فى النسخ: "صلى الله عليه وسلم". ولا موضع لها هنا.

ص: 146

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} . أى: بما أنْزَل اللهُ عليكم في كتابِكم، مِن نَعْتِ

(2)

محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} . أى: بما مَنَّ اللهُ عليكم في كتابِكم من نَعْتِ

(4)

محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنكم إذا فَعَلْتُم ذلك احْتَجُّوا به عليكم، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} لِيَحْتَجُّوا به عليكم

(6)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، قال: قال قتادةُ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} . يعنى: بما أَنْزَلَ اللهُ عليكم من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه

(7)

.

وقال آخَرون في ذلك بما حدثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ: {بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ

(1)

تقدم طرف منه في ص 145.

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"بعث".

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 150 (781) من طريق آدم به.

(4)

في ت 3: "بعث".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81 إلى عبد بن حميد.

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 50، بزيادة في أوله.

(7)

في ت 2، ت 3:"بعثه".

ص: 147

رَبِّكُمْ}. قال: قولُ يهودَ من قُرَيظةَ حين سَبَّهُم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوةُ القِردةِ والخنازيرِ، قالوا: مَن حَدَّثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليًّا فآذَوْا محمدًا، فقال: يا إخوةَ القردةِ والخنازيرِ

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه، إلَّا أنه قال: هذا حينَ أَرْسَلَ إليهم علىَّ بنَ أبى طالبٍ، رضي الله عنه، وآذَوُا النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اخْسَئُوا يا إخْوَةَ القِرَدَةِ والخنَازِيرِ".

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنى الحسينُ، قال: حدثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: أخبرنى القاسمُ بنُ أبى بَزَّةَ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} . قال: قام النبىُّ صلى الله عليه وسلم يومَ قُرَيْظَةَ تحتَ حُصونِهم، فقال:"يا إخْوانَ القِردَةِ، ويا إخْوانَ الخنَازيرِ، ويا عَبَدَةَ الطّاغُوتِ". فقالوا: مَن أخبر هذا محمدًا؟ ما خرَج هذا إلَّا منكم، {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ}: بما حَكَمَ اللهُ للفتحِ ليكون لهم حُجَّةً عليكم. قال ابنُ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ: هذا حينَ أرسلَ إليهم عليًّا فآذَوْا محمدًا صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال آخَرون بما حدَّثنى موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السُّدَّىِّ:{قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} -من العذابِ- {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} : هؤلاء ناسٌ من اليهودِ آمنوا ثم نافَقُوا، فكانوا يُحَدِّثُون المؤمنينَ من العربِ بما عُذِّبُوا به، فقال بعضُهم لبعضٍ: أَتُحدِّثونهم بما فتَح اللهُ عليكم مِن

(1)

تفسير مجاهد ص 207، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 150 (782)، وعزأه السيوطى في الدر المنثور 1/ 81 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 166 عن ابن جريج به.

ص: 148

العذابِ ليقولوا نحن أحبُّ إلى اللهِ منكم، وأكرمُ على اللهِ منكم

(1)

.

وقال آخرون بما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} . قال: كانوا إذا سُئِلُوا عن الشئِ قالوا: أَمَا تَعْلَمُونَ في التوراةِ كذا وكذا؟ قالوا: بَلَى. قال: وهم يهودُ. فيقولُ لهم رُؤَساؤُهم الذين يرجِعون إليهم: ما لَكم تُخْبِرُونهم بالذى أَنزل اللهُ عليكم فيُحاجُّوكم به عندَ ربِّكم، أَفَلا تعقِلون؟ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلَنَّ علينا قصَبَةَ المَدِينَةِ إلَّا مُؤْمِنٌ". فقال رُؤَساؤُهم مِن أهلِ الكفرِ والنفاقِ: اذْهَبُوا فقولوا: آمنَّا. واكْفُرُوا إذا رَجَعْتُم. قال: فكانوا يأتون المدينةَ بالبُكَرِ ويَرجِعون إليهم بعدَ العصرِ. وقرأ قولَ اللهِ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. وكانوا يقولون إذا دخَلوا المدينةَ: نحنُ مسلمون. ليعلموا خَبَرَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَمْرَه، وإذا رجَعوا رجَعوا إلى الكفرِ. فلمَّا أَخْبَرَ اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بهم، قطَع ذلك عنهم فلم يكونوا يَدْخُلُون، وكان المؤمنون الذين مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَظُنُّون أنهم مؤمنونَ، فيقولون لهم: أليس قد قال اللهُ لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى. فإذا رجَعوا إلى قومِهم قالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} الآية

(2)

.

وأصلُ الفتحِ في كلامِ العربِ النصرُ والقضاءُ والحُكْمُ، يقالُ منه: اللهمَّ افتحْ بينى وبينَ فلانٍ: أى احْكُمْ بينى وبينَه. ومنه قولُ الشاعرِ

(3)

:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 150 (783) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 165، 166.

(3)

نسب هذا البيت -على اختلاف في روايته- إلى الأسعر الجعفى، ومحمد بن حمران، والأعشى، وهو في جمهرة اللغة 2/ 4، وأمالى القالى 2/ 281.

ص: 149

أَلَا أبْلِغْ بنى عُصْمٍ رَسُولًا

بأنِّى عن فُتاحَتِكُمْ غنِيُّ

قال: ويُقال للقاضى: الفتَّاح. ومنه قولُ اللهِ عز وجل: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]. أي: احْكُمْ بينَنا وبينَهم.

فإذا كان معنى الفتحِ ما وَصَفْنا، تَبَيَّنَ أن معنى قولِه:{قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} . إنما هو: أَتُحدِّثونَهم بما حكَم اللهُ به عليكم وقَضَاه فيكم. ومِن حُكْمِه جلَّ ثناؤُه عليهم ما أخَذ به ميثاقَهم من الإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به في التوراةِ، ومن قضائِه فيهم أنْ جعل منهم القردةَ والخنازيرَ. وغيرُ ذلك من أحكامِه وقضائِه فيهم، وكلُّ ذلك كان لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حُجَّةً على المكذِّبينَ به

(1)

من اليهودِ المُقِرِّينَ بحُكْمِ التوراةِ وغيرِ ذلك.

فإن كان كذلك، فالذى هو أَوْلَى عندى بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: أتُحدِّثونهم بما فتَح اللهُ عليكم مِن بَعْثِ

(2)

محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى خَلْقِه؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤه إنما قَصَّ في أولِ هذه الآيةِ الخبرَ عن قولِهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولأصحابِه: آمنَّا بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم. فالذى هو أَوْلَى بآخِرِها أن يكونَ نظيرَ الخبرِ عمَّا ابْتُدِئَ به أوَّلُها.

وإذا كان ذلك كذلك، فالواجبُ أن يكونَ تلاوُمُهم كان فيما يينَهم فيما كانوا أظهَروه لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولأصحابِه من قولِهم لهم: آمنَّا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان قِيلُهم ذلك مِن أجْلِ أنهم كانوا (1) يجِدون ذلك في كُتُبِهم، وكانوا

(1)

سقط من: م.

(2)

في ت 1، ت 3:"نعت".

ص: 150

يُخْبِرون أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان تلاوُمُهم فيما بينهم إذا خَلَوْا على ما كانوا يُخْبِرونَهم بما هو حُجَّةٌ للمسلمينَ عليهم عندَ ربِّهم، وذلك أنهم كانوا يُخبرونهم عن وجودِ نَعْتِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في كُتبِهم ويَكفرون به، وكان فتحُ اللهِ الذى فَتَحه للمسلمين على اليهودِ، وحُكمُه عليهم لهم في كتابِهم، أن يُؤمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا بُعِث، فلما بُعث كفَروا به مع عِلْمِهم بنُبُوّتِه.

وقولُه: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . خبرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه عن اليهودِ اللائمينَ إخوانَهم على ما أخبَروا أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما فتَح اللهُ لهم عليهم، أنهم قالوا لهم: أفلا تَفْقَهون أيُّها القومُ وتَعْقِلُون أن إخبارَكم أصحابَ محمدٍ

(1)

صلى الله عليه وسلم بما في كُتُبِكم أنه نبىٌّ مبعوثٌ، حجةٌ لهم عليكم عندَ ربِّكم يحتجُّون بها عليكم؟! أى: فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثلَ ما قلتُم، ولا تُخبروهم بمثلِ ما أخبرتُموهم به من ذلك. فقال جلَّ ثناؤُه:{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: أَوَلا يَعْلَمُ هؤلاءِ اللائمونَ من اليهودِ إخوانَهم من أهلِ مِلَّتِهم -على كونِهم

(2)

إذا لَقُوا الذين آمنوا قالوا: آمنَّا. وعلى إخبارِهم المؤمنينَ بما في كتبِهم من نَعْتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومَبْعثِه، القائلون لهم:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} - أنَّ اللهَ عالمٌ بما يُسِرُّون فيُخْفُونه عن المؤمنين في خَلائِهم؛ من كفرِهم وتلاوُمِهم بينَهم على إظهارِهم ما أظهَروا لرسولِ

(1)

في م: "النبى".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"قولهم".

ص: 151

اللهِ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به من الإقرارِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى قِيلِهم لهم: آمنَّا. ونَهْىِ بعضِهم بعضًا أن يُخبروا المؤمنين بما فتَح اللهُ للمؤمنين عليهم، وقَضَى لهم عليهم في كتبِهم من حقيقةِ نُبُوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وَنَعتِه ومَبْعَثِه، وما يُعْلِنون فيُظهرونه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين به إذا لَقُوهم من قِيلِهم لهم: آمنَّا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. نفاقًا وخِداعًا للهِ ولرسولِه وللمؤمنين.

كما حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من كفرِهم وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم إذا خَلا بعضُهم إلى بعضٍ، {وَمَا يُعْلِنُونَ} إذا لَقُوا أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنَّا. ليُرْضُوهم بذلك

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} : يعنى ما أَسَرُّوا من كفرِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهم يَجِدُونه مكتوبًا عندهم، {وَمَا يُعْلِنُونَ}: يعنى ما أَعْلَنوا حينَ قالوا للمؤمنين: آمنَّا

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} : ومن هؤلاءِ اليهودِ الذين قَصَّ اللهُ قَصَصَهم في هذه الآياتِ، وأَيْأَسَ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من إيمانِهم، فقال لهم:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} . وهم إذا لَقُوكم قالوا: آمنَّا.

(1)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 151 عقب الأثر (787) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 81، 82 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 151 (786، 788) من طريق آدم به.

ص: 152

كما حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} : يعنى من اليهودِ

(1)

.

وحُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا [ابنُ أبى جعفرٍ]

(2)

، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . قال: أُناسٌ من يهودَ

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: يعنى بـ"الأُمِّيِّين" الذين لا يَكتبون ولا يَقرءون، ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنّا أُمّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نحْسُبُ"

(4)

.

يقالُ منه: رجُلٌ أميٌّ. أى: بيِّنُ الأُمِّيَّةِ.

كما حدَّثنى المثنى، قال: حدثنى سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} . قال: منهم مَن لا يُحْسِنُ أن يَكْتُبَ

(5)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . قال: أُمِّيُّون لا يَقْرَءون الكتابَ من اليهودِ.

ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ قولٌ خلافُ هذا القولِ، وهو ما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بِشْرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 152 (789) من طريق آدم به.

(2)

في ت 3: "أبو جعفر".

(3)

سيأتى بتمامه في ص 157.

(4)

أخرجه أحمد 2/ 43 (5017)، والبخارى (1913)، ومسلم (1080/ 15)، وأبو داود (2319) من حديث ابن عمر.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 152 (791) من طريق سفيان به نحوه.

ص: 153

عباسٍ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . قال: الأُمِّيون قومٌ لم يُصَدِّقوا رسولًا أرسَله اللهُ، ولا كتابًا أنزَله اللهُ، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقومٍ سَفِلَةٍ جُهَّالٍ:{هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ} . وقال: قد أَخبر أنهم يكتُبون بأيديهم، ثم سمَّاهم أُمِّيِّين لجُحُودِهم كتبَ اللهِ ورُسُلَه

(1)

.

وهذا التأويلُ تأويلٌ على خلافِ ما يُعرَفُ من كلامِ العربِ المُستفيضِ بينَهم، وذلك أن الأُميَّ عندَ العربِ هو الذى لا يكتُبُ.

قال أبو جعفرٍ: وأَرى أنه قِيلَ للأُميِّ: أُميٌّ. نسبةً له، بأنه لا يَكتُبُ، إلى أُمِّه؛ لأن الكتابَ كان في الرجالِ دُونَ النساءِ، فنُسِبَ مَن لا يَكتبُ ولا يَخُطُّ من الرجالِ إلى أُمِّه في جهْلِه بالكتابةِ دونَ أبيه، كما ذكرنا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قولِه:"إنّا أمةٌ أُمِّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ". وكما قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].

فإذا كان معنى الأميِّ في كلامِ العربِ ما وَصَفْنا، فالذى هو أَوْلَى بتأويلِ الآيةِ ما قاله النَّخَعيُّ مِن أن معنى قولِه:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} : ومنهم مَن لا يُحْسِنُ أن يكتُبَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} .

يعنى بقولِه: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} : لا يعلمون ما في الكتابِ الذى أَنزَله اللهُ ولا يَدرون ما أَوْدَعه اللهُ من حُدودِه وأحكامِه وفرائِضِه، كهيئةِ البهائمِ.

كالذى حدَّثنى الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} : إنما هم أمثالُ البهائمِ لا يَعْلَمُون شيئًا

(2)

.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 167، وقال: في صحة هذا عن ابن عباس -بهذا الإسناد- نظر.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 50.

ص: 154

حدثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} يقولُ

(1)

: لا يدرون ما فيه

(2)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} : لا يَدْرُونَ ما فيه

(3)

.

حدثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} قال: لا يدرون ما

(4)

فيه

(5)

.

حدثنا يونسُ

(6)

، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} . لا يَعْلَمُون شيئًا؛ لا يَقْرَءُون، التوراةُ ليست تُسْتَظْهَرُ، إنما تُقْرَأُ هكذا، فإذا لم يَكْتُبْ أحدُهم لم يَسْتَطِعْ أن يَقْرَأَه

(7)

.

حدثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بِشْرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} . يقولُ

(8)

: لا يَعْرِفون الكتابَ الذى أنزَله اللهُ.

قال أبو جعفرٍ: وإنما عَنَى بالكتابِ التوراةَ، ولذلك أُدْخِلَتْ فيه الألفُ واللامُ؛

(1)

بعده في م: "لا يعلمون الكتاب و".

(2)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 152 عقب الأثر (790) معلقا.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 152 (790) من طريق آدم به.

(4)

في م: "بما".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى ابن إسحاق.

(6)

في النسخ: "بشر". وهو إسناد دائر.

(7)

في م: "يقرأ".

(8)

سقط من: ت 2، وفى م:"قال".

ص: 155

لأنه قُصِد به كتابٌ معروفٌ بعينِه، ومعناه: ومنهم فريقٌ لا يَكْتُبون ولا يَدْرُون ما في الكتابِ الذى عَرَفْتُموه الذى هو عندَهم وهم يَنْتَحِلُونه، ويدَّعون الإقرارَ به من أحكامِ اللهِ وفرائضِه وما فيه من حُدُودِه التى بيَّنها فيه.

[واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه]

(1)

: {إِلَّا أَمَانِيَّ} ؛ فقال بعضُهم بما حَدَّثَنَا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بِشْرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{إِلَّا أَمَانِيَّ} . يقولُ: إلَّا قولًا يَقُولُونه

(2)

بأفواهِهم كذبًا

(3)

.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن

(4)

ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مُجَاهدٍ:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} : إلا كذبًا

(5)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

وقال آخَرون بما حَدَّثَنَا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِلَّا أَمَانِيَّ} يقولُ: يتمنَّوْن على اللهِ ما ليس لهم

(6)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن

(1)

سقط من النسخ، وأثبتناها كنهج أبي جعفر في التفسير.

(2)

في ت 1، ت 2:"يقولون".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى المصنّف.

(4)

بعده في ت 2: "محمد".

(5)

تفسير مجاهد ص 207، 208، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 (794). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى عبد بن حميد.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 عقب الأثر (793) معلقًا.

ص: 156

قتادةَ: {إِلَّا أَمَانِيَّ} . يقولُ: يتمنَّوْن على اللهِ الباطلَ وما ليس لهم

(1)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا أبو صالحٍ، [عن معاويةَ بنِ صالحٍ]

(2)

، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} . يقولُ: إلَّا أحاديثَ

(3)

.

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهدٍ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} . قال: ناسٌ من يهودَ لَمْ يكونوا يعلَمون من الكتابِ شيئًا، وكانوا يتكلَّمون بالظنِّ بغيرِ ما في كتابِ اللهِ، ويقولون: هو من الكتابِ. أمانيُّ يتمنَّوْنها

(4)

.

حَدَّثَنَا المُثَنَّي، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{إِلَّا أَمَانِيَّ} : يتمنَّوْن على اللهِ ما ليس لهم

(5)

.

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِلَّا أَمَانِيَّ} . قال: تمنَّوْا فقالوا: نحن من أهلِ الكتابِ. وليسوا منهم.

وأَوْلَى مما رَوَيْنا في تأويلِ قولِه: {إِلَّا أَمَانِيَّ} . بالحقِّ، وأَشْبَهُه بالصوابِ، الذى قاله ابنُ عباسٍ، الذى رواه عنه الضحَّاكُ، وقولُ مجاهدٍ، أن الأُمِّيِّين الذين وصَفهم اللهُ بما وصَفهم به في هذه الآيةِ وأنهم لا يَفْقَهُون من الكتابِ الذى أنزله اللهُ على موسى شيئًا، ولكنهم يَتَخرَّصون الكذبَ ويَتقوَّلون الأباطيلَ كذبًا وزُورًا، والتمنِّى في هذا الموضعِ هو تَخَلُّقُ الكذبِ وتَخَرُّصُه وافتعالُه، يقالُ منه: تمنَّيتُ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 50.

(2)

سقط من النسخ. وهو إسناد دائر.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 (792) عن أبيه، عن أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى ابن المنذر.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى المصنّف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 (793) من طريق آدم به.

ص: 157

كذا. إذا افتعلتَه وتَخرَّصْتَه. ومنه الخبرُ الذى رُوِىَ عن عثمانَ بنِ عفانَ رضي الله عنه: ما تَعَتَّيْتُ

(1)

ولا تَمَنَّيْتُ

(2)

. يعنى بقولِه: ما تمنيتُ: ما تخرّصتُ الباطلَ ولا اخْتَلَقْتُ الكذبَ والإفْكَ.

والذى يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قُلنا في ذلك وأنه أَوْلَى بتأويلِ قولِه: {إِلَّا أَمَانِيَّ} . من غيرِه من الأقوالِ، قولُ اللهِ جل ثناؤه:{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} . فأخبَر عنهم جلَّ ثناؤُه أنهم يتمنَّوْن ما يتمنَّوْن من الأكاذيبِ ظنًّا منهم لا يقينًا، ولو كان معنى ذلك أنهم يَتْلونه، لَمْ يكونوا ظانِّين، وكذلك لو كان معناه: يَتشهُّونه؛ لأنَّ الذى يَتْلوه إذا تَدَبَّره عَلِمه، ولا يَسْتَحِقُّ الذى يَتْلو كتابًا قرَأه وإن لَمْ يَتَدَبرْه بتَرْكِه التدبيرَ أن يقال: هو ظانٌّ لما يَتْلو. إلَّا أن يكونَ شاكًّا في نفسِ ما يَتْلوه لا يَدْرِى أحقٌّ هو أم باطلٌ؟ ولم يكنِ القومُ الذين كانوا يَتْلون التوراةَ على عصرِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من اليهودِ فيما بلَغَنا شاكِّين في التوراةِ أنَّها من عندِ اللهِ، وكذلك المتمنِّى الذى هو في معنى المتشهِّي، غيرُ جائزٍ أن يقالَ: هو ظانٌّ

(3)

تَمَنِّيَه. لأنَّ التَّمَنِّىَ من المتمنِّى إذا تمنَّى ما قد وُجِدتْ

(4)

عينُه، فغيرُ جائزٍ أن يقالَ: هو شاكٌّ فيما هو به عالمٌ؛ لأنَّ العلمَ والشكَّ معنيان يَنْفِى كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه لا يجوزُ اجتماعُهما في جُزْءٍ

(5)

واحدٍ، والمتمنِّى في حالِ تمنِّيه موجودٌ [تَمنِّيه، فغيرُ]

(6)

جائزٍ أن يقالَ: هو يَظُنُّ تمنِّيَه. وإنما

(1)

في م، ت 2:"تغنيت"، وفى ت 1، ت 3:"تعنيت". والصواب ما أثبتناه. وعتا يعتو عتوًّا وعتيًّا: استكبر وجاوز الحد. اللسان (ع ت و).

(2)

أخرجه محمد بن عائذ الدمشقى -كما في البداية والنهاية 10/ 296، 297 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (ص 23، 429 - ترجمة عثمان، طبعة مجمع اللغة بدمشق) - والفسوى في تاريخه 2/ 488، وفيه قصة.

(3)

بعده في م: "في".

(4)

في م: "وجد".

(5)

في م: "حيز".

(6)

في م: "غير". وينظر التبيان 1/ 320.

ص: 158

قيل: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} . والأمانيُّ من غيرِ نوعِ الكتابِ، كما قال ربُّنا جلَّ ثناؤُه {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. والظنُّ من العلمِ بمَعْزِلٍ، وكما قال:{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19، 20]. وكما قال الشاعرُ

(1)

:

(*) ليس بينى وبين قيسٍ عتابٌ

غيرَ طَعْنِ الكُلَى وضَرْبِ الرِّقابِ

وكما قال نابغةُ بنى ذُبْيانَ

(2)

:

حلَفْتُ يمينًا غيرَ ذى مَثْنوِيَّةٍ

(3)

ولا عِلْمَ إلَّا حُسْنَ ظَنٍّ بصاحبِ

(4)

في نظائرَ لما ذكرْنا يطولُ بإحصائِها الكتابُ.

ويَخْرُجُ بـ "إلَّا" ما بعدها من معنى ما قبلها، ومن صفتِه، وإن كان كلُّ واحدٍ منهما من غيرِ شكلِ الآخرِ ومن غيرِ نوعِه، ويسمِّى ذلك بعضُ أهلِ العربيةِ استثناءً منقطِعًا، لانقطاعِ الكلامِ الذى يأتى بعد "إلَّا" عن معنى ما قبلها، وإنما يكونُ ذلك كذلك في كلِّ موضعٍ حَسُنَ أن يوضعَ فيه مكانَ "إلَّا""لكن"، فيُعْلَمُ حينئذٍ انقطاعُ معنى الثانى عن معنى الأولِ، ألا ترى أنك إذا قلْتَ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} . ثم أردْتَ وَضْعَ "لكن" مكانَ "إلَّا" وحَذْفَ

(1)

البيت لعمرو بن الأيهم بن أفلت التغلبي، وهو في الوحشيات ص 42، ومعجم الشعراء ص 70، وسمط اللآلى 1/ 184.

(*) إلى هنا ينتهى الخرم الذى في الأصل. والذى بدأ في أثناء ص 57.

(2)

ديوان النابغة ص 55.

(3)

حلفة غير ذات مثنوية: أى غير مُحَلَّلة. اللسان (ث ن ى).

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بغائب". وهى رواية ابن السكيت، وأما الذى في الأصل فهو رواية الأصمعي وينظر ديوان النابغة برواية ابن السكيت ص 55 وديوان النابغة بتحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ص 41.

ص: 159

"إلَّا"، وَجَدْتَ الكلامَ صحيحًا معناه صحتَه وفيه "إلَّا"، وذلك إذا قلْتَ: ومنهم أُمِّيُّون لا يَعْلَمُونَ الكتابَ، لكن أمانيَّ. يعنى: لكنهم يَتَمنَّوْن. وكذلك قولُه: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]: لكن اتِّباعَ الظنِّ. بمعنى: لكنَّهم يتَّبعون الظنَّ. وكذلك جميعُ هذا النوعِ من الكلامِ على ما وصَفْنا.

وقد ذُكِر عن بعضِ القَرأةِ أنه قرَأ: (إلَّا أمانىَ). مخففةً

(1)

. ومن خَفَّف ذلك وجَّهه إلى نحوِ جَمْعِهم المفتاحَ مفاتحَ، والقُرْقورَ

(2)

قراقرَ، وأن ياءَ الجمعِ لمَّا حُذفت خُفِّفَتِ الياءُ الأصليةُ، أَعْنِى من "الأمانيِّ"، كما جَمَعوا الأُثْفِيَّةَ

(3)

أَثَافِىَ مخففةً، كما قال زهيرُ بنُ إلى سُلْمَى

(4)

:

أَثَافِىَ سُفْعًا

(5)

في مُعَرَّسِ

(6)

مِرْجَلٍ

(7)

ونُؤْيًا

(8)

كجِذْمِ

(9)

الحَوْضِ لَمْ يَتَثلَّمِ

(10)

وأما مَن ثَقَّل {أَمَانِيَّ} فشدَّد ياءَها، فإنه

(11)

نحوُ جَمْعِهم المفتاحَ مفاتيحَ،

(1)

وهى قراءة أبي جعفر - وهو من العشرة. ينظر النشر لابن الجزرى 2/ 164.

(2)

القرقور: السفينة أو الطويلة أو العظيمة. التاج (ق ر ر).

(3)

الأثفية: ما يوضع عليه القِدْرُ. اللسان (ث ف ى).

(4)

شرح ديوان زهير ص 7.

(5)

السفعة: السواد المشرب حمرة، ومنه قيل للآثافى: سفع. وهى التى أوقد بينها النار فسودت صِفاحها التى تلى النار. اللسان (س ف ع).

(6)

المعرس: موضع التعريس، والتعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل يقعون وقعة للاستراحة. اللسان (ع ر س).

(7)

المرجل: القِدْرُ من الحجارة والنحاس. اللسان (ر ج ل).

(8)

النؤى، حفرة حول الخباء لئلا يدخله ماء المطر. اللسان (ن أ ى).

(9)

الجذم: أصل الشيء. اللسان (ج ذ م).

(10)

ثلم الإناء والسيف ونحوه يثلِمُه ثلْمًا، وثلَّمَه فانْثَلم وتثَلَّم: كسر حرفه. اللسان (ث ل م).

(11)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وجه ذلك إلى".

ص: 160

والقُرْقورَ قَراقيرَ، والزُّنْبورَ زَنابيرَ، فاجتمعتْ ياءُ "فَعاليلَ" ولامُها وهما جميعًا ياءان، فأُدْغِمت إحداهما في الأخرى فصارتا ياءً واحدةً مشددةً.

فأما القراءةُ التى لا يجوزُ غيرُها لقارئٍ عندي في ذلك، فتشديدُ ياءِ "الأمانيِ"، لإجماعِ القَرَأةِ على أنَّها القراءةُ التى مضى على القراءةِ بها السلفُ، مستفيضٌ ذلك بينهم غيرُ مدفوعةٍ صحتُه، وشذوذِ القارئِ بتخفيفِها عما عليه الحُجَّةُ مُجْمِعةٌ في ذلك، [وكفَى شاهدًا على خطأِ]

(1)

قارئِ ذلك [بتخفيفِه إجماعُها]

(2)

على تخطئتِه

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَإِنْ هُمْ} : وما هم. كما قال جل ثناؤُه: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11]. يعنى بذلك: ما نحن إلَّا بشرٌ مثلُكم. ومعنى قولِه: {إِلَّا يَظُنُّونَ} : إلَّا

(4)

يشكُّون ولا يَعْلمون حقيقتَه وصحتَه. والظنُّ في هذا الموضعِ شَكٌّ.

فمعنى الآيةِ: ومنهم مَنْ لا يَكْتُبُ ولا يَخُطُّ ولا يَعْلَمُ كتابَ اللهِ ولا يَدْرِى ما فيه إلَّا تَخَرُّصًا وتَقَوُّلًا على اللهِ الباطلَ، ظنًّا منه أنه مُحِقٌّ في تَخَرُّصِه وتَقَوُّلِه الباطلَ، وإنما وصَفَهم اللهُ تعالى ذكرُه بأنهم في تَخَرُّصِهم على ظنٍّ، [هل هم فيه مُحِقُّون أم مُبْطِلونْ]

(5)

؛ لأنهم كانوا قد سَمِعوا من رؤسائِهم وأحبارِهم أمورًا حَسِبوها من كتابِ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكفى خطأ على".

(2)

في م: "بتخفيفها إجماعًا".

(3)

تقدم أن القراءة بتخفيف الياء قراءة أبى جعفر المدني، وهى قراءة متواترة.

(4)

في م: "لا".

(5)

في م: "أنهم محقون وهم مبطلون"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"أنهم محقون أم مبطلون".

ص: 161

اللهِ، ولم تكنْ من كتابِ اللهِ، فوصَفهم جل ثناؤُه بأنهم يَترُكون التصديقَ بالذى يُوقِنون به أنه من عندِ اللهِ مما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ويَتَّبعون ما هم فيه شاكُّون، وفى حقيقتِه مُرْتابون، مما أخبَرهم به كُبراؤُهم ورُؤساؤُهم وأحبارُهم؛ عنادًا منهم للهِ ولرسولِه، ومخالفةً منهم لأمرِ اللهِ، واغترارًا منهم بإمهالِ اللهِ تعالى ذكرُه إياهم.

وبنحوِ ما قلنا في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} . قال فيه المتأَوِّلون من السلفِ.

حَدَّثَنِي محمدُ بن عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسي، وحدثنى المثني، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شبلٌ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} : إلَّا يُكَذِّبون

(1)

.

حَدَّثَنَا القاسمُ، [قال: حَدَّثَنَا الحسينُ]

(2)

، قال: حدثنا حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حَدَّثَنَا ابنُ حميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ ابنُ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} . أى: لا يَعْلَمون الكتابَ ولا يَدْرُون ما فيه، وهم يَجْحَدون نبوتَك بالظنِّ

(3)

.

حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا

(1)

تفسير مجاهد ص 208، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 152 (796)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى عبد بن حميد.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 538. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 167.

ص: 162

يَظُنُّونَ} قال: يَظُنون الظنونَ بغيرِ الحقِّ

(1)

.

حدثني المثنى، قال: حدثنا آدمُ، قال: حدثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: يَظُنون الظنونَ بغيرِ الحقِّ

(2)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَوَيْلٌ} .

اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {فَوَيْلٌ} ؛ فقال بعضُهم بما حدثنا به أبو كريبٍ، قال: حدثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَوَيْلٌ لَهُمْ} . يقولُ: فالعذابُ عليهم

(4)

.

وقال آخَرون بما حدثنا به ابنُ بشارٍ، قال: حدثنا ابنُ مهديٍّ، قال: حدثنا سفيانُ، عن زيادِ بنِ فياضٍ، قال: سمِعتُ أبا عياضٍ يقولُ: الويلُ ما يَسيلُ من صَديدٍ في أصلِ جهنمَ

(5)

.

حدثني مُشَرَّفُ

(6)

بنُ أبانٍ الحطابُ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن زيادِ بنِ

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 عقب الأثر (795) معلقا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 (795) من طريق آدم به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 عقب الأثر (795) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

سيأتي مطولا في ص 170.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 153 (799) من طريق ابن مهدي به، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (333 - زوائد نعيم بن حماد)، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في صفة النار (33) عن سفيان به.

(6)

في م: "بشر"، وفي ت 1، ت 2:"شرف".

ص: 163

فياضٍ، عن أبي عياضٍ في قولِه:{فَوَيْلٌ} . قال: صِهْرِيجٌ في أصلِ جهنمَ يَسيلُ فيه صديدُهم

(1)

.

حدثني علىُّ بنُ سهلٍ الرَّمْليُّ، قال: حدثنا زيدُ بنُ أبي الزرقاءِ، قال: حدثنا سفيانُ، عن

(2)

زيادِ بنِ فياضٍ، عن أبي عياضٍ، قال: الويلُ وادٍ من صديدٍ في جهنمَ.

حدثني ابنُ حميدٍ، قال: حدثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ

(3)

، قال:{وَوَيْلٌ} : ما يَسيلُ من صديدٍ في أصلِ جهنمَ.

وقال آخَرون بما حدثني به المثنى، قال: حدثنا إبراهيمُ بنُ عبدِ السلامِ بنِ صالحٍ القشيريُّ

(4)

، قال: حدثنا عليُّ بنُ جريرٍ، عن حمادِ بنِ سلَمةَ، عن

(5)

عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ، عن كنانةَ العدويِّ، عن عثمانَ بنِ عفانَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"الويلُ جبَلٌ في النارِ"

(6)

.

حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن درّاجٍ، عن أبي الهيثمِ، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ وادٍ في جهنمَ يَهْوِي فيه الكافرُ أربعين خريفًا قبل أن يَبْلُغَ قَعْرَه

(7)

".

(1)

ذكره ابن رجب في التخويف من النار ص 118.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بن".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شقيق". وانظر تهذيب الكمال 28/ 595 - 599.

(4)

في م: "التستري".

(5)

في م: "بن".

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 168 عن المصنف، وقال: غريب جدا. وينظر تفسير ابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني 2/ 552، 553.

(7)

إسناده ضعيف؛ لضعف رواية دراج عن أبي الهيثم، والحديث أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 153 =

ص: 164

قال أبو جعفرٍ: فمعنى الآيةِ على ما رُوِى عمن ذكرْتُ قولَه في تأويلِ {فَوَيْلٌ} : فالعذابُ الذي هو شُرْبُ صديدِ أهلِ جهنمَ، الذي

(1)

في أسفلِ الجحيمِ، لليهودِ الذين يَكْتُبون الباطلَ بأيديهم ثم يقولون: هذا من عندِ اللهِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .

يعنى بذلك جل ثناؤه: الذين حَرَّفوا كتابَ اللهِ من يهودِ بني إسرائيلَ، وكتَبوا كتابًا على ما تأوَّلُوه من تأويلاتِهم، مخالفًا لما أنزَله اللهُ عز وجل على نبيِّه موسى عليه السلام، ثم باعوه من قومٍ لا علْمَ لهم بها، ولا بما في التوراةِ، جهالٍ بما في كُتُبِ اللهِ، طَلَبَ

(2)

عَرَضٍ من الدنيا خسيسٍ، فقال اللهُ تعالى ذكرُه لهم:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} .

كما حدثنا موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . قال: كان ناسٌ من اليهودِ كتَبوا

= (798) عن يونس به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (334 - زوائد نعيم بن حماد)، وفي المسند (144)، وأحمد 18/ 240 (11712)، وعبد بن حميد (922)، والترمذي (2576، 3164)، وأبو يعلى (1383)، وابن حبان (7467)، والحاكم 2/ 507، 543، 4/ 596، والبيهقي في البعث والنشور (512، 513، 537)، وابن أبي الدنيا في صفة النار (31) من طريق دراج به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82 إلى هناد في الزهد والطبراني وابن مردويه.

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "لطلب".

ص: 165

كتابًا من عندِهم يَبِيعونه من العربِ، ويُحَدِّثونهم أنه من عندِ اللهِ ليأخُذوا به ثمنًا قليلًا

(1)

.

حدثنا أبو كريبٍ، قال: حدثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الأُمِّيون قومٌ لم يُصَدِّقوا رسولًا أرسلَه اللهُ عز وجل، ولا كتابًا أنزَله اللهُ، فكتَبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقومٍ سَفِلةٍ جُهّالٍ:{هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ} . [قال: ليبتاعوا به]

(2)

{ثَمَنًا} . قال: عَرَضًا من عَرَضِ الدنيا

(3)

.

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ} . قال: هؤلاء الذين عرَفوا أنه من عندِ اللهِ يُحرفونه

(4)

.

حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: ثم يُحَرِّفونه.

حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية: وهم اليهودُ

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 153 (802) من طريق عمرو به.

(2)

سقط من: م.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 167 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 82، 83 إلى المصنف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 889 (3734) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر 2/ 46 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والفريابي.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 168.

ص: 166

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ} . قال: كان ناسٌ من بني إسرائيلَ كتَبوا كتابًا بأيديهم ليَتَأَكَّلوا الناسَ، فقالوا: هذا من عندِ اللهِ. وما هو من عندِ اللهِ

(1)

.

حدثنا المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . قال: عمَدوا إلى ما أنزَل اللهُ تعالى ذكرُه في كتابِهم من نعتِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فحَرَّفوه عن مَواضِعِه، يَبْتغون بذلك عَرَضًا من عَرَضِ الدنيا، فقال اللهُ

(2)

: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}

(3)

.

حدثني المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ عبدِ السلامِ، قال: ثنا عليُّ بنُ جريرٍ، عن حمادِ بنِ سلَمةَ، عن عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ، عن كنانةَ بنِ نعيمٍ العدويِّ، عن عثمانَ بنِ عفانَ رضي الله عنه، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} قال: "الويلُ جبلٌ في النارِ". وهو الذي أُنْزِل في اليهودِ؛ لأنهم حَرَّفوا التوراةَ، زادُوا فيها ما يُحبون، ومَحَوْا منها ما يَكْرَهون، ومَحَوُا اسْمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من التوراةِ، فلذلك غَضِب اللهُ جل ثناؤه عليهم فرفَع بعضَ التوراةِ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 50، 51، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 154، 155 (808) عن الحسن ابن يحيى. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 83 إلى ابن المنذر.

(2)

سقط من: م.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 155 (811) من طريق آدم به.

ص: 167

فقال: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}

(1)

.

وحدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني سعيدُ بنُ أبي أيوبَ، عن محمدِ بنِ عجلانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، قال: ويلٌ وادٍ في جهنمَ لو سُيِّرَتْ فيه الجبالُ لَامّاعت

(2)

من شدةِ حَرِّه

(3)

.

فإن قال لنا قائلٌ: فما وجهُ قولِه

(4)

: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ؟ وهل يكتبون

(5)

بغيرِ اليدِ حتى احتاج المخاطَبون

(6)

بهذه المخاطبةِ إلى أن يُخْبَروا عن هؤلاء القومِ الذين قَصَّ اللهُ تعالى ذكرُه قصتَهم أنهم كانوا يَكْتُبون الكتابَ بأيديهم؟

قيل له: إن الكِتابَ من بني آدمَ وإن كان منهم باليدِ، فإنه قد يضافُ الكتابُ إلى غيرِ كاتبِه وغيرِ المتولِّي رسمَ خَطِّه، فيقالُ: كتَب فلانٌ إلى فلانٍ بكذا. وإن كان المتولِّي كتابتَه

(7)

غيرَ المضافِ إليه الكتابُ، إذا كان الكاتبُ كَتَبه بأمرِ المضافِ إليه الكتابُ، فأَعْلَم ربُّنا جلَّ ثناؤه بقولِه. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} . عبادَه المؤمنين أن أحبارَ اليهودِ تَلِي كتابةَ الكذبِ والفِرْيةِ على اللهِ بأيديهم على عِلْمٍ منهم وعَمْدٍ للكَذِبِ على اللهِ، ثم تَنْحَلُه

(8)

إلى أنه من عندِ اللهِ وفي كتابِ اللهِ جلَّ

(1)

تقدم تخريجه في ص 164.

(2)

في م: "لانماعت"، وأماع وانماع: ذاب وسال. اللسان (م ى ع).

(3)

ابن المبارك في الزهد (332 - زوائده نعيم بن حماد)، وابن أبي الدنيا في صفة النار (32)، وابن أبي حاتم تفسيره 1/ 153 (800)، والبيهقي في البعث والنشور (516)، من طريق سعيد بن أبي أيوب به.

(4)

سقط من: م.

(5)

في م: "تكون الكتابة".

(6)

في م: "المخاطب".

(7)

بعده في م: "بيده".

(8)

نحله القول ينحله: نسبه إليه. اللسان (ن ح ل).

ص: 168

وعزَّ، تَكَذُّبًا على اللهِ وافتراءً عليه، فنفى اللهُ بقولِه:{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} . أن يكونَ وَليَ كتابةَ ذلك بعضُ جُهّالِهم بأمرِ علمائِهم وأحبارِهم. وذلك نظيرُ قولِ القائلِ: باعني فلانٌ عينُه كذا

(1)

، واشتَرى فلانٌ نفسُه كذا. يرادُ بإدخالِ النفسِ والعينِ في ذلك نَفيُ اللَّبْسِ عن سامعِه أن يكونَ المتولِّي بيعَ ذلك أو شراءَه غيرَ الموصوفِ به بأمرِه، ويُوجِبُ حقيقةَ الفعلِ للمُخْبَرِ عنه، فكذلك قولُه:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} .

يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} . أي: فالعذابُ في الوادِي السائلِ من صديدِ أهلِ النارِ في أسفلِ جهنمَ لهم. يعني: للذين كتَبوا الكتابَ الذي وصَفْنا أمْرَه من يهودِ بني إسرائيلَ محرَّفًا، ثم قالوا: هذا من عندِ اللهِ. ابتغاءَ عَرَضٍ من الدنيا

(2)

قليلٍ ممن يبتاعُه منهم.

وقولُه: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} . يقولُ: من الذي كَتَبَتْ أيديهم من ذلك، {وَوَيْلٌ لَهُمْ} أيضًا {مِمَّا يَكْسِبُونَ} يعنى: مما يعمَلون من الخطايا، ويجتَرِحُون من الآثامِ، ويَكْسِبون من الحرامِ، بكتابِهم الذي يَكْتُبونه بأيديهم بخلافِ ما أَنزَل اللهُ، ثم يَأكُلون ثمنَه وقد باعُوه ممن باعُوه منهم

(3)

على أنه من كتابِ اللهِ.

كما حدثني المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: حدثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكذا".

(2)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".

(3)

في الأصل: "به".

ص: 169

العاليةِ: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} : يعنى من الخطيئةِ

(1)

.

حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَوَيْلٌ لَهُمْ} يقولُ: فالعذابُ عليهم. قال: يقولُ: من الذى كَتَبوا بأيديهم من ذلك الكذبِ

(2)

، {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} يقولُ: مما يأكُلون به الناسَ

(3)

السَّفِلةَ وغيرَهم

(4)

.

وأصلُ "الكَسْبِ" العملُ، فكلُّ عاملٍ عملًا بمباشرةٍ منه لما عَمِل، ومعاناةٍ باحترافٍ، فهو كاسبٌ لما عَمِل، كما قال لبيدُ بنُ ربيعةَ

(5)

:

لِمُعَفَّرٍ

(6)

قَهْدٍ

(7)

تَنازَعَ شِلْوَه

(8)

غُبْسٌ

(9)

كَواسبُ لا يُمَنُّ طَعامُها

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَقَالُوا} : اليهودُ. يقولُ: وقالتِ اليهودُ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} . يَعنى: لن تُلاقِىَ أجسامَنا النارُ، ولن ندْخُلَها إلا أيامًا معدودةً.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 155 (812) من طريق آدم به.

(2)

في ت 2: "الكتب".

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"من".

(4)

ذكره ابن كثير في التفسير 1/ 169 عن الضحاك عن ابن عباس. وقد تقدم هذا الأثر مختصرًا في ص 163.

(5)

شرح ديوان لبيد ص 308.

(6)

المعفر: الممرغ في التراب. اللسان (ع ف ر).

(7)

القهد: ضرب من الضأن. اللسان (ق هـ د).

(8)

شلو الحيوان: عضده، وشلو الشئ: بقيته. اللسان (ش ل و).

(9)

الغبس والغبسة: لون الرماد، وهو بياض فيه كدرة. اللسان (غ ب س).

ص: 170

وإنما قيل: "معدودة". وإن لم يكن مُبَيَّنًا عددُها في التنزيلِ، لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخبرَ عنهم بذلك وهم عارفون عددَ الأيامِ التى يُوَقِّتونها لمُكْثِهم في النارِ، فلذلك ترَك ذِكْرَ تسميةِ عددِ تلك الأيامِ، وسمَّاها معدودةً لمِا وصَفنا.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مبلغِ الأيامِ المعدودةِ التى عنَتْها

(1)

اليهودُ القائلون ما أخبرَ اللهُ عنهم مِن ذلك؛ فقال بعضهم بما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاك، عن ابنِ عباسٍ:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [قالوا: هى أربعون يومًا لأمْرٍ عُذِّبوا فيه، ثم لا يُصيبُنا بعدها عذابٌ.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ]

(2)

: قال ذلك أعداءُ اللهِ اليهودُ، قالوا

(3)

: لن يُدْخلَنا اللهُ

(3)

النارَ إلا تَحِلَّةَ القَسَمِ؛ الأيامَ التى أَصَبْنا فيها العِجْلَ أربعينَ ليلةً

(4)

، فإذا تَقضَّت عنَّا تلك الأيامُ، انقَطع عنَّا العذابُ والقَسَمُ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} . قالوا: أيامًا معدودةً؛ ما أصبْنا في العِجْلِ

(5)

.

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن

(1)

في م: "عينها".

(2)

سقط من: م.

(3)

زيادة من: م.

(4)

في م: "يوما".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 51، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 156 (816) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 171

السُّديِّ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} . قال: قالتِ اليهودُ: إن اللهَ يُدْخِلُنا النارَ فنَمْكُثُ فيها أربعين ليلةً، حتى إذا أكلتِ النارُ خطايانا واستنقَيْنا

(1)

، نادَى مُنادٍ: أَخْرِجوا كلَّ مختونٍ مِن وَلَدِ

(2)

إسرائيلَ. فلذلك أُمِرْنا أن نَخْتَتِنَ. قالوا: فلا يَدَعون في النارِ منا أحدًا إلا أخرَجوه.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: قالتِ اليهودُ: إن ربَّنا عتَب علينا في أمْرٍ

(3)

، فأقسم ليُعذِّبنَّنا أربعين ليلةً، ثم يُخْرِجَنا. فأكذَبهم اللهُ جلّ ثناؤه.

حدثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن قتادةَ، قال: قالت اليهودُ: لن نَدْخُلَ النارَ إلا تَحِلَّةَ القَسَمِ، عَدَدَ الأيامِ التى عبَدْنا فيها العِجْلَ

(4)

.

حدثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمِّى، قال: حدثنى أبِى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية. قال ابنُ عباسٍ: ذُكِر أن اليهودَ وجَدوا في التوراةِ مكتوبًا: إن ما بينَ طَرَفَيْ جهنمَ مسيرةُ أربعين سنةً، إلى أن يُنْتهَى إلى شجرةِ الزَّقُّومِ نابتًا في أصل الجحيمِ -وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: إن الجحيمَ سَقَرُ، وفيها شجرةُ الزَّقُّومِ- فزَعَم أعداءُ اللهِ أنه إذا خلَا العددُ الذى وَجَدُوا في كتابِهم أيامًا معدودةً -وإنما يعنى بذلك المسيرَ الذى

(1)

في م: "استنقتنا"، وفى ت 2:"استيقنا".

(2)

بعده فى م: "بنى".

(3)

في م: "أمرنا".

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 (818)، من طريق آدم به مطولًا. وسيأتى الأثر بتمامه في ص 176، 177.

ص: 172

ينتهى إلى أصلِ الجحيم- فقالوا: إذا خلا العددُ انقَضَى

(1)

الأجلُ، فلا عذابَ وتَذْهَبُ جهنَّمُ وتَهْلِكُ. فذلك قولُه:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} . يَعْنُون بذلك الأَجَلَ، فقال ابنُ عباسٍ: لماَّ اقْتَحَموا مِن بابِ جهنَّمَ ساروا في العذابِ حتى انتهَوْا إلى شجرةِ الزَّقُّومِ آخرَ يومٍ مِن الأيامِ المعدودةِ، [وهى الأربعون سنةً، فلما أكلوا من شجرةِ الزَّقُّومِ وملئوا منها البطونَ آخِرَ يومٍ من الأيامِ المعدودةِ]

(2)

، قال لهم خُزَّانُ سَقَرَ: زعمتُم أنكم لن تَمَسَّكم النارُ إلَّا أيامًا معدودةً، فقد خلا العددُ وأنتم في الأَبَدِ، فأخذ بهم في الصَّعودِ في جهنَّم يُرْهَقون

(3)

.

حدَّثنى محمدُ بن سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} : [فإنَّهم اليهودُ قالوا: لن تمسنا النار](2) إلَّا أربعين ليلةً

(4)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا حَفْصُ بنُ عمرَ، عن الحَكَمِ بنِ أَبانٍ، عن عكرمةَ، قال: خاصَمَت اليهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن نَدْخُلَ النارَ إلَّا أربعين ليلةً، وسَيَخْلُفُنا فيها قومٌ آخَرون -يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه- فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدِه على رءوسِهم: "بل أنْتُمْ فيها خالدونَ، لا يَخْلُفُكم إليها

(5)

أَحَدٌ". فأنزَل اللهُ جلَّ ثناؤه: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(6)

الآية.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"انتهى".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في ت 2، ت 3:"يزهقون".

والأثر ذكره ابن رجب في التخويف من النار ص 81 عن العوفى عن ابن عباس وعزاه إلى المصنف، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 156 (817)، والواحدى في أسباب النزول ص 17 من طريق الضحاك، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 84 إلى ابن المنذر.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 169.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيها".

(6)

إسناده ضعيف مرسل. أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 156 (815) من طريق حفص به، والأثر=

ص: 173

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا حَجَّاجٌ، عن ابنِ جرَيْجٍ، قال: أخبَرني الحَكَمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ، قال: اجتمعَتْ يهودُ يومًا تُخاصِمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(1)

؛ أربعين يومًا ثم يَخْلُفُنا أو يَلْحَقُنا فيها أُناسٌ. فأشاروا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فقال النبيُّ: "كَذَبْتم بل أنتم فيها خالِدُونَ مُخَلَّدُونَ، لا نَلْحَقُكم أو

(2)

نَخْلُفُكم فيها إن شاء اللهُ أبَدًا".

حدَّثنى يونسُ بن عبدِ الأعلى، قال: حدثنا علىُّ بنُ مَعْبَدٍ، عن أبى معاويةَ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قوله:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قال: قالت اليهودُ: لا نُعَذَّبُ في النارِ يومَ القيامةِ إلَّا أربعين يومًا مِقْدَارَ ما عبَدنا العِجْلَ.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: حدَّثنى أبى، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"أَنْشُدُكم باللهِ وبَالتَّوْرَاةِ التى أنْزَلهَا اللهُ على مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْناءَ، مَن أهْلُ النَّارِ الذين أنْزَلَهمُ اللهُ فى التّوْراةِ؟ " قالوا: إن ربَّهم غضِب عليهم غَضْبَةً، فَنَمْكُثُ في النارِ أربعين ليلةً، ثم نَخْرُجُ فتَخْلُفوننا فيها. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كَذَبْتم واللهِ لا نَخْلُفُكم فيها أبَدًا". فنزَل القرآنُ تصديقًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتكذيبًا لهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} . إلى قولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(3)

.

= عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 84 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سموا".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولا".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 84 إلى المصنف.

ص: 174

وقال آخَرون في ذلك بما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيْرٍ، قال: ثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت يهودُ يقولون: إنما هذه

(1)

الدنيا سبعةُ آلافِ سنةٍ، وإنما يُعَذَّبُ الناسُ يومَ القيامةِ بِكُلِّ أَلفِ سَنَةٍ من أيامِ الدنيا يومًا واحدًا مِن أيامِ الآخرةِ، [وإنما هى]

(2)

سبعةُ أيامٍ. فأنزَل اللهُ في ذلك من قولِهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قدِم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ ويهودُ تقولُ: إنما مدَّةُ الدنيا سبعة آلافِ سنةٍ، وإنما يُعَذَّبُ الناسُ في النارِ بكلِّ ألفِ سنةٍ مِن أيامِ الدنيا يومًا واحدًا في النارِ من أيامِ الآخرةِ، فإنَّما هى سَبْعةُ أيَّامٍ، ثم يَنْقَطِعُ العذابُ. فأنزَلَ اللهُ عز وجل في ذلك مِن قولِهم:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية

(3)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قال: كانت تقولُ: إنما الدنيا سبعةُ آلافِ سنةٍ، فإنما نُعَذَّبُ مكانَ كلِّ ألفِ سنةٍ يومًا

(4)

.

(1)

في م: "مدة".

(2)

في م:"وإنها".

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 538، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 155 (813) من طريق سلمة به. وأخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 17 من طريق ابن إسحاق به بدون ذكر سعيد.

وأخرجه الطبرانى في الكبير (11160) من طريق ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن سيف بن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس.

وسنده ضعيف جدا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 84 إلى ابن المنذر.

(4)

تفسير مجاهد ص 208، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 84 إلى عبد بن حميد.

ص: 175

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلَّا أنه قال: كانت اليهودُ تقولُ: إنما الدنيا. وسائرُ الحديثِ مثلُه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال مجاهدٌ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} : مِن الدهرِ. وسَمَّوْا عدةَ سبعةِ آلافِ سنةٍ، من كلِّ ألفِ سنةٍ يومًا. يهودُ تقولُه.

‌القولُ في تأويلِ قولهِ جلَّ ثناؤُه: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} .

ولمَّا قالت اليهودُ ما قالتْ مِن قولِها: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} . على ما قد بَيَّنَّا مِن تأويلِ ذلك، قال اللهُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لمعشرِ اليهودِ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} [بما تَقُولُون من أنّ النارَ لن تمسَّنا إلا أيامًا معدودةً، فلن يُخلفَ اللهُ عهدَه. ويعنى بقولِه: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا}]

(1)

: أخَذتُم بما تقولون مِن ذلك مِن اللهِ ميثاقًا، فاللهُ لا يَنْقُضُ ميثاقَه، ولا يُبَدِّلُ وَعْده وَعَقْدَه، أم تَقُولون عَلَى اللهِ الباطِلَ جَهْلًا وجُرْأةً عليه؟

كما حدثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، وحدثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال، ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} . أى: موثقًا من اللهِ بذلك أنه كما تقولون

(2)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن قتادةَ، قال: قالت

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2.

(2)

تفسير مجاهد ص 208، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 (819)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى عبد بن حميد.

ص: 176

اليهودُ: لن نَدْخُلَ النارَ إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ عددَ الأيامِ التى عبَدنا فيها العِجْلَ. فقال اللهُ: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} بهذا الذى تقولون، أَلَكُم بهذا حجةٌ وبرهانٌ، {فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ} ، فهاتُوا حجَّتَكم وبرهانَكم، {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما قالت اليهودُ ما قالت، قال اللهُ جلَّ ثناؤه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} . يقولُ: أَدَّخَرْتُم {عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} . يقولُ: أقلتُم: لا إلهَ إلا اللهُ. لم تُشْرِكوا، ولم تَكْفُروا به، فإن كُنتُم قُلْتُموها فارْجُوا بها، وإن كنتم لم تقولوها فَلِمَ تقولون على اللهِ ما لا تعلمون؟ يقولُ: لو كنتم قلتُم: لا إلهَ إلا اللهُ. ولم تُشْرِكوا به شيئًا، ثم مُتُّمْ على ذلك لكان لكم ذُخْرًا عندى، ولم أُخْلِفْ وعْدى لكم أنى أُجازِيكم بها

(2)

.

حدثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: لما قالت اليهودُ ما قالتْ، قال اللهُ عز وجل:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ} . وقال في مكانٍ آخرَ: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24]. ثم أخبرَ الخبرَ فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} .

وهذه الأقوالُ التى رَوَيْناها عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ وقتادةَ، بنحوِ معنى ما قلنا في تأويلِ قولِه:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} ؛ لأن مما أعطى اللهُ عبادَه مِن ميثاقِه أن مَن آمن به وأطاع أمْرَه نجَّاه مِن نارِه يومَ القيامةِ، ومِن الإيمانِ به الإقرارُ بأن لا إلهَ إلا

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 (818) من طريق آدم به، وتقدم مختصرًا في ص 172.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى المصنف.

ص: 177

اللهُ،، كذلك من ميثاقِه الذى واثَقَهم به، أن مَن أتاه يومَ القيامةِ بحجَّةٍ تكون له نجاةً مِن النارِ [أن يُنْجيَه]

(1)

منها، فكلُّ ذلك وإن اخْتَلَفَت ألفاظُ قائليه، فمتَّفِقُ المعانى على ما قُلنا فيه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} .

وقولُه جلّ ثناؤُه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} تكذيبٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه القائلين من اليهودِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ، وإخْبارٌ منه لهم أنه مُعَذِّبٌ

(2)

مَن أشرَك وكفَر به وبرسُلِه، وأحاطتْ به ذنوبُه فمخلِّدُه

(3)

في النارِ، وأنَّ الجنةَ لا يَسْكُنُها إلا أهلُ الإيمانِ به وبرسلِه، وأهلُ الطاعةِ له، والقائمون بحُدودِه.

كما حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ بنُ الفضْلِ، قال: حدثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . أى: من عمِل مثلَ أعمالِكم وكفَر بمثْلِ ما كفَرتُم به حتى يُحِيطَ كفرُه بما لَه مِن حسنةٍ، {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(4)

.

(1)

فى م: "فينجيه".

(2)

فى م: "يعذب".

(3)

فى م، ت 2:"فمخلد".

(4)

سيرة ابن هشام 1/ 539، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157، 158، 159 (822، 826، 830، 832) من طريق سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى ابن المنذر، وسيأتى أتم من هذا فى ص 187.

ص: 178

وأما {بَلَى} فإنها إقرارٌ في كلِّ كلامٍ في أولِه جَحْدٌ، كما "نَعَمْ" إقرارٌ في الاستفهامِ الذى لا جَحْدَ فيه. وأصلُها "بَلْ" التى هى رجوعٌ عن الجَحْدِ المحْضِ في قولِك: ما قام عمْرٌو، بل زيدٌ. فزِيدَتْ فيها الياءُ

(1)

لِيَصْلُحَ عليها الوقوفُ، إذ كانت

(2)

عطفًا ورُجوعًا عن الجَحْدِ، ولتكونَ -أعنى "بَلَى"

(3)

- رُجوعًا عن الجحْدِ فقطْ، وإقرارًا بالفعْلِ الذى بعدَ الجحْدِ، فدلَّت الياءُ منها على معنى الإقرارِ والأنعامِ

(4)

، ودَلَّ لفظُ "بلْ" على الرجوعِ عن الجحدِ.

وأمَّا السيئةُ التى ذكَرها اللهُ في هذا المكانِ فإنها الشِّرْكُ باللهِ.

كما حدَّثنى محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يَحْيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، قال: حدثنى عاصِمٌ، عن أبى وائلٍ:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} . قال: الشركُ

(5)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} : شركًا

(6)

.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} . قال: أما السيئةُ فالشركُ

(6)

.

(1)

يعنى الألف المقصورة أو اللينة؛ حيث إنها ترسم ياءً.

(2)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بل لا يصلح عليها الوقوف، إذ كانت".

(3)

في الأصل: "بَلْ".

(4)

هو التصديق والإقرار، من قول القائل: نعم. إذا أقر ما سمع.

(5)

بعده في م: "بالله".

والأثر ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 عقب الأثر (823) عن أبى وائل معلقًا.

(6)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 عقب الأثر (823) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى عبد بن حميد.

ص: 179

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معْمرٌ، عن قتادةَ مثلَه

(1)

.

حدثنى موسى، قال: ثنا عمْرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} . قال: أمَّا السيئةُ فهى الذنوبُ التى وعَد اللهُ عليها النارَ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ، قال: الشركُ

(3)

.

قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال مجاهدٌ: {سَيِّئَةً} : شركًا.

حُدِّثْث عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} : يعنى الشركَ

(4)

.

وإنما قلنا: إن السيئةَ التى ذكَرَها اللهُ عز وجل أن من كسَبها وأحاطتْ به ذُنوبُه

(5)

، فهو مِن أهلِ النار -في هذا الموضعِ- المخلَّدِينَ فيها، إنما عنَى جلّ ذكرُه بها بعضَ السيئاتِ دونَ بعضٍ، وإن كان ظاهرُها في التلاوةٍ عامًّا؛ أَنَّ

(6)

اللهَ قضَى على أهلِها بالخُلودِ في النارِ. والخلودُ في النارِ لأهلِ الكفرِ باللهِ دونَ أهلِ الإيمانِ به؛ لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن أهلَ الإيمانِ لا يُخَلَّدُون فيها، وأن الخُلودَ في النارِ لأهلِ الكفرِ باللهِ دونَ أهلِ الإيمانِ به.

وبعدُ، فإن اللهَ جلّ ثناؤه قد قرَن بقولِه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 51.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 158 عقب الأثر (824) من طريق عمرو به.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 عقب الأثر (823) معلقًا. وسيأتى مطولًا في ص 185.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 157 عقب الأثر (823) عن طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

في م: "خطيئته".

(6)

فى م، ت 2:"لأن".

ص: 180

بِهِ خَطِيئَتُهُ

(1)

فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قولَه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فكان معلومًا بذلك أن الَّذين لهم الخلودُ في النارِ مِن أهلِ السيئاتِ، غيرُ الذين لهم الخلودُ في الجَنَّةِ مِن أهلِ الإيمانِ.

فإن ظنَّ ظانٌّ أن الذين لهم الخلودُ في الجَنَّةِ مِن الذين آمنوا هم الذين عَمِلوا الصالحاتِ دونَ الذين عَمِلوا السيئاتِ، فإن في إخْبارِ اللهِ تعالى ذكرُه بأنَّه مُكفِّرٌ -باجتنابِنا كبائرَ ما نُنْهى عنه- سيئاتِنا، ومُدْخِلُنا المُدْخلَ الكريمَ، ما يُنْبِئُ عن صِحَّةِ ما قلنا في تأويلِ قولِه:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} . وأن ذلك على خاصٍّ من السيئاتِ دون عامِّها.

فإن قال لنا قائلٌ: فإن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما ضمِن لنا تكفيرَ سيئاتِنا باجتنابِنا كبائرَ ما نُنْهَى عنه، فما الدلالةُ على أن الكبائرَ غيرُ داخلةٍ في قولِه:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ؟

قيل: لمَّا صحَّ مِن أن الصغائرَ غيرُ داخلةٍ فيه، وأن المَعْنىَّ بالآيةِ خاصٌّ دونَ عامٍّ، ثبَت وصحَّ أن القضاءَ والحُكْمَ بها غيرُ جائزٍ لأحدٍ على أحدٍ إلَّا على من وَقَفَه

(2)

اللهُ عليه بدَلالَةٍ مِن خبرٍ قاطعٍ عُذْرَ مَن بلَغه، وقد ثبَت وصحَّ أن اللهَ جلَّ ثناؤُه قد عنَى بذلك أهلَ الشركِ والكفرِ به بشهادةِ جميع الأمةِ، فوجب بذلك القضاءُ على أن أهلَ الشركِ والكفرِ ممَّن عنَاه اللهُ بالآيةِ، فأمَّا أهل الكبائرِ فإن الأخبارَ القاطعةَ عُذْرَ مَن بلَغتْه قد تظاهرتْ عندَنا بأنهم غيرُ مَعْنيِّينَ بها، ومَنْ أنكر ذلك ممَّن دافَع حُجَّةَ الأخبارِ المُسْتَفِيضةِ والأنباءِ المتَظاهِرةِ، فاللازِمُ له تَرْكُ قَطْعِ الشهادة على أهلِ الكبائرِ بالخُلودِ في النارِ بهذه الآيةِ ونظائرِها التى جاءتْ بعُمومِهِم في الوعيدِ؛ إذ كان تأويلُ القرآنِ غيرَ مُدْرَكٍ إلَّا ببيانِ مَن جعَل اللهُ إليه بيانَ القرآنِ، وكانت الآيةُ فيها تأتى

(1)

في الأصل: "خطيئاته". وهى قراءة نافع، وقرأ الباقون بالإفراد. السبعة لابن مجاهد ص 162.

(2)

فى الأصل: "وقف".

ص: 181

عامًّا في صِنْفٍ ظاهرُها، وهى خاصٌّ في ذلك الصنفِ باطنُها.

ويُسْألُ مدافِعو هذا الخبرِ بأن أهلَ الكبائرِ مِن أهلِ الاستثناءِ سؤالَنا مُنْكِرِى

(1)

رجمِ الزانى المحصَنِ، وزوالِ فرض الصلاةِ عن الحائضِ في حالِ الحيضِ، فإن السؤالَ عليهم نظيرُ السؤالِ على أُولاءِ

(2)

سواءً.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} .

يعنى بقولِه عز وجل: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : اجْتَمَعتْ عليه فمات عليها قبلَ الإنابةِ والتوبةِ منها. وأصلُ الإحاطةِ بالشئِ الإحداقُ به، بمنزلةِ الحائطِ الذى تُحاط به الدارُ فتُحْدِقُ به، ومنه قولُ اللهِ جلَّ ثناؤُه:{نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29].

فتأويلُ الآيةِ إذن: مَن أشرَكَ باللهِ واقتَرف ذنوبًا جَمَّةً فمات عليها قبلَ الإنابةِ والتوبةِ، فأولئك أصحابُ النارِ هم مُخَلَّدون فيها أبدًا.

وبنحوِ الذى قلنا في تأويلِ ذلك قاله المُتَأَوِّلون.

ذكرُ مَن قال ذلك منهم

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ يمَانٍ، عن سفيانَ، في الأعْمَشِ، [عن أبى رَزِينٍ]

(3)

: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: مات بذَنْبِه

(4)

.

[حَدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حَدَّثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: حَدَّثنا الأعمشُ، عن أبى رَزِينٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}. قال: مات بذنبِه]

(5)

.

(1)

في م: "منكر".

(2)

في م: "هؤلاء".

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"عن أبى روق"، وفى م:"عن أبى روق، عن الضحاك".

(4)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 158 عقب الأثر (828) معلقًا.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 182

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن أبى رَزينٍ، عن الرَّبيعِ بنِ خُثَيْمٍ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: فمات عليها

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسْحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: يُحِيطُ كفْرُه بما لَه مِن حسنةٍ

(2)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: [[ما وعَد اللهُ عليه النارَ

(3)

.

حدَّثنا المثنى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال]

(4)

: ما أَوْجَب اللهُ فيه النارَ.

حدَّثنا بشرٌ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال]

(5)

: أمَّا الخطيئةُ فالكبيرةُ المُوجِبةُ

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبى شيبة 13/ 397، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 158 (828) من طريق الأعمش به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 158 (826) من طريق سلمة به. وينظر ص 178.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 159 عقب الأثر (829) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى عبد بن حميد، وهو في تفسير مجاهد ص 208 بلفظ: الخطيئة يعنى ما يعذب الله عليها.

(4)

سقط من: م، ت 3.

(5)

سقط من: ت 1، ت 2.

(6)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 159 عقب الأثر (829) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى عبد بن حميد.

ص: 183

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، [قال: أخبرَنا معمرٌ]

(1)

، عن قتادةَ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: الخطيئةُ الكبائرُ

(2)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا وكيعٌ ويحيى بنُ آدَمَ، عن سَلَّامِ بنِ مِسْكِينٍ، قال: سأل رَجلٌ الحسَنَ عن قولِه: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . فقال: ما نَدْرِى ما الخطيئةُ يا بُنَىَّ، اتْلُ القرآنَ، فكلُّ آيةٍ وعَد اللهُ عليها النارَ فهى الخطيئةُ

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوَازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزبَيْرىُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: كلُّ ذنبٍ مُحِيطٍ فهو ما أوْعَد

(4)

اللهُ عليه النارَ

(5)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن أبى رَزِينٍ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: مات بخطيئتِه.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا الأعمشُ، قال: ثنا مسعودٌ أبو رَزِينٍ، عن الربيعِ بنِ خُثَيْمٍ

(6)

فى قولِه: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: هو الذى

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 51.

(3)

فى الأصل: "المحيطة".

(4)

فى م، ت 1، ت 2:"وعد".

(5)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 159 عقب الأثر (829) معلقًا، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 85 إلى وكيع.

(6)

فى م: "خيثم".

ص: 184

يموتُ على خطيئتِه قبلَ أن يتوبَ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: قال وكيعٌ: سمِعْتُ الأعمشَ يقولُ فى قولِه: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : مات بذُنُوبِه

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عَمَّارٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعْفَرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : الكبيرةُ المُوجبةُ

(2)

.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمْرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : فمات ولم يَتُبْ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجّاجٌ

(4)

، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} . قال: الشركُ. ثم تلا: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90].

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جَلَّ ثناؤُه: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} .

يعنى تعالى ذكرُه: فأولئك الذين كسَبُوا السّيئاتِ وأحاطَت بهم خَطِيئَاتُهم أصحابُ النارِ

(5)

.

(1)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 158 عقب الأثر (828) معلقًا، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 85 إلى وكيع.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 159 عقب الأثر (829) من طريق ابن أبى جعفر به.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 158 عقب الأثر (828) من طريق عمرو به.

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"حسان".

(5)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"هم فيها خالدون".

ص: 185

ويعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {أَصْحَابُ النَّارِ} : أهلُ النارِ. وإنما جعَلهم لها أصحابًا؛ لإيثارِهم -كان فى حياتِهم الدنيا- مِن الأعمالِ ما يُورِدُهُموها، ويُصْلِيهم

(1)

سعيرَها، على الأعمالِ التى تُورِدُهم الجنةَ، فجعَلهم جلَّ ذكرُه بإيثارِهم أسبابَها على أسبابِ الجنةِ لها أصحابًا، كصاحبِ الرجلِ الذى يَصْحَبُه، مُؤْثِرًا صُحْبَتَه على صحبةِ غيرِه حتى يُعْرَفَ به.

{هُمْ فِيهَا} . يعنى: هم فى النارِ خالدون. ويعنى بقوله: {خَالِدُونَ} : مقيمون أبدًا

(2)

.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال:[حدثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال]

(3)

: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . أى: خالدون أبدًا

(4)

.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمْرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّىِّ:{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : لا يَخْرُجون منها أبدًا

(5)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} . أى: صدَّقوا بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم. ويعنى بقولِه: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أطاعوا اللهَ فأقامُوا حدودَه،

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يوردهم".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

سيرة ابن هشام 1/ 531، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 159 (830) من طريق سلمة به. وينظر ص 178.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 159 عقب الأثر (830) من طريق عمرو به.

ص: 186

وأدَّوْا فرائضَه، واجْتَنَبوا محارمَه. ويعنى بقولِه:{أُولَئِكَ} الذين هم كذلك، {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. يعنى: أهلُها الذين هم أهلُها، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} مقيمون أبدًا.

وإنما هذه الآيةُ والتى قبلَها إخبارٌ مِن اللهِ عبادَه عن بقاءِ النارِ وبقاءِ أهلِها فيها، [وبقاءِ الجَنَّةِ وبقاءِ أهلِها فيها]

(1)

، ودوامِ ما أَعَدَّ [اللهُ عز وجل]

(1)

فى كلِّ واحدةٍ منهما لأهلِها، تكذيبًا مِن اللهِ القائلين مِن يهودِ بنى إسرائيلَ أن النارَ لن تَمَسَّهم إلَّا أيامًا معدودةً، وأنَّهم صائرون بعدَ ذلك إلى الجَنَّةِ. فأخبرَهم بخلودِ كُفَّارِهم فى النارِ وخلودِ مؤمنيهم فى الجَنَّةِ.

كما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . أى: مَن آمَن بما كفَرتم به وعمِل بما تركتُم مِن دينِه، فلهم الجنةُ خالدين فيها، يُخْبِرُهم أن الثوابَ بالخيرِ والشرِّ مقيمٌ على أهلِه أبدًا، لا انقطاعَ له أبدًا

(2)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : محمدٌ عليه السلام وأصحابُه، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} .

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 539، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 159 (832) من طريق سلمة به. وتقدم أوله فى ص 178.

ص: 187

قد دلَّلْنا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا على أن الميثاقَ "مِفْعَالٌ"، مِن التوَثُّقِ باليمينِ ونحوِها مِن الأمورِ التى تُؤكدُ القولَ

(1)

.

فمعنى الكلامِ إذن: واذكُرُوا أيضًا يا معشرَ بنى إسرائيلَ إذ أخذْنا ميثاقَكم لا تعبُدون إلَّا اللهَ.

كما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباس:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} . أى: ميثاقَكم {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ}

(2)

.

والقَرَأَةُ مختلِفةٌ فى قراءةِ قولِه: {لَا تَعْبُدُونَ} ؛ فبعضُهم يَقْرَؤُها بالتاءِ، وبعضُهم يَقْرَؤُها بالياءِ

(3)

، والمعنى فى ذلك واحدٌ، وإنما جازت القراءةُ بالياءِ والتاءِ، وأن يُقالَ:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} ، و (لا يَعْبُدون). وهم غَيَبٌ

(4)

؛ لأن أخْذَ الميثاقِ بمعنى الاستحلافِ. فكما تقولُ: استَحْلَفْتُ أخاكَ لَيَقومَنَّ. فَتُخْبِرُ عنه خَبَرَكَ عن الغائبِ لغَيبتهِ عنك، وتقولُ: اسْتَحْلفتُه لَتَقُومَنَّ. فَتُخْبِرُ عنه خبرَكَ عن المخاطَبِ؛ لأنك قد كنتَ خاطبتَه بذلك، فيكونُ ذلك صحيحًا جائزًا. فكذلك قولُه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ} . و (لا يَعْبُدون). مَن قرَأ ذلك بالتاءِ، فبمعنى

(5)

الخطابِ، إذ كان الخطابُ قد كان بذلك، ومَن قرَأ بالياءِ فلأنهم [كانوا غيرَ]

(6)

مخاطَبين بذلك فى وقتِ الخبرِ عنهم.

(1)

ينظر ما تقدم فى 1/ 439، 2/ 46.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 159 (833) من طريق سلمة به.

(3)

قرأ بالتاء نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر، وقرأ بالياء ابن كثير وحمزة والكسائى. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 162.

(4)

ضبطها فى الأصل بفتح الياء، اسم جمع، ويجمع أيضا "غُيَّب وغُيَّاب". ينظر التاج (غ ى ب).

(5)

فى م: "فمعنى".

(6)

فى م: "ما كانوا"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"كانوا".

ص: 188

وأمَّا رفعُ (لا يَعبدون

(1)

). فبالياءِ

(2)

التى فى (يَعبدون (1)). [ولم تُنْصَبْ]

(3)

بـ "أن" التى كانت تَصْلُحُ أن تَدْخُلَ معَ: (لا يَعبدُونَ (1) إلَّا اللهَ). لأنها إذا صَلحَ دخولُها على فعْلٍ فحُذِفت ولم تَدْخُلْ، كان وجهُ الكلامِ فيه الرفعَ؛ كما قال جلَّ ثناؤُه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي

(4)

أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]. فرُفِع {أَعْبُدُ} -إذ لم تَدْخُلْ فيها "أن"- بالألِفِ الدَّالَّةِ على مَعْنى الاستِقْبالِ، وكما قال الشاعرُ

(5)

:

أَلا أَيُّهذا الزَّاجِرِى أَحْضُرُ الوَغَى

وأنْ أَشْهَدَ اللَّذاتِ هل أنتَ مُخْلِدِى

فرفَع "أَحْضُرُ" -وإن كان يصلُح دخولُ "أَنْ" فيها، إذ حُذِفت- بالألفِ التى تأتى بمعنى الاستقبالِ.

وإنما صلَح حذْفُ "أن" مِن قولِه: (وإذ أخَذْنا ميثاقَ بنى إسرائيلَ لا يعْبدُونَ). لدلالةِ ما ظهَر مِن الكلامِ عليها، فاكْتُفِى بدلالةِ الظاهرِ عليها منها.

وقد كان بعضُ نحْويِّى أهلِ البصرةِ يقولُ: معنى قولِه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} حكايةٌ؛ كأنك قلتَ: استحلفْناهم لا تعبدون. أى: قلنا لهم: واللهِ لا تَعبُدون. أو قالوا: واللهِ لا يَعبُدون.

والذى قال مِن ذلك قريبٌ معناه مِن معنى القولِ الذى قلناه فى ذلك.

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"تعبدون".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فبالتاء".

(3)

فى م: "ولا ينصب".

(4)

فى الأصل: "تأمروننى". وهى قراءة ابن عامر. ينظر حجة القراءات ص 625.

(5)

هو طرفة بن العبد، والبيت فى ديوانه ص 31.

ص: 189

وبنحوِ التأويلِ الذى قُلْنا فى قولِه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} تأوَّلَه أهلُ التأويلِ.

ذكْرُ من تأوَّل ذلك كذلك

حدَّثنى المثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ: أخَذ مواثيقَهم أن يُخْلِصوا له وألا يعبُدوا غيرَه

(1)

.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ فى قولِه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} . قال: أخذْنا ميثاقَهم أن يُخْلِصوا للهِ وألا يعبُدوا غيرَه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} . قال: الميثاقُ الذى أخَذ عليهم فى "المائدةِ"

(2)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} .

وقولُه جلَّ ثناؤُه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . عطفٌ على موضعِ "أن" المحذوفةِ فى {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} . فكأنَّ معنى الكلامِ: وإذ أخَذْنا ميثاقَ بنى إسرائيلَ بأن لا تعبُدوا إلا اللهَ وبالولدين إحسانًا. فرُفِع {لَا تَعْبُدُونَ} لمَّا حُذِفت "أن"، ثم عُطِف {بِالْوَالِدَيْنِ} على موضعِها، كما قال الشاعر

(3)

:

مُعَاوىَ إنَّنا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ

فَلَسْنا بالجبالِ ولا الحَدِيدا

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 160 (834) من طريق آدم به بنحوه.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 160 (835) من طريق ابن ثور، عن ابن جريج.

(3)

قيل: عقيبة بن هبيرة، وقيل: عبد الله بن الزبير الأسدى، وقيل: عمر بن أبى ربيعة. ينظر الأزمنة والأمكنة 2/ 317، والخزانة 2/ 260، وديوان عبد الله بن الزبير (مجموع) ص 145، وتنظر حاشيته.

ص: 190

فنصَب "الحديدَ" على العطفِ به على موضعِ "الجبالِ"؛ لأنها لو لم تكن فيها باءٌ خافضةٌ كانت نصبًا، فعطَف بـ "الحديدِ" على موضعِ

(1)

"الجبالِ" لا على لفظِها، فكذلك ما وصَفتُ مِن قولِه:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} .

وأمَّا "الإحسانُ" فمنصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ يؤدِّى عن

(2)

معناه قولُه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

(3)

. إذ كان مفهومًا معناه، فكأنَّ معنى الكلامِ لو أُظْهِر المحذوفُ: وإذ أخَذْنا ميثاقَ بني إسرائيلَ بأن لا تعبُدوا إلَّا اللهَ، وبأن تُحْسِنوا إلى الوالدينِ إِحْسانًا. فاكْتُفِى بقَولِه:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} من أن يقالَ: وبأن تُحْسِنُوا إلى الوالِدَيْن إحْسَانًا؛ إذ كان مفهومًا أن ذلك معناه بما ظهَر مِن الكلامِ.

وقد زعم بعضُ أهلِ العربيةِ في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسِنوا إحسانًا. فجعَل الباءَ التى في "الوالِدَين" من صلةِ "الإحسانِ" مقدَّمةً عَليه.

وقال آخَرون: بل معنى ذلك: ألا تعبُدوا إلَّا اللهَ، وأحْسِنوا بالوالدينِ إحسانًا. فزعَموا أن الباءَ التى في "الوالدينِ" مِن صلةِ المحذوفِ، أعنى مِن (2)"أَحْسِنوا"، فجعَلوا ذلك مِن كلامينِ. وإنما يُصْرَفُ الكلامُ إلى ما ادَّعَوْا مِن ذلك إذا لم يُوجَدْ لاتِّساقِ الكلامِ على كلامٍ واحدٍ وجْهٌ. فأمَّا وللكلامِ وجْهٌ مفهومٌ على اتِّساقٍ

(4)

على كلامٍ واحدٍ، فلا وجهَ لصرفِه إلى كلامينِ. وأَحْرَى

(5)

أن القولَ فى ذلك لو كان على ما قالوا لقيل: وإلى الوالدَيْن إِحسانًا. لأنه إنما يقالُ: أحسَنَ فلانٌ إلى والديْه. ولا يقالُ:

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"معنى".

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "اتساقه".

(5)

في م: "أخرى".

ص: 191

أحسَن بوالديه. إلا على استكراهٍ للكلامِ، ولكنِ القولُ فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذْنا ميثاقَ بني إسرائيلَ بكذا وبالوالدينِ إحسانًا. على ما بيَّنَّا قبلُ، فيكونُ "الإحسانُ" حينَئذٍ مصدرًا مِن معنى

(1)

الكلام لا مِن لفظِه، كما قد بَيَّنَّا فيما مضَى مِن نظائره

(2)

.

فإن قال قائلٌ: وما ذلك الإحسانُ الذى أخَذ عليهم بالوالدين الميثاقَ؟

قيل: نظيرُ ما فرَض اللهُ على أُمَّتِنا لهما مِن فعْلِ المعروفِ بهما، والقولِ الجميلِ، وخفْضِ جَناحِ الذُّلِّ رحمةً بهما، والتَّحَنُّنِ عليهما، والرأفةِ بهما، والدعاءِ بالخيرِ لهما، وما أشبهَ ذلك مِن الأفعالِ التى ندَبَ اللهُ جلَّ وعزَّ عبادَه أن يفعَلوا بهما.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ تناؤُه: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَذِي الْقُرْبَى} : وبذى القُربى أن يصلُوا قرابتَه منهم ورحمَه.

والقُرْبَى" مصدرٌ على تقديرِ "فُعْلَى"، من قولِك: قرُبتْ منِّى رَحمُ فلانٍ قرابةً وقُرْبى [وقُربةً]

(3)

وقُرْبًا. بمعنًى واحدٍ.

وأمَّا "اليتامى" فهو جمعُ يتيمٍ، مثلُ أسيرٍ وأَسارى، ويَدْخُلُ في اليتامى الذكورُ منهم وإلإناثُ.

فمَعنى ذلك: وإذ أخذْنا ميثاقَ بني إسرائيلَ بأن لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وحدَه دونَ مَا

(4)

سواه مِن الأندادِ، وبالوالدين إحسانًا، وبذى القُرْبَى، أن تَصِلوا رَحمَه، وتَعْرِفُوا حَقَّه، وباليتامى، أن تتَعَطَّفوا عليهم بالرحمةِ والرأفةِ، وبالمساكينِ؛ أن

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 137.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".

ص: 192

تُؤْتُوهم حقوقَهم التى ألزمَها اللهُ عز وجل أموالَكم.

و"المسكينُ" هو المُتَخَشِّعُ المُتَذَلِّلُ مِن الفاقةِ والحاجةِ، وهو "مِفْعِيلٌ" مِن المَسْكَنَةِ، والمسكنةُ هى ذُلُّ الحاجةِ والفاقةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} .

إن قال لنا قائلٌ: كَيف قيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . فأُخْرِج الكلامُ أمرًا ولمَّا يَتَقَدَّمْه أمرٌ، بل الكلامُ جارٍ مِن أوَّلِ الآيةِ مَجْرَى الخبرِ؟

قيل: إن الكلامَ وإن كان قد جرَى في أولِ الآيةِ مَجْرَى الخبرِ، فإنه مِمَّا يَحْسُنُ في موضعهِ الخطابُ بالأمرِ والنهىِ، فلو كان مكانَ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} ، "لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ". على وجْهِ النهىِ مِن اللهِ لهم عن عبادةِ غيرِه - كان حسنًا صوابًا، وقد ذُكِر أن ذلك كذلك في قراءةِ أُبَىِّ بنِ كعبٍ

(1)

، وإنما حسُن ذلك وجاز لو كان مقروءًا به؛ لأن أخذَ الميثاقِ قولٌ، فكأنَّ

(2)

معنى الكلامِ -لو كان مقروءًا كذلك-: وإذ قلنا لبنى إسرائيلَ: لا تعبُدوا إلا اللهَ. كما قال جلَّ ثناؤُه في موضعٍ آخرَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]. [فتُلُقِّى ذلك بالأمرِ، كما تقولُ: قُلنا لهم: خُذوا ما آتيناكم بقوةٍ]

(3)

. فلما كان حَسَنًا وضعُ الأمرِ والنهىِ في موضعِ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} عطَف بقولِه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} على موضع {تَعْبُدُونَ}

(4)

-وإن كان مخالفًا لفظُ

(5)

كُلِّ واحدٍ منهما ومعناه معنى صاحبِه

(6)

- لما وصَفنا مِن جوازِ وضعِ الخطابِ بالأمرِ والنهىِ موضعَ

(1)

وهى قراءة شاذة، ينظر البحر المحيط 1/ 282.

(2)

في م: "فكان".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لا تعبدون".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما فيه".

ص: 193

{لَا تَعْبُدُونَ} . فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيلَ لا تعبدوا إلا اللهَ، وقولوا للناسِ حسنًا. وهو نظيرُ ما قدَّمنا البيانَ عنه، مِن أن العربَ تَبْتَدِئُ الكلامَ أحيانًا على وجهِ الخبرِ عن الغائبِ في مواضعِ الحكاياتِ عَمّا

(1)

أخْبَرَتْ عنه، ثم تعودُ إلى الخبرِ على وجهِ الخطابِ، وتَبْتَدِئُ أحيانًا على وجهِ الخطابِ، ثم تعودُ إلى الإخبارِ على وجهِ الخبرِ عن الغائبِ، لما في الحكايةِ مِن المَعْنَيَيْنِ، كما قال الشاعرُ

(2)

.

أَسِيئِى بِنا أوْ أَحْسِنِى لا مَلُومَةً

لَدَيْنا وَلَا مَقْلِيةً إنْ تَقَلَّتِ

يعنى: تقلَّيْتِ.

وأمَّا "الحُسْنُ" فإن القَرَأَةَ اخْتَلَفت في قراءتِه، فقرَأتْه عامَّةُ قَرَأَةِ أهلِ الكوفةِ غيرَ عاصمٍ:(وقُولُوا للنّاسِ حَسَنًا) بفتحِ الحاءِ والسينِ

(3)

.

وقرأتْه عامَّةُ قَرَأَةِ أهلِ المدينةِ: {حُسْنًا} بضمِّ الحاءِ وتسكينِ السينِ

(4)

.

وقد رُوِى عن بعضِ القَرَأَةِ أنه كان يقرؤُها: (وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْنَى). على مثالِ "فُعْلَى"

(5)

.

واخْتَلف أهلُ العربيةِ في فرْقِ ما بينَ معنى قولِه: (حَسَنًا)، و {حُسْنًا}؛ فقال بعضُ البصريِّين: هو على أحدِ وجهينِ؛ إمَّا أن يكونَ يُرادُ بـ "الحُسْنِ": "الحَسَنُ"، لكنها

(6)

لغةٌ، كما تقولُ:"البُخْلُ" و"البَخَلُ". وإمَّا أن يكونَ جُعِلَ "الحُسْنُ" هو "الحَسَنَ" في التشبيهِ، وذلك أن الحُسنَ مصدرٌ،

(1)

في م: "كما".

(2)

هو كثير عزة، والبيت في ديوانه (مجموع) ص 101.

(3)

وهى قراءة حمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص 162.

(4)

وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو ونافع وعاصم وابن عامر. السابق.

(5)

وهى قراءة أُبى وطلحة بن مصرف. البحر المحيط 1/ 284، 285. وهى قراءة شاذة.

(6)

في م: "كلاهما"، وفى ت 2:"كلهما"، وفى ت 1، ت 3:"وكلها".

ص: 194

و"الحَسَنَ" هو الشئُ الحَسَنُ، فيكونُ ذلك حينَئذٍ كقولِك: إنما أنت أَكْلٌ وشُرْبٌ. كما

(1)

قال الشاعرُ

(2)

:

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ

(3)

لَهَا بِخَيْلٍ

تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وَجِيعُ

فجعَل التحيةَ ضربًا.

وقال آخَرُ: بل "الحُسْنُ" هو الاسمُ العامُّ الجامعُ جميعَ معانى الحُسْنِ، و"الحَسَنُ" هو البعضُ مِن معانى "الحُسْنِ". قال: وكذلك

(4)

قال جلَّ ثناؤُه إذْ أوصَى بالوالدينِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]. يعنى بذلك أنه وصَّاه فيهما

(5)

بجميعِ معانى "الحُسْنِ"، وأمَره في سائرِ الناسِ ببعضِ الذى أمَره به في والديْه، فقال:(وَقُولُوا للنَّاسِ حَسَنًا). يعنى بذلك بعضَ معانى الحُسْنِ.

والذى قاله هذا القائلُ في معنى "الحُسْنِ" -بضم الحاءِ وسكونِ السين- غيرُ بعيدٍ مِن الصوابِ، وأنه اسمٌ لنوعِه الذى سُمِّى به. وأَمَّا "الحَسَنُ" فهو صفةٌ [ونَعْتٌ]

(6)

لما وُصِف به، وذلك يَقَعُ لخاصٍّ

(7)

. وإذا كان الأمرُ كذلك، فالصوابُ مِن القراءةِ في قولِه:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} : (حَسَنًا)؛ لأن القومَ إنما أُمِروا -في هذا العهدِ الذى قيل لهم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} - باستعمالِ الحَسَنِ من القولِ دونَ سائرِ معانى الحُسْنِ، الذى يكونُ بغيرِ القولِ، وذلك نَعْتٌ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كما".

(2)

هو عمرو بن معديكرب، والبيت في ديوانه المجموع ص 130.

(3)

دلفت: مشيت.

(4)

في م، ت 1، ت 1، ت 3:"لذلك".

(5)

في الأصل، ت 2، ت 3:"فيه".

(6)

في م: "وقعت".

(7)

في م، ت 2، ت 3:"بخاص".

ص: 195

لخاصٍّ مِن معانى الحُسْنِ وهو القولُ، فلذلك اخترتُ قراءتَه بفتحِ الحاءِ والسينِ، على قراءتِه بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ

(1)

.

وأمَّا الذى قرَأ ذلك: (وَقولُوا للنَّاسِ حُسْنَى). فإنه خالَف بقراءتِه إيَّاه كذلك قراءةَ أهلِ الإسلامِ، وكفَى شاهدًا على خطأِ القراءةِ بها كذلك خروجُها مِن قراءةِ أهلِ الإسلامِ لو لم يكنْ على خطئِها شاهدٌ غيرُه. فكيف وهى مع ذلك خارجةٌ مِن المعروفِ مِن كلامِ العربِ، وذلك أن العربَ لا تَكادُ أن تَتَكَلَّمَ بـ "فُعْلَى" و"أفْعَلَ" إلا بالألفِ واللامِ أو بالإضافةِ، لا تقولُ: جاءنى أحسنُ. حتى يَقُولوا: الأحسنُ. ولا: أجملُ. حتى يَقولُوا: الأجملُ. وذلك أن "الأفْعَل" و"الفُعْلَى" لا يَكادان يُوجَدان صفةً إلا لمعْهودٍ معروفٍ، كما تقولُ: بل أخوك الأحسنُ، و: بل أختُك الحُسْنَى. وغيرُ جائزٍ أن يُقالَ: امرأةٌ حُسْنَى، ورجلٌ أحسنُ.

وأمّا تأويلُ القولِ الحَسَنِ الذى أمَر اللهُ به جلَّ ثناؤُه الذين وصَف أمْرَهم مِن بني إسرائيلَ في هذه الآيةِ أن

(2)

يَقُولوه للناسِ، فهو ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أمَرَهم أيضًا بعدَ هذا الخُلُقِ أن يَقُولوا للناسِ حسنًا؛ أن يَأْمُروا بـ "لا إلهَ إلا اللهُ" مَن لم يَقُلْها ورغِب عنها، حتى يَقُولوها كما قالوها، فإن ذلك قُرْبةٌ لهم مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه. [قال: والحسَنُ]

(3)

أيضًا

(4)

ليِّن القولِ، مِن الأدبِ الحسنِ الجميلِ، والخُلُقِ الكريمِ، وهو مما ارْتَضاه اللهُ وأحَبَّه

(5)

.

(1)

القراءات واختياراتها لا تثبت بمثل هذا التعليل وإنما تثبت بالتواتر والنقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لأن".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وقال الحسن".

(4)

بعده في الأصل: "من".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى المصنف نحوه مختصرا، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 161 (846) نحو آخره عن الحسن.

ص: 196

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيع، عن أبى العاليةِ:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . قال: يَقولُ: قولوا للناسِ معروفًا

(1)

.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، في قولِه:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . قال: صِدقًا في شأنِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

حُدِّثْتُ عن يزيدَ بنِ هارونَ، قال: سَمعْتُ سفيانَ الثَّوْرىَّ يقولُ في قولِه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . قال: مُرُوهم بالمعروفِ، وانْهَوْهم عن المُنكرِ

(3)

.

حدَّثنى هارونُ بنُ إدريسَ الأصَمُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المحارِبِىُّ، قال: ثنا عبدُ الملكِ بنُ أبى سُليمانَ، قال: سأَلْتُ عطاءَ بنَ أبى رَباحٍ عن قولِ اللهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . قال: مَن لَقِيتَ مِن الناسِ، فقُلْ له حَسَنًا مِن القولِ. قال: وسأَلْتُ أبا جعفرٍ فقال مثلَ ذلك.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ

(4)

، قال: أخْبَرَنا عبدُ الملكِ، عن أبى جعفرٍ وعطاءِ بنِ أبى رَباحٍ في قولِه:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . قال: للناسِ كلِّهم

(5)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا عبدُ الملكِ، عن عَطاءٍ مثلَه

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 161 (843) من طريق آدم به.

(2)

ذكره ابن الجوزى في ناسخه ص 132 معلقًا.

(3)

ذكره النحاس في ناسخه ص 103 معلقًا.

(4)

في م: "القاسم"، وفى ت 2:"نعيم".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 161 (844)، وابن أبي الدنيا في الصمت (304) من طريق عبد الملك بن سليمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 85 إلى عبد بن حميد.

(6)

أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (308)، وفى مداراة الناس (106) من طريق عبد الملك به.

ص: 197

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : أدُّوها بحدودِها

(1)

الواجبةِ عليكم فيها.

كما حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن بشرِ بنِ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ

(2)

، قال:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : [في هذه الأخلاقِ]

(3)

، وإقامةُ الصلاةِ تمامُ الركوعِ والسجودِ والتِّلاوةِ والخشوعِ، والإقْبالُ عليها فيها

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} .

قد بيَّنَّا فيما مضَى قبلُ معنى الزكاةِ وما أصلُها

(5)

.

وأما الزكاةُ التى كان اللهُ جلَّ ثناؤُه أمَر بها بنى إسرائيلَ الذين ذكَر أمْرَهم في هذه الآيةِ، فهى ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ، عن بشرٍ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} . قال: إيتاءُ الزكاةِ ما كان اللهُ فرَض عليهم في أموالِهم مِن الزكاةِ، وهى سُنَّةٌ كانت لهم غيرُ سُنَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كانت زكاةُ أموالِهم قُربَانًا تَهْبِطُ إليه نارٌ فتَحْمِلُها، فكان ذلك تَقَبُّلَه، ومَن لم تَفْعَلِ النارُ به ذلك كان غيرَ مُتَقَبَّلٍ، وكان الذى قرَّب مِن مَكْسَبٍ لا يَحِلُّ مِن ظُلْمٍ أو غَشْمٍ، أو أخْذٍ بغيرِ ما أمَره اللهُ عز وجل به وبيَّنه له.

(1)

في م: "بحقوقها".

(2)

في م: "مسعود".

(3)

فى م: "هذه"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"في هذه" ثم بياض بمقدار كلمة.

(4)

تقدم تخريجه في 1/ 248.

(5)

ينظر ما تقدم في 1/ 611.

ص: 198

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثنى مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : يعنى بالزكاةِ طاعةَ اللهِ تعالى ذكرُه والإخلاصَ

(1)

.

‌القولُ في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} .

وهذا خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن يهودِ بنى إسرائيلَ، أنهم نكَثوا عهدَه، ونقَضوا مِيثاقَه، بعدَ ما أخَذ مِيثاقَهم على الوفاءِ له بأن لا يَعْبُدوا غيرَه، وبأن يُحْسِنوا إلى الآباءِ والأمهاتِ، ويَصِلوا الأرْحامَ، ويَتَعَطَّفوا على الأيْتامِ، ويُؤَدُّوا حُقوقَ أهلِ المسكَنةِ إليهم، ويَأْمُرُوا عبادَه بما أمَرَهم اللهُ به، ويَحُثُّوهم على طاعتِه، ويُقِيموا الصلاةَ بحُدودِها وفَرائضِها، ويُؤتوا زَكَواتِ أموالِهم، فخالَفوا أمْرَه في ذلك كلِّه، وتوَلَّوْا عنه مُعْرِضِين، إلا مَن عصَم اللهُ منهم، فوَفَى للهِ بعهدِه وميثاقِه.

كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ، عن بشرٍ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا فرَض اللهُ عليهم -يعنى على هؤلاء الذين وصَف اللهُ أمْرَهم في كتابِه مِن بنى إسرائيلَ- هذا الذى ذكَر أنه أخَذ مِيثاقَهم به، أعْرَضوا عنه اسْتِثْقالًا لَه

(2)

وكَراهيةً، وطلَبوا ما خَفّ عليهم، إلا قليلًا منهم، وهم الذين استثْنَى اللهُ تعالى ذكرُه فقال:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} . يقولُ: أعْرَضْتُم عن طاعتى {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} . قال: القَلِيلُ الذين اخْتَرتُهم لطاعتى، وسيَحِلُّ عِقابى بمَن تَوَلَّى وأعْرَض عنها. يقولُ: ترَكها اسْتِخْفافًا بها

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 99 (464) من طريق أبى صالح به.

(2)

سقط من: م.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 86 إلى المصنف.

ص: 199

حدَّثنا ابن حُمَيْدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال:[ثنا ابنُ إسحاقَ، قال]

(1)

: حدَّثنى محمدُ بن أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، أو عكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} : أى: ترَكْتُم ذلك كلَّه

(2)

.

وقال بعضُهم: عنَى اللهُ جلَّ ثناؤه بقولِه: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} اليهودَ الذين كانوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعنَى بسائرِ الآيةِ أسْلافَهم. كأنه ذهَب إلى أن معنى الكلامِ: ثم تولَّيتم إلا قليلًا، منكم، ثم توَلَّى سَلَفكم إلا قليلًا منهم. ولكنه جُعِل خطابًا لبَقايا نَسلِهم -على ما قد ذكَرْناه فيما مضَى قبلُ

(3)

- ثم قال: وأنتم معشرَ بَقاياهم مُعْرِضون أيضًا عن الميثاقِ الذى أخَذْته عليكم بذلك، وتارِكوه تَركَ أَوائلِكم.

وقال آخَرون: بل قولُه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} خطابٌ لمَن كان بين ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من يهودِ بنى إسرائيلَ، وذَمٌّ لهم بنقضِهم الميثاقَ الذى أُخِذ عليهم في التوراةِ وتبديلِهم أمرَ اللهِ وركوبِهم معاصيَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} .

وقولُه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} . في المعنى والإعرابِ نظيرُ قولِه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ} .

(1)

سقط من الأصل.

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 539، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 162 (850) من طريق سلمة به.

(3)

تقدم فى 1/ 642 - 643.

ص: 200

وأمّا سَفْكُ الدمِ، فإنه صَبُّه وإراقتُه.

فإن قال قائلٌ: وما معنى قولِه: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} . وقال: أَوَ كان القومُ يَقْتُلُون أنفسَهم، ويُخْرِجُونَها من ديارِها، فيُنْهَوا عن ذلك؟

قيل: ليس الأمرُ في ذلك على ما ظَنَنْتَ، ولكَن نُهُوا عن أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضًا، فكان في قتلِ الرجلِ منهم الرجلَ منهم قتلُ نفسِه، إذ كانت مِلَّتُهما [واحدةً، ودينُهما واحدًا، وكأنَّ أهلَ الدينِ الواحدِ في ولايةِ بعضِهم بعضًا]

(1)

بمنزلةِ رجلٍ واحدٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنّما المؤمنون في تَراحُمِهم وتَعاطُفِهم بينَهم بمنزلةِ [الجسدِ الواحدِ]

(2)

، إذا اشْتَكَى [منه عُضوٌ]

(3)

تدَاعَى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهَرِ"

(4)

.

وقد يجوزُ أن يكونَ معنى قولِه: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أى: لا يَقْتُلُ الرجلُ منكم [الرجلَ منكم]

(5)

، فَيُقادَ به قِصاصًا، فيكونَ بذلك قاتلًا نفسَه؛ لأنه كان الذى سبَّب لنفسِه ما استحقَّتْ به القتلَ، فأُضِيف إليه بذلك قتلُ ولىِّ المقتولِ إياه قِصاصًا بوليِّه، كما يقالُ للرجلِ يَرْكَبُ فعلًا من الأفعالِ يَستَحِقُّ به العقوبةَ فيعاقَبُ

(6)

: أنت جَنَيْتَ هذا على نفسِك.

وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأْويلِ.

(1)

سقط من: م.

(2)

في ت 2: "رجل واحد".

(3)

في م "بعضه".

(4)

أخرجه البخارى (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير، وقد ذكره المصنف هنا بمعناه.

(5)

سقط من: ت 2.

(6)

بعده في م، ت 1:"العقوبة"، وفى ت 2:"به العقوبة".

ص: 201

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أى: لا يقتلُ بعضُكم بعضًا، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} ونفسُك يا بنَ آدمَ أهلُ مِلَّتِك

(1)

.

حدَّثنى المُثَنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جَعْفَرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} . يقول: لا يقتلُ بَعْضُكم بَعْضًا، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}. يقولُ: لا يُخْرِجُ بعْضُكُم بعضًا من الديارِ

(2)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} . يقولُ: لا يَقْتُلُ بعضُكم بعضًا.

[حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}. يقولُ: لا يقتلُ بعضُكم بعضًا]

(3)

بغيرِ حقٍّ، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} فتَسْفِك يا بنَ آدمَ دماءَ أهلِ ملَّتِك ودعوتِك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} .

يعنى بقولِه جلّ ثناؤه: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} [أى: أقرَرتُم]

(3)

بالميثاقِ الذى أَخَذْنا

(1)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 163 عقب الأثر (852) معلقًا.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 162، 163 (851، 853) من طريق آدم به.

(3)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

ص: 202

عليكم [ألا تَسْفِكُوا]

(1)

دماءَكُم ولا تُخْرِجوا أنفسَكُم مِن ديارِكُم.

كما حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} . يقولُ: أقررْتم بهذا الميثاقِ

(2)

.

حُدِّثْت عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)} .

قال أبو جعفرٍ: اختلَف أهلُ التأويلِ في من خُوطِب بقولِه: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} ؛ فقال بَعْضُهم: ذلك خطابٌ من اللهِ جلّ وعزّ لليهودِ الذين كانوا بين ظهرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيامَ هجرتِه إليه مُؤَنِّبًا لهم على تضييعِهم أحكامَ ما في أيدِيهم مِن التوراةِ التى كانوا يُقِرُّون بحُكْمِها، فقال اللهُ عز وجل لهم:{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} . يعنى بذلك: أقرَّ

(3)

أَوائلُكم وسلفُكم، {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} على إقرارِهم بأخذِ الميثاقِ عليهم بأن لا يَسْفِكوا دماءَهم، ولا يُخْرِجوا أنفسَهم من ديارِهم، [وتُصَدِّقون]

(4)

بأنَّ ذلك حقٌّ مِن ميثاقى عليكم

(5)

. وممن حُكِى هذا القول عنه ابنُ عباسٍ.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ

(1)

في م، ت 2، ت 3:"لا تسفكون".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 163 (855) من طريق آدم به.

(3)

في م: "إقرار".

(4)

في م: "ويصدقون".

(5)

في م: "عليهم".

ص: 203

وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}: علَى أنَّ هذا حقٌّ من ميثاقِى عليكم

(1)

.

وقال آخرون: بل ذلك خَبرٌ من اللهِ جلّ وعزّ عن أوائلِهم، ولكنه تعالى ذكرُه أخرَج الخبرَ بذلك عنهم مُخْرَجَ المخاطبةِ على النحوِ الذى وَصَفْنا في سائرِ الآياتِ التى هى نظائرُها، التى قد بَيَّنّا تأويلَها فيما مضَى

(2)

.

وتأوَّلُوا قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بمعنى: وأنتم شُهودٌ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} يقولُ: وأنتم شهودٌ.

وأولى الأقاويلِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ عندِى أن يكونَ {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} خبرًا عن أسلافِهم، وداخلًا فيه المخاطَبون به

(3)

الذين أَدْرَكُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما كان قولُه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} خبرًا عن أسلافِهم وإن

(4)

كان خطابًا للذين أَدْرَكُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللهَ عزّ ذكرُه أخَذ ميثاقَ الذين كانوا على عهدِ موسى عليه السلام من بنى إسرائيلَ على سبيلِ ما قد بَيّنه لنا في كِتابِه، فأَلْزَمَ جَميعَ مَن بعدَهم مِن ذُرِّيَّتِهِم مِن حُكْمِ التوراةِ مثلَ الذى أَلْزَم منه مَن كان على عهدِ موسى عليه السلام منهم، ثم أَنَّب الذين خاطبَهم بهذه الآياتِ على نقضِهم ونقضِ سلفِهم ذلك الميثاقَ، وتبديلهم

(5)

ما وَكَّدوا على أنفسِهم له بالوفاءِ من العهودِ بقولِه:

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 540، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 163 (854) من طريق سلمة به.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 642، 643.

(3)

في م: "منهم".

(4)

في م: "بأن".

(5)

في م، ت 2:"تكذيبهم".

ص: 204

{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} وإن كان خارجًا على وجهِ الخطابِ للذين كانوا على عهدِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم منهم، فإنَّه معنيٌّ به كلُّ مَن أقَرّ

(1)

بالميثاقِ منهم على عهدِ موسى عليه السلام ومَن بعدَه، وكلُّ مَن شَهِد منهم بتصديقِ ما في التوراةِ، لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه لَمْ يَخْصُصْ بقولِه:{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} وما أشبهَ ذلك من الآىِ بعضَهم دون بعضٍ، والآيةُ محتمِلةٌ أن يكونَ أُرِيدَ بها جميعُهم، فإذ كان ذلك كذلك، فليس لأحدٍ أن يَدَّعِىَ أنه أريدَ بها بعضٌ منهم دونَ بعضٍ، وكذلك حكمُ الآيةِ التى بعدَها، أعنِى قولَه:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية؛ لأنه قد ذُكِر أن أوائلَهم قد كانوا يفعلُون من ذلك ما كان يفعلُه أواخرُهم الذين أدركوا عصرَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

وَيَتَّجِهُ قولُه جلّ ثناؤه: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} وجهين؛ أحدُهما، أن يكونَ أُريدَ به: ثم أنتم يا هؤلاء. فترَك "يا" استغناءً بدَلالةِ الكلامِ عليه، كما قال جلّ ثناؤه:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. وتأويلُه: يا يوسفُ أَعْرِضْ عن هذا. فيكونُ معنى الكلامِ حينئذٍ: ثم أنتم

(2)

يا معشرَ يهودِ بنى إسرائيلَ، بعد إقرارِكم بالميثاقِ الذى أخذْتُه عليكم [ألا تَسْفِكوا]

(3)

دماءَكم، ولا تُخْرِجوا

(4)

أنفسَكم من ديارِكم

(5)

، وبعد شهادتِكم على أنفسِكم بأن ذلك حقٌّ لى عليكم لازمٌ لكم الوفاءُ لى به -تَقْتلون

(1)

في م: "واثق".

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

في م: "لا تسفكون".

(4)

في م: "تخرجون".

(5)

بعده في م: "ثم أقررتم".

ص: 205

أنفسَكم وتُخْرِجون فريقًا منكم من ديارِهم، متعاونين عليهم

(1)

في إخراجِكم إياهم بالإثمِ والعدوانِ. والتعاونُ هو التظاهرُ. وإنما قيل للتعاونِ: التظاهرُ. لتقويةِ بعضِهم ظهرَ بعضٍ، فهو تفاعُلٌ من الظَّهْرِ، وهو مساندةُ بعضِهم ظهرَه إلى ظهرِ بعضٍ.

والوجهُ الآخرُ أن يكونَ معناه: ثم أنتم، القومَ

(2)

، تَقْتلون أنفسَكم، فيَرْجعُ إلى الخبرِ عن "أنتم"، وقد اعْتُرِضَ بينهم وبين الخبرِ عنهم بـ "هؤلاء"، كما تقولُ العربُ: أنا ذا أقوم، أنا ذا أَجْلِسُ. ولو قيل: أنا هذا يَجْلِسُ. كان صحيحًا جائزًا، وكذلك: أنت ذاك تقومُ.

وقد زعَم بعضُ البصريين أن قولَه: {هَؤُلَاءِ} . في قولِه: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} [تنبيهٌ وتوكيدٌ]

(3)

لـ {أَنْتُمْ} . وزعَم أنَّ "أنتم" وإن كانت كنايةَ أسماءِ جماعِ المخاطَبين، فإنما جاز أن يؤكَّدوا بـ "هؤلاء" - [و"هؤلاء" لا يؤكدُ بها]

(4)

عن مخاطَبين- كما قال خُفافُ ابنُ نُدْبةَ

(5)

:

أقولُ له والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَه

تأمَّلْ

(6)

خُفافًا إنّنِى أنا ذَلكا

يريد: أنا هذا

(7)

. وكما قال جلَّ ثناؤُه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22].

ثم اختلف أهلُ التأويلِ في مَن عُنِىَ بهذه الآيةِ نحوَ اختلافِهم في من عُنِىَ بقولِه:

(1)

في م، ت 1، ت 2:"عليه".

(2)

في م، ت 1، ت 2:"قوم".

(3)

في حاشية الأصل: "في الأم: تنبيه لا توكيد".

(4)

في م: "وأولى لأنَّها كناية"، وفى ت 1، ت 2:"وأولى لا يكنى بها".

(5)

تقدم في 1/ 230.

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تبين".

(7)

في الأصل: "هو".

ص: 206

{وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} .

‌ذكْرُ اختلافِ المختلِفين في ذلك

حدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} : أَى: أهلَ الشركِ حتى تَسْفِكوا دماءَهم معهم وتُخْرِجوهم من ديارِهم معهم، فقال: ابْتَلاهُم

(1)

اللهُ بذلك

(2)

مِن فعلِهم، وقد حَرَّم عليهم في التوراةِ سفكَ دمائِهم، وافترضَ عليهم فيها فداءَ أَسْراهم، فكانوا فريقَيْن؛ طائفةٌ منهم بنو قينقاعَ ولِفُّهم

(3)

حلفاءُ الخزرجِ، والنضيرُ وقريظةُ ولِفُّهم

(3)

حلفاءُ الأوسِ، فكانوا إذا كانت بين الأوْسِ والخزرجِ حربٌ خرجتْ بنو قينقاعَ مع الخزرجِ، وخرجتِ النضيرُ وقريظةُ مع الأوسِ، يُظاهرُ كلُّ واحدٍ من الفريقَيْن حلفاءَه على إخوانِه حتى يَتَسافكوا دماءَهم بينهم، وبأيديهم التوراةُ يَعْرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوسُ والخزرجُ أهلُ شركٍ يَعبدون الأوثانَ لا يَعْرِفون جنةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا ولا حرامًا ولا حلالًا، فإذا وَضَعتِ الحربُ أوزارَها افتدَوْا أَسْراهم، تصديقًا لما في التوراةِ وأخذًا به بعضُهم من بعضٍ. يَفْتَدِى بنو قينقاعَ ما كان من أَسْراهم في أيدى الأوسِ، وتَفْتَدِى النضيرُ وقريظةُ ما كان في أيدى الخزرجِ منهم، ويُطِلُّون

(4)

ما أصابُوا من الدماءِ، وقتَلوا مَن قتَلوا منهم فيما بينهم، مظاهرةً لأهلِ الشركِ عليهم، يقولُ اللهُ عز وجل حين أنْبَأَهُم بذلك: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ

(1)

في م، ت 1، ت 2:"أنبهم".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2.

(3)

سقط من: م. واللِّفُّ: الحزب والطائفة، والقوم المجتمعون. والجمع لُفوف وألفاف. التاج (ل ف ف).

(4)

الطلّ: هدر الدم، وقيل: هو ألا يثأر به أو تقبل ديته. اللسان (ط ل ل).

ص: 207

بِبَعْضٍ} أى: [يُفادِيه بحُكْمِ التوراةِ، ويقتُلُه، وفى حكمِ التوراةِ ألا يفعَلَ، ويُخرِجُه من دارِه، ويُظاهِرُ]

(1)

عليه مَن يُشرِكُ باللهِ ويعبدُ الأوثانَ من دونِه ابتغاءَ عَرَضِ الدنيا. ففى ذلك من فعلِهم مع الأوسِ والخزرجِ -فيما بلغنى- نزلتْ هذه القصةُ

(2)

.

حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} . قال: إن اللهَ جلَّ ذكرُه أَخَذ على بنى إسرائيلَ في التوراةِ ألا يَقْتُلَ بعضُهم بعضًا، وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجَدْتموه من بنى إسرائيلَ فاشترُوه بما [قام ثَمَنُه]

(3)

فأَعْتِقوه، فكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ، والنضيرُ حلفاءَ الخزرجِ، فكانوا يَقْتَتِلُون في حربِ سُمَيْرٍ

(4)

، فتقاتلُ بنو قريظةَ مع حلفائِها النضيرَ وحلفاءَها، وكانت النضيرُ تُقاتِلُ قريظةَ وحلفاءَها ويَغْلِبونَهم، فيُخْرِبون ديارَهم ويُخْرِجونَهم منها، فإذا أُسِر رجلٌ من الفريقَيْن كليهِما، جَمَعوا له حتى يَفْدُوه، فتُعَيِّرُهم العربُ بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتَفْدونهم؟ قالوا: إنا أُمِرْنا أن نَفْدِيَهم وحُرِّم علينا قتالُهم. قالوا: فَلِمَ تُقاتلُونهم؟ قالوا: إنا نَسْتَحْيِى أن يُستَذَلَّ حلفاؤُنا. فذلك حين عَيَّرهم اللهُ جلَّ وعزُّ، فقال:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

(5)

.

(1)

في م: "تفادونه بحكم التوراةِ وتقتلونه وفى حكم التوراة ألا يقتل ولا يخرج من ذلك ولا يظاهر".

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 540، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 163 - 166 (856، 859، 860، 864، 867، 870) مفرقًا من طريق سلمة به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قدم يمينه" وبما قام ثمنه. يريد: بما بلغه ثمنه. يقال: كم قامت ناقتك؟ أى كم بلغت. وقد قامت الأمةُ مائةَ دينار. أى بلغ قيمتها مائة دينار. اللسان (ق و م).

(4)

سمير: رجل من بنى عمرو بن عوف. وينظر خبر هذه الحرب في الكامل لابن الأثير 1/ 658، والأغاني 3/ 18. وسيذكره المصنّف مرّة أخرى في تفسير الآية 103 من سورة آل عمران.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 163 (852، 857) عن أبى زرعة، عن عمرو به.

ص: 208

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: كانت قريظةُ والنضيرُ أخوَيْن، وكانوا بهذه البلدةِ

(1)

، وكان الكتابُ بأيديهم، وكانت الأوسُ والخزرجُ أخوَيْن فافترَقا، وافترَقَتْ قريظةُ والنضيرُ، فكانت النضِيرُ مع الخزرجِ، وكانت قريظةُ مع الأوسِ. قال: فاقْتَتلوا، وكان بعضُهم يَقْتُلُ بعضًا، فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية.

وقال آخرون بما حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: كان في بنى إسرائيلَ إذا اسْتَضْعَفوا قومًا أَخْرَجوهم من ديارِهم، وقد أُخِذ علَيْهم الميثاقُ ألا يَسْفِكوا دماءَهم، ولا يُخْرِجوا أنفسَهم من ديارِهم

(2)

.

وأما العُدْوانُ فهو الفُعْلانُ من التَّعَدِّي، يقالُ منه: عدا فلانٌ في كذا يَعْدُو فيه عَدْوًا وعُدْوانًا، واعْتَدَى فهو يَعْتَدِى اعتداءً. وذلك إذا جاوز حدَّه ظُلْمًا وبَغْيًا.

وقد اختلَفت القرأةُ في قراءةِ {تَظَاهَرُونَ} ؛ فقرَأها بعضُهم: {تَظَاهَرُونَ} . على مثالِ "تَفاعَلُون"، بحذفِ التاءِ الزائدة - وهى التاءُ الآخرةُ، وقرَأها آخرون:(تَظَّاهَرُونَ). مُشدَّدةً، بتأويلِ "تَتَظاهَروُن"، غيرَ أنهم أَدْغَموا التاءَ الثانيةَ في الظاءِ لتقاربِ مخرجَيْهما فصَيَّروهما ظاءً مشددةً

(3)

.

وهاتان القراءتان وإن اختلفتْ ألفاظُهما فهما مُتَّفِقَتَا المعني، فسواءٌ بأىِّ ذلك قرَأ به القارئُ؛ لأنهما جميعًا لغتان معروفتان وقراءتان مُسْتَفيضتان في أمْصارِ الإسلامِ بمعنًى واحدٍ، ليس في إحداهما معنًى تَسْتَحِقُّ به اختيارَها على الأخري، إلَّا

(1)

في م: "المثابة".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 163 (853) من طريق آدم به.

(3)

وبها قرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون "تظَّاهرون" بالتشديد. ينظر النشر 2/ 218.

ص: 209

أن يختارَ مختارٌ (تَظَّاهَرُونَ) بالتشديدِ طلبًا منه تتمةَ الكلمةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} . اليهودَ، يُؤنِّبُهم

(1)

بذلك، ويُعَرِّفُهم به قبيحَ أفعالِهم التى كانوا يَفْعَلونها، فقال لهم: ثم أنتم، بعد إقرارِكم بالميثاقِ الذى أخذْتُه عليكم ألا تَسْفِكوا دماءَكم، ولا تُخْرِجوا أنفسَكم من ديارِكم، تَقْتُلُونَ أنفُسَكم -يعنى به: يَقْتُلُ بعضُكم بعضًا- وأنتم مع قتلِكم مَن تَقْتلون منكم، إذا وجَدْتم الأسيرَ منكم في أيدى غيرِكم من أعدائِكم تَفْدُونهم ويُخْرِجُ بعضُكم بعضًا من دارِه، وقَتْلُكم إياهم وإخراجُكُموهم من ديارِهم حرامٌ عليكم، كما حرامٌ عليكم تَرْكُهم أَسْرى في أيدى عَدُوِّكم، فكيف تَسْتَجِيزونَ قتلَهم ولا تَسْتَجيزونَ تَرْكَ فدائِهم من عدوِّهم؟ أم كيف لا تَسْتَجيزون تَرْكَ فدائِهم، وتَسْتَجيزون قتلَهم، وهما جميعًا في اللازمِ لكم من الحكمِ فيهم سواءٌ؛ لأنَّ الذى حَرَّمْتُ عليكم مِن قَتْلِهم وإخراجِهم من دورِهم نظيرُ الذى حَرَّمْتُ عليكم من تَرْكِهم أَسْرَى في أيدى عدوِّهم، أتؤمنون ببعضِ الكتابِ الذى فرضْتُ عليكم فيه فرائضى وبَيَّنْتُ لكم فيه حُدُودى وأخذْتُ عليكم

(2)

بالعملِ بما فيه ميثاقى - فتُصَدِّقون به، فتُفادُون أَسْراكم مِن أيدِى عدوِّكم، وتَكْفُرونَ ببَعْضِه، فتَجْحَدونه فتَقْتُلُون مَن حرَّمْتُ عليكم قتلَه مِن أهلِ دينِكم ومِن قومِكُم، وتُخْرِجونهم مِن ديارِهم، وقد علِمْتُم أن الكفرَ منكم ببَعْضِه نقضٌ منكم عهدى ومِيثاقى؟!

(1)

في م: "يوبخهم".

(2)

في م: "عليه".

ص: 210

كما حَدَّثَنَا بشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ [أُسَارَى تُفَادُوهُمْ]

(1)

وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}: فادين، واللهِ إن فداءَهم لَلْإيمانُ، وإن إخراجَهم لَلْكفرُ، فكانوا يُخْرِجونهم مِن ديارِهم، وإذا رأَوْهم أُسارَى في أيدى عدوِّهم افتَكُّوهم

(2)

.

حَدَّثَنَا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: حَدَّثَنِي ابنُ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أو عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} : قد علِمْتُم أن ذلكم عليكم في دينِكم {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} في كتابِكم {إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} : أتُفادُونهم مؤمنين بذلك، وتُخْرِجونهم كفرًا بذلك

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن ابنِ أبي نجِيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} . يقولُ: إن وجدْتَه في يدِ غَيرِكَ فدَيْته وأنت تَقْتُلُه

(4)

بيدِك.

حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، قال: قال أبو جعفرٍ: كان قَتادةُ يقولُ في قولِه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} : فكان إخراجُهم كفرًا وفداؤُهم إيمانًا.

حَدَّثَنِي المثني، قال: حَدَّثَنَا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ

(1)

في الأصل: "أسرى تفدوهم". وفى م، ت 1، ت 2:"أسارى تفدوهم"، وهذه قراءات سيذكرها المصنّف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 166 (868) من طريق يزيد به.

(3)

تقدم مطولًا في ص 207.

(4)

بعده في الأصل: "أو أنت تقتله".

ص: 211

في قولِه: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال: كان في بنى إسْرائيلَ إذا اسْتَضْعَفوا قومًا أخْرَجوهم مِن ديارِهم، وقد أُخِذ عليهم الميثاقُ ألا يَسْفِكوا دماءَهم، ولا يُخْرِجُوا أنفسَهم مِن ديارِهم، وأُخِذ عليهم الميثاقُ إنْ أُسِر بعضُهم أن يُفادُوهم، فأخْرَجوهم مِن ديارِهم، ثم فادوهم، فآمَنوا ببعضِ الكتابِ وكفَروا ببعضٍ، آمَنوا بالفِداءِ ففدَوْا، وكفَروا بالإخراجِ مِن الديارِ فأَخْرَجوا

(1)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، قال: ثنا الربيعُ بنُ أنسٍ، قال: أخْبَرَنى أبو العاليةِ، أن عبدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ مرَّ على رأسِ الجالوتِ بالكوفةِ وهو يُفادِى مِن النساءِ مَن لم يَقَعْ عليه العربُ، ولا يُفادِى مَن قد وقَع عليه العربُ، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: أما إنه مَكْتوبٌ عندَك في كتابِك: أن فَادُوهن كلَّهن

(2)

.

حدَّثنى القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . قال: كفرُهم القتلُ والإخْراجُ، وإيمانُهم الفِداءُ. قال ابنُ جُرَيْجٍ: يقولُ: إذا كانوا عندَكم تَقْتُلونهم، وتُخْرِجُونهم مِن ديارِهم، وأما إذا أُسِروا تَفْدُونهم؟ وبلَغَنى أن عمرَ بنَ الخطابِ قال في قصةِ بنى إسرائيلَ: إن بنى إسرائيلَ قد مضَوْا، وإنكم [يا أهلَ الإسلامِ]

(3)

تُعْنَوْن بهذا الحديثِ.

واخْتَلَفت القَرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} ؛ فقرَأه بعضُهم: (أَسْرَى تَفْدُوهم). وبعضُهم: (أُسارَى تُفادُوهم). وبعضُهم:

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 165، 166 (866، 872) من طريق آدم به.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 174 عن آدم بن أبى إياس في تفسيره. مصنف ابن أبى شيبة 13/ 13، وتفسير ابن أبى حاتم 1/ 165 (865).

(3)

في م: "أنتم".

ص: 212

(أُسارَى تَفْدُوهم). وبعضُهم: (أَسْرى تُفادُوهم)

(1)

.

فمَن قرَأ ذلك: (وإن يأتوكم أسْرَى). فإنه أراد جمعَ الأسيرِ، إذ كان على "فَعِيل" على مثالِ جمعِ أسماءِ ذَوِى العاهاتِ التى يأتى واحدُها على تقديرِ "فَعِيل"؛ إذ كان الأسْرُ شَبيهَ المعنى -في الأذَى والمكروهِ الداخلِ به على الأسِيرِ- ببعضِ مَعانى العاهاتِ، وأُلْحِق جَمْعُ المسمى

(2)

به بجمعِ ما وصَفْنا، فقيل: أَسيرٌ وأسْرَى. كما قيل: مريضٌ ومَرْضَى، وكَسيرٌ وكَسْرَى، وجَريحٌ وجَرْحَى.

وأما الذين قرَءوا {أُسَارَى} فإنَّهم أخرَجوه على مُخرجِ جمعِ "فَعْلان"؛ إذ كان جمعُ "فعلان" الذى له "فَعْلَى"، قد يُشاركُ جمعَ "فعيلٍ"، كما قالوا: سُكَارى وسَكْرى، وكُسالى وكَسْلى، فشبَّهوا أسيرًا -إذ جمَعوه مرةً أُسارى، وأُخرى أَسْرى- بذلك.

وكان بعضُهم يَزْعُمُ أن معنى الأسْرَى مخالِفٌ معنى الأسارَى، ويَزْعُمُ أن معنى الأسْرَى اسْتِئْسارُ القومِ بغيرِ أسْرٍ مِن المُسْتَأْسِرِ لهم، وأن معنى الأسارَى معنى مَصيرِ القومِ المأْسُورِين في أيدى الآسِرِين بأسْرِهم إياهم وأخْذِهم قهرًا وغَلَبةً.

قال أبو جعفرٍ: وذلك ما لا وجهَ له يُفْهَمُ في لغةِ أحدٍ مِن العربِ، ولكنَّ ذلك على ما وصَفْتُ مِن جمعِ الأسيرِ مرةً على "فَعْلَى" لِمَا بيَّنْتُ مِن العلةِ، ومرةً على "فُعَالى" لمَا ذكَرْتُ مِن تشبيهِهم جمعَه بجمعِ سَكْرانَ وكَسْلانَ وما أشْبَه ذلك.

وأولى القراءات

(3)

بالصوابِ في ذلك

(4)

قراءةُ مَن قرَأ: (وَإنْ يأتُوكُم أسْرَى)؛

(1)

القراءة الأولى قرأ بها حمزة، والثانية قرأ بها الكسائى وعاصم ونافع وأبو جعفر، والثالثة قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وخلف، والرابعة قراءة شاذة مما فوق العشرة. انظر النشر 2/ 218.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المستلحق".

(3)

سقط من: م.

(4)

القراءات المتواترة لا تفاضل بينها، قال أبو عمرو الدانى: وأئمة القراء لا يعمل في شيء من حروف القرآن =

ص: 213

لأن "فُعَالى" في جمعِ "فَعِيل" غيرُ مُسْتَفيضٍ في كلامِ العربِ، فإذ كان ذلك غيرَ مُسْتَفِيضٍ في كلامِهم، وكان مُسْتَفِيضًا فاشيًا فيهم جمعُ ما كان مِن الصفاتِ -التي بمعنى الآلامِ والزَّمَانةِ- واحدُه على تقديرِ "فَعيلٍ" على "فَعْلَى" كالذى وصَفْنا قبلُ، وكان أحدُ ذلك الأسيرَ - كان الواجبُ أن يُلْحَقَ بنَظائرِه وأشْكالِه فيُجْمَعَ جمعَها دونَ غيرِها ممَّن خالَفَها.

وأما مَن قرَأ: {تُفَادُوهُمْ} . فإنه أراد: إنكم تَفْدُونهم ممن

(1)

أسرَهم، ويُفْدَى منكم الذين أسَرُوهم؛ ففادُوكم بهم [أسْراهم منكم]

(2)

.

وأما مَن قرَأ ذلك: (تَفْدوُهُمْ) فإنه أراد أنكم يا معشرَ اليهودِ إن أتاكم الذين أخْرَجْتُموهم منكم مِن ديارِهم أسْرَى، فدَيْتُموهم فاسْتَنْقَذْتُموهم.

وهذه القراءةُ أعجبُ إلىَّ مِن الأولى -أعْنِى: (أسْرَى تَفْدُوهم) - لأن الذى على اليهودِ في دينِهم فِداءُ أسْراهم بكلِّ حالٍ، فَدَى الآسِرون أسْراهم منهم أم لم يَفْدُوهم.

وأمّا قولُه: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} فإن في قولِه: {وَهُوَ} وجهين مِن التأويلِ، أحدُهما: أن يكونَ كِنايةً عن الإخراجِ الذى تَقَدَّم ذكرُه، فكأنه قال: وتُخْرِجون فريقًا منكم مِن ديارِهم، وإخراجُهم مُحَرَّمٌ عليكم. ثم كرَّر الإخْراجَ الذي بعدَ {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} تكريرًا على "هو"، لمَّا حال بينَ "الإخراجِ" و {وَهُوَ} كلامٌ.

والتأويلُ الثانى: أن يَكونَ عِمادًا

(3)

لمَّا كانت الواوُ التى مع {وَهُوَ} تَقْتَضِى

= على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها. النشر 1/ 16.

(1)

في م: "من".

(2)

في م: "أمراكم منهم".

(3)

هو ضمير الفصل ويسميه الكوفيون عمادا، لكونه حافظا لما بعده حتى لا يسقط عن الخبرية، أو كأنه =

ص: 214

اسمًا يَلِيها دونَ الفعلِ

(1)

، فلما قدَّم الفعلَ قبلَ الاسمِ -الذى تَقْتَضِيه الواوُ أن يَلِيَها- أُولِيَت "هو"؛ لأنه اسمٌ، كما تَقولُ في الكلامِ: أتَيْتُك، وهو قائمٌ أبوك. بمعنى وأبوك قائمٌ؛ إذ كانت الواوُ تَقْتَضِى اسمًا، فعُمِدَت بـ"هو"؛ إذ سبق الفعلُ الاسمَ ليَصْلُحَ الكلامُ به، كما قال الشاعرُ

(2)

:

فأَبْلِغْ أبا يحيى إذا ما لقِيتَه

على العِيسِ في آباطِها عَرَقٌ يَبْسُ

بأنَّ السُّلاميَّ الذي بضَرِيَّةٍ

(3)

أَميرَ الحِمَى قد باع حَقِّى بنى عَبْسِ

بثوبٍ ودينارٍ وَشاةٍ ودِرْهَمٍ

فهل هو مرفوعٌ بما هاهنا راسُ

فأُولِيَت "هل"

(4)

لطلبِها الاسمَ العِمادَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .

يعني بقولِه جل ثناؤُه: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} : فليس لمن قتَل منكم قَتيلًا -فكفَر بقتلِه إياه [ببعضِ حكمِ]

(5)

اللهِ الذى حكَم به عليه في التَّوْراةِ، وأخْرَج منكم فريقًا مِن ديارِهم مُظاهِرًا

(6)

عليهم أعداءَهم مِن أهلِ الشركِ ظُلمًا وعُدْوانًا، وخلافًا لمَا أمَرَه اللهُ به في كتابِه الذى أنْزَله إلى موسى- {جَزَاءُ} ، يعني بـ"الجزاءِ" الثوابَ، وهو العِوَضُ مما فعَل مِن ذلك والأجرُ عليه، {إِلَّا خِزْيٌ

= عمد الاسم وقواه بتحقيق الخبر. شرح المفصل 3/ 110، شرح الرضى على الكافية 2/ 24، 25.

(1)

المراد بالفعل هنا: المشتقات التى تعمل عمل الفعل. ينظر مصطلحات النحو الكوفى ص 52 - 54.

(2)

معانى القرآن للفراء 1/ 52.

(3)

ضرية: أرض بنجد وينسب إليها حمى ضرية ينزلها حاج البصرة. معجم البلدان 3/ 272.

(4)

أى: أوليت هل الضمير "هو".

(5)

في م، ت 1، ت 2:"بنقض عهد".

(6)

في الأصل: "مظاهرة".

ص: 215

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. والخِزْىُ الذُّلُّ والصَّغارُ. يقالُ منه: قد خَزِى الرجلُ يَخْزَى خِزْيًا {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، يعنى: في عاجلِ الدنيا قبلَ الآخِرةِ.

ثم اخْتُلِف في الخِزْىِ الذى جزاهم

(1)

اللهُ بما سلَف منهم

(2)

مِن معصيتِهم إياه؛ فقال بعضُهم: ذلك هو حُكْمُ اللهِ الذى أنْزَلَه إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن أخْذِ القاتلِ بِمَن قتَل والقَوَدِ به قِصاصًا، والانتقامِ للمظلومِ مِن الظالِم.

وقال آخرون: بل ذلك هو أخْذُ الجزيةِ منهم ما أقاموا على دينِهم ذِلَّةً لهم وصَغارًا.

وقال آخرون: بل ذلك الخِزْىُ الذى جُوزُوا به في الدنيا إخراجُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّضِيرَ عن دِيارهم لأولِ الحَشْرِ، وقَتْلُ مُقاتِلةِ قُرَيْظَةَ وسَبْيُ ذَراريِّهم، فكان ذلك لهم خِزْيًا في الدنيا، ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} : ويومَ تَقومُ

(3)

الساعةُ، يُرَدُّ مَن يَفْعَلُ ذلك منكم بعدَ الخَزْىِ الذى يَحِلُّ به في الدنيا جَزاءً على معصيتِه اللهَ، إلى أشدِّ العذابِ الذى أعَدَّه اللهُ لأعْدائِه.

وقد قال بعضُهم: معنى ذلك: ثم يومَ القيامةِ يُرَدُّونَ إلى أشدِّ مِن عذابِ الدنيا.

ولا معنى لقولِ قائلِ ذلك؛ لأن اللهَ جل ثناؤُه إنما أخْبَر أنهم يُرَدُّون إلى أشدِّ معانى العذابِ، ولذلك أدْخَل فيه الألفَ واللامَ؛ لأنه عَنَى به جنسَ العذابِ كلِّه دونَ نوعٍ منه.

(1)

فى م: "أخزاهم".

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: الأصل.

ص: 216

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} .

اخْتَلَفت القَرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم: (وما اللهُ بغافلٍ عما يعملون). بالياءِ

(1)

على وجهِ الإخْبارِ عنهم، فكأنَّهم نحَوْا بقراءتِهم معنى:{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويومَ القيامةِ يُرَدُّ من يفعلُ ذلك منكم إلى أشدِّ العذابِ (وما اللهُ بغافلٍ عما يَعْمَلُونَ) يعنى: عَمَّا يَعْمَلُه الذين أخبَرَ اللهُ عنهم أنه ليس لهم جزاءٌ على فعلِهم إلَّا الخِزْىُ في الحياة الدنيا، ومرجِعُهم في الآخرةِ إلى أشدِّ العذابِ.

وقرَأه آخَرون: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاءِ على وجهِ المخاطبةِ. قال: فكأنَّهم نَحَوْا بقراءتِهم: أفتُؤمنون ببعضِ الكتابِ وتكفُرون ببعضٍ، وما اللهُ بغافلٍ يا معشرَ اليهودِ عما تعملون أنتم.

وأَعْجَبُ القراءتينِ في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأ بالياءِ إِتباعًا لقولِه: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} ولقولِه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ} ؛ لأن قولَه: (وما اللهُ بغافلٍ عما يَعْمَلُون). إلى ذلك أقربُ منه إلى قولِه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فإتباعُه الأقربَ إليه أَوْلَى مِن إلحاقِه بالأبعدِ منه.

والوجهُ الآخَرُ غيرُ بعيدٍ مِن الصوابِ.

وتأويلُ قولِه: [{وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}]

(2)

: وما اللهُ بساهٍ عن أعمالِهم الخبيثةِ، بل هو مُحْصٍ لها، وحافظُها عليهم حتى يُجَازِيَهم بها في الآخرةِ، ويُخْزِيَهم في الدنيا فَيُذِلَّهم ويَفْضَحَهم بها

(3)

.

(1)

قرأ بها نافع وابن كثير وأبو بكر ويعقوب، وقرأ بقية العشرة بالتاء، وكلتا القراءتين متواترة. النشر 2/ 218.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 217

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {أُولَئِكَ} الذين أخبَر عنهم أنهم يُؤمنون ببعضِ الكتابِ فيُفَادُون أسراهم مِن اليهودِ، ويَكْفُرون ببعضٍ فيَقْتُلون مَن حَرَّم اللهُ عليهم قتلَه مِن أهلِ مِلَّتِهم، ويُخْرِجُون مِن دارِه مَن حَرَّم اللهُ عليهم إخراجَه مِن دارِه، نقضًا لعهدِ اللهِ وميثاقِه في التوراةِ إليهم، فأخبرَ جل ثناؤه أن هؤلاء هم الذين اشتَرَوْا رياسةَ الحياةِ الدنيا على الضعفاءِ وأهلِ الجهلِ والغباءِ مِن أهلِ مِلَّتِهم، وابتاعُوا المآكلَ الخَسِيسةَ الرديئةَ فيها بالإيمانِ الذى كان يكونُ لهم به في الآخرةِ -لو كانوا أَتَوْا به مكانَ الكفرِ- الخلودُ في الجنَانِ. وإنما وصَفهم اللهُ جل ثناؤه بأنهم اشترَوْا الحياةَ الدنيا بالآخرةِ، لأنهم رَضُوا بالدنيا -بكُفْرِهم باللهِ فيها- عوضًا مِن نعيمِ الآخرةِ الذى أعدّه اللهُ للمؤمنين، فجعَل تركَهم

(1)

حُظُوظَهم مِن نعيمِ الآخرةِ بكفرِهم باللهِ ثمنًا لما ابتاعوه به مِن خسيسِ الدنيا.

كما حدَّثنا [بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا]

(2)

يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} : استحبُّوا قليلَ الدنيا على كثيرِ الآخرةِ

(3)

.

ثم أخبرَ اللهُ جل ثناؤه أنهم إذ

(4)

باعوا حظوظَهم مِن نعيمِ الآخرةِ بترْكِهم

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 167 (877) من طريق يزيد به.

(4)

في م: "إذا".

ص: 218

طاعتَه، وإيثارِهم الكفرَ به والخسيسَ مِن الدنيا عليه، فلا

(1)

حَظَّ لهم في نعيمِ الآخرةِ، وأن الذى لهم في الآخرةِ العذابُ، غيرُ مُخَفَّفٍ عنهم فيها العقابُ؛ لأنَّ الذى يُخَفَّفُ عنه فيها مِن العذابِ هو الذى له حَظٌّ في نَعِيمِها، ولا حَظَّ لهؤلاءِ لاشترائِهم

(2)

-كان في الدنيا

(3)

- دنياهم بآخرتِهم.

وأمَّا قولُه: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} . فإنه أخبر عنهم أنهم لا يَنْصُرُهم في الآخرةِ أحدٌ فَيَدْفَعَ عنهم بنُصْرَتِه عذابَ اللهِ، لا بقوَّةٍ

(4)

، ولا بشفاعةٍ

(5)

ولا غيرِهما.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : أنزلناه إليه.

وقد بَيَّنَّا أن معنى الإيتاءِ الإعطاءُ، فيما مضَى قبلُ

(6)

.

والكتابُ الذى آتاه اللهُ موسى عليه السلام هو التوراةُ.

وأمَّا قولُه: {وَقَفَّيْنَا} . فإنه يعنى: وأَرْدَفْنا وأَتْبَعْنا بعضَهم خلفَ بعضٍ، كما يَقْفُو الرجلُ الرجلَ إذا سار في أَثَرِه مِن ورائِه، وأصلُه مِن القَفَا، يقالُ منه: قَفَوْتُ فلانًا: إذا صِرْتَ خلفَ قفاه، كما يقالُ: دَبَرْتُه: إذا صِرْتَ في دُبُرِه.

ويعنى بقولِه: {مِنْ بَعْدِهِ} : مِن بعدِ موسى.

ويعنى {بِالرُّسُلِ} : الأنبياءَ، وهم جَمْعُ رسولٍ، يقالُ: هو رسولٌ، وهم

(1)

في م: "لا".

(2)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذى".

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(4)

في م: "بقوته".

(5)

في م: "بشفاعته".

(6)

ينظر ما تقدم في ص 51.

ص: 219

رُسُلٌ. كما يقالُ: هو رَجُلٌ صبورٌ، وهم قومٌ صُبُرٌ، وهو رَجُلٌ شَكورٌ، وهم قومٌ شُكُرٌ.

وإنما يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} . أى: أَتْبَعْنا بعضَهم بعضًا على مِنهاجٍ واحدٍ وشريعةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ كلَّ مَن بعَثه اللهُ نبيًّا بعدَ موسى صلَوَاتُ اللهِ عليه إلى أزمانِ عيسى ابنِ مريمَ، فإنما بعَثه يَأْمُرُ بنى إسرائيلَ بإقامةِ التوراةِ والعمَلِ بما فيها والدعاءِ إلى ما فيها، فلذلك قيل:{وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} يعنى: على مِنهاجِه وشريعتِه، والعملِ بما كان يَعْمَلُ به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} : أعطينا عيسى ابنَ مريمَ. ويعنى بـ "البَيِّناتِ" "التى آتاه اللهُ إيَّاها، ما أَظْهَرَ على يديه مِن الحُجَجِ له

(1)

، والدلالةِ على نُبُوَّتِه؛ مِن إحياءِ الموتي، وإبراءِ الأكْمَهِ [والأَبْرَصِ]

(2)

، ونحوِ ذلك مِن الآياتِ التى أبانتْ منزلتَه مِن اللهِ، ودلَّت على صدقِه وصِحَّةِ نُبُوَّتِه.

كما حَدَّثَنَا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حَدَّثَنِي ابنُ إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} . أى: الآياتِ التى وضَع على يديه؛ مِن إحياءِ الموتي، وخلْقِه مِن الطينِ كهيئةِ الطيرِ، ثم ينفُخُ فيه فيكونُ طائرًا بإِذنِ اللهِ، وإبراءِ الأسقامِ، والخبرِ بكثيرٍ مِن الغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرون في بيوتِهم، وما رَدَّ عليهم مِن التوراةِ مع الإنجيلِ الذى أحدَثَ اللهُ إليه

(3)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 541، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 168، 2/ 483 (881، 2555) من طريق سلمة به.

ص: 220

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .

أمَّا معنى قولِه: {وَأَيَّدْنَاهُ} فإنه: قَوَّيْناه [وأَعَنَّاه بِهِ]

(1)

.

كما حَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَأَيَّدْنَاهُ} . يقولُ: نصَرْناه.

يقال منه: أيَّدَك اللهُ، أى: قوَّاك اللهُ، وهو رجُلٌ ذو أيدٍ وذو آدٍ، يراد: ذو قوةٍ. ومنه قولُ العَجَّاجِ

(2)

:

مِنْ أنْ تَبَدَّلْتُ بآدِىَ آدا

يعنى: [تَبدَّلتُ بقوَّةِ شَبابِى]

(3)

قوةَ المَشِيبِ. ومنه قولُ الشاعرِ

(4)

:

إنّ القِدَاحَ إذا اجْتَمَعْنَ فَرَامَها

بالكَسْرِ ذو جَلَدٍ

(5)

وبَطْشٍ أَيِّدِ

يعنى بالأَيِّد: القَوِىّ.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {بِرُوحِ الْقُدُسِ} ؛ فقال بعضُهم: الرُّوحُ

(6)

الذى أخبَر اللهُ تعالى ذكرُه أنه أيَّد عيسى به هو جبريلُ عليه السلام.

(1)

في م: "فأعناه".

(2)

مجاز القرآن 1/ 46.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشبابي".

(4)

التعازى والمراثى للمبرد ص 125.

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"خلد"، وفى التعازى والمراثى:"حنق وكسر".

(6)

في م: "روح القدس".

ص: 221

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . قال: هو جبريلُ

(1)

.

حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمْرُو بنُ حَمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . قال: هو جبريلُ

(2)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . قال: رُوحُ القُدُسِ: جبريلُ.

وحُدِّثْتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . قال: أُيِّد عيسى بجبريلَ، وهو رُوحُ القُدُسِ

(3)

.

حَدَّثَنَا

(4)

ابنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلَمةُ، عن [ابنِ إسحاقَ]

(5)

، قال: حَدَّثَنِي عبدُ اللهِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي الحسينِ المَكِّيُّ، عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ الأشعرىِّ، أن نفرًا مِن اليهودِ سألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبِرْنا عن الرُّوحِ. قال: "أَنْشُدُكم باللهِ وبِأَيَّامِه عندَ بَنِى إسْرَائِيلَ، هل تَعْلَمُونَ أَنَّه جِبْرِيلُ، وهو الذى يَأْتِينى"؟ قالوا: نعم

(6)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 51.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 168 عقب الأثر (884) من طريق عمرو به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 168 عقب الأثر (884) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وقال".

(5)

في م: "إسحاق".

(6)

سيرة ابن هشام 1/ 543 مطولًا. وسيأتى بتمامه في ص 285، وينظر ص 283.

ص: 222

وقال آخَرون: الرُّوحُ الذى أيَّد اللهُ به عيسى هو الإنْجيلُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي يُونسُ بنُ عبدِ الأَعْلَي، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . قال: أَيَّد اللهُ عيسى بالإنجيلِ رُوحًا كما جعَل القرآنَ رُوحًا للهِ، كلاهما رُوحُ اللهِ، كما قال اللهُ:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].

وقال آخَرون: الرُّوحُ هو الاسمُ الذى كان عيسى يُحْيى به المَوْتَى.

ذكرُ مَن قال ذلك

حُدِّثْتُ عن المِنْجَابِ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . قال: هو الاسمُ الذى كان يُحْيِى به عيسى الموتَى

(1)

.

وأَوْلَى التأويلاتِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: الرُّوحُ في هذا الموضعِ جبريلُ؛ لأنَّ اللهَ جل ثناؤه أخبرَنا أنه أيَّد عيسى به، كما أخبر في قولِه:{إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110]. [أنَّه أيَّده بهِ]

(2)

، فلو كان الرُّوحُ الذى أيَّده اللهُ به هو الإنجيلَ لكان قولُه:{إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} - {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 169 (886) عن أبي زرعة، عن المنجاب به.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 223

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} تكريرَ قولٍ لا معنى له؛ وذلك أنه على تأويلِ قولِ مَن قال: معنى {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . [إذ أيَّدتُك بالإنجيلِ]

(1)

. إنَّما هو: إذ أيَّدتُك بالإنجيلِ، وإذ علَّمتُك الإنجيلَ. وهو لا يكونُ به مُؤَيَّدًا إلَّا وهو مُعَلَّمُه، فذلك تكريرُ كلامٍ واحدٍ [في آيةٍ واحدةٍ]

(2)

مِن غيرِ زيادةِ معنًى في أحدِهما على الآخَرِ، وذلك خُلْفٌ مِن الكلامِ، واللهُ تعالى ذكرُه يَتَعالَى عن أن يُخَاطِبَ عبادَه بما لا يُفِيدُهم به فائدةً.

وإذ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ فسادُ قولِ مَن زعَم أن الرُّوحَ في هذا الموضعِ الإنجيلُ، وإن كان جميعُ كتبِ اللهِ جلَّ ثناؤه التى أوحاها إلى رسلِه روحًا منه؛ لأنه تحيا بها القلوبُ الميِّتةُ، وتَنْتَعِشُ بها النفوسُ المُوَلِّيةُ، وتَهْتَدِى بها الأحلامُ الضالَّةُ.

وإنما سَمَّى اللهُ جلَّ ثناؤه جبريلَ "رُوحًا" وأضافه إلى "القُدُسِ"؛ لأنه كان بتكوينِ اللهِ له رُوحًا مِن عندِه عن غيرِ ولادةِ والدٍ ولَده، فسمَّاه مِن أجلِ ذلك "روحًا"، وأضافه إلى "القدسِ" -والقدسُ هو الطُّهْرُ- كما سُمِّى عيسى ابنُ مريمَ روحَ اللهِ، مِن أجلِ تكوينِه له رُوحًا مِن عندِه مِن غيرِ ولادةِ والدٍ ولَده.

وقد بيَّنَّا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا أن معنى التقديسِ التطهيرُ

(3)

. والقدسُ الطُّهرُ مِن ذلك.

وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معناه في هذا الموضعِ نحوَ اختلافِهم في الموضعِ الذى ذكرْناه.

حَدَّثَنِي موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: القدسُ

(1)

سقط من: م.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 505 وما بعدها.

ص: 224

البركةُ

(1)

.

وحُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، [عن الربيعِ]

(2)

، قال: القدسُ هو الربُّ

(3)

.

وحَدَّثَنِي يُونُس بنُ عبدِ الأَعلَي، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال: اللهُ القُدُسُ، وأيَّد عيسى برُوحِه. قال:[واحتَجَّ في هذا بقولِ كعبٍ]

(4)

: اللهُ القُدسُ. وقرَأ قولَ اللهِ جلَّ ثناؤه: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23]. وقال: القُدُسُ والقُدُّوسُ واحدٌ.

وحدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ

(5)

، قال: أخبرنى عمْرُو بنُ الحارِثِ، عن سعيدِ بنِ أبى [هلالٍ، عن]

(6)

هلالِ بنِ

(7)

أسامةَ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، قال: قال كعبٌ

(8)

: اللهُ القُدُسُ.

‌القولُ في تأويل قولِه جلّ ثناؤه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} .

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 169 (888) من طريق عمرو به.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

بعده في م: "تعالى ذكره". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 169 (887) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

في م: "نعت"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"واحتج بقول بعث".

(5)

بعده في ت 2: "قال: قال ابن زيد".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(7)

بعده في الأصل: "أبى". وهو هلال بن محمد بن على بن أسامة. وقد ينسب إلى جده كما في تهذيب الكمال 30/ 343.

(8)

في م: "نعت". وينظر تفسير ابن كثير 1/ 176.

ص: 225

يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} . اليهودَ مِن بنى إسرائيلَ.

حَدَّثَنِي بذلك محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حَدَّثَنَا عيسي، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ.

قال أبو جعفرٍ: يقولُ اللهُ جل ثناؤه لهم: يا معشرَ يهودِ بنى إسرائيلَ، لقد آتيْنا موسى التوراةَ، وتابَعْنا مِن بعدِه الرسلَ

(1)

إليكم، وآتينا عيسى ابنَ مريمَ البيناتِ والحُجَجَ إذ بعثْناه إليكم، وقَوَّيْناه برُوحِ القُدُسِ، وأنتم كُلَّما جاءكم رسولٌ مِن رُسُلى بغيرِ الذى تهواه نفوسُكم استكبرتُم عليه

(2)

-تجبُّرًا وبَغْيًا- استكبارَ إمامِكم إبليسَ، فكذَّبتُم مِنهم بعضًا، وقتَلْتُم بعضًا، أفهذا

(3)

فعلُكم أبدًا برسلى!

وقولُه: {أَفَكُلَّمَا} وإن كان خرَج مَخْرَجَ التقريرِ في الخطابِ فهو بمعنى الخبرِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} .

اختلفت القَرأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأه بعضُهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مخفَّفةَ اللام ساكنةً، وهى قراءةُ عامَّةِ قرأةِ الأمصارِ في جميعِ الأقطارِ

(4)

. وقرأه بعضُهم: (وقالوا قلوبُنا غُلُفٌ). مثقَّلةَ

(5)

اللامِ مضمومةً

(6)

.

(1)

في م: "بالرسل".

(2)

في. م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليهم".

(3)

في م: "فهذا".

(4)

قرأ ذلك نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 164.

(5)

يريد بالتثقيل هنا التحريك لا التشديد.

(6)

وبذلك قرأ أبو عمرو. المصدر السابق.

ص: 226

فأمَّا الذين قرءوها بسكون اللامِ وتخفيفِها، فإنهم تأوَّلوها أنهم قالوا: قلوبُنا في أكِنَّةٍ وأغطيةٍ وغُلْفٍ، فالغُلْفُ -على قراءةِ هؤلاء- جمعُ أغلَفَ، وهو الذى في غِلافٍ وغطاءٍ، كما يقالُ للرجلِ الذى لَمْ يَخْتَتِنْ: أغلَفُ. وللمرأةِ: غَلْفاءُ. وكما يقالُ للسيفِ إذا كان في غلافِه: سيفٌ أغلَفُ، وقوسٌ غَلْفاءُ. وجمعُها غُلْفٌ، وكذلك جمعُ ما كان من النعوتِ ذَكَرُه على "أفعَلَ" وأنثاه على "فَعْلاءَ"، يُجْمَعُ على "فُعْل" مضمومةَ الأولِ ساكنةَ الثاني، مثلَ أحمرَ [وحُمْرٍ، وصَفْراءَ]

(1)

وصُفْرٍ، فيكونُ ذلك جماعًا للتأنيثِ والتذكيرِ، ولا يجوزُ تثقيلُ عينِ "فُعْلٍ" منه إلَّا في ضرورةِ شعرٍ، كما قال طَرَفَةُ بنُ العبدِ

(2)

:

أَيُّها الفِتْيانُ في مَجْلِسِنا

جَرِّدُوا مِنْها

(3)

وِرَادًا

(4)

وشُقُرْ

يُرِيدُ: شُقْرًا. [إلّا أنَّ الروِىَّ]

(5)

اضْطَرَّه إلى تحريكِ ثانيه فحرَّكه.

ومنه الخبرُ الذى حَدَّثَنَا به ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا الحَكَمُ بنُ بَشِيرِ بنِ سلمانَ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ المُلائيُّ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ الجَمَليِّ، عن أبي البَخْتَرِيِّ، عن حُذَيْفَةَ، قال: القلوبُ أربعةٌ. ثم ذكَرها، فقال فيما ذكَر: وقلبٌ أغلَفُ مَعْصُوبٌ

(6)

عليه، فذاك قلبُ الكافرِ

(7)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2:"وحمر وأصفر وصفر".

(2)

ديوان طرفة بشرح الأعلم ص 69.

(3)

منها: أى الخيل. وجردوا الخيل، يعنى: ألقوا عنها جلالها وأسرجوها استعدادًا للقتال واللقاء. المصدر السابق.

(4)

وراد: جمع وَرْد، وهو من الخيل ما كان بين الكميت - الأسمر - والأشقر - الأحمر - التاج (ورد، ش ق ر).

(5)

في م: "لأن الشعر".

(6)

في الأصل، ت 1:"مغضوب".

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 36، 15/ 108، وأبو نعيم في الحلية 1/ 276 من طريق الأعمش، عن عمرو ابن مرّة به، وأبو البخترى -سعيد بن فيروز- لَمْ يدرك حذيفة.

ورواه شيبان بن عبد الرَّحمن، عن ليث بن أبى سليم -وهو ضعيف- عن عمرو بن مرّة، عن أبي =

ص: 227

‌ذكْرُ مَن تأَوَّل

(1)

ذلك بمعنى

(2)

أنَّها في أغطيةٍ

حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حَدَّثَنِي ابنُ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أى: في أكِنَّةٍ

(3)

.

وحَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ بنُ صالحٍ، عن [عليِّ بنِ]

(4)

أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أى: في غطاءٍ

(5)

.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : فهى القلوبُ المطبوعُ عليها (3).

وحَدَّثَنِي عباسُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: أخبرني عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : عليها غِشاوةٌ

(6)

.

وحَدَّثَنِي المُثَنَّى قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، قال: حَدَّثَنِي عبدُ اللهِ

= البختري، عن أبي سعيد الخدرى مرفوعًا. أخرجه أحمد 17/ 208 (11129)، والطبراني في الصغير 2/ 110، وأبو نعيم في الحلية 4/ 385، وأبو البخترى لَمْ يدرك أبا سعيد الخدرى. وقال أبو نعيم: غريب من حديث عمرو وتفرد به شيبان، عن ليث.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعنى".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 176.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 170 (895)، 4/ 1108 (6221) عن أبيه عن أبى صالح به.

(6)

عزاه السيوطي في الدر 1/ 87 إلى المصنّف.

ص: 228

ابنُ

(1)

كَثِيرٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : عليها غشاوةٌ.

وحَدَّثَنَا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوَازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن الأعمشِ قولَه:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال: هى في غُلْفٍ.

وحَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أى: لا تَفْقَهُ

(2)

.

وحَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} . قال: هو كقولِه: {قُلُوبُنَا فِي أَكنَّةٍ}

(3)

[فصلت: 5].

حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} . قال: عليها طابَعٌ. قال: هو كقولِه: {قُلُوبُنَا فِي أَكنَّةٍ}

(3)

.

وحَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أى: لا تَفْقَهُ

(4)

.

وحَدَّثَنِي موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال: يقولون: عليها غِلافٌ، وهو الغِطاءُ

(5)

.

(1)

بعده في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"أبي".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 170، 4/ 1108 عقب الأثر (897، 6223) من طريق سعيد عن قتادة به.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 51.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 170 (897) من طريق آدم به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 170 عقب الأثر (895) عن أبي زرعة عن عمرو به.

ص: 229

وحَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} . قال: يقولُ: قلبى في غِلافٍ، فلا يَخْلُصُ إليه ما

(1)

تقولُ. وقرأ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}

(2)

.

وأمَّا الذين قرَءوها: (غُلُفٌ). بتحريكِ اللامِ وضَمِّها، فإنهم تأوَّلوها أنهم قالوا: قلوبُنا غُلُفٌ للعلمِ. بمعنى أنَّها أوعيةٌ لها

(3)

. والغُلُفُ -على قراءةِ

(4)

هؤلاء- جمعُ غِلافٍ، كما يُجْمَعُ الكِتابُ كُتُبًا، والحِجَابُ حُجُبًا، والشِّهَابُ شُهُبًا.

فمعنى الكلامِ على تأويلِ مَن قرأه: (غُلُفٌ). بتحريكِ اللامِ وضَمِّها: وقالت اليهودُ: قلوبُنا غُلُفٌ للعلمِ، وأوعيةٌ له أَو

(5)

لغيرِه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بنُ أسباطَ بنِ محمدٍ القرشيُّ

(6)

، قال: ثنا أبي، عن فُضَيْلِ بنِ مرزوقٍ، عن عطيةَ:(وقالوا قُلُوبنا غُلُفٌ). قال: أوعيةٌ للذِّكرِ

(7)

.

وحَدَّثَنِي محمدُ بنُ عُمارةَ الأسدىُّ، قال: ثنا عُبَيدُ اللهِ بنُ موسي، قال: أخبرَنا فُضَيْلٌ، عن عطيةَ في قولِه:(غُلُفٌ). قال: أوعيةٌ للعلْمِ

(8)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مما".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 177.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تأويل".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 170، 4/ 1108 (898، 6224) من طريق أسباط بن محمد به. وفيه: أوعية للمنكر.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 170، 4/ 1108 (894، 6220) من طريق فضيل به.

ص: 230

وحَدَّثَنَا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوَازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا فُضَيْلُ [ابنُ مَرزوقٍ]

(1)

، عن عطيةَ مثلَه.

وحُدِّثْتُ عن المِنْجَابِ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:(وقالوا قلوبُنا غُلُفٌ). قال: مملوءةٌ عِلمًا لا يُحتاجُ إلى عِلْمِ

(2)

محمدٍ ولا غيرِه

(3)

.

والقراءةُ التى لا يجوزُ غيرُها في قولِه: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} هى قراءةُ مَن قرَأها: {غُلْفٌ} . بتسكينِ اللامِ، بمعنى أنَّها في أغشيةٍ وأغطيةٍ؛ لاجتماعِ الحُجَّةِ مِن القَرَأَةِ وأهلِ التأويلِ على صِحَّتِها، وشذوذِ مَن شَذَّ عنهم بما خالفه مِن قراءةِ ذلك بضمِّ اللامِ. وقد دَلَّلْنا على أنَّ ما جاءت به الحُجَّةُ مُتَّفقةً عليه، حُجَّةٌ على مَن بلَغه، وما جاء به المُنْفَرِدُ فغيرُ جائزٍ الاعتراضُ به على ما جاءت به الجماعةُ التى تقومُ بها الحُجَّةُ نقلًا، [قولًا أو عملًا]

(4)

، فى غيرِ هذا الموضعِ، فأغنى ذلك عن إعادتِه في هذا المكانِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ} .

يعنى جل ثناؤه بقولِه: {{بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ} : بل أقصاهم اللهُ وأبعَدهم وطرَدهم وأخزَاهم وأهلَكهم بكفرِهم، وهو

(5)

جُحودُهم آياتِ اللهِ وبيِّناتِه وما ابْتَعث به رسلَه، وتكذيبُهم أنبياءَه، فأخبَر اللهُ تعالى ذكرُه أنه أبعَدَهم منه ومِن رحمتِه بما

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 170، 4/ 1108 (893، 6219) عن أبي زرعة عن منجاب به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وقولا وعملا".

(5)

سقط من: م.

ص: 231

كانوا يفْعَلون مِن ذلك.

وأصلُ "اللَّعْنِ" الطردُ والإبعادُ والإقصاءُ، يقال منه: لعَن فُلانٌ

(1)

فلانًا يَلْعَنُه لَعْنًا، وهو ملعونٌ. ثم يُصَرَّفُ "مفْعولٌ"[منه إلى "فَعِيلٍ"]

(2)

، فيقال: هو لَعِينٌ. ومنه قولُ الشَّمَّاخ

(3)

:

ذَعَرْتُ بهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ

مَقَامَ

(4)

الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعِينِ

وفي قولِ اللهِ جلَّ ثناؤه: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ} . تكذيبٌ منه للقائلينَ من اليهودِ: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} . لأنَّ قولَه: {بَلْ} . دلالةٌ على جَحْدِه جل ذكرُه، وإنكارِه ما ادَّعَوْا مِن ذلك، إذ كانت "بل" لا تدخُلُ في الكلامِ إلَّا نَقْضًا لمجحودٍ.

فإذ

(5)

كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ أن معنى الآيةِ: وقالت اليهودُ: قلوبُنا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تدعونا إليه يا محمدُ. فقال اللهُ تعالى ذكرُه: ما ذلك كما زعَموا، ولكنّ اللهَ أقصَى اليهودَ وأبعَدَهم من رحمتِه، وطرَدهم عنها وأخزاهم، بجحودِهم [به وبرسلِه]

(6)

فقليلًا ما يؤمنون.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} ؛ فقال بعضُهم:

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

(2)

سقط من: م، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"منه".

(3)

ديوانه ص 321.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مكان".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإذا".

(6)

في م: "له ولرسله".

ص: 232

معناه: فقليلٌ منهم مَن يُؤْمِنُ. أى: لا يُؤْمِن منهم إلَّا قليلٌ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} : وَلَعَمْرِى، لمَن رجَع مِن أهلِ الشركِ أكثرُ مِمَّن رجَع مِن أهل الكتابِ، إنما آمن مِن أهلِ الكتابِ رهطٌ يسيرٌ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} قال: لا يُؤْمِنُ منهم إلَّا قليلٌ

(1)

.

وقال آخَرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلَّا بقليلٍ مِمَّا في أيديهم.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} قال: لا يُؤْمِنُ منهم إلَّا قليلٌ. قال معمرٌ: وقال غيرُه: لا يؤمِنون إلَّا بقليلٍ ممَّا في أيديهم.

وأَوْلَى التأويلاتِ في قولِه: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} بالصوابِ ما نحن مُبَيِّنُوهُ

(2)

إن شاء اللهُ، وهو أن اللهَ جل ثناؤه أخبَر أنه لعَن الذين وصَف صفتَهم في هذه الآية، ثم أخبَر عنهم أنهم قليلو الإيمانِ بما أنزَل الله إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولذلك

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 51. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 171، 4/ 1109 (900، 6229) عن الحسن بن يحيى به.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"متقنوه".

ص: 233

نصَب قولَه: {فَقَلِيلًا} لأنه نعتٌ للمصدرِ المتروكِ ذكرُه، ومعناه: بل لعَنهم اللهُ بكفرِهم، فإيمانًا قليلًا ما يؤمنون. فقد تبيَّن إذن -بما بيَّنَّا- فسادُ القولِ الذى رُوِى عن قتادةَ في ذلك؛ لأن معنى ذلك لو كان على ما رُوِى عنه مِن أنه يعنى به: فلا يُؤْمِنُ منهم إلَّا قليلٌ، أو فقليلٌ منهم مَن يُؤْمِنُ. لكان "القليلُ" مرفوعًا لا منصوبًا، لأنه إذا كان ذلك تأويلَه كان "القليلُ" حينئذٍ مُرَافِعًا "ما"، وإن نُصِب "القليلُ""ما" في معنى "مَن" أو "الذى"- بقِيت "ما" لا مُرَافِعَ لها، وذلك غيرُ جائزٍ في لغةِ أحدٍ مِن العربِ.

فأمَّا أهلُ العربيةِ فإنهم اخْتَلَفُوا في معنى {مَا} التى في قولِه: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} ؛ فقال بعضُهم: هى زائدةٌ لا معنى لها، وإنما تأويلُ الكلامِ: فقليلًا يؤمنون. كما قال جل ثناؤُه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وما أشبهَ ذلك. فزعَم أن "ما" في ذلك زائدةٌ، وأن معنى الكلامِ: فبرحمةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لهم. وأنشَد مُحْتَجًّا لقولِه ذلك بيتَ مُهَلْهِلٍ

(1)

:

لَوْ بِأَبَانَيْنِ

(2)

[جَاءَ يَخْطُبُهَا]

(3)

.... خُضِّبَ

(4)

مَا أَنْفُ خَاطِبٍ بِدَمِ

وزعَم أنه يعنى: خُضِّب أنفُ خاطبٍ بدمٍ. وأن "ما" زائدةٌ.

وأنكَر آخَرون ما قاله قائلُ هذا القولِ في "ما" في الآيةِ، وفى البيتِ الذى أنشَده، وقالوا: إنما ذلك مِن المتكلِّم على ابتداءِ الكلامِ بالخبرِ عن عمومِ جميعِ الأشياءِ؛ إذ كانت "ما" كلمةً تَجْمَعُ كلَّ الأشياءِ، ثم تَخُصُّ [بعضَ ما عمَّته "ما" بما يُذْكَرُ]

(5)

بعدَها.

(1)

شرح المفصل 1/ 46، والكامل 3/ 91.

(2)

أبانٌ جَبَلٌ، وهما أبانان: أبان الأسود وأبان الأبيض. قاله المبرد.

(3)

في الأصل، ت 1:"جئت تخطبها".

(4)

في المفصل: "رُمِّل"، وفى الكامل:"ضرج". وكل ذلك بمعنى.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وتعمُّ ما عمَّته بما تذكره".

ص: 234

وهذا القولُ عندَنا هو أولَى بالصَّوَابِ؛ لأن زيادةَ ما لا يُفِيدُ مِن الكلامِ معنًى في الكلامِ غيرُ جائزةٍ

(1)

إضافتُه إلي اللهِ جل ثناؤه.

ولعل قائلًا أن يقولَ: هل كان للذينَ أخبَرَ اللهُ عنهم أنهم قليلًا ما يؤمنون، مِن الإيمانِ قليلٌ أو كثيرٌ، فيقالَ فيهم:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} ؟.

قيل: إن معنى الإيمانِ هو التصديقُ، وقد كانت اليهودُ التى أخبَرَ اللهُ عنها هذا الخبرَ تُصَدِّقُ بوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وبالبعثِ والثوابِ والعقابِ، وتَكْفُرُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبنُبُوَّتِه، وكلُّ ذلك كان فرضًا عليهم الإيمانُ به؛ لأنه في كُتُبِهم وممَّا جاءهم به موسى، فصدَّقوا ببعضٍ، [وذلك هو]

(2)

القليلُ مِن إيمانِهم، وكذَّبوا ببعضٍ، وذلك هو الكثيرُ الذى أخبَرَ اللهُ عنهم أنهم يَكْفُرون به.

وقد قال بعضُهم: إنهم كانوا غيرَ مؤمنين بشيءٍ، وإنما قيل:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} . وهم بالجميعِ كافرون، كما تقولُ العربُ: قلَّما رأيتُ مثلَ هذا قطُّ. [تُريدُ: ما رأيتُ مثلَ هذا قَطُّ]

(3)

. ورُوِى عنها سماعًا منها: مرَرْتُ ببلدٍ

(4)

قلَّما يُنْبِتُ إلَّا الكُرَّاثَ والبصلَ. يعنى: ما يُنْبِتُ [شيئًا إلا]

(5)

الكُرَّاثَ والبصلَ. وما أشبهَ ذلك مِن الكلامِ الذى يُنْطَقُ به بوصْفِ الشئِ بالقلَّةِ، والمعنى فيه نفيُ جميعِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} .

(1)

في م: "جائز".

(2)

في م: "هو ذلك".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ببلاد".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"غير".

ص: 235

يعنى جلّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ} : ولمَّا جاء اليهودَ مِن بني إسرائيلَ الذين وصَف جلّ ثناؤُه صفتَهم {كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ} يعنى بـ "الكتابِ" القرآنَ الذى أنزَله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} يعنى: مصدِّقٌ للذي معَهم مِن الكتبِ التى أنزلها الله مِن قبلِ القرآنِ.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} : وهو القرآنُ الذى أنْزَله على محمدٍ {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [أى: للتوراةِ]

(1)

والإنجيلِ

(2)

.

وحدِّثتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} : وهو القرآنُ الذى أُنْزِل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مصدِّقٌ لما معَهم مِن التوراةِ والإنجيلِ

(3)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أى: وكان هؤلاءِ اليهودُ -الذين لمَّا جاءهم كتابٌ مِن عندِ اللهِ مصدِّقٌ لما معهم من الكتبِ التى أنزلها اللهُ قبلَ الفُرقانِ، كفَروا به -يَسْتَفْتِحون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم- ومعنى الاسْتِفْتاحِ: الاسْتِنْصارُ- ويَسْتَنْصِرون اللهَ به على مُشْرِكى العربِ مِن قبلِ مَبْعَثِه. [وذلك قولُه: {مِنْ قَبْلُ}]

(4)

أى: مِن قبلِ أن يُبْعَثَ.

(1)

في م: "من التوراة".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 171 (901) من طريق شيبان، عن قتادة.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 171 عقب الأثر (901، 902) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 236

كما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن عاصمِ بنِ عمرَ بنِ قتادةَ الأنصاريِّ، عن أشياخٍ منهم قالوا: فينا واللهِ وفيهم -يعنى: في الأنصارِ وفي اليهودِ الذين كانوا جيرانَهم- نزَلت هذه القصةُ -يعنى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} - قالوا: كُنَّا قد علَوْناهم دهرًا في الجاهليةِ، ونحن أهلُ شركٍ، وهم أهلُ كتابٍ، فكانوا يقولون: إن نبيًّا [يُبعَثُ الآنَ نتَّبِعُه]

(1)

قد أظلَّ

(2)

زمانُه، [نَقْتُلكم معه]

(3)

قتلَ عادٍ وإرمَ، فلمَّا بعَث اللهُ تعالى ذكرُه رسولَه مِن قريشٍ واتَّبَعْناه، كفَروا به، يقولُ اللهُ:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}

(4)

.

وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى آلِ زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، أو سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، أن يهودَ كانوا يَسْتَفْتِحون على الأوسِ والخزرج برسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ مَبْعَثِه، فلمَّا بعَثه اللهُ من العربِ، كفَروا به، وجحَدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذُ بنُ جَبَلٍ، وبشرُ بنُ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ أخو بنى سلِمةَ: يا معشرَ يهودَ، اتَّقوا اللهَ وأَسْلِموا، فقد كنتم تَسْتَفْتِحون علينا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ونحنُ أهلُ شركٍ، وتُخْبِروننا أنه مبعوثٌ، وتَصِفونه لنا بصفتِه. فقال سلَّامُ بنُ مِشْكَمٍ أخو

(1)

في م: "الآن مبعثه".

(2)

في الأصل: "أطل".

(3)

في م: "يقتلكم".

(4)

أخرجه ابن إسحاق في سيرته ص 63 (62)، ومن طريقه البيهقى في الدلائل 2/ 75، 433، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 87 إلى ابن المنذر. وينظر سيرة ابن هشام 1/ 541.

ص: 237

بنى النَّضِيرِ: ما جاءنا بشيءٍ نَعْرِفُه، وما هو بالذى كُنَّا نَذْكُرُ لكم. فأنزَل اللهُ في ذلك مِن قولِهم:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}

(1)

.

وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا يونسُ بنُ بُكَيْرٍ، قال: حدَّثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى آلِ

(2)

زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جُبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه (1).

وحدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يقولُ: يَسْتَنْصِرون بخُرُوجِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على مشركى العربِ. يعنى بذلك أهلَ الكتابِ، فلمَّا بعَث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم ورَأَوْه مِن غيرِهم كفَروا به وحسَدُوه

(3)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ قال: حدَّثنا عيسى، عن ابن أبى نَجيحٍ، عن عليٍّ الأَزْدَىِّ في قولِ الله {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}. قال: اليهودُ، كانوا يقولون: اللهمَّ ابعثْ لنا هذا النبيَّ يَحْكُمْ بينَنا وبينَ الناسِ. {يَسْتَفْتِحُونَ} : يَسْتَنْصِرون به على الناسِ

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 172 (905)، وأبو نعيم في الدلائل (43) من طريق ابن إسحاق به.

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 88 إلى المصنف.

(4)

تفسير مجاهد (ص 209)، ومن طريقه البيهقى في الدلائل 2/ 76.

ص: 238

وحدَّثنى المُثَنَّى قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن عليٍّ الأَزْدِىِّ -وهو البارِقيُّ- في قولِ اللهِ:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} . فذكَر مثلَه سواءً.

وحدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} : كانت اليهودُ تَسْتَفْتِحُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم على كفَّارِ العربِ مِن قبلُ، وقالوا: اللهمَّ ابعثْ هذا النبيَّ الذى نَجِدُه مكتوبًا في التوراةِ يُعَذِّبْهم ويَقْتُلْهم. فلمَّا بعَث اللهُ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم فرأَوْا أنه بُعِث مِن غيرِهم، كفَروا به، حَسَدًا للعربِ، وهم يعلَمون أنه رسولٌ، يَجِدُونه مكتوبًا عندَهم في التوراةِ:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}

(1)

.

[وحدّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: كانوا يقولون: إنه سيأتى نبيٌّ. فلما جاءهم ما عرَفوا كفَروا بهِ]

(2)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: كانت اليهودُ تَسْتَنْصِرُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم على مُشْرِكى العربِ، يقولون: اللهمَّ ابعثْ هذا النبيَّ الذى نَجِدُه مكتوبًا عندَنا حتى يُعَذِّبَ المشركين ويَقْتُلَهم، فلمَّا بعَث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم ورَأَوْا أنه مِن غيرِهم كفَروا به، حسدًا للعربِ، وهم يعلمون أنه رسولُ اللهِ، فقال اللهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 88 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبى نعيم.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 52، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 171 (904) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 239

الْكَافِرِينَ}

(1)

.

وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمْرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قال: كانتِ العربُ تَمُرُّ باليهودِ فيُؤْذُونهم، وكانوا يَجِدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في التوراةِ، فيَسألون

(2)

اللهَ أن يبعثَه فيُقاتِلوا معه العربَ، فلما جاءَهم محمدٌ كفَروا به حين لم يكنْ مِن بنى إسرائيلَ

(3)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: قولُه: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} ؟ قال: كانوا يَسْتَفْتِحون على كفارِ العربِ بخروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويَرْجُون أن يكونَ منهم، فلما خرَج ورأَوْه ليس منهم كفَروا، وقد عَرَفوا أنه الحقُّ وأنه نبىُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال اللهُ:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

[قال ابنُ جريجٍ: وقال مجاهدٌ]

(4)

: يَسْتَفتِحون بمحمدٍ، تقولُ: إنه يخرجُ. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} وكان من غيرِهم {كَفَرُوا بِهِ}

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 172 (906) من طريق آدم به.

(2)

في م: "ويسألون".

(3)

أخرجه البيهقى في الدلائل 2/ 536 من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدى، بإسناده المعروف.

(4)

فى م، ت 2، ت 3:"قال حدثنا ابن جريج وقال مجاهد"، وفى ت 1:"قال حدثنا ابن جريج قال حدثنا مجاهد".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسير 1/ 172 (907) من طريق حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد نحوه.

ص: 240

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: وقال ابنُ عباسٍ: كانوا يَسْتَفْتِحون على كفارِ العربِ.

وحدَّثنى المثنى، قال: حدثنى الحِمّانيُّ

(1)

، قال: حدَّثنا شَريكٌ، عن أبي الجَحَّافِ

(2)

، عن مُسلمٍ البَطِينِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ قولَه:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قال: هم اليهودُ، عَرَفوا محمدًا أنه نبىٌّ وكفَروا به

(3)

.

وحُدِّثت عن المنجابِ، قال: حدثنا بشرٌ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: كانوا يَسْتَظْهِرون، يقولون: نحن نُعِينُ محمدًا عليهم

(4)

. وليسوا كذلك، يَكْذِبون

(5)

.

وحدثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: سألتُ ابنَ زيدٍ عن قولِه: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} . قال: كانت يهودُ يَسْتَفْتِحون على كفارِ العربِ، يقولون: أما واللهِ لو قد جاء النبيُّ الذى بَشَّر به موسى وعيسى؛ أحمدُ، لكَان لنا عليكم. وكانوا يَظُنون أنه منهم، [وكانوا بالمدينةِ]

(6)

والعربُ حولَهم، وكانوا يَسْتَفتِحون عليهم به ويَسْتَنْصِرون به، فلما [كان مِن غيرِهم أَبَوْا أن يُؤمِنوا]

(7)

به وحَسَدوه. وقرأ قولَ

(1)

فى الأصل: "الجمانى".

(2)

في النسخ: "الحجاف" وهو داود بن أبى عوف، أبو الجحاف الكوفى. ترجمته في تهذيب الكمال 8/ 434.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 88 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(4)

في الأصل: "عليكم".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 171 (903) عن أبى زرعة، عن منجاب به.

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جاءهم ما عرفوا كفروا".

ص: 241

اللهِ: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] قال: قد تَبَيَّنَ لهم أنه رسولُ اللهِ، فمِن هنالك نَفَع اللهُ الأوسَ والخزرجَ بما كانوا يَسْمَعون منهم أن نبيًّا خارجٌ.

فإن قال لنا قائلٌ: فأين جوابُ قولِه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} ؟ قيل: قد اختلف أهلُ العربيةِ في جوابِه؛ فقال بعضُهم: هو مما تُرِك جوابُه استغناءً بمعرفةِ المخاطَبين به بمعناه وبما قد ذُكِر من أمثالِه في سائرِ القرآنِ، وقد تفعَلُ العربُ ذلك إذا طال الكلامُ، فتأتى بأشياءَ لها أجوبةٌ فتَحْذِفُ أجوبتَها لاستغناءِ سامعيها بمعرفتِهم بمعناها عن ذكرِ الأجوبةِ، كما قال جل ثناؤُه:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]. فترَك جوابَه. والمعنى: ولو أن قرآنًا سوى هذا القرآنِ سُيِّرَتْ به الجبالُ لَسُيِّرَتْ بهذا القرآنِ. [فترَك قولَه: لسُيِّرَتْ بهذا القرآنِ]

(1)

. استغناءً بعلمِ السامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قولُه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} .

وقال آخرون: جوابُ قولِه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ} . في "الفاءِ" التى في قولِه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} . وجوابُ الجزاءَيْن في {كَفَرُوا بِهِ} . كقولِك: لما قُمْتَ فلما جِئْتَنا أحسَنْتَ. بمعنى: لما جِئْتَنا إذ قُمْتَ أحسنْتَ.

‌القولُ في تأويلِ قوله: {فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} .

قد دلَّلْنا على معنى "اللعنةِ" وعلى معني "الكفرِ" فيما مضَى بما فيه الكفايةُ

(2)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ينظر معنى "اللعنة" في ص 231، وتقدم معنى الكفر في 1/ 262.

ص: 242

فمعنى الآيةِ: فخِزْىُ اللهِ وإبعادُه على الجاحدِين ما قد عَرَفوا من الحقِّ عليهم للهِ ولأنبيائِه، المنكِرين ما قد ثَبَت عندهم صحَّتُه من نبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفى إخبارِ اللهِ عز وجل عن اليهودِ بما أخبَر عنهم بقولِه:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} : البيانُ الواضحُ أنهم تَعَمَّدوا الكفرَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد قيامِ الحجةِ بنبوتِه عليهم وقَطْعِ اللهِ عُذْرَهم بأنه رسولُه إليهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا} .

ومعنى قولِه جل ثناؤه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} : ساء ما اشْتَرَوْا به أنفسَهم.

وأصلُ "بِئْس""بَئِسَ" من البُؤْسِ، سُكِّنَتْ همزتُها ثم نُقِلت حركتُها إلى الباءِ، كما قيل في: ظَلِلْتُ: ظِلْتُ. وكما قيل للكَبِدِ: كِبْدٌ. فنُقِلَتْ حركةُ الباءِ إلى الكافِ لما سُكِّنتِ الباءُ. وقد يَحْتَمِلُ أن تكونَ "بِئْسَ" -وإن كان أصلُها "بَئِسَ"- من لغةِ الذين ينقُلُون حركةَ العينِ من "فَعِل" إلى الفاءِ، إذا كانت عينُ الفعلِ أحدَ حروفِ الحلقِ الستةِ، كما قالوا من: لَعِبَ، لِعْبَ. ومن: سَئم، سِئْمَ. وذلك فيما يقالُ لغةٌ فاشِيَةٌ في تميمٍ، ثم جُعِلَتْ دَلالةً

(1)

على الذمِّ والتوبيخِ ووُصِلَتْ بـ "ما".

ثم اختلَف أهلُ العربيةِ في معنى "ما" التى مع {بِئْسَمَا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: هى وحدَها - اسمٌ، و {أَنْ يَكْفُرُوا} تفسيرٌ له، نحوَ: نِعْمَ رجلًا زيدٌ. و {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ} بدلٌ مِن {أَنْزَلَ اللهُ} .

(1)

في م: "دالة".

ص: 243

وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: معنى ذلك: بئس الشئُ اشتَرَوْا به أنفسَهم أن يَكْفُروا، فـ "ما" اسمُ "بِئْسَ"، و {أَنْ يَكْفُرُوا} الاسمُ الثانى. وزعَم أنَّ قولَه

(1)

: {أَنْ يَكْفُرُوا}

(2)

إن شِئْتَ جعلْتَ: {أَنْ} في موضِعِ رفعٍ، وإن شِئْتَ في موضعِ خفضٍ؛ أما الرفعُ: فبِئْسَ الشئُ هذا أن يَفْعلوا. وأما الخفضُ: فبِئْسَ الشئُ اشتَرَوْا به أنفسَهم بأن

(3)

يَكْفُروا بما أنزَل اللهُ بَغْيًا. قال: وقولُه: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 80] كمثلِ ذلك. قال

(4)

: والعربُ تَجْعَلُ "ما" وحدَها في هذا البابِ بمنزلةِ الاسمِ التامِّ، كقولِه:{فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]. وبئسما أنت. واسْتَشْهد لقولِه ذلك برَجَزٍ لبعضِ

(5)

الرُّجّازِ

(6)

:

لا تَعْجَلا في السَّيْرِ وادْلُواها

(7)

لَبِئْسما بُطْءٌ ولا نَرْعاها

(8)

(1)

سقط من: م.

(2)

في النسخ: "ينزل الله من فضله"، والمثبت من معانى القرآن للفراء 1/ 56، وينظر تفسير القرطبى 2/ 28.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

في م: "بعض".

(6)

هو زفر بن الخيار المحاربى، والرجز في التكملة والذيل والصلة، واللسان، والتاج (ن ب ل)، واللسان (د ل و) باختلاف عما هنا.

(7)

دلوت الناقة والإبل دلوا: سقتها سوقا رفيقا رويدا.

(8)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"انزعاها"، وفى الموضع الأول من اللسان والتاج:"ترعاها".

ص: 244

والعربُ تقولُ: لبِئْسَما تزويجٌ ولا مَهْرٌ. فيَجْعَلون "ما" وحدَها اسمًا بغيرِ صلةٍ.

قال أبو جعفرٍ: وقائلُ هذه المقالةِ لا يُجيزُ أن يكونَ الذى يَلِى "بئْسَ" معرفةً مُوَقَّتةً، وخبرُه معرفةً موقتةً. قد زعَم أن "بئسما" بمعنى

(1)

: بِئْسَ الشئُ اشتَرَوْا به أنفسَهم. فقد صارتْ "ما" بصِفتِها اسمًا موقَّتًا؛ لأنَّ "اشتَرَوْا" فعلٌ ماضٍ من صلةِ "ما"، في قولِ قائلِ هذه المقالةِ، وإذا وُصِلَتْ بماضٍ من الفعلِ كانت معرفةً موقَّتةً معلومةً، فيصيرُ تأويلُ الكلامِ حينئذٍ: بئس شراؤُهم كفرُهم. وذلك عنده غيرُ جائزٍ، فقد تبيَّنَ فسادُ هذا القولِ.

وكان آخرُ منهم

(2)

يزعُمُ أنَّ {أَن} في موضعِ خفضٍ إن شِئْتَ، ورفعٍ إن شِئْتَ. فأما الخفضُ فأن تَرُدَّه على الهاءِ التى في {بِهِ} . على التكريرِ على كلامَيْن، كأنك قُلْتَ: اشتَرَوْا أنفسَهم بالكفرِ. وأما الرفعُ فأن يكونَ مُكَرَّرًا

(3)

على موضعِ "ما" التى تَلِى "بِئْسَ". قال: ولا يجوزُ أن يكونَ رفعًا على قولِك: بئْس الرجلُ عبدُ اللهِ.

وقال بعضُهم: {بِئْسَمَا} شيءٌ واحدٌ [يُعْرَبُ بما]

(4)

بعدَه، كما حُكِى عن العربِ: بئسما تَزويجٌ ولا مَهْرٌ. فرفَع "تَزويجٌ" بـ "بئسما"، كما يقالُ: بئسما زيدٌ. ونعمّا

(5)

عمرٌو. فيكونُ "بئسما" رفعًا بما عادَ عليها من الهاءِ، كأنك

(1)

فى م: "بمنزلة".

(2)

هو الفراء في معانى القرآن 1/ 56.

(3)

في معانى القرآن: "مكرورا".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعرف ما".

(5)

في م، ت 1، ت، 2، ت 3:"بئسما".

ص: 245

قُلْتَ: [شيءٌ بِئْس]

(1)

الشئُ اشتَرَوْا به أنفسَهم. وتكونُ "أنْ" مترجِمةً

(2)

عن "بئسما".

وأولى هذه الأقوالِ عندى بالصوابِ قولُ من جعَل: {بِئْسَمَا} مرفوعًا بالراجعِ من الهاءِ في قولِه: {اشْتَرَوْا بِهِ} كما رَفَعوا ذلك بـ "عبدِ اللهِ"، إذ قالوا: بئسما عبدُ اللهِ. وجَعَل {أَنْ يَكْفُرُوا} مترجِمةً عن {بِئْسَمَا} . فيكونُ معنى الكلامِ حينئذٍ: بئس الشئُ باع اليهودُ به أنفسَهم كفرُهم بما أنزَلَ اللهُ بغيًا وحسدًا أن يُنَزِّلَ اللهُ من فضلِه. وتكونُ {أَنْ} التى في قولِه: {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ} . في موضعِ نصبٍ؛ لأنه يَعْنِى به: أن يَكْفُروا بما أنزَل اللهُ من أجلِ أن يُنَزِّلَ اللهُ من فضلِه على مَن يشاءُ من عبادِه. وموضعُ {أَنْ} جَزاءٌ

(3)

. وكان بعضُ أهلِ العربيةِ من الكوفيِّين

(4)

يزعُمُ أنَّ {أَنْ} في موضِعِ خفضٍ بنيةِ الباءِ. وإنما اختَرْنا

(5)

فيها النصبَ لتمامِ الخبرِ قبلَها، ولا خافضَ معها يَخْفِضُها، والحرفُ الخافضُ لا يُخفَضُ به مُضْمَرًا.

وأما قولُه: {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فإنه يَعْنِى به: باعُوا به أنفسَهم. كما حدثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} . يقولُ: باعُوا به

(6)

أنفسَهم {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}

(7)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بئس شيء".

(2)

الترجمة هى تسمية الكوفيين لما يسميه البصريون عطف البيان. همع الهوامع 1/ 121.

(3)

في م: "جر". وينظر معانى القرآن 1/ 58.

(4)

هو الكسائى. ينظر معانى القرآن الموضع السابق.

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"أجزنا".

(6)

سقط من: م.

(7)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 172، 195 (908، 1030) من طريق عمرو به.

ص: 246

وحدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ

(1)

، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} : يهودُ، شَرَوُا الحقَّ بالباطلِ، وكتمانَ ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم بأن يُبَيِّنوه

(2)

.

والعربُ تقولُ: [شَرَيْتُ الشئَ]

(3)

. بمعنى: بِعْتُه. و {اشْتَرَوْا} في هذا الموضِعِ " افتَعلوا" مِن "شَرَيت". وأكثرُ

(4)

كلامِ العربِ -فيما بلَغنا- أن يقولوا: شَرَيتُ. بمعنى: بِعْتُ، و: اشْتَريتُ. بمعنى: ابْتَعتُ. وقِيلَ: إنما سُمِّىَ الشارى

(5)

شاريًا؛ لأنه باع نفسَه ودنياه بآخرتِه. ومن ذلك قولُ يزيدَ بنِ مُفرِّغٍ الحِمْيرىِّ

(6)

:

وشَرَيْتُ بُرْدًا ليتنى

من قبلِ

(7)

بُرْدٍ كُنْتُ هامَهْ

(8)

ومنه قولُ المُسيَّبِ بنِ عَلَسٍ

(9)

:

يُعْطَى بِها ثَمَنًا فَيَمْنَعُها

ويقولُ صاحِبُها

(10)

ألا تَشْرِى

(11)

يعنى به: بِعْتُ بُرْدًا. وربما اسْتُعْمِلَ "اشْتَريتُ"[فى معنى]

(12)

: بِعْتُ،

(1)

في م: "الحسن".

(2)

في م: "بينوه".

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 172 (909) من طريق حجاج به.

(3)

في م: "شريته".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

الشارى واحد الشراة: وهم الخوارج. التاج (ش ر ى).

(6)

طبقات فحول الشعراء 2/ 689، وأمالى الزجاجى ص 42، والأضداد ص 73.

(7)

في مصادر التخريج: "بعد".

(8)

في ت 1، ت 2، ت 3:"كهامة". يقال: هذا هامة اليوم أو غد. أى يموت اليوم أو غدا. اللسان (هـ و م).

(9)

الأضداد ص 74، وهو في الخزانة 3/ 237 ضمن أبيات للأعشى.

(10)

كذا في النسخ، وفى مصدرى التخريج:"صاحبه"، وهو الصواب، راجع الخزانة.

(11)

في ت 2، ت 3:"تشترى".

(12)

في م: "بمعنى".

ص: 247

و"شَرَيتُ" في معنى: ابْتَعتُ. والكلامُ المُسْتَفيضُ

(1)

هو ما وصَفتُ.

وأما معنى قولِه: {بَغْيًا} فإنه يعنى به: تعدِّيًا وحسدًا.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قأل: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بَغْيًا} . قال: أى حسدًا، وهم اليهودُ

(2)

.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ:{بَغْيًا} . قال: بَغَوْا على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وحسَدوه، وقالوا: إنما كانت الرسلُ مِن بنى إسرائيلَ، فما بالُ هذا مِن بنى إسماعيلَ؟ فحسَدوه أن يُنَزِّلَ اللهُ من فضلِه على مَن يشاءُ مِن عبادِه.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{بَغْيًا} يعنى: حسدًا {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم اليهودُ، كفروا بما أُنْزِل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

فمعنى الآيةِ: بئس الشئُ باعوا به أنفسَهم، الكفرُ بالذي أنْزَله اللهُ في كتابِه على موسى، مِن نبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم والأمرِ بتصديقِه واتباعِه، من أجلِ أن أنْزَل اللهُ مِن فضلِه -وفضلُه حكمتُه وآياتُه ونبوَّتُه- {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يعنى به: على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بغيًا وحسدًا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن أجل أنه كان مِن ولدِ إسماعيلَ، ولم يكنْ مِن بنى إسرائيلَ.

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيهم".

(2)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 88 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 173 (910، 911) من طريق آدم به.

ص: 248

فإن قال قائلٌ: وكيف باعت اليهودُ أنفسَها بالكفرِ، فقِيل:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} . وهل يُشْتَرى بالكفرِ شيءٌ؟

قيل: إن معنى الشراءِ والبيعِ عندَ العربِ هو إزالةُ مالكٍ مِلْكَه إلى غيرِه بعِوَضٍ يَعْتَاضُه منه، ثم تَسْتَعملُ العربُ، ذلك فى كلِّ مُعْتاضٍ مِن عملِه عِوَضًا، شرًّا أو خيرًا، فتقولُ: نِعْمَ ما باع به فلانٌ نفسَه، وبئس ما باع به فلانٌ نفسَه. بمعنى: نِعْمَ الكَسْبُ أكْسَبها، وبئس الكَسْبُ أكْسَبها. إذا أوْرَثها بسَعْيِه عليها خيرًا أو شرًّا. فكذلك معنى قولِه جل ثناؤه:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} . لمّا أوْبقوا أنفسَهم بكفرِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فأهْلَكوها، خاطَبهم اللهُ والعربَ بالذى يَعْرِفونه في كلامِهم، فقال:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يعنى بذلك: بئس ما أكْسَبوا أنفسَهم بسعيِهم، وبئس العِوَض اعْتَاضُوا مِن كفرِهم باللهِ في تكذيبِهم محمدًا؛ إذ كانوا قد رَضُوا عِوضًا مِن ثوابِ اللهِ وما أعدَّ لهم -لو كانوا آمَنُوا باللهِ وما أنْزَل على أنبيائِه- بالنارِ وما أعدَّ لهم بكفرِهم بذلك.

وهذه الآيةُ -وما أخْبَر اللهُ فيها عن حسدِ اليهودِ محمدًا صلى الله عليه وسلم وقومَه مِن العربِ، مِن أجلِ أن اللهَ جعَل النبوةَ والحِكمةَ فيهم دونَ اليهودِ مِن بنى إسرائيلَ، حتى دعَاهم ذلك إلى الكفرِ به مع علمِهم بصدقِه، وأنه للهِ نبىٌّ مبعوثٌ ورسولٌ مُرْسَلٌ- نَظِيرةُ الآيةِ الأُخْرى فى سورةِ النساءِ، وذلك قولُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 51 - 54].

ص: 249

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .

قد ذَكَرْنا تأويلَ ذلك وبَينَّا معناه، ولكنا نذكرُ الرِّوايةَ بتَصْحيحِ ما قلنا فيه:

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن عاصمِ بنِ عمرَ بنِ قتادةَ الأنْصارىِّ، عن أشْياخٍ منهم قولَه:{بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . أى: أن اللهَ تعالى جعلَه في غيرِهم

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: هم اليهودُ، لما بعَث اللهُ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم فرأَوا أنه بُعِث من غيرِهم، كفَروا به حسدًا للعربِ، وهم يَعْلمون أنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَجِدونه مكتوبًا عندَهم في التوراةِ

(2)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ مثلَه.

وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ، قال: قالوا: إنما كانت الرسلُ مِن بنى إسرائيلَ، فما بالُ هذا مِن بنى إسماعيلَ؟

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن علىٍّ الأَزْدَىِّ، قال: نزَلت في اليهودِ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} .

(1)

تقدم تخريجه في ص 236.

(2)

تقدم تخريجه في ص 238.

(3)

تقدم تخريجه في ص 237.

ص: 250

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} : فرجَعت اليهودُ من بنى إسرائيلَ -بعدَ الذى كانوا عليه مِن الاسْتِنصارِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم والاستفتاحِ به، وبعدَ الذى كانوا يُخْبِرون

(1)

الناسَ مِن قبلِ مَبْعثِه أنه نبىٌّ مَبْعوثٌ- مُرْتَدين على أعقابِهم حين بعَثه اللهُ نبيًّا مرسلًا، [وانصرَفَت]

(2)

بغضبٍ من اللهِ، اسْتَحقوه منه بكفرِهم بمحمدٍ حينَ بعَثه

(3)

، وجُحودِهم بنبوَّتِه، وإنكارِهم إياه أن يكونَ هو الذى يَجِدون صفتَه فى كتابِهم، عِنادًا منهم له، وبغيًا وحسدًا له وللعربِ، عَلى غَضَبٍ سالفٍ كان مِن اللهِ عليهم قبلَ ذلك، سابقٍ غضبَه الثانىَ؛ لكفرِهم

(4)

كان قبلَ ذلك، بعيسى ابنِ مريمَ، أو لعبادتِهم العجلَ، أو لغيرِ ذلك مِن ذنوبٍ كانت لهم سَلَفت، اسْتحقُّوا

(5)

بها الغضبَ مِن اللهِ.

كما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ -فيما [يرَى أبو جعفرٍ الطبرىُّ]

(6)

- عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} : فالغضبُ على الغضبِ، غضبُه عليهم فيما كانوا ضَيَّعوا مِن التوراةِ وهى معهم، وغضبٌ بكفرِهم بهذا النبىِّ الذى أحْدَث اللهُ إليهم

(7)

.

وحدَّثنا ابنُ بشارٍ

(8)

، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ،

(1)

بعده فى م: "به".

(2)

فى م: "فباءوا".

(3)

فى م: "بعث".

(4)

بعده فى م: "الذى".

(5)

فى م: "يستحقون".

(6)

فى م: "أروى"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"أرى".

(7)

سيرة ابن هشام 1/ 542، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 173 (915) من طريق سلمة به.

(8)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"يسار".

ص: 251

عن أبى بكرٍ

(1)

، عن عكرمةَ:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} . قال: كُفْرٌ بعيسى وكفرٌ بمحمدٍ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّم.

وحدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبى بكرٍ

(1)

، عن عكرمةَ:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} . قال: كفرُهم بعيسى ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا الثورىُّ، عن أبى بكرٍ

(1)

، عن عكرمةَ مثلَه

(2)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن الشعبىِّ، قال: الناسُ يومَ القيامةِ على أربعةِ مَنازلَ: رجلٌ كان مؤمنًا بعيسى فآمَن بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فله أجْران، ورجلٌ كان كافرًا بعيسى فآمَن بمحمدٍ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّم، فله أجرٌ، ورجلٌ كان كافرًا بعيسى فكَفَر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فباءَ بغضبٍ على غضبٍ، ورجلٌ كان كافرًا بعيسى مِن مُشرِكى العربِ، فمات بكُفرِه قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فباءَ بغضبٍ.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} : غَضِب اللهُ عليهم بكفرِهم بالإنجيلِ وبعيسى صلى الله عليه، وغَضِب عليهم بكفرِهم بالقرآنِ وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن

(1)

فى الأصل، م، ت 1:"بكير". وينظر تهذيب الكمال 33/ 159.

(2)

فى الأصل: "نحوه".

والأثر فى تفسير عبد الرزاق 1/ 51. وأبو بكر هو الهذلى، ضعيف.

(3)

ذكره البغوى فى تفسيره 1/ 121 عن قتادة، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 88 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 252

مجاهدٍ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ} : اليهودُ، غضَبٌ

(1)

بما كان مِن تبديلِهم التوراةَ قبلَ خروج النبيِّ صلى الله عليه وسلم، {عَلَى غَضَبٍ} جُحودُهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكفرُهم بما جاء به

(2)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} يقولُ: غَضِب اللهُ عليهم بكفرِهم بالإنجيلِ وعيسى، ثم غضِب

(3)

عليهم بكفرِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبالقرآنِ

(4)

.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} : أما الغضبُ الأولُ، فهو حين غَضِب اللهُ عليهم فى العجلِ، وأما الغضبُ الثانى، فغَضِب عليهم حين كفَروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم

(5)

.

وحدَّثنى القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن

(6)

عطاءٍ وعبيدِ بنِ عميرٍ فى قولِه: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} . قال: غَضِب اللهُ عليهم فيما كانوا فيه مِن قبلِ خروجِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم من تبديلِهم وكفرِهم، ثم غَضِب عليهم فى محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذ خرَج فكَفَروا به.

وقد بيّنّا معنى الغضَبِ من اللهِ على مَن غَضِب

(7)

من خلقِه، واختلافَ المختلِفِين فى صفتِه فيما مضَى من كتابِنا هذا بما أغْنَى عن إعادتِه

(8)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

ذكره البغوى فى تفسيره 1/ 121 عن مجاهد.

(3)

فى م: "غضبه".

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 173 (914) من طريق آدم به.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 174 (917) عن أبى زرعة، عن عمرو به.

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(7)

بعده فى م: "عليه".

(8)

ينظر ما تقدم فى 1/ 189، 190.

ص: 253

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} .

يعنى جلّ ثناؤُه بقولِه: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} : وللجاحدِين نبوّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الناسِ كلِّهم عذابٌ من اللهِ، إمَّا في الآخرةِ وإمّا في الدنيا والآخرةِ، {مُهِينٌ}: وهو المُذِلُّ صاحبَه المُخْزِى، المُلْبِسُه هوانًا وذِلّةً.

فإن قال قائلٌ: وأيُّ عذابٍ هو غيرُ مُهِينٍ صاحبَه، فيكونَ للكافرين المُهِينُ منه؟

قيل: إن المُهِينَ هو الذى قد بَيّنّا أنه المُورِثُ صاحبَه ذِلَّةً وهوانًا، الذى يَخْلُدُ فيه صاحبُه فلا ينتقلُ من هوانِه إلى عزٍّ وكرامةٍ أبدًا، وهو الذى خصَّ اللهُ به أهلَ الكفرِ به وبرسلِه، وأما الذى هو غيرُ مُهِينٍ لصاحبِه، فهو ما كان تمحيصًا لصاحبِه، وذلك

(1)

كالسارقِ من أهلِ الإسلامِ، يَسْرِقُ ما يجِبُ عليه به القطعُ فتُقْطَعُ يدُه، والزانى منهم يَزْنِى فيقامُ عليه الحدُّ، وما أشبهَ ذلك من العذابِ والنَّكالِ الذى جعَله اللهُ كفاراتٍ للذنوبِ التى عَذَّبَ بها أهلَها، وكأهلِ الكبائر

(2)

من أهلِ الإسلامِ الذين يُعَذَّبُون في الآخرةِ بمقاديرِ أجرامِهم التى ارتكَبُوها ليُمَحَّصُوا من ذنوبهم، ثم يَدخُلون الجنةَ، فإن كلَّ ذلك وإن كان عذابًا، فغيرُ مُهِينٍ مَن عُذِّبَ به، إذ كان تعذيبُ اللهِ له

(3)

به ليُمَحِّصَه به

(4)

من آثامِه، ثم يُورِدُه مَعْدِنَ العزِّ والكرامةِ، ويُخَلِّدُه في نعيمِ الجِنانِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} .

يَعْنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} : وإذا قيل لليهودِ من بني إسرائيلَ،

(1)

بعده في م: ت 1، ت 2، ت 3:"هو".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"الكتاب".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إياه".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 254

الذين كانوا بين ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {آمِنُوا} أي: صَدِّقُوا {بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} يَعْنِى بقولِه: {بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} من القرآنِ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم {قَالُوا نُؤْمِنُ} أي: نُصَدِّقُ {بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعنى: بالتوراةِ التى أنزلَها اللهُ على موسى.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَيَكْفُرُونَ} : ويَجْحَدُون، {بِمَا وَرَاءَهُ} يَعْنِى: بما وراءَ التوراةِ.

وتأويلُ "وراء" في هذا الموضعِ: "سوى"، كما يقالُ للرجلِ يتكلَّمُ

(1)

بالحَسَنِ: ما وراءَ هذا الكلامِ شيءٌ. يُرادُ به: ليس عندَ المتكلمِ به شيءٌ سِوَى ذلك الكلامِ. فكذلك معنى قولِه: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أي: بما سوى التوراةِ وبما بعدَه من كتبِ اللهِ التى أنزلَهَا إلى رسلِه.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يقولُ: بما بعده

(2)

.

وحدثنا المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أي: بما بعدَه، يَعْنى: بما بعدَ التوراةِ

(3)

.

حدثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يقولُ: بما بعده

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} .

(1)

في م: "المتكلم".

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 174 عقب الأثر (921) معلقًا.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 174 (921) من طريق آدم به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 174 عقب الأثر (921) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 255

يَعْنِى جل ثناؤُه بقولِه: {وَهُوَ الْحَقُّ} أي: وما وراء الكتابِ الذى أُنْزِل عليهم، من الكتب التى أنزلها اللهُ إلى أنبيائِه، الحقُّ. وإنما يَعْنى بذلك تعالى ذكرُه القرآنَ الذى أنزَلَه إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

كما حدثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} : وهو القرآنُ، يقولُ اللهُ جل ثناؤُه:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}

(1)

.

وإنما قال تعالى ذكرُه: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} . لأنَّ كتبَ اللهِ يُصَدِّق بعضُها بعضًا، ففى الإنجيلِ والقرآنِ من الأمرِ باتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والإيمانِ به وبما جاء به، مثلُ الذى من ذلك في توراةِ موسى عليه السلام، فلذلك قال جل ثناؤُه لليهودِ -إذ أخْبرَهم عما وراءَ كتابِهم الذى أنزَلَه على موسى، من الكتبِ التى أنزَلَها إلى أنبيائِه- أنه الحَقُّ مُصدِّقًا للكتابِ الذى معهم. يَعْنى أنه له مُوافِقٌ فيما اليهودُ به مُكَذِّبون

(2)

. وذلك خَبَرٌ من اللهِ جل ثناؤُه أنهم من التَّكْذِيبِ بالتوراةِ على مثلِ الذى هم عليه من التكذيبِ بالإنجيلِ والفرقانِ، عنادًا للهِ، وخلافًا لأمرِه، وبَغْيًا على رسلِه صلواتُ اللهِ عليهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} .

يَعْنِى بقولِه جل ثناؤُه: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ} : قلْ يا محمدُ ليهودِ بني إسرائيلَ الذين إذا قُلْتَ لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} قالوا لك: {نُؤْمِنُ بِمَا

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 174 (922) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

بعده في م: "قال".

ص: 256

أُنْزِلَ عَلَيْنَا} -: لم تَقْتُلون -إن كنتم يا معشرَ اليهودِ مؤمنين بما أنزلَ اللهُ عليكم- أنبياءَه، وقد حَرَّم اللهُ في الكتابِ الذى أنزلَ عليكم قَتْلَهم، بل أمَركم فيه باتباعِهم وطاعتِهم وتصديقِهم. وذلك من اللهِ جل ثناؤُه تكذيبٌ لهم في قولِهم:{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وتَعْيِيرٌ لهم.

كما حدثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال: قال اللهُ تعالى ذكرُه وهو يُعَيِّرُهم، يعنى اليهودَ:{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(1)

.

فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل

(2)

: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ} فابتدأ الخبرَ على لفظِ المستقبلِ، ثم أخبَر أنه قد مضَى؟

قيل: إن أهلَ العربيةِ مُختلِفون في تأويلِ ذلك، فقال بعضُ البصريِّين: معنى ذلك: فلم قَتَلْتم أنبياءَ اللهِ من قبلُ، كما قال جل ثناؤُه:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما تَلَتْ. وكما قال الشاعرُ

(3)

:

ولقد أمُرُّ على اللئِيمِ يسُبُّنى

فمَضَيْتُ عنه وقلتُ لا يَعْنِينى

يريدُ بقولِه: ولقد أمُرُّ: ولقد مَرَرْتُ. واستدلَّ على أن ذلك كذلك بقولِه: فمضَيْتُ عنه. ولم يَقُلْ: فأمْضِى عنه. وزعَم أن "فعَل" و"يفعَلُ" قد تَشْتَرِكُ في معنًى واحدٍ، واسْتَشْهَدَ على ذلك بقولِ الشاعرِ

(4)

:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 175 (924) عن أبي زرعة، عن عمرو به.

(2)

بعده في م: "لهم".

(3)

البيت لشمر بن عمرو الحنفى في الأصمعيات ص 126، ولرجل من بني سلول في الكتاب 1/ 24، وبلا نسبة في الصاحبى ص 364، واللسان (ث م م، م ن ى).

(4)

هو الطرماح، والبيت في ذيل ديوانه (ملحق بالديوان) صفحة 572.

ص: 257

وإنى لآتِيكم تَشَكُّرَ

(1)

ما مَضَى

من الأمرِ واسْتِيجابَ ما كانَ فِى غَدِ

يعنى بذلك: ما يكونُ في غدٍ. وبقولِ الحُطَيْئَةِ

(2)

:

شَهِد الحُطَيئَةُ يومَ يَلْقَى ربَّه

أنَّ الوَلِيدَ أحَقُّ بالعُذْرِ

يعنى: يَشْهَدُ. وكما قال الآخرُ

(3)

:

فما أُضْحِى ولا أَمْسَيتُ إلَّا

[أَرانى منكمُ]

(4)

في كُوَّفانِ

(5)

فقال: أُضْحِى. ثم قال: ولا أمْسَيْتُ.

وقال بعضُ نحويِّى الكوفيِّين

(6)

: إنما قيل: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ} فخاطَبهم بالمستقبلِ من الفعلِ ومعناه الماضى، كما يُعَنِّفُ الرجلُ الرجلَ على ما سلَف منه من فِعْلٍ، فيقولُ له: ويحكَ لِمَ تَكْذِبُ، ولِمَ تُبَغِّضُ نفسَك إلى الناسِ! كما قال الشاعرُ

(7)

:

إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْنى لَئيمَةٌ

ولم تَجِدِى من أن تُقِرِّى بها

(8)

بُدًّا

(1)

فى م: "بشكرى".

(2)

ديوانه ص 233.

(3)

البيت في الصاحبى ص 364، واللسان (ك و ف).

(4)

في الصاحبى: "رأونى منهم".

(5)

يقولون: وقعنا في كُوفَان وكُوَّفان. أي عناء ومشقة، كأنهم اشتقوا ذلك من الرمل المتكوف؛ لأن المشى فيه يُعنِّى. مقاييس اللغة 5/ 147. وفى حاشية الأصل:"كوفان من كيف".

(6)

هو الفراء في معانى القرآن 1/ 60، 61.

(7)

تقدم البيت في ص 57.

(8)

في م: "به".

ص: 258

فالجزاءُ للمستقبَلِ، والولادةُ كلُّها قد مضَت، وذلك أن المعنى معروفٌ، فجاز ذلك.

قال: ومثلُه في الكلامِ: إذا نظَرْتَ في سيرةِ عمرَ لم يُسِئْ

(1)

. المعنى: لم تَجِدْه أساء. فلما كان أمرُ عمرَ لا يُشَكُّ في مُضِيِّه، لم يَقَعْ في الوَهْمِ أنه مُسْتَقْبَلٌ، فلذلك صَلَحت:{مِنْ قَبْلُ} مع قولِه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ} .

قال: وليس الذين خوطِبوا بالقتلِ هم القَتَلةَ، إنما قتَل الأنبياءَ أسلافُهم الذين مَضَوْا، فتوَلَّوْهم

(2)

على ذلك ورَضُوا، فنُسِب القتلُ إليهم.

والصوابُ في ذلك من القولِ عندنا أن اللهَ تعالى ذكرُه خاطَب الذين أدرَكُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم من يهودِ بني إسرائيلَ -بما خاطَبهم به

(3)

في سورةِ "البقرةِ" وغيرِها من سائرِ السورِ- بما سلَف من إحسانِه إلى أسلافِهم، وما

(4)

سلَف من كُفْرانِ أسلافِهم نِعَمَه، وارتكابِهم معاصيَه، واجترائِهم عليه وعلى أنبيائِه، فأضاف

(5)

ذلك إلى المخاطَبين به، نظيرَ قولِ العربِ بعضِها لبعضٍ: فعَلْنا بكم يومَ كذا

(6)

وكذا، وفعلْتُم بنا يومَ كذا

(6)

وكذا -على نحوِ ما قد بيّنّا في غيرِ موضعٍ من كتابِنا هذا

(7)

- يَعْنُون بذلك أن أسلافَنا فعَلُوا ذلك بأسلافِكم، وأن أوائلَنا فعَلُوا ذلك بأوائِلكم،

(1)

في م: "تجده يسئ".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قتلوهم".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "بما".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وأضاف".

(6)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كذا".

(7)

ينظر ما تقدم في 1/ 642، 643.

ص: 259

فكذلك ذلك في قولِه: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ} . [وما أشبَهَه. فإذ كان ذلك معناه، وكان قولُه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ}]

(1)

-وإن كان قد خرَج على لفظِ الخبرِ عن المخاطَبين به- خبرًا من اللهِ تعالى ذكرُه عن فعلِ السالفين منهم -على نحوِ الذى بَيَّنَّا- جاز أن يُقالَ: {مِنْ قَبْلُ} . إذ كان معناه: قل: فلمَ يَقْتُلُ أسلافُكم أنبياءَ اللهِ من قبلُ. وكان معلومًا بأن قولَه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ} إنما هو خبرٌ عن فعلِ سَلَفِهم.

وتأويلُ قولِه: {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلِ اليومِ.

أما قولُه: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فإنه يَعْنى: إن كنتم مؤمنين بما أنزَل اللهُ عليكم كما تَزْعُمون

(2)

. وإنما يعْنِى

(3)

بذلك اليهودَ الذين أدركُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأسلافَهم: إن كانوا وكنتم -كما تزعُمون أيها اليهودُ- مؤمنين. وإنما عَيَّرهم جل ثناؤُه بقتلِ أوائلِهم أنبياءَه عندَ قولِهم -حين قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}

(4)

قالوا: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} لأنهم كانوا لأوائلِهم الذين تولَّوْا قَتْلَ أنبياءِ اللهِ مع قيلِهم: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} مُتَوَلِّين، وبفعلِهم راضِين، فقال لهم: إن كنتم كما تزعُمون مؤمنين بما أُنزِلَ عليكم، فلمَ تَتَوَلَّوْن قَتَلَةَ أنبيائى

(5)

، وتَرْضَوْن أفعالَهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"زعمتم".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عنى".

(4)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قالوا".

(5)

في م: "أنبياء الله، أي"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنبياء الله".

ص: 260

الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}.

يعْنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: جاءَكم بالبيناتِ الدالةِ على صدقِه وحقيقةِ

(1)

نبوَّتِه، كالعصا التى تَحَوَّلَتْ ثعبانًا مُبينًا، ويدِه التى أخرَجها بيضاءَ للناظِرين، وفَلْقِ البحرِ، ومَصيرِ أرضِه له طريقًا يَبَسًا، والجرادِ والقُمَّلِ والضفادِعِ، وسائرِ الآياتِ التى بَيَّنَت صدقَه وحقيقةَ

(1)

نبوَّتِه. وإنما سمّاها اللهُ جل ثناؤه بَيِّناتٍ، لتَبَيُّنِها للناظرِين إليها أنها مُعجزةٌ لا يَقْدِرُ على أن يَأْتِيَ بها بَشَرٌ إلا بتسخيرِ اللهِ ذلك له، وإنما هي جمعُ بَيّنةٍ مثلَ طَيِّبةٍ وطَيِّباتٍ.

ومعنى الكلامِ: ولقد جاءَكم يا معشرَ يهودِ بنى إسرائيلَ موسى بالآياتِ البَيِّناتِ على

(2)

أمرِه وصدقِه وحقيقةِ

(1)

نبوتِه.

وقولُه: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} يقولُ جل ثناؤُه لهم: ثم اتَّخَذْتُم العجلَ من بعدِ موسى

(3)

. فالهاءُ التى في قولِه: {مِنْ بَعْدِهِ} من ذكرِ موسى. وإنما قال: من بعدِ موسى؛ لأنهم اتخَذُوا العجلَ من بعدِ أن فارَقَهم موسى ماضيًا إلى ربِّه لموعدِه، على ما قد بَيّنّا فيما مضَى من كتابِنا هذا

(4)

. وقد يجوزُ أن تكونَ الهاءُ التى في: {بَعْدِهِ} من

(5)

ذكرِ المجئِ، فيكونُ تأويلُ الكلامِ حينئذٍ: ولقد جاءكم موسى بالبيناتِ، ثم اتخذتمُ العجلَ من بعدِ مجئِ [موسى بالبيناتِ]

(6)

وأنتم ظالمون. كما تقولُ: جِئْتَنى فكَرِهْتُك

(7)

. يَعْنى: فكَرِهْتُ مجيئَك.

(1)

في م: "حقية".

(2)

زيادة من: م.

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلها".

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 668 وما بعدها.

(5)

في م: "إلى".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"البينات".

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فكرهته".

ص: 261

وأما قولُه: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} فإنه يَعنى بذلك أنكم فعلْتُم ما فعلْتُم من عبادةِ العجلِ وليس ذلك لكم، وعبَدْتُم غيرَ الذي كان يَنْبَغى لكم أن تَعْبُدُوه؛ لأن العبادةَ لا تَنْبَغى لغيرِ اللهِ. وهذا تَوبيخٌ من اللهِ جل ثناؤُه لليهودِ، وتَعْييرٌ منه لهم، وإخبارٌ منه لهم أنهم [إذ كانوا قد]

(1)

فعلُوا ما فعلُوا من اتخاذِ العجلِ إلهًا وهو لا يَمْلِكُ لهم ضَرًّا ولا نفعًا، بعدَ الذي عَلِموا أن ربَّهم هو الربُّ الذي يَفْعَلُ من الأعاجيبِ وبدائعِ الأفعالِ ما أجْراه على يَدَىْ موسى صلواتُ اللهِ عليه، من الأمورِ التى [عايَنُوها التى]

(2)

لا يَقْدِرُ عليها أحدٌ من خلقِ اللهِ، ولم يَقْدِر عليها فرعونُ وجندُه مع بطشِه وكثرةِ أتباعِه، وقُرْبِ عهدِهم بما عايَنُوا من عجائبِ حكمِ اللهِ فيهم، فهم إلى تكذيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وجحودِ ما في كتبِهم التى زعموا أنهم بها مؤْمِنون من صفتِه ونعتِه، مع بُعْدِ ما بينَهم وبين عهدِ موسى مِن المدةِ - أسرعُ، وإلى التكذيبِ بما جاءَهم به موسى مِن ذلك أقربُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} .

يعني بقولِه جل ثناؤُه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} : واذْكُروا إذ أخَذْنا عُهودَكم بأن خُذوا ما آتيناكم مِن التوراةِ التى أَنْزَلتُها إليكم أن تَعْملوا بما فيها مِن أمْرِى، وتَنْتهوا عما نَهَيْتُكم فيها بجدٍّ منكم في ذلك ونشاطٍ، فأعْطَيتم على العملِ بذلك مِيثاقَكم، إذ رفَعنا فوقَكم الجبلَ.

وأما قولُه: {وَاسْمَعُوا} فإن معناه: واسْمَعوا ما أمرتُكم به، وتَقَبَّلوه بالطاعةِ. كقولِ الرجلِ للرجلِ يأمرُه بالأمرِ: سمِعتُ وأطعتُ. يعني بذلك: سمِعتُ قولَك وأطَعتُ أمرَك. كما قال الراجِزُ

(3)

:

(1)

في م: "إذا كانوا".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

ذكره المصنف في تاريخه 5/ 299.

ص: 262

السَّمْعُ والطَّاعَةُ والتَّسلِيمْ

خَيْرٌ وأعْفى لبَنِى تَمِيمْ

يعني بقولِه: السمعُ: قبولُ ما تسْمعُ، والطاعةُ لِما تُؤْمرُ. فكذلك معنى قولِه {وَاسْمَعُوا}: اقْبَلُوا ما سمِعتم، واعْمَلوا به.

قال أبو جعفرٍ: فمعنى الآيةِ إذن: وإذ أخَذْنا مِيثاقَكم أن خُذُوا ما آتيناكم بقوةٍ، واعْمَلوا بما سمِعتم، وأطيعوا اللهَ، ورفَعنا فوقَكم الطورَ مِن أجلِ ذلك.

وأما قولُه: {قَالُوا سَمِعْنَا} فإن الكلامَ خرَج مَخْرجَ الخبرِ عن الغائبِ بعد أن كان الابتداءُ بالخطابِ، وذلك ما وصَفنا مِن أن ابتداءَ الكلامِ إذا كان حكايةً، فالعربُ تُخاطِبُ فيه ثم تَعودُ فيه إلى الخبرِ عن الغائبِ، وتُخْبِرُ عن الغائبِ ثم تُخاطِبُ، كما قد بَيَّنا ذلك فيما مضى قبلُ. فكذلك ذلك في هذه الآيةِ؛ لأن قولَه {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} بمعنى: قُلْنا لكم فأجَبْتمونا. وأما قولُه: {قَالُوا سَمِعْنَا} فإنه خبرٌ مِن اللهِ عن اليهودِ الذين أخَذ ميثاقَهم أن يَعْملوا بما في التوراةِ، وأن يُطيعوا اللهَ فيما يَسمعون منها، أنهم قالوا حين قِيلَ لهم ذلك: سمِعنا قولك، وعصَينا أمرَك.

‌القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: وأُشْرِبوا في قلوبهم حبَّ العِجلِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} قال: أُشْرِبوا حبَّه حتى خَلَص ذلك إلى

ص: 263

قلوبِهم

(1)

.

حدَّثنى المثني، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} قال: أُشْرِبوا حبَّ العِجلِ بكُفرِهم

(2)

.

حدَّثنى المثني، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} قال: أُشْربوا حبَّ العجلِ في قلوبِهم

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سُقُوا الماءَ الذي ذُرِّىَ فيه سُحالةُ

(4)

العجلِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ: لمَّا رجَع موسى إلى قومِه أخَذ العجلَ الذي وجَدهم عاكفين عليه فذبحَه

(5)

، ثم حَرقَه

(6)

بالمبردِ، ثم ذَرَّاه في اليَمِّ، فلم يَبْقَ بحرٌ يومئذٍ يَجْرِى إلا وقَع فيه شيءٌ منه، ثم قال لهم موسى: اشْرَبوا منه. فشرِبوا منه، فمن كان يُحِبُّه خرَج على شاربِه الذَّهبُ، فذلك حين يَقولُ اللهُ عز وجل:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}

(7)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال:

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 52، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 176 (934) عن الحسن بن يحيى به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 176 عقب الأثر (934) من طريق آدم به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 176 عقب الأثر (934) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

السحالة: ما سقط من الذهب والفضة ونحوها إذا برد. التاج (س ح ل).

(5)

أي: شقه.

(6)

في م: "خرقه". وحرقه بالمبرد: برده. وينظر ما تقدم في 1/ 681.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 176 (933) من طريق عمرو به.

ص: 264

لما سُحِل فأُلْقِى في اليمِّ استقبلوا جِرْيةَ الماءِ، فشرِبوا حتى ملئوا بطونَهم، فأوْرَث ذلك مَن فعَله منهم جُبْنًا.

قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى التأويلين اللذين ذكَرتُ بقولِ اللهِ جل ثناؤُه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} تأويلُ مَن قال: وأُشْرِبوا في قلوبِهم حبَّ العجلِ؛ لأن الماء لا يُقالُ منه: أُشْرِب فلانٌ في قلبِه. وإنما يُقالُ ذلك في حبِّ الشئِ، فيُقالُ منه: أُشْرِب قَلْبُ فلانٍ حبَّ كذا. بمعنى: سُقِىَ ذلك حتى غلَب عليه وخالطَ قلبَه. كما قال زُهيرٌ

(1)

:

فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْد حُبٍّ داخلٍ

والحُبُّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ

ولكنه ترَك ذِكْرَ "الحبِّ" اكْتِفاءً بفهمِ السامعِ لمعنى الكلامِ؛ إذ كان معلومًا أن العجلَ لا يُشْرِبُ القلبَ، وأن الذي يُشْرِبُ القلبَ منه حبُّه. كما قال جل ثناؤُه:[{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}]

(2)

[الأعراف: 163]. {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]. وكما قال الشاعر

(3)

:

حسِبتَ بُغامَ

(4)

راحلتى عَناقًا

(5)

وما هي وَيْبَ

(6)

غيرِك بالعَناقِ

يعني بذلك: حسبت بُغامَ راحلتى بُغامَ عناقِ.

(1)

شرح ديوانه ص 339.

(2)

ليست في: الأصل.

(3)

البيت في اللسان (و ى ب)(ب غ م)، وفى النوادر ص 116، ومعانى القرآن للفراء 1/ 62، منسوب لذى الخِرَق الطهوى يخاطب ذئبا تبعه في طريقه، وفى اللسان (ع ن ق) منسوب لقريط بن أنيف، وغير منسوب في مجالس ثعلب 1/ 76.

(4)

بغام الناقة: صوت لا تفصح به. اللسان (ب غ م).

(5)

العناق: الأنثى من المعز. اللسان (ع ن ق).

(6)

الويب: كلمة بمعنى ويل. اللسان (و ى ب).

ص: 265

وكما قال طَرفةُ بنُ العبدِ

(1)

:

ألا إِنَّنِى سُقِّيتُ أسودَ حالِكًا

ألا بَجَلِى

(2)

مِن الشّرَابِ ألا بَجَلْ

يعني بذلك: سُقِيتُ سَمًّا أسودَ. فاكْتَفى بذكرِ "أسودَ" من ذِكْرِ "السمِّ" لمعرفةِ السامعِ معنى ما أراد بقولِه: سُقِيتُ أسودَ. ويُرْوَى:

ألا إِنَّنى سُقِّيتُ أسْوَدَ سالخًا

(3)

وقد تقولُ العربُ: إذا سرَّك أن تَنْظُرَ إلى السخاءِ فانْظُر إلى هَرمٍ أو إلى حاتمٍ. فتَجْتَزِئُ بذِكرِ الاسمِ مِن ذكرِ فعلِه، إذا كان معروفًا بشجاعةٍ أو سخاءٍ، أو ما أشْبَهَ ذلك مِن الصفاتِ، ومنه قولُ الشاعر

(4)

:

يَقُولون جاهِدْ يا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ

وإن جِهادًا طَيِّئٌ وَقِتالُهَا

‌القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} .

يَعْنى بذلك جل ثناؤُه: قل يا محمدُ ليهودِ بنى إسرائيلَ: بئس الشئُ يَأْمرُكم به إيمانُكم، إذ كان يأمرُكم بقتلِ أنبياءِ اللهِ ورسلِه، والتكذيبِ بكُتُبِه، وجُحودِ ما جاء مِن عندِه. ومعنى إيمانِهم: تَصْديقُهم الذى زعَموا أنهم به مصدِّقون مِن كتابِ اللهِ، إذ قِيلَ لهم: آمِنوا بما أنزَل اللهُ. فقالوا: نُؤمنُ بما أُنزِلَ علينا.

وقولُه: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كُنتُم مُصدِّقين -كما زعَمتم- بما

(1)

ديوانه ص 115.

(2)

بجلى: حسبى. التاج (ب ج ل).

(3)

السالخ: الأسود من الحيات شديد السواد وأقتل ما يكون من الحيات. اللسان (س ل خ).

(4)

معاني القرآن للفراء 1/ 62، ومجالس ثعلب 1/ 76، واللسان (غ ز ى).

ص: 266

أنزَل اللهُ عليكم. وإنما كذَّبهم اللهُ بذلك لأن التوراةَ تَنْهَى عن ذلك كلِّه، وتَأْمُر بخلافِه، فأخْبَرهم أنّ تصديقَهم بالتوراةِ إن كان يأْمرُهم بذلك، فبئس الأمْرُ تَأْمرُ به. وإنما ذلك نَفْىٌ مِن اللهِ تعالى ذِكْرُه عن التوراةِ أن تكونَ تَأْمرُ بشيءٍ مِمَّا يَكْرهُه اللهُ مِن أفعالِهم، وأن يكونَ التصديقُ بها يدلُّ على شيءٍ مِن مخالفةِ أمرِ اللهِ، وإعلامٌ منه جل ثناؤُه أن الذي يَأْمرُهم بذلك أهواؤُهم، والذى يَحْمِلُهم عليه البغىُ والعدوانُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} .

قال أبو جعفرٍ: وهذه الآيةُ مما احتجَّ اللهُ به لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم على اليهودِ الذين كانوا بين ظَهْرَانَىْ مُهاجَرِه، وفضَح بها أحبارَهم وعلماءَهم، وذلك أن اللهَ جل ثناؤُه أمَر نَبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَدْعوَهم إلى قضيةٍ عادلةٍ بينَه وبينَهم، فيما كان بينَه وبينَهم مِن الخلافِ، كما أمَره اللهُ أن يَدْعوَ الفريقَ الآخرَ مِن النَّصارَى -إذ خالفوه في عيسى صلواتُ اللهِ عليه، وجادلوه فيه- إلى فاصلةٍ بينَه وبينَهم مِن المُباهَلَةِ، وقال لفريقِ اليهودِ: إن كنتم مُحِقِّين فتَمنَّوُا الموتَ، فإن ذلك غيرُ ضارِّكم إن كنتم مُحِقِّين فيما تَدَّعون مِن الإيمانِ وقُربِ المنزِلةِ مِن اللهِ، بل إن أُعْطيتُم أُمْنِيتَكم مِن الموتِ إذا تمنَّيتم، فإنما تَصِيرون إلى الراحةِ مِن تَعبِ الدنيا ونصبِها وكَدَرِ عَيشِها، والفوزِ بجوارِ اللهِ في جِنانِه، إن كان الأمرُ كما تَزْعُمون، مِن أنّ الدارَ الآخرةَ لكم خالصةٌ دونَنا، وإن لم تُعْطَوْها علِم النَّاسُ أنكم المُبطِلون، ونحن المُحِقُّون في دعوانا، وانْكَشف أمرُنا وأمرُكم لهم. فامْتَنعت اليهودُ مِن إجابةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلْمِها أنها إن تَمنَّت الموتَ هلَكَت، فذَهَبت دنياها، وصارت إلى خِزْى الأبدِ في آخرتِها، كما امتنع فريقُ النَّصارى الذين جادلوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في عيسى، إذ دُعُوا إلى المبُاهلةِ -مِن المباهلةِ، فبلَغنا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن اليهودَ تَمنَّوا الموتَ لماتوا، ولرأَوا

ص: 267

مقاعدَهم مِن النارِ، ولو خرَج الذين يُباهِلون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لرجَعوا لا يَجِدون أهلًا ولا مالًا".

حدَّثنا بذلك أبو كريبٍ، قال: حدثنا

(1)

زكريا بنُ عدىٍّ، قال: حدثنا عُبيدُ اللهِ ابنُ عمرٍو، عن عبدِ الكريمِ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا عَثَّامُ بنُ عليٍّ، عن الأعْمشِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال: لو تَمنَّوا الموتَ لشَرِقَ أحدُهم برِيقِه

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمرٌ، عن عبدِ الكريمِ الجَزَرىِّ، عن عكرمةَ في قولِه:{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال: قال ابنُ عباسٍ: لو تَمنَّى اليهودُ الموتَ لماتوا

(4)

.

حدَّثنى موسى، قال: أخْبَرنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بن أبي محمدٍ -قال أبو جعفرٍ: فيما أرى -أنا- عن سعيدٍ، أو عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لو تَمنَّوه يومَ قال لهم ذلك، ما بقِى على ظَهرِ الأرضِ

(1)

بعده في م: "أبو".

(2)

إسناده صحيح. أخرجه البزار (2189 - كشف)، وابن مردويه -كما في الفتح 8/ 724 - من طريق زكريا بن عدي به. وأخرجه أحمد 4/ 99 (2226)، والنسائى في الكبرى (11061)، وأبو يعلى (2604) من طريق عبيد الله بن عمرو به.

(3)

الأعمش لم يدرك ابن عباس. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 177 (936) من طريق عثام، عن الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 52، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 177 (938) عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 89 إلى ابن المنذر وأبي نعيم.

ص: 268

يهوديٌّ إلا مات

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: فانْكَشف -لمَن كان مُشْكِلًا عليه أمرُ اليهودِ يومَئذٍ- كَذِبُهم وبُهْتُهم وبَغْيُهم على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وظهَرت حُجَّةُ رسولِ اللهِ وحُجةُ أصحابِه عليهم، ولم تَزَلْ -والحمدُ للهِ- ظاهرةً عليهم وعلى غيرِهم مِن سائرِ أهلِ المللِ، وإنما أُمِرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم:{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لأنهم -فيما ذكر لنا- قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]. فقال اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تَزْعُمون فتَمنَّوُا الموتَ. فأبان اللهُ كَذِبَهم بامْتِناعِهم مِن تَمنِّى ذلك، وأفلَجَ حُجَّةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وقد اخْتَلف أهلُ التأويلِ في السببِ الذي مِن أجلِه أمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَدْعوَ اليهودَ إلى أن يَتمنَّوُا الموتَ، وعلى أىِّ وجهٍ أُمِروا أن يَتمنَّوه؛ فقال بعضُهم: أُمِروا أن يَتمنَّوه على وجهِ الدعاءِ على الفريقِ الكاذبِ منهما.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبي محمدٍ، عن سعيدٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: ادْعُوا بالموتِ على أىِّ الفريقين أكْذَبُ

(2)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 177 (940) من طريق سلمة به.

(2)

سيأتي بتمامه في ص 272، 273.

ص: 269

وقال آخرون بما حدَّثنى بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} : وذلك أنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} . فقِيلَ لهم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

(1)

.

حدَّثنى المثني، قال: حدَّثنا آدمُ، قال: حدَّثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: قالت اليهودُ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} . فقال اللهُ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فلم يَفْعَلوا

(2)

.

حدَّثنى المثني، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنى [ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه]

(3)

، عن الربيعِ قولَه. {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ} الآية: وذلك بأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}

(4)

.

وأما تأويلُ قولِه: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ} فإنه يقولُ: قُلْ يا محمدُ: إن كان نعيمُ الدارِ الآخرةِ ولَذَّاتُها لكم يا مَعْشَرَ اليهودِ عندَ اللهِ. فاكْتَفى بذِكْرِ الدارِ مِن ذِكْرِ نعيمِها لمعرفةِ المُخاطبين بالآيةِ معناها.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 177 عقب الأثر (935) معلقًا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 176، 177 (935) من طريق آدم به.

(3)

في م: "أبو جعفر".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 177 عقب الأثر (935) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 270

وقد بَينَّا مَعْنى الدارِ الآخرةِ فيما مضى بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

وأما تأويلُ قولِه: {خَالِصَةً} فإنه يعني به: صافيةً. كما يُقالُ: خَلَص لي [هذا الأمرُ]

(2)

. بمعنى: صار لي وَحْدى وصَفَا لي، يُقالُ منه: خَلَصَ لى هذا الشئُ فهو يخْلُصُ خلوصًا وخالصةً. والخالصةُ مصدرٌ، مِثْلُ العافية، ويقالُ للرجلِ: هذا خُلْصَانى. يعني به: خالِصَتى مِن دونِ أصحابِى.

وقد رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ أنه كان يَتأولُ قولَه: {خَالِصَةً} : خاصةً. وذلك تأويلٌ قريبٌ مِن مَعْنى التأويلِ الذي قُلْناه في ذلك.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بن سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بن عُمَارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} قال: قلْ يا محمدُ لهم -يَعْنى اليهودَ- إن كانت لكم الدارُ الآخرةُ، يَعْنِى الخيرَ

(3)

{عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً} . يقولُ: خاصةً لكم

(4)

.

وأما قولُه: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} فإن الذي يَدلُّ عليه ظاهِرُ التنزيلِ أنهم قالوا: لنا الدارُ الآخرة عندَ اللهِ خالصةً مِن دونِ جميعِ الناسِ. ويُبَيِّنُ أن ذلك كان قولَهم -مِن غيرِ اسْتِثناءٍ منهم مِن ذلك أحدًا مِن بنى آدمَ- إخْبارُ اللهِ عنهم أنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . إلا أنه قد رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ قولٌ غير ذلك.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 251، 252.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فلان".

(3)

كذا في النسخ، وفى الدر المنثور:"الجنة".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 89 إلى المصنف.

ص: 271

ذكرُ ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{مِنْ دُونِ النَّاسِ} يقولُ: مِن دونِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه الذين اسْتَهزأتم بهم، وزَعَمْتم أن الحقَّ في أيدِيكم، وأن الدارَ الآخرةَ لكم دونَهم.

وأما قولُه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} فإن تأويلَه: تَشهَّوه وأَرِيدوه. وقد رُوِى عن ابنِ عباسٍ أنه قال في تأويلِه: فسَلُوا الموتَ. ولا يُعْرَفُ التَّمنى بمعنى المسألةِ في كلامِ العربِ. ولكنى أحْسِبُ أن ابنَ عباسٍ وجَّه مَعْنى الأُمْنِيةِ -إذ كانت محبةَ النفسِ وشهوتَها- إلى معنى الرَّغْبةِ والمسألةِ، إذ كانت المسألةُ هي رغبةَ السائلِ إلى اللهِ فيما سأله.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} يقولُ: فسَلُوا الموتَ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} .

وهذا خبرٌ مِن اللهِ جل ثناؤُه عن اليهودِ وكراهتِهم الموتَ، وامتناعِهم من الإجابةِ إلى ما دُعُوا إليه مِن تَمنِّى الموتِ؛ لعلمِهم بأنهم إن فعَلوا ذلك فالوعيدُ بهم نازلٌ، والموتُ بهم حالٌّ، ولمعرفتِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ مِن اللهِ إليهم مرسلٌ، وهم به مُكذِّبون، وأنَّه لن يُخْبرَهم خبرًا إلا كان حقًّا كما أخْبَر، فهم يَحذَرُون أن يتَمنَّوا الموتَ، خوفًا أن يَحِلَّ بهم عقابُ اللهِ بما كسَبت أيديهم مِن الذنوبِ.

كالذى حدَّثنى محمدُ بنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ

ص: 272

إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبي محمدٍ -فيما يرَى أبو جعفرٍ- عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الآية. أي: ادْعُوا بالموتِ على أىِّ الفريقين أكذبُ، فأبَوا

(1)

ذلك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. يقولُ اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: لعلمِهم بما عندَهم مِن العلمِ بك والكفرِ بذلك

(2)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} يقولُ: يا محمدُ، ولن يتَمنَّوه أبدًا؛ لأنهم يَعْلَمون أنهم كاذبون، ولو كانوا صادقين لتَمنَّوه، ورَغِبوا في التعجيلِ إلى كَرامتى، فليس يتَمنَّونه أبدًا بما قدَّمت أيديهم

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ قوله:{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : وكانت اليهودُ أشدَّ الناسِ

(4)

فرارًا مِن الموتِ، ولم يكونوا ليتَمنَّوه أبدًا.

وأما قولُه: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . فإنه يَعْنى به: بما أسْلَفَتْه أيديهم. وإنما ذلك مَثَلٌ، على نحوِ ما تتَمَثَّلُ به العربُ في كلامِها، فتقولُ للرجلِ يُؤْخَذُ بجَرِيرةٍ جرَّها، أو جنايةٍ جَناها فيعاقبُ عليها: نالك هذا بما جَنَتْ يداك، وبما كَسبت يداك، وبما قَدَّمت يداك. فتُضِيفُ ذلك إلى اليدِ، ولعلَّ الجنايةَ التى جَناها فاستحقَّ عليها العقوبةَ كانت باللسانِ أو بالفَرْجِ أو بغيرِ ذلك مِن أعضاءِ جسدِه سِوَى

(1)

في م: "قالوا".

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 542، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 177 (937، 940) من طريق سلمة به.

(3)

تقدم أول هذا الأثر في ص 271.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 3.

ص: 273

اليدِ. وإنَّما قِيلَ ذلك بإضافتِه إلى اليدِ؛ لأن عُظْمَ جِناياتِ الناسِ بأيديهم، فجَرَى الكلامُ باستعمالِ إضافةِ الجناياتِ التى يجنيها النَّاسُ إلى أيديهم، حتى أُضِيفَ كلُّ ما عُوقِبَ عليه الإنسانُ مما جَناه بسائرِ أعضاءِ جسدِه إلى أنها عقوبةٌ على ما جَنَتْه يَداه

(1)

، فلذلك قال جل ثناؤُه للعربِ:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني به: ولن يَتَمنَّى اليهودُ الموتَ بما قدَّموا أمامَهم في حياتِهم مِن كفرِهم باللهِ، في مخالفتِهم أمرَه وطاعتَه في اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاءهم

(2)

به مِن عندِ اللهِ، وهم يَجِدونه مكتوبًا عندَهم في التوراةِ، ويَعْلمون أنه نبىٌّ مبعوثٌ. فأضاف جل ثناؤُه ما انْطَوت عليه قلوبُهم، وأضْمَرته نفوسُهم، ونَطَقت به ألسنتُهم؛ مِن حسدِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم والبغىِ عليه، وتكذيبِه وجُحودِ رسالتِه - إلى أيديهم، وأنَّه مما قدَّمته أيديهم لعلمِ العربِ بمعنى ذلك في منطقِها وكلامِها، إذ كان جل ثناؤُه إنما أنزَل القرآنَ بلسانِها، وبلغتِها خاطَبها

(3)

.

ورُوِىَ عن ابنِ عباسٍ في ذلك ما حدَّثنا به أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يقولُ: بما أسْلَفت أيديهم

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ:{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . قال: إنهم عَرَفوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبىٌّ فكَتَموه.

وأما قولُه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فإنه يعني جل ثناؤُه: واللهُ ذو علمٍ بظَلَمةِ بنى آدمَ -يهودِها ونَصارَاها وسائرِ أهلِ [مللِها غيرِهم]

(5)

- وما يَعْملون.

(1)

في م: "يده".

(2)

في م: "جاء".

(3)

سقط من: م.

(4)

ليست في: الأصل.

(5)

في م: "الملل غيرها".

ص: 274

وظلمُ اليهودِ كفرُهم باللهِ فى خلافِهم أمرَه وطاعتَه فى اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بعدَ أن كانوا يَسْتَفْتِحون به وبمبْعثِه، وجُحودِهم نبوتَه وهم عالمون أنه نبىُّ اللهِ ورسولُه إليهم.

وقد دَلَّلْنا على معنى الظلمِ فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه فى هذا الموضعِ

(1)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} .

يَعْنِى جل ثناوُه بقولِه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} اليهودَ. يقولُ: يا محمدُ، لتَجِدَنَّ أشدَّ الناسِ حِرصًا على الحياةِ فى الدنيا، وأشدَّهم كراهةً للموتِ، اليهودَ، كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ -فيما يرَى

(2)

أبو جعفرٍ- عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} . يعنى اليهودَ

(3)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، [عن الربيعِ]

(4)

، عن أبى العاليةِ:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} . يعنى اليهودَ

(5)

.

وحدَّثنى المثنَّى، [قال: ثنا إسحاق] (4)، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(6)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى

(1)

ينظر ما تقدم فى 1/ 559، 560.

(2)

فى م: "يروى".

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 542، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 178 (944، 946)، والحاكم 2/ 263 من طريق مسلم البطين عن سعيد به بزيادة:{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قال: الأعاجم. وستأتى بقيته فى ص 277، 281، 282.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 178 عقب الأثر (944) من طريق آدم به.

(6)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 178 عقب الأثر (944) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 275

نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وإنما كراهتُهم الموتَ لعلمِهم بما لَهم فى الآخرةِ من الخزْىِ والهَوانِ الطويلِ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} .

يَعْنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : وأحرصَ من الذين أشرَكُوا على الحياةِ. كما يقالُ: هو أَشجعُ الناسِ ومن عنترةَ. بمعنى: هو أشجعُ من الناسِ ومن عنترةَ. فكذلك قولُه: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} . لأن معنى الكلامِ: ولَتَجِدَنَّ يا محمدُ اليهودَ من بنى إسرائيلَ أحرصَ من

(1)

الناسِ على حياةٍ ومن الذين أشركُوا. فلمّا أُضِيفَ {أَحْرَصَ} إلى {النَّاسِ} ، وفيه تأويلُ "مِن" - أُظْهِرَتْ بعدَ حرفِ العطفِ رَدًّا على التأويلِ الذى ذكَرْنا.

وإنما وصَف اللهُ جل ثناؤُه اليهودَ بأنهم أحرصُ الناسِ على الحياةِ، لعِلْمِهم بما قد أَعَدَّ لهم فى الآخرةِ على كفرِهم، مما لا يُقِرُّ به أهلُ الشركِ، فهم للموتِ أكْرَهُ من أهلِ الشركِ الذين لا يُؤْمِنون بالبعثِ؛ لأنهم يُؤمنون بالبعثِ ويَعْلَمون ما لهم هنالك من العذابِ، وأنَّ المُشركِينَ لا يُصَدِّقُون ببعثٍ ولا عقابٍ، فاليهودُ أحرصُ منهم على الحياةِ وأكرَهُ للموتِ.

وقيل: إن الذين أَشركُوا، الذين أخبرَ اللهُ تعالى ذكرُه أن اليهودَ أحرصُ منهم فى هذه الآيةِ على الحياةِ، هم المجوسُ. [وقيل: هم]

(2)

الذين لا يُصَدِّقُون بالبعثِ.

(1)

سقط من: م.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 276

‌ذكرُ من قال: هم المجوسُ

حدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : يعنى المجوسَ

(1)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: المجوسُ.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنى ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} . قال: يهودُ أحرصُ من هؤلاء على الحياةِ.

‌ذكرُ من قال: هم الذين يُنْكِرون البعثَ

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ ابنُ أبى محمدٍ -فيما يَرَى

(2)

أبو جعفرٍ- عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : وذلك أن المشركَ لا يَرْجُو بعثًا بعد الموتِ، فهو يُحبُّ طولَ الحياةِ، وأن اليهودىَّ قد عَرَف ما له فى الآخرةِ من الخِزْىِ، [لما ما ضَيَّع بما]

(3)

عنده من العلمِ

(4)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} .

وهذا خبرٌ من اللهِ جل ثناؤُه

(5)

عن الذين أشرَكُوا، الذين أخبَر أن اليهودَ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 179 (947) من طريق آدم به.

(2)

فى م: "يروى".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما ضيع مما".

(4)

سيرة ابن هشام 1/ 543، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 179 (950) من طريق سلمة به.

(5)

بعده فى: م، ت 1، ت 2، ت 3:"بقوله".

ص: 277

أحرصُ منهم على الحياةِ، يقولُ جل ثناؤُه: يَوَدُّ أحدُ هؤلاءِ الذين أشرَكُوا - [ليأسِه بفناءِ]

(1)

دنياه وانقضاءِ أيامِ حياتِه، من

(2)

أن يكونَ له بعد ذلك نُشورٌ أو مَحْيَا، أو فَرحٌ أو سُرُورٌ- لو يُعَمَّرُ [فى الدنيا]

(3)

ألفَ سنةٍ، حتى جعَل بعضُهم تحيةَ بعضٍ:[عِشْ ألفَ]

(4)

عامٍ. حرصًا منهم على الحياةِ.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ علىِّ بنِ الحسنِ بنِ شقيقٍ، قال: سمِعتُ أبى عليًّا يقولُ (2): أخبرَنا أبو حمزةَ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: هو قولُ الأعاجمِ: هَزار (2) سال زِه نَوْروز مِهْرْجان دَر

(5)

(6)

.

وحُدِّثت عن نُعَيمٍ النحْوىِّ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: هو قولُ أهلِ الشركِ بعضِهم لبعضٍ إذا عَطِس: زِه هَزار سال

(7)

.

حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا إسماعيلُ ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن قتادةَ فى قولِه. {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}. قال: حُبِّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العُمُرِ

(8)

.

(1)

فى م: "إلا بعد فناء".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"عشرة آلاف".

(5)

فى النسخ: "حر".

وهزار: ألف، وسال: سنة.، وزه: عِشْ، ونوروز ومهرجان: من أعياد الفرس، ودر: حرف جر بمعنى: فى. وينظر المعجم الذهبى ص 258، 316، 327، 551، 603.

(6)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 184 عن المصنف.

(7)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 179 عقب الأثر (949) معلقًا.

(8)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 179 (949) من طريق ابن علية، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد.

ص: 278

حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: حدثنى ابنُ مَعْبَدٍ، عن ابنِ عُلَيَّةَ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ فى قولِه:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} . فذكَر مثلَه.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} حتى بلَغ: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : ويهودُ أحرصُ من هؤلاء على الحياةِ، وقد وَدّ هؤلاءِ لو يُعَمَّرُ أحدُهم ألفَ سنةٍ.

(1)

وحُدِّثت عن أبى معاويةَ، عن الأعمشِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: هو قولُ أحدِهم إذا عَطَس: زِه هَزار سال. يقولُ: [عِشْ ألفَ]

(2)

سنةٍ

(3)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} : وما التعميرُ وطولُ البقاءِ بمُزَحْزِحِه من عذابِ اللهِ.

و

(4)

قوله: {هُوَ} . عِمادٌ، لطلَبِ "ما" الاسمَ أكثرَ من طلبِها الفعلَ، كما

(1)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 185.

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"عشرة آلاف".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (201 - تفسير)، والحاكم 2/ 263، من طريق أبى معاوية به. وأخرجه ابن أبى شيبة 10/ 473، وابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 179 (948)، من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد به، وأخرجه الحاكم 2/ 263، 264 من طريق قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد به. وتقدم فى ص 278 عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 89 إلى ابن المنذر.

(4)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".

ص: 279

قال الشاعرُ

(1)

:

*فهل هو مَرفُوعٌ بما هَاهُنا راسُ*

و {أَنْ} التى فى: {أَنْ يُعَمَّرَ} رَفْعٌ بـ {مُزَحْزِحِهِ} ، و

(2)

{هُوَ} التى مع {مَا} [من ذكرِه]

(3)

، عمادٌ للفعلِ؛ لاستقباحِ

(4)

العربِ النكرةَ قبل المعرفةِ.

وقد قال بعضُهم: إن {هُوَ} التى مع {وَمَا} كنايةٌ مِن ذكرِ العُمُرِ. كأنه قال: يَوَدُّ أحدُهم لو يُعَمَّرُ ألفَ سنةٍ، وما ذلك العُمُرُ بمُزَحْزحِه من العذابِ. وجعَل:{أَنْ يُعَمَّرَ} مُتَرْجِمًا

(5)

عن {هُوَ} . يُريدُ: ما هو بمُزَحْزِحِه التعميرُ.

وقال بعضُهم: قولُه: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} نظيرُ قولِك: ما زيدٌ بمُزَحْزِحِه أن يُعَمَّرَ.

وأقربُ هذه الأقوالِ عندنا إلى الصوابِ ما قلْناه، وهو أن يكونَ {هُوَ} عمادًا، نظيرُ قولِك: ما هو قائمًا

(6)

عمرٌو.

وقد قال قومٌ من أهلِ التأويلِ: إنَّ {أَنْ} التى فى قولِه: {أَنْ يُعَمَّرَ} بمَعْنَى: وإنْ عُمِّرَ. وذلك قولٌ لمعانى كلامِ العربِ المعروفِ مخالفٌ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ:

(1)

تقدم تخريج البيت فى ص 215، وينظر تعريف العماد هناك أيضًا.

(2)

فى م: "أو".

(3)

فى م: "تكرير".

(4)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"لاستفتاح".

(5)

ينظر تعريف الترجمة فى ص 246.

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قائم".

ص: 280

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} . يقولُ: وإن عُمِّر

(1)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {أَنْ يُعَمَّرَ} : ولو عُمِّرَ

(2)

.

وأما تأويلُ قولِه: {بِمُزَحْزِحِهِ} فإنه: بمُبْعِدِه ومُنْجِيه

(3)

، كما قال الحُطَيئةُ

(4)

:

وقالُوا تَزَحْزَحْ لا بِنا فَضْلُ حاجةٍ

إليكَ ولا مِنّا لِوَهْيِكَ

(5)

راقِعُ

يعنى بقولِه: تَزَحْزَحْ: تَباعَدْ. يقالُ منه: زَحْزَحَه يُزَحْزِحُه زَحْزَحَةً وزِحْزَاحًا، وهو عنك يُزَحْزَحُ. أى: هو مُتباعِدٌ.

فتأويلُ الآيةِ: وما طولُ العمُرِ بمُبْعِدِه من عذابِ اللهِ ولا مُنْجِيه (3) منه؛ لأنه لا بُدَّ للعُمُرِ من الفناءِ ومصيرِه إلى اللهِ.

كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ -قال أبو جعفرٍ: فيما أرى- عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو

(1)

سيأتى بتمامه فى ص 282.

(2)

سيأتى تخريجه فى ص 283.

(3)

فى م: "بمنحيه".

(4)

البيت فى الاختيارين ص 227، والأغانى 14/ 157، منسوب لقيس بن الحدادية، ونسب الشطر

الأخير ابن برى -كما فى اللسان (و هـ ى) إلى الحطيئة. والشطر الأول فى الاختيارين:

*وقالت تزحزح لابنا خلت خلة*

وفى الأغانى:

*فقالت تزحزح ما بنا كبر حاجة*

(5)

فى الاختيارين والأغانى: "لفقرك". والوهى: خرق قليل من السقاء. اللسان (و هـ ى).

ص: 281

عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} . أى: ما هو بمُنْجِيه من العذابِ

(1)

.

حَدَّثَنِي المثنَّي، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} . يقول: وإنْ عُمِّر، فما [ذلك بمُغْنيه]

(2)

من العذَابِ ولا منجِيه

(3)

.

وحَدَّثَنِي المثنَّي، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

وحَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمي، عن أبيه، عن جدِّه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} : فهم الذين عادَوْا جبريلَ عليه السلام

(4)

.

وحَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} : ويهودُ أحرصُ على الحياةِ من هؤلاءِ، وقد وَدَّ هؤلاءِ لو يعَمَّرُ أحدُهم ألفَ سنةٍ، وليس

(5)

بمُزَحْزِحِه من العذابِ لو عُمِّر كما عُمِّر إبليسُ، لَمْ يَنْفَعْه ذلك إذا

(6)

كان كافرًا، لَمْ

(7)

يُزَحْزِحْه ذلك

(1)

تقدم أوله في ص 275، 277.

(2)

في م: "ذاك بمغيثه".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 179 (951) من طريق آدم به.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 184 عن العوفى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 89 إلى المصنّف.

(5)

بعده في م، ت 1، ت 3:"ذلك"، وفى ت 2:"ذاك".

(6)

في م: "إذ".

(7)

في م: "ولم".

ص: 282

من العذابِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} .

يَعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} : واللهُ ذو إبصارٍ بما

(2)

يَعمَلون، لا يَخْفَى عليه شيءٌ من أعمالِهم، بل هو بجميعِها مُحيطٌ، ولها حافظٌ ذاكرٌ، حتى يُذِيقَهم بها من العقابِ جزاءَها.

وأصلُ بصيرٍ مُبْصِرٌ، من قولِك

(3)

: أبْصَرْتُ فأنا مُبْصِرٌ. ولكنّه صُرِف إلى "فَعِيلٍ"، كما صُرِفَ مُسْمِعٌ إلى سَميعٍ، وعذابٌ مؤلمٌ إلى أليمٍ، ومُبدِعُ السماواتِ إلى بَديعٍ، وما أشبهَ ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} .

أجمع أهلُ العلمِ بالتأويلِ جميعًا على أنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ جوابًا لليهودِ مِن بنى إسرائيلَ، إذ زعَموا أنَّ جبريلَ عدوٌّ لهم، وأن ميكائيلَ وَلِيٌّ لهم. ثم اختلَفوا في السببِ الذى مِن أجلِه قالوا ذلك؛ فقال بعضُهم: إنما

(4)

كان سببُ قيلِهم ذلك مِن أجلِ مناظرةٍ جرَتْ بينهم وبين رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أمرِ نبوَّتِه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ

(5)

بُكَيرٍ، عن عبدِ الحميدِ بنِ بَهْرامَ، عن

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 185.

(2)

في الأصل: "ما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قول القائل".

(4)

ليست في: الأصل.

(5)

في م: "عن".

ص: 283

شهرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال: حضَرَتْ عِصابةٌ من اليهودِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسمِ، حدِّثْنا عن خِلالٍ نسألُك عنهنَّ لا يَعْلَمُهن إلَّا نبيٌّ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلُوا عمَّا شِئْتُم، ولكن اجعَلُوا لى ذِمّةَ اللهِ وما أخَذ يَعْقُوبُ على بَنِيه، لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكم شيئًا فعَرَفْتُموه لَتُتَابِعُنِّى

(1)

على الإسلامِ". فقالوا: ذلك لك. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلُونى عمّا شِئْتُم". فقالوا: أَخْبِرْنَا عن أَربعِ خِلالٍ نسألُك عنهن؛ أَخْبِرْنَا أيُّ الطعامِ حرَّم إسرائيلُ على نفسِه من قبلِ أن تُنَزَّلَ التوراةُ، وأَخْبِرْنَا كيف ماءُ المرأةِ وماءُ الرجلِ، وكيف يكونُ الذكرُ منه والأُنثي، وأَخْبِرْنَا بهذا النَّبِيِّ الأُمِّيِّ في [النومِ، ومن]

(2)

وَلِيُّه مِن الملائكةِ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عليكم عَهْدُ اللهِ لَئِنْ أنا أَنْبأْتُكم لَتُتَابِعُنِّى

(3)

". فأعطَوْه ما شاء مِن عهدٍ وميثاقٍ، فقال: "نَشَدْتُكم بالذى أنْزَلَ التوْراةَ على موسي، هل تَعْلَمون أن إسْرائِيلَ يعقوبَ

(4)

مَرِض مَرَضًا شديدًا، فَطال سَقَمُه منه، فنَذر للهِ

(4)

نَذْرًا لئِن عافاه اللهُ مِن سَقَمِه، ليُحَرِّمَنَّ أَحبَّ الطعامِ والشرابِ إليه، وكانَ أحبَّ الطعامِ إليه لُحْمانُ

(5)

الإبِلِ" -قال أبو جعفرٍ: فيما أرى أنا- "وأحَبَّ الشرابِ إليه ألْبانُها؟ " فقالوا: اللهمَّ نعم. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "[اللهُمَّ اشْهَدْ عليهم]

(6)

. وأنْشُدُكم باللهِ الذى لا إلهَ إلَّا هو، الذى أنْزَلَ التوراةَ على موسي، هل تَعْلَمون أنَّ ماءَ الرَّجُلِ أبيَضُ غليظٌ، وأن ماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ، فأيُّهما عَلا كان له الوَلَدُ والشَّبَهُ بإذنِ اللهِ، إذا

(7)

عَلا ماءُ الرجلِ ماءَ المرأةِ كان الولَدُ ذَكَرًا بإِذنِ اللهِ، وإذا علا ماءُ

(1)

في ت 2، ونسخ من الطيالسى:"لتبايعنى".

(2)

في الأصل، ت 1، ت 2:"التوراة و".

(3)

في ت 1، ت 3، ونسخ من الطيالسى:"لتبايعنى"، وفى ت 2:"لتبايعوه"، وغير منقوطة في الأصل.

(4)

سقط من: م.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لحم".

(6)

في م: "أشهد الله عليكم"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"أشهد عليكم".

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإذا".

ص: 284

المرأةِ ماءَ الرجلِ كان الولَدُ أُنْثَى بإذنِ اللهِ؟ " قالوا: اللهُمَّ نعَم. قال: "اللهُمَّ اشْهَدْ". قال: "وأَنْشُدُكم بالذى أنْزَل التوراةَ على موسي، هل تَعْلَمون أن هذا النَّبِيَّ الأُمِّيَّ تَنامُ عيناه ولا يَنامُ قلبُه؟ " قالوا: اللهُمَّ نعَم. قال: "اللهُمَّ اشْهَدْ". قالوا

(1)

: أنت الآنَ، فحدِّثْنا مَن وَلِيُّك مِن الملائِكَةِ، فعندَها نجامِعُك

(2)

أو نُفَارِقُك. قال: "فإن وَلِيِّى جبريلُ، ولم يَبْعَثِ اللهُ نبيًّا قَطُّ إلَّا وهو وليُّه". قالوا: فعندَها نُفَارقُك؛ لو كان وليُّك سواه مِن الملائِكَةِ تابَعْناك وصدَّقْناك. قال: "فما يَمْنَعُكُم أن تُصَدِّقوه؟! قالوا: إنه عدوُّنا. فأنْزَل اللهُ عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . إلى قولِه: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . فعندَها باءوا بغضَبٍ على غضَبٍ

(3)

.

وحَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي عبدُ اللهِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي الحسينِ المكِّيُّ، عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ الأشعرىِّ، أن نَفرًا مِن اليهودِ جاءوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمدُ، أَخْبِرْنَا عن أربعِ خصالٍ

(4)

نسألُك عنهنَّ، فإن فعَلتَ اتَّبعْناكَ وصدَّقْناكَ وآمنَّا بكَ. فقال لهم

(4)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عليكم بذلك عهدُ اللهِ وميثاقُه، لئن أنا أخْبَرْتُكم بذلك لَتُصَدِّقُنِّى" قالوا: نعم. قال: "فسلُوا عمَّا بدَا لكم". فقالوا: أَخْبِرْنَا كيف يُشْبِهُ الولدُ أُمَّه وإنما النطفةُ مِن الرجلِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أنْشُدُكم باللهِ وبأيَّامِه

(5)

عندَ بَنى إسرائيلَ، هل تَعْلَمونَ أن نُطفةَ الرَّجُلِ بَيْضاءُ غليظةٌ، ونُطْفَةَ المَرْأةِ صفراءُ رَقيقَةٌ، فأيَّتُهما عَلَت

(6)

صاحبتَها

(1)

في الأصل: "فقالوا".

(2)

في م: "نتابعك".

(3)

أخرجه الطيالسى (2854)، وابن سعد في الطبقات 1/ 174، وعبد بن حميد في تفسيره -كما في

تفسير ابن كثير 1/ 186 - وأحمد 1/ 273، 278 (2471، 2514)، وعبد الله بن أحمد في زوائد

المسند 1/ 278 (2515)، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 703 (3816)، والطبراني في الكبير (13012)،

والبيهقي في الدلائل 6/ 266، 267 من طرق عن عبد الحميد بن بهرام به.

(4)

سقط من: م.

(5)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"بآياته".

(6)

في م: "غلبت".

ص: 285

كان لها الشَّبَهُ؟ " قالوا: اللهُمَّ نعم. قالوا: فأَخْبِرْنَا كيف نومُك؟ قال: "أَنْشُدُكم باللهِ وبأيَّامِه عندَ بَنِى إسرائيلَ، هل تعْلَمون أن [نومَ هذا]

(1)

النبيِّ الذى تزعُمون أنى لستُ به، تنامُ عينُه

(2)

وقلبُه يقظانُ؟ "

(3)

قالوا: اللهُمَّ نعم. قال: " [فكذلك نَوْمِى؛ تَنامُ عَينى وقَلْبى يقظانُ". قالوا: فأَخْبِرْنَا عمَّا]

(4)

حرَّم إسرائيلُ على نفسِه

(5)

، فقال: " [أنْشُدُكم باللهِ وبأيَّامِه عندَ بَنِى إسرائيلَ]

(6)

، هل تَعْلَمون أنه كان أحبَّ الطعامِ والشرابِ إليه ألْبانُ الإبلِ ولُحُومُها، وأنه اشْتَكَى شكوَى فعافاه اللهُ منها، فحرَّم أحَبَّ الطعامِ والشرابِ إليه شُكْرًا

(7)

للهِ، فحرَّم على نَفْسِه لُحُومَ الإبِلِ وأَلْبَانَها؟ " قالوا: اللهمَّ نعَم. قالوا: فأَخْبِرْنَا عن الرُّوح. قال: "أَنْشُدُكم باللهِ وبأيَّامِه عندَ بنى إسْرائيلَ، هل تَعْلَمون أنه جبريلُ، وهو الذى يَأْتِينى؟ " قالوا: نعَم، ولكنه لنا عدوٌّ، وهو مَلَكٌ إنما يأتِي بالشِّدَّةِ وسفْكِ الدماءِ، فلولا ذلك اتبعْناك. فأنْزَل اللهُ فيهم:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . إلى قوله: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

(8)

.

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: حَدَّثَنِي القاسمُ بنُ أبي بَزَّةَ، أن يهودَ سألوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَن صاحبُه الذى يَنْزِلُ عليه بالوحىِ؟ فقال:"جبريلُ". قالوا: فإنه لنا عدوٌّ، ولا يأتى إلَّا بالحربِ والشدَّةِ والقتالِ. فنَزَل:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية. قال ابنُ جُرَيْجٍ: وقال

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

في م، ت 1، ت 2:"عيناه".

(3)

في م: "هذا النبي الأمى تنام عيناه ولا ينام قلبه".

(4)

في م "اللهم اشهد. قالوا: أخبرنا أى الطعام".

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من قبل أن تنزل التوراة".

(6)

سقط من: م.

(7)

في الأصل: "تشكرا".

(8)

سيرة ابن هشام 1/ 543. وتقدم طرف منه في ص 222.

ص: 286

مجاهدٌ: قالت يهودُ: يا محمدُ، ما يَنْزِلُ جبريلُ إلَّا بشدَّةٍ وحربٍ وقتالٍ

(1)

، وإنه لنا لعدوٌّ. فنزَل:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية

(2)

.

وقال آخَرون: بل كان سَبَبُ قِيلِهم ذلك مِن أجلِ مُناظرةٍ جرَت بين عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه وبينهم في أمرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا رِبْعِيُّ ابنُ عُلَيَّةَ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن الشَّعْبِيِّ، قال: نزَل عمرُ بنُ الخطابِ الرَّوْحَاءَ

(3)

، فرأَى رجالًا يَبْتَدِرُون أحجارًا يُصَلُّون إليها، فقال: ما بالُ

(4)

هؤلاءِ؟ قالوا: يَزْعُمون أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلَّى ههنا. قال: فكرِه ذاك، وقال: إنَّما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أدركَتْه الصلاةُ بوادٍ، فصلَّي، ثم ارتحل وترَكه. ثم أنشأ يُحَدِّثُهم فقال: كنتُ أشْهَدُ اليهودَ يومَ مِدْراسِهم

(5)

، فأعْجَبُ مِن التوراةِ كيف تُصَدِّقُ الفُرقانَ، ومِن الفرقانِ كيف يُصَدِّقُ التوراةَ، فبينما أنا عندَهم ذاتَ يومٍ قالوا: يا بنَ الخطابِ، ما مِن أصحابِك أحدٌ أحبَّ إلينا منك. قلتُ: ولمَ ذلك؟ قالوا: إنك تَغْشانا وتَأْتِينا. قال: قلتُ: إنِّي آتِيكم فأعْجَبُ مِن الفُرْقانِ كيف يُصَدِّقُ التوراةَ، ومِن التوراةِ كيف تُصَدِّقُ الفرقانَ. قال: ومرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا بنَ الخطابِ، ذاك صاحبُكم فالحَقْ به. قال: فقلتُ لهم عند ذلك: نَشَدْتكم باللهِ الذى لا إلهَ إلَّا هو، وما استرعاكم مِن حَقِّه واسْتَودَعَكم مِن كتابِه، أَتَعْلَمون أنه

(1)

في م: "قالوا".

(2)

أخرجه سنيد في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير 1/ 186 - عن حجاج بن محمد به.

(3)

الروحاء: بئر مأثورة ارتوى منها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر تبعد عن المدينة نحو 75 كيلو متر. صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار 5/ 179.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2.

(5)

المدراس: البيت الذى يدرس فيه اليهود التوراة. ينظر النهاية 2/ 113.

ص: 287

رسولُ اللهِ؟ قال: فسكَتوا. قال: فقال عالمُهم وكبيرُهم: إنه قد عظَّم عليكم فأَجِيبوه. قالوا: أنت عالمُنا وسيدُنا، فأَجِبْه أنت. قال: أَمَّا إذ نشدْتَنا [بما نَشَدْتنا]

(1)

به، فإنّا نَعْلَمُ أنه رسولُ اللهِ. قال: قلتُ: وَيْحَكم! فأنَّى

(2)

هلَكتُم! قالوا: إنَّا لَمْ نَهْلِكْ. قال: قلتُ: كيف ذاك وأنتم تَعْلَمون أنه رسولُ اللهِ، ثم لا تَتَّبِعونه ولا تُصَدِّقونه؟ قالوا: إن لنا عدوًّا مِن الملائكةِ وسِلْمًا مِن الملائكةِ، وإنه قُرِن بنبوَّتِه

(3)

عدُوُّنا مِن الملائكةِ. قال: قلتُ: ومَن عدوُّكم ومَن سِلْمُكم؟ قالوا: عدوُّنا جبريلُ وسِلْمُنا ميكائيلُ. قال: قلتُ: وفيمَ عاديْتُم جبريلَ وفيمَ سالمتم ميكائيلَ؟ قالوا: إن جبريلَ مَلَكُ الفظاظةِ والغلظةِ والإعسارِ والتشديدِ والعذابِ ونحوِ ذلك، وإن ميكائيلَ ملَكُ الرأفةِ والرحمةِ والتخفيف ونحوِ هذا. قال: قلتُ: وما منزِلتُهما مِن ربِّهما؟ قالوا: أحدُهما عن يمينِه والآخرُ عن يسارِه. قال: فقلتُ: فواللهِ الذى لا إلهَ إلَّا هو، إنهما والذى بينهما لعَدوٌّ لمَن عاداهما، وسِلْمٌ لمَن سالَمَهما، ما يَنْبَغى لجبريلَ أن يُسالمَ عدوَّ ميكائيلَ، و [ما ينْبَغِى]

(4)

لميكائيلَ أن يُسالمَ عدوَّ جبريلَ. قال: ثم قمتُ فاتَّبعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فلحِقْتُه وهو خارجٌ مِن خَوْخَةٍ

(5)

لبنى فلانٍ، فقال لى: "يا بنَ الخطابِ، ألا أُقْرِئُك آياتٍ نزَلْنَ قبلُ

(6)

"؟ فقرَأ عليَّ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حتى قرَأ الآياتِ. قال: قلتُ: بأبي وأمى يا رسولَ اللهِ، والذى بعَثك بالحقِّ، لقد جِئْتُ وأنا أُرِيدُ أن أُخْبِرَك

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "أي"

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لا".

(5)

في م: "خرقة". والخوخة: باب صغير كالنافذة الكبيرة، وتكون بين بيتين ينصب عليها باب. النهاية 2/ 86.

(6)

سقط من: م.

ص: 288

الخبرَ، فأسمعُ اللطيفَ الخبيرَ قد سبَقنى إليك بالخبرِ

(1)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ

(2)

إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن داودَ، عن الشَّعْبيِّ، قال: قال عمرُ: كنتُ رجلًا أغْشَى اليهودَ في يومِ مِدْراسِهم. ثم ذكَر نحوَ حديثِ رِبْعِيٍّ.

وحدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قال: ذُكِر لنا أن عمرَ بنَ الخطابِ انْطَلَق ذاتَ يومٍ إلى اليهودِ، فلمَّا أبْصَروه رحَّبوا به، فقال لهم عمرُ: أمَا واللهِ ما جئْتُ لحُبِّكم ولا للرغبةِ فيكم، ولكن جئتُ لأسْمَعَ منكم. فسألهم وسألوه، فقالوا: مَن صاحبُ صاحبِكم؟ فقال لهم: جبريلُ. فقالوا: ذاك عدوُّنا مِن أهلِ السماءِ، يُطْلِعُ محمدًا على سرِّنا، وإذا جاء جاء بالحربِ والسَّنَةِ

(3)

، ولكنَّ صاحبَ صاحبِنا ميكائيلُ، وكان إذا جاء جاء بالخِصْبِ وبالسِّلْمِ. فقال لهم عمرُ: أفتَعْرِفون جبريلَ وتُنْكِرون محمدًا؟ ففارَقَهم عمرُ عندَ ذلك وتوجَّه نحوَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليُحَدِّثَه حديثَهم، فوجَده قد أُنْزِلت عليه هذه الآيةُ:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}

(4)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن قتادةَ، قال: بلغَنا أن عمرَ بنَ الخطابِ أقبلَ إلى

(5)

اليهودِ يومًا. فذكَر نحوَه.

(1)

أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده -كما في المطالب العالية (3891) - من طريق داود به. وقال السيوطي في الدر المنثور 1/ 90: صحيح الإسناد، ولكن الشعبى لم يدرك عمر.

(2)

في م: "قال: ثنا".

(3)

السنة: القحط والجدب. اللسان (س ن هـ).

(4)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 90 إلى المصنف.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"على".

ص: 289

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قال: قالت اليهودُ: إن جبريلَ هو عدوُّنا؛ لأنه يَنْزِلُ بالشِّدَّةِ والحربِ والسِّنَةِ، وإن ميكائيلَ يَنْزِلُ بالرخاءِ والعافيةِ والخِصْبِ، فجبريلُ عدوُّنا. فقال اللهُ تعالى ذكرُه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}

(1)

.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} . قال: كان لعمرَ بنِ الخطابِ أرضٌ بأعلَى المدينةِ، فكان يأتيها، وكان مَمَرُّه على طريقِ مِدْراسِ اليهودِ، وكان كُلَّما [مرَّ عليهم]

(2)

دخَل عليهم فيسمَعُ

(3)

منهم، وإنه دخَل عليهم ذاتَ يومٍ، فقالوا: يا عمرُ، ما في أصحابِ محمدٍ أحدٌ أحبَّ إلينا منك، إنهم يَمُرُّون بنا فيُؤْذُوننا، وَتمُرُّ بنا فلا تُؤْذِينا، وإِنَّا لنَطْمَعُ فيك. قال لهم عمرُ: أيُّ يمينٍ فيكم أعظمُ؟ قالوا: الرحمنُ الذى أنزَل التوراةَ على موسى بطُورِ سَيْنَاءَ. قال لهم عمرُ: فأَنْشُدُكم بالرحمنِ الذى أنْزَل التوراةَ على موسى بطُورِ سَينَاءَ، أتجِدُون محمدًا صلى الله عليه وسلم عندَكم. فأُسْكِتوا، فقال: تَكَلَّموا، ما شأنُكم؟ فواللهِ ماسألتُكم وأنا شاكٌّ في شيءٍ مِن دينى. فنظَر بعضُهم إلى بعضٍ، فقام رجلٌ منهم فقال: أخْبِروا الرجلَ، لَتُخْبِرُنَّه أو لأُخْبِرَنَّه. قالوا: نعم، إنَّا لَنجِدُه مكتوبًا عندَنا، ولكنَّ صاحبَه مِن الملائِكةِ الذى يأتيه بالوحىِ هو جبريلُ، وجبريلُ عدوُّنا، وهو صاحبُ كلِّ عذابٍ أو قِتالٍ أو خَسْفٍ، ولو أنه كان وليُّه ميكائيلَ إذن لآمنَّا به، فإن ميكائيلَ صاحبُ كلِّ رحمةٍ وكلِّ غَيْثٍ. قال لهم عمرُ: فأَنْشُدُكم بالرحمنِ الذى أنْزلَ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 52، 53.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "سمع"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فسمع".

ص: 290

التوراةَ على موسى بطُورِ سَيْنَاءَ، أين مكانُ جبريلَ مِن اللهِ؟ قالوا: جبريلُ عن يمينِه، وميكائيلُ عن يسارِه. قال عمرُ: فأشْهَدُ

(1)

أن الذى هو عدوٌّ للذى عن يمينِه عدوٌّ للذى هو عن يسارِه، والذى هو عدوٌّ للذى هو عن يسارِه، عدوٌّ للذى هو عن يمينِه، وأنه مَن كان عدوَّهما فإنه عدوٌّ للهِ. ثم رجَع عمرُ ليُخْبِرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فوجَد جبريلَ قد سبَقه بالوحىِ، فدعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقرَأه عليه، فقال عمرُ: والذى بعَثك بالحقِّ، لقد جئْتُك وما أُرِيدُ إلَّا أن أُخْبِرَك

(2)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ بنُ الحَجَّاجِ الرازيُّ، قال:[ثنا أبو زُهَيْرٍ عبدُ الرحمنِ بنُ مَغْراءَ، عن مجالدٍ]

(3)

، عن الشَّعْبيِّ، قال: انْطَلق عمرُ إلى يهودَ، فقال: إنى أَنْشُدُكم بالذى أنزَل التوراةَ على موسى، هل تَجِدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابِكم؟ فقالوا: نعَم. فقال: فما يَمنعُكم أن تَتَّبِعوه؟ فقالوا: إن اللهَ لم يَبْعَثْ رسولًا إلَّا كان له مِن الملائكةِ كِفْلٌ، وإن جبريلَ هو الذى يَتَكَفَّلُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو عدوُّنا مِن الملائكةِ، وميكائيلُ سِلْمُنا، فلو كان هو الذى يأتيه اتَّبَعْناه. قال: فإنى أَنْشُدُكم بالذى أنْزَل التوراةَ على موسى، ما منزلتُهما مِن ربِّ العالمين؟ قالوا: جبريلُ عن يمينِه، وميكائيلُ عن جانبِه الآخَرِ. فقال: إنى أَشْهَدُ ما يقولان إلَّا بإذنِ اللهِ، وما كان ميكائيلُ ليُعَادِىَ سِلْمَ جبريلَ، وما كان جبريلُ ليُسَالِمَ عدوَّ ميكائيلَ. إذ مرَّ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا صاحبُك يا بنَ الخطابِ. فقام إليه، فأتاه وقد أُنْزِل عليه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . إلى قولِه: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}

(4)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فأشهدكم".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 90 إلى المصنف.

(3)

في م: "ثنا عبد الرحمن بن مغراء، قال: ثنا زهير، عن مجاهد".

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 285، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 181 من طريق مجالد به.

ص: 291

وحدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا حُصَيْنُ

(1)

بنُ عبدِ الرحمنِ، عن ابنِ أبي ليلى في قولِه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} . قال: قالت اليهودُ للمسلمين: لو أن ميكائيلَ كان الذى يَنْزِلُ عليكم لَتَبِعْناكم، فإنه يَنْزِلُ بالرحمةِ والغَيْثِ، وإن جبريلَ يَنْزِلُ بالعذابِ والنِّقْمَةِ، وهو لنا عدوٌّ. قال: فنزَلت هذه الآيةُ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}

(2)

.

وحدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا

(3)

عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ بنحوٍ مِن ذلك.

وأمَّا تأويلُ الآيةِ، أعنى قولَه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . فهو أن اللهَ تعالى ذكرُه يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لمعاشرِ اليهودِ مِن بنى إسرائيلَ الذين زعَموا أن جبريلَ لهم عدوٌّ، من أجلِ أنه صاحبُ عذابٍ وسطواتٍ وعقوباتٍ، لا صاحبُ وَحْيٍ وتنزيلٍ ورحمةٍ، فأَبَوُا اتِّباعَك، وجحَدوا نبوَّتَك، وأنكَروا ما جئتَهم به مِن آياتى وبيِّناتِ حُكْمِى، مِن أجلِ أن جبريلَ وليُّك وصاحبُ وحيىِ إليك، وزعَموا أنه لهم عدوٌّ-: مَن يكنْ مِن الناسِ لجبريلَ عَدُوًّا، ومُنْكِرًا أن يكونَ صاحبَ وحىِ اللهِ إلى أنبيائِه، وصاحبَ رحمتِه، فإنى له وليٌّ وخليلٌ، ومُقِرٌّ بأنه صاحبُ وحىِ اللهِ إلى أنبيائِه ورسلِه، وأنه هو الذى يُنَزِّلُ وحىَ اللهِ على قلبى مِن عند ربى، بإذنٍ من ربي له بذلك، فيَرْبِطُ به على قلبي ويَشْدُدُ به فؤادِى.

كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ ابنُ عُمارةَ،

(1)

في الأصل: "أبو حصين".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 182 (961) من طريق حصين بن عبد الرحمن به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 91 إلى ابن المنذر.

(3)

في الأصل: "وأخبرنا".

ص: 292

عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} . قال: وذلك أن اليهودَ قالت حين سألتْ محمدًا صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ كثيرةٍ، فأخبرَهم بها على ما هى عندَهم-: إلَّا جبريلَ، فإن جبريلَ كان عندَ اليهودِ صاحبَ عذابٍ وسَطْوةٍ، ولم يكنْ عندَهم صاحبَ وَحْىٍ -يعنى: تنزيلٍ مِن اللهِ على رسلِه- ولا صاحبَ رحمةٍ. فأخْبَرهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما سألُوه عنه؛ أن جبريلَ صاحبُ وَحْىِ اللهِ، وصاحبُ نِقَمِه

(1)

، وصاحبُ رحمتِه. فقالوا: ليس بصاحبِ وحىٍ ولا رحمةٍ، وهو لنا عدوٌّ. فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه إكذابًا لهم:{قُلْ} يا محمدُ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} . يقولُ: فإن جبريلَ {نَزَّلَهُ} . يقولُ: نزَّل القرآنَ [مِن عندى {عَلَى قَلْبِكَ}. يقولُ: على قلبِك يا محمدُ: {بِإِذْنِ اللَّهِ}. يقولُ]

(2)

: بأمرِ اللهِ. يقولُ

(3)

: يَشْدُدُ به فؤادَك، ويَرْبِطُ به على قلبِك -يعنى: بوحْيِنا الذى نَزَل به جبريلُ عليك مِن عندِ اللهِ- وكذلك يَفْعلُ بالمرسلينَ والأنبياءِ مِن قبلِك

(4)

.

وحدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . يقولُ: أنْزَل الكتابَ على قلبِك بإذنِ اللهِ.

وحُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} . يقولُ: نَزَّل الكتابَ على قلبِك جبريلُ

(5)

.

(1)

في م: "نقمته"

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: م.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 180 (953، 955، 956، 957) من طريق أبي كريب به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 180 عقب الأثر (954) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 293

وإنما قال جل ثناؤُه: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} . وهو يعني بذلك قلبَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد أمَر محمدًا صلى الله عليه وسلم في أولِ الآيةِ أن يُخْبِرَ اليهودَ بذلك عن نفسِه، ولم يَقُلْ: فإنه نَزَّله على قلبى. ولو قِيلَ: على قلبى. كان صوابًا مِن الكلامِ؛ لأن مِن شأنِ العرب إذا أمَرَت رجلًا أن يَحْكِىَ ما قِيلَ له عن نفسِه، أن تُخْرِجَ فعلَ المأمورِ مرَّةً مضافًا إلى [كنايتِه، كهيئةِ]

(1)

المخبِرِ عن نفسِه، إذ كان هو المُخبرَ عن نفسِه، ومرَّةً مضافًا إلى اسمِه، كهَيْئةِ كنايةِ اسمِ المخاطبِ؛ لأنه به مُخاطبٌ. فتقولُ في نظيرِ ذلك: قُلْ للقومِ: إن الخيرَ عندِى كثيرٌ. فتُخْرِجُ كنايةَ اسمِ [المأمورِ كهيئةِ اسمِ]

(2)

المخبرِ عن نفسِه؛ لأنه المأمورُ أن يُخبرَ بذلك عن نفسِه. وقلْ للقومِ: إن الخيرَ عندَك كثيرٌ. فتُخْرجُ كنايةَ اسمِه أُخْرى

(3)

كهيئةِ كنايةِ اسمِ المُخاطَبِ؛ لأنه وإن كان مأمورًا بقيلِ ذلك، فهو مخاطبٌ مأمورٌ بحكايةِ ما قِيلَ له. وكذلك: لا تقلْ للقومِ: إنى قائمٌ. ولا تَقُلْ لهم: إنك قائمٌ. والياءُ مِن "إنى" اسمُ المأمورِ بقولِ ذلك على ما وَصَفنا. ومِن ذلك قولُ اللهِ عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} و (سَيُغْلَبُونَ)

(4)

[آل عمران: 12] بالياءِ والتاءِ [مثلَ الذى وصَفنا سواءً]

(5)

.

وأما جبريلُ، فإن للعربِ فيه لغاتٍ، فأما أهلُ الحجازِ فإنهم يقولون: جِبريلُ وميكالُ. بغيرِ همزٍ، بكَسْرِ الجيمِ والراءِ من جِبريلَ، وبالتخفيفِ. وعلى القراءةِ بذلك عامةُ قَرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ

(6)

.

(1)

في م: "كناية نفس".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م.

(4)

سيأتى تخريج هاتين القراءتين في موضعها.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

وهى قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 166.

ص: 294

وأما تميمٌ وقيسٌ وبعضُ نجدٍ فإنهم يقولون: جَبْرَئيلُ ومِيكائيلُ. على مثالِ: جَبْرَعيل ومِيكاعيل. بفتحِ الجيمِ والراءِ، وبهمزٍ، وزيادةِ ياءٍ بعدَ الهمزةِ. وعلى القراءةِ بذلك عامةُ قَرأةِ أهلِ الكوفةِ

(1)

، كما قال جرير بنُ عطيةَ

(2)

:

عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبوا بمُحَمَّدٍ

وبجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكالَا

وقد ذُكِرَ عن الحسنِ البصرىِّ وعبدِ اللهِ بنِ كثيرٍ أنهما كانا يقرأان: (جَبْرِيل). بفتحِ الجيمِ وتركِ الهمزِ.

وهى قراءةٌ غيرُ جائزةٍ القراءةُ بها

(3)

؛ لأن "فَعْليلَ"

(4)

في كلامِ العربِ غيرُ موجودٍ. وقد أجاز

(5)

ذلك بعضُهم، وزعَم أنه اسمٌ أعْجَميٌّ، كما يُقالُ: سَمْوِيلُ

(6)

. وأنْشَد في ذلك

(7)

:

بحيث لو وُزِنَتْ لَخْمٌ بأجْمَعِها

[ما وَازَنَتْ]

(8)

ريشَةً مِن رِيشِ سَمْوِيلا

(9)

وأما بنو أسدٍ فإنها تقولُ: جِبْرِينُ. بالنونِ.

وقد حُكِىَ عن بعضِ العربِ أنها تَزيدُ في جبريلَ أَلِفًا فتقولُ: جِبرائيلُ وميكائيلُ.

وقد حُكِىَ عن يحيى بنِ يَعْمَرَ أنه كان يقرأُ: (جَبْرَئِلّ) بفتحِ الجيمِ، والهمزِ، وتركِ المدِّ، وتشديدِ اللامِ

(10)

.

(1)

وهى قراءة حمزة والكسائى، ورواية عن أبي بكر عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 167.

(2)

ديوانه 1/ 52.

(3)

بل هى قراءة متواترة مستفيض نقلها.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فعيل".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"اختار".

(6)

في ت 2، ت 3:"شمويل"، وسمويل: طائر، وقيل: بلدة كثيرة الطير. اللسان (س م ل). والبيت فيه.

(7)

البيت للربيع بن زياد العبسى، وهو في الفاخر ص 173، والأغانى 17/ 186.

(8)

في مصادر التخريج: "لم يعدلوا".

(9)

في ت 1، ت 3:"شمويلا"، بالشين، وهو رواية للبيت، ويروى أيضًا:"قِتْميلا".

(10)

مختصر الشواذ لابن خالويه، والبحر المحيط 1/ 318.

ص: 295

فأما "جَبْر" و "ميك"، فإنهما هما الاسمان اللذان أحدُهما بمعنى "عَبْدٍ"، والآخرُ بمعنى "عُبَيدٍ".

وأما "إيل" فهو اللهُ تعالى ذِكْرُه، كما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ الحِمَّانِىُّ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: جبريلُ وميكائيلُ كقولِك: عبدُ اللهِ.

وحدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن يزيدَ النَّحْوِىِّ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: جبريلُ: عبدُ اللهِ، وميكائيلُ: عُبَيدُ اللهِ، وكلُّ اسمِ "إيلَ" فهو اللهُ.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن إسماعيلَ بنِ رجاءٍ، عن عميرٍ

(1)

مولى ابنِ عباسٍ، [عن ابنِ عباسٍ]

(2)

، أن إسرائيلَ وميكائيلَ وجبريلَ وإسرافيلَ، كقولِك: عبدُ اللهِ

(3)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ بنِ عمرٍو، عن عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ، قال:"إيلُ" اللهُ بالعِبْرانيةِ

(3)

.

وحدَّثنا الحسينُ بنُ يزيدَ الطَّحَّانُ

(4)

، قال: ثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ، قال: ثنا قيسٌ، عن عاصمٍ، عن عِكْرِمةَ، قال: جبريلُ اسمُه عبدُ اللهِ، وميكائيلُ اسمُه عُبَيدُ اللهِ، "إيل" اللهُ

(5)

.

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"عمر". وينظر تهذيب الكمال 22/ 381.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

تقدم في 1/ 593.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الضحاك". وينظر تهذيب الكمال 6/ 501.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 87 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 91 إلى ابن المنذر.

ص: 296

وحدَّثنى الحسينُ بنُ عمرِو بنِ محمدٍ العَنْقَزِىُّ

(1)

، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرىُّ، قال: ثنا سفيانُ، من [محمدِ بنِ عمرِو بنِ علقمةَ، عن]

(2)

محمدِ ابنِ عمرِو بنِ عطاءٍ، عن علىِّ بنِ حسينٍ، قال: اسمُ جبريلَ عبدُ اللهِ، واسمُ ميكائيلَ عُبَيدُ اللهِ، واسمُ إسْرافيلَ عبدُ الرحمنِ، وكلُّ مُعَبَّدٍ بـ "إيل" فهو عبدُ اللهِ.

حدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا قَبيصةُ بنُ عُقْبةَ، قال: ثنا سفيانُ، عن محمدٍ المَدنىِّ -قال المثنَّى: قال قبيصةُ: أُراه محمدَ بنَ إسحاقَ- عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ عطاءٍ، عن علىِّ بنِ حسينٍ، قال: ما تَعُدُّون جبريلَ في أسمائِكم؟ قال: جبريلُ عبدُ اللهِ، وميكائيلُ عُبيدُ اللهِ، وكلُّ اسمٍ فيه "إيلُ" فهو مُعَبَّدٌ للهِ.

[وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ عطاءٍ، عن علىِّ بنِ حسينٍ، قال: اسمُ جبريلَ عبدُ اللهِ، وميكائيلَ عبيدُ اللهِ، وكلُّ اسمٍ فيه "إيلُ" فهو مُعَبَّدٌ للهِ]

(2)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ عطاءٍ، عن علىِّ بنِ حسينٍ، قال: قال لى: هل تَدْرِى ما اسمُ جبريلَ مِن أسمائِكم؟ قال: قلت: لا. قال: عبدُ اللهِ. فهل تَدْرِى ما اسمُ ميكائيلَ مِن أسمائِكم؟ قلتُ: لا. قال: عُبيدُ اللهِ. قال: وقد سَمَّى لى إسرافيلَ

(3)

باسمٍ نحوِ ذلك فنَسِيتُه، إلَّا أنَّه

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"العبقرى".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "إسرائيل".

ص: 297

قد قال لى: أرأيتَ كلَّ اسمٍ يَرْجِعُ إلى "إيل"، فهو مُعَبَّدٌ لله

(1)

.

حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن عِكْرمةَ في قولِه:{جِبْرِيلَ} . قال: "جبر" عبدٌ، "إيلُ" اللهُ، و"ميكا" قال: عبدٌ، "إيلُ" الله

(2)

.

فهذا تأويلُ مَن قرأ: (جَبْرَائيل). بالفتحِ، والهمزِ، والمدِّ، وهو إن شاء اللهُ معنى مَن قرَأ بالكسرِ، وتَرَكَ الهمْزَ.

وأما تأويلُ مَن قرَأ ذلك بالهمزِ وتَرْكِ المدِّ وتشديدِ اللامِ، فإنه قصَد بقراءتِه ذلك كذلك، إلى إضافةِ "جَبْر" و"ميكا" إلى اسمِ اللهِ الذى يُسَمَّى به بلسانِ العربِ، دون السريانىِّ والعِبْرانىِّ، وذلك أن "الإلّ" بلسانِ العربِ: اللهُ، كما قال اللهُ تعالى ذكرُه:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10]. فقال جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ: "الإلُّ" هو اللهُ. ومنه قولُ أبى بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه لوفدِ بنى حَنِيفةَ، حين سأَلهم عما كان مُسَيلِمةُ يقولُه، فأخبروه - فقال لهم: وَيحَكُم! أين ذُهِبَ بكم؟ فواللهِ، إن هذا الكلامَ ما خرَج مِن إلٍّ ولا بِرٍّ

(3)

. يعنى بقولِه: مِن إِلٍّ: مِن اللهِ.

وقد حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن سليمانَ التيمىِّ، عن أبى مِجْلزٍ في قولِه:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} . قال: قولُه: "جبريلُ"

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 182 (966)، وأبو الشيخ في العظمة (384) من طريقين عن ابن إسحاق به.

(2)

علقه البخارى في باب قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} من كتاب التفسير. فتح البارى 8/ 165، وعلقه أيضا ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 182 عقب الأثر (966)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 91 إلى وكيع.

(3)

ينظر تاريخ المصنف 3/ 300.

ص: 298

"ميكائيلُ""إسرافيلُ"، كأنه يقولُ حين يُضِيفُ "جبر" و"ميكا" و"إسرا

(1)

" إلى "إيلَ" يقولُ: عبدُ اللهِ، فقال:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا} . كأنه يقولُ: لا يَرْقُبون اللهَ عز وجل

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} .

يعنى جل ثناؤُه بقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : القرآنَ. ونصب {مُصَدِّقًا} على القطعِ مِن "الهاءِ" التى في قوله: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} فمعنى الكلامِ: فإن جبريلَ نزّل القرآنَ على قلبِك يا محمدُ، مصدقًا لما بين يَدَىِ القرآنِ. يعنى بذلك: مُصدِّقًا لما سلَف مِن كُتُبِ اللهِ أمامَه، ونزَل على رسلِه الذين كانوا قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وتصديقُه إياها مُوافقةُ معانِيه معانيَها في الأمرِ باتِّباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما جاء به مِن عندِ اللهِ، وفى

(3)

تصديقِه.

كما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{مُصَدِّقًا} يقولُ: مصدِّقًا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} . يقولُ: لما قبلَه مِن الكُتُبِ التى أنزَلَها اللهُ، والآياتِ، والرسلِ الذين بعَثهم اللهُ بالآياتِ، نحو موسى ونوحٍ وهودٍ وشعيبٍ وصالحٍ، وأشباهِهم مِن المرسلين

(4)

.

وحدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}

(5)

: مِن التوراةِ والإنجيلِ

(6)

.

(1)

في الأصل: "سرا فى".

(2)

ينظر ما سيأتى في تفسير هذه الآية من سورة التوبة.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هى".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 180 (957) من طريق أبي كريب به.

(5)

بعده إحالة غير واضحة في الأصل.

(6)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 181 عقب الأثر (958) معلقًا.

ص: 299

وحُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرييعِ مثلَه

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَهُدًى} : ودليلٌ وبرهانٌ، وإنما سمَّاه اللهُ جل ثناؤُه هدًى لاهتداءِ المؤمنِ به، واهتداؤُه به اتخاذُه إياه هاديًا يَتْبعُه، وقائدًا يقْتادُ لأمرِه ونهيِه، وحلالِه وحرامِه. والهادى مِن كلِّ شيءٍ ما تَقدَّم أمامَه. ومِن ذلك قيل لأوائلِ الخيلِ: هَوادِيها. وهو ما تَقدَّم أمامَها، ولذلك

(2)

قِيلَ للعُنقِ: الهادى. لتَقدُّمِها أمامَ سائرِ الجسدِ.

وأما البُشْرَى، فإنها البِشارةُ. أخْبَر اللهُ عبادَه المؤمنين أن القرآنَ لهم بُشْرَى منه؛ لأنه أعْلَمهم فيه ما أعدَّ لهم مِن الكرامةِ عندَه في جِنانِه، وما هم إليه صائرون في مَعادِهم مِن ثوابِه، وذلك هو البُشْرَى الذى

(3)

بَشَّر اللهُ المؤمنين بها في كتابِه؛ لأن البِشارَةَ في كلامِ العربِ إعلامُ الرجلِ [الرجلَ ما]

(4)

يكن به عالمًا مما يُسَرُّ به مِن الخيرِ، قبلَ أن يَسْمَعَه مِن غيرِه، أو يَعْلمَه مِن قِبَلِ غيرِه. وقد رُوِىَ عن قتادةَ في ذلك قولٌ قريبُ المعنى مما قُلْناه.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} : [جعَل اللهُ هذا القرآنَ هُدًى وبُشْرَى للمؤمنين]

(5)

؛ لأن المؤمنَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 181 عقب الأثر (958) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

في م، ت 2:"كذلك".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"التى".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 300

إذا سمِع القرآنَ حفِظه ووعاه

(1)

، وانْتَفَع به، واطْمَأنَّ إليه، وصدَّق بموعودِ اللهِ الذى وعَد فيه، وكان على يقينٍ مِن ذلك

(2)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ

(3)

فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}.

وهذا خبرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه [عن عداوتِه]

(4)

مَن عاداه وعادَى جميعَ ملائكتِه ورسلِه، وإعلامٌ منه أن مَن عادَى جبريلَ فقد عاداه وعادَى ميكائيلَ، وعادَى جميعَ ملائكتِه ورسلِه؛ لأنَّ الذين سمَّاهم اللهُ في هذه الآيةِ هم أولياءُ اللهِ وأهلُ طاعتِه، ومَن عادَى للهِ وَليًّا فقد عادَى اللهَ وبارَزه بالمحاربةِ، ومن عادَى اللهَ فقد عادَى جميعَ أهلِ طاعتِه وولايتِه؛ لأنَّ العدوَّ للهِ عدوٌّ أوليائِه، والعدوَّ لأوليائِه عدوٌّ له. فلذلك

(5)

قال اللهُ تعالى ذكرُه لليهودِ الذين قالوا: إنَّ جبريلَ عدوُّنا مِن الملائكةِ، وميكائيلَ وليُّنا منهم:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . مِن أجلِ أنَّ عدوَّ جبريلَ عدوُّ كلِّ ولىٍّ للهِ، فأخبرَهم جلَّ ثناؤه أنَّ مَن كان عدوًّا لجبريلَ، فهو لكلِّ مَن ذكَره؛ مِن ملائكتِه ورسلِه وميكائيلَ، عدوٌّ، وكذلك عدوُّ بعضِ رسلِ اللهِ عدوٌّ للهِ ولكلِّ ولىٍّ للهِ

(6)

.

وقد حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ -يعنى العَتَكىَّ- عن رجلٍ مِن قريشٍ، قال: سأل النبىُّ صلى الله عليه وسلم اليهودَ فقال: " أسْألُكم

(1)

في م: "ورعاه".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 181 (959) من طريق يزيد به.

(3)

في الأصل: "ميكائل"، وهى قراءة نافع. السبعة لابن مجاهد ص 166.

(4)

في م: "من كان عدو لله".

(5)

في م: "فكذلك".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 301

بكتابِكم الذى تَقْرَءُونَ، هل تَجِدُونى

(1)

قد بشَّر بى عيسى أن يَأْتِيَكم رسولٌ اسمُه أحمدُ؟ " فقالوا: اللهمَّ نعم

(2)

، وجَدْناك في كتابِنا، ولكنَّا كرِهْناك لأنَّك تَسْتَحِلُّ الأموالَ وتُهَرِيقُ الدِّماءَ. فأنزَل اللهُ:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} . الآية

(3)

.

وحدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن حصينِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، قال: إنَّ يهوديًّا لقِى عمرَ فقال له: إنَّ جبريلَ الذى يَذْكُرُه صاحبُك هو عدوٌّ لنا. فقال له عمرُ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . قال: فنزَلتْ

(4)

على لسانِ عمرَ

(5)

.

وهذا الخبرُ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى ذكرُه أنزَل هذه الآيةَ توبيخًا لليهودِ فى كفرِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإخبارًا منه لهم أن من كان لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم عدوًّا فاللهُ له عدوٌّ، وأنَّ عدوَّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن الناسِ كلِّهم مِن الكافرين باللهِ الجاحِدين آياتِه.

فإن قال قائلٌ: أوَ ليس جبريلُ وميكائيلُ مِن الملائكةِ؟ قيل: بلى. فإن قال: فما معنى تَكريرِ ذِكرِهما بأسمائهما وقد مضَى ذِكرُهما في الآية في جملةِ أسماءِ الملائكةِ؟ قيل: معنى إفرادِ ذكرِهما بأسمائِهما أن اليهودَ لمَّا قالت: جبريلُ عدوُّنا وميكائيلُ وليُّنا. وزعَمتْ أنَّها تكْفُرُ

(6)

بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن أجلِ أن جبريلَ صاحبُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أعلَمهم اللهُ أن من كان لجبريلَ عدوًّا، فإنَّ اللهَ له عدوٌّ، وأنَّه مِن

(1)

في م: "تجدون به" وفى ت 1، ت 2:"تجدونه"، وفى ت 3:"تجدون".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 91 إلى المصنف.

(4)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"فنزل".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 182 (961) من طريق أبى جعفر به.

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كفرت".

ص: 302

الكافرين. فنصَّ عليه باسمِه وعلى ميكائيلَ باسمِه، لئلا يقولَ منهم قائلٌ: إنما قال اللهُ: مَن كان عدوًّا للهِ وملائكتِه ورسلِه. ولسنا للهِ ولا لملائكتِه ورسلِه بأعداءٍ؛ لأنَّ الملائكةَ اسمٌ عامٌّ يَحتَمِلُ خاصًّا، وجبريلُ وميكائيلُ غيرُ داخِلَين فيه. وكذلك قولُه:{وَرُسُلِهِ} . فلستَ يا محمدُ بداخلٍ فيهم. فنصَّ اللهُ تعالى ذكرُه على أسماءِ مَن زعَموا أنَّهم أعداؤُه بأعيانِهم؛ ليقطَعَ بذلك تلبيسَهم على أهلِ الضعفِ منهم، ويَحْسِمَ تمويهَهم أمورَهم على المنافقين.

وأما إظهارُ اسمِ اللهِ فى قولِه: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . وتكريرُه فيه -وقد ابتَدَأ أوَّلَ الخبرِ بذكرِه فقال: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} - [فإرادةُ نَفْىِ الشكِّ عن سامعِ ذلك أن الذى هو عدوُّ من عادَى جبريلَ أو ملائكتَه أو رسلَه، اللهُ جلَّ ثناؤُه]

(1)

، ولئلّا يلتبِسَ -لو ظهَر ذلك بكنايةٍ، فقيل: فإنه عدوٌّ للكافرين- على سامِعِهِ- مَن المعنىُّ بالهاءِ التى فى قولِه

(2)

: فإنَّه. آللهُ

(3)

، أم جبريلُ، أم ميكائيلُ؟ إذ لو جاء ذلك بكنايةٍ على ما وصَفْنا -فإنه- لالتَبَس

(4)

معنى ذلك على مَن لم يُوقَّفْ على المعنىِّ بذلك؛ لاحتمالِ الكلامِ ما وصَفتُ.

وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ يوجِّهُ ذلك إلى نحوِ قولِ الشاعرِ

(5)

:

ليت الغرابَ غداةَ يَنْعَبُ دائبًا

(6)

كان الغرابُ مُقَطَّعَ الأوْدَاجِ

(7)

(1)

سقط من: م.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

بعده فى م: "أم رسل الله جل ثناؤه".

(4)

فى م: "يلتبس".

(5)

هو جرير بن عطية. والبيت فى ديوانه 1/ 136.

(6)

فى الديوان: "بالنوى".

(7)

الوَدَج: عرق فى العنق، وهما ودجان. تاج العروس (و د ج).

ص: 303

وأنه إظهارُ الاسمِ الذى حظُّه الكنايةُ عنه.

والأمرُ فى ذلك بخلافِ ما قال؛ وذلك أن الغرابَ الثانىَ لو كان مَكْنيًّا عنه لما التبسَ على أحدٍ يعقِلُ كلامَ العربِ أنه كنايةُ اسمِ الغرابِ الأولِ؛ إذ كان لا شيءَ قبلَه يحتملُ الكلامُ أن يوجَّهَ إليه غيرُ كنايةِ اسمِ الغرابِ الأولِ، وأنَّ قبلَ

(1)

قولِه: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . أسماءً

(2)

لو جاء اسمُ اللهِ تعالى ذكرُه مكنيًّا عنه، لم يُعْلَمْ مَن المقصودُ إليه بكنايةِ الاسمِ إلا بتوقيفٍ مِن حجةٍ، فلذلك اختَلف أمراهما.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . أى: أنزَلنا إليك يا محمدُ علاماتٍ واضحاتٍ دالَّاتٍ على نُبوَّتِك، وتلك الآياتُ هى ما حَواه كتابُ اللهِ الذى أنزَله إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن خَفايا علومِ اليهودِ، ومَكنونِ سرائرِ [أخبارِهم وأخبارِ]

(3)

أوائِلهم مِن بنى إسرائيلَ، والنبأِ عما تضمَّنتْه كتبُهم التى لم يكنْ يعلمُها إلا أحبارُهم وعلماؤُهم، وما حرَّفه أوائلُهم وأواخرُهم وبدَّلوه مِن أحكامِهم التى كانت فى التوراةِ، فأطلَع اللهُ تعالى ذكرُه فى كتابِه الذى أنزَله إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكان فى ذلك مِن أمرِه الآياتُ البيناتُ لمَن أنصَف نفسَه، ولم يدْعُه إلى إهلاكِها الحسدُ والبغىُ؛ إذ كان فى فطرةِ كلِّ ذى فِطرةٍ صحيحةٍ تصديقُ مَن أتَى بمثلِ الذى أتَى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم مِن الآياتِ البيناتِ التى وصفتُ، عن غيرِ تعلُّمٍ تعلَّمه مِن بشرىٍّ

(4)

، ولا أخْذِ شيءٍ منه عن آدمىٍّ.

وبنحوِ الذى قلنا فى ذلك رُوِى الخبرُ عن ابنِ عباسٍ.

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قيل".

(2)

فى م: "اسما".

(3)

فى الأصل: "أحبارهم وأحبار".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر".

ص: 304

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . يقولُ: فأنت تَتلوه عليهم وتُخبرُهم به غُدوةً وعشيةً وبينَ ذلك، وأنت عندَهم أمىٌّ لم تقرَأْ كتابًا، وأنت تُخبرُهم بما فى أيديهم على وجهِه، يقولُ اللهُ: ففى ذلك لهم عبرةٌ وبيانٌ، وعليهم حجةٌ لو كانوا يعلمون

(1)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، أو

(2)

عن سعيدِ ابنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال [ابنُ صُورِيَا]

(3)

الفِطْيَوْنى

(4)

لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، ما جئْتَنا بشيءٍ نعرِفُه، وما أنزَل اللهُ عليك مِن آيةٍ بينةٍ فنتَّبِعَك لها

(5)

. فأنزَل اللهُ [فى ذلك من قولِه]

(6)

: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}

(7)

.

(1)

فى الأصل: "يعقلون".

والأثر ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 192، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 94 إلى المصنف.

(2)

فى م، ت 2:"و".

(3)

فى سيرة ابن هشام 1/ 548: "أبو صلوبا"، وفى نسختين منها:"ابن صلوبا".

وقد ذكر ابن إسحاق -كما فى سيرة ابن هشام 1/ 514 - الأعداء من بنى النضير فقال: ومن بنى ثعلبة بن الفطيون؛ عبد الله بن صوريا الأعور، ولم يكن بالحجاز فى زمانه أحد أعلم بالتوراة منه، وابن صلوبا. . .

(4)

فى م، ت 2:"القطيونى". بالقاف. وضبط فى الأصل: "الفَطْيُونى". والمثبت موافق لما فى المعرب ص 293، والروض الأنف 4/ 397 حيث ذكره: الفِطْيَوْن، وضبطه فى الجمهرة 3/ 111: الفِطْيُون. وقال السهيلى: والفطيون كلمة عبرانية، وهى عبارة عن كل من ولى أمر اليهود وملَكهم.

(5)

فى م: "بها".

(6)

سقط من: م.

(7)

سيرة ابن هشام 1/ 548.

ص: 305

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابثٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ ابنُ جبيرٍ أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ قال: قال ابنُ صُورِيا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر مثلَه

(1)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا} : وما يجحَدُ بها. وقد دلَّلنا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا على أن معنى الكفرِ الجحودُ، بما أغنَى عن إعادتِه ههنا

(2)

، وكذلك بيَّنا معنى الفِسْقِ، وأنه الخروجُ من

(3)

الشئِ إلى غيرِه

(4)

.

فتأويلُ الآيةِ: ولقد أنزَلنا إليكَ -فيما أوحَينا إليك مِن الكتابِ- علاماتٍ واضحاتٍ، تُبيِّنُ لعلماءِ بنى إسرائيلَ وأحبارِهم، الجاحدين نبوَّتَك والمكذِّبين رسالتَك، أنك لى إليهم رسولٌ مُرْسَلٌ، ونبىٌّ مبعوثٌ، وما يجْحَدُ تلك الآياتِ الدالَّاتِ على صدقِك ونبوَّتِك، التى أنزَلتُها إليك فى كتابى، فيكذِّبَ بها منهم، إلا الخارجُ منهم مِن دينِه، التاركُ منهم فرائضى عليه فى الكتابِ الذى يَدينُ بتصديقِه، فأما المتمسكُ منهم بدينِه والمتَّبِعُ منهم حكمَ كتابِه، فإنه بالذى أنزَلتُ إليك مِن آياتى مصدِّقٌ، وهم الذين كانوا آمنوا باللهِ وصدَّقوا رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن يهودِ بنى إسرائيلَ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 183 (970) من طريق يونس بن بكير به.

(2)

ينظر ما تقدم فى 1/ 262.

(3)

فى م: "عن".

(4)

ينظر ما تقدم فى 1/ 434.

ص: 306

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}.

اختلَف أهلُ العربيةِ فى حكمِ الواوِ التى فى قولِه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصريين هى واوٌ تُجعَلُ مع حروفِ الاستفهامِ، وهى مثلُ الفاءِ فى قولِه:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87]. قال: وهما زائدتان فى هذا الوجهِ، وهى مثلُ الفاءِ التى فى قولِه: أفاللهِ

(1)

لتصنَعنَّ كذا وكذا. وكقولِك للرجلِ: أفلا تقومُ؟ قال

(2)

: وإن شئتَ جعلتَ الواوَ والفاءَ هاهنا حرفَ عطفٍ.

وقال بعضُ نحويِّى الكوفيِّينَ: هى حرفُ عطفٍ أدخِل عليها ألِفُ

(3)

الاستفهامِ.

والصوابُ عندى فى ذلك مِن القولِ أنها واوُ عطفٍ أدخِلت عليها ألفُ الاستفهامِ، كأنه قال جلّ ذكرُه: وإذ أخَذْنا ميثاقَكم ورفَعْنا فوقَكم الطورَ، خذوا ما آتيناكم بقوةٍ واسمَعوا، قالوا: سمِعنا وعصَينا و

(4)

كلما عاهَدوا عهدًا نبَذه فريقٌ منهم. ثم أدخَل ألفَ الاستفهامِ على "وكلما"، فقال: قالوا: سمِعْنا وعصَينا. أوَكلَّما عاهَدوا عهدًا نبَذه فريقٌ منهم.

وقد بيَّنا فيما مضَى أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ فى كتابِ اللهِ حرفٌ لا معنَى له

(5)

، فأغنَى ذلك عن إعادةِ البيانِ على فسادِ قولِ مَن زعَم أن الواوَ والفاءَ مِن قولِه:

(1)

فى م، ت 2:"فالله".

(2)

سقط من: م، ت 2.

(3)

فى م، ت 2:"حرف".

(4)

فى م، ت 2:"أو".

(5)

ينظر ما تقدم فى 1/ 466 وما بعدها.

ص: 307

{أَوَكُلَّمَا} . و {أَفَكُلَّمَا} . زائدتان لا معنَى لهما.

وأما العهدُ، فإنه الميثاقُ الذى أعطَته بنو إسرائيلَ ربَّهم لَيعمَلُنَّ بما

(1)

فى التوراةِ مرةً بعدَ أُخرى، ثم نقَض بعضُهم ذلك مرةً بعدَ أخرى، فوبَّخهم جلَّ ذكرُه بما كان منهم مِن ذلك، وعيَّر به أبناءَهم إذ سلَكوا منهاجَهم فى نقضِ

(2)

ما كان جلَّ ذكرُه أخَذ عليهم بالإيمانِ به مِن أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن العهدِ والميثاقِ، فكفَروا به

(3)

، وجحَدوا ما فى التوراةِ مِن نعتِه وصفتِه، فقال تعالى ذكرُه: أوَكلما عاهَد اليهودُ مِن بنى إسرائيلَ ربَّهم عهدًا، وأوثَقُوه ميثاقًا، نبَذه فريقٌ منهم فترَكه ونقَضه!

كما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ قال: قال مالكُ بنُ الضَّيْفِ

(4)

حينَ بُعِث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وذكَر لهم ما أُخِذ عليهم مِن الميثاقِ، وما عهِد اللهُ إليهم فيه: واللهِ ما عهِد اللهُ إلينا فى محمدٍ صلى الله عليه وسلم عَهدًا، وما أخَذ له علينا ميثاقًا. فأنزَل اللهُ جلَّ ثناؤه:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}

(5)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا محمدُ بن إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى

(6)

زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، أو عن

(1)

فى م، ت 2، ت 3:"بها".

(2)

فى م، ت 2، ت 3:"بعض".

(3)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(4)

فى م، ت 2، ت 3، ونسخة من سيرة ابن هشام:"الصيف"، وهما روايتان فيه.

(5)

سيرة ابن هشام 1/ 547، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 183 (973) من طريق يونس بن بكير به.

(6)

بعده فى م، ت 2، ت 3:"آل"، وانظر تهذيب الكمال 26/ 382.

ص: 308

سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.

وأما "النَّبْذُ" فإن أصلَه فى كلامِ العربِ الطَّرْحُ، ولذلك قيل للملقوطِ: المنبوذُ. لأنه مطروحٌ مرمىٌّ به، ومنه سمِّى النبيذُ نبيذًا، لأنه زبيبٌ أو تمرٌ يُطرَحُ فى وعاءٍ، ثم يعالَجُ [بما عُولج به]

(1)

، وأصلُه "مفعولٌ" صُرف إلى "فعيلٍ"، أعنى أن النبيذَ أصلُه منبوذٌ، ثم صُرِف إلى "فعيلٍ"، فقيل: نبيذٌ. كما قيل: كفٌّ خضيبٌ، ولحيةٌ دهينٌ. بمعنى مخضوبةٍ ومدهونةٍ. يقالُ منه: نبَذتُه أنبِذُه نَبذًا. كما قال أبو الأسودِ الدُّؤلىُّ

(2)

:

نظَرتَ إلى عُنوانِه فنبَذتَه

كنَبْذِكَ نعلًا أخلَقَتْ مِن نِعالِكا

فمعنى قولِه جلَّ ذكرُه: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} : طرَحه فريقٌ منهم، فترَكه ورفَضه ونقَضه.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يقولُ: نقَضه فريقٌ منهم

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ قولَه:{نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} . قال: لم يكنْ فى الأرضِ عهدٌ يعاهِدون عليه إلا نقَضُوه، ويعاهِدونَ اليومَ ويَنقُضون غدًا. قال: وفى قراءةِ عبدِ اللهِ: (نقَضه فريقٌ منهم)

(4)

.

(1)

فى م: "بالماء".

(2)

فى م: "الديلى"، وفى ت 2، ت 3:"الديلمى".

والبيت فى مجاز القرآن 1/ 48، واللسان (خ ل ق، ع ن ن).

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 184 (975) من طريق يزيد به.

(4)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 95 إلى المصنف، وقراءة ابن مسعود ذكرها ابن عطية فى المحرر الوجيز 1/ 336، وأبو حيان فى البحر المحيط 1/ 324.

ص: 309

والهاءُ التى في قولِه: {نَبَذَهُ} مِن ذكرِ "العهدِ"، فمعناه: أوَ كلما عاهَدوا عهدًا نبَذ ذلك العهدَ فريقٌ منهم!

و"الفريقُ" الجماعةُ، لا واحدَ له مِن لفظِه، بمنزلةِ الجيشِ والرهطِ الذي لا واحدَ له مِن لفظِه.

والهاءُ والميمُ اللتان في قولِه: {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} . مِن ذكرِ اليهودِ مِن بنى إسرائيلَ.

وأما قولُه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . فإنه يعنى جلَّ ثناؤه: بل أكثرُ هؤلاءِ الذين كلَّما عاهَدوا اللهَ عهدًا

(1)

ووَاثَقُوه موثقًا، نقَضه فريقٌ منهم لا يؤمنون.

ولذلك وجهان مِن التأويلِ: أحدُهما، أن يكونَ الكلامُ دلالةً على الزيادةِ والتكثيرِ في عددِ المكذِّبين الناقِضين عهدَ اللهِ على عددِ الفريقِ، فيكونَ الكلامُ حينَئذٍ معناه: أوَ كلما عاهَدِتِ اليهودُ مِن بنى إسرائيلَ ربَّها عهدًا نقَض فريقٌ منهم ذلك العهدَ؟ لا، ما ينقُضُ ذلك منهم فريقٌ، ولكن الذي ينقُضُ ذلك فيكفُرُ باللهِ أكثرُهم لا القليلُ منهم. فهذا أحدُ وجهَيْه.

والوجهُ الآخرُ، أن يكونَ معناه: أوَ كلما عاهَدتِ اليهودُ ربَّها عهدًا نبَذ ذلك العهدَ فريقٌ منهم؟ لا، ما ينبِذُ ذلك العهدَ فريقٌ منهم فينقُضُه، على الإيمانِ منهم بأن ذلك غيرُ جائزٍ لهم، ولكنَّ أكثرَهم لا يصدِّقون باللهِ ورسلِه، ولا بوعدِه ووعيدِه.

وقد دلَّلْنا فيما مضَى مِن كتابِنا هذا على معنى الإيمانِ وأنه التصديقُ

(2)

.

(1)

ليست في: الأصل.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 241.

ص: 310

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ} : [ولمَّا جاء]

(1)

أحبارَ اليهودِ وعلماءَها مِن بنى إسرائيل {رَسُولٌ} يعنى بالرسولِ محمدًا صلى الله عليه وسلم.

كما حدَّثنى موسى بنُ هارونَ قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} . قال: لمَّا جاءهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وأما قولُه: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} . فإنه يَعنى به أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يُصدِّقُ التوراةَ، والتوراةُ تصدِّقُه في أنه نبىٌّ للهِ مبعوثٌ إلى خلقِه.

وأما تأويلُ قولِه: {لِمَا مَعَهُمْ} فإنه: للذِى

(3)

هو مع اليهودِ، وهو التوراةُ. فأخبَر اللهُ جلَّ ثناؤه أن اليهودَ لمَّا جاءهم رسولٌ

(4)

مِن اللهِ بتصديقِ ما في أيديهم مِن التوراةِ، بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبىٌّ للهِ؛ {نَبَذَ فَرِيقٌ} . يعنى بذلك أنهم جحَدوه ورفَضوه بعدَ أن كانوا به مقرِّين؛ حسدًا منهم له وبغيًا عليه.

وقولُه: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . وهم علماءُ اليهودِ الذين أعطاهم اللهُ العلمَ بالتوراةِ وما فيها. ويعنى بقولِه: {كِتَابَ اللَّهِ} : التوراةَ. وبقولِه: نَبَذوه {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} : جعَلوه وراء ظهورِهم. وهذا مثَلٌ، يقالُ لكلِّ رافضٍ أمرًا

(1)

سقط من: م.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 184 (977) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

في الأصل: "الذي".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 311

كان منه على بالٍ: قد جعَل فلانٌ هذا الأمرَ منه بظَهْرٍ، وجعَله وراءَ ظهرِه. يعنى به: أعرَض عنه وصدَّ وانصرَف.

كما حدَّثنى موسى قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . قال: لمَّا جاءهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم عارَضوه بالتوراةِ فخاصَموه بها، فاتَّفَقتِ التوراةُ والقرآنُ، فنبَذوا التوراةَ وأخَذوا بكتابِ آصَفَ وسحْرِ هاروتَ وماروتَ، فذلك قولُ اللهِ:{كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

(1)

.

ومعنى قولِه: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : كأنَّ هؤلاء الذين نبَذوا كتابَ اللهِ مِن علماءِ اليهودِ -فنقَضوا عهدَ اللهِ بتركِهم العملَ بما واثَقوا اللهَ على أنفسِهم العملَ [به مما]

(2)

فيه- لايعلَمون ما في التوراةِ مِن الأمرِ باتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقِه. وهذا مِن الله جلَّ ثناؤه إخبارٌ عنهم أنهم جحَدوا الحقَّ على علمٍ منهم به ومعرفةٍ، وأنهم عانَدوا أمرَ اللهِ فخالَفوه على علمٍ منهم بوجوبِه عليهم.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ قال: ثنا يزيدُ قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . يقولُ: نقَضه فريقٌ مِن الذين أوتوا الكتابَ {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . أى: أن القومَ قد

(3)

كانوا يعلَمون، ولكنهم أفسَدوا علمَهم و [جحَدوه وكتَموه وكفَروا به]

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 184 (977، 979) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

في ت 2، ت 3، م:"بما".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م: "جحدوا وكفروا وكتموا".

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 185 (980) من طريق يزيد به إلى قوله: وراء ظهورهم، وأخرج بقيته (981)، من طريق شيبان النحوى، عن قتادة.

ص: 312

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} . الفريقَ مِن أحبارِ يهودَ وعلمائِها الذين وصَفهم جلَّ ثناؤه بأنهم نبَذوا كتابَه الذي أنزَله إلى

(1)

موسى وراءَ ظهورِهم، تجاهلًا منهم وكفرًا بما هم به عالِمون، كأنهم لا يعلَمون، فأخبَر عنهم أنهم رفَضوا كتابَه الذي يعلَمون أنه تنزِيلٌ

(2)

مِن عندِه على نبيِّه [موسى صلواتُ اللهِ عليه]

(3)

، ونقَضوا عهدَه الذي أخَذه عليهم في العملِ بما فيه، وآثَروا السحرَ الذي تلَتْه الشياطينُ في ملكِ سليمانَ بنِ داودَ صلى اللهُ عليه فاتَّبَعوه، وذلك هو الخَسارُ والضلالُ المبينُ.

واختلف أهلُ التأويلِ في الذين عُنوا بقولِه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ؛ فقال بعضُهم: عنَى اللهُ تبارك وتعالى بذلك اليهودَ الذين كانوا بينَ ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خاصَموا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالتوراةِ، فوجَدوا التوراةَ للقرآنِ موافقةً، تأمُرُ مِن اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقِه بمثلِ الذي يأمُرُ به القرآنُ، فخاصَموه بالكتبِ التى كان الناسُ اكتتَبوها مِن الكهنةِ على عهدِ سليمانَ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}

(4)

. قال: كانت الشياطينُ تصعَدُ إلى السماءِ

(1)

في م: "على".

(2)

في م، ت 2، ت 3:"منزل".

(3)

في م، ت 2، ت 3: صلى الله عليه وسلم.

(4)

بعده في الأصل: "على عهد سليمان".

ص: 313

فتقعُدُ منها مقاعدَ للسمعِ، فيستمِعون مِن كلامِ الملائكةِ فيما يكونُ في الأرضِ مِن موتٍ أو غيثٍ

(1)

أو أمرٍ، فيأتون الكهنةَ فيُخبِرونهم، فتحدِّثُ الكهنةُ الناسَ فيجِدونه كما قالوا، حتى إذا أمِنَتْهم الكهنةُ كذَبوا لهم، فأدخَلوا فيه غيرَه، فزادُوا مع كلِّ كلمةٍ سبعينَ كلمةً، فاكتتَب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتبِ، وفَشا في بنى إسرائيلَ أن الجنَّ تعلَمُ الغيبَ، فبعَث سليمانُ في الناسِ فجمَع تلك الكتبَ، فجعَلها في صندوقٍ، ثم دفَنها تحتَ كرسيِّه، ولم يكنْ أحدٌ مِن الشياطينِ يستطيعُ أن يدنُوَ مِن الكرسىِّ إلا احتَرق، وقال: لا أسمَعُ أحدًا يذكُرُ أن الشياطينَ تعلَمُ الغيبَ إلا ضرَبتُ عنقَه. فلما مات سليمانُ وذهَبتِ العلماءُ الذين كانوا يعرِفون أمرَ سليمانَ، وخلَف بعد ذلك خَلْفٌ، تمثَّل شيطانٌ

(2)

في صورةِ إنسانٍ، ثم أتَى نفرًا مِن بنى إسرائيلَ فقال لهم

(3)

: هل أدلُّكم على كنزٍ لا تأكُلونه

(4)

أبدًا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفِروا تحتَ الكرسىِّ، وذهَب معهم فأَراهم المكانَ، وقام ناحيةً، فقالوا له: فادْنُ. قال: لا، ولكنِّى هاهنا في أيديكم، فإن لم تجِدوه فاقتُلونى. فحفَروا فوجَدوا تلك الكتبَ، فلمَّا أخرَجوها قال الشيطانُ: إن سليمانَ إنما كان يضبُطُ الإنسَ والشياطينَ والطيرَ بهذا السحرِ. ثم طار فذهَب، وفَشا في الناسِ أن سليمانَ كان ساحرًا، واتَّخَذتْ بنو إسرائيلَ تلك الكتبَ، فلمَّا جاء محمدٌ خاصَموه بها، فذلك حينَ يقولُ اللهُ:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}

(5)

.

(1)

في تفسير ابن أبى حاتم وابن كثير: "غيب".

(2)

فى م: "الشيطان".

(3)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(4)

أكل فلان عمرَه: إذا أفناه. تهذيب اللغة 10/ 369. والمراد: لا يفنى.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 186 (987) من طريق عمرو بن حماد به إلى قوله: "إلا احترق"، وذكره ابن كثير بتمامه في تفسيره 1/ 194.

ص: 314

وحدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . قال

(1)

: إن اليهودَ سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا عن أمورٍ مِن التوراةِ، لا يسألونه عن شيءٍ مِن ذلك إلا أنزَل اللهُ عليه ما سألوا عنه فيخصِمُهم

(2)

، فلمَّا رأَوْا ذلك قالوا: هذا أعلمُ بما أُنزِل إلينا منَّا. وإنهم سألوه عن السحرِ وخاصَموه به، فأنزَل اللهُ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . وإن الشياطينَ عَمَدوا إلى كتابٍ فكتَبوا فيه السحرَ والكهانةَ وما شاء اللهُ مِن ذلك، فدفَنوه تحتَ مجلسِ سليمانَ -وكان سليمانُ لا يعلَمُ الغيبَ- فلما فارَق سليمانُ الدنيا استخرَجوا ذلك السحرَ، وخدَعوا به الناسَ وقالوا: هذا علمٌ كان سليمانُ يكتُمُه ويحسُدُ الناسَ عليه. فأخبرَهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بهذا الحديثِ، فرجَعوا مِن عندِه وقد خَزُوا

(3)

وأدحَض اللهُ حجتَهم

(4)

.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . قال: لمَّا جاءهم رسولُ اللهِ مُصَدِّقًا لِما معهم {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية. قال: اتَّبَعوا السحرَ، وهم أهلُ الكتابِ. فقرَأ حتى بلَغ:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} .

وقال آخرون: بل عنى اللهُ بذلك اليهودَ الذين كانوا على عهدِ سليمانَ.

(1)

فى م، ت 2، ت 3:"قالوا".

(2)

خصمه يخصمه خصمًا وخصومة: غلبه. تاج العروس (خ ص م).

(3)

فى م، ت 3:"حزنوا"، وفى ت 2:"خزيوا".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 194، 195 عن الربيع. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 95 إلى المصنف وابن أبى حاتم عن أبى العالية. وهو عند ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 186 (985).

ص: 315

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: تَلَتِ الشياطينُ السحْرَ على اليهودِ على ملكِ سليمانَ، فاتَّبَعتْه اليهودُ على ملكِه. يعنى: اتَّبَعت السحْرَ على ملكِ سليمانَ.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، قال: عمَدتِ الشياطينُ حين عَرَفت موتَ سليمانَ بنِ داودَ عليه السلام، فكتَبوا أصنافَ السحرِ: مَن كان يحبُّ أن يبلُغَ كذا وكذا، فليقُلْ

(1)

كذا وكذا. حتى إذا صنَّفوا

(2)

أصنافَ السحْرِ، جعَلوه في كتابٍ ثم ختَموا عليه بخاتَمٍ على نقشِ خاتَمِ سليمانَ، وكتَبوا في عُنوانِه: هذا ما كتَب آصَفُ بنُ بَرْخِيَا الصديقُ للملكِ سليمانَ بنِ داودَ مِن ذخائرِ كنوزِ العلمِ. ثم دفَنوه تحتَ كرسيِّه. فاستَخرَجتْه بعدَ ذلك بقايا بنى إسرائيلَ حين أحدَثوا ما أحدَثوا، فلما عثَرُوا عليه قالوا:[واللهِ]

(3)

ما كان سليمانُ بنُ داودَ إلا بهذا. فأفشَوُا السحرَ في الناسِ، وتعلَّموه وعلَّموه، فليس في أحدٍ أكثرُ منه في يهودَ، فلما ذكَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فيما نزَل عليه مِن اللهِ- سليمانَ بنَ داودَ، وعدَّه في مَن عدَّه مِن المرسلين، قال مَن كان بالمدينةِ مِن يهودَ: ألَا تَعجَبون لمحمدٍ، يزعُمُ أن ابنَ داودَ كان نبيًّا، واللهِ ما كان إلا ساحرًا. فأنزَل اللهُ في ذلك مِن قولِهم على محمدٍ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [الآية

(4)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] (3) عَلَى مُلْكِ

(1)

في م: "فليفعل".

(2)

في م، ت 2، ت 3:"صنعوا".

(3)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 195. وهو في سيرة ابن هشام 1/ 544 مختصرًا.

ص: 316

سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. قال: كان حينَ ذهَب مُلكُ سليمانَ، ارتدَّ فِئامٌ

(1)

مِن الجنِّ والإنس واتّبَعُوا الشهواتِ، فلما رجَع اللهُ إلى سليمانَ ملكَه، أقام

(2)

الناسُ على الدِّينِ كما كان

(3)

، وإن سليمانَ ظهَر على كتبِهم فدفَنها تحتَ كرسيِّه، وتوفِّى سليمانُ حِدْثانَ

(4)

ذلك، فظهَرت الجنُّ والإنسُ على الكتبِ بعدَ وفاةِ سليمانَ، وقالوا: هذا كتابٌ مِن اللهِ نزَل على سليمانَ أخفاه مِنَّا؛ فأخَذوا به فجعَلوه دينًا، فأنزَل اللهُ:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . واتّبَعُوا [الشهَواتِ التى كانت]

(5)

تَتْلو الشياطينُ، وهى المعازفُ واللعِبُ، وكلُّ شيءٍ يصُدُّ عن ذكرِ اللهِ

(6)

.

والصوابُ مِن القولِ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . أن ذلك من اللهِ جلَّ ذكرُه توبيخٌ لأحبارِ اليهودِ الذين أدرَكوا رسولَ اللهِ، فجحَدوا نبوَّتَه وهم يعلَمون أنه للهِ رسولٌ مرسَلٌ، وتأنيبٌ منه لهم في رفْضِهم. تنزيلَه، وهجْرِهم العملَ به، وهو في أيديهم يعلَمونه ويعرِفون أنه كتابُ اللهِ، واتباعِهم واتباعِ أوائلِهم وأسلافِهم ما تَلَتْه الشياطينُ في عهدِ سليمانَ. وقد بيَّنا وجهَ جوازِ إضافةِ أفعالِ أسلافِهم إليهم فيما مضَى، فأغنَى ذلك عن إعادتِه في هذا

(1)

الفئام: الجماعة الكثيرة: اللسان (ف أ م).

(2)

في م: "قام"، وفى تفسير ابن أبى حاتم وابن كثير:"وقام".

(3)

في م: "كانوا".

(4)

حدثان الأمر، بالكسر: أوله وابتداؤه كحداثته. التاج (ح د ث).

(5)

في م، ت 2، ت 3:"ما".

(6)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 185 (984) عن محمد بن سعد به.

ص: 317

الموضِعِ

(1)

.

وإنما اختَرنا هذا التأويلَ؛ لأن المتَّبِعَةَ ما تَلَتْه الشياطينُ في عهدِ سليمانَ وبعدَه، إلى أن بعَث اللهُ نبيَّه بالحقِّ، [من السحرةِ لم تَزَلْ]

(2)

في اليهودِ، ولا دلالةَ في الآيةِ أن اللهَ أراد بقولِه:{وَاتَّبَعُوا} . بعضًا منهم دونَ بعضٍ، إذ كان جائزًا فصيحًا في كلامِ العربِ إضافةُ ما وصَفنا مِن اتِّباعِ أسلافِ المُخبَرِ عنهم بقولِه:(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ). إلى أخلافِهم بعدَهم، ولم يكنْ بخصوصِ ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أثرٌ منقولٌ، ولا حجةٌ تدلُّ عليه، فكان الواجبُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: كلُّ مُتَّبِعٍ ما تَلَتْه الشياطينُ على عهدِ سليمانَ مِن اليهودِ داخلٌ في معنى الآيةِ. على النحوِ الذى قلنا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} .

ويعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {مَا تَتْلُو} : الذى تَتلو. فتأويلُ الكلامِ إذن: واتَّبَعوا الذى تَتلو الشياطينُ.

واختلَف [أهلُ التأويلِ]

(3)

في تأويلِ قولِه: {تَتْلُو} ، فقال بعضُهم: يعنى بقولِه: {تَتْلُو} : تُحدِّثُ وتَروِى وتتكلَّمُ به وتخبِرُ، نحوَ تلاوةِ الرجلِ القرآنَ، وهى قراءتُه. ووجَّه قائلو هذا القولِ تأويلَهم ذلك إلى أن الشياطينَ هى التى علَّمت الناسَ السحرَ ورَوَته لهم.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 642، 643.

(2)

في م: "وأمر السحر لم يزل".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 318

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . قال: كانت الشياطينُ تستَمِعُ الوحىَ، فما سمِعوا مِن كلِمةٍ زادوا فيها مائتين مثلَها، فأرسَل سليمانُ إلى ما كتَبوا مِن ذلك

(1)

، فلما توفِّى سليمانُ وجَدَتْه الشياطينُ فعلَّمَته الناسَ، وهو السحرُ

(2)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . قال

(3)

: مِن الكهانةِ والسحرِ. قال

(3)

: وذُكِر لنا، واللهُ أعلمُ، أن الشياطينَ ابتَدعتْ كتابًا فيه سحرٌ وأمرٌ عظيمٌ، ثم أفشَوْه في الناسِ وعلَّموهم إيَّاه

(4)

.

وحدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال لى عطاءٌ: قولُه: {مَا تَتْلُو} . قال: نُراه ما تُحدِّثُ

(5)

.

وحدَّثنى سَلْمُ

(6)

بنُ جُنادةَ السُّوائىُّ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: انطلَقت الشياطينُ في الأيامِ التى ابتُلى فيها سليمانُ، فكتبَتْ فيها كتبًا فيها سحرٌ وكفرٌ، ثم دفَنوها تحتَ كرسىِّ

(1)

بعده في م: "فجمعه".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 195.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 187 (992) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة نحوه بزيادة في أوله ستأتى فى ص 327، 328.

(5)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنف.

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"سالم".

ص: 319

سليمانَ، ثم أخرَجوها فقرَءوها على الناسِ

(1)

.

وقال آخرون: معنى قولِه: {مَا تَتْلُو} : ما [تتَّبِعُ وتأتمُّه]

(2)

وتعمَلُ به.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا [الحسينُ بنُ عمرِو بنِ محمدٍ العَنْقزىُّ]

(3)

، قال: حدَّثنا أبى، عن أسباطَ، عن السدىِّ، عن أبى مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ:{تَتْلُو} . قال: تتَّبِعُ

(4)

.

وحدَّثنى نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأودىُّ، قال: ثنا يحيى بنُ إبراهيمَ، عن سفيانَ الثورىِّ، عن منصورٍ، عن أبى رزينٍ مثلَه.

والصوابُ مِن القولِ فى ذلك أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذكرُه أخبَر عن الذين أخبَر عنهم أنهم اتَّبعوا ما تَتلوا الشياطينُ على عهدِ سليمانَ؛ باتباعِهم ما تَلَته الشياطينُ. ولقولِ القائلِ: هو يتلو كذا. في كلامِ العربِ معنيان: أحدُهما: الاتِّباعُ، كما يقالُ: تَلوتُ فلانًا. إذا مشَيْتَ خلفَه وتبِعتَ أَثرَه، كما قال جلَّ ثناؤه: (هُنالِك تَتْلُو

(5)

كلُّ نفسٍ ما أسلَفَتْ) [يونس: 30]. يعنى بذلك: تتَّبِعُ. والآخرُ: القراءةُ والدراسةُ، كما يقالُ: فلانٌ يَتلو القرآنَ. بمعنى أنه يقرَؤه ويدرُسُه، كما قال حسانُ بنُ ثابتٍ

(6)

:

نَبىٌّ يَرى ما لا يَرى الناسُ حولَه

ويَتْلو كتابَ اللهِ في كلِّ مَشهَدِ

(1)

سيأتى بتمامه في ص 323.

(2)

في م: "تتبعه وترويه".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسن بن عمرو العبقرى".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنف.

(5)

في م، ت 3:"تبلو". وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبى عمرو وابن عامر. والمثبت قراءة حمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص 325.

(6)

ديوانه ص 377.

ص: 320

ولم يخبرْنا اللهُ تعالى ذكرُه بأىِّ مَعْنَيَىِ

(1)

التلاوةِ كانت تلاوةُ الشياطينِ الذين تَلَوْا ما تَلَوْه مِن السحرِ على عهدِ سليمانَ، بخبرٍ يقطَعُ العذرَ، وقد يجوزُ أن تكونَ الشياطينُ تَلَت ذلك دراسةً وروايةً وعملًا به

(2)

، فتكونَ كانت له

(2)

متَّبِعةً

(3)

بالعملِ، ودِراسةً

(4)

بالروايةِ، فاتَّبعتِ اليهودُ منهاجَها في ذلك فعمِلتْ به ورَوَته.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} .

يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} : في ملكِ سليمانَ. وذلك أن العربَ تضَعُ "فى" موضعَ "على"، و "على"

(5)

موضعَ "فى". مِن ذلك قولُ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. يعنى به: على جذوعِ النخلِ، وكما يقالُ: فعلتُ كذا في عهدِ كذا، وعلى عهدِ كذا. بمعنًى واحدٍ.

وبما قلنا فى

(6)

ذلك كان ابنُ جريجٍ وابنُ إسحاقَ يقولان في تأويلِه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . يقولُ: في ملكِ سليمانَ

(7)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابنُ إسحاقَ في قولِه: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . أى: فى ملكِ سليمانَ

(8)

.

(1)

في م: "معنى".

(2)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(3)

فى م: "متبعته".

(4)

فى م: "دارسته".

(5)

بعده في م، ت 2، ت 3:"فى".

(6)

فى م، ت 2، ت 3:"من".

(7)

عزاه في الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنف.

(8)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 186 (988) من طريق سلمة به.

ص: 321

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} .

إن قال لنا قائلٌ: وما هذا الكلامُ مِن قولِه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . ولا خبرَ مضَى

(1)

قبلُ عن أحدٍ أنه أضاف الكفرَ إلى سليمانَ، بل إنما ذكَر اتباعَ مَن اتبعَ مِن اليهودِ ما تَلَته الشياطينُ، فما وجهُ نفىِ الكفرِ عن سليمانَ بعقبِ الخبرِ عن اتباعِ مَن اتبعَ

(2)

الشياطينَ في العملِ بالسحرِ وروايتِه مِن اليهودِ؟

قيل: وجهُ ذلك أن الذين أضاف اللهُ جلّ ثناؤُه إليهم اتباعَ ما تلَته الشياطينُ على عهدِ سليمانَ من السحرِ والكفرِ من اليهودِ، نسَبوا ما أضافه الله تعالى ذكرُه إلى الشياطينِ من ذلك إلى سليمانَ بنِ داودَ، وزعَموا أن ذلك كان مِن عملِه

(3)

وروايتِه، وأنه إنما كان يستعبِدُ من كان

(4)

يستَعبِدُ من الإنسِ والجنِّ والشياطينِ وسائرِ خلقِ اللهِ بالسحرِ

(5)

، فحسَّنوا بذلك -من ركوبِهم ما حرَّم اللهُ عليهم مِن السحرِ- لأنفسِهم عندَ من كان جاهلًا بأمرِ اللهِ ونهيِه، وعندَ من كان لا علمَ له بما أنزَل اللهُ فى ذلك مِن التوراةِ. وتبرَّأ -بإضافةِ ذلك إلى سليمانَ- من سليمانَ، وهو نبىُّ اللهِ صلى الله عليه، منهم بشرٌ، وأنكَروا أن يكونَ كان للهِ رسولًا، وقالوا: بل كان ساحرًا. فبرَّأ اللهُ جلَّ ثناؤُه سليمانَ بنَ داودَ من السحرِ والكفرِ عندَ من كان منهم يَنْسِبُه إلى السحرِ والكفرِ، لأسبابٍ ادَّعَوْها عليه قد ذكَرنا بعضَها قبلُ، وسنذكُرُ

(1)

فى م، ت 2، ت 3:"معنا".

(2)

في م: "اتبعت"، وفى ت 2، ت 3:"اتبعته".

(3)

فى م، ت 2:"علمه".

(4)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(5)

بعده في الأصل، ت 1:"دون الشياطين".

ص: 322

باقىَ ما حضَرَنا ذكرُه منها، وأكذَبَ الآخرين الذين كانوا يعمَلون بالسحرِ، مُتَزيِّنِين عندَ أهلِ الجهلِ في علمِهم

(1)

ذلك بأن سليمانَ كان يعمَلُه، فنفَى اللهُ عن سليمانَ عليه السلام أن يكونَ كان ساحرًا أو كافرًا، وأعلَمهم أنهم إنما اتَّبَعوا في عملِهم بالسحرِ ما تَلته الشياطينُ في عهدِ سليمانَ، دونَ ما كان سليمانُ يأمُرُهم به

(2)

مِن طاعةِ اللهِ، واتِّباعِ ما أمَرهم به في كتابِه الذى أنزَله على موسى صلى اللهُ عليه.

‌ذكرُ الدّلالةِ

(3)

على صحةِ ما قلنا من الأخبارِ والآثارِ

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدثنا يعقوبُ القُمِّىُّ، عن جعفرِ بنِ أبى المغيرةِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: كان سليمانُ يتَتبَّعُ ما في أيدى الشياطينِ من السحرِ، فيأخُذُه فيدفِنُه تحتَ كرسيِّه في بيتِ خَزائنِه

(4)

، فلم تقدِرِ الشياطينُ أن يصِلوا إليه، فدنَت

(5)

إلى الإنسِ فقالوا لهم: أتريدون العلمَ الذى كان سليمانُ يسخِّرُ به الشياطينَ والرياحَ وغيرَ ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه فى بيتِ خَزائنِه (4) وتحتَ كرسيِّه. فاستَثارته الإنسُ فاستَخرَجوه فعمِلوا به، فقال أهلُ الحِجا

(6)

: كان سليمانُ يعمَلُ بهذا، وهذا سحرٌ. فأنزَل اللهُ على لسانِ نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم براءةَ سليمانَ فقال:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية. [فأبرَأ اللهُ]

(7)

سليمانَ على لسانِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم

(8)

.

(1)

في م: "عملهم".

(2)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(3)

في م، ت 2، ت 3:"الدلائل".

(4)

في م، ت 2، ت 3 وتفسير ابن كثير:"خزانته".

(5)

في تفسير ابن كثير: "فدبت".

(6)

في م، ت 2، ت 3:"الحجاز"، والحجا: العقل والفطنة والمقدار. القاموس المحيط (ح ج ى).

(7)

في م، ت 2، ت 3، وتفسير ابن كثير:"فأنزل الله براءة".

(8)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 195.

ص: 323

حدَّثنى أبو السائبِ السُّوائىُّ، قال: حدّثناه أبو معاويةَ، قال: حدَّثنا الأعمشُ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان الذى أصاب سليمانَ بنَ داودَ فى سببِ أناسٍ من أهلِ امرأةٍ يقال لها: جَرادَةُ. وكانت مِن أكرمِ نسائِه عليه، قال: فكان هَوَى سليمانَ أن يكونَ الحقُّ لأهلِ الجَرادَةِ فيَقْضِىَ لهم، فعوقِب حينَ لم يكنْ هواه فيهم واحدًا. قال: وكان سليمانُ إذا أراد أن يدخُلَ الخلاءَ، أو يأتىَ شيئًا مِن نسائِه، أعطَى الجَرادَةَ خاتَمَه، فلما أراد اللهُ أن يَبْتَلِىَ سليمانَ بالذى ابتَلاه به، أعطَى الجَرادَةَ ذاتَ يومٍ خاتَمَه، فجاء الشيطانُ فى صورةِ سليمانَ فقال لها: هاتى خاتمى. فأخَذه فلبِسه، فلما أُلبسه دانتْ له الشياطينُ والجنُّ والإنسُ. قال: فجاء سليمانُ فقال: هاتى خاتمى. فقالت: كذَبتَ لسْتَ سليمانَ. قال: فعرَف سليمانُ أنه بلاءٌ ابتُلِى به. قال: فانطلَقت الشياطينُ فى تلك الأيامِ فكتَبتْ كُتُبًا فيها سحرٌ وكفرٌ، ثم دفَنوها تحتَ كرسىِّ سليمانَ، ثم أخرَجوها فقرءوها على الناسِ، وقالوا: إنما كان سليمانُ يغلِبُ الناسَ بهذه الكتبِ. قال: فبرِئ الناسُ مِن سليمانَ وأكفَروه حتى بعَث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللهُ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . يعنى: الذى كتَب الشياطينُ مِن السحرِ والكفرِ، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . فأنزَل اللهُ عذرَه

(1)

.

وحدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصنعانىُّ، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ عمرانَ بنَ حُدَيرٍ

(2)

، عن أبى مِجْلَزٍ، قال: أخَذ سليمانُ من كلِّ دابةٍ عهدًا،

(1)

أخرجه النسائى فى الكبرى (10993)، وفى تفسيره (13) من طريق أبى معاوية به بأطول مما هنا. وابن عساكر فى تاريخه 22/ 248 من طريق جعفر بن عون، عن الأعمش به مختصرًا. وذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 193 عن المصنف. وإسناده ضعيف لعنعنة الأعمش، والمتن فيه نكارة واضحة.

(2)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"جبير".

ص: 324

فإذا أصِيب رَجلٌ فسُئل

(1)

بذلك العهدِ، خُلِّى

(2)

عنه، فزاد

(3)

الناسُ السَّجعَ والسحرَ وقالوا: هذا كان يعمَلُ به سليمانُ. فقال اللهُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}

(4)

.

وحدَّثنا ابنُ

(5)

حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن حُصينِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن عمرانَ، [وهو عمرانُ]

(6)

بنُ الحارثِ، قال: بينا نحن عندَ ابنِ عباسٍ، إذ جاءه رجلٌ فقال له ابنُ عباسٍ: مِن أين جئتَ؟ قال: مِن العراقِ. قال: مِن أيِّه؟ قال: مِن الكوفةِ. قال: فما الخبرُ؟ قال: ترَكتُهم يتحدَّثون أن عليًّا خارجٌ إليهم. ففزِع [ثم قال]

(7)

: ما تقولُ لا أبا لك! لو شعَرنا ما نكَحنا نساءَه، ولا قسَّمنا ميراثَه، أمَا [إنى سأُحدِّثُكم عن]

(8)

ذلك، إنَّه كانت الشياطينُ يَستَرِقون السمع مِن السماءِ، فيجِئُ

(9)

أحدُهم بكلمةِ حقٍّ قد سمِعها، فإذا جُرِّبَ

(10)

منه صِدْقٌ، كذَب معها سبعين كِذْبةً. قال: فيُشرِبُها قلوبَ الناسِ، فأطلَع اللهُ عليها سليمانَ فدفَنها تحتَ كرسيِّه، فلمّا توفِّى سليمانُ قام شيطانٌ بالطريقِ فقال: ألَا أدلُّكم على كَنزِه المُمَنَّعِ الذى لا كنزَ له

(11)

مثلُه؟

(1)

فى تفسير ابن كثير، والدر المنثور:"فسأل". وقوله: "فسئل". لعله يريد: فسئل له.

(2)

فى الأصل: "خلت".

(3)

فى م، ت 1، ت 3، والدر المنثور "فرأى"، وفى ت 2:"فرأوا".

(4)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 196 عن المصنف. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنف وابن المنذر.

(5)

فى م: "أبو".

(6)

سقط من: م.

(7)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فقال".

(8)

فى م: "أحدثكم من".

(9)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيأتى".

(10)

فى م، ت 1، ت 2:"حدث".

(11)

سقط من: م.

ص: 325

تحتَ الكرسىِّ. فأخرَجوه فقالوا: هذا سحرٌ. فتَناسَخها الأممُ -حتى بَقاياها

(1)

ما يتحدَّثُ به أهلُ العراقِ- فأنزَل اللهُ عذرَ سليمانَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}

(2)

.

وحدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكِر لنا، واللهُ أعلمُ، أن الشياطينَ ابتَدعَت كتابًا فيه سحرٌ وأمرٌ عظيمٌ، ثم أفشَوْه فى الناسِ وعلَّموهم

(3)

إياه، فلما سمِع بذلك سليمانُ نبىُّ اللهِ، تتَبَّع

(4)

تلك الكتبَ، فأتَى بها فدفَنها تحتَ كرسيِّه، كراهيةَ أن يَتَعَلَّمَها الناسُ، فلمَّا قبَض اللهُ نبيَّه سليمانَ، عمَدت الشياطينُ فاستَخرَجوها مِن مكانِها التى كانت فيه فعلَّموها الناسَ، فأخبَروهم أن هذا علمٌ كان يكتُمُه سليمانُ ويستأثِرُ به، فَعَذَرَ اللهُ

(5)

سليمانَ وبرَّأه مِن ذلك، فقال:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}

(6)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: كتَبت الشياطينُ كتُبًا فيها سحرٌ وشركٌ، ثم دفَنتْ تلك الكتبَ تحتَ كرسىِّ سليمانَ، فلما مات استَخرجَ الناسُ تلك الكتبَ فقالوا: هذا علمٌ كتَمَناه سليمانُ. فقال اللهُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}

(7)

.

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بقاياهم".

(2)

أخرجه الحاكم 2/ 265 وابن عساكر فى تاريخه 22/ 255 من طريق جرير به. وأخرجه سعيد بن منصور فى سننه (207 - تفسير)، وابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 187 (989) من طرق عن حصين به، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 95 إلى سفيان بن عيينة وابن المنذر.

(3)

فى م ت 1، ت 2، ت 3:"أعملوهم".

(4)

فى م، ت 1، ت 3:"فتتبع".

(5)

بعده فى م ت 1، ت 2، ت 3:"نبيه".

(6)

تقدم طرف منه فى ص 319، وسيأتى تخريجه فى ص 329.

(7)

تفسير عبد الرزاق 1/ 53، وأخرجه ابن عساكر فى تاريخه 22/ 254 من طريق معمر به.

ص: 326

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا [الحسينُ، قال: حدَّثنى]

(1)

حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية

(2)

. قال: كانت الشياطينُ تستَمِعُ الوحىَ من السماءِ، فما سمِعوا مِن كلِمةٍ زادوا فيها مثلَها، وإن سليمانَ أخَذ ما كتَبوا مِن ذلك فدفَنه تحت كرسيِّه، فلما توفِّى وجَدَته الشياطينُ فعلَّمَته الناسَ

(2)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن أبى بكرٍ، عن شهرِ بنِ حَوْشبٍ، قال: لمَّا سُلِب سليمانُ مُلكَه، كانتِ الشياطينُ تكتُبُ السحرَ فى غَيْبةِ سليمانَ، فكتَبَت: مَن أراد أن يأتىَ كذا وكذا، فليستَقبِلِ الشمسَ ولْيقلْ كذا وكذا، ومن أراد أن يفعَلَ كذا وكذا، فليستَدبِرِ الشمسَ ولْيقلْ كذا وكذا. فكتَبَتْه وجعلَتْ عُنوانَه: هذا ما كتَب آصَفُ بنُ بَرْخِيَا للملكِ سليمانَ بنِ داودَ مِن ذخائرِ كنوزِ العلمِ. ثم دفَنَته تحتَ كرسيِّه، فلما مات سليمانُ قام إبليسُ خطيبًا فقال: يا أيُّها الناسُ، إن سليمانَ لم يكنْ نبيًّا، إنما كان ساحرًا، فالتَمِسوا سحرَه فى متاعِه وبيوتِه. ثم دلَّهم على المكانِ الذى دُفِن فيه، فقالوا: واللهِ لقد كان سليمانُ ساحرًا، هذا سحرُه، بهذا تعبَّدَنا، وبهذا قهَرَنا. فقال المؤمنون: بل كان نبيًّا مؤمنًا. فلما بعَث اللهُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، جعَل يذكُرُ الأنبياءَ حتى ذكَر داودَ وسليمانَ، فقالتِ اليهودُ: انظُروا إلى محمدٍ، يخلِطُ الحقَّ بالباطلِ، يذكُرُ سليمانَ مع الأنبياءِ، وإنما كان ساحرًا يركَبُ الريحَ. فأنزَل اللهُ عذرَ سليمانَ، فقال

(3)

: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} الآية

(4)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

تقدم تخريجه من طريق عمرو بن دينار عن مجاهد فى ص 319.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 195 عن المصنف، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 95 إلى المصنف.

ص: 327

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدثنا سلمةُ، قال: حدَّثنا ابنُ إسحاقَ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : وذلك أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فيما بلَغنى- لمَّا ذكَر سليمانَ بنَ داودَ فى المرسَلين، قال بعضُ أحبارِ يهودَ: ألَا تعجَبون مِن محمدٍ، يزعُمُ أن ابنَ داودَ كان نبيًّا، واللهِ ما كان إلا ساحرًا. فأنزَل اللهُ فى ذلك مِن قولِهم:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . أى: باتباعِهم السحرَ، [وعملِهم]

(1)

به، {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}

(2)

.

فإذ

(3)

كان الأمرُ فى ذلك ما وصَفنا، وتأويلُ قولِه:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . ما ذكَرنا، فبيِّنٌ

(4)

أن فى الكلامِ متروكًا، ترِك ذكرُه اكتفاءً بما ذكِر منه، وأن معنى الكلامِ: واتَّبَعوا ما تَتْلو الشياطينُ مِن السحرِ على مُلْكِ سليمانَ، فتُضِيفُه إلى سليمانَ، وما كفَر سليمانُ فيعمَلَ بالسحرِ، ولكنَّ الشياطينَ كفَروا يعلِّمون الناسَ السحرَ.

وقد كان قتادةُ يتأوَّلُ قولَه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . على [نحوِ ما ذكرْنا]

(5)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن

(1)

فى ت 2، ت 3:"وعلمهم".

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 544.

(3)

فى م: "فإذا".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فتبين".

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما قلنا".

ص: 328

قتادةَ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . يقولُ: ما كان عن مشورتِه، ولا عن رضًا منه، ولكنه شيءٌ افتَعَلَته الشياطينُ دونَه

(1)

.

وقد دلَّلنا فيما مضَى قبلُ على اختلافِ المختلِفين فى معنى: {تَتْلُو} . وتوجيهِ مَن وجَّه ذلك إلى أنه

(2)

بمعنى "تلَت"، إذ كان الذى قبلَه خبرًا ماضيًا، وهو قولُه:{تَتْلُو} . وتوجيهِ الذين وجَّهوا ذلك إلى خلافِ ذلك، وبيَّنا فيه وفى نظيرِه الصوابَ مِن القولِ، فأغنَى ذلك عن إعادتِه فى هذا الموضِعِ

(3)

.

وأمَّا معنى قولِه: {مَا تَتْلُو} . فإنه: بمعنى: الذى تتلو، وهو السحرُ.

كما

(4)

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . أى: السحرَ.

ولعلَّ قائلًا أن يقولَ: أوَ ما كان السحرُ إلا أيامَ سليمانَ؟

قيل له: بل

(5)

قد كان ذلك قبلَ ذلك، وقد أخبرَ اللهُ عن سَحَرةِ فرعونَ بما

(6)

أخبرَ عنهم، وقد كانوا قبلَ سليمانَ، وأخبرَ عن قومِ نوحٍ أنهم قالوا لنوحٍ إنه ساحرٌ.

فإن

(7)

قال: فكيف أخبرَ عن اليهودِ أنهم اتبَعوا ما تَلَته الشياطينُ فى

(8)

عهدِ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 187 (990) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة.

(2)

فى م: "أن تتلو".

(3)

ينظر ما تقدم فى ص 256.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بلي".

(6)

فى م: "ما".

(7)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(8)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"على".

ص: 329

سليمانَ، [دون الخبرِ عنهم أنهم اتَّبَعوا ما تَلَته الشياطينُ من ذلك أيامَ نوحٍ وأيامَ موسى؟

قيل: إنما أخبَر اللهُ بذلك، تعالى ذكرُه، عن اتِّباعِهم ما تَلَتْهُ الشياطينُ على عهدِ سليمانَ]

(1)

؛ لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمانَ -على ما قد قدَّمنا البيانَ عنه- فأراد اللهُ تعالى ذكرُه تَبرئةَ سليمانَ مما نَحَلُوه وأضافوا إليه مما كانوا وجَدوه، إما فى خزائنِه

(2)

وإما تحتَ كرسيِّه، على ما جاءت به الآثارُ التى قد ذكَرناها من ذلك، فخصّ

(3)

الخبرَ عما كانت اليهودُ اتبَعتْه مما

(4)

تَلَته الشياطينُ أيَّامئذٍ

(5)

دونَ غيرِه لذلك من

(6)

السببِ، وإن كانت الشياطينُ قد كانت تاليةَ السحرِ والكفرِ قبلَ ذلك.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} .

قال أبو جعفرٍ: اختَلف أهلُ التأويلِ

(7)

فى تأويلِ "ما" التى فى قولِه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} ؛ فقال بعضُهم: معناها

(8)

الجحدُ، وهى بمعنى "لَمْ".

(1)

فى م: "قيل".

(2)

فى الأصل: "خزانته".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فحصر".

(4)

فى م: "فيما".

(5)

فى م: "أيام سليمان".

(6)

سقط من: م، ت 1.

(7)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"العلم".

(8)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"معناه".

ص: 330

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قولَه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . فإنه يقولُ: لَمْ يُنزِلِ اللهُ السِّحرَ

(1)

.

وحَدَّثَنَا ابنُ حميدٍ، قال: حَدَّثَنَا حكَّامٌ، عن أبى جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . قال: ما أنزَل اللهُ عليهما السحرَ

(2)

.

فتأويلُ الآيةِ على هذا المعنى الذى ذكَرناه عن ابنِ عباسٍ والربيعِ -مِن توجيهِهما معنى قولِه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . أى

(3)

: ولم ينزِلْ على الملَكين: واتَّبَعوا الذى تَتلو الشياطينُ على مُلكِ سليمانَ مِن السحرِ، وما كفَر سليمانُ، ولا أنزَل اللهُ السحرَ على المَلَكَينِ، ولكنَّ الشياطينَ كفَروا، يعلِّمون الناسَ السحرَ ببابلَ هاروتَ وماروتَ. فيكونُ حينئذٍ قولُه:{بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . مِن المؤخَّرِ الذى معناه التقديمُ.

فإن قال لنا قائلٌ: وكيف وجهُ تقديمِ ذلك؟

قيل: وجهُ تقديمِه أن يقالَ: واتبَعوا ما تَتلو الشياطينُ على ملكِ سليمانَ، [وما كفَر سليمانُ]

(4)

، وما أنزِل على المَلَكَين، ولكنَّ الشياطينَ كفَروا، يعلِّمون الناسَ السحرَ ببابلَ هاروتَ وماروتَ. فيكونُ معنيًّا بـ {الْمَلَكَيْنِ} جبريلُ وميكائيلُ؛

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 188 (997) عن محمد بن سعد به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 188 عقب الأثر (998) من طريق أبي جعفر به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلى".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 331

لأَنَّ سحَرةَ اليهودِ، فيما ذكِر، كانت تزعُمُ أن اللهَ أنزَل السحرَ على لسانِ جبريلَ وميكائيلَ إلى سليمانَ بنِ داودَ، فأكذَبها اللهُ بذلك، وأخبرَ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريلَ وميكائيلَ لَمْ ينزِلا بسحرٍ قطُّ، وبرَّأ سليمانَ مما نحَلوه من السحرِ، وأخبرَهم أن السحرَ مِن عملِ الشياطينِ، وأنها تعلِّمُ الناسَ ذلك

(1)

ببابلَ، وأن الذين يعلِّمونهم ذلك رجُلان؛ اسمُ أحدِهما هاروتُ، واسمُ الآخرِ ماروتُ، فيكونُ هاروتُ وماروتُ على هذا التأويلِ ترجمةً عن

(2)

الناسِ وردًّا عليهم.

وقال آخرون

(3)

: تأويلُ "ما" التى في قولِه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} : الذى.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: قال معمرٌ: قال قتادةُ والزهرىُّ، عن عُبيدِ

(4)

اللهِ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . كانا ملَكَينِ مِن الملائكةِ، فأُهبِطا ليحكُما بينَ الناسِ؛ وذلك أن الملائكةَ سخِروا مِن حكّامِ

(5)

بنى آدمَ. قال: فحاكَمتْ إليهما

(6)

امرأةٌ، فَحافَا

(7)

لها، ثم ذهَبا يصعَدان فحِيل بينَهما وبينَ ذلك، وخُيِّرا بينَ عذابِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، فاخْتارا عذابَ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م، ت 2، ت 3:"على".

(3)

بعده في م: "بل".

(4)

في م: "عبد"، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 202، والدر المنثور 1/ 99.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، وتفسير عبد الرزاق:"أحكام".

(6)

في ت 1، ت 2، ت 3:"إليهم".

(7)

في تفسير عبد الرزاق: "فحابيا". والمثبت موافق لما في الدر. وقوله: "فحافا". ضبط في الأصل بتشديد الفاء، وضبطناه بالتخفيف على أصل الفعل، ومعناه: جارا وظلما ومالا عن القصد في الحكم. وانظر التاج (ح ى ف).

ص: 332

الدنيا. قال معمرٌ: وقال قتادةُ: فكانا يعلِّمان الناسَ السحرَ، فأخِذ عليهما ألا يعلِّما

(1)

أحدًا حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}

(2)

.

وحَدَّثَنِي موسي، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: أما قولُه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . فهذا سحرٌ آخرُ خاصَموه به أيضًا. يقولُ: خاصَموه بما أنزِل على المَلَكَين، وأن كلامَ الملائكةِ فيما بينَهم، إذا علِمتْه الإنسُ فصُنِع وعمِل به كان سحرًا

(3)

.

وحَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} : فالسحرُ سِحران: سحرٌ تعلِّمُه الشياطينُ، وسحرٌ يعلِّمُه هاروتُ وماروتُ

(4)

.

وحَدَّثَنِي المثني، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . قال: التفريقُ بينَ المرءِ وزوجِه

(5)

.

وحَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . فقرَأ حتى بلَغ: {فَلَا تَكْفُرْ} . قال: الشياطينُ والمَلَكان يعلِّمون الناسَ

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"يعلمان".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 53، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 99 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنّف.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنّف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 188 (996) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 96 إلى ابن المنذر.

ص: 333

السحرَ.

فمعنى الآيةِ على تأويلِ هذا القولِ الذى ذكَرناه عمَّن ذكَرنا عنه: واتبَعتِ اليهودُ الذى تَلتِ الشياطينُ في مُلكِ سليمانَ والذى أنزِل على الملكَين ببابلَ هاروتَ وماروتَ.

[وقال قائلو هذه المقالةِ: إن اللهَ أنزَل السحرَ على هاروتَ وماروتَ ببابلَ]

(1)

. وهما ملَكان مِن ملائكةِ اللهِ، سنذكُرُ ما روِى مِن الأخبارِ في شأنِهما بعدُ

(2)

إن شاء اللهُ.

وقالوا: إن قال لنا قائلٌ: وهل يجوزُ أن يُنزِلَ اللهُ السحرَ، أم هل يجوزُ لملائكتِه أن تعلِّمَه الناسَ؟

قلنا له: إنَّ اللهَ تبارك وتعالى قد أنزَل الخيرَ والشرَّ كلَّه، وبيَّن جميعَ ذلك لعبادِه، فأوحاه إلى رسلِه، وأمَرهم بتعليمِ خلقِه وتعريفِهم ما يحِلُّ لهم مما يحرُمُ عليهم، وذلك كالزِّنَا والسَّرَقِ

(3)

وسائرِ المعاصى التى عرَّفَهُموها

(4)

ونهَاهم عن ركوبِها، فالسحرُ أحدُ تلك المعانى

(5)

التى أخبرَهم بها ونَهاهم عن العملِ بها.

وقالوا: ليس في العلمِ بالسحرِ إثمٌ، كما لا إثمَ في العلمِ بصنعةِ الخمرِ ونحتِ الأصنامِ والطَّنابيرِ

(6)

والملاعبِ، وإنما الإثمُ في عملِه وتسويتِه.

(1)

سقط من: م.

(2)

سقط من: م.

(3)

في م: "السرقة". وهما بمعنى.

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3:"عرفتمهوها".

(5)

في م: "المعاصى".

(6)

الطنابير، جمع الطُّنْبُور والطِّنْبار: من آلات الطرب، ذو عنق طويل وستة أوتار، معرب تَنْبور. الألفاظ الفارسية المعربة ص 113.

ص: 334

قالوا: وكذلك لا إثمَ في العلمِ بالسحرِ، وإنما الإثمُ في العملِ به، وأن يَضُرَّ به مَن لا يَحِلُّ ضَرُّه به.

قالوا: فليس في إنزالِ اللهِ إياه على الملَكَين، ولا في تعليمِ الملَكَين مَن علَّماه مِن الناسِ إثمٌ؛ إذ

(1)

كان تعليمُهما مَن علَّما ذلك بإذنِ اللهِ لهما بتعليمِه، بعدَ أن يُخبِراه أنَّهما فتنةٌ، وينهياه عن السحرِ والعملِ به والكفرِ، وإنما الإثمُ على مَن يتعلَّمُه منهما ويعمَلُ به؛ إذ كان اللهُ تعالى ذكرُه قد نَهى

(2)

عن تعلُّمِه والعملِ به.

قالوا: ولو كان اللهُ أباح لبنى آدمَ أن يتعلَّموا ذلك، لَمْ يكنْ مَن تعلَّمَه

(3)

حَرِجًا، كما لَمْ يكونا حَرِجَين

(4)

لعلمِهما به؛ إذ كان علمُهما بذلك عن تنزيلِ اللهِ إليهما.

وقال آخرون: معنى "مَا"، معنى "الذى"، وهى عطفٌ على "مَا"، الأُولي، غيرَ أن الأُولى في معنى السحرِ، ومعنى

(5)

الآخِرةِ في معنى التفريقِ بينَ المرءِ وزوجِه.

فتأويلُ الآيةِ على هذا القولِ: واتَّبَعوا السحرَ الذى تَتلو الشياطينُ في مُلكِ سليمانَ، والتفريقَ

(6)

بينَ المرءِ وزوجِه الذى أُنزِل على المَلَكَين ببابلَ هاروتَ وماروتَ.

(1)

في م: "إذا".

(2)

في م: "نهاه".

(3)

بعده في الأصل: "منهما".

(4)

الحِرْج والحَرَج: الإثم، والحارج: الآثم. قال ابن سيده: أراه على النسب؛ لأنه لا فعل له. اللسان (ح ر ج). وقال الشيخ شاكر عن استعمال الحرِج بمعنى الآثم: وأهل اللغة ينكرون ذلك، لا يقال للآثم إلَّا "الحارج".

(5)

سقط من: م.

(6)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذى".

ص: 335

ذكر من قال ذلك

حَدَّثَنِي المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} : وهما يعلِّمان ما يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه، وذلك قولُ اللهِ - [وقالوا: كفَر سليمانُ]

(1)

-: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . فكان يقولُ: أمَّا السحرُ فإنما تُعلِّمُه الشياطينُ، وأما الذى يعلِّمه الملَكان فالتفريقُ بينَ المرءِ وزوجِه، كما قال اللهُ تعالى

(2)

.

وقال آخرون: جائزٌ أن تكونَ "مَا" بمعنى "الذى"، وجائزٌ أن تكونَ بمعنى "لَمْ".

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنِي يونسُ بنُ عبدِ الأعلي، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حَدَّثَنِي الليثُ بنُ سَعْدٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن القاسمِ بنِ محمدٍ، وسأله رجلٌ عن قولِ اللهِ:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . فقال الرجلُ: يعلِّمان الناسَ ما أنزِل عليهما، أم يعلِّمان الناسَ ما لَمْ يَنزِلْ عليهما؟ قال القاسمُ: ما أبالى أيَّتهما كانت

(3)

.

وحَدَّثَنِي يونسُ، قال: حَدَّثَنِي أنسُ

(4)

بنُ عياضٍ، عن بعضِ أصحابِه، أن

(1)

سقط من: م.

(2)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 96 إلى المصنّف.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 198 عن المصنّف. وينظر طبقات ابن سعد 5/ 187.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر". وينظر تهذيب الكمال 3/ 349.

ص: 336

القاسمَ بنَ محمدٍ سُئل عن قولِ اللهِ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . فقيل له: أُنزِل أو لَمْ يُنزَلْ؟ فقال: لا أبالى أىَّ ذلك كان، إلَّا أنى آمنتُ به

(1)

.

والصوابُ من القولِ في ذلك عندنا قولُ من وجَّه "ما" التى في قولِه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . إلى

(2)

معنى "الذى" دونَ معنى "ما" التى هى بمعنى الجحدِ. وإنما اختَرتُ ذلك من أجلِ أن "مَا" إن وجِّهت إلى معنى الجَحدِ فنَفَى

(3)

عن الملَكَين أن يكونا مُنْزلًا إليهما، لَمْ

(4)

يَخلُ الاسمان اللذان بعدَهما -أعنى هاروتَ وماروتَ - مِن أن يكونا بدلًا منهما وترجمةً عنهما، أو بدلًا من "الناسِ" في قولِه:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . وترجمةً عنهم

(5)

. فإن جُعِلا بدلًا من "المَلَكَين" وترجمةً عنهما، بطَل معنى قولِه:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} . لأنهما إذا لَمْ يكونا عالِمَين بما يُفرَّقُ به بينَ المرءِ وزوجِه، فما الذى يُتعلَّمُ منهما مما

(6)

يفرِّقُ بينَ المرءِ وزوجِه؟

وبعدُ، فإن "مَا" التى في قولِه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . إن كانت بمعنى

(7)

الجَحْدِ عطفًا على قولِه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . فإن اللهَ جلّ ثناؤُه نفَى بقولِه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . عن سليمانَ أن يكونَ السحرُ من عملِه أو من علمِه أو تعليمِه، فإن كان الذى نفَى عن الملَكَين من ذلك نظيرَ الذى نفَى عن سليمانَ

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 198 عن المصنّف. وينظر طبقات ابن سعد 5/ 187.

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"التى".

(3)

في م، ت 1، ت 3:"فتنفى".

(4)

في م: "ولم".

(5)

في م: "عنهما".

(6)

في م: "ما".

(7)

في م، "في معنى".

ص: 337

منه -وهاروتُ وماروتُ هما الملَكان- فمَن المتعلَّمُ منه إذن ما يفرَّقُ به بينَ المرءِ وزوجِه؟ وعمَّن الخبرُ الذي أخبرَ عنه بقولِه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ؟ إنَّ خطأَ هذا القولِ لواضحٌ بيِّنٌ.

وإن كان قولُه: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . ترجمةً عن "الناسِ" الذين في قولِه: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . فقد وجَب أن تكونَ الشياطينُ هى التى تعلِّمُ هاروتَ وماروتَ السحرَ، وأن

(1)

تكونَ السحرةُ إنما تعلَّمت السحرَ من هاروتَ وماروتَ عن تعليمِ الشياطينِ إياهما. فإن يكنْ ذلك كذلك، فلنْ يخلوَ هاروتُ وماروتُ عندَ قائلى

(2)

هذه المقالةِ من أحدِ أمرين؛ إما أن يكونا ملَكَين، فإن كانا عندَهم

(3)

ملَكَين، فقد أوجَبوا

(4)

لهما مِن الكفرِ باللهِ والمعصيةِ له - بنسبتِهم

(5)

إياهما إلى أنهما يتعلَّمان مِن الشياطينِ السحرَ [والكفرَ]

(6)

ويعلِّمانه الناسَ، وإصرارِهما على ذلك ومُقامِهما عليه- أعظمَ مما ذكِر عنهما أنهما أتَياه مِن المعصيةِ التى استَحقَّا عليها العقَابَ. وفي خبرِ اللهِ تعالى ذكرُه عنهما أنهما لا يعلِّمان أحدًا ما يَتعلَّمُ منهما حتى يقولا له:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . ما يُغنى عن الإكثارِ في الدَّلالةِ على خطأِ هذا القولِ، أو أن يكونا كانا

(7)

رجلين من بنى آدمَ، فإن يكن ذلك كذلك فقد كانا يجبُ أن يكونَ بهلاكِهما قد

(1)

سقط من: م.

(2)

في م، ت 2، ت 3:"قائل"، وغير واضحة في: ت 1.

(3)

في م: "عنده".

(4)

في م: "أوجب".

(5)

في م: "بنسبته".

(6)

سقط من: م.

(7)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 338

ارتفَع السحرُ والعلمُ به والعملُ من بنى آدمَ؛ لأَنه إذا كان علمُ ذلك مِن قِبَلِهما يُؤخذُ، ومنهما يُتعلَّمُ، فالواجبُ أن يكونَ بهلاكِهما وعدمِ وجودِهما عدمُ السبيلِ إلى الوصولِ إلى المعنى الذي كان لا يوصَلُ إليه إلا بهما. وفي وجودِ السحرِ في كلِّ زمانٍ ووقتٍ، أبيَنُ الدَّلالةِ على فسادِ هذا القولِ. أو

(1)

يزعُمُ قائلُو

(2)

ذلك أنهما رجلان مِن بنى آدمَ لم يُعْدَما مِن الأرضِ منذُ خُلِقت الأرضُ

(3)

، ولا يُعدَمان

(4)

ما وجِد السحرُ في الناسِ، فيدَّعى ما لا يَخفى بُطُولُه.

فإذ

(5)

فسَدتْ هذه الوجوهُ التى دلَّلنا على فسادِها، فبيِّنٌ أن معنى "ما" التى في قولِه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} . بمعنى "الذي" وأن هاروتَ وماروتَ مُترجَمٌ بهما عن "الملَكَين"، ولذلك فُتِحت أواخرُ أسمائِهما؛ لأنهما في موضعِ خَفضٍ بالرَّدِّ

(6)

على "الملَكَين"، ولكنهما لمّا كانا لا يُجْريان

(7)

فُتِحت أواخرُ أسمائِهما.

فإن التَبَس على ذى غباءٍ ما قلنا، فقال: وكيف يجوزُ لملائكةِ اللهِ أن تعلِّمَ الناسَ التفريقَ بينَ المرءِ وزوجِه؟ أم كيف يجوزُ أن يُضافَ إلى اللهِ إنزالُ ذلك على الملائكةِ؟

قيل له: إن اللهَ جلّ ثناؤُه عرَّف عبادَه جميعَ ما أمَرهم به، وجميعَ ما نهاهم عنه، ثم أمَرهم ونهاهم بعدَ العلمِ منهم بما يؤمَرون به ويُنهَون عنه، ولو كان الأمرُ

(1)

في م: "وقد".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قائل".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعد".

(5)

في م، ت 1، ت 2:"فإذا".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"على الرد".

(7)

في م: "يجران". والإجراء هو الصرف. ينظر مصطلحات النحو الكوفى ص 98 - 101.

ص: 339

على غيرِ ذلك، لَما كان للأمرِ والنهْىِ معنًى مفهومٌ، فالسحرُ مما قد نهَى عبادَه من بنى آدمَ عنه، فغيرُ منكَرٍ أن يكونَ جلّ ثناؤُه علَّمه الملَكَين اللذين سمَّاهما في تنزيلِه، وجعَلهما فتنةً لعبادِه من بنى آدمَ، كما أخبرَ عنهما أنهما يقولان لمَن يَتعلَّمُ ذلك منهما:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . ليَختَبِرَ بهما عبادَه الذين نهاهم عن التفريقِ بينَ المرءِ وزوجِه، وعن السحرِ، فيمحِّصَ المؤمنَ بترْكِه التعلُّمَ منهما، ويُخزِىَ الكافرَ بتعلُّمِه السحرَ والكفرَ منهما، ويكونُ المَلَكان في تعليمِهما مَن علَّما ذلك، للهِ مُطِيعَين، إذ كانا عن إذنِ اللهِ لهما بتعليمِ ذلك من علَّماه يُعلِّمان، وقد عُبِد من دونِ اللهِ جماعةٌ من أولياءِ اللهِ، فلم يكنْ ذلك لهم ضائرًا، إذ لم يكنْ ذلك بأمرِهم إياهم به، بل عُبِد بعضُهم والمعبودُ عنه نَاهٍ، فكذلك المَلَكان غيرُ ضائرِهما سحرُ مَن سحَر ممن تعلَّم ذلك منهما بعدَ نهْيِهما إياه عنه، وعظَتِهما له بقولِهما:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . إذ كانا قد أدَّيَا ما أمِرا به بقيلِهما ذلك.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . إلى قولِه: {فَلَا تَكْفُرْ} . [قال: قولُه: {فَلَا تَكْفُرْ}]

(1)

: أُخِذ عليهما ذلك

(2)

.

‌ذكرُ بعضِ الأخبارِ التى [جاءت في شأْنِ]

(3)

الملَكين [وأمرِهما](1)، ومَن قال: إن هاروتَ وماروتَ هما الملَكان اللذان ذكَر اللهُ في قولِه: {[وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] (1) بِبَابِلَ} .

(1)

سقط من: م ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 192 (1011) من طريق عباد بن منصور، عن الحسن نحوه مطولا.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في بيان".

ص: 340

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: حدَّثنى أبي، عن قتادةَ، قال: حدثنا أبو شعبةَ العدوىُّ في جنازةِ يونسَ بنِ جبيرٍ أبى غَلَّابٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن اللهَ تبارك وتعالى أفرَج السماءَ لملائكتِه ينظُرون إلى أعمالِ بنى آدمَ، فلما أبصَروهم يعمَلون بالخطايَا، قالوا: ياربِّ، هؤلاء بنو آدمَ الذي خلَقتَ بيدِك، وأسجَدتَ له ملائكتَك، وعلَّمتَه أسماءَ كلِّ شيءٍ، يعمَلون بالخطايا. قال: أمَا إنكم لو كنتم مكانَهم لعمِلتُم مثلَ أعمالِهم. قالوا: سبحانَك ما كان ينبغى لنا. قال: فأمِروا أن يَختاروا [ملَكين ليهبِطَا]

(1)

إلى الأرضِ. قال: فاخْتاروا هاروتَ وماروتَ، فأُهبِطا إلى الأرضِ، وأحِلَّ لهما ما فيها مِن شيءٍ، غيرَ ألا يُشْرِكَا باللهِ شيئًا، ولا يسرِقا، ولا يزنِيا، ولا يشرَبا الخمرَ، ولا يقتُلا النفسَ التى حرَّم اللهُ إلا بالحقِّ. قال: فما أشْهرا

(2)

حتى عرِّض لهما بامرأةٍ

(3)

قد قُسِم لها نصفُ الحسنِ، يقالُ لها: بِيذُخْتْ

(4)

. فلما أبصَراها كشَرا

(5)

بها إِرْبًا

(6)

، فقالت: لا، إلَّا أن تُشرِكا باللهِ، وتشرَبا الخمرَ، وتقتُلا النفسَ، وتسجُدا لهذا الصنمِ. فقالا: ما كنا لنشرِكَ باللهِ شيئًا. فقال أحدُهما للآخرِ: ارجِعْ إليها. فقالت: لا، إلَّا أن تشرَبا الخمرَ. فشرِبا حتى ثَمِلا

(7)

، ودخَل عليهما سائلٌ فقتَلاه، فلما وقَعا فيما وقَعا فيه مِن الشرِّ، أفرَج اللهُ

(1)

في م: "من يهبط".

(2)

في م، ت 1، ت 2:"استمرا". وأشهر: أتى عليه شهر. التاج (ش هـ ر).

(3)

في م: "امرأة".

(4)

في الأصل: "بيدخت". بالدال المهملة. وتقال بالوجهين. ينظر نهاية الأرب 1/ 39.

(5)

كذا في الأصل، وفي م:"أرادا"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"كسرا". وكتب في حاشية الأصل: "في الأم: كُسرا" وصححها.

وكشَر عن أسنانه: إذا أبدى، يكون في الضحك وغيره. وقد كاشره: إذا ضحك في وجهه وباسطه. والكَشْرُ ضرب من النكاح. التاج (ك ش ر). ولعله كنى بذلك عن إرادة الزنا والمراودة.

(6)

في م: "زنا".

(7)

ثمِل يَثْمَل ثمَلا: إذا سكر وأخذ فيه الشراب. اللسان (ث م ل).

ص: 341

السماءَ لملائكتِه، فقالوا: سبحانَك كنتَ أنتَ

(1)

أعلمَ. قالْ فأوحَى اللهُ إلى سليمانَ ابنِ داودَ أن يُخيِّرَهما بينَ عذابِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، فاخْتارا عذابَ الدنيا، فكُبِّلا مِن أكعبِهما إلى أعناقِهما بمثلِ أعناقِ البُخْتِ

(2)

، وجُعِلا ببابلَ

(3)

.

حدَّثنى المثنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: حدَّثنا حمادٌ

(4)

، عن

(5)

عليِّ بنِ زيدٍ، عن أبي عثمانَ النهديِّ، عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ أنهما قالا: لمّا كثُر بنو آدمَ وعصَوْا، دعَت الملائكةُ عليهم والأرضُ والسماءُ والجبالُ: ربَّنا [ألَا تهلِكُهم]

(6)

؟ فأوحَى اللهُ إلى الملائكةِ: إنى لو أنزَلتُ الشهوةَ والشيطانَ مِن قلوبِكم، ولو نزَلتم لفعَلتُم أيضًا قال: فحدَّثوا أنفسَهم أن لو

(7)

ابتُلوا اعتصَموا. فأوحَى اللهُ إليهم أن اختاروا ملَكين مِن أفضلِكم. فاختاروا هاروتَ وماروتَ، فأهبِطا إلى الأرضِ، وأنزِلت الزُّهَرةُ إليهما في صورةِ امرأةٍ مِن أهلِ فارسَ، كان أهلُ فارسَ يسمُّونها بِيذُختْ. قال: فوقَعا بالخطيئةِ، وكانت الملائكةُ يستغفِرون للذين آمنوا:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. فلما وقَعا بالخطيئةِ استغفَروا لمَن في الأرضِ: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]. فخُيِّرا بينَ عذابِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، فاخْتارا

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

البخت: الإبل الخراسانية. اللسان (ب خ ت).

(3)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 100 إلى المصنف. وإسناده ضعيف لجهالة أبي شعبة العدوى.

(4)

في م: "حجاج"، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 200.

(5)

في الأصل: "بن".

(6)

في العقوبات لابن أبي الدنيا: "أهلكهم"، وفي تفسير ابن كثير:"لا تهلكهم"، وفي الدر المنثور:"لا تمهلهم". وكذا في بعض طبعات ابن كثير كما أشار محققوه.

(7)

سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 342

عذابَ الدنيا

(1)

حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا الحجاجُ، قال: حدَّثنا حمادٌ، عن خالدٍ الحذَّاءِ، عن عميرِ

(2)

بنِ سعيدٍ، قال: سمِعتُ عليًّا يقولُ: كانت الزُّهَرةُ امرأةً جميلةً من أهلِ فارسَ، وإنها خاصَمت إلى الملَكَين هاروتَ وماروتَ، فراوَداها عن نفسِها، فأبَت عليهما إلا أن يعلِّمَاها الكلامَ الذي إذا تُكُلِّم به يُعرَجُ به إلى السماءِ، فعلَّماها، فتكلَّمَت، فعرَجَت إلى السماءِ فمُسِخَت كوكبًا

(3)

.

وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ ومحمدُ بنُ المثنَّى، قالا: ثنا مُؤَمَّلُ بنُ إسماعيلَ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، جميعًا عن الثورىِّ، عن موسى

(4)

بنِ عقبةَ، عن سالمٍ، عن ابنِ عمرَ، عن كعبٍ، قال: ذكَرت الملائكةُ أعمالَ بنى آدمَ وما يأتُون من الذنوبِ، فقيل لهم: اخْتاروا منكم اثنين -وقال الحسنُ بنُ يحيى في حديثِه: اختاروا ملَكَين- فاختاروا هاروتَ وماروتَ، فقيل لهما: إنى أرسِلُ إلى بنى آدمَ رُسُلًا، وليس بينى وبينَكما رسولٌ، انزِلا، لا تُشرِكا بى شيئًا، ولا تزنِيا، ولا تشرَبا الخمرَ. قال كعبٌ: فواللهِ ما أمسَيا مِن

(5)

يومِهما الذي أُهبِطا فيه إلى الأرضِ

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (221) من طريق حماد بن سلمة به.

(2)

في م: "عمرو".

(3)

أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده -كما في المطالب العالية (3892) - وابن أبي الدنيا في العقوبات (223)، وأبو الشيخ في العظمة (702)، والحاكم 2/ 265 من طريق عمير بن سعيد عن على مطولا، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 199 عن المصنف، وقال: وهذا الإسناد رجاله ثقات، وهو غريب جدا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 97 إلى عبد بن حميد.

(4)

في م: "محمد".

(5)

في الأصل: "في".

ص: 343

حتى استكمَلا جميعَ ما نُهِيا عنه. وقال الحسنُ بنُ يحيى في حديثِه: فما استَكمَلا يومَهما الذي أنزِلا فيه حتى عَمِلا ما حرَّم اللهُ عليهما

(1)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا معلَّى بنُ أسدٍ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ المختارِ، عن موسى بنِ عقبةَ، قال: حدَّثنى سالمٌ، أنه سمِع عبدَ اللهِ يحدِّثُ عن كعبِ الأحبارِ، أنه حدَّث أن الملائكةَ أنكَروا أعمالَ بنى آدمَ وما يأْتُون في الأرضِ مِن المعاصى، فقال اللهُ لهم: إنكم لو كنتم مكانَهم أتيتم ما يأتون مِن الذنوبِ، فاختاروا منكم ملَكَين. فاختاروا هاروتَ وماروتَ اخْتيارًا

(2)

، فقال اللهُ لهما: إنى أرسِلُ رُسلى إلى الناسِ، وليس بينى وبينَكما رسولٌ، انزِلا إلى الأرضِ، ولا تُشرِكا بى شيئًا ولا تزنِيَا. فقال كعبٌ: والذي نفسُ كعبٍ بيدِه، ما استكمَلا يومَهما الذي نزَلا فيه حتى أتَيا كلَّ

(3)

ما حُرِّم عليهما.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: إنه كان مِن أمرِ هاروتَ وماروتَ أنهما طعَنا على أهلِ الأرضِ في أحكامِهم، فقيل لهما: إنى أعطَيتُ بنى

(4)

آدمَ عشرًا مِن الشهواتِ فبها يعصوننى. قال هاروتُ وماروتُ: ربَّنا لو أعطَيتنا تلك الشهواتِ ثم نزَلنا، لحكمْنا بالعدلِ. فقال لهما: انزِلا، فقد أعطَيتُكما تلك الشهواتِ العشرَ، فاحكُما بينَ الناسِ. فنزَلا ببابلِ دُنْباوَنْدَ

(5)

،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 190 (1006) من طريق مؤمل به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 53، وابن أبي شيبة 13/ 186، وابن أبي الدنيا في العقوبات (224)، والبيهقى في الشعب (164) من طريق الثورى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 98 الى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "ابن".

(5)

دُنْباوَند لغة في دُبَاوَنْد، ودُباوَنْد كورة من كور الرى بينها وبين طبرستان، ودُنْباوند جبل من نواحى=

ص: 344

فكانا

(1)

يحكُمان، حتى إذا أمسَيا عَرَجا، فإذا أصبَحا هبَطا، فلم يزالا بذلك حتى أتَتْهما امرأةٌ تخاصِمُ زوجَها، فأعجَبهما حسنُها -واسمُها بالعربيةِ الزُّهَرةُ، واسمُها

(2)

بالنَّبطيةِ بِيذُخْتْ، واسمُها بالفارسيةِ أناهِيذ- فقال أحدُهما لصاحبِه: إنها لتُعجِبُنى. قال الآخرُ: قد أردتُ أن أذكرَ لك ذلك

(2)

فاستحييتُ منك. فقال الآخرُ: هل لك أن أذكرَها لنفسِها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذابِ اللهِ؟ قال الآخرُ: إنا نرجُو رحمةَ اللهِ. فلما جاءت تخاصِمُ زوجَها ذكَرا لها

(3)

نفسَها، فقالت: لا، حتى تقضِيا لى على زوجى. فقضَيا لها على زوجِها، ثم واعَدتْهما خَرِبةً من الخَرِبِ يأتيانها فيها، فأتياها لذلك، فلما أراد الذى يواقعُها، قالت: ما أنَا بالذى أفْعَلُ حتى تخبرانى بأىِّ كلامٍ تصعَدان إلى السماءِ، وبأىِّ كلامٍ تنزِلان منها. فأخبَراها فتكلَّمت فصعِدت، فأنساها اللهُ ما تَنْزِلُ به، فبقِيت مكانَها، وجعَلها اللهُ كوكبًا -فكان عبدُ اللهِ بنُ عمرَ كلما رآها لعَنها وقال: هذه التى فتَنت هاروتَ وماروتَ- فلما كان الليلُ أرادا أن يصعَدا فلم يُطِيقا

(4)

، فعرَفا الهَلكةَ

(5)

، فخُيِّرا [عذابَ الدنيا من عذابِ]

(6)

الآخرةِ، فاختارا عذابَ الدنيا

(7)

، فعُلِّقا ببابلَ، وجعَلا يكلِّمان الناسَ كلامَهما، وهو السحرُ

(8)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: لما وقَع الناسُ مِن بعدِ آدمَ فيما وقَعوا فيه مِن المعاصِى والكفرِ باللهِ، قالت

= الرى. معجم البلدان 2/ 544، 606.

(1)

في الأصل: "فكان".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

فى م، ت 2، ت 3:"إليها".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يستطيعا".

(5)

فى م، ت 1، ت 3:"الهلك".

(6)

في م: "بين عذاب الدنيا و".

(7)

بعده في م: "من عذاب الآخرة".

(8)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 202.

ص: 345

الملائكةُ فى السماءِ: أىْ ربّ، هذا العالَمُ إنما خلقتَهم لعبادتِك وطاعتِك، وقد ركِبوا الكفرَ، وقتلَ النفسِ الحرامِ، وأكلَ المالِ الحرامِ، والسرقةَ، والزنا، وشرْبَ الخمرِ. فجعَلوا يدعون عليهم ولا يَعْذِرونهم، فقيل لهم: إنهم فى غَيْبٍ. فلم يعذِروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملَكَين آمرُهما بأمرى، وأنْهاهما عن معصيتى. فاختاروا هاروتَ وماروتَ، فأُهبِطا إلى الأرضِ، وجعِل لهما

(1)

شهواتُ بنى آدمَ، وأمِرا أن يعبُدا اللهَ، وألا يشرِكا به شيئًا، ونُهِيا عن قتلِ النفسِ الحرامِ، وأكلِ المالِ الحرامِ، والسرقةِ، والزنا، وشربِ الخمرِ، فلبِثا فى الأرضِ على ذلك زمانًا يحكُمان بينَ الناسِ بالحقِّ -وذلك فى زمانِ إدريسَ- وفى ذلك الزمانِ امرأةٌ حسنُها فى سائرِ النساءِ

(2)

كحسنِ الزُّهَرةِ فى سائرِ الكواكبِ، وأنها أتَت عليهما، فخضَعا لها بالقولِ، وأراداها على نفسِها، وأنها أبَت إلا أن يكونا على أمرِها ودينِها، وأنهما سأَلاها عن دينِها الذى

(3)

هى عليه، فأخرَجت لهما صنمًا، فقالت: هذا أعبُدُ. فقالا: لا حاجةَ لنا فى عبادةِ هذا. فذهَبا فصبَرا ما شاء اللهُ، ثم أتَيا عليها فخضَعا لها بالقولِ، وأراداها على نفسِها، فقالت: لا، إلَّا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا: لا حاجةَ لنا فى عبادةِ هذا. فلما رأتْ أنهما قد

(4)

أبَيا أن يعبُدا الصنمَ، قالت لهما: اختارا إحدَى الخِلالِ الثلاثِ؛ إما أن تعبُدا الصنمَ، أو تقتُلا النفسَ، أو تشرَبا هذه

(4)

الخمرَ. فقالا: كلُّ هذا لا ينبغى، وأهونُ الثلاثِ شُرْبُ الخمرِ. فسقَتْهما الخمرَ حتى إذا

(5)

أخَذتِ الخمرُ فيهما

(6)

، وقَعا بها، فمرَّ بهما إنسانٌ وهما فى ذلك، فخشِيا أن يُفشِىَ عليهما

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3، والدر المنثور:"بهما".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3، والدر المنثور:"الناس".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"التى".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

سقط من: الأصل.

(6)

بعده فى الأصل: "وأنهما".

ص: 346

فقتَلاه، فلما أن ذهَب عنهما السكرُ، عرَفا ما قد

(1)

وقَعا فيه مِن الخطيئةِ، وأرادا أن يصعَدا إلى السماءِ فلم يستطِيعا، فحِيل بينَهما وبينَ ذلك، وكُشِف الغطاءُ فيما

(2)

بينهما وبينَ أهلِ السماءِ، فنظَرتِ الملائكةُ إلى ما قد (1) وقَعا فيه مِن الذنبِ، فعجِبوا كلَّ العَجَبِ، و [عرَفوا أنه]

(3)

مَن كان فى غَيْبٍ فهو أقلُّ خشيةً

(4)

، فجعَلوا بعدَ ذلك يستغفِرون لمَن فى الأرضِ. وإنهما لمّا وقَعا فيما وقَعا فيه مِن الخطيئةِ، قيل لهما: اختارا عذابَ الدنيا أو عذابَ الآخرةِ. فقالا: أمَّا عذابُ الدنيا فإنه ينقطِعُ [ويذهَبُ]

(5)

، وأمَّا عذابُ الآخرةِ فلا انقطاعَ له. فاختارا عذابَ الدنيا، فجُعِلا ببابلَ، فهما يعذَّبان

(6)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا فرجُ بنُ فَضالةَ، عن معاويةَ ابنِ صالحٍ، عن نافعٍ، قال: سافَرتُ مع ابنِ عمرَ، فلما كان مِن آخرِ الليلِ، قال: يا نافعُ، انظُرْ، طلعتِ الحمراءُ؟ [قلتُ: لا]

(7)

. مرَّتين أو ثلاثًا، ثم قلتُ: قد طلَعت. قال: لا مرحبًا بها

(8)

ولا أهلًا. قلت: سبحانَ اللهِ، نجمٌ مسخَّرٌ سامعٌ مطيعٌ! قال: ما قلتُ لك إلا ما سمِعتُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أو

(9)

قال: قال لى

(10)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: م.

(3)

فى م: "علموا أن".

(4)

فى م: "غشية".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 100 إلى المصنف. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 189 (1005) من طريق أبى جعفر، عن الربيع، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس قوله، وذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 201 عن ابن أبى حاتم، وقال: رواه الحاكم فى مستدركه مطولا عن. . . أبى جعفر الرازى به، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فهذا أقرب ما روى فى شأن الزهرة، والله أعلم.

(7)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قالها".

(8)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(9)

فى م: "و".

(10)

سقط من الأصل.

ص: 347

"إنَّ الملائكةَ قالت: يا ربِّ، كيف صبرُك على بنى آدمَ فى الخطايا والذنوبِ؟ قال: إنى ابتَليتُهم وعافَيتُكم. قالوا: لو كنا مكانَهم ما عصَيناك. قال: فاختارُوا ملَكَين منكم". قال: "فلم يألُوا أن يختارُوا، فاختارُوا هاروتَ وماروتَ"(1).

وحدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ: أمّا شأنُ هاروتَ وماروتَ، فإن الملائكةَ عجِبت من ظلمِ بنى آدمَ، وقد جاءتْهم الرسلُ والكتبُ والبيناتُ، فقال لهم ربُّهم: اختاروا منكم ملَكَين أُنزِلْهما يحكُمان فى الأرضِ بين بنى آدمَ. فاختاروا - [فلم يألُوا]

(2)

- هاروتَ وماروتَ. فقال لهما حينَ أنزَلهما: أَعجِبتما مِن بنى آدمَ ومِن ظلمِهم ومعصيتِهم، وإنما تأتِيهم الرسلُ والكتبُ مِن وراءَ وراءَ؟! وأنتما ليس بينى وبينَكما رسولٌ، فافعَلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا. فأمَرهما بأمرٍ ونهاهما، ثم نزَلا على ذلك، ليس أحدٌ أطوعَ للهِ منهما، فحكَما فعدَلا، فكانا يحكُمان النهارَ بين بنى آدمَ، فإذا أمسَيا عَرَجا وكانا مع الملائكةِ، وينزِلان حين يصبِحان فيحكُمان فيعدِلان، حتى أُنزِلت عليهما الزُّهَرةُ فى أحسنِ صورةِ امرأةٍ تخاصِمُ، فقضَيا عليها، فلما قامت وجَد كلُّ واحدٍ منهما فى نفسِه، فقال أحدُهما لصاحبِه: وجَدتَ مثلَ ما وجَدتُ؟ قال: نعم. فبعَثا إليها: أنِ ائتِينا نَقْضِ لكِ. فلما رجَعت، قالا لها -وقضيا لها-: ائتِينا. فأتتهما، فتكشَّفا لها عن عورتِهما، وإنما كانت شهوتُهما فى أنفسِهما، ولم يكونا كبنى آدمَ فى شهوةِ النساءِ ولذَّتِها، فلما بلَغا ذلك واستحلَّاه وافتُتِنا، طارتِ الزُّهَرةُ فرجَعت حيث كانت، فلما

(أ) أخرجه سنيد -كما فى الدر المنثور 1/ 97 - ومن طريقه الخطيب 8/ 42، وابن الجوزى فى الموضوعات

1/ 186، والذهبى فى الميزان 2/ 236. وذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 199 عن المصنف، وقال: غريب

جدا، وأقرب ما فى هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبى صلى الله عليه وسلم. . . وينظر تفسير

ابن كثير 1/ 198 - 200، والدر المنثور 1/ 97، 98، والضعيفة (912).

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 348

أمسَيا عَرَجا فزُجِرا

(1)

فلم يؤذنْ لهما، ولم تحمِلْهما أجنِحَتُهما، فاستغاثا برجلٍ من بنى آدمَ، فأتَياه فقالا: ادعُ لنا ربَّك. فقال: كيف يشفَعُ أهلُ الأرضِ لأهلِ السماءِ؟ قالا: سمِعنا ربَّك يذكُرُك بخيرٍ فى السماءِ. فوعَدهما يومًا وعْدًا

(2)

؛ يدعو لهما، فدَعا لهما فاستُجيب له، فخيِّرا بين عذابِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، فنظَر أحدُهما إلى صاحبِه [فقال: ألا تعلمُ]

(3)

أن أفواجَ

(4)

عذابِ اللهِ فى الآخرةِ كذا وكذا فى الخلدِ

(5)

، ومع الدنيا سبعَ

(6)

مراتٍ مثلَها. فأُمِرا أن ينزِلا ببابلَ، فثَمَّ عذابُهما، وزُعِم أنهما معلَّقان فى الحديدِ مَطويَّان؛ يصطَفِقان

(7)

بأجنِحَتِهما

(8)

.

قال أبو جعفرٍ: وحُكِى عن بعضِ القرأةِ أنه كان يَقْرَأُ ذلك: (وما أُنزِل على المَلِكينِ). يعنى به: رجلين مِن بنى آدمَ

(9)

.

(1)

فى م: "فردا"، وفى ت 1:"فرجعا"، وفى ت 2:"فرجوا".

(2)

فى م: "وغدا".

(3)

فى م: "فقالا نعلم".

(4)

فى م: "أنواع".

(5)

بعده فى الأصل: "نعم". وعليها استشكال.

(6)

فى تفسير ابن كثير: "تسع".

(7)

فى تفسير ابن كثير: "يصفقان". واصطفق القوم: اضطربوا. اللسان (ص ف ق).

(8)

أخرجه أبو الشيخ فى العظمة (704) من طريق أبى حذيفة به مختصرًا. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 192 (1009) من طريق ابن جريج، عن مجاهد مختصرا. وذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 203 كاملًا ثم قال: وقد روى فى قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدى والحسن و. . . وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع فى تفصيلها إلى أخبار بنى إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذى لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد فى القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.

(9)

قرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلى والضحاك وابن أبزى، وهى قراءة شاذة. المحتسب 1/ 100، والبحر المحيط 1/ 329. وأخرج قراءة ابن أبزى والضحاك ابن أبى حاتم فى تفسيره (1000، 1002).

ص: 349

وقد دلَّلْنا على خطأِ القراءةِ بذلك مِن جهةِ الاستدلالِ

(1)

، فأما مِن جِهَةِ النقلِ، فإجماعُ الحجةِ على خطأِ القراءةِ بها من الصحابةِ والتابعين وقرأةِ الأمصارِ. وكفَى بذلك شاهدًا على خطَئِها.

وأما قولُه: {بِبَابِلَ} . فإنه اسمُ قريةٍ أو موضعٍ مِن مواضعِ الأرضِ.

وقد اختلَف أهلُ التأويلِ فيها؛ فقال بعضُهم: إنها ببابلِ دُنْباوَنْدَ.

حَدَّثنى بذلك موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ

(2)

.

وقال بعضُهم: بل ذلك ببابلِ العراقِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ أبى الزنادِ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ فى قصةٍ ذكَرتها عن امرأةٍ قدِمت المدينةَ، فذكَرت أنها صارت بالعراقِ ببابلَ، فأتَت بها هاروتَ وماروتَ، فتعلَّمت منهما السحرَ

(3)

.

واختُلف فى معنى السحرِ؛ فقال بعضُهم: هو خُدَعٌ ومَخاريقُ ومعانٍ يفعَلُه الساحرُ، حتى يُخَيَّلَ إلى المسحورِ الشئُ أنه بخلافِ ما هو به، نظيرَ الذى يرى السَّرابَ مِن بعيدٍ، فيُخَيَّلُ إليه أنه ماءٌ، ويرَى الشئَ مِن بعيدٍ [فيه، فيتبيَّنُه]

(4)

بخلافِ ما هو به

(5)

على حقيقتِه، وكراكبِ السفينةِ السائرةِ سيرًا حثيثًا يُخَيَّلُ إليه أن ما عاين مِن

(1)

ينظر ما تقدم فى ص 338، 339.

(2)

تقدم تخريجه فى ص 345.

(3)

سيأتى تخريجه فى ص 353.

(4)

فى م: "فيثبته".

(5)

سقط من: م.

ص: 350

الأشجارِ والجبالِ سائرٌ معه. قالوا: فكذلك المسحورُ، ذلك صفتُه، يحسَبُ بعدَ الذى وصَل إليه مِن سحرِ الساحرِ أن الذى يراه أو يفعلُه بخلافِ الذى هو به على حقيقتِه.

كالذى حدَّثنى أحمدُ بنُ الوليدِ وسفيانُ بنُ وكيعٍ، قالا: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لمّا سُحِر، كان يُخَيَّلُ إليه أنه يفعلُ الشئَ ولم يَفْعَلْه

(1)

.

وحدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا ابنُ نميرٍ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: سحَر رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يهودىٌّ مِن يهودِ بنى زُرَيقٍ، يقالُ له: لبيدُ ابنُ الأعصمِ. حتى كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إليه أنه يفعلُ الشئَ وما يَفْعَلُه

(2)

.

حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَنى يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، قال: كان عروةُ بنُ الزبيرِ وسعيدُ بنُ المسيّبِ يحدِّثان أن يهودَ بنى زُرَيقٍ عقَدوا عُقَدَ سِحْرٍ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فجعَلوها فى بئرِ حَرْمٍ

(3)

، حتى كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنكِرُ

(4)

بصرَه، ودلَّه اللهُ على ما صنَعوا، فأرسَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى بئرِ حرْمٍ التى فيها العُقَدُ فانْتزَعها، فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"سحرَتْنى يهودُ بنى زريقٍ"

(5)

.

(1)

أخرجه أحمد 6/ 50 (24283)، والبخارى (3175) من طريق يحيى بن سعيد به. وأخرجه أحمد 6/ 63 (24393)، والبخارى (3268)، ومسلم (2189)، وغيرهم من طرق عن هشام به.

(2)

أخرجه مسلم (2189) من طريق ابن نمير به.

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"حزم" بالزاى، وفى صحيح مسلم:"بئر ذى أروان". قال الإمام النووى فى شرح مسلم 14/ 177: هكذا هو فى جميع نسخ مسلم: ذى أروان. وكذا وقع فى بعض روايات البخارى، وفى معظمها:"ذروان". وكلاهما صحيح، والأول أجود وأصح، وادعى ابن قتيبة أنه الصواب، وهو قول الأصمعى، وهى بئر بالمدينة فى بستان بنى زريق.

(4)

فى جامع معمر: "يغض".

(5)

أخرجه معمر فى جامعه (19764) عن ابن شهاب به، ولم يذكر اسم البئر. وأخرجه ابن سعد 2/ 198 من طريق ابن شهاب به، مقتصرا على آخره. =

ص: 351

وأنكَر قائلو هذه المقالةِ أن يكونَ الساحرُ يَقدِرُ بسحْرِه على قلبِ شيءٍ عن حقيقتِه، أو

(1)

استسخارِ

(2)

شيءٍ مِن خلقِ الله إلا نظيرَ الذى يقدِرُ عليه مِن ذلك سائرُ بنى آدمَ، أو إنشاءِ شيءٍ مِن الأجسامِ سوى المخاريقِ والخُدَعِ المتخيَّلةِ لأبصارِ الناظرين، بخلافِ حقائقِها التى وصَفنا. وقالوا: لو كان في وُسعِ السحرةِ إنشاءُ الأجسامِ، وقلبُ حقائقِ الأعيانِ عما هى به مِن الهيئاتِ، لم يكنْ بينَ الباطلِ والحقِّ فصلٌ

(3)

، ولجاز أن تكونَ جميعُ المحَسّاتِ

(4)

مما سحَرته السحرةُ فقلَبت أعيانَها. قالوا: وفى وصفِ الله جلَّ وعزَّ سحرَ

(5)

سحَرةِ فرعونَ بقولِه: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. وفى خبرِ عائشةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ

(6)

سُحِر يخيَّلُ إليه أنه يفعَلُ الشئَ وهو لا يفعلُه -أوضحُ الدَّلالةِ على بُطُولِ دعْوَى المدَّعِين- أن الساحرَ يُنشئُ أعيانَ الأشياءِ بسحرِه، ويستسْخِرُ ما يتعذَّرُ استسخارُه على غيرِه مِن بنى آدمَ، كالمواتِ والجمادِ والحيوانِ- وصحةِ ما قلنا.

وقال آخرون: قد يقدِرُ الساحرُ بسحرِه أن يحوِّلَ الإنسانَ حمارًا، وأن يَسحَرَ

= وقال الحافظ في الفتح 10/ 226، 227: قال المازرى: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها. . . وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض. . . وعقد القاضى عياض في هذا البحث فصلا جيدا في الشفا 2/ 865 وما بعدها.

(1)

في م: "و".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"استحسان".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فضل".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المحسوسات".

(5)

سقط من: م.

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إذا".

ص: 352

[الحيوانَ والجمادَ]

(1)

، وينشِئَ أعيانًا وأجسامًا.

واعتلُّوا في ذلك بما حدَّثنا به الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَنى ابنُ أبى الزنادِ، قال: حدَّثنى هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدِمت عليَّ امرأةٌ مِن أهلِ دُومَةِ الجندلِ

(2)

، جاءت تَبتغى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ موتِه

(3)

حَدَاثةَ ذلك، تسألُه عن شيءٍ دخَلتْ فيه من أمرِ السحرِ ولم تعمَلْ به. قالت عائشةُ لعروةَ: يا بنَ أختى، فرأيتُها تبكى حينَ لم تجِدْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيشفِيَها، كانت تبكى حتى إنى لأرحَمُها، وتقولُ: إنى لأخافُ أن أكونَ قد هلَكْتُ، كان لى زوجٌ فغاب عنى، فدخَلَت عليَّ عجوزٌ فشكَوتُ ذلك إليها، فقالت: إن فعَلتِ ما آمرُكِ به، فأجعلُه يأتيك. فلما كان الليلُ جاءتْنى بكلبَين أسودَين، فركِبتْ أحدَهما وركِبتُ الآخرَ، فلم يكنْ كشيءٍ

(4)

حتى وقَفنا ببابلَ، فإذا برجلَين، معلَّقَين بأرجلِهما، فقالا: ما جاء بكِ؟ فقلتُ: أتعلَّمُ السحرَ. فقالا: إنما نحن فتنةٌ، فلا تكفُرى وارجِعى. فأبَيْتُ، وقلتُ: لا. قالا: فاذهَبى إلى ذلك التنُّورِ فبُولى فيه. فذهَبتُ ففزِعتُ فلم أفعلْ، فرجَعتُ إليهما، فقالا: أفعَلتِ؟ فقلتُ: نعم. قالا: فهل رأيتِ شيئًا؟ قلتُ: لم أرَ شيئًا. فقالا: لم تفعَلى، ارجِعى إلى بلادِك ولا تكفُرى. [فأرْبَبْتُ وأبيتُ]

(5)

، فقالا: اذهَبى إلى ذلك التنورِ فبولى فيه. فذهَبتُ فاقشعرَرْتُ وخفتُ، ثم رجعتُ إليهما فقلتُ: قد فعلتُ.

(1)

في م: "الإنسان والحمار".

(2)

دومة الجندل: هى ما بين برك الغماد ومكة. معجم ما استعجم 2/ 564.

(3)

بعده في الأصل: "في".

(4)

هذه اللفظة ليست عند ابن أبى حاتم، حيث أورده مختصرًا، وفى المستدرك:"مكثى"، وفى سنن البيهقى:"كثير".

(5)

في م: "فأييت". وأرب فلان بالمكان: إذا أقام به فلم يبرحه. التاج (ر ب ب).

ص: 353

فقالا: فما رأيتِ؟ فقلتُ: لم أرَ شيئًا. فقالا: كذَبتِ لم تَفعَلى، ارجِعى إلى بلادِك ولا تكفُرى، فإنك على رأسِ أمرِكِ

(1)

. فأرْبَبْتُ وأبيتُ، فقالا: اذهَبى إلى ذلك التنُّورِ فبولى فيه. فذهَبتُ إليه فبُلتُ فيه، فرأيتُ فارسًا مُتقنِّعًا بحديدٍ خرَج منه

(2)

حتى ذهَب في

(3)

السماءِ، وغاب عنى حتى ما أراه. فجئتُهما فقلتُ: قد فعلتُ. فقالا: فما رأيتِ؟ فقلتُ: رأيتُ

(4)

فارسًا مُتقنِّعًا خرَج منه (2)، فذهَب في السماءِ حتى ما أراه. فقالا: صدَقتِ، ذلك إيمانُكِ خرَج منك، اذهبى. فقلتُ للمرأةِ: واللهِ ما أعلمُ شيئًا، وما قالا لى شيئًا. فقالت: بلى، لن تريدى شيئًا إلا كان، خُذى هذا القمحَ فابذُرى. فبذَرتُ، فقلتُ: أطْلِعى. فأطْلَعتْ، وقلت: أحْقِلى. فأحْقَلت، ثم قلت:[أفْرِكى. فأفْرَكَتْ]

(5)

، ثم قلت: أيْبِسى. فأيْبَست، ثم قلت: أطْحِنى. فأطْحَنَتْ، ثم قلتُ: أخبزِى. فأخبَزتْ. فلمّا رأيتُ أنى لا أريدُ شيئًا إلا كان، سُقِط في يدِى وندِمتُ، واللهِ يا أمَّ المؤمنين

(6)

ما فعلتُ شيئًا قطُّ ولا أفعلُه أبدًا

(7)

.

فقال أهلُ هذه المقالةِ بما وصَفنا، واعتلُّوا بما ذكَرنا، وقالوا: لولا أن الساحرَ يقدِرُ على فعلِ ما ادّعى أنه يقدِرُ على فعلِه، ما قدَر أن يفرِّقَ بينَ المرءِ وزوجِه. قالوا: وقد أخبرَ اللهُ تعالى ذكرُه عنهم أنهم يتعلَّمون مِن الملَكَين ما يفرِّقون به بينَ المرءِ

(1)

أى في أوله. التاج (ر أ س).

(2)

في م، ومصادر التخريج:"منى". وقولها: "منه". أى من البول.

(3)

في الأصل: "إلى".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

في المستدرك: "أفرخى فأفرخت".

(6)

بعده في م، ت 1، ت 2:"والله".

(7)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 194 (1022)، والحاكم 4/ 155، والبيهقى 8/ 136 من طريق الربيع بن سليمان به مطولا ومختصرا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 203، 204 عن المصنف، وقال: أثر غريب، وسياق عجيب. وقال أيضًا: 1/ 205: هذا إسناد جيد إلى عائشة.

ص: 354

وزوجِه، وذلك لو كان على غيرِ الحقيقةِ، وكان على وجهِ التخييلِ والحُسبانِ، لم يكنْ تفريقًا على صحةٍ، وقد أخبَر اللهُ تعالى ذكرُه عنهم أنهم يفرِّقون على صحةٍ.

وقال آخرون: بل السحرُ أخْذٌ بالعينِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} .

وتأويلُ ذلك: وما يعلِّمُ الملَكان من أحدٍ مِن الناسِ الذى أُنزِل عليهما مِن التَّفريقِ بينَ المرءِ وزوجِه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاءٌ وفتنةٌ لبنى آدمَ، فلا تكفُرْ بربِّك.

كما حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال: إذا أتاهما -يعنى هاروتَ وماروتَ- إنسانٌ يريدُ السحرَ، وعَظاه وقالا له: لا تكفُرْ، إنما نحن فتنةٌ. فإذا أبَى، قالا له: ائتِ هذا الرمادَ فبُلْ عليه. فإذا بال عليه خرَج منه نورٌ يسطَعُ حتى يدخُلَ السماءَ، وذلك الإيمانُ، وأقبَل

(1)

شيءٌ أسودُ كهيئةِ الدُّخَانِ حتى يدخُلَ في مسامعِه وكلِّ شيءٍ منه، فذلك غضبُ الله، فإذا أخبرَهما بذلك علَّماه السحرَ، فذلك قولُ الله:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} الآية

(2)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ والحسنِ:{حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . قالا: أُخِذ عليهما ألَّا يعلِّما أحدًا حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}

(3)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قيل".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 206 عن السدى.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 103 إلى المصنف. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 192 (1011، 1012) من طريق عباد بن منصور عن الحسن، وأبى جعفر عن قتادة.

ص: 355

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، قال: قال قتادةُ: كانا يعلِّمان الناسَ السحرَ، فأخِذ عليهما ألَّا يعلِّما أحدًا حتى يقولا:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر}

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، قال: قال غيرُ قتادةَ: أخِذ عليهما ألَّا يعلِّما أحدًا حتى يَتقدَّما إليه فيقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر} .

حدَّثنا ابنُ بشارٍ قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: أخِذ عليهما أن يقولا ذلك.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخِذ الميثاقُ عليهما ألَّا يعلِّما أحدًا حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر} : لا يَجترِئُ على السحرِ إلا كافرٌ

(2)

.

وأما "الفتنةُ" في هذا الموضعِ، فإن معناها الاختبارُ والابتلاءُ، مِن ذلك قولُ الشاعرِ

(3)

:

[وقد فُتن]

(4)

الناسُ في دينِهم

وخَلَّى ابنُ عفّانَ شَرًّا طَوِيلا

(1)

تقدم تخريجه في ص 333.

(2)

ذكر آخره ابن كثير في تفسيره 1/ 206 عن الحسين به.

(3)

نسبه المصنف فى تاريخه 4/ 426 إلى الحباب بن يزيد المجاشعى عم الفرزدق. وفى الاستيعاب 1/ 412، والإصابة 2/ 29: الحتات بن يزيد، وفى الإصابة: زيد. ونسبه ابن قتيبة في معجم الشعراء ص 240، والمبرد في الكامل 3/ 29، وابن حجر فى الإصابة 5/ 637، إلى ابن الغريرة -وفى الكامل: الغريزة- النهشلى، وذكر الخلاف فى نسبته فى أنساب الأشراف 6/ 228 فقال: وقال على بن الغدير بن المضرس الغنوى، ويقال: إهاب بن همام. . . المجاشعى. ويقال ابن الغريرة النهشلى.

(4)

رواية المصنف فى تاريخه: "قد سفه".

ص: 356

ومنه يقالُ: فتَنتُ الذهبَ في النارِ -إذا امتَحنتَها لتعرِفَ جَوْدَتَها مِن رَداءتِها- أفتِنُها

(1)

فتنةً وفتونًا.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . أى: بلاءٌ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} .

وقولُه جلَّ ثناؤُه: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} . خبرٌ مبتدأٌ عن المتعلِّمين مِن الملَكَين ما أُنزِل عليهما، وليس بجوابٍ لقولِه:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} . بل هو خَبرٌ مستأنفٌ، فلذلك رفِع فقيل:{فَيَتَعَلَّمُونَ} . فمعنى الكلامِ إذن: وما يعلِّمان مِن أحدٍ حتى يقولا: إنما نحنُ فتنةٌ. فيأبَون قبولَ ذلك منهما، فيتعلَّمون منهما ما يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه.

وقد قيل: إن قولَه: {فَيَتَعَلَّمُونَ} . خبرٌ عن اليهودِ معطوفٌ على قولِه: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} - {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وجعَلوا ذلك مِن المؤخَّرِ الذى معناه التقديمُ.

والذى قلنا أشبهُ بتأويلِ الآيةِ؛ لأن إلحاقَ ذلك بالذى يليه مِن الكلامِ، ما كان للتأويلِ وجهٌ صحيحٌ، أولَى مِن إلحاقِه بما قد حِيل بينه وبينه من معْترَضِ الكلامِ.

والهاءُ والميمُ والألفُ، مِن قولِه:{مِنْهُمَا} . من ذكرِ الملَكَين. ومعنى ذلك: فيتعلَّمُ الناسُ من الملَكَين الذى يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه.

(1)

فى م، ت 1، ت 2:"أفتنه". وقوله: "أفتنها". يريد القطعة من الذهب. كقوله: "امتحنتها. . .".

(2)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 103 إلى المصنف. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 192 (1012) من طريق أبي جعفر، عن قتادة.

ص: 357

و {مَا} التى مع {يُفَرِّقُونَ} بمعنى الذى. وقيل: إن

(1)

معنى ذلك: السحرُ الذى يفرِّقون به. وقيل: هو معنًى غيرُ السحرِ. وقد ذكَرنا اختلافَهم في ذلك فيما مضَى قبلُ

(2)

.

وأما "المرءُ"؛ فإنه بمعنى رجلٍ، من أسماءِ بنى آدمَ، والأُنثى منه المرأةُ. يوحَّدُ ويثنَّى، ولا يجمعُ ثلاثتُه

(3)

على صورتِه، يقالُ منه: هذا امرؤٌ صالحٌ، وهذان امرآن صالحان. ولا يقالُ: هؤلاء امرؤو صِدقٍ. ولكن يقالُ: هؤلاء رجالُ صِدقٍ، وقومُ صِدقٍ. وكذلك المرأةُ تُوحَّدُ وتُثنَّى، ولا تُجْمَعُ على صورتِها، يقالُ: هذه امرأةٌ، وهاتان امرأتان. ولا يقالُ: هؤلاء امرآتٌ. ولكن: هؤلاء نسوةٌ.

وأما "الزوجُ"، فإن أهلَ الحجازِ يقولون لامرأةِ الرجلِ: هى زوجُه. بمنزلةِ الزوجِ الذَّكرِ، ومِن ذلك قولُ الله تعالى ذكرُه:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]. وتميمٌ وكثيرٌ من قيسٍ وأهلُ نجدٍ يقولون: هى زوجتُه

(4)

.

قال الشاعرُ

(5)

:

فإن [الذى يمشِى يُحَرِّشُ

(6)

]

(7)

زَوْجَتى

كماشٍ إلى أُسْدِ الشَّرَى

(8)

يَسْتبِيلُها

(9)

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ينظر ما تقدم في ص 336، 337.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ثلاثيه".

(4)

بعده في م: "كما".

(5)

هو الفرزدق، والبيت في شرح ديوانه ص 605.

(6)

حرش بينهم: أفسد وأغرى بعضهم ببعض. التاج (ح ر ش).

(7)

في شرح الديوان: "امرأً يسعى يخبب".

(8)

الشرى: موضع تنسب إليه الأسد، قال بعضهم: شرى موضع بعينه تأوى إليه الأسد، وقيل: هو شرى الفرات وناحيته، وبه غياض وآجام ومأسدة. اللسان (ش ر ى).

(9)

في ت 1، ت 2، ت 3:"يستقيلها". والمراد يأخذ بولها في يده. اللسان (ب و ل).

ص: 358

فإن قال قائلٌ: وكيف يفرِّقُ الساحرُ بينَ المرءِ وزوجِه؟

قيل: قد دلَّلنا فيما مضَى على أن معنى السحرِ تخييلُ الشئِ إلى المرءِ بخلافِ ما هو به في عَينِه وحقيقتِه، بما فيه الكفايةُ لمَن وفِّق لفهمِه

(1)

. فإذ كان ذلك صحيحًا بالذى عليه استشهَدْنا، فتفريقُه بينَ المرْءِ وزوجِه، تخييلُه بسحرِه إلى كلِّ واحدٍ منهما شخصَ الآخرِ على خلافِ ما هو به في حقيقتِه مِن حسنٍ وجمالٍ، حتى يقبِّحَه عندَه، فينصرِفَ بوجهِه ويعرِضَ عنه، حتى يُحدِثَ الزوجُ لامرأتِه فِراقًا. فيكونُ الساحرُ مفرِّقًا بينَهما بإحداثِه السببَ الذى كان عنه

(2)

فُرْقَةُ ما بينَهما. وقد دلَّلنا في غيرِ موضعٍ مِن كتابِنا هذا على أن العربَ تضيفُ الشئَ إلى مُسبِّبِه من أجلِ تَسْبِيبِه

(3)

، وإن لم يكنْ باشرَ فعل ما حدَث عن السببِ، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(4)

. فكذلك تفريقُ الساحرِ بسحْرِه بينَ الزوجَين

(5)

.

وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قاله عددٌ مِن أهلِ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} : وتفريقُهما أن يؤَخَّذَ

(6)

(1)

ينظر ما تقدم في ص 350 وما بعدها.

(2)

في م: "منه".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تسببه".

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 198، 199.

(5)

في م: "المرء وزوجه".

(6)

التأخيذ: أن تحتال المرأة بحيل في منع زوجها عن جماع غيرها وذلك نوع من السحر. اللسان (أ خ ذ).

ص: 359

كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبِه، ويُبغَّضَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبِه

(1)

.

وأما الذين نفَوا

(2)

أن يكونَ الملَكان يعلِّمان الناسَ التفريقَ يينَ المرء وزوجِه، فإنهم وجَّهوا تأويلَ قولِه:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} . إلى: فيتعلَّمون مكانَ ما علَّماهم ما يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه، كقولِ القائلِ: ليت لنا [من كذا، كذا وكذا]

(3)

كما قال الشاعرُ

(4)

:

جَمَعْتَ من الخيراتِ وَطْبًا وعُلبَةً

(5)

وصَرًّا لأخْلافِ

(6)

المُزَمَّمَةِ

(7)

البُزْلِ

(8)

ومِن كلِّ أخْلاقِ الكِرامِ نَميمةً

وَسَعْيًا على الجارِ المُجاوِرِ بالمَحْلِ

(9)

يريدُ بقولِه: جَمَعْتَ

(10)

مكانَ خيراتِ الدنيا هذه الأخلاقَ الرديئةَ والأفعالَ الدنيئةَ. ومنه قولُ الآخرِ:

صَلَدَتْ

(11)

صَفَاتُك

(12)

أن تَلِينَ حُيُودُها

(13)

وَوَرِثْتَ من سَلَفِ الكِرَامِ عُقُوقا

(1)

أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 193 (1015، 1016) من طريق أبي جعفر وسعيد بن بشير، عن قتادة نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 103 الى عبد حميد.

(2)

في م: "أبوا"، وفى ت 2، ت 3:"بنوا".

(3)

في م: "كذا من كذا. أى مكان كذا".

(4)

البيتان في أمالى المرتضى 1/ 421 دون نسبة.

(5)

العلبة: قدح ضخم من جلود الإبل. التاج (ع ل ب).

(6)

الأخلاف جمع الخِلف: وهو ضرع الناقة. اللسان (خ ل ف).

(7)

في م: "المذممة"، وفى نسختين من الأمالي:"المزهمة" والمزممة: النوق التى علقت عليها الأزمة. اللسان (ز م م).

(8)

البزل جمع بازل، ويقال ذلك للبعير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه. اللسان (ب ز ل).

(9)

في م، ت 2:"بالنجل". والمحل: المكر والكيد. اللسان (م ح ل).

(10)

بعده في م، ت 1، ت 2:"من الخيرات"، وبعده في ت 3:"من الخبرات مكان هذه الخيرات".

(11)

صلدت الأرض: صلبت فلم تنبت شيئا. التاج (ص ل د).

(12)

الصفاة: الصخرة الملساء. اللسان (ص ف ا).

(13)

في ت 1، ت 3:"جلودها"، وفى ت 2:"جنودها". وجبل ذو حيود: إذا كانت له حروف ناتئة=

ص: 360

يعنى: وَرِثتَ مكانَ سلفِ الكرامِ عُقوقًا مِن ولدِك

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .

يعنى بقولِه جلّ ثناؤُه: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : وما المتعلِّمون مِن الملَكَين هاروتَ وماروتَ ما يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه، بضارِّين بالذى تعلَّموه منهما مِن المعنى الذى يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه، من أحدٍ من الناسِ، إلا من قد قضَى اللهُ عليه أن ذلك يضُرُّه، فأما مَن دفَع اللهُ عنه ضُرَّه وحفِظه مِن مكروهِ السحرِ والنَّفْثِ والرُّقى، فإن ذلك غيرُ ضارِّه ولا نائلِه أذَاه.

وللإذْنِ في كلامِ العربِ أوجهٌ؛ منها الأمرُ على غيرِ وجهِ الإلزامِ، وغيرُ جائزٍ أن يكونَ منه قولُه:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ؛ لأن اللهَ جلّ ثناؤُه قد حرَّم التفريقَ بينَ الرجلِ

(2)

وحليلتِه بغيرِ سحرٍ -فكيف به على وجهِ السحرِ- على لسانِ الأُمةِ؟ ومنها التخليةُ بينَ المأذونِ له والمخلَّى بينَه وبينَه. ومنها العلمُ

(3)

بالشئِ، يقالُ منه: قد أذِنْتُ بهذا الأمرِ، إذا علِمتَ به، آذَنُ به إذنًا. ومنه قولُ الحطيئةِ

(4)

:

ألا يا هِنْدُ إن جَدَّدْتِ وَصْلًا

وإلَّا فائْذنِينى بانْصِرامِ

يعنى: فأعلِمينى.

= في أعراضه لا في أعاليه. التاج (ح ى د).

(1)

في م: "والديك".

(2)

في م: "المرء".

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"العمل".

(4)

البيت ليس في ديوانه،: هو في التبيان 1/ 380.

ص: 361

ومنه قولُه جلّ ثناؤُه: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]. وهذا هو معنى الآيةِ، كأنه قال جلّ ثناؤُه: وما هم بضارين بالذى تعلَّموا مِن الملَكَين مِن أحدٍ إلا بعلمِ اللهِ. يعنى: بالذى سبَق له في علمِ اللهِ أنه يضرُّه.

كما حدَّثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن سفيانَ في قولِه:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . قال: بقضاءِ اللهِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} .

يعنى [جلَّ ثناؤُه بقولِه]

(2)

: {وَيَتَعَلَّمُونَ} . أى: الناسُ الذين يتعلَّمون من الملَكَين، ما أنزِل إليهما

(3)

من المعنى الذى يفرِّقون به بينَ المرءِ وزوجِه، يتعلَّمون منهما السحرَ الذى يضرُّهم في دينِهم، ولا ينفعُهم في مَعادِهم؛ فأما في العاجلِ في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسِبون به ويُصيبون به معاشًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . الفريقَ الذين [أخبرَ عنهم أنهم]

(4)

لمَّا جاءهم رسولٌ من عندِ اللهِ مصدِّقٌ لما معهم، نبَذوا كتابَ اللهِ وراءَ ظهورِهم كأنهم لا يعلمون، واتَّبَعوا ما تتلو الشياطينُ على ملكِ سليمانَ. فقال جلَّ ثناؤُه: لقد علِم النابِذون مِن يهودِ بنى إسرائيلَ،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 194 (1020) من طريق ابن المبارك به.

(2)

في م، ت 1، ت 3:"بذلك جلَّ ثناؤه".

(3)

في م: "عليهما".

(4)

سقط من، م، وفى ت 1، ت 3:"أنهم".

ص: 362

كتابي وراءَ ظهورِهم تجاهلًا منهم، التاركون العملَ بما فيه، من اتباعِك يا محمدُ واتباعِ ما جئتَ به، بعدَ إنزالى إليك كتابى مصدِّقًا لما معهم، وبعدَ إرساليك إليهم بالإقرارِ بما معهم وما في أيديهم، المؤثِرون عليه اتباعَ السحرِ الذى تَلته الشياطينُ على عهدِ سليمانَ، والذى أنزِل على الملَكَين ببابلَ هاروتَ وماروتَ - لمن اشتَرى السحرَ بكتابي الذى أنزَلتُه على رسولى فآثرَه عليه ما له في الآخرةِ من خلاقٍ.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} . [أى: لمَن استحبَّه]

(1)

، {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} يقولُ: قد علِم ذلك أهلُ الكتابِ في عهدِ اللهِ إليهم؛ أن الساحرَ لا خلاقَ له عندَ اللهِ يومَ القيامةِ

(2)

.

وحدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} يعنى: اليهودَ، يقولُ: قد علِمَت اليهودُ أن من تعلَّمه و

(3)

اختاره ما له في الآخرةِ من خلاقٍ

(4)

.

وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} : لمن اشتَرى ما يفرِّق به بينَ المرءِ وزوجِه

(5)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 195 (1024) من طريق يزيد به، إلى قوله: لمن استحبه. وأخرج باقيه 1/ 195 (1023، 1029) من طريق سعيد وغيره عن قتادة.

(3)

في م، ت 1، ت 3:"أو".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 195 (1030) من طريق عمرو بن حماد به، إلى قوله: اليهود.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 195 (1025) من طريق أبي حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح من قوله.

ص: 363

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال: قد علِمت يهودُ أن في كتابِ اللهِ في التوراةِ، أن من اشتَرى السحرَ، وترَك دينَ اللهِ، ما له في الآخرةِ من خلاقٍ، [ومن لم يكنْ له خَلاقٌ]

(1)

، فالنارُ مثْواه ومأْواه

(2)

.

وأما قولُه: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} . فإن "مَن" في موضعِ رفعٍ، وليس قولُه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا} . بعاملٍ فيها؛ لأن قولَه: {عَلِمُوا} . بمعنى اليمينِ، فلذلك كانت "مَن"

(3)

في موضعِ رفعٍ؛ لأن الكلامَ بمعنى: واللهِ لَمن اشتَرى السحرَ ما له في الآخرةِ من خلاقٍ. ويكونُ

(4)

قولُه: {عَلِمُوا} . بمعنى اليمينِ، أُجِيبَ

(5)

بلامِ اليمينِ، فقيل:{لَمَنِ اشْتَرَاهُ} . كما يقالُ: أقسِمُ لَمَن قام خيرٌ ممن قعَد. وكما يقالُ: قد علمتَ لعمرٌو خيرٌ من أبيك. وأما "مَن" فهو حرفُ جَزاءٍ، وإنما قيل: اشتَراه. ولم يقلْ: يشترِه

(6)

؛ لدخولِ لامِ القسمِ على "مَن"، ومِن شأنِ العربِ إذا أحدَثت على حرفِ الجزاءِ لامَ القسمِ، ألا ينطِقوا في الفعلِ معه إلا بـ "فَعَل" دونَ " يفْعَل" إلا قليلًا؛ كراهةَ أن يُحدِثوا على الجزاءِ حادثًا وهو مجزومٌ، كما قال اللهُ جلَّ ثناؤه:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} [الحشر: 12]. وقد يجوزُ إظهارُ فعلِه بعدَه على "يفعلُ" مجزومًا، كما قال الشاعرُ

(7)

:

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 3.

(2)

ينظر التبيان للطوسي 1/ 381.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 3.

(4)

في م، ت 2:"لكون".

(5)

في م: "حققت"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"خففت".

(6)

في م: "يشتروه".

(7)

معانى القرآن للفراء 1/ 66 ونسبه في 2/ 131 إلى الكميت بن معروف عن الكسائي، وهو في الخزانة 10/ 68.

ص: 364

لَئن تكُ قد ضاقَتْ عليكم بُيوتُكمْ

لَيَعْلَمُ ربِّى أنَّ بَيتىَ واسِعُ

واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ؛ فقال بعضُهم: الخلاقُ في هذا الموضعِ النصيبُ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . يقولُ: من نصيبٍ

(1)

.

وحدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال: من نصيبٍ

(2)

.

وحدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: قال سفيانُ: سمِعنا في قولِه: {مَا

(3)

لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. أنه: ما له في الآخرةِ من نصيبٍ.

وقال آخرون

(4)

: الخَلاقُ هاهنا: الجِهةُ

(5)

.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 103 إلى المصنف، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 195 عقب الأثر (1026) معلقا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 195 عقب الأثر (1026) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

في الأصل، م، ت 1، ت 3:"وما".

(4)

في م، ت 1، ت 3:"بعضهم".

(5)

في م: "الحجة".

ص: 365

قتادةَ: {مَا

(1)

لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. قال: ليس له في الآخرةِ جهةٌ

(2)

.

وقال آخرون: الخَلاقُ الدينُ.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، قال: قال الحسنُ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} قال: ليس له دينٌ

(3)

.

وقال آخرون: الخلاقُ هاهنا القِوامُ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: قال ابنُ عباسٍ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال: قِوامٌ

(4)

.

وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ من قال: معنى الخلاقِ في هذا الموضعِ النصيبُ. وذلك أن ذلك معناه في كلامِ العربِ. ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَيُؤيِّدنَّ اللهُ هذا الدينَ بأقوامٍ لا خلاقَ لهم"

(5)

. يعنى: لا نصيبَ لهم ولا حظَّ في الإسلامِ والدينِ. ومنه قولُ أميةَ بنِ أبي الصلتِ

(6)

:

(1)

في الأصل، م، ت 1، ت 3:"وما".

(2)

في م: "حجة"، وفى تفسير عبد الرزاق:"جنة"، وفى تفسير ابن كثير 1/ 207 عن عبد الرزاق:"جهة".

والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 54، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 195 (1027) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 54، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 195 (1028) عن الحسن بن يحيى به.

(4)

عزاه في الدر المنثور 1/ 103 إلى المصنف.

(5)

حديث صحيح: أخرجه النسائى في الكبرى (8885)، وابن حبان (4517) من حديث أنس. وأخرجه

أحمد 5/ 45 (الميمنية) من حديث أبى بكرة، ولفظه:"إن الله تبارك وتعالى سيؤيد. . .".

(6)

ديوانه ص 54.

ص: 366

يَدْعون بالوَيْلِ فيها لا خلاقَ لهم

إلا سرابيلُ مِن قِطْرٍ

(1)

وأغلالُ

يعنى بذلك: لا نصيبَ لهم ولا حظَّ إلا السرابيلُ [والأغلالُ]

(2)

.

فكذلك قولُه: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} : ما له في الدارِ الآخرةِ حظٌّ من الجَنةِ، من أجلِ أنه لم يكنْ له إيمانٌ ولا دينٌ ولا عملٌ صالحٌ يجازَى به الجنةَ ويثابُ عليه، فيكونَ له حظٌّ ونصيبٌ من الجنةِ. وإنما قال جلَّ ثناؤه:{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . فوصَفه بأنه لا نصيبَ له في الآخرةِ، وهو يعنى به: لا نصيبَ له من جزاءٍ وثوابٍ وجنةٍ، دونَ نصيبِه من النارِ؛ إذ كان قد دلَّ بذمِّه

(3)

جلَّ ثناؤه أفعالَهم التى نفَى من أجلِها أن يكونَ لهم في الآخرةِ نصيبٌ، على مرادِه من الخيرِ، وأنه إنما يعنى بذلك أنه لا نصيبَ لهم فيها من الخيراتِ، فأما من الشرورِ فإن لهم منها

(4)

فيها [أنصباءَ وأنصباءَ]

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} .

قد دلَّلنا فيما مضَى قبلُ على أن معني: {شَرَوْا} : باعُوا

(6)

. فمعنى الكلامِ إذن: ولبئسَ ما باع به نفْسَه مَن تعلَّم السحرَ لو كان يعلمُ سوءَ عاقبتِه.

كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:

(1)

القطر: النحاس الذائب. تاج العروس (ق ط ر).

(2)

زيادة من: م، ت 1، ت 3.

(3)

في م: "ذمه".

(4)

سقط من: م.

(5)

في م، ت 1، ت 3:"نصيبا".

(6)

ينظر ما تقدم في ص 245.

ص: 367

{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يقولُ: بئس ما باعوا به أنفسَهم

(1)

.

فإن قال لنا قائل: وكيف قال جلَّ ثناؤه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وقد قال قبلُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . فكيف يكونون عالِمين بأن من تعلَّم السحرَ فلا خلاقَ له

(2)

، وهم يجهَلون أنهم بئسَ ما شرَوْا بالسحرِ أنفسَهم؟

قيل: معنى ذلك على غيرِ الوجهِ الذى توهَّمتَه من أنهم مرصوفون [بجهلِ ما]

(3)

هم موصوفون بالعلمِ به، ولكنَّ ذلك من المؤخَّرِ الذى معناه التقديمُ، وإنما معنى الكلامِ: وما هم بضارِّين به من أحدٍ إلا بإذنِ اللهِ، ويتعلَّمون ما يضرُّهم ولا ينفعُهم، ولبئس ما شرَوْا به أنفسَهم لو كانوا يعلَمون، ولقد علِموا لمن اشتَراه ما له في الآخرةِ من خلاقٍ. فقولُه:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . ذمٌّ من اللهِ تعالى ذكرُه فعْلَ المتعلِّمين من المَلَكَين التفريقَ بينَ المرءِ وزوجِه، وخبرٌ منه جلَّ ثناؤه عنهم أنهم بئس ما باعوا

(4)

أنفسَهم، برضاهم بالسحرِ عِوضًا من

(5)

دينِهم الذى به نجاةُ أنفسِهم من الهلكةِ، جهلًا منهم بسوء عاقبةِ فعلِهم، وخسارةِ صفقةِ بيعِهم؛ إذ كان قد يتعلَّمُ ذلك منهما من لا يعرِفُ اللهَ، ولا يعرِفُ حلالَه وحرامَه، وأمرَه ونهيَه. ثم عاد إلى الفريقِ الذى أخبَر عنهم أنهم نبَذوا كتابَه وراءَ ظهورِهم كأنهم لا يعلَمون، واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشياطِينُ على ملْكِ سليمانَ وما أُنْزِل على الملَكَينِ، فأخبَر عنهم أنهم قد علِموا أن من اشتَرى السحرَ ما له في الآخرةِ من

(1)

تقدم تخريجه في ص 246.

(2)

في م، ت 3:"لهم".

(3)

في م، ت 1، ت 3:"بالجهل بما".

(4)

في م: "شروا به".

(5)

في م: "عن".

ص: 368

خلاقٍ، ووصَفهم بأنهم يركَبون معاصىَ اللهِ على علمٍ منهم بها، ويكفُرون باللهِ ورسلِه، ويُؤْثِرون اتباعَ الشياطينِ والعملَ بما أحدَثَتْهُ من السحرِ، على العملِ بكتابِه ووحيِه وتنزيلِه، عنادًا منهم له

(1)

، وبغيًا على رسلِه، وتعدِّيًا منهم حُدودَه، على معرفةٍ منهم بما لِمَنْ فعَل ذلك عندَ اللهِ من العقابِ والعذابِ. فذلك تأويلُ ذلك

(2)

.

وقد زعَم بعضُ الزاعِمين أن قولَه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . معنىٌّ

(3)

به الشياطينُ، وأن قولَه:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} معنيٌّ

(3)

به الناسُ.

وذلك قولٌ [لقولِ جميعِ]

(4)

أهلِ التأويلِ مخالفٌ. وذلك أنهم مُجْمِعون على أن قولَه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} . معنىٌّ به اليهودُ دونَ الشياطينِ، ثم هو مع ذلك خلافُ ما دلَّ عليه التنزيلُ؛ لأن الآياتِ قبلَ قولِه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا} . وبعدَ قولِه: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جاءت من اللهِ بذَمِّ اليهودِ، وتوبيخِهم على ضلالِهم [ذَهابِهم عن]

(5)

وحىِ اللهِ وآياتِ كتابِه

(6)

، مع علمِهم بخطأِ فعلِهم، فقولُه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . أحدُ تلك الأخبارِ عنهم.

وقال بعضُهم: إن الذين وصَف اللهُ بقولِه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 3.

(2)

في م، ت 1، ت 3:"قوله".

(3)

في م، ت 1، ت 3:"يعنى".

(4)

في م، ت 1، ت 3:"لجميع".

(5)

في م: "وذما لهم على نبذهم"، وفى ت 1:"وذما لهم من نبذهم".

(6)

بعده في م: "وراء ظهورهم".

ص: 369

أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فنفَى عنهم العلمَ، هم الذين وصَفهم اللهُ بقولِه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . وإنما نفَى عنهم جلّ ثناؤُه العلمَ بقولِه: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . بعدَ وصفِه إياهم بأنهم قد علِموا بقولِه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} . من أجلِ أنهم لم يعمَلوا بما علِموا، وإنما العالِمُ، العاملُ بعلمِه، فأما إذا خالَف عملُه علمَه، فهو في معانى الجهَّالِ. قالوا

(1)

: وقد يقالُ للفاعلِ الفعلَ بخلافِ ما ينبغى أن يفعلَ، وإن كان بفعلِه عالِمًا: لو علِمتَ لأقصَرتَ. كما قال كعبُ بنُ زهيرٍ المزنيُّ، وهو يصِفُ ذئبًا وغُرابًا تبِعاه لينالا من طعامِه وزادِه

(2)

:

إذا حضَرانى قلتُ لو تَعْلَمانه

ألم تَعْلَما أنى مِن الزَّادِ مُرْمِلُ

(3)

فأخبرَ أنه قال لهما: لو تعلَمانه. فنفَى عنهما العلمَ، ثم استخبرَهما فقال: ألم تعلَما. قالوا: فكذلك قولُه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} . و: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

وهذا تأويلٌ، وإن كان له مخرَجٌ ووجهٌ، فإنه خلافُ الظاهرِ المفهومِ بنفسِ الخطابِ، أعنى بقولِه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا} . وقولِه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وإنما هو استخراجٌ. وتأويلُ القرآنِ على المفهومِ الظاهرِ بالخطابِ دونَ الخفيِّ الباطنِ منه -حتى تأتىَ دَلالةٌ من الوجهِ الذى يجبُ التسليمُ له، بمعنًى خلافِ دليلِه الظاهرِ المتعارَفِ في أهلِ اللسانِ الذين بلسانِهم نزَل القرآنُ- أَولى

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

(1)

في م: "قال".

(2)

شرح ديوان كعب بن زهير ص 51.

(3)

المرمل: الذى نفد زاده، وأصله من الرمل، كأنه لصق بالرمل. اللسان (ر م ل).

(4)

سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 370

خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}

يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} : لو أن الذين يتعَلَّمون من الملَكَين ما يُفَرِّقون به بينَ المرءِ وزَوْجِه {آمَنُوا} فصدَّقوا اللهَ ورسولَه، وما جاءهم به من عندِ ربِّهم {وَاتَّقَوْا} ربَّهم فخافُوه، وخافوا عقابَه، فأطاعوه بأداءِ فرائِضه، وتجنُّبِ

(1)

معاصِيه - لكان جزاءُ اللهِ إياهم، وثوابُه لهم على إيمانِهم به وتقواهم إياه، خيرًا لهم من السحرِ وما اكْتَسَبوا به، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن ثوابَ اللهِ إيَّاهم على ذلك خيرٌ لهم من السحرِ ومما اكْتَسَبوا به. وإنما نفَى بقولِه:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . العلمَ عنهم أن يكونوا عالِمين بمَبْلَغِ ثوابِ اللهِ وقَدْرِ جزائِه على طاعتِه.

والمَثُوبَةُ في كلامِ العربِ مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: أثَبْتُك إثابةً وثَوابًا ومَثوبةً. وأصلُ ذلك مِن: ثاب إليك الشئُ. بمعنى: رجَع. ثم يقال: أثَبتُه إليك. أى: أرجَعْتُه

(2)

إليك وردَدْتُه. فكأنَّ

(3)

معنى إثابةِ الرجلِ الرجلَ على الهَدِيَّةِ وغيرِها، إرجاعُه إليه

(4)

منها بَدَلًا، ورَدُّه عليه منها عِوَضًا. ثم جُعِل كلُّ مُعَوِّضٍ غيرَه من عملِه أو هديَّتِه أو يدٍ له سلَفت منه إليه مُثِيبًا له. ومنه ثوابُ اللهِ عز وجل عبادَه على أعمالِهم، بمعنى إعطائِه إياهم العِوَضَ والجزاءَ عليه، حتى يَرْجِعَ إليهم بَدَلٌ مِن عملِهم الذى عمِلوه له.

وقد زعَم بعضُ نحويِّى أهلِ

(5)

البصرةِ أن قولَه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ

(1)

في م، ت 1، ت 3:" تجنبوا".

(2)

في م، ت 3:"رجعته".

(3)

في م: "فكان".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إليها".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 371

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}. مما اكْتُفى بدَلالةِ الكلامِ على معناه عن ذكرِ جوابِه، وأن معناه: ولو أنهم آمَنوا واتَّقَوْا لأُثِيبوا. ولكنه اسْتُغْنى بدَلالةِ الخبرِ على المثوبةِ عن قولِه: لأُثِيبوا.

وكان بعضُ نحويِّي الكوفةِ

(1)

ينكِرُ ذلك، ويرَى أن جوابَ قولِه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} - {لَمَثُوبَةٌ} وأن "لو" إنما أُجِيبت بالمثوبةِ، وإن كانت أجْوِبتُها

(2)

بالماضى مِن الفعلِ، لتقارُبِ معناها مِن معنى "لئن" في أنهما جزاءان، وأنهما جوابان للإيمانِ، فأُدْخِل جوابُ كلِّ واحدةٍ منهما على صاحبتِها، فأجِيبت "لو" بجوابِ "لئن" و "لئن" بجواب "لو"، لذلك، وإن اخْتَلَفت أجوبتُهما، وكانت "لو" مِن حكمِها وحظِّها أنْ تُجابَ بالماضى مِن الفعلِ، وكانت "لئن" مِن حكمِها وحظِّها أن تجابَ بالمستقبلِ مِن الفعلِ، لِما وصَفْنا من تقارُبهما. فكان يتَأوّلُ معنى قولِه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} : ولئن آمَنوا واتَّقَوا لمثوبةٌ مِن عندِ اللهِ خيرٌ.

وبما قلنا في تأويلِ قولِه: {لَمَثُوبَةٌ} . قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يقولُ: ثوابٌ مِن عندِ اللهِ

(3)

.

وحدَّثنى موسى

(4)

، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : أما المثوبةُ فهو الثوابُ

(5)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أهل البصرة".

(2)

في م: "أخبر عنها".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 54.

(4)

في م: "يونس".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 196 عقب الأثر (1033) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

ص: 372

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} . يقولُ: لثوابٌ مِن عندِ اللهِ

(1)

.

*القولُ فى تأويلِ قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأْويلِ قولِه: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} ؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: لا تقولوا خِلافًا.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . قال: لا تقولوا خِلافًا

(2)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} : لا تقولوا خِلافًا

(3)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 196 عقب الأثر (1033) من طريق ابن أبى جعفر به.

(*) من هنا بداية الجزء الرابع من مخطوطة جامعة القرويين بفاس وسيشار إليها بالأصل، وسيجد القارئ أرقام صفحاتها بين معقوفين.

(2)

تفسير الثورى 1/ 47، 48.

(3)

تفسير مجاهد ص 210، 283، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 197، 3/ 966 (1040، 5399)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 104، 2/ 168 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105.

ص: 373

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازِىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِىُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وقال آخَرون: تأويلُه: أَرْعِنا سمْعَك. أىْ: اسْمَعْ مِنَّا ونسمَعَ منك.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبى محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{رَاعِنَا} . أى: أرْعِنا سمْعَك

(1)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو

(2)

، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . لا تقولوا: اسمعْ منَّا ونَسْمَعَ منك

(3)

.

وحُدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفَرَجِ، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرَنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضَّحَّاكَ يقولُ في قولِه: {رَاعِنَا} . قال: كان الرجلُ مِن المشركين يقول: أرْعِنى سمْعَك.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى السببِ الذى مِن أجْلِه نهَى اللهُ المؤمنين أن يقولوا:

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 560.

(2)

فى الأصل: "عمر".

(3)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 104 إلى المصنف.

ص: 374

راعِنا؛ فقال بعضُهم: هى كلمةٌ كانت اليهودُ تقولُها على وجْهِ الاستهزاءِ والسبِّ

(1)

، فنهَى الله تعالى ذكرُه المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبىِّ صلى الله عليه وسلم.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} : قولٌ كانت تقولُه اليهودُ استهزاءً، فزجَر اللهُ المؤمنين أن يقولوا كقولِهم

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيْرِىُّ، عن فُضَيْلِ

(3)

بنِ مرزوقٍ، عن عطيةَ:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . قال: كان أناسٌ مِن اليهودِ يقولون: أرْعِنا سمْعَك. حتى قالها أناسٌ مِن المسلمين، فكرِه اللهُ لهم ما قالت اليهودُ، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . كما قالت اليهودُ والنصارَى

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} . قال: كانوا يقولون: راعِنا سمْعَك. فكان اليهودُ يأتون فيقولون مثلَ ذلك مستهْزِئين، فقال اللهُ:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}

(5)

.

وحُدِّثتُ عن المِنْجابِ، قال: ثنا بِشْرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ،

(1)

فى م: "المسبة".

(2)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 104 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبى نعيم في الدلائل.

(3)

في الأصل: "فضل". وينظر تهذيب الكمال 23/ 305.

(4)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 197، 3/ 966 عقب الأثر (1038، 5398) معلقًا عن عطية، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 104 إلى المصنف وأبى نعيم في الدلائل.

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 54. وينظر ما سيأتى في 7/ 107.

ص: 375

عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . قال: كانوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: راعِنا سمْعَك. وإنما {رَاعِنَا} كقولِك: عاطِنا

(1)

.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ

(2)

زيدٍ في قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} قال: {رَاعِنَا} القولُ الذى قاله القومُ؛ قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]. قال: قال: هذا الراعِنُ -والراعِنُ الخطأُ

(3)

- قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا خطأً

(4)

كما قال القومُ، وقولوا: انظُرْنا واسْمَعوا. قال: كانوا يَنْظُرون إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ويُكَلِّمونه ويَسْمَعُ منهم، ويسأَلونه ويُجِيبُهم.

وقال آخَرون: بل هى كلمةٌ كانت الأنصارُ في الجاهليَّةِ تقولُها، فنهاهم اللهُ فى الإسلامِ أن يقولوها لنبيِّه صلى الله عليه وسلم.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الملكِ

(5)

، عن عطاءٍ في قولِه:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} قال: كانت لغةً فى الأنصارِ فى الجاهليَّةِ، فنزَلت هذه الآيةُ:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} ولكن {وَقُولُوا انْظُرْنَا} إلى

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 96، 3/ 966 (1038، 5398)، والطبرانى في الكبير (12659) من طريق المنجاب به. وينظر الدلائل لأبى نعيم ص 44 (6)، والفتح 8/ 163.

(2)

فى الأصل: "أبو".

(3)

فى م: "الخطاء".

(4)

فى م: "خطاء".

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الرزاق".

ص: 376

آخرِ الآيةِ

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . قال: كانت لغةً في الأنصارِ.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ فى قولِه:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . قال: إن مُشرِكى العربِ كانوا إذا حدَّث بعضُهم بعضًا يقولُ أحدُهم لصاحبِه: أرْعِنى سمْعَك. فنُهُوا عن ذلك

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: {رَاعِنَا} قولُ الساخِرِ، فنَهاهم أن يَسْخَروا مِن قولِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضُهم: بل كان ذلك كلامَ يهودىٍّ مِن اليهودِ بعينِه، يقال له: رفاعةُ بنُ زيدٍ. كان يُكَلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم به

(3)

على وجْهِ السَّبِّ له، وكان المسلمون أخَذوا عنه ذلك، فنهَى اللهُ المؤمنين عن قِيلِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ: {يَاأَيُّهَا

(1)

أخرجه النحاس فى ناسخه ص 104 من طريق هشيم به، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 197 (1039) من طريق عبد الملك به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 104 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 197 عقب الأثر (1038) من طريق أبى جعفر به.

(3)

سقط من: الأصل.

ص: 377

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}: كان رجلًا مِن اليهودِ، مِن قبيلةٍ مِن اليهودِ يقالُ لهم: بنو قَيْنُقَاعَ. كان يُدْعَى رفاعةَ بنَ زيدِ بنِ السائبِ -قال أبو جعفرٍ: هذا خطأٌ، إنما هو ابنُ التابوتِ، ليس ابنَ السائبِ- كان يأتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فإذا لقِيَه فكلَّمَه فقال: أرْعِنى سمْعَك، واسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ. فكان المسلمون يَحْسَبون أن الأنبياءَ كانت تُفَخَّمُ

(1)

بهذا، فكان ناسٌ منهم يقولون: اسمعْ غيرَ مُسْمَعٍ. كقولِك: اسمعْ غيرَ صاغرٍ. هى

(2)

التى فى "النساءِ": {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء: 46]. يقولُ: إنما يُرِيدُ بقولِه طَعْنًا فِى الدّينِ. ثم تقدَّم إلى المؤمنين فقال: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}

(3)

.

والصوابُ مِن القولِ في نهْىِ اللهِ جلَّ ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيِّه: {رَاعِنَا} أن يقالَ: إنها كلمةٌ كرِهها اللهُ لهم أن يقولوها لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، نظيرَ الذى ذُكِر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تَقُولُوا للعِنَبِ الكَرْمَ، ولكِن قولوا الحَبَلَةَ"

(4)

. و"لا تَقُولُوا عَبْدِى، ولكِنْ قُولُوا فتَاىَ"

(5)

.

وما أشبهَ ذلك مِن الكلمتينِ اللَّتينِ تكونان مستعمَلتين بمعنًى واحدٍ فى كلامِ العربِ، فتأتى الكراهةُ أو النهىُ باستعمالِ إحداهما، واختيارِ الأُخْرَى عليها فى المخاطَباتِ.

(1)

فى الأصل، ت 2، ت 3:"تعجم".

(2)

فى م: "وهى".

(3)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 104 إلى المصنف وابن المنذر، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 214.

(4)

أخرجه الدارمى 2/ 118، ومسلم (2248) من حديث وائل بن حجر، وأخرجه البخارى (6182)، ومسلم (2247)، وغيرهما من حديث أبى هريرة، دون قوله:"ولكن قولوا الحبلة".

(5)

أخرجه البخارى (2552)، ومسلم (2249) من حديث أبى هريرة نحوه.

ص: 378

فإن قال

(1)

قائلٌ: فإنَّا قد علِمْنا معنى نَهْىِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فى العِنَبِ أن يقالَ له: كَرْمٌ. وفى العبدِ أن يقالَ له: عبدٌ. فما المعنى في قولِه: {رَاعِنَا} . حينئذٍ الذى مِن أجلِه كان النهىُ مِن اللهِ جل ثناؤه المؤمنين عن أن يقولوه، حتى أمَرَهم أن يُؤْثِروا قولَهم

(2)

: {انْظُرْنَا} عليه

(3)

؟

قيل: الذى فيه مِن ذلك نظيرُ الذى فى قولِ القائلِ: الكَرْمُ. للعنبِ، و: العبدُ. للمملوكِ. وذلك أن قولَ القائلِ: عبدٌ. [صفةُ جميعِ]

(4)

عبادِ اللهِ، فكرِه النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُضَافَ بعضُ عبادِ اللهِ -بمعنى المعبودِ

(5)

- إلى غيرِ

(6)

اللهِ، وأمَر أنَ يُضَافَ ذلك إلى غيرِه، بغيرِ المعنى الذى يُضافُ إلى اللهِ عز وجل، فيقال:[فتى اللهِ]

(7)

. وكذلك وجهُ نهيِه في العنبِ أن يقالَ لها: كَرْمٌ. [لأن الكَرْمَ مصدرٌ من كرَم كرْمًا]

(8)

، وإن كانت راؤُها (3) مُسَكَّنةً، فإن العربَ قد تُسَكِّنُ بعضَ الحركاتِ إذا تتابَعت على [نوعٍ واحدٍ]

(9)

، فَكرِه أن يُوصفَ

(10)

بذلك العنبُ. فكذلك نهَى اللهُ عز وجل المؤمنين أن يقولوا: راعِنا. لما كان قولُ القائل: راعِنا. محتمِلًا أن يكونَ بمعنى: احْفَظْنا ونَحْفَظَك، وارْقُبْنا ونَرْقُبَك. مِن قولِ العربِ بعضِهم لبعضٍ: رعاك

(1)

بعده فى م: "لنا".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قوله".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"لجميع".

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"العبودية".

(6)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(7)

فى م: "فتاى".

(8)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"خوفًا من توهم وصفه بالكرم".

(9)

فى الأصل ك "تنوع واحدة".

(10)

فى م: "يتصف".

ص: 379

اللهُ. بمعنى: حفِظك اللهُ وكَلأك. ومحتمِلًا أن يكونَ بمعنى: أرْعِنا سمْعَك. مِن قولِهم: أرْعَيتُ به (1) سمعِى إرعاءً. أو: راعَيْتُه سمعِى رِعاءً أو مُراعاةً. بمعنى: فرَّغْتُه لسماعِ كلامِه. كما قال الأَعْشى ميمونُ بنُ قيسٍ (2):

يُرْعِى إلى قَوْلِ ساداتِ الرِّجالِ إذَا

أبْدَوْا لهُ الحَزْمَ أو ما شاءَه ابْتَدَعا

يعنى بقولِه يُرْعِى: يُصْغِى سمعَه إليه مُفَرِّغَه لذلك.

وكأنَّ اللهَ جل ثناؤه قد أمَر المؤمنين بتوقيرِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم وتعظيمِه، حتى نهاهم جلّ ذكرُه فيما نهاهم عنه، عن رفعِ أصواتِهم فوقَ صوتِه، وأن يَجْهَرُوا له بالقوْلِ كجَهْرِ بعضِهم لبعضٍ، وخوَّفَهم على ذلك حبوطَ أعمالِهم، تقدَّم (3) إليهم بالزجرِ لهم عن أن يقولُوا له من القولِ ما فيه جَفاءٌ، وأمَرَهم أن يَتَخَيَّرُوا لخطابِه من الألفاظِ أحسنَها، ومن المعاني أَرَقَّها، فكان من ذلك قولُهم:{رَاعِنَا} . لِمَا فيه (4) احتمالُ معنى: ارْعَنا نَرْعَك. إذ كانت المفاعلةُ لا تكونُ إلا مِن اثنين، كما يقولُ القائلُ: عاطِنا وحادِثْنا وجالِسْنا. بمعنى: افعَلْ بنا نَفْعَلْ بك. ومعنى: أَرْعِنا سمعَك حتى نَفهمَك وتَفهمَ عنا. فنَهَى اللهُ تعالى ذكرُه أصحابَ محمدٍ أن يقولوا ذلك كذلك، وأمرَهم (5) أن يُفْرِدُوا مسألَتَه بانتظارِهم وإمهالِهم؛ ليَعْقِلوا عنه، بتَبْجِيلٍ منهم له وتعظيمٍ، وألَّا يَسألُوه ما سأَلوه من ذلك على وجهِ الجَفاءِ والتَّجَهُّمِ منهم له، ولا بالفظاظةِ والغِلْظةِ، تَشْبيهًا منهم باليهودِ في خطابِهم نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولِهم له:{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا} [النساء: 46]. يَدُلُّ على صحةِ ما قُلْنا في ذلك قولُه:

ص: 380

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]. فدلَّ بذلك أن الذي عاتَبهم

(1)

عليه مما يَسُرُّ اليهودَ والمشركِين.

فأما التأويلُ الذي حُكِى عن مجاهدٍ في قولِه: {رَاعِنَا} . أنه بمعنى: خِلافًا. فما

(2)

لا يُعْقَلُ في كلامِ العربِ، لأنَّ "رَاعَيْتُ" في كلامِ العربِ إنما هو على أحدِ وجهَيْن؛ أحدُهما، بمعنى: فاعَلْتُ، من الرِّعْيةِ، وهي [الرِّقْبةُ والكَلاءةُ]

(3)

. والآخرُ، بمعنى إفراغِ السمعِ، بمعنى: أَرْعَيْتُه سمعى. وأما "راعَيْتُ" بمعنى: "خالَفْتُ"، [فما لا]

(4)

وجهَ له مفهومٌ في كلامِ العربِ، إلا أن يكونَ قَرأ ذلك بالتنوينِ، ثم وَجَّهه إلى معنى الرُّعُونةِ والجهلِ والخطأ، على النحوِ الذي قال في ذلك عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ، فيكونُ لذلك -وإن كان مخالفًا قراءةَ القَرَأةِ- معنى مفهومٌ حينئذٍ.

وأما القولُ الآخرُ الذي حُكِيَ عن عطيةَ ومَن حُكِيَ ذلك عنه أن قولَه: {رَاعِنَا} . كانت كلمةً لليهودِ بمعنى السبِّ والسخريةِ، فاستعملَها المؤمنون أَخْذًا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غيرُ جائزٍ في صفةِ المؤمنين أن يأخُذوا مِن كلامِ أهلِ الشركِ كلامًا لا يَعْرِفون معناه، ثم يَسْتعملُونه بينهم وفي خطابِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم. ولكنه جائزٌ أن يكونَ ذلك كما

(5)

رُوِى عن قتادةَ، أنها كانت كلمةً صحيحةً مفهومةً من كلامِ العربِ، وافقَتْ كلمةً من كلامِ اليهودِ بغيرِ اللسانِ العربيِّ، هي عند اليهودِ

(1)

في الأصل، ت 3:"عاقبهم".

(2)

في م، ت 1، ت 3:"فمما".

(3)

في الأصل: "الوقفة والكلمة"، وفي ت 1:"الرتبة والكلية"، وفي ت 2:"الرقبة والكلية".

(4)

فى م: ت 1، ت 2، ت 3:"فلا".

(5)

فى م: "مما".

ص: 381

سَبٌّ، وهي عند العربِ: أَرْعِني سمعَك وفرِّغْه لي

(1)

؛ لتَفْهَمَ عني. فعلَّم اللهُ جلَّ ثناؤُه معنى اليهودِ في قيلِهم ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلافُ معناها في كلامِ العربِ، فنَهَى اللهُ عز وجل المؤمنين عن قيلِها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لئلا يَجْتَرِئَ مَن كان معناه في ذلك غيرَ معنى المؤمنين فيه، أن يُخاطِبَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويلٌ لم يَأْتِ الخبرُ بأنه كذلك مِن الوجهِ الذي تقومُ به الحجةُ. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويلِ الآيةِ ما وصَفْنا، إذ كان ذلك هو الظاهرَ المفهومَ بالآيةِ دون غيرِه.

وقد حُكِيَ عن الحسنِ البصريِّ أنه كان يقرؤُه: (لا تقولوا راعنًا)

(2)

. بالتنوينِ، بمعنى: لا تقولوا قولًا راعنًا. من الرُّعونةِ، وهي الحُمْقُ والجهلُ.

وهذه قراءةٌ لقَرأةِ المسلمين مخالِفةٌ، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ القراءةُ بها، لشذوذِها وخروجِها من قراءةِ المتقدِّمين والمتأخِّرين، وخلافِها ما جاءت به الحجّةُ من المسلمين. ومن نَوَّن (راعنًا) نَوَّنه بقولِه:{لَا تَقُولُوا} ، لأنه حينئذٍ عاملٌ فيه، ومن لم يُنَوِّنْه فإنه تَرَك تنوينَه لأنه أمرٌ مَحْكِيٌّ؛ لأن القومَ كأنهم كانوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: راعِنا. بمعنى مَسألتِه؛ إمّا أن يُرْعِيَهم سمعَه

(3)

؛ وإمّا أن يرعاهم ويَرْقُبَهم -على ما قد بَيَّنْتُ فيما مضَى- فقيل لهم: لا تقولُوا في مسألتِكم إياه: {رَاعِنَا} . فتكونُ الدلالةُ على معنى الأمر في {رَاعِنَا} حينئذٍ سقوطَ الياءِ التي كانت تكونُ في "راعَيتُه"

(4)

، ويدلُّ عليها -أَعنى على الياءِ الساقطةِ- كسرةُ العينِ مِن {رَاعِنَا} .

(1)

زيادة من: الأصل.

(2)

إتحاف فضلاء البشر ص 88.

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

في م: "يراعيه"، وفي ت 1 ت 2، ت 3:"راعيه".

ص: 382

وقد ذُكر أن

(1)

قراءةَ ابنِ مسعودٍ: (لا تقولوا راعونا)

(2)

. بمعنى حكايةِ أميرٍ

(3)

صالحةٍ لجماعةٍ بمراعاتِهم

(4)

. فإن كان ذلك من قراءتِه صحيحًا، وُجِّه

(5)

أن يكونَ القومُ كأنهم نُهُوا عن استعمالِ ذلك بينهم في خطابِ بعضِهم بعضًا، كان خطابُهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أو لغيرِه، ولا نعلمُ ذلك صحيحًا من الوجهِ الذي تصحُّ منه الأخبارُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} .

يعني بقولِه جل ثناؤُه: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} : وقولوا أيها المؤمنون لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم: انتظِرْنا وارقُبْنا، نَفْهَمْ ونتبيَّنْ ما تقولُ لنا وتُعلِّمُنا.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقُولُوا انْظُرْنَا} : فقِّهْنا

(6)

، بَيِّنْ لنا يا محمدُ

(7)

.

حدَّثنا المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقُولُوا انْظُرْنَا} : أفْهِمْنا، بَيِّنْ لنا يا محمدُ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

يقالُ منه: نظَرْتُ الرجلَ، أَنظُرُه نَظِرةً. بمعنى: انتظرْتُه ورقَبْتُه. ومنه قولُ

(1)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"أنها".

(2)

البحر المحيط 1/ 338.

(3)

في الأصل: "من".

(4)

في الأصل: "مراعاتهم".

(5)

في الأصل: "وجب".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فهمنا".

(7)

تفسير مجاهد ص 210، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 198 (1044).

ص: 383

الحُطَيئةِ

(1)

:

وقد نَظَرْتُكُمُ [أعْشاءَ صادِرَةٍ]

(2)

للخِمْسِ

(3)

طالَ بها حَوْزِي

(4)

وتَنْساسِي

(5)

ومنه قولُ اللهِ عز وجل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. يَعنى به: انتظِرُونا. [وقد قُرِئ: (أنظِرونا نَقتَبِسْ من نُورِكم)

(6)

. يعنى به: انْتَظِرونا. وقد قُرِئَ: (أنظِرونا)]

(7)

. وقد قرِئ: (أنظِرْنا)

(8)

. بقطْعِ الألفِ في الموضِعَيْن جميعًا. فمَن قَرأ ذلك كذلك، أراد: أَخِّرْنا. كما قال جلَّ ثناؤُه {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79]. أي: أخِّرْني. ولا وجهَ لقراءةِ ذلك كذلك في هذا الموضعِ؛ لأن أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنما أُمِروا بالدنوِّ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والاستماعِ منه، وإلطافِ الخطابِ له، وخَفْضِ الجناحِ، لا بالتأخُّرِ عنه، ولا بمسألتِه تأخيرَهم عنه. فالصوابُ -إذ كان ذلك كذلك- من القراءةِ، قراءةُ مَن وصَل الألفَ من قولِه:{انْظُرْنَا} ولم يَقْطَعْها، بمعنى: انتظِرْنا.

وقد قيل: إن معنى: (أَنْظِرْنا) بقطعِ الألفِ بمعنى: أَمْهِلْنا. حُكِي عن بعضِ

(1)

ديوانه ص 283.

(2)

في الأصل: "إيناء عاشية". والأعشاء، واحدتها عِشْيٌ، والعشى: ما يتعشى به. اللسان (ع ش ى).

(3)

الخمس: من أظماء الإبل، وهو أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع، أو هو أن ترد الماء يوما فتشربه، ثم ترعى ثلاثة أيام، ثم ترد الماء اليوم الخامس. التاج (خ م س).

(4)

الحوز: السوق اللين. وقد حاز الإبل يحوزها ويحيزها وحوَّزها: ساقها سوقًا رويدًا. التاج (ح و ز).

(5)

التنساس: سرعة الذهاب لورود الماء. التاج (ن س س).

(6)

هى قراءة حمزة، وقرأ الباقون بوصل الألف. حجة القراءات ص 699.

(7)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(8)

هي قراءة أبيّ والأعمش. البحر المحيط 1/ 339.

ص: 384

العربِ سماعًا: أَنْظِرْني أكلِّمْك. وذكَر سامعُ ذلك من بعضِهم أنه استَثْبته في معناه، فأخبرَه أنه أراد: أَمْهِلْني. فإن لم

(1)

يكُنْ ذلك صحيحًا عنهم، فـ "انظُرْنا" و"أَنظِرْنا"، بقطعِ الألفِ ووصلِها متقاربتا المعنى، غير أن الأمرَ وإن كان كذلك، فإن القراءةَ التي لا

(2)

أستجيزُ غيرَها قراءةُ مَن قرَأه: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} . بوصلِ الألِفِ، بمعنى: انتظِرْنا. لإجماعِ الحجةِ على تصويبِها، ورفضِهم غيرَها من القراءاتِ [في ذلك]

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} .

يعني جل ثناؤُه بقولِه: {وَاسْمَعُوا} : اسمَعُوا ما يقالُ لكم، ويُتْلَى عليكم من كتابِ ربِّكم، وعُوه وافهمُوه.

كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{وَاسْمَعُوا} : اسمَعُوا ما يقالُ لكم

(4)

.

فمعنى الآيةِ إذن: يأيُّها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيِّكم: راعِنا سمعَك وفرِّغْه لنا، نَفْهَمْك وتَفْهَمْ عنا ما نقولُ، ولكن قولوا: انتظِرْنا وتَرَقَّبْنا حتى نَفهمَ عنك ما تُعلِّمُنا وتبينُه لنا. واسمَعوا منه ما يقولُ لكم فعُوه واحفظُوه وافهمُوه. ثم أخبرَهم جل ثناؤُه أن لمن جحَد منهم ومِن غيرِهم آياتِه، وخالفَ أمرَه ونَهْيَه، وكذَّب برسولِه -العذابَ الموجعَ في الآخرةِ، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذابٌ أليمٌ. يعنى بقولِه: "الأليم". الموجِعَ. وقد ذكَرْنا الدلالةَ على ذلك فيما مضَى قبلُ وما فيه مِن الآثارِ

(5)

.

(1)

سقط من: م، ت 1.

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 104 إلى المصنف.

(5)

ينظر ما تقدم في 1/ 291 - 293.

ص: 385

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} .

يعنى بقولِه: {مَا يَوَدُّ} : ما يُحِبُّ. أي: ليس يَوَدُّ

(1)

كثيرٌ مِن أهلِ الكتابِ. يقالُ منه: وَدَّ فلانٌ كذا، يَوَدُّ، وُدًّا ووَدًّا ووِدًّا

(2)

ومَودَّةً.

وأما "المشركون" فإنهم في موضعِ خَفْضٍ بالعطفِ على "أهلِ الكتابِ".

ومعنى الكلامِ: ما يَوَدُّ

(3)

الذين كفروا من أهلِ الكتابِ ولا من

(4)

المشركين أن يُنَزَّلَ عليكم من خيرٍ من ربِّكم.

وأما "أنْ" في قولِه: {أَنْ يُنَزَّلَ} فنُصِب بقولِه: {يَوَدُّ} . وقد دلَّلْنا على

(5)

دخولِ "مِن" فى قولِه: {مِنْ خَيْرٍ} . وما أَشبهَ ذلك من الكلامِ الذي يكونُ في أولِه جَحْدٌ فيما مضَى، فأغنى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(6)

.

فتأويلُ الكلامِ: ما يحبُّ الكافرون من أهلِ الكتابِ ولا من (4) المشركين باللهِ من عَبَدَةِ الأوثانِ، أن يُنَزِّلَ اللهُ (4) عليكم شيئًا (4) مِن الخيرِ الذي [هو عندَه. والخيرُ الذي كان]

(7)

اللهُ يُنزِّلُه عليهم فتَمنَّى المشركون، وكَفَرةُ أهلِ الكتابِ ألَّا يُنَزِّلَه

(8)

اللهُ عليهم -الفرقانُ وما أوحاه إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم من حُكْمِه وآياتِه، وإنما أحبَّتِ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يحب".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "يحب".

(4)

زيادة من: الأصل.

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وجه".

(6)

ينظر ما تقدم في ص 14، 15.

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كان عند".

(8)

في م: "ينزل".

ص: 386

اليهودُ وأتباعُهم مِن المشركين ذلك حسدًا وبَغْيًا منهم على المؤمنين.

وفى هذه الآيةِ دلالةٌ بَيِّنةٌ على أنَّ اللهَ تبارك وتعالى نَهَى المؤمنين عن الرُّكونِ إلى أعدائِهم من أهلِ الكتابِ والمشركين، والاستماعِ من قولِهم، وقَبولِ شيءٍ مما يَأتونهم

(1)

به على وجهِ النصيحةِ لهم منهم، بإطْلاعِه جلّ ثناؤُه إياهم على ما يَستبطِنُه لهم أهلُ الكتابِ والمشركون مِن الضِّغْنِ والحسدِ، وإن أظهَرُوا بألسنتِهم خلافَ ما هم [مُستبطِنوه لهم]

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِهِ جلّ ثناؤُه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} واللَّهُ يختصُّ مَن يشاءُ لنبوَّتِه ورسالاتِه، فيُرسِلُه إلى من يشاءُ من خلقِه، ويتفضّلُ بالإيمانِ به

(3)

على مَن أحبَّ فيَهْديه له. واختصاصُه إياهم بها، إفرادُهم

(4)

بها دونَ غيرِهم من خلقِه. وإنما جعَل اللهُ رسالتَه إلى من أرسَل إليه من خلقِه، وهدايَتَه مَن هدَى من عبادِه رحمةً

(5)

منه له؛ ليُصَيِّرَه بها إلى رضاه ومحبتِه، وفوزِه بها بالجنةِ، واستحقاقِه بها ثناءَه

(6)

، وكلُّ ذلك رحمةٌ من اللهِ له.

وأما قولُه: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . فإنه خبرٌ من اللهِ [جل ثناؤُه]

(7)

(1)

في الأصل، ت 1:"يأتوهم"، وحذف النون لغة. ينظر صحيح مسلم بشرح النووى 2/ 36.

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"مستبطنون".

(3)

سقط من: م.

(4)

في الأصل، ت 2، ت 3:"إقرارهم".

(5)

في الأصل: "ورحمة".

(6)

في الأصل: "ثناء".

(7)

سقط من: الأصل.

ص: 387

[عن أن كلَّ خيرٍ ناله عبادُه فى دينِهم ودنياهم، فإنه مِن عندِه ابتداءً، وتفضُّلًا منه عليهم من غيرِ استحقاقٍ منهم ذلك عليه.

وفي قولِه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . تعريضٌ مِن اللهِ]

(1)

تعالى ذِكرُه بأهلِ الكتابِ أن الذى آتى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهدايةِ تَفَضُّلٌ

(2)

منه، وأن نعمَه لا تُدْرَكُ بالأمانيِّ، ولكنها مواهبُ منه يَختصُّ بها مَن يشاءُ من خلقِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . [ما ننقُلْ مِن حكمِ آيةٍ]

(3)

إلى غيرِه، فنغيِّرْه ونبدِّلْه. وذلك أن يحوِّلَ الحلالَ حرامًا، والحرامَ حلالًا، والمباحَ محظورًا، والمحظورَ مباحًا. ولا يكونُ ذلك إلَّا في الأمرِ والنهىِ، والحظرِ والإطلاقِ، والمنعِ والإباحةِ. فأما الأخبارُ فلا يكونُ منها

(4)

ناسخٌ ولا منسوخٌ.

وأصلُ النسخِ من نَسْخِ أصلِ

(5)

الكتابِ، وهو نقلُه مِن نسخةٍ إلى أُخرَى غيرِها. فكذلك معنى نَسْخِ الحكمِ إلى غيرِه، [إنما هو تحويلُه ونقلُ عبادِه

(6)

عنه إلى غيرِه]

(7)

. فإذ كان ذلك معنى نسخِ الآيةِ، فسواءٌ -إذا نُسِخَ حكمُها فغُيِّر وبُدِّل فرضُها، ونُقِل

(8)

العبادُ عن اللازمِ كان لهم بها- [أُقِرَّ خطُّها]

(9)

فتُرِك، أو مُحِىَ أثرُها

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

في م: "تفضلا".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيها".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

في م: "عبارته". وفى تفسير ابن كثير 1/ 215 عن المصنّف: عبادة إلى غيرها.

(7)

سقط من: الأصل.

(8)

بعده في م: "فرض".

(9)

في م: "أوفر حظها".

ص: 388

فعُفِّىَ و

(1)

نُسِي، إذ هى حينئذٍ في كلتى حالتَيْها منسوخةٌ، والحُكْمُ الحادثُ المُبْدَلُ به الحكمُ الأولُ والمنقولُ إليه فرضُ العبادِ هو الناسخُ. يقالُ منه: نسَخ اللهُ حكمَ

(2)

آيةِ كذا وكذا، يَنْسَخُه نَسْخًا، والنُّسخةُ الاسمُ.

وبمثلِ الذى قلنا في ذلك كان الحسنُ البصرىُّ يقولُ

(3)

.

حَدَّثَنَا سَوّارُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا خالدٌ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ أنه قال في قولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا

(4)

نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} قال

(5)

: أُقْرِئَ قرآنًا ثم نُسِّيَه، فلم يكنْ شيئًا، ومن القرآنِ ما قد نُسِخ وأنتم تقرءُونه

(6)

.

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {مَا نَنْسَخْ} ؛ فقال بعضُهم بما حَدَّثَنِي به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} : أما نسخُها فقبضُها

(7)

.

وقال آخرون بما حَدَّثَنِي به المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . ما نُبَدِّل من آيةٍ

(8)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أو".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

بعده في الأصل: "قال".

(4)

في ت 2، ت 3:"ننساها"، وغير منقوطة في الأصل. وقراءة الحسن:(تَنْسها). ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 88، وسيأتى ما في هذه الكلمة من قراءات.

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

(6)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 105 إلى المصنّف.

(7)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 200 (1057) عن أبى زرعة، عن عمرو به.

(8)

أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 5، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 201 (1065)، والبيهقيُّ في الأسماء والصفات (486) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 104 إلى ابن المنذر.

ص: 389

وقال آخرون بما حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن أصحابِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أنهم قالوا:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . نُثْبِتْ خَطَّها، ونُبَدِّلْ حُكمَها

(1)

.

وحَدَّثَنِي المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . نُثْبِتْ خطَّهَا، ونُبَدِّلْ حكمَها. حدِّثْت به عن أصحابِ ابنِ مسعودٍ،

حَدَّثَنِي المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ، قال: حَدَّثَنِي بكرُ بنُ شرودٍ

(2)

، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أصحابِ ابنِ مسعودٍ:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} : نُثْبِتْ خطَّها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَوْ نُنْسِهَا} .

اختَلف أهلُ القراءةِ في قراءةِ ذلك، فقرَأها قَرَأةُ أهلِ المدينةِ والكوفةِ:{أَوْ نُنْسِهَا}

(3)

. ولقراءةِ مَن [قرأهَا كذلك]

(4)

وجهانِ من التأويلِ:

أحدُهما، أن يكونَ تأويلُه: ما نَنْسَخْ يا محمدُ مِن آيةٍ فنُغَيِّرْ حكمَها أو نُنْسِكَها

(5)

- وقد ذُكِر أنَّها في مصحفِ عبدِ اللهِ (ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو

(1)

تفسير مجاهد ص 211، ومن طريقه البَيْهَقِيُّ في الأسماء والصفات (487)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 199 (1055)، والنحاس في ناسخه ص 58 من طريق ابن أبي نجيح به، وليس عند النحاس ذكر أصحاب ابن مسعود، وأخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 6، وابن أبي حاتم 1/ 200 (1062) من طريق ابن جريجٍ، عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 105 إلى آدم بن أبي إياس وأبي داود في ناسخه.

(2)

في م، ت 1:"شوذب"، وفى ت 2، ت 3:"شودب".

(3)

وهى قراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 168.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قرأ ذلك".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ننسها".

ص: 390

نَنْسخْها)

(1)

- نجِئْ بمثلِها. فذلك تأويلُ النسيانِ. وبهذا التأويلِ قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} : كان ينسَخُ الآيةَ بالآيةِ بعدَها، ويقرأُ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الآيةَ أو أكثرَ مِن ذلك ثم يُنَسَّى وتُرْفَعُ

(2)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} . قال: كان اللهُ تعالى ذِكْرُه يُنْسِى نبيَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء، ويَنْسَخُ ما شاء

(3)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان عُبيدُ بنُ عُميرٍ يقولُ: {نُنْسِهَا} : نَرْفَعْها مِن عندِكم

(4)

.

حَدَّثَنَا سوَّارُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ أنه قال في قولِه: {أَوْ نُنْسِهَا

(5)

}. قال: إن نبيَّكم صلى الله عليه وسلم أُقْرِئ قرآنًا ثم نُسِّيه.

وكذلك كان سعدُ بنُ أبى وقَّاصٍ [يتأوَّلُ الآيةَ]

(6)

، [إلَّا أنه]

(7)

كان يَقْرَؤها:

(1)

ينظر المصاحف لابن أبي داود ص 58، والناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 10.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 105 إلى المصنّف وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 55.

(4)

سيأتى بأتم مما هنا في ص 400.

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"ننساها". وينظر ما تقدم في ص 388.

(6)

في ت 1، ت 2، ت 3:"يتأوله".

(7)

سقط من: الأصل.

ص: 391

(أو تَنْسَها

(1)

). بمعنى الخطابِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كأنه عنَى: أو تَنْسَها أنت يا محمدُ.

ذكرُ الأخبارِ [عن ذلك]

(2)

حَدَّثَنِي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا يَعْلَى بنُ عطاءٍ، عن القاسمِ بنِ ربيعةَ، قال: سمِعتُ سعدَ بنَ أبى وقاصٍ يقولُ: (مَا نَنْسَخْ مِن آيةٍ أو تَنْسَها). قال

(3)

: قلتُ له: فإن سعيدَ بنَ المُسَيِّبِ يقرؤُها: {أَوْ نُنْسِهَا} . قال: فقال سعدٌ: إن القرآنَ لَمْ يَنْزِلْ على المُسَيِّبِ ولا على آلِ المسيَّبِ، قال اللهُ:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}

(4)

[الكهف: 24].

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرَنا هُشَيْمٌ، قال: حَدَّثَنَا يَعْلَى بنُ عطاءٍ، قال: حَدَّثَنَا القاسمُ بنُ ربيعةَ بنِ قانفٍ الثَّقَفيُّ، قال: سمِعتُ سعدَ بنَ أبى وقاصٍ يَذْكُرُ نحوَه

(5)

.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ المُثَنَّى، [قال: حَدَّثَنَا ابنُ مهديٍّ، وحَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا]

(6)

آدمُ العَسْقلانِيُّ، قالا جميعًا: حَدَّثَنَا شعبةُ، عن يَعْلَى بنِ عطاءٍ، قال: سمعتُ القاسمَ بنَ ربيعةَ الثقفيَّ يقولُ: قلتُ لسعدِ بنِ أبي وقاصٍ: إنى سمعتُ ابنَ المُسَيِّبِ

(1)

في ت: "تنساها"، وفى ت 2، ت 3:"ننساها"، وهذه القراءة شاذة. ينظر حجة القراءات ص 110.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بذلك".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه الحاكم 2/ 521 من طريق يعقوب بن إبراهيم به. وأخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 10، وسعيد بن منصور في سننه (208 - تفسير)، وابن أبي داود في المصاحف ص 96، والمزى في تهذيب الكمال 23/ 375 من طربق هشيم به. وصححه الحاكم، والقاسم مجهول. وفى المصادر اختلاف في حكاية قراءة سعد وسعيد فانظره فيها.

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 55.

(6)

سقط من: م.

ص: 392

يَقْرَأُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} . فقال سعدٌ: إن اللهَ لَمْ يُنْزِلِ القرآنَ على المُسَيَّبِ ولا على ابنِه

(1)

، إنما هى:(ما نَنْسَخْ مِن آيةٍ أو تَنْسَها) يا محمدُ. ثم قرَأ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}

(2)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} . يقولُ: {نُنْسِهَا} : نَرْفَعْها، وكان اللهُ تعالى ذكرُه أنْزَل أمورًا مِن القرآنِ ثم رفَعها

(3)

.

والوجهُ الآخَرُ منهما، أن يكونَ بمعنى التركِ، مِن قولِ اللهِ جل ثناؤه:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. يعنى به: ترَكوا اللهَ فترَكهم. فيكونُ تأويلُ الآيةِ حينئذٍ على هذا التأويلِ: ما نَنْسَخْ مِن آيةٍ فنُغَيِّرْ حكمَها، [أو نتْرُكْها ولا نُغيِّرْ حُكمَها]

(4)

ولا

(5)

نُبَدِّلْ فرضَها، نأتِ بخيرٍ مِن التى نسَخْناها أو مثلِها.

وعلى هذا التأويلِ تأوَّل ذلك

(5)

جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي المُثَنى، قال: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{أَوْ نُنْسِهَا} . يقولُ: أو نَتْرُكْها لا نُبَدِّلْها

(6)

.

(1)

في الأصل: "أبيك".

(2)

أخرجه أبو داود في ناسخه -كما في التحفة 3/ 309 - والنسائى في الكبرى (10996)، وابن أبى داود في المصاحف ص 96، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 200 (1059)، والحاكم 2/ 242 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 104 إلى ابن المنذر.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 201 عقب الأثر (1064) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

سقط من: م.

(6)

تقدم أول هذا الأثر في ص 389.

ص: 393

حدّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{أَوْ نُنْسِهَا} : نَتْرُكْها لا نَنْسَخْها

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} . قال: الناسخُ والمنسوخُ

(2)

.

قال: وكان عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ يقولُ في ذلك بما حدَّثنى به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَوْ نُنْسِهَا} . قال: نَمْحُها.

وقرَأ ذلك آخَرون: (أو نَنْسَأْها)

(3)

. بفتحِ النونِ وهمزةٍ بعدَ السينِ، بمعنى: نُؤَخِّرْها. مِن قولِك: نسَأْتُ هذا الأمرَ أَنْسَؤُه نَسْأً ونَساءً، إذا أخَّرْتَه. وهو مِن قولِهم: بعتُه بنسَاءٍ. يعنى: بتَأخيرٍ. ومِن ذلك قولُ طَرَفَةَ بنِ العَبْدِ

(4)

:

لَعَمْرُك إنَّ المَوْتَ ما أنسَأَ

(5)

الفَتَى

لَكَالطِّوَلِ

(6)

المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ

يعنى بقولِه: أَنْسَأ. أخَّر.

ومِمَّن قرَأ ذلك كذلك

(7)

[جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعين، وقرَأه]

(8)

جماعةٌ مِن قرأَةِ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 201 (1066) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 200 (1061) من طريق هشيم به.

(3)

هى قراءة ابن كثير وأبى عمرو. حجة القراءات ص 109.

(4)

ديوانه ص 37.

(5)

في الديوان: "أخطأ".

(6)

الطول: الحبل الطويل جدًّا. اللسان (ط و ل)، والبيت فيه كرواية الديوان.

(7)

سقط من: م.

(8)

سقط من: الأصل. وهى قراءة عمر وابن عباس من الصحابة، وقراءة النخعى وعطاء ومجاهد وعبيد ابن عمير من التابعين. ينظر البحر المحيط 1/ 343.

ص: 394

المكِّيين

(1)

والبصريين. وتأوَّله كذلك جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: حدَّثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ في قولِه: (مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نَنْسأْها

(2)

). قال: نُؤَخِّرْها

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، قال: سمِعتُ ابنَ أبي نَجيحٍ يقولُ في قولِ اللهِ: (أو نَنْسَأْهَا). قال: نُرْجِئْها

(4)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:(أو نَنْسَأْهَا): نُرْجِئْها ونُؤَخِّرْها

(5)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزبيرىُّ، قال: ثنا فُضَيلٌ، عن عطيةَ:(أو نَنْسَأْهَا) قال: نُؤَخِّرْها فلا نَنْسَخْها.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبرني عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ، عن عُبيدٍ الأزْدِىِّ، عن عُبَيدِ بنِ عُمَيْرٍ:(أو نَنْسَأْهَا): إرجاؤُها [وتأخِيرُها]

(6)

.

(1)

في م: "الكوفيين".

(2)

في الأصل، ت 2، والناسخ والمنسوخ:"ننسها"، وفى سنن سعيد:"ننسيها".

(3)

أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 6 عن هشيم به. وأخرجه أبو عبيد -أيضًا- وسعيد بن منصور في سننه (209 - تفسير) عن مروان بن معاوية عن عبد الملك به.

(4)

أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (487) من طريق ابن أبي نجيح عن أصحاب ابن مسعود. وهو تتمة الأثر المتقدم في ص 390.

(5)

أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 6، 7 من طريق جرير بن حازم عن حميد الأعرج عن مجاهد به.

(6)

في الأصل: "تأخيرها".

ص: 395

هكذا حدَّثنا القاسمُ: عن عبدِ اللهِ بن كثيرٍ، عن عُبيدٍ الأزْدِىِّ، وإنما هو: عن علىٍّ الأزدىِّ.

حدَّثنى أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: حدَّثنا القاسمُ بنُ سلَّامٍ، قال: حدَّثنا حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ كثيرٍ، عن علىٍّ الأزدِىِّ، عن عُبيْدِ بنِ عُمَيْرٍ أنه قَرأها:(أو نَنْسَأْهَا)

(1)

.

قال: فتأويلُ مَن قَرأ ذلك كذلك: ما نُبدِّلْ مِن آيةٍ أنزَلناها إليك يا محمدُ، فنبطِلْ حُكْمَها ونُثْبِتْ خَطَّها، أو نُؤخِّرْها فَنُرْجِئْها ونُقِرَّها فلا نُغَيِّرْها ولا نُبطِلْ حُكْمَها، نأتِ بخيرٍ مِنها أو مِثلِها.

وقد قرأَ بعضُهم ذلك: (مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو تُنْسَها

(2)

). وتأويلُ هذه القراءةِ نظيرُ تأويلِ قراءةِ

(3)

مَن قرأَ: {أَوْ نُنْسِهَا} . إلا أن معنى: [{أَوْ نُنْسِهَا}: أو نُنْسِكَها يا محمدُ نحن. مِن: أَنْسَاه اللهُ يُنْسِيه. ومعنَى مَن قرأَ: (أو تُنْسَها)]

(4)

. أو تنْسَها أنتَ يا محمدُ.

وقد قرَأ بعضُهم: (مَا نُنْسِخْ

(5)

من آيةٍ). بضَمِّ النونِ وكَسْرِ السِّينِ. بمعنَى: ما نُنْسِخْكَ يا محمدُ نحنُ مِن آيةٍ. مِن: أَنْسَختُكَ فأنا أُنْسِخُك.

قال: وذلك خطأٌ مِن القِراءةِ عندَنا، لخروجِه عما جاءتْ به الحجّةُ مِن القرأَةِ

(6)

(1)

أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 7.

(2)

رويت هذه القراءة عن سعيد بن المسيب. المحرر الوجيز 1/ 382.

(3)

في الأصل: "قوله".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

هى قراءة ابن عامر، من السبعة. حجة القراءات ص 109.

(6)

في م: "القراءة".

ص: 396

بالنقلِ المستفيضِ. وكذلك قراءةُ مَن قَرَأ: (تَنْسَها) أو (تُنْسَها). لشذوذِها وخروجِها عن القراءةِ التى جاءتْ بها الحجةُ مِن قرأَةِ الأمةِ.

وأولى القراءاتِ في قولِه: {أَوْ نُنْسِهَا} . بالصوابِ، قراءةُ مَن قرأ:{أَوْ نُنْسِهَا} . بمعنى: نَترُكْها؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخبرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدَّل حُكمًا أو غيَّرَه، أو لم يبدِّلْه ولم يغيِّرْه، فهو آتِيه بخيرٍ منه أو بمثلِه. فالذى هو أوْلَى بالآيةِ إذ كان ذلك معناها، أن يكونَ إذ قدَّم الخبرَ عما هو صانعٌ

(1)

إذا هو غيَّر وبدّل حكمَ آيةٍ - أن يُعقِّبَ ذلك بالخبَرِ عما هو صانِعٌ إذا هو لم يُبدِّلْ ذلك ولم يُغيِّرْ. والخبرُ الذى يجِبُ أن يكونَ عَقيبَ قولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . قولُه: أو نَترُكْ نَسْخَها. إذ كان ذلك المعروفَ الجارِىَ في كلامِ الناسِ، مع أن ذلك إذا قُرِئَ كذلك بالمعنى الذى وَصَفتُ، فهو يَشتَمِلُ على معنَى الإنْساءِ الذى هو بمعنى التَّرْكِ، ومعنى النَّسْءِ

(2)

الذى هو بمعنَى [التَّرْكِ. ومعنى النَّسْءِ الذى هو بمعنَى]

(3)

التأخيرِ، إذ كان كلُّ متروكٍ فمؤخَّرٌ فى

(4)

حالِ ما هو متروكٌ.

وقد أنكَر قومٌ قراءةَ مَن قرأ: (أوْ تَنْسها). إذا عنَى به النسيانَ. وقالوا: غيرُ جائزٍ أن يكونَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسِى مِن القرآنِ شيئًا مما نُسِخَ

(5)

، إلا أن يكونَ نَسِى منه شيئًا ثم ذكَره. قالوا: وبعدُ، فإنه لو نَسِى منه شيئًا لم يكنِ الذين قَرءُوه وحَفِظوه مِن أصحابِه بجائزٍ على جميعِهم أن يَنْسَوه. قالوا: وفى قولِ اللهِ جلّ ثناؤُه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]. ما يُنْبِئُ عن أن اللهَ تعالى ذِكْرُه

(1)

في الأصل: "سايع".

(2)

في م: "النساء".

(3)

سقط من ت م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "على".

(5)

في م: "لم ينسخ".

ص: 397

لم يُنْسِ نبيَّه شيئًا

(1)

آتاه مِن العلمِ.

قال أبو جعفرٍ: وهذا قولٌ يَشهَدُ على بُطُولِه وفسادِه الأخبارُ المتظاهِرَةُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بنحوِ الذى

(2)

حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: حدثنا أنسُ بنُ مالكٍ: إنَّ أولئكَ السَّبْعِين مِن الأنصارِ الذين قُتِلوا ببئرِ مَعُونةَ

(3)

قرَأْنا بهم وفيهم كتابًا: (بَلِّغوا عنَّا قَوْمَنا أنَّا لَقِينا ربَّنا فرَضِىَ عنَّا وأرْضَانا). ثم إن ذلك رُفِعَ

(4)

.

فالذى ذُكِرَ

(5)

عن أبى موسى الأشعَرىِّ أنهم كانوا يَقْرءون

(6)

: (لو أن لابنِ آدمَ واديين مِن مَالٍ لابتغى لهما ثالثًا، ولا يَمْلأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلا الترابُ، ويَتوبُ اللهُ على مَن تابَ)

(7)

. ثم رُفِعَ.

وما أشْبَهَ ذلك مِن الأخبارِ التى يَطُولُ بإحْصائِها الكتابُ.

وغيرُ مستحيلٍ في فِطْرةِ ذِى عقلٍ صحيحٍ، ولا بحُجةِ خبرٍ، أن يُنْسِىَ اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بعضَ ما قد كان أنزَله إليه، فإذا كان ذلك غيرَ مستحيلٍ مِن أحدِ هذين الوجهين، فغيرُ جائزٍ لقائلٍ أن يقولَ: ذلك غيرُ جائزٍ.

وأما قولُه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} . فإنه جل ثناؤُه لم يُخْبِرْه أنه لا يَذْهَبُ بشيءٍ منه، وإنما أخبرَه أنه لو يشاءُ لذَهَب بجَميعِه، فلم يَذْهَبْ

(1)

بعده في م: "مما".

(2)

بعده في م: "قلنا".

(3)

بئر معونة: بين أرض بني عامر وحرَّة بني سليم. معجم البلدان 1/ 435.

(4)

أخرجه البخارى (4090) من طريق يزيد به بنحوه.

(5)

فى م: "ذكرنا".

(6)

في الأصل: "يقولون".

(7)

أخرجه مسلم (1050) بنحوه. وينظر مسند الطيالسى (541).

ص: 398

به، والحمدُ للهِ، بل إنما ذَهَب منه

(1)

بما

(2)

لا حاجةَ بهم إليه منه، وذلك أن ما نَسَخ منه فلا حاجةَ بالعبادِ إليه، وقد قال اللهُ تعالى ذِكْرُه:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [الأعلى: 6، 7]. فأخبرَ أنه يُنْسِى نبيَّه منه ما شاء. فالذى ذَهَب منه الذى اسْتَثْناه اللهُ.

فأما نحن، فإنما اخْتَرنا ما اخْتَرنا مِن التأويلِ طَلَبَ اتِّساقِ الكلامِ على نظامٍ في المعنى، لا إنكارَ أن يكونَ اللهُ تعالى ذِكرُه قد كان أنسى

(3)

نبيَّه بعضَ ما نَسَخ مِن وحيِه إليه وتنزيلِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} . فقال بعضُهم بما حدَّثنى به المثنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . يقولُ: خيرٍ لكم في المنفعةِ وأرفقَ بكم

(4)

.

وقال آخرون بما حدَّثنى به الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . يقولُ: آيةٍ فيها تَخْفِيفٌ، فيها رُخْصَةٌ

(5)

، فيها أَمْرٌ، فيها نَهْىٌ

(6)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

في ت 1، ت 2:"ما".

(3)

في م: "آتى".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 201 (1067) من طريق عبد الله بن صالح به. وينظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 54، والفتح 8/ 158.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"رحمة".

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 55.

ص: 399

وقال آخرون: نأتِ بخيرٍ مِن التى نَسَخْناها، أو بخيرٍ مِن التى تَرَكْناها فلم نَنْسَخْها.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} . يقولُ: نأتِ بخيرٍ مِن التى نَسَخْناها، {أَوْ مِثْلِهَا} أو مثلِ التى تَركْناها

(1)

.

فالهاءُ والألفُ اللتان في: {مِنْهَا} عائدتان -على هذه المقالةِ- على الآيةِ في قولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . والهاءُ والألفُ اللتان في قول: {أَوْ مِثْلِهَا} عائدتان على الهاءِ والألفِ اللتين في قولِه: {أَوْ نُنْسِهَا} .

وقال آخرون بما حدَّثنى به المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان عُبيدُ بنُ عُميرٍ يقولُ: {نُنْسِهَا} : نرفعْها مِن عندِكم، فنأْتى

(2)

بمثلِها أو خيرٍ منها

(3)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{أَوْ نُنْسِهَا} : نَرْفعْها، نأتِ بخيرٍ منها أو بمثلِها

(4)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا بكرُ بنُ شرودٍ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أصحابِ ابنِ مسعودٍ مثلَه.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 201 (1069) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

في م: "نأت".

(3)

تفسير مجاهد ص 210، 211، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 201 (1064)، والبيهقى في الأسماء والصفات (487) عن ابن أبي نجيح عن عبيد بن عمير.

(4)

تقدم تخريجه في ص 393.

ص: 400

والصوابُ مِن القولِ في معنى ذلك عندَنا: ما نُبَدِّلْ مِن حُكْمِ آيةٍ فنُغَيِّرْه، أو نَتْرُكْ تَبْدِيلَه فنُقِرَّه بحالِه، نَأْتِ بخيرٍ

(1)

لكم مِن حُكْمِ الآيةِ التى نَسَخْنا فغَيَّرنا حُكْمَها، إما في العاجلِ؛ لخِفَّتِه عليكم، مِن أجلِ أنه وَضْعُ فَرْضٍ كان عليكم، فأُسْقط ثِقَلُه عنكم، وذلك كالذى كان على المؤمنين مِن فَرْضِ قيامِ الليلِ، ثم نُسِخ ذلك فوضِع عنهم، فكان

(2)

خيرًا لهم في عاجلِهم، لسقوطِ عِبْءِ ذلك وثقلِ حِمْلِه عنهم، وإما في الآجلِ؛ لعِظَمِ ثوابِه مِن أجلِ مَشَقَّةِ حملِه، وثِقَلِ عِبْئِهِ على الأبدانِ. كالذى كان عليهم مِن صيامِ أيامٍ مَعْدوداتٍ في السنةِ، فنُسِخَ وفُرِضَ عليهم مكانَه صومُ شهرٍ كاملٍ في كلِّ حَوْلٍ. فكان فَرْضُ صومِ شهرٍ كاملٍ كلَّ سنةٍ أثقلَ على الأبدانِ مِن صيامِ أيامٍ مَعْدوداتٍ، غيرَ أن ذلك وإن كان كذلك، فالثوابُ عليه أجْزَلُ، والأجرُ عليه أكثرُ؛ لفَضْلِ مَشَقَّتِه على مُكَلَّفيه مِن صومِ أيامٍ معدوداتٍ بذلك

(3)

، وإن كان على الأبدانِ أشقَّ، فهو خيرٌ مِن الأوَّلِ في الآجلِ؛ لفضلِ ثوابِه وعِظَمِ أجْرِه الذى لَمْ يكنْ مثلُه لصومِ الأيامِ المعدوداتِ. فذلك معنى قولِه:{نَأْتِ بِخَيْرِ مِنْهَا} . لأنه إما بخيرٍ منها في العاجلِ لخِفَّتِه على مَن كُلِّفَه، أو في الآجلِ لعِظَمِ ثوابِه وكثرةِ أجرِه. أو يكونُ مِثلَها في المشقَّةِ على البدنِ، واستواءِ الأجرِ والثوابِ عليه، نَظِيرَ نسخِ اللهِ تعالى ذِكْرُه فرضَ الصلاةِ شَطْرَ بيتِ المقدسِ إلى فرضِها شطرَ المسجدِ الحرامِ. فالتوجُّهُ شَطْرَ بيتِ المقدسِ وإن خالَف التوجهَ شطرَ المسجدِ الحرامِ

(4)

، فكُلْفةُ مؤنةِ

(5)

التوجهِ [شطرَ أيِّهما توجَّه]

(6)

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منها".

(2)

بعده في م: "ذلك".

(3)

في م، ت 2:"فذلك".

(4)

زيادة من: ت 2.

(5)

سقط من: م.

(6)

في الأصل: "فوجه شطرانهما".

ص: 401

شطرَه

(1)

المُتوجِّهُ

(2)

- واحدةٌ؛ لأنَّ الذى على المتوجِّهِ شطرَ البيتِ المقدَّسِ مِن مُؤْنةِ تَوجُّهِه شطرَه، نَظِيرُ الذى على بدنِه

(3)

من

(4)

مؤنةِ توجُّههِ شطرَ الكعبةِ سواءٌ. فذلك هو معنى المِثْلِ الذى قال جل ثناؤُه: {أَوْ مِثلِهَا} .

وإنما عَنَى جل ثناؤُه بقولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} : ما نَنْسَخْ مِن حكمِ آيةٍ أو نُنْسِه. غيرَ أن المُخَاطبين بالآيةِ لمَّا كان مفهومًا عندَهم معناها، اكتَفى بدَلالةِ ذكرِ الآيةِ مِن ذِكْرِ حُكْمِها. وذلك نظيرُ سائرِ ما ذَكَرنا مِن نظائرِه فيما مَضَى مِن كتابِنا هذا، كقولِه:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} . بمعنى: حُبَّ العجلِ. ونحوِ ذلك

(5)

.

فتأويلُ الآيةِ إذن: ما نُغيِّرْ مِن حُكْمِ آيةٍ فنُبَدِّلْه، أو نَتْرُكْه فلا نُبَدِّلْه، نَأْتِ بخيرٍ لكم منه

(6)

-أيها المؤمنون- حُكْمًا منها، أو مِثْلِ حُكْمِها، في الخِفَّةِ والثِّقَلِ، والأجرِ والثوابِ.

فإن قال قائلٌ: فإنا قد عَلِمنا أن العِجْلَ لا يُشْرَبُ

(7)

القلوبَ، وأنه لا يَلْتَبِسُ على مَن سمِع قولَه:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} . أن معناه؛ وأُشْرِبوا في قلوبِهم حبَّ العجلِ. فما الذى يَدُلُّ على أنَّ قولَه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} لذلك نظيرٌ؟

(1)

في ت 2: "الشطر"، وفى ت 1، ت 3:"شطره".

(2)

سقط من: م.

(3)

في، 2:"يده"، وفى ت 1، ت 3:"يديه".

(4)

بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"نظير".

(5)

ينظر ما تقدم في ص 265، 266.

(6)

زيادة من: الأصل.

(7)

بعده في م: "في".

ص: 402

قيل: الذى دلَّ على أن ذلك كذلك قولُه: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . وغيرُ جائزٍ أن يكونَ مِن القرآنِ شيءٌ خيرًا مِن شيءٍ، لأنَّ جميعَه كلامُ اللهِ، ولا يجوزُ في صفاتِ اللهِ تعالى ذِكرُه أن يقالَ: بعضُها أفضلُ مِن بعضٍ، أو

(1)

بعضُها خيرٌ مِن بعضٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} .

يعنى جل ثناؤه بقولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : ألم تَعْلَمْ يا محمدُ أنى قادرٌ على تعويضِك ممَّا نسَختُ مِن أحكامي، وغيَّرْتُه مِن فرائضِى التى كنتُ افتَرضْتُها عليك، ما أشاءُ ممَّا هو خيرٌ لك ولعبادى المؤمنين معك، وأنفعُ لك ولهم، إمَّا عاجلًا في الدنْيا، وإمَّا آجِلًا في الآخرةِ، أو بأن أبدِّلَ لكَ ولهم مكانَه مثلَه في النفعِ لهم، عاجلًا في الدنْيا وآجلًا في الآخِرَةِ، وشَبيهَه في الخِفَّةِ عليك وعليهم؟ فإنى -فاعلَمْ يا محمدُ- على ذلك وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ.

ومعنى قولِه: {قَدِيرٌ} . في هذا الموضعِ: قَوىٌّ. يقالُ منه: قد قدَرْتُ على كذا وكذا -إذا قوِيتَ عليه- أقدِرُ عليه، وأَقْدُرُ عليه، قُدْرَةً وقِدْرانًا ومَقْدِرَةً. وبنو مُرَّةَ مِن غَطَفَانَ تقولُ خاصةً

(2)

: قدِرتُ عليه. بكسرِ الدالِ.

فأمَّا مِن التقديرِ مِن قولِ القائلِ: قدَرتُ الشيءَ. فإنه يقالُ منه: قدَرتُه أقْدُرُه قَدْرًا وقدَرًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} .

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(2)

سقط من: م.

ص: 403

قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: أوَ لم يكُنْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعلَمُ أن اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأن اللهَ له مُلكُ السماواتِ والأرضِ حتى قيل له ذلك؟

قيل: بَلَي، فقد كان بعضُهم يقولُ: إنما ذلك مِن اللهِ جل ثناؤه خبرٌ عن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد علِم ذلك، ولكنه

(1)

أَخْرَجَ الكلامَ مُخْرَجَ التقريرِ، كما تفعَلُ مثلَه العربُ في خطابِ بعضِها بعضًا، فيقولُ أحدُهم لصاحبِه: ألم أُكْرِمْك، ألم أُفْضِلْ

(2)

عليك. بمعنى إخبارِه أنه قد أكرَمَه وأَفضَل

(3)

عليه. يُرِيدُ: أليس قد أكرمتُك، أليس قد أفْضلْتُ

(4)

عليك. بمعنى: قد علِمتَ ذلك.

قال: وهذا قولٌ

(5)

لا وجهَ له عندنا، وذلك أن قولَه جل ثناؤه:{أَلَمْ تَعْلَمْ} . إنما معناه: أمَا عَلِمتَ. وهو حَرْفُ جَحْدٍ أُدخِلَ عليه حرفُ استفهامٍ، وحروفُ الاستفهامِ إنما تَدْخُلُ في الكلامِ؛ إمَّا بمعنى الاسْتِثْباتِ، وإمَّا بمعنى النفىِ، فأمَّا بمعنى الإثباتِ، فذلك غيرُ معروفٍ في كلامِ العربِ، ولا سيَّما إذا أُدخِلتْ على حروفِ الجحدِ، ولكنَّ ذلك عندي، وإن كان ظهَر ظُهورَ الخطابِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنما هو مَعْنِيٌّ به أصحابُه الذين قال لهم

(6)

اللهُ جل ثناؤه: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} . والذى يَدُلُّ على أنَّ ذلك كذلك قولُه جل ثناؤه: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . فعاد بالخطابِ في آخرِ الآيةِ إلى جميعِهم، وقد ابتدأ أوَّلَها بخطابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقولِه:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . لأنَّ المرادَ بذلك الذين وصَفتُ أمرَهم مِن أصحابِه، وذلك مِن كلامِ

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قد".

(2)

في م: "أتفضل".

(3)

في م: "تفضل".

(4)

في م: "تفضلت".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

سقط من: م.

ص: 404

العربِ مستفيضٌ بينهم فصيحٌ، أن يُخْرِجَ المتكلِّمُ منهم

(1)

كلامَه على وجهِ الخطابِ منه لبعضِ الناسِ، وهو قاصدٌ به غيرَه، وعلى وجهِ الخطابِ لواحدٍ، وهو يَقْصِدُ به جماعةً غيرَه، أو جماعةٍ

(2)

المخاطَبُ به أحدُهم، وعلى وجهِ

(3)

الخطابِ للجماعةِ والمقصودُ به أحدُهم، مِن ذلك قولُ اللهِ جل ثناؤه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 1، 2]. فرجَع إلى خطابِ الجماعةِ، وقد ابتدَأ

(4)

الكلامَ بخطابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ونظيرُ ذلك قولُ الكُمَيْتِ بنِ زيدٍ في مدحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(5)

:

إلى السِّراجِ المُنِيرِ أحْمَدَ لا

يَعْدلُنِى رَغْبَةٌ وَلا رَهَبُ

عنه إلى غَيرِه ولو رَفَعَ النَّـ

ـاسُ إلىَّ العُيُونَ وارْتَقَبُوا

وقِيلَ أفْرَطْتَ بل قَصَدْتُ ولو

عَنَّفَنى القائِلُونَ أَوْ ثَلَبُوا

(6)

لَجَّ بتَفْضِيلِكَ اللِّسانُ ولو

أُكْثِرَ فيك الضِّجَاجُ واللَّجَبُ

(7)

أنتَ المُصَفَّى

(8)

المَحْضُ المُهَذَّبُ فى النِّـ

ـسْبَةِ إنْ نَصَّ

(9)

قَوْمَك النَّسَبُ

فأخرَجَ كلامَه على وجهِ الخطابِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو قاصدٌ بذلك أهلَ بيتِه.

(1)

سقط من: م.

(2)

بعده في م: "و".

(3)

في م: "هذا".

(4)

في ت 1: "ابتدئ".

(5)

الأبيات في الحيوان للجاحظ 5/ 170.

(6)

ثلب: لام وعاب، وقيل: الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان. التاج (ث ل ب).

(7)

اللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها. التاج (ل ج ب).

(8)

في ت 1، ونسخ الحيوان:"المصطفى".

(9)

نص: رفع. اللسان (ن ص ص).

ص: 405

فكنَى عن وصفِهم ومدحِهم بذكرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن بنى أُمَيَّةَ بالقائلين المُعَنِّفينَ؛ لأنه معلومٌ أنه لا أحدَ يُوصَفُ [من المسلمين]

(1)

بتعنيفِ مادحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وتفضيلِه، ولا بإكثارِ الضِّجاجِ واللَّجَبِ في إطنابِ القِيلِ بفضلِه. وكما قال جَمِيلُ

(2)

بنُ مَعْمَرٍ

(3)

:

ألا إنَّ جِيرَانى العَشِيَّةَ رَائِحُ

دَعَتْهُم دَواعٍ مِن هَوًى ومَنادِحُ

(4)

فقال: ألا إن جيرانى العشيةَ. فابْتَدَأ الخبرَ عن جماعةِ جيرانِه، ثم قال: رائحُ؛ لأن قصْدَه في ابتدائِه ما ابْتَدَأ

(5)

مِن كلامِه الخبرُ عن واحدٍ منهم دونَ جماعتِهم. وكما قال جَمِيلٌ أيضًا في كلمتِه الأُخرَى

(6)

:

خَلِيليَّ فيما عِشْتُما هل رَأيْتُما

قَتِيلًا بَكَى من حُبِّ قاتِلِه قَبْلِى

وهو يُريدُ قاتلتَه

(7)

؛ لأنه إنما يَصِفُ امرأةً، فكنَى بوصفِ

(8)

الرجلِ عنها وهو يَعْنِيها. فكذلك قولُه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وإن كان ظاهرُ الكلامِ على وجهِ الخطابِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه مقصودٌ به قصدُ أصحابِه، وذلك بيِّنٌ بدلالةِ قولِه:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} الآياتِ الثلاث بعدَها، على أنَّ ذلك كذلك.

(1)

سقط من: م.

(2)

في الأصل: "جرير".

(3)

التبيان 1/ 401.

(4)

المنادح: المفاوز، وأرض مندوحة: واسعة بعيدة. التاج (ن د ح).

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".

(6)

البيت في أمالى القالى 2/ 74، والأغانى 1/ 117.

(7)

في الأصل: "قاتله"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"قاتليه".

(8)

في م: "باسم".

ص: 406

وأمَّا قولُه: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ولم يقُلْ: مِلكُ السماواتِ. فإنه عنَى بذلك مُلْكَ السلطانِ والمملكةِ دونَ المِلْكِ، والعربُ إذا أرادت الخبرَ عن المملكةِ التى هى مملكةُ سلطانٍ، قالت: ملَك اللهُ الخلقَ مُلْكًا. وإذا أرادت الخبرَ عن المِلْكِ قالت: ملَك فلانٌ هذا الشئَ، فهو يَمْلِكُه مِلْكًا ومَلَكَةً ومَلْكًا.

فتأويلُ الآيةِ إذن: ألم تعلَمْ يا محمدُ أن لى مُلكَ السماواتِ والأرضِ وسلطانَهما دونَ غيرِي، أحْكُمُ فيهما وفيما فيهما ما أشاءُ

(1)

، وآمُرُ فيهما وفيما فيهما بما أشاءُ، وأنْهَى عمَّا أشاءُ، وأَنْسَخُ وأُبَدِّلُ وأغيِّرُ مِن أحكامى التى أحْكُمُ بها في عبادى ما أشاءُ إذا أشاءُ، وأُقِرُّ منها ما أشاءُ.

وهذا الخبرُ وإن كان مِن اللهِ عز وجل خطابًا لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم على وجهِ الخبرِ عن عَظَمتِه، فإنه منه جل ثناؤه تكذيبٌ لليهودِ الذين أنْكَروا نسْخَ أحكامِ التوراةِ، وجحَدوا نبوَّةَ عيسى ومحمدٍ

(2)

صلى الله عليهما، لمجيئِهما بما جاءا به مِن عندِ اللهِ بتغييرِ ما غيَّرَ اللهُ مِن أحكامِ

(3)

التوراةِ، فأخبَرهم اللهُ أن له مُلْكَ السماواتِ والأرضِ وسلطانَهما، [وأنَّ]

(4)

الخلقَ أهلُ مَمْلَكتِه وطاعتِه، عليهم السمعُ له والطاعةُ لأمرِه ونهيهِ، وأن له أمْرَهم بما شاءَ، ونهيَهم عمَّا شاءَ، وإقرارَ ما شاءَ، ونسْخَ ما شاءَ، وإنساءَ ما شاءَ مِن أحكامِه وأمْرِه ونهيهِ، ثم قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: انقادُوا لأمرِي، وانْتَهُوا إلى طاعتِى فيما أَنْسَخُ وفيما أتْرُكُ

(5)

، فلا

(1)

بعده في ت 3: "إذا أشاء".

(2)

في م: "أنكروا محمدًا".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حكم".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإن".

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"أنزل".

ص: 407

أنْسَخُ مِن أحكامى ولا

(1)

حُدُودِى وفرائضِى، ولا يَهِيدَنَّكم

(2)

خلافُ مُخالفٍ لكم فى أمرِى ونهيى، وناسخِى ومنسوخِى، فإنه لا قَيِّمَ بأمرِكم

(3)

سواىَ، ولا ناصِرَ

(4)

لكم غيرى، وأنا المنفردُ بوَلايتِكم والدفاعِ عنكم، والمتوحِّدُ بنُصْرَتِكم بعزَّتى وسُلطانى وقوَّتى على مَن ناوَأَكم وحادَّكم، ونصَب حَرْبَ العداوةِ بينَه وبينَكم، حتى أُعْلِىَ حُجَّتَكم، [وأجعلَها عليهم]

(5)

لكم.

و"الوَلىُّ"

(6)

فَعِيلٌ، مِن قولِ القائلِ: وَلِيتُ أمرَ فلانٍ. إذا صِرْتَ قيِّمًا به، فأنا أَلِيه، وهو

(7)

وَلِيُّه وقَيِّمُه. ومِن ذلك قِيل: فلانٌ ولىٌّ عهدِ المسلمين. يعنى به القيِّمَ بما عُهِد إليه مِن أمرِ المسلمينِ.

وأمَّا "النصيرُ"، فإنه فَعِيلٌ، مِن قولِك: نصَرتُك أنصرُك، فأنا ناصرُك ونصيرُك. وهو المُؤَيِّدُ والمُقَوِّى.

وأمَّا معنى قولِه: {مِنْ دُونِ اللهِ} فإنه: سِوَى اللهِ وبعدَ اللهِ. ومنه قولُ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ

(8)

:

يا نَفْسُ ما لَكِ دُونَ اللهِ مِن وَاقِى

ومَا عَلى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ باقى

يُريدُ: ما لكِ سوى اللهِ وبعدَ اللهِ مَن يَقِيكِ المكارهَ.

(1)

زيادة من: الأصل.

(2)

فى الأصل: "يهتدنكم"، وفى ت 1:"يهدينكم". وهاده الشئ يَهيده: أفزعه. التاج (هـ ى د).

(3)

فى ت 1، ت 3:"يأمركم".

(4)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"يأمر".

(5)

فى الأصل: "وأجمل الظفر عليكم"، وفى ت 1، ت 3:"وأجعل عليهم"، وفى ت 2:"وأجعله عليهم".

(6)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"معناه".

(7)

فى ت 1: "فأنا".

(8)

ديوانه ص 21.

ص: 408

فمعنى الكلامِ إذن: وليس لكم أيُّها المؤمنون بعدَ اللهِ مِن قَيِّمٍ بأَمْرِكم

(1)

، ولا نصيرٍ يؤَيِّدُكم ويقوِّيكم، فيُعِينَكم علَى أعدائِكم.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى السببِ الذى مِن أجلِه أُنْزِلَت هذه الآيةُ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا يونسُ بنُ بُكَيْرٍ، وحدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ بنُ الفضلِ، قالا: حدَّثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رافعُ بنُ حُرَيْمِلَةَ ووهبُ بنُ زيدٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتابٍ تُنَزِّلُه علينا مِن السماءِ نَقْرَؤُه، وفجِّرْ لنا أنهارًا نَتَّبِعْك ونُصَدِّقْك. فأَنْزَل اللهُ [فى ذلك مِن قولِهم]

(2)

: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} الآية

(3)

.

وقال آخرون بما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} : وكان موسى سئِل فقيل له: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً}

(4)

.

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أن يُرِيَهم اللهَ

(1)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"يأمركم"، وغير منقوطة فى الأصل.

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 548، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 202 (1074) من طريق سلمة به.

(4)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 203 عقب الأثر (1077) معلقا.

ص: 409

جهرةً، فسألت العربُ محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأْتيَهم باللهِ

(1)

فيَرَوْنَه جهرةً

(2)

.

وقال آخَرون بما حدَّثنى به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أن يُرِيَهم اللهَ جهرةً، فسأَلت قريشٌ محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يَجْعَلَ لهم

(3)

الصَّفا ذهبًا، قال: "نعم، [وهو]

(4)

لكم [كالمائدةِ لبَنِى]

(5)

إسرائيلَ

(6)

". فأبَوْا ورجَعوا

(7)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ، قال: سألتْ قريشٌ محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يَجْعَلَ لهم الصَّفَا ذهبًا، فقال: "نَعَمْ، [وهو]

(8)

لكم كالمَائِدةِ لبَنى إسرائيلَ إن كفَرْتُم". فأبَوْا ورجَعوا، فأَنْزَل اللهُ:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أن يُرِيَهم اللهَ جهرةً.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وقال آخَرون بما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ،

(1)

فى الأصل: "الله".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 203 (1077) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 107 إلى ابن المنذر.

(3)

فى م: "الله له".

(4)

فى الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".

(5)

فى م: "كمائدة بنى".

(6)

بعده فى م: "إن كفرتم".

(7)

تفسير مجاهد ص 211، ومن طريقه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 203 (1075). وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 107 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(8)

فى الأصل: "هو".

ص: 410

عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: قال رجلٌ: [يا رسولَ اللهِ]

(1)

، لو كانت كفَّاراتُنا كفَّاراتِ بنى إسرائيلَ؟ فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ لا نَبْغِيها، [اللهمَّ لا نبغيها]

(2)

، ما أعطَاكم اللهُ خيرٌ ممَّا أعطَى بنى إسرائيلَ؛ كانت بنو إسرائيلَ إذا أصابَ

(3)

أحدُهم الخَطيئةَ وجَدها مكتوبةً على بابِه وكفَّارتَها، فإن كفَّرها كانت له خِزْيًا فى الدنيا، وإن لم يُكَفِّرْها كانت له خِزيًا فى الآخرةِ، [وقد]

(4)

أعْطاكم اللهُ خيرًا ممَّا أعْطى بنى إسرائيلَ، قال:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} " [النساء: 110]. قال: وقال: "الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعَةُ إلى الجُمُعَةِ، كَفَّاراتٌ لمَا بينَهنَّ". وقال:"مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فلم يَعْمَلْها كُتِبت له حسنةً، وإن عمِلها كُتِبت له عشْرَةَ أمثالِهَا، ولا يَهْلِكُ على اللهِ إلَّا هالكٌ". فأنْزَل اللهُ: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}

(5)

.

واخْتَلف أهلُ العربيةِ فى معنى "أمْ" التى فى قوله: {أَمْ تُرِيدُون} .

فقال بعضُ البصريِّين: هى بمعنى الاستفهامِ، وتأويلُ الكلامِ: أتُرِيدون أن تسألوا رسولَكم؟

وقال آخَرُ

(6)

منهم: هى بمعنى استفهامٍ مُسْتَقْبَلٍ مُنْقَطِعٍ مِن الكلامِ، كأنك تَمِيلُ بها إلى أوَّلِه، كقولِ العربِ: إنها لإبلٌ -يا قومُ- أم شاءٌ، ولقد كان كذا وكذا أمْ حَدْسُ

(7)

نفسى.

(1)

فى الأصل: "لرسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، وفى تفسير ابن أبى حاتم:"ثلاثا".

(3)

فى م: "فعل"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"وجد".

(4)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"فقد"، وفى تفسير ابن أبى حاتم:"فما".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 203 (1076) من طريق ابن أبى جعفر به. وهو مرسل.

وقوله: "الصلوات الخمس. . .". أخرجه مسلم (233) من حديث أبى هريرة.

وقوله: "من هم بحسنة فلم يعملها. . .". أخرجه مسلم (131) من حديث ابن عباس.

(6)

فى م: "آخرون".

(7)

فى الأصل: "حدثت".

ص: 411

قال: وليس قولُه: {أَمْ تُرِيدُون} على الشكِّ، ولكنه قاله ليُقَبِّحَ له صنيعَهم. واسْتَشْهَد لقولِه ذلك ببيتِ الأَخْطَلِ

(1)

:

كَذَبَتْكَ عَيْنُك أم رَأَيْتَ بوَاسِطٍ

غَلَسَ الظَّلامِ مِن الرَّبَابِ خَيَالَا

وقال بعضُ نحويِّى الكوفيِّين

(2)

: إن شِئتَ جعَلتَ قولَه: {أَمْ تُرِيدُون} استفهامًا مُبتدأً

(3)

على كلامٍ قد سبَقه، كما قال جل ثناؤه:{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 1 - 3]. فجاءت "أمْ" وليس قبلَها استفهامٌ. فكان ذلك عندَه دليلًا على أنها استفهامٌ مبتدَأٌ على كلامٍ قد سبَقه.

وقال قائلُ هذه المقالةِ: "أم" فى المعنى تكونُ ردًّا

(4)

على الاستفهامِ على جهتين: إحداهما، أن تُفَرِّقَ

(5)

معنى "أىّ"، والأُخْرَى، أن يُسْتَفْهَمَ بها، ويكونَ على جهةِ

(6)

النَّسَقِ، والذى يُنْوَى به الابتداءُ، إلَّا أنه ابتداءٌ مُتَّصلٌ بكلامٍ، فلو ابتدأتَ كلامًا ليس قبلَه كلامٌ ثم استَفْهمتَ، لم يكنْ إلَّا بالألفِ أو بـ "هل".

قال: وإن شِئتَ قلتَ فى قولِه: {أَمْ تُرِيدُونَ} : قبلَه استفهامٌ فرُدَّ عليه، وهو فى قولِه:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

والصوابُ مِن القولِ فى ذلك عندى -على ما جاءتْ به الآثارُ التى ذكَرْناها عن أهلِ التأويلِ- أنه استفهامٌ مُبْتدَأٌ بمعنى: أَتُرِيدون أيُّها القومُ أن تَسْأَلوا رسولَكم؟ وإنما جاز أن يَسْتَفْهِمَ القومَ بـ "أم" -وإن كانت "أم" أحدُ شروطِها أن تكونَ نَسَقًا

(1)

شرح ديوانه ص 385.

(2)

هو الفراء فى معانى القرآن 1/ 71.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في الأصل: "تدل".

(5)

في م: "تعرف".

(6)

في الأصل: "وجه".

ص: 412

فى الاستفهامِ- لتقدُّمِ ما تقدَّمَها مِن الكلامِ؛ لأنها تكونُ استفهامًا مُبتَدأً إذا تقدَّمَها سابقٌ مِن الكلامِ، ولم يُسْمَعْ مِن العربِ استفهامٌ بها ولمَّا يتقدَّمْها كلامٌ. [ونظيرُه]

(1)

قولُه جل ثناؤه: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ

(2)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. وقد تكونُ "أم" بمعنى "بل" إذا سبَقها استفهامٌ لا تَصْلُحُ فيه "أىّ"، فيقولون: هل لك قِبَلَنا حقٌّ، أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظلمِ؟ [يرادُ به: بل أنت رجلٌ مَعْروفٌ بالظُّلْمِ]

(2)

. كما قال الشاعر

(3)

:

فَوَاللهِ ما أَدْرِى أسَلْمَى [تَغَوَّلَتْ

أمِ النَّوْمُ]

(4)

أمْ كُلٌّ إلىَّ حَبِيبُ

يَعنى: بل كلٌّ إلىَّ حبيبٌ.

وقد كان بعضُهم يقولُ -مُنْكِرًا قولَ مَن زعَم أن "أم" فى قولِه: {أَمْ تُرِيدُونَ} استِفهامٌ مُستقبَلٌ مُنقطِعٌ مِن الكلامِ، يَمِيلُ بها إلى أوَّلِه-: إن الأولَ خبرٌ، والثانىَ استفهامٌ، والاستفهامُ لا يكونُ فى الخبرِ، والخبرُ لا يكونُ فى الاستفهامِ، ولكن أدرَكه الشكُّ -بزَعمِه- بعدَ مُضِىِّ الخبرِ، فاسْتَفْهَمَ.

فإذ كان بمعنى

(5)

"أم" ما وصَفْنا، فتأويلُ الكلامِ: أتُريدون أيُّها القومُ أن تَسْأَلوا رسولَكم مِن الأشياءِ نظيرَ ما سأَل قومُ موسى موسى

(6)

مِن قبلِكم، فتَكْفُروا إن مُنِعْتُموه، بمسألَتِكم

(1)

ما لا يجوزُ فى حكمةِ اللهِ إعطاؤُكُموه، أو تَهْلِكوا إن كان

(1)

فى الأصل: "هو ونظير"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"هو نظير".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

معانى القرآن للفراء 1/ 72، والصاحبى ص 168.

(4)

فى النسخ: "تقولت أم القوم"، والتصويب من مصدرى التخريج وما سيأتى فى تفسير الآية 66 من سورة النمل.

وتغولت المرأة: تلونت. اللسان (غ و ل).

(5)

فى م: "معنى".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(7)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فى مسألتكم".

ص: 413

ممَّا يجوزُ فى حكمتِه

(2)

إعطاؤُكُموه، فأعْطاكُموه، ثم كفَرتُم مِن بعدِ ذلك، كما هلَك مَن كان قبلَكم مِن الأممِ التى سألت أنبياءَها ما لم يكنْ لها مسألتُها إيَّاهم، فلمَّا أُعْطِيَتْ كفَرَت، فعُوجِلَت بالعقوباتِ لكفرِها بعدَ إعطاءِ اللهِ إيَّاها سُؤْلَها.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ} : ومَن يَسْتَبْدِلْ، {الْكُفْرَ} ، ويعنى بالكفرِ الجحودَ باللهِ وبآياتِه، {بِالْإِيمَانِ} ، يعنى بالتصديقِ باللهِ وبآياتِه والإقرارِ به.

وقد قيل: عَنى بالكفرِ فى هذا الموضعِ الشدَّةَ، وبالإيمانِ الرخاءَ.

ولا أعرِفُ الشدةَ فى معانى الكفرِ، ولا الرخاءَ فى معنى الإيمانِ، إلَّا أن يكونَ قائلُ ذلك أراد -بتأويلِه الكفرَ بمعنى الشدَّةِ فى هذا الموضعِ، وبتأويلِه الإيمانَ فى معنى الرخاءِ- ما أعَدَّ اللهُ للكفارِ فى الآخرةِ مِن الشدائدِ، وما أعَدَّ اللهُ لأهلِ الإيمانِ فيها مِن النعمِ

(3)

، فيكونُ ذلك وجهًا وإن كان بعيدًا مِن المفهومِ بظاهرِ الخطابِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، [عن الربيعِ]

(4)

، عن أبى العاليةِ:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} . يقولُ: يَتَبَدَّلِ

(2)

فى ت 1، ت 3:"حكمه".

(3)

فى م، ت 2:"النعيم".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 414

الشدَّةَ بالرخاءِ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن

(2)

أبى جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ بمثلِه.

وفى قولِه: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} . دليلٌ واضحٌ على صحةِ

(3)

ما قلنا مِن أن هذه الآياتِ مِن قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} . خطابٌ مِن اللهِ المؤمنين به مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعتابٌ منه لهم على أمرٍ سلَف منهم، ممَّا سُرَّ به اليهودُ، وكرِهه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لهم، فكرِهه اللهُ لهم، فعاتَبهم

(4)

على ذلك، وأعْلَمَهم أن اليهودَ أهلُ غِشٍّ لهم، وحسَدٍ وبَغْىٍ، وأنهم يتمنَّوْن لهم المكارِهَ، ويَبْغُونهم الغوائلَ، ونهاهم أن يَنْتَصِحوهم، وأخبرَهم أن مَن ارتدَّ منهم عن دينِه فاسْتَبْدَل بإيمانِه [باللهِ وبرسولِه]

(5)

كُفرًا، فقد أخْطَأ قصدَ السبيلِ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}

أمَّا قولُه: {فَقَدْ ضَلَّ} . فإنه يعنى به: ذهَب وجارَ

(6)

. وأصلُ الضلالِ عن الشئِ: الذهابُ عنه والجورُ

(7)

، ثم يُسْتَعْمَلُ فى الشئِ الهالكِ والشئِ الذى لا يُؤْبَهُ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 204 (1078) من طريق ابن أبى جعفر به.

(2)

بعده فى الأصل، م، ت 3:"ابن".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

فى الأصل: "فعاقبهم".

(5)

سقط من: م، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"بالله".

(6)

فى م، ت 1، ت 2:"حاد".

(7)

فى م: "الحيد".

ص: 415

له، كقولِهم للرجلِ الخاملِ الذى لا ذِكْرَ له ولا نباهةَ: ضُلُّ بنُ ضُلٍّ، وقُلُّ بن قُلٍّ. وكقولِ الأخطلِ فى الشئِ الهالكِ

(1)

:

كُنْتَ القَذَى فى مَوْجِ أَكْدَرَ

(2)

مُزْبِدٍ

قَذَفَ الأَتِىُّ

(3)

بِهِ فَضَلَّ ضَلالا

يعنى: هلَك فذهَب.

والذى عنَى اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} : فقد ذهَب عن سواءِ السبيلِ وجارَ عنه.

وأمَّا تأويلُ قولِه: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} . فإنه يعنى بالسواءِ القصدَ والمَنْهَجَ. وأصلُ السواءِ الوَسَطُ. ذُكِر عن عيسى بنِ عُمرَ النحوىِّ أنه قال: مازِلْتُ أكتُبُ حتى انْقَطعَ سَوَائى. يعنى: وَسَطى. وقال حسَّانُ بنُ ثابتٍ

(4)

:

يا وَيْحَ أنْصَارِ النبىِّ ونَسْلِهِ

بَعْدَ المُغَيَّبِ فِى سَوَاءِ المُلْحَدِ

يعنى بالسواءِ: الوسَطَ. والعربُ تقولُ

(5)

: فى سواءِ الليلِ

(6)

. يعنى: فى مُسْتَوى الليْلِ

(6)

. وسواءُ الأرضِ مستواها عندَهم.

وأمَّا "السبيل"، فإنها الطريقُ المسبولُ، صُرِف مِن مسبولٍ إلى سبيلٍ.

(1)

شرح ديوانه ص 392.

(2)

فى م: "أكبر".

(3)

الأتى: السيل لا يدرى من أين أتى. اللسان (أ ت ى).

(4)

البيت فى الأضداد ص 42، ومجاز القرآن 1/ 157. وسيأتى البيت فى تفسير الآية 58 من سورة الأنفال.

(5)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"السبيل".

ص: 416

فتأويلُ الكلامِ إذن: ومَن يَسْتَبْدِلْ بالإيمانِ باللهِ وبرسولِه الكفرَ، فيَرْتَدَّ عن دينِه، فقد جار عن منهجِ الطريقِ ووسَطِه الواضحِ المسبولِ.

وهذا القولُ ظاهرُه الخبرُ عن زوالِ المُسْتبدِل بالإيمانِ الكفرَ عن الطريقِ، والمعنىُّ به الخبرُ عنه أنه قد ترَك دينَ اللهِ الذى ارْتَضَاه لعبادِه، وجعَله لهم طريقًا يَسْلُكونه إلى رضاه، وسبيلًا

(1)

يَرْكَبونها إلى محبَّتِه والفوزِ بجِنانِه. فجعَل جلَّ ثناؤه الطريقَ -الذى إذا ركِب مَحَجَّتَه السائرُ فيه، ولزِم وَسَطَه المجتازُ فيه، نجا وبلَغ حاجتَه، وأدرك طَلِبَتَه- لدِينِه الذى دعا إليه عبادَه مَثَلًا لإدراكِهم -بلزومِه واتِّباعِه- إدْراكَ

(2)

طَلِباتِهم فى آخرتِهم، كالذى يُدْرِكُ اللازمُ محجَّةَ السبيلِ -بلزومِه إيَّاها- طَلِبَتَه مِن النجاةِ منها، والوصولِ إلى الموضعِ الذى أمَّه وقصَده. وجعَل مثَلَ الجائرِ

(3)

عن دِينِه، والحائدِ عن اتِّباعِ ما دعا

(4)

إليه مِن عبادِه

(5)

فى خَيْبَتِه

(6)

ما رجا أن يُدْرِكَه بعمَلِه فى آخرتِه، وينالَ به فى مَعَادِه وذهابِه، عمَّا أمَّل مِن ثوابِ عملِه، وبُعْدِه به مِن ربِّه -مثلَ الجائرِ (3) عن منهجِ الطريقِ، وقصدِ السبيلِ، الذى لا يزدادُ وُغُولًا فى الوجهِ الذى سلَكه، إلَّا ازدادَ مِن موضعِ حاجتِه بُعْدًا، وعن المكانِ الذى أمَّه وأرادَه نَأيًا.

وهذه السبيلُ التى أخبَرَ اللهُ عنها، أن مَن يَتَبَدَّلِ الكفرَ بالإيمانِ فقد ضلَّ

(1)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"سبلا".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"إدراكهم".

(3)

فى م: "الحائد".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"دعاه".

(5)

فى م: "عبادته".

(6)

فى م: "حياته".

ص: 417

سَواءها، هو

(1)

الصراطُ المستقيمُ، الذى أُمِرْنا بمسألتِه الهدايةَ

(2)

له بقولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .

‌القولُ فى تأويلِ قولِه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} .

قال أبو جعفرٍ: وقد صَرَّح هذا القولُ مِن قولِ اللهِ جل ثناؤُه، بأن خطابَه بجميعِ هذه الآياتِ مِن قولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} وإن صرَف فى بعضِه الكلامَ إلى خطابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، إنما هو خطابٌ منه للمؤمنين [من أصحابِه]

(3)

، وعِتابٌ منه لهم، ونهىٌ عن انتصاحِ اليهودِ ونُظَرائِهم مِن أهلِ الشركِ، وقبولِ آرائِهم فى شيءٍ مِن أمورِ دينِهم، ودليلٌ على أنهم كانوا اسْتَعملوا، أو مَن اسْتَعمل منهم، فى [خطابِ ومسألةِ]

(4)

رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الجفاءَ، وما لم يكنْ له استعمالُه معَه، تأسِّيًا فى ذلك باليهودِ أو ببعضِهم، قال لهم ربُّهم ناهيًا لهم

(5)

عن استعمالِ ذلك: لا تقولوا لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم كما تقولُ

(6)

اليهودُ: راعِنا. تأسِّيًا منكم بهم، ولكنْ قولوا: انْظُرْنا واسْمَعوا. فإن أذَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كفرٌ بى وجحودٌ لحقِّى الواجبِ لى

(7)

عليكم فى تعظيمِه وتوقيرِه، ولمَن كفَر بى عذابٌ أليمٌ، فإن اليهودَ والمشركين ما يَوَدُّون أن يُنَزَّلَ عليكم مِن خيرٍ مِن ربِّكم، ولكنَّ كثيرًا منهم ودُّوا أنهم

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"هى".

(2)

فى م: "نفسه".

(3)

فى م: "وأصحابه".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"خطابه ومسألته".

(5)

سقط من: م.

(6)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"له".

(7)

زيادة من: م.

ص: 418

يَرُدُّونكم مِن بعدِ إيمانِكم كفَّارًا؛ حسَدًا مِن عندِ أنفسِهم لكم ولنبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مِن بعدِ ما تبيَّن لهم الحقُّ فى أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنه نبىٌّ إليهم وإلى خلقى كافَّةً.

وقد قيل: إن اللهَ جل ثناؤُه عنَى بقولِه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} كعبَ بنَ الأشرفِ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِىِّ فى قولِه:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : هو كعُب بنُ الأشرفِ

(1)

.

وحدَّثنا القاسِمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ المعْمَرىُّ

(2)

، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِىِّ وقتادةَ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال: كعبُ بنُ الأَشْرفِ

(3)

.

وقال بعضُهم بما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدَّثنى ابنُ إسحاقَ، وحدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان حُيَىُّ بنُ أَخْطَبَ، وأبو ياسرِ ابنُ أَخْطَبَ، مِن أشدِّ يهودَ للعربِ حسدًا، إذْ خَصَّهم اللهُ برسولِه صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدَيْن فى ردِّ الناسِ عن الإسلامِ بما استطاعا، فأنزَل اللهُ فيهما:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} الآية

(4)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 55، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 204 (1082) عن الحسن بن يحيى به.

(2)

فى م: "العمرى". وينظر تهذيب الكمال 25/ 109.

(3)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 107 إلى المصنف.

(4)

سيرة ابن هشام 1/ 548، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 204 (1081) من طريق سلمة.

ص: 419

وليس لقولِ القائلِ: عَنَى بقولِه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} كعبَ بنَ الأشرفِ. معنًى مفهومٌ؛ لأن كعبَ بنَ الأشرفِ واحدٌ، وقد أخبرَ اللهُ جلّ ثناؤُه أن كثيرًا منهم يَوَدُّون لو يَرُدُّون المؤمنين كفارًا بعد إيمانِهم، والواحدُ لا يقالُ له: كثيرٌ. بمعنى الكثرةِ فى العددِ، إلا أن يكونَ قائلُ ذلك أرادَ توجيهَ

(1)

الكثرةِ التى وصَف اللهُ بها مَن وصَفه بها فى هذه الآيةِ، الكثرةَ فى العزِّ ورفعةِ المنزلةِ فى قومِه وعشيرتِه، كما يقالُ: فلانٌ فى الناسِ كثيرٌ. يرادُ به كثرةُ المنزلةِ والقدْرِ. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأَ؛ لأن اللهَ جل ثناؤُه قد وصَفَهم بصفةِ الجماعةِ، فقال:{لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} . فذلك دليلٌ على أنه عَنَى به

(2)

الكثرةَ فى العددِ. أو يكونَ ظَنَّ أنه من الكلامِ الذى يَخْرُجُ مَخْرَجَ الخبرِ عن الجماعةِ، والمقصودُ بالحبرِ عنه الواحدُ، نظيرَ ما قلْنا آنفًا فى بيتِ جَميلٍ، فيكونُ ذلك أيضًا خطأً. وذلك أن الكلامَ إذا كان بذلك المعنى فلابدَّ من دَلالةٍ فيه تدلُّ على أن ذلك معناه، ولا دلالةَ تدلُّ فى قولِه:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أن المرادَ به واحدٌ دونَ جماعةٍ كثيرةٍ، فيجوزَ صرفُ تأويلِ الآيةِ إلى ذلك، وإحالةُ دليلِ ظاهرِها

(3)

إلى غيرِ الغالبِ فى الاستعمالِ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} .

يعنى جلّ ذكرُه بقولِه: {حَسَدًا} . أن كثيرًا من أهلِ الكتابِ يَوَدُّون للمؤمِنين ما أخبَر جل ثناؤُه عنهم أنهم يَوَدُّونه لهم، من الرِّدَّةِ عن إيمانِهم إلى الكفرِ، حسَدًا منهم وبَغْيًا عليهم. فالحسَد إذن منصوبٌ على غيرِ النعتِ للكفارِ، ولكن على

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بوجه".

(2)

سقط من: م.

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"ظاهره".

ص: 420

وجهِ المصدرِ الذى يأتى خارجًا من معنى الكلامِ الذى يخالفُ لفظُه لفظَ المصدرِ، كقولِ القائلِ لغيرِه: تمنَّيْتُ لك ما تمنَّيْتُ من السوءِ حسَدًا منى لك. فيكونُ الحسَدُ مصدرًا مِن معنى قولِه: تمنَّيْتُ [لك ما تمنَّيْتُ]

(1)

من السوءِ. لأنَّ فى قولِه: تمنَّيْتُ لك ذلك. معنى: حَسَدْتُك على ذلك. فعلى هذا نَصْبُ الحسدِ؛ لأنَّ فى قولِه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} . معنى

(2)

: حسَدكم أهلُ الكتابِ على ما أعْطاكم اللهُ من التوفيقِ، ووَهَب لكم من الرَّشادِ لدينِه والإيمانِ [به وبرسولِه صلى الله عليه وسلم]

(3)

، وخَصَّكم بهِ من أن جعَل رسولَه إليكم رجلًا منكم، رَءُوفًا بكم رَحيمًا، ولم يجعَلْه منهم، فتكونوا لهم تبَعًا. فكان قولُه:{حَسَدًا} . مصدرًا مِن ذلك المعنى.

وأما قولُه: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . فإنه يَعْنى بذلك

(4)

: من قِبَلِ أنفسِهم. كما يقولُ القائلُ: لى عندك كذا وكذا. بمعنى: لى قِبَلَك.

وكما حدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، [عن أبيه، عن الربيعِ]

(5)

قولَه: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} : [من قِبَلِ أنفسِهم]

(6)

.

وإنما أخبرَ اللهُ جل ثناؤُه عنهم المؤمنين أنهم وَدُّوا ذلك للمؤمنين من عندِ أنفسِهم، إعلامًا منه لهم أنهم لم يُؤْمَروا بذلك فى كتابِهم، وأنهم يَأتُونَ ما يَأتُون من

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

فى م: "يعنى".

(3)

فى م، ت 1، وفى ت 2، ت 3:"برسوله".

(4)

فى ت 1، ت 3:"به ذلك".

(5)

سقط من: م، ت 2، وفى ت 1، ت 3:"فى".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 1/ 205 (1085) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 421

ذلك على علمٍ منهم بنَهْىِ اللهِ إياهم عنه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} . أى: من بعدِ ما تَبَيَّنَ لهؤلاءِ الكثيرِ من أهلِ الكتابِ -الذين يَوَدُّون أنهم يَرُدُّونكم كفارًا من بعدِ إيمانِكم- الحقُّ في أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عندِ ربِّه، والملَّةِ التى دعا إليها، فأضاء لهم أن ذلك الحقُّ الذى لا

(1)

يَمْتَرُون فيه.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} : من بعدِ ما تَبَيَّنَ لهم أن محمدًا رسولُ اللهِ، والإسلامَ دينُ اللهِ

(2)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ

(3)

: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} . يقولُ: تَبَيَّن لهم أن محمدًا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَجِدُونه مكتوبًا عندهم في التوراةِ والإنجيلِ

(4)

.

وحدِّثْت عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه، وزاد فيه: فكفَروا به حسدًا وبَغْيًا، إذ كان من غيرِهم.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} : فإنَّ

(5)

الحقَّ هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وتَبَيَّنَ لهم أنه هو الرسولُ

(6)

.

(1)

سقط من: ت 3.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 107 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

بعده في م: "عن أبى العالية".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 205 عقب الأثر (1087) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

في م: "قال".

(6)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 205 عقب الأثر (1087) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

ص: 422

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} . قال: قد تَبَيَّنَ لهم أنه رسولُ اللهِ.

فدَلَّ جلَّ ثناؤُه بقيلِه ذلك أن كُفْرَ الذين قَصَّ قِصَّتَهم في هذه الآيةِ باللهِ وبرسولِه، عنادٌ، وعلى علمٍ منهم ومعرفةٍ بأنهم على اللهِ مُفْتَرُون.

كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} : يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه: من بعدِ ما أضاءَ لهم الحقُّ لم يَجْهَلُوا منه شيئًا، ولكنَّ الحسدَ حملَهم على الجَحْدِ، فعيَّرهم اللهُ ولامَهم ووَبَّخَهم أشدَّ الملامةِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {فَاعْفُوا} : فتجاوَزُوا عما كان منهم من إساءةٍ وخطأٍ في رأىٍ أشارُوا به عليكم في دينِكم، إرادةَ صدِّكم عنه، ومحاولةَ ارتدادِكم بعد إيمانِكم، وعما سلَفَ منهم من قيلِهم لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم:{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]. {وَاصْفَحُوا} عما كان منهم من جهلٍ في ذلك {حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} ، فيُحْدِثَ لكم من أمرِه فيهم

(2)

ما يشاءُ، ويَقْضِىَ فيهم بما

(3)

يريدُ. فقضَى فيهم [بعدَ ذلك]

(4)

تعالى ذكرُه، وأتَى بأمرِه، فقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 205 (1086) من طريق أبي كريب به.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيكم".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 423

حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فنسَخ العفوَ جل ثناؤُه عنهم والصفحَ، بفرضِ قتالِهم على المؤمنين، حتى تصيرَ كلمتُهم وكلمةُ المؤمنين واحدةً، أو

(1)

يُؤَدُّوا الجِزْيةَ عن يدٍ صَغارًا.

كما حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . نسَخ ذلك قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

(2)

[التوبة: 5].

حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} : فأتى اللهُ بأمرِه فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقَرأ

(3)

حتى بلَغَ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . أى: صَغارًا ونِقْمةً لهم، فنسَختْ هذه الآيةُ ما كان قبلَها {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}

(4)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} قال: اعفُوا عن أهلِ الكتابِ حتى يُحْدِثَ اللهُ أمرًا، فأَحدَثَ اللهُ بعدُ فقال:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قولِه: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}

(5)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن

(1)

في الأصل: "و".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 206 (1089) من طريق أبي صالح به.

(3)

زيادة من: الأصل.

(4)

أخرجه ابن الجوزي في ناسخه ص 136 من طريق همام عن قتادة نحوه.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 206 عقب الأثر (1090) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 424

قتادةَ في قولِه: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} قال: نسخَتْها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

(1)

.

حدّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} . قال: هذا منسوخٌ نسَخَه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قولِه: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} .

قال أبو جعفرٍ: قد دَلَّلْنا فيما مضَى على معنى القديرِ وأنه القويُّ

(3)

. فمعنى الآيةِ ههنا: إنَّ اللهَ على كلِّ ما يشاءُ [ويُريدُ]

(4)

-بالذين وصَفْتُ لكم

(5)

أمرَهم من أهلِ الكتابِ وغيرِهم- قديرٌ؛ إن شاء الانتقامَ منهم بعنادِهم ربَّهم، وإن شاء هِدايَتَهم

(6)

لما هداكم

(7)

له من الإيمانِ، لا يَتَعَذَّرُ عليه شيءٌ أرادَه، ولا يمتنعُ

(8)

عليه أمرٌ شاء قضاءَه؛ لأن له الخلقَ والأمرَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ} .

قال أبو جعفرٍ: قد دلَّلْنا فيما مضَى قبلُ

(9)

على معنى إقامةِ الصلاةِ، وأنها أداؤُها

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 55، ومن طريقه ابن الجوزى في ناسخه ص 137.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 206 عقب الأثر (1090)، والنحاس في ناسخه ص 106 من طريق عمرو به.

(3)

ينظر ما تقدم في ص 403.

(4)

زيادة من: الأصل.

(5)

في ت 2: "لك".

(6)

في م: "هداهم".

(7)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

(8)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يتعذر".

(9)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 425

بحدودِها وفروضِها، وعلى تأويلِ الصلاةِ، وما أصلُها، وعلى معنى إيتاءِ الزكاةِ، وأنه إعطاؤُها بطِيبِ نفسِ مُؤْتيها، على ما فُرِضَت ووجَبَتْ، وعلى معنى الزكاةِ، واختلافِ المختلفين فيها، والشواهدِ الدالةِ على صحةِ القولِ الذي اختَرْنا في ذلك بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

وأما قولُه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ} . فإنه يَعنى جل ثناؤُه بذلك: ومَهْمَا تَعمَلُوا من عملٍ صالحٍ في أيامِ حياتِكم، فتُقَدِّموه قبلَ وفاتِكم ذُخْرًا لأنفسِكم في مَعادِكم، تَجِدُوا ثوابَه عند ربِّكم يومَ القيامةِ، فيُجازِيكم به.

والخيرُ: هو العملُ الذي يَرضاه اللهُ.

وإنما قال: {تَجِدُوهُ} . والمعنَى: تجِدُوا ثوابَه.

كما حدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{تَجِدُوهُ} يعنى: تَجِدُوا ثوابَه عند اللهِ

(2)

.

قال أبو جعفرٍ: لاستغناءِ سامِعِ

(3)

ذلك بدليلِ ظاهرِه على معنى المرادِ منه، كما قال عمرُ

(4)

بنُ لَجْأَ

(5)

:

وسبَّحَتِ المدِينةُ لا تَلُمْها

رَأَتْ قمَرًا بسُوقِهِمُ نهَارَا

وإنما أراد: وسبَّح أهلُ المدينةِ.

وإنما أمَرهم جل ثناؤُه في هذا الموضعِ بما أمَرهم به من إقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 247، 611 وما بعدهما.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 عقب الأثر (1092) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سامعى".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عمرو".

(5)

تقدم تخريجه في 1/ 287.

ص: 426

وتقديمِ الخيراتِ لأنفسِهم؛ ليَتَطَهَّرُوا بذلك من الخطأِ الذي سَلَف منهم في استِنْصاحِهم اليهودَ، وركونِ من كان ركَن منهم إليهم، وجفاءِ من كان جَفَا منهم في خطابِه رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولِه:{رَاعِنَا} . إذ كانت إقامةُ الصلَواتِ كفارةً للذنوبِ، وإيتاءُ الزكاةِ تطهيرًا للنفوسِ والأبدانِ من أدناسِ الآثامِ، وفي تقديمِ الخيراتِ إدراكُ الفوزِ برِضْوانِ اللهِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} .

وهذا خبرٌ من اللهِ جل ثناؤُه للذين خاطَبَهم بهذه الآياتِ من المؤمِنين، أنهم مَهْما فعَلُوا من خيرٍ أو

(1)

شرٍّ، سرًّا و

(2)

عَلانيةً، فهو به بَصِيرٌ، لا يَخْفَى عليه منه شيءٌ، فيَجْزِيهم بالإحسانِ جزاءَه، وبالإساءةِ مثلَها.

وهذا الكلامُ وإن كان خرَج مَخْرَجَ الخبرِ، فإن فيه وعْدًا ووَعيدًا، وأمرًا وزَجْرًا، وذلك أنه أعلمَ القومَ أنه بَصِيرٌ بجميعِ أعمالِهم، لِيَجِدُّوا في طاعتِه؛ إذ كان ذلك مَذخورًا لهم عندَه حتى يُثِيبَهم عليه، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ} . ولِيَحْذَرُوا معصيتَه، إذ كان مُطَّلِعًا على راكِبِها، بعد تَقَدُّمِه إليه فيها بالوعيدِ عليها، وما أوْعَدَ عليه ربُّنا جل ثناؤُه فمَنْهِىٌّ عنه، وما وعَد عليه فمأمورٌ به.

أما قولُه: {بَصِيرٌ} . فإنه مُبْصِرٌ، صُرِف إلى بَصيرٍ، كما صُرِف مُبْدِعٌ إلى بَدِيعٍ، ومُؤْلِمٌ إلى أَليمٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُم} .

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"أو".

ص: 427

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَقَالُوا} : وقالت اليهودُ والنصارَى، {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} .

فإن قال قائلٌ: وكيف جمعَ اليهودَ والنصارَى في هذا الخبرِ، مع اختلافِ مقالةِ الفريقَيْن، واليهودُ تَدْفَعُ النصارَى عن أن يكونَ لها في ثوابِ اللهِ نصيبٌ، والنصارَى تَدْفَعُ اليهودَ عن مثلِ ذلك؟

قيل: إن معنى ذلك بخلافِ الذي ذهبْتَ إليه، وإنما عَنَى به: وقالت اليهودُ: لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا من كان هودًا. وقالت النصارَى: لن يَدخُلَ الجنةَ إلا النصارَى. ولكنَّ معنى الكلامِ لما كان مفهومًا عند المخاطَبِين به معناه، جُمِع الفريقان في الخبرِ عنهما، فقيل:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} .

[كما حدثنى موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ]

(1)

إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} الآية. قالت اليهودُ: لن يدخُلَ الجنةَ إلا مَن كان يهوديًّا. وقالت النصارَى: لن يدخُلَ الجنةَ إلا مَن كان نصرانيًّا

(2)

.

وأما قولُه: {مَنْ كَانَ هُودًا} . فإن في الهودِ قولين: أحدُهما، أن يكونَ جمعَ هائدٍ، كما عُوطٌ جمعُ عائطٍ

(3)

، وعُوذٌ جمعُ عائذٍ

(4)

، وحُولٌ جمعُ حائلٍ

(5)

، فيكونَ جمعًا للمذكرِ والمؤنثِ بلفظٍ واحدٍ، والهائدُ: التائبُ الراجعُ إلى الحقِّ.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 492 عقب الأثر (1094) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(3)

العُوط: الناقة إذا لم تحمل سنين من غير عُقْر. التاج (ع و ط).

(4)

العُوذ: الحديثات النِّتاج من الظباء والإبل والخيل ومن كل أنثى. التاج (ع و ذ).

(5)

الحُول: كل حامل ينقطع عنها الحمل سنة أو سنوات حتى تحمل. التاج (ح و ل).

ص: 428

والآخرُ، أن يكونَ مصدرًا أدَّى

عن الجميعِ، كما يقالُ: رجلٌ صَوْمٌ، وقَوْمٌ صَوْمٌ، ورجلٌ فِطْرٌ، وقومٌ فِطرٌ، ونسوةٌ فِطْرٌ.

وقد قيل: إن قولَه: {إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} . إنما هو: إلا مَن كان يهودِيًّا. ولكنَّه حُذِفَت الياءُ الزائدةُ، ورجَع إلى الفعلِ من اليهوديةِ. وقيل: إنه في قراءةِ أُبيٍّ: (إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا)

(2)

.

وقد بَيَّنّا فيما مضَى معنى النصارَى، ولِمَ سُمِّيَت بذلك وجُمِعت كذلك، بما أَغْنَى عن إعادتِه

(3)

.

وأما قولُه: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} . فإنه خبرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه عن قولِ الذين قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . أنه أمانيُّ منهم يَتَمَنَّوْنها على اللهِ، بغيرِ حقٍّ ولا حُجَّةٍ ولا برهانٍ، ولا يقينِ علمٍ بصحةِ ما يَدَّعون، ولكنْ بادِّعاءِ الأباطيلِ وأمانيِّ النفوسِ الكاذبةِ.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} : أمانيُّ يَتَمَنَّوْنها على اللهِ كاذبةٌ

(4)

.

وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} . قال: أمانيُّ تَمنَّوْا على اللهِ بغيرِ الحقِّ

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} .

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

معانى القرآن للفراء 1/ 73، وفيه أنها قراءة ابن مسعود أيضًا.

(3)

ينظر ما تقدم في ص 32 - 34.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 عقب الأثر (1095) معلقًا.

(5)

اْخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 عقب الأثر (1095) من طريق ابن أبي جعفر به.

(1)

ص: 429

وهذا أمرٌ من اللهِ جل ثناؤُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بدعاءِ الذين قالُوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} إلى أمرٍ عَدْلٍ بين جميعِ الفِرَقِ؛ مُسلِمِيها ويهودِها ونصاراها، وهو إقامةُ الحجةِ على دَعْواهم التي ادَّعَوْا من أن الجنةَ لا يَدخُلُها إلا من كان هودًا أو نَصارَى. يقولُ اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، قلْ للزاعمِين أن الجنةَ لا يدخُلُها إلا من كان هودًا أو نصارَى، دون غيرِهم من سائرِ البشرِ: هاتُوا حُجَّتَكم

(1)

على ما تزعُمون من ذلك، فنُسَلِّمَ لكم دَعْواكم، إن كنتم في دَعْواكم -مِن أن الجنةَ لا يدخُلُها إلا من كان هودًا أو نصارى- مُحِقِّين.

والبرهانُ: هو البيانُ والحجةُ والبيِّنةُ.

كما حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . يقولُ: هاتوا بَيِّنَتَكم

(2)

.

وحدثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} : هاتُوا حُجَّتَكم

(3)

.

وحدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حَجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . قال: حُجَّتَكم

(4)

.

وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن

(1)

في م: "برهانكم".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 (1097) من طريق شيبان، عن قتادة بنحوه.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 عقب الأثر (1096) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 عقب الأثر (1096) معلقًا.

ص: 430

الربيعِ: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . أى: حجَّتَكم

(1)

.

وهذا الكلامُ وإن كان ظاهرُه ظاهرَ دعاءٍ للقائلين: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . إلى إحضارِ حجةٍ على دَعْواهم ما ادَّعَوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيبٍ من اللهِ لهم في دَعْواهم وقيلِهم؛ لأنهم لم يكونوا قادِرين على إحضارِ برهانٍ على دَعْواهم تلك أبدًا.

وقد أبان قولُه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} . على أن الذي ذُكِرَ

(2)

من الكلامِ بمعنى التكذيبِ لليهودِ والنصارَى في دَعْواهم ما ذكَر اللهُ عنهم.

وأما تأويلُ قولِه: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} فإنه: أَحْضِرُوا وأْتُوا به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} : ليس الأمرُ

(3)

كما قال الزاعمون: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . ولكن مَن أَسلمَ وجهَه للهِ وهو مُحسِنٌ، فهو الذي يَدخُلُها ويُنَعَّمُ فيها.

كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: أَخْبَرَهم

(4)

مَن يدْخُلُ الجنةَ [فقال: {بَلَى]

(5)

مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية.

وقد بَيَّنَّا معنى "بَلى" فيما مضَى قبلُ

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 207 عقب الأثر (1096) من طريق ابن أبي جعفر.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذكرنا".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

بعده في م: "أن".

(5)

في م. "هو".

(6)

ينظر ما تقدم في ص 179.

ص: 431

وأما قولُه: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} . فإنه يَعنى بإسلامِ الوجهِ التذلُّلَ لطاعتِه والإذعانَ لأمرِه. وأصْلُ الإسلامِ الاستسلامُ، لأنه مِن: اسْتَسْلَمتُ له

(1)

. وهو الخُضوعُ لأمرِه. وإنما سُمِّىَ المسلمُ مسلمًا؛ لخضوعِ جوارحِه لطاعةِ ربِّه.

كما حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} . يقولُ: أَخْلَصَ للهِ

(2)

.

وكما قال زيدُ بنُ عمرِو بنِ نُفَيلٍ

(3)

:

[وأَسْلَمْتُ]

(4)

وَجْهِى لمن أسْلَمَتْ

له المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلالا

يعنى بذلك: اسْتَسْلَمْتُ لطاعةِ من اسْتَسْلَم لطاعتِه المُزْنُ وانقَدْتُ

(5)

له.

وخصَّ اللهُ جل ثناؤُه بالخبرِ عمن أخبرَ عنه بقولِه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} بإسلامِ وجهِه له دون سائرِ جوارحِه؛ لأن أكرمَ أعضاءِ ابنِ آدمَ وجوارحِه وجهُه، وهو أعظمُها عليه حرمةً وحقًّا، فإذا خضَع لشيءٍ وجهُه الذي هو أكرمُ أجزاءِ جسدِه عليه، فغيرُه من أجزأءِ جسدِه أَحْرَى أن يكونَ [قد خَضَعَ]

(6)

له. ولذلك تَذْكرُ العربُ في مَنْطقِها الخبرَ عن الشيءِ فتُضِيفُه إلى وجهِه، وهى تعني بذلك نَفْسَ الشيءِ وعَيْنَه، كقولِ الأعْشَى

(7)

:

(1)

في م: "لأمره".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 208 عقب الأثر (1099) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 231، والأغاني 3/ 128.

(4)

في الأصل، ت 2، والأغاني:"أسلمت".

(5)

في م ت 1، ت، 2، ت 3:"انقادت".

(6)

في م: "أخضع".

(7)

ديوانه ص 143.

ص: 432

أُؤَوِّلُ

(1)

الحُكْمَ على وجْهِهِ

لَيْسَ قَضَائِي بالهَوَى الجائِرِ

يعنى بقولِه: على وجهِه: على ما هو به مِن صحتِه وصوابِه. وكما قال ذو الرُّمَّةِ

(2)

:

فَطاوَعْتُ هَمِّى وَانْجَلَى وَجْهُ بازِلٍ

(3)

مِن الأمْرِ لم يَتْرُكْ خِلاجًا

(4)

بُزُولُها

(5)

يريدُ: وانجلَى البازلُ

(6)

من الأمرِ فتَبيَّن. وما أشْبَهَ ذلك، إذ كان حُسْنُ كلِّ شيءٍ وقبحُه في وجهِه، فكان

(7)

وصْفُها مِن الشيءِ وجهَه بما تَصِفُه به، إبانةً عن عينِ الشيءِ ونفسِه. فكذلك معنى قولِه جل ثناؤُه:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} . إنما يعني: بلى مَن أسلَم للهِ بدنَه، فخضَع له بالطاعةِ جَسدُه، وهو مُحسِنٌ في إسلامِه له جسدَه، فله أجرُه عندَ ربِّه. فاكْتَفَى بذكرِ الوجهِ مِن ذكرِ جسدِه، لدلالةِ الكلامِ على المعنى الذي أُرِيدَ به بذكرِ الوجهِ.

وأما قولُه: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فإنه يعني به: في حالِ إحسانِه. وتأويلُ الكلامِ: بلى مَن أخلَص طاعتَه [وعبادتَه للهِ]

(8)

محسنًا في فعلِه ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} .

يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} : فللمُسْلمِ وجْهَه للهِ محسنًا، جزاؤه وثوابُه على إسلامِه وطاعتِه ربَّه، عندَ اللهِ في معادِه.

(1)

في النسخ: "وأوّل". والمثبت من الديوان.

(2)

ديوانه 2/ 938.

(3)

في النسخ، ونسخة من الديوان:"نازل"، والمثبت من بقية نسخ الديوان، وأمر بازل: مستحكم، وخطب بازل: شديد. التاج (ب ز ل).

(4)

الخلاج: الشك. اللسان (خ ل ج).

(5)

في الأصل، م، ت:"نزولها"، وفي ت 2:"يرولها". والمثبت من الديوان.

(6)

في النسخ: "النازل". والباء غير منقوطة في الأصل.

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكان في".

(8)

في م، ت 1، ت 2:"لله وعبادته له".

ص: 433

ويعنى بقولِه: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : [ولا خوفٌ]

(1)

على المسلمين وجوهَهم

للهِ وهم محسِنون، المخُلِصين للهِ الدينَ، في الآخرةِ مِن عقابِه وعذابِ جحيمِه، ومما

قَدِموا عليه مِن أعمالِهم.

ويعنى بقولِه: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} : ولا هم يَحْزنون على ما خَلَّفوا وراءَهم في الدنيا، ولا أن يُمْنَعوا ما قَدِموا عليه مِن نعيمِ ما أعدَّ اللهُ لأهلِ طاعتِه.

وإنما قال جل ثناؤُه: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وقد قال قبلُ: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّه} . لأن {مَنْ} التي في قولِه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} في لفظِ واحدٍ ومعنَى جمعٍ

(2)

، فالتوحيدُ في قولِه:{فَلَهُ أَجْرُهُ} للَّفظِ، والجميعُ

(3)

في قولِه: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} . للمعنى.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} .

وذُكِرَ أن هذه الآيةَ نزَلَت في قومٍ مِن أهلِ الكتابين تنازَعوا عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك

(4)

بعضُهم لبعضٍ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، وحدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونس بنُ بُكَيرٍ، قالا جميعًا: ثنا محمدُ بن إسحاقَ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جميع".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الجمع".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 434

قَدِم أهلُ نَجْرانَ مِن النصارَى على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أتَتْهم أحبارُ يهودَ، فتنازَعوا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافعُ بنُ حُرَيْمِلةَ: ما أنتم على شيءٍ. وكفَر بعيسى ابنِ مريمَ وبالإنجيلِ، فقال رجلٌ مِن أهلِ نجرانَ مِن النصارى: ما أَنتم على شيءٍ. وجحَد نبوَّةَ موسى وكفَر بالتوراةِ، فأنزَل اللهُ في ذلك مِن قولِهما:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} إلى قولِه: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} . قال: هؤلاء أهلُ الكتابِ الذين كانوا على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وأما تأويلُ الآيةِ فإنه: وقالت اليهودُ: ليست النصارَى في دينِها على صوابٍ. وقالت النصارى: ليست اليهودُ في دينِها على صوابٍ.

وإنما أخْبَر اللهُ عنهم بقيلِهم ذلك المؤمنين

(3)

، إعلامًا منه لهم تَضْييعَ

(4)

كلَّ فريقٍ منهم حُكمَ الكتابِ الذي يُظْهِرُ الإقرارَ بصِحتِه وأنه مِن عندِ اللهِ، وجحودَهم مع ذلك ما أنزَل اللهُ فيه مِن فروضِه؛ لأن الإنجيلَ الذي تَدينُ بصِحتِه وحقيقتِه النصارى، يُحققُ ما في التوراةِ مِن نبوَّةِ موسى، وما فرَض اللهُ على بنى إسرائيلَ فيها مِن الفرائضِ، وأن التوراةَ التي تَدينُ بصحتِها وحقيقَتِها اليهودُ، تُحققُ نبوَّةَ عيسى، وما

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 549، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 208 (1103) من طريق سلمة به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 209 عقب الأثر (1105) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"للمؤمنين".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بتضييع".

ص: 435

جاء به مِن عندِ اللهِ مِن الأحكامِ والفرائضِ. ثم قال كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخرِ ما أخبرَ اللهُ عنهم في قولِه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} . مع تلاوةِ كلِّ واحدٍ مِن الفريقين كتابَه الذى يشهَدُ على كذبِه في قيلِه ذلك.

فأخْبَر جل ثناؤُه أن كلَّ فريقٍ منهم قال ما قال مِن ذلك، على علمٍ منهم أنهم فيما قالوه مُبْطِلون، وأتَوْا ما أتَوْا مِن كفرِهم بما كفروا به، على معرفةٍ منهم بأنهم فيه مُلحِدون.

فإن قال لنا قائلٌ: أوَ كانت اليهودُ أو النصارَى بعدَ أن بعَث اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم على شيءٍ، فيكونَ الفريقُ القائلُ ذلك منهم للفريقِ الآخرِ مُبطِلًا في قيلِه ما قال مِن ذلك؟

قيل: قد روَينا الخبرَ الذى ذكَرْناه عن ابنِ عباسٍ قبلُ، مِن أن إنكارَ كلِّ فريقٍ منهم إنما كان إنكارًا لنبوَّةِ النبىِّ الذى كان يَنْتحِلُ التَّصْديقَ به وبما جاء به الفريقُ الآخرُ، لا دفعًا منهم أن يكونَ الفريقُ الآخرُ -في الحالِ التى بعَث اللهُ فيها نبيَّنا صلى الله عليه وسلم- على شيءٍ مِن دينِه، بسببِ جحودِه نبوَّةَ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوزُ أن يكونَ معنى ذلك إنكارُ كلِّ فريقٍ منهم أن يكونَ الفريقُ الآخرُ على شيءٍ بعدَ ما بُعث نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وكلُّ

(1)

الفَرِيقين كان جاحدًا نبوَّةَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في الحالِ التى أنزَل اللهُ فيها هذه الآيةَ؟ ولكن مضى ذلك: وقالت اليهودُ: ليست النصارَى على شيءٍ مِن دينِها منذ دانَتْ دينَها. وقالت النصارى: ليست اليهودُ على شيءٍ منذ دانَتْ دينَها. وذلك هو معنى الخبرِ الذى روَيناه عن ابنِ عباسٍ آنِفًا. فكَذَّب اللهُ الفريقين في قيلِهما ما قالا.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كلا".

ص: 436

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} : [ألَا وبلَى]

(1)

! قد كانت أوائلُ النصارَى على شيءٍ، ولكنَّهم ابتدَعوا وتَفرَّقوا، {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}:[ألَا وبلَى! قد كانت أوائلُ اليهودِ علَى شيءٍ]

(2)

، ولكن القومَ [افتَروا وتفرَّقوا وابتدَعوا]

(3)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ

(4)

: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} . قال: قال مجاهدٌ؛ قد كانت أوائلُ اليهودِ والنصارى على شيءٍ

(5)

.

وأما قولُه: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} . فإنه يعنى كتابَ اللهِ التوراةَ والإنجيلَ، وهما شاهدانِ على فريقَىِ اليهودِ والنصارى بالكفرِ، وخِلافِهم أمرَ اللهِ الذى أمرَهم به فيه.

كما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قالا جميعًا: ثنا ابنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . أي: كلٌّ يَتْلو في كتابِه تصديقَ ما كفَر به، أي: تَكْفُرُ اليهودُ بعيسى وعندَهم التوراةُ فيها ما أخَذ اللهُ عليهم مِن الميثاقِ على لسانِ موسى بالتصديِق بعيسى، وفى الإنجيلِ مما جاء

(1)

في م: "قال: بلى".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابتدعوا وتفرقوا".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 108 إلى المصنف وعبد بن حميد، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 223.

(4)

في ت 2: "أبى نجيح".

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 223.

ص: 437

به عيسى تصديقُ موسى، وما جاء به مِن التوراةِ مِن عندِ اللهِ، وكلٌّ يَكْفُرُ بما في يدِ صاحبِه

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ في الذين عَنَى اللهُ بقولِه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنى به المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . قال: وقالت النصارى مِثلَ قولِ اليهودِ قبلَهم

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، [قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا]

(3)

سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} قال: قالت النصارى مِثلَ قولِ اليهودِ قبلَهم

(4)

.

وقال آخرون بما حدَّثنا به القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: قلتُ لعطاءٍ: مَن هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أممٌ كانت قبلَ اليهودِ والنصارى، وقبلَ التوراةِ والإنجيلِ

(5)

.

وقال بعضُهم: عَنَى بذلك مُشرِكى العربِ، لأنهم لم يكونوا أهلَ كتابٍ، فنُسِبوا إلى الجهلِ، ونُفِى عنهم مِن أجلِ ذلك العلمُ.

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 549، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 209 (1106) من طريق سلمة به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 209 عقب الأثر (1109) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

سقط من: م.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 209 عقب الأثر (1109) معلقا.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 209 (1108) من طريق حجاج به.

ص: 438

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : فهمُ العربُ، قالوا: ليس محمدٌ على شيءٍ

(1)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أن يقالَ: إن اللهَ أخْبَر تبارك وتعالى عن قومٍ وصفَهم بالجهلِ، ونفَى عنهم العلمَ بما كانت اليهودُ والنصارى به عالِمين - أنهم قالوا بجهلِهم نظيرَ ما قالت اليهودُ والنصارى بعضُها لبعضٍ، مما أخْبَر اللهُ عنهم أنهم قالوه فى قولِه:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} . وجائزٌ أن يكونوا هم المشركين مِن العربِ، وجائزٌ أن يكونوا أُمةً كانت قبلَ اليهودِ والنصارى، ولا أمَّةٌ هى

(2)

أوْلى أن يُقال هى التى عُنِيت بذلك من الأُخْرى، إذ لم يَكُنْ في الآيةِ دلالةٌ على أىٍّ من أىٍّ، ولا خبرَ بذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تثْبُتُ

(3)

حجتُه من جهةِ النقلِ المُسْتفيضِ، ولا مِن جهةِ نقلِ الواحدِ العدْلِ.

وإنما قصَد اللهُ جل ثناؤُه بقولِه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . إلى

(4)

إعلامِ المؤمنين أن اليهودَ والنصارَى قد أتَوْا -مِن قيلِ الباطلِ، وافتراءِ الكذبِ على اللهِ، وجُحودِ نبوَّةِ الأنبياءِ والرسلِ، وهم أهلُ كتابٍ يَعْلمون أنهم فيما يقولون مُبْطِلون، وبجُحودِهم ما يجحَدون مِن ملتِهم خارِجون، وعلى اللهِ مُفترون- مِثلَ الذى قاله أهلُ الجهلِ باللهِ وكتُبِه ورسلِه الذين لم يَبْعثِ اللهُ

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 209 (1107) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ثبتت".

(4)

سقط من: م.

ص: 439

إليهم

(1)

رسولًا، ولا أوْحَى إليهم كتابًا.

وهذه الآيةُ تُنْبئُ عن

(2)

أن مَن أتَى شيئًا مِن معاصِى اللهِ على علمٍ منه بنَهْىِ اللهِ عنها، فمُصيبتُه في دينِه أعظمُ مِن مصيبةِ مَن أتَى ذلك جاهلًا به؛ لأن اللهَ تعالى ذِكرُه عظَّم توبيخَ اليهودِ والنصارَى بما وبَّخَهم به -في قيلِهم ما أخبَر عنهم بقولِه:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} - مِن أجلِ أنهم أهلُ كتابٍ، قالوا ما قالوا مِن ذلك على علمٍ منهم بأنهم فيه مُبْطِلون.

‌القولُ في تأويلِ قوله جل ثناؤُه: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} .

يعنى بذلك جل ثناؤُه: فاللهُ يَقْضِى فيَفْصِلُ بينَ هؤلاءِ المُختلفِين القائلِ بعضُهم لبعضٍ: لستم على شيءٍ مِن دينِكم. يومَ قيامِ الخلقِ لرِّبهم مِن قبورِهم، فيتبيَّنُ

(3)

المحقُّ منهم مِن المُبطلِ، بإيتائِه

(4)

المحقَّ ما وعَد أهلَ طاعتِه على أعمالِهم الصالحةِ، ومجازاتِه المُبطِلَ منهم بما أوْعَد أهلَ الكفرِ به على كفرِهم به، فيما كانوا فيه يَخْتَلِفون مِن أديانِهم ومِلَلِهم في دارِ الدنيا.

وأما "القيامةُ"، فهى مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: قمتُ قِيامًا وقِيامةً. كما يقالُ: عُدْتُ فلانًا عِيادةً. و: صُنْتُ هذا الأمرَ صِيانةً. وإنما عنَى بالقيامةِ قيامَ الخلقِ مِن قبورِهم لربِّهم. فمعنى {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : يومَ قيامِ الخلائقِ مِن قبورِهم لمحشرِهم.

(1)

في م. "لهم".

(2)

في ت 1، ت 2:"على".

(3)

في متن الأصل: "فيبين"، وكتب مقابله:"فتبين".

(4)

في م: "بإثابة".

ص: 440

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} .

قد دَلَّلْنا فيما مضَى قبلُ على أن تأويلَ الظُلمِ وَضْعُ الشئِ في غيرِ موضعِه

(1)

.

فتأويلُ قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ} : وأىُّ امرِئ أشدُّ تَعدِّيًا وجُرأَةً على اللهِ وخلافًا لأمرِه، مِن امرئ منَع مساجدَ اللهِ أن يُعبدَ اللهُ فيها؟

والمساجدُ جمعُ مسجدٍ، وهو كلُّ مَوضِعٍ عُبِدَ اللهُ فيه. وقد بيَّنا معنى السجودِ فيما مضَى

(2)

. فمعنى المسجدِ: المَوضعُ الذى يُسْجَدُ للهِ فيه. كما يقالُ للموضعِ الذى يُجْلَسُ فيه: المَجلِسُ. وللمَوضعِ الذى يُنزَلُ فيه: المنَزِلُ. ثم يُجمعُ مَنازلَ ومجالسَ، نَظيرَ [جمعِ مَسجدٍ؛ مَساجدَ]

(3)

. وقد حُكِىَ سماعًا مِن بعضِ العربِ: مَسْجَدٌ

(4)

. في واحدِ المساجدِ، وذلك كالخطأِ مِن قائلِه.

وأما قولُه: {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . فإن فيه وَجْهين مِن التأويلِ: أحدُهما، أن يكونَ معناه: ومَن أظلمُ ممن منَع مساجدَ اللهِ مِن أن يُذكرَ فيها اسمُه. فتكونَ {أَنْ} حينئذٍ نصبًا في

(5)

قولِ بعضِ أهلِ العربيةِ بفَقْدِ الخافضِ، وتَعلُّقِ الفعلِ بها. [وفى قولِ بعضِهم خَفْضُها بمعنَى "مِن" وإن لم تكُنْ "مِن" ظاهرةً، إذْ كان في الكلامِ عليها دلالةٌ]

(6)

.

والوجهُ الآخرُ، أن يكونَ معناه: ومَن أظلمُ ممن منَع أن يُذْكرَ اسمُ اللهِ في

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 559، 560.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 715.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مسجد ومساجد".

(4)

في م: "مساجد".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 441

مساجدِه. فتكونَ {أَنْ} حينئذٍ في موضعِ نصبٍ تكريرًا على موضعِ "المساجدِ" وردًّا عليه.

وأما قولُه: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} . فإن معناه: ومَن أظلمُ ممن منَع مساجدَ اللهِ أن يُذْكرَ فيها اسمُه، وممن سعَى في خرابِ مساجدِ اللهِ. فـ {وَسَعَى} إذن عطفٌ على {مَنَعَ} .

فإن قال لنا قائلٌ: ومَن الذين عَنَى اللهُ بقولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} ؟ وأيُّ المساجدِ هى؟

قيل: إن أهلَ التأويلِ في ذلك مُختلِفون؛ فقال بعضُهم: الذين مَنَعوا مساجدَ اللهِ أن يُذْكرَ فيها اسمُه هم النصارى، والمسجدُ بيتُ المقدسِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أَبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} : فإنَّهم النصارى

(1)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} : النصارى، كانوا يَطْرَحون في بيتِ المقدسِ الأذَى، ويَمْنعون الناسَ أن يُصلُّوا فيه

(2)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 210 (1111) عن محمد بن سعد به.

(2)

تفسير مجاهد ص 212، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 210 (1112). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 108 إلى عبد بن حميد.

ص: 442

وحدَّثنى المُثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهد مثلَه.

وقال آخرون: بل هو بُخْتُنَصَّرَ وجندُه، ومَن أعانَهم مِن النصارى، والمسجدُ مسجدُ بيتِ المقدسِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية: أولئك أعداءُ اللهِ النصارى، حملَهم بُغْضُ اليهودِ على أن أعانوا بُخْتَنَصَّرَ البابليَّ المجوسىَّ على تخريبِ بيتِ المقدسِ

(1)

.

وحدَّثنا الحصنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قال: هو بُخْتُنَصَّرَ وأصحابُه، خرَّب بيتَ المقدسِ، وأعانَه على ذلك النصارى

(2)

.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} : فإن

(3)

الرُّومَ كانوا ظاهروا بُخْتَنَصَّرَ على خرابِ بيتِ المقدسِ حتى خرَّبه، وأمَر به أن تُطْرَحَ فيه الجِيفُ، وإنما أعانَه الرومُ على خرابِه مِن أجلِ أن بنى إسرائيلَ قتَلوا يحيى بنَ

(1)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 108 إلى عبد بن حميد، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 224.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 56، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 210 (1113) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

ص: 443

زَكَريا

(1)

.

وقال آخرون: بل عَنَى اللهُ عز وجل بهذه الَايةِ مُشْرِكى قريشٍ، إذ مَنَعوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن المسجدِ الحرامِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} . قال: هؤلاء المشركون حين حالُوا بينَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الحُدَيبيةِ وبينَ أن يَدْخُلَ مكةَ، حتى نحَر هديَه بذِى طُوًى وهادَنَهم، وقال لهم:"ما كان أحدٌ يُرَدُّ عن هذا البيتِ، وقد كان الرجلُ يَلْقَى قاتلَ أبيه أو أخيه فيه فما يصدُّه! " فقالوا: لا يَدْخلُ علينا مَن قتَل آباءَنا يومَ بدرٍ وفينا باقٍ. وفى قولِه: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قال

(2)

: إذا قطَعوا مَن يَعمُرُها بذِكْرِه، ويَأْتِيها للحجِّ والعمرةِ

(3)

.

وأوْلَى التأويلاتِ التى ذَكَرناها بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: عَنَى اللهُ عز وجل بقولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعَوا في خرابِ بيتِ المقدسِ، وأعانوا بُخْتَنَصَّرَ على ذلك، ومنَعوا مُؤْمنى بنى إسرائيلَ مِن الصلاةِ فيه بعدَ مُنْصرَفِ بختِنصَّرَ عنهم إلى بلادِه.

والدليلُ على صحةِ ما قلنا في ذلك، قيامُ الحُجةِ بأن لا قولَ في معنى هذه الآيةِ إلا أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ التى ذكرناها، وأن لا مسجدَ عَنَى اللهُ عز وجل بقولِه: {فِي

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 211 (1116) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قالوا".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 224 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 108 إلى المصنف.

ص: 444

خَرَابِهَا} إلا أحَدُ المَسجدَيْن، إما مَسْجدُ بيتِ المقدسِ، وإما المسجدُ الحرامُ. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أن مُشرِكى قريشٍ لم يَسْعَوا قَطُّ في تخريبِ المسجدِ الحرامِ، وإن كانوا قد منَعوا في بعضِ الأوقاتِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه مِن الصلاةِ فيه، صحَّ وثبَت أن الذين وصفَهم اللهُ عز وجل بالسعىِ في خرابِ مساجدِه، غيرُ الذين وصفَهم اللهُ بعمارتِها، إذ كان مُشْرِكو

(1)

قريشٍ هم

(2)

بنَوا المسجدَ الحرامَ في الجاهليةِ، وبعِمارتِه كان افْتِخارُهم، وإن كان بعضُ أفعالِهم فيه كان منهم على غيرِ الوجهِ الذى يَرْضاه اللهُ منهم. وأُخرى أن الآيةَ التى قبلَ قولِه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . مضَت بالخبرِ عن اليهودِ والنصارَى وذمِّ أفعالِهم، والتى بعدَها عقَّبَت

(3)

بدمِّ النصارَى والخبرِ عن افترائِهم على ربِّهم، ولم يَجْرِ لقريشٍ ولا لمُشركى العربِ ذِكْرٌ، ولا للمسجدِ الحرامِ قبلَها، فيُوجَّهَ الخبرُ بقولِ اللهِ عز وجل:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . إليهم وإلى المسجدِ الحرامِ. وإذ كان ذلك كذلك، فالذى هو أوْلَى بالآيةِ أن يُوجَّهَ تأويلُها إليه، هو ما كان نَظيرَ قصةِ الآيةِ قبلَها والآيةِ بعدَها، إذ كان خبرُها لخبرِهما نظيرًا وشكلًا، إلا أن تقومَ حُجةٌ يجِبُ التسليمُ لها بخلافِ ذلك، وإن اتفَقت قصصُها فاشْتَبهت.

فإن ظنَّ ظانٌّ أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك -إذ كان المسلمون لم يَلْزمْهم قَطُّ فرضُ الصلاةِ في [مسجدِ بَيْتِ]

(4)

المقدسِ فَمُنِعوا مِن الصلاةِ فيه،

(1)

في م: "مشرك".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "نبهت".

(4)

في م: "المسجد".

ص: 445

فيجوزَ

(1)

توجيهُ قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . إلى أنه مَعْنىٌّ به مسجدُ بيتِ المقدسِ- فقد أخطَأ فيما ظَنَّ مِن ذلك. وذلك أن اللهَ تعالى ذِكْرُه إنما ظلَّمَ

(2)

مَن منَع مَن كان فرضَه الصلاةُ في مسجدِ بيتِ المقدسِ مِن مؤمنى بنى إسرائيلَ، وإياهم قصَد بالخبرِ عنهم بالظلمِ، والسَّعْىِ في خرابِ المسجدِ، وإن كان قد دلَّ بعمومِ قولِه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أن كلَّ مانعٍ مصليًا في مسجدٍ للهِ، فرضًا كانت صلاتُه فيه أو تطوعًا، وكلَّ ساعٍ فى خرابِه

(3)

، فهو مِن المُعْتدين الظالمين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} .

وهذا خبرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه عمَّن مَنَع مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُه، أنه قد حَرَّم عليهم دخولَ المساجدِ التى سَعَوا في تخريبِها، ومَنَعوا عبادَ اللهِ المؤمنين مِن ذكرِ اللهِ عز وجل فيها ما داموا على مُناصَبةِ الحربِ، إلا على خوفٍ ووَجَلٍ مِن العقوبةِ على دُخولِهموها.

كالذى حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} : وهم اليومَ كذلك، لا يُوجَدُ نَصرانىٌّ في بيتِ المقدسِ إلا نُهِك ضربًا، وأُبْلِغ إليه في العقوبةِ.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ: قال اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} . وهم

(1)

في م: "فيلجئون".

(2)

في م: "ذكر ظلم".

(3)

في م: "إخرابه".

ص: 446

النَّصارَى، فلا يَدْخُلون المسجدَ

(1)

إلا مُسارَقةً، إن قُدِرَ عليهم عُوقِبوا

(2)

.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} : فليس في الأرضِ رومىٌّ يَدْخُلُه اليومَ إلا وهو خائفٌ أن تُضْرَبَ عُنقُه، أو قد أُخِيفَ بأداءِ الجِزْيةِ فهو يُؤَدِّيها

(3)

.

وحدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدِ في قولِه: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} . قال: نادَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألَّا

(4)

يَحُجَّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بالبيتِ عُرْيانٌ". قال: فجعَل المُشرِكون يقولون: اللهم إنا مُنِعْنا أن نُبِرَّك

(5)

.

وإنما قِيلَ: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} فأُخرِج على وجهِ الخبرِ عن الجميعِ وهو خبرٌ عمّن منَع مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُه؛ لأن "مَن" في مَعْنَى الجمعِ وإن كان لفظُه واحدًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} .

أما قولُه: {لَهُمْ} . فإنه يَعْنى: للذين أخْبَر عنهم أنهم مَنَعوا مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُه.

(1)

بعده في الأصل: "الحرام".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 56، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 211 (1117) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 211 (1116) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لا".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ننزل".

وقوله: "ألّا يحج بعد العام مشرك. . .". متفق عليه من حديث أبى هريرة، أن أبا بكر بعثه. . . يؤذن بمنى: ألا لا يحج. . . وينظر فتح البارى لابن رجب 2/ 401، 402، وسيأتى من طرق في أول سورة التوبة.

ص: 447

وأما قولُه: {فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} . فإنه يَعْنِى بالخزىِ الشرَّ والعارَ والذِّلةَ؛ إما القتلُ والسَّبيُ، وإما الذِّلةُ والصَّغارُ بأداءِ الجزيةِ.

كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ:{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} . قال: يُعْطُون الجِزيةَ عن يدٍ وهم صاغِرون

(1)

.

وحدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} : أما خزيُهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المَهْدىُّ وفُتِحَت القُسْطنطينيةُ قَتَلهم، فذلك الخزىُ

(2)

.

[وأما قولُه: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}. فإن الآخرةَ صفةٌ للدارِ. وقد بيَّنَّا فيما مضَى قبلُ لِمَ قيلَ لها: آخرةٌ]

(3)

.

وأما العذابُ العظيمُ، فإنه عذابُ جهنمَ الذى لا يُخَفَّفُ عن أهلِه، ولا يُقْضَى عليهم فيه

(4)

فيموتوا.

وتأويلُ الآيةِ: لهم في الدنيا الذلةُ والهوانُ، والقتلُ والسبيُ، على مَنْعِهم مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُه، وسَعْيِهم في خرابِها، ولهم على مَعْصِميتِهم وكفرِهم بربِّهم، وسعيِهم في الأرضِ فسادًا، عذابُ جهنمَ، وهو العذابُ العظيمُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} .

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 56، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 211 (1119) عن الحسن بن يحيى به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 211 (1118) من طريق عمرو به.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. وينظر ما تقدم في 1/ 251.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيها".

ص: 448

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} : للهِ مِلْكُهما وتَدْبيرُهما، كما يُقالُ: لفلانٍ هذه الدارُ. يَعْنى أنها له مِلْكًا، فكذلك قولُه:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} . يَعْنِى أنهما له مِلْكًا وخَلْقًا.

والمَشْرِقُ: موضعُ شُروقِ الشمسِ، وهو موضعُ طلوعِها [منه. وكذلك المغربُ: الموضعُ الذى تَغْرُبُ فيه]

(1)

، كما يُقالُ لموضعِ طلوعِها منه: مَطْلِعُ. بكسرِ اللَّامِ، كما بَينَّا في مَعْنَى المَسْجِدِ آنفًا.

فإن قال قائلٌ: أَوَما للهِ إلا مشرِقٌ واحدٌ ومغرِبٌ واحدٌ، حتى قِيلَ:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ؟

قيل: إن معنى ذلك غيرُ الذى ذهَبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: وللهِ المشرِقُ الذى تَشْرُقُ منه الشمسُ كلَّ يومٍ، والمغرِبُ الذى تَغْرُبُ فيه كلَّ يومٍ. فتأويلُه إذْ كان ذلك مَعْناه: وللهِ ما بينَ قُطْرىِ الشرقِ وما بينَ قُطْرىِ المغربِ. إذ كان شروقُ الشمسِ كلَّ يومٍ مِن موضعٍ منه لا تَعودُ لشروقِها منه إلى الحولِ إلذى بعدَه، وكذلك غروبُها كلَّ يومٍ.

فإن قال قائلٌ: أَوَ ليس -وإن كان تأويلُ ذلك ما ذكرتَ- للهِ كلُّ ما دونَه، والخلقُ خلقُه؟ قيل: بَلَى.

فإن قال: فكيف خصَّ المشارقَ والمغاربَ بالخبرِ عنها أنها له في هذا الموضعِ دونَ سائرِ الأشياءِ غيرِها؟

قِيلَ: قد اخْتَلف أهلُ التأويلِ في السببِ الذى مِن أجلِه خصَّ اللهُ ذِكْرَ ذلك بما خصَّه به في هذا الموضعِ، ونحن مُبَيِّنو الذى هو أوْلَى بتأويلِ الآيةِ بعدَ ذِكْرِنا أقوالَهم في ذلك؛ فقال بعضُهم: خصَّ اللهُ ذلك بالخبرِ عنه

(2)

مِن أجلِ أن اليهودَ كانت تُوَجِّهُ في صلاتِها وجوهَها قِبَلَ بيتِ المقدسِ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 449

[وأصحابُه يَفْعلون]

(1)

ذلك مُدَّةً، ثم حُوِّلوا إلى الكعبةِ، فاستَنْكرت اليهودُ ذلك مِن فعلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما ولَّاهم عن قِبْلَتِهم التى كانوا عليها. فقال اللهُ تبارك وتعالى لهم: المشارقُ والمغاربُ كلُّها لي، أصْرِفُ وجوهَ عِبادِى كيف أشاءُ منها، فأينَما

(2)

تُوَلُّوا فثَمَّ وَجْهُ اللهِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي المثني، قال: حَدَّثَنَا أبو صَالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ بنُ صَالحٍ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان أولَ ما نَسَخَ اللهُ مِن القرآنِ القبلةُ، وذلك أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما هاجَر إلى المدينةِ، وكان أكثرَ أهلِها اليهودُ، أمرَه اللهُ عز وجل أَنْ يَسْتَقبلَ بيتَ المقدسِ، ففَرِحت اليهودُ، فاسْتَقْبلها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضعةَ عشرَ شهرًا، فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ قِبْلَةَ إبراهيمَ، فكان يَدْعُو ويَنْظرُ إلى السماءِ، فأَنْزَل اللهُ تبارك وتعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إلى قولِه: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. فارْتاب مِن ذلك اليهودُ، وقالوا:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} . فأنْزَل اللهُ عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]. وقال: {فَأَيْنَمَا

(3)

تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}

(4)

.

وحَدَّثَنِي موسي، قال: حَدَّثَنَا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ بنحوِه

(5)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يفعل".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فحيثما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أينما".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 248، 253 (1329، 1355)، والنحاس في ناسخه ص 71، والبيهقيُّ 2/ 12، 13 من طريق أبي صالح به. وأخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 16، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 212 (1123)، والبيهقيُّ 2/ 12، وابن الجوزى في ناسخه ص 144 من طريق عطاء الخراساني، عن ابن عباس، نحوه. وعطاء لَمْ يسمع من ابن عباس، كما تقدم في ص 84. وسيأتى في ص 616 - مختصرا -، 622، 657.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 212 عقب الأثر (1123) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به. وينظر =

ص: 450

وقال آخرون: بل أنزل اللهُ هذه الآيةَ قبلَ أن يَفْرِضَ على محمدٍ نبيِّه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به، التوجُّهَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ، وإنما أنزلها عليه مُعْلِمًا نبيَّه بذلك وأصحابَه أن لهم التوجُّهَ بوجُوهِهم للصلاةِ حيث شاءوا مِن نواحى المشرقِ والمغربِ؛ لأنهم لا يُوجِّهون وُجوهَهم وَجْهًا مِن ذلك وناحيةً، إلَّا كان جلَّ ثناؤُه في ذلك الوجهِ وتلك الناحيةِ؛ لأنَّ له المشارقَ والمغاربَ، وأنه لا يَخْلو منه مكانٌ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. قالوا: ثم نَسَخَ ذلك بالفرضِ الذى فَرَضَ عليهم في التوجُّهِ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ

(1)

.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} : ثم نسَخ ذلك بعدَ ذلك، فقال اللهُ:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

(2)

.

[وحَدَّثَنِي الحسنُ بنُ يحيى]

(3)

، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . قال: هى القِبلةُ، ثم نسَختها القِبلةُ إلى المسجدِ الحرامِ.

= الدر المنثور 1/ 108، 109.

(1)

قال ابن كثير في تفسيره 1/ 227 تعليقا على قول المصنّف هذا: هكذا قال، وفى قوله:"وإنه لا يخلو منه مكان". إن أراد علمه تعالى فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالي، فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا ما سيذكره المصنّف في تفسير الآية من سورة المجادلة.

(2)

أخرجه الترمذى (2958) من طريق يزيد به، وأخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 145 من طريق سعيد به نحوه. وأخرجه ابن الجوزى ص 146 من طريق شيبان، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 109 إلى عبد بن حميد.

(3)

في م: "حدثت عن الحسن".

ص: 451

حَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: حَدَّثَنَا الحجاجُ بنُ المِنهالِ، قال: حَدَّثَنَا همَّامُ بنُ

(1)

يحيى، قال: سمِعتُ قتادةَ في قولِ اللهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . قال: كانوا يُصَلُّون نحوَ بيتِ المقدسِ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمكةَ قبلَ الهجرةِ، وبعدَ ما هاجَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلَّى نحوَ بيتِ المقدس ستةَ عشرَ شهرًا، ثم وُجِّهَ بعدَ ذلك نحوَ الكعبةِ البيتِ الحرامِ، فنسَخها اللهُ في آيةٍ أُخرى:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} إلى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . قال: فنسَخت هذه الآيةُ ما كان قبلَها مِن أمْرِ القِبلة

(2)

.

وحَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: سمِعتُه -يعنى [ابنَ زيدٍ]

(3)

- يقولُ: قال اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هؤلاءِ قومُ يهودَ يَسْتَقْبِلون بيتًا مِن بُيوتِ اللهِ - [لبيتِ المَقْدسِ]

(4)

- لو أنَّا اسْتَقْبلناه". فاسْتَقْبله النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ستةَ عشرَ شهرًا، فبلَغه أن يهودَ تقولُ: واللهِ ما درَى محمدٌ وأصحابُه أين قِبلتُهم حتى هَدَيْناهم. فكَرِه ذلك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ورفَع وَجهَه إلى السماءِ، فقال اللهُ تعالى ذكرُه:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية

(5)

.

وقال آخرون: بل نزَلت هذه الآيةُ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْنًا مِن اللهِ عز وجل له أن يُصَلِّىَ التطَوعَ حيثُ توجَّه وجهُه مِن شرقٍ أو غربٍ، في مسيرِه في سفرِه، وفى حالِ المُسايفةِ وشدَّةِ الخوفِ والتقاءِ الزُّحوفِ - الفرائضَ، وأعلَمه أنه حيثُ وجَّه وجهَه فهو هنالك، بقولِه:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} .

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال ثنا".

(2)

أخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 145 من طريق همام به نحوه.

(3)

في م: "زيدًا"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"زيد".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

ذكره النحاس في ناسخه ص 76، 77 معلقًا.

ص: 452

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا أبو كريبٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ إدريسَ، قال: حَدَّثَنَا عبدُ الملكِ، عن سعيدِ ابنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عمرَ أنه كان يُصَلِّى حيثُ تَوجَّهتْ به راحِلتُه، ويَذْكُرُ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَفْعلُ ذلك، ويَتأوَّلُ هذه الآيةَ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}

(1)

.

وحَدَّثَنِي أبو السائبِ سَلْمُ بنُ جُنَادةَ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ فُضيلٍ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبى سليمانَ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عمرَ أنه قال: لمَّا

(2)

نزَلت هذه الآيةُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} : أن تُصَلِّىَ أينما

(3)

تَوجَّهتْ بك راحِلتُك في السفرِ تَطوعًا، كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا رجَع مِن مكةَ يُصَلِّى على راحلتِه تَطوعًا، يُومِئُ برأْسِه نحوَ المدينةِ

(4)

.

وقال آخرون: بل نزَلت هذه الآيةُ في قومٍ عَمِيت عليهم القِبلةُ فلم يَعْرِفوا شَطْرَها، فصلَّوا على أنحاءٍ مختلفةٍ، فقال اللهُ عز وجل لهم: لىَ المشارقُ والمغاربُ، فأينَ

(5)

ولَّيْتم وجوهَكم فهنالك وَجْهِي، وهو قِبلَتُكم. يُعْلِمُهم

(6)

بذلك أن صلاتَهم ماضيةٌ.

(1)

أخرجه أحمد 9/ 48 (5001) عن عبد الله بن إدريس به. وأخرجه أحمد 8/ 337 (4714)، ومسلم (700/ 33، 34)، والترمذى (2958)، والمروزى في السنة (377)، والنسائى (490)، وابن خزيمة (1267)، والنحاس في ناسخه ص 78، والحاكم 2/ 266، والبيهقيُّ 2/ 4، والواحدى في أسباب النزول ص 25، وابن الجوزى في ناسخه ص 141، من طرق عن عبد الملك به.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إنما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حيثما".

(4)

أخرجه ابن خزيمة (1269)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 212 (1121) من طريق ابن فضيل به.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإن".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"معلمهم".

ص: 453

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو أحمدَ الزُّبَيرىُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو الرَّبيعِ السَّمَّانُ، عن عاصمِ بنِ عبيدِ اللهِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ، عن أبيه، قال: كنَّا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ سوداءَ مظلمةٍ، فنزَلْنا مَنْزلًا، فجعَل الرجلُ يَأْخذُ الأحجارَ فيَعْملُ مسجدًا يُصَلِّى فيه، فلما أن أصْبَحْنا إذا نحن قد صلَّيْنا على غيرِ القبلةِ، فقلنا: يا رسولَ اللهِ، لقد صلَّيْنَا لَيْلتَنا هذه لغيرِ القبلةِ. فأنزل اللهُ:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(1)

.

وحدَّثنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا الحجاجُ، قال: حَدَّثَنَا حمَّادٌ، قال [أخبرنا حمادٌ، قال]

(2)

: قلتُ للنَّخَعِيِّ: إنى كنت اسْتَيْقَظتُ -أو قال: أُيْقظتُ

(3)

. شكَّ أبو جعفرٍ- فكان في السماءِ سحابٌ، فصَلَّيتُ لغيرِ القِبلةِ، قال: مضَت صلاتُك، يقولُ اللهُ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}

(4)

.

حَدَّثَنَا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حَدَّثَنَا أبي، عن أشعثَ السَّمَّانِ، عن عاصمِ بنِ عُبيدِ اللهِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ، عن أبيه، قال: كنا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مُظْلمةٍ في سفرٍ، فلم نَدْرِ أين القِبلةُ، فصَلَّيْنا؛ وصَلَّى كلُّ رجلٍ

(5)

منا على حِيالِه، ثم أصبَحْنا فذكَرْنا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ

(1)

حديث ضعيف. أخرجه الطيالسى (1241)، وعبد بن حميد (316)، وابن ماجه (1020)، والبزار (3812)، والعقيلى 1/ 31، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 211 (1120)، والطبراني في الأوسط (460)، والدارقطني 1/ 272، والبيهقيُّ 2/ 11، وأبو نعيم في الحلية 1/ 179، وابن الجوزى في ناسخه ص 138، 139 من طريق أبي الربيع السمان به، وأبو الربيع وعاصم ضعيفان. وقال العقيلى: حديث عامر بن ربيعة ليس يُروى من وجه يثبت متنه. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 228، 229.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، وهو حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان.

(3)

في م: "أوقظت".

(4)

ذكره النحاس في ناسخه ص 77 معلقا.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"واحد".

ص: 454

وَجْهُ اللهِ}

(1)

.

وقال آخرون: بل نزَلت هذه الآيةُ في سببِ النجاشيِّ؛ لأنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَنازعوا في أمرِه؛ مِن أجلِ أنه مات قبلَ أن يُصَلِّىَ

(2)

القبلةَ، فقال لهم اللهُ: المشارقُ والمغاربُ كلُّها لي، فمَن وَجَّه وجهَه نحوَ شيءٍ منها يريدُنى به، ويَبْتَغِى به طاعتي، وجدَنى هنالك. يعنى بذلك أن النجاشيَّ وإن لَمْ يكن صَلَّى

(2)

القبلةَ، فإنه كان يُوجِّهُ إلى بعضِ وُجوهِ المشارقِ أو المغاربِ وجْهَه، يَبْتَغى بذلك رضا اللهِ في صلاتِه.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حَدَّثَنَا [معاذُ بنُ هشامٍ]

(3)

، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن قتادةَ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخاكم النَّجاشيَّ قد مات فصَلُّوا عليه". قالوا: أَنُصَلِّى على رجلٍ ليس بمسلمٍ! قال: فنزلَت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199]. قال قتادةُ: فقالوا: وإنه كان لا يُصَلِّى

(2)

القبلةَ. فأنزَل اللهُ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}

(4)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك [أن يقالَ]

(5)

: إن اللهَ تعالى ذِكْرُه إنما خصَّ الخبرَ عن المشرقِ والمغربِ في هذه الآيةِ بأنهما له مِلْكًا -وإن كان لا شيءَ إلَّا وهو له

(1)

أخرجه الترمذى (345، 2957)، والدارقطني 1/ 272، والواحدى في أسباب النزول ص 25 من طريق وكيع به.

(2)

بعده في م: "إلى".

(3)

في م: "هشام بن معاذ"، وينظر تهذيب الكمال 30/ 215.

(4)

سيأتى تخريجه في سورة آل عمران.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 455

مِلْكٌ- إعلامًا منه لعبادِه المؤمنين أن له مِلْكَهما ومِلكَ ما بينَهما مِن الخلائقِ، وأن على جميعِهم -إذ كان له مِلْكُهم- طاعتَه فيما أمرَهم ونهاهم، وفيما فرَض عليهم مِن الفرائضِ، والتوجيهَ

(1)

نحوَ الوجهِ الذى وُجِّهوا إليه، إذ كان مِن حكمِ المماليكِ طاعةُ مالكِهم، فأخرَج الخبرَ عن المشرقِ والمغربِ، والمرادُ به ما

(2)

بينَهما مِن الخلقِ، على النحوِ الذى قد بَيَّنتُ مِن الاكْتفاءِ بالخبرِ عن سببِ الشيءِ مِن ذِكْرِه والخبرِ عنه، كما قِيل:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} . وما أشْبَهَ ذلك

(3)

.

فمَعْنَى الآيةِ إذن: وللهِ مِلْكُ الخلقِ الذى بينَ المشرقِ والمغربِ، [يستعبِدُهم بما يشاءُ]

(4)

، ويَحْكُمُ فيهم ما يُريدُ، عليهم طاعتُه، فولُّوا أيها المؤمنون وجوهَكم نحوَ وجهِي، فإنكم أينما تُوَلُّوا

(5)

وجوهَكم فهنالك وَجْهِى.

فأما القولُ في: هل هذه الآيةُ ناسخةٌ أم منسوخةٌ؟ أم لا هى ناسخةٌ ولا منسوخةٌ؟ فإن الصوابَ فيه مِن القولِ أن يقالَ: إنها آيةٌ جاءت مجئَ العمومِ، والمرادُ منها الخاصُّ، وذلك أن قولِه:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . مُحْتَمِلٌ: فأينما تُوَلُّوا في حالِ سيرِكم في أسفارِكم في صلاتِكم التَّطوعَ، وفى حالِ مسايفتِكم

(6)

عدوَّكم في تَطوُّعِكم ومكتوبتِكم - فثَمَّ وجهُ اللهِ. كما قال ابنُ عمرَ والنَّخَعيُّ ومَن قال ذلك ممن ذكَرنا ذلك عنه آنفًا.

ومُحْتَمِلٌ: فأينما تُوَلُّوا مِن أرضِ اللهِ فتَكونوا بها - فثَمَّ قِبلةُ اللهِ التى تُوجِّهون

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"التوجه".

(2)

في م، ت 1، ت 2:"من".

(3)

ينظر ما تقدم في ص 265، 266.

(4)

في م: "يتعبدهم بما شاء".

(5)

في الأصل: "تولون".

(6)

في الأصل: "مسابقتكم".

ص: 456

وُجُوهَكم إليها؛ لأن الكعبةَ مُمْكِنٌ لكم التوجُّهُ إليها منها.

كما حدَّثنا

(1)

أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن أبى سِنانٍ، عن الضحاكِ، والنضرِ بنِ عَرَبىٍّ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . قال: قِبلةُ اللهِ، فأينما كُنْتَ مِن شرقٍ أو غربٍ فاسْتَقْبِلْها

(2)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: أخْبَرنى إبراهيمُ

(3)

بنُ أبى بكرٍ، عن مجاهدٍ، قال: حيثُما كُنْتُم فلكم قِبلةٌ تَسْتقبِلُونها. قال: للكعبةِ

(4)

.

ومُحْتمِلٌ: فأينما توَلُّوا وجوهَكم فى دُعائِكم لى، فهنالك وَجْهِى، أسْتَجبْ لكم دعاءَكم.

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: قال مجاهدٌ: لمَّا نزَلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. قالوا: إلى أين؟ فنزَلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}

(5)

.

فإذ كان قولُه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . مُحْتَمِلًا ما ذكَرنا مِن الأوجُهِ، لم يكنْ لأحدٍ أن يَزْعُمَ أنها ناسخةٌ ولا منسوخةٌ إلا بحُجةٍ يَجِبُ التسليمُ لها؛ لأن

(1)

فى م: "قال".

(2)

أخرجه الترمذى 5/ 189 (2958) عن أبى كريب، عن وكيع، عن النضر، عن مجاهد. وأخرجه البيهقى 2/ 13 من طريق أبى أسامة، عن النضر به.

وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 109 إلى ابن أبى شيبة وعبد بن حميد.

(3)

بعده فى م: "عن". وينظر تهذيب الكمال 2/ 63.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 212 (1122) من طريق حجاج به.

(5)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 230 عن المصنف. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 109 إلى المصنف وابن المنذر.

ص: 457

الناسخَ لا يكونُ إلا لمنسوخٍ

(1)

، ولم تَقُمْ حُجةٌ يَجِبُ التسليمُ لها بأن قولَه:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . مَعْنِىٌّ به: فأينما تُوَلُّوا وجوهَكم فى صلاتِكم فثَمُّ قِبلتُكم. ولا أنها نزَلت بعدَ صلاةِ رسولِ اللهِ وأصحابِه نحوَ بيتِ المقدسِ، أمرًا مِن اللهِ لهم بها أن يَتَوجَّهوا نحوَ الكعبةِ، فيَجُوزَ أن يقالَ: هى ناسخةٌ الصلاةَ نحوَ بيتِ المقدسِ. إذ كان مِن أهلِ العلمِ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ وأئمةِ التابعين مَن يُنْكِرُ

(2)

أن تكونَ نزَلت فى ذلك المعنى، ولا خبرَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثابتٌ بأنها نزَلت فيه، وكان الاخْتلافُ فى أمرِها موجودًا على ما وَصَفْتُ. ولا هى -إذ لم تكنْ ناسخةً لِما وَصَفْنا- قامَت حُجتُها بأنها منسوخةٌ، إذ كانت مُحْتمِلةً ما وَصَفنا مِن أن تكونَ جاءت بعمومٍ و

(3)

معناها فى حالٍ دونَ حالٍ -إن كان عُنِىَ بها التوجُّهُ فى الصلاةِ- وفى كلِّ حالٍ -إن كان عُنِىَ بها الدُّعاءُ- وغيرَ ذلك مِن المعانِى التى ذكَرنا.

وقد دَلَّلنا فى كتابِنا "كتابِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ"، على ألا ناسخَ فى آىِ القرآنِ وأخبارِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إلا ما نَفَى حكمًا ثابتًا، قد لزِم العِبادَ فرضُه، غيرَ مُحْتَمِلٍ ظاهرُه

(4)

وباطنُه غيرَ ذلك، فأما ما احْتَمل غيرَ ذلك -مِن أن يكونَ بمَعْنى الاستثناءِ، أو الخصوصِ والعمومِ، أو المُجْمَلِ والمُفَسَّرِ- فمِن الناسخِ والمنسوخِ بمَعْزِلٍ، بما أغْنَى عن تكريرِه فى هذا الموضعِ. وألا منسوخَ إلا المَنْفىُّ الذى قد كان ثَبَت حُكمُه وفَرْضُه. ولم يَصِحَّ واحدٌ مِن هذين المعنيين لقولِه:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . بحُجةٍ يَجِبُ التسليمُ لها، فيُقالَ فيه: هو ناسخٌ أو منسوخٌ.

وأما قولُه: {فَأَيْنَمَا} . فإن مَعْناه: فحيثما.

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمنسوخ".

(2)

فى الأصل: "يمكن".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أو".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"لظاهره".

ص: 458

وأما قولُه: {تُوَلُّوا} . فإن الذى هو أَوْلى بتأويلِه أن يكونَ: تُوَلُّون نحوَه وإليه. كما يقول القائلُ: وَلَّيتُ وَجْهِى نحوَ كذا، ووَلَّيتُه إليه. بمعنى: قابلتُه وواجهتُه.

وإنما قُلْنَا: ذلك أوْلَى بتأويلِ الآيةِ؛ لإجماعِ الحُجةِ على أن ذلك تأويلُها، وشُذوذِ مَن تأوَّلَها بأنها بمَعْنَى: تُولُّون عنه فتَسْتَدْبرونه، [ففى الذى]

(1)

تتَوجَّهون إليه وجهُ اللهِ. بمَعْنَى: قِبلةُ اللهِ.

[وقولُه: {تُوَلُّوا}. مجزومٌ بحرفِ الجزاءِ، وهو قولُه: {فَأَيْنَمَا}]

(2)

. وأما قولُه: {فَثَمَّ} . فإنه بمَعْنَى: هنالك.

واخْتُلِفَ فى تأويلِ قولِه: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} ؛ فقال بعضُهم: تأويلُ ذلك: فثَمَّ قِبلةُ اللهِ. يَعْنى بذلك: وَجْهُه الذى وَجَّههم إليه.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن النضرِ بنِ عَرَبىٍّ، عن مجاهدٍ:{فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . قال: قبلةُ اللهِ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى الحجَّاجُ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: أخْبَرنى إبراهيمُ، عن مجاهدٍ، قال: حيثُما كنتُم فلكم قِبلةٌ تَسْتقبِلُونها.

وقال آخرون: معنى قولِ اللهِ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} : فثَمَّ اللهُ.

(1)

فى م، ت 1:"فالذى"، وفى ت 2، ت 3:"فى الذى".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

تقدم تخريجه فى ص 457.

ص: 459

وقال آخرون: معنى قولِه: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} : فثَم تُدْرِكون بالتوجُّهِ إليه رضا اللهِ الذى له الوجهُ الكريمُ.

وقالوا

(1)

: عَنَى بالوجهِ: ذو

(2)

الوجهِ. وقال قائلو هذه المقالةِ: وجهُ اللهِ له صفةٌ.

فإن قال قائلٌ: وما هذه الآيةُ مِن التى قبلَها؟

قيل: هى لها مُواصلةٌ، وإنما معنى ذلك: ومَن أظلمُ مِن النصارى الذين منَعوا عبادَ اللهِ مساجدَه أن يُذْكرَ فيها اسمُه، وسَعَوا فى خرابِها، وللهِ المشرقُ والمغربُ، فأينما وجَّهتم وجوهَكم فاذكُروه، فإن وجهَه هنالك، يَسَعُكم فَضْلُه وأرضُه وبلادُه، ويَعلمُ ما تعمَلون، ولا يَمْنعكم تخريبُ مَن خرَّب [مساجدَ اللهِ ببيتِ المقدسِ]

(3)

، ومَنْعُهم مَن مَنَعوا مِن ذكرِ اللهِ فيه - أن تَذْكروا اللهَ حيثُ كنتم مِن أرضِ اللهِ، تَبْتَغون به وجهَه.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} .

يعنى بقولِه: {وَاسِعٌ} : يَسَعُ خلقَه كلَّهم بالكِفايةِ والإفْضالِ والجودِ والتدبيرِ.

وأما قولُه: {عَلِيمٌ} . فإنه يعنى أنه عليمٌ بأعمالِهم

(4)

، لا يَغيبُ عنه منها شيءٌ، ولا يَعْزُبُ عنه

(5)

علمُه، بل هو بجميعِها عليمٌ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"وقال آخرون".

(2)

فى م: "ذا".

(3)

فى م: "مسجد بيت المقدس".

(4)

فى م: "بأفعالهم".

(5)

فى م، ت 1، ت 2:"عن".

ص: 460

يعنى بقولِه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} . الذين مَنَعوا مساجدَ اللهِ أن يُذْكرَ فيها اسمُه. و {قَالُوا} معطوفٌ على قولِه: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} .

وتأويلُ الآيةِ: ومَن أظلمُ ممن مَنَع مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُه وسَعَى فى خرابِها، وقالوا: اتخَذ اللهُ ولدًا. وهم النَّصارَى الذين زعَموا أن عيسى ابنُ اللهِ، فقال جلَّ ثناؤُه مُكَذِّبًا قِيلَهم ما قالوا مِن ذلك، ومُنْتفيًا مما نَحَلُوه، وأضافوا إليه بكَذِبِهم وفِرْيتِهم -:{سُبْحَانَهُ} . يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: تنزيهًا للهِ، وتَبَرِّيًا

(1)

مِن أن يكونَ له ولدٌ، وعلوًّا وارتفاعًا عن ذلك.

وقد دَلَّلْنا فيما مضى على معنى قولِ القائلِ: سُبحانَ اللهِ. بما أغْنَى عن إعادتِه فى هذا الموضعِ

(2)

.

ثم أخْبَر جلَّ ثناؤُه أن له ما فى السماواتِ والأرضِ مِلْكًا وخَلْقًا. ومعنى ذلك: وكيف يكونُ المسيحُ للهِ ولدًا، وهو لا يَخْلو مِن

(3)

أن يَكونَ فى بعضِ هذه الأماكنِ؛ إما فى السماواتِ، وإما فى الأرضِ، وللهِ مِلكُ ما فيهما، ولو كان المسيحُ ابنًا كما زعَمتم، لم يكنْ كسائرِ ما فى السماواتِ والأرضِ مِن خلقِه وعبيدِه، فى ظهورِ آثارِ

(4)

الصنعةِ فيه.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ تْناؤُه: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ فى قولِه: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: [كلٌّ له]

(5)

مُطِيعون.

(1)

فى م: "تبريئا".

(2)

ينظر ما تقدم فى 1/ 504. 505.

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"إما".

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"آيات".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 461

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} : مُطِيعون

(1)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ عز وجل:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . قال: مُطِيعون. وقال: طاعةُ الكافرِ فى سجودِ ظِلِّه

(2)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ بمثلِه، إلا أنه زاد: يَسْجُدُ ظِلُّه وهو كارهٌ

(3)

.

وحدَّثنى موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . يقولُ: كلٌّ له مُطِيعون يومَ القيامةِ

(4)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عمَّن ذكَره، عن عكرمةَ:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . قال: الطاعةُ.

وحُدِّثْتُ عن المِنْجابِ، قال: حدَّثنا بِشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{قَانِتُونَ} : مُطِيعون

(5)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: كلٌّ له مُقِرُّون بالعُبودةِ

(6)

.

(1)

ينظر ما سيأتى فى 4/ 379 - 383، وتفسير الآية 26 من سورة الروم، والدر المنثور 1/ 110.

(2)

تفسير مجاهد ص 212.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 213 (1129) عن أبيه، عن أبى حذيفة به.

(4)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 231 عن السدى.

(5)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 110 إلى المصنف وابن المنذر.

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالعبودية".

ص: 462

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: حدثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن يزيدَ النحوىِّ، عن عكرمةَ قولَه:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . قال: كلٌّ له مُقِرٌّ بالعُبودةِ

(1)

.

وقال آخرون بما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . يقولُ: كلٌّ له قائمٌ يومَ القيامةِ

(2)

.

وللقنوتِ فى كلامِ العربِ مَعانٍ: أحَدُها، الطاعةُ. والآخرُ، القِيامُ. والثالثُ، الكفُّ عن الكلامِ والإمساكُ عنه.

وأوْلَى معانى القُنوتِ فى قولِه: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} : الطاعةُ والإقرارُ للهِ بالعبودةِ، بشَهادةِ أجسامِهم بما فيها مِن آثارِ الصنعةِ، والدلالةِ على وحدانيةِ اللهِ، وأن اللهَ تعالى ذِكْرُه بارئُها وخالقُها، وذلك أن اللهَ أكْذَبَ الذين زعَموا أن للهِ ولدًا بقولِه:{بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . مِلْكًا وخلقًا. ثم أَخْبَر عن جميعِ ما فى السماواتِ والأرضِ أنها مُقِرَّةٌ بدلالتِها على ربِّها وخالقِها، وأن اللهَ تعالى بارئُها وصانعُها -وإن جحَد ذلك بعضُهم بألسنتِهم

(3)

- مُذعِنةٌ له بالطاعةِ، بشَهادتِها له بآثارِ الصنعةِ التى فيها بذلك، وأن المسيحَ أحدُهم، فأنَّى يَكونُ للهِ ولدًا وهذه صفتُه!

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالعبودية". والأثر أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 4/ 211 (1132) من طريق الحسين بن واقد به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 214 (1133) من طريق ابن أبى جعفر به.

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فألسنتهم".

ص: 463

وقد زعَم بعضُ مَن قَصُرت معرفتُه عن توجيهِ هذا الكلامِ وجْهتَه، أن قولَه:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . خاصةٌ لأهلِ الطاعةِ وليست بعامةٍ. وغيرُ جائزٍ ادِّعاءُ خصوصٍ في آيةٍ عامٌّ ظاهرُها، إلا بحُجةٍ يجبُ التسليمُ لها؛ لِما قد بينَّا في كتابِنا "كتابِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ".

وهذا خبرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه عن أن المسيحَ -الذى زعَمت النصارى أنه ابنُ اللهِ- مُكَذِّبُهم هو والسماواتُ والأرضُ وما فيهما، إما باللسانِ، وإما بالدلالةِ، وذلك أنَّه جلَّ ثناؤُه أخْبَر عن جميعِهم بطاعتِهم إيَّاه، وإقرارِهم له بالعبودةِ، عَقِيبَ قولِه:{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} . فدلَّ ذلك على صحةِ ما قلنا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مُبدِعُها. وإنما هو مُفْعِلٌ، فصُرِفَ إلى فعيلٍ، كما صُرِفَ المؤلمُ إلى الأليمِ، والمسمعُ إلى السميعِ.

ومعنى المبُدعِ: المُنْشِئُ والمُحْدِثُ ما لم يَسبِقْه إلى إنشاءِ مثلِه وإحداثِه أحدٌ. ولذلك سُمِّىَ المُبْتدِعُ في الدينِ مُبتدِعًا؛ لإحداثِه فيه ما لم يَسبِقْه إليه غيرُه. وكذلك كلُّ مُحدِثٍ فعلًا أو قولًا لم يَتَقدمْه فيه مُتَقدِّمٌ، فإن العربَ تُسَميه مُبتدعًا، مِن ذلك قولُ أعْشَى بنى ثَعْلبةَ في مدحِ هَوْذةَ بنِ علىٍّ الحنَفىِّ

(1)

:

يُرْعِى إلى قَوْلِ ساداتِ الرجالِ إذا

أبْدَوْا له الحَزْمَ أو ما شاءَه ابْتَدَعا

أى: يُحْدِثُ ما شاء.

وقولُ رُؤْبةَ بنِ العجَّاجِ

(2)

:

(1)

تقدم تخريجه في ص 380.

(2)

ديوان رؤبة (مجموعة أشعار العرب) ص 87.

ص: 464

فأيُّها الغاشِى القِذافَ

(1)

الأَتْيَعا

(2)

إن كُنْتَ للهِ التَّقِىَّ الأطْوعَا

فليس وَجْهُ الحقِّ أن تَبَدَّعا

يعنى: أن تُحْدِثَ في الدينِ ما لم يَكُنْ فيه.

فمعنى الكلامِ: سُبحانَ اللهِ، أَنَّى يكونُ له ولدٌ وهو مالكُ ما في السماواتِ والأرضِ، تَشْهدُ له جميعُها بدلالتِها عليه بالوَحْدانيةِ، وتُقِرُّ له بالطاعةِ، وهو بارئُها وخالقُها، ومُوجدُها مِن غيرِ أصلٍ، ولا مِثالٍ احْتَذاها عليه!.

وهذا إعلامٌ مِن اللهِ عبادَه أنَّ مما يَشْهَدُ له بذلك المسيحُ الذى أضافوا إلى اللهِ بُنُوَّتَه، وإخبارٌ منه لهم أن الذى ابْتَدع السماواتِ والأرضَ مِن غيرِ أصلٍ، وعلى غيرِ مِثالٍ، هو الذى ابْتَدع المسيحَ مِن غيرِ والدٍ بقُدْرتِه.

وبنحوِ الذى قُلْنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ: ابْتَدع خلقَها، ولم يَشْرَكْه في خلقِها أحدٌ

(3)

.

وحدَّثنى موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ: {بَدِيعُ

(1)

القذاف: سرعة السير. التاج (ق ذ ف).

(2)

في الديوان: "الأتبعا". والأتيع: المتتابع: أى التسارع في الحمق. التاج (ت ى ع).

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 214 عقب الأثر (1135) من طريق ابن أبى جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 110 إلى المصنف وابن أبى حاتم عن أبى العالية. وهو عند ابن أبى حاتم 1/ 214 (1135) من طريق أبى جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية.

ص: 465

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. يَقولُ: ابْتَدعها فخَلَقها، ولم يَخْلُقْ مثلَها شيئًا يتَمثَّلُ

(1)

به

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} : وإذا أحْكَم أمرًا وحَتَمه. وأصلُ كلِّ قضاءٍ: الإحْكامُ والفراغُ منه. ومِن ذلك قِيلَ للحاكمِ بينَ الناسِ: القاضِى بينهم. لِفَصْلِه القضاءَ بينَ الخصومِ، وقَطْعِه الحكمَ بينَهم وفراغِه. ومنه قيل للميتِ: قد قضَى. يُرادُ به: فرَغ مِن الدنيا وفصَل منها. ومنه قيل: ما يَنْقضِى عَجَبِى مِن فلانٍ. يُرادُ: ما ينقطِعُ. ومنه قيل: تَقَضَّى النهارُ. إذا انْصَرم. ومنه قولُه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]. أى: فصَل الحكمَ فيه بينَ عبادِه بأمرِه إيَّاهم بذلك. وكذلك قولُه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4]. أى: أعْلَمناهم بذلك وأخْبَرناهم به، ففَرَغْنا إليهم منه. ومنه قولُ أبى ذُؤَيبٍ

(3)

:

وعليهما مَسْرُودتَانِ

(4)

قَضَاهما

دَاودُ أو صَنَعُ

(5)

السوَابِغِ تُبَّعُ

ويُروَى:

*وتَعاوَرَا مَسْرُودتَين قَضَاهما*

ويَعْنى بقولِه: قضاهما: أحْكَمهما. ومنه قولُ الآخرِ في مدحِ عمرَ بنِ

(1)

في م: "فتتمثل"، وفى ت 1، ت 3:"فتمثل".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 214 (1136) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(3)

ديوان الهذليين 1/ 19.

(4)

مسرودتان: درعان. اللسان (س ر د).

(5)

الصنع: الحاذق بالعمل. التاج (ص ن ع).

ص: 466

الخطابِ رضي الله عنه

(1)

:

قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غادَرْتَ بعدَها

بوَائِقَ في أكْمامِها لم تَفَتَّقِ

ويُروَى: بوائجَ

(2)

.

وأما قولُه: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فإنه يَعْنى بذلك: وإذا أحْكَم أمرًا فحَتَمه فإنما يَقولُ له: كُنْ. فيكونُ ذلك الأمرُ على ما أمرَه اللهُ أن يكونَ وأرادَه.

فإنْ قال لنا قائلٌ: وما معنى قولِه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ؟ وفى أىِّ حالٍ يقولُ للأمرِ الذى يَقْضِيه: كُنْ. أفى حال عدمِه -وتلك حالٌ لا يَجوزُ أمرُه، إذ كان مُحالًا أن يُؤْمرَ إلا مأمورٌ، فإذا لم يكنِ المأمورُ، اسْتَحال الأمرُ، كما محالٌ الأمرُ مِن غيرِ آمرٍ، فكذلك محالٌ الأمرُ مِن آمرٍ إلا لمأْمورٍ- أم يقولُ ذلك له في حالِ وجودِه، وتلك حالٌ لا يجوزُ أمرُه فيها بالحدوثِ؛ لأنه حادِثٌ موجودٌ، ولا يُقالُ للموجودِ: كُنْ موجودًا. إلا بغيرِ مَعْنَى الأمرِ بحدوثِ عَينِه؟.

قيل: قد تَنازَع المتأوِّلون معنى ذلك، ونحن مُخْبِرون بما قالوا فيه، والعللِ التى بها اعتلَّ كلُّ قائلٍ

(3)

منهم لِقولِه في ذلك، فقال بعضهم: ذلك خبرٌ مِن اللهِ عن أمرِه المحتومِ -على وجهِ القضاءِ لمن قضَى عليه قضاءً مِن خلقِه الموجود- أنه إذا أمرَه بأمرٍ نفَذ فيه قضاؤُه، ومضى فيه أمرُه. نَظِيرُ أمرِه مَن أمَر مِن بنى إسرائيلَ بأن يكونوا قِرَدةَ خاسِئين، وهم موجودون في حالِ أمرِه إيَّاهم بذلك، وحَتْمِ قضائِه عليهم بما

(1)

طبقات فحول الشعراء 1/ 133، وتأويل مشكل القرآن ص 343، وزهر الآداب 2/ 968، وقد نسب البيت إلى الشماخ، والى أخيه جزء، ونسبوه أيضًا إلى الجن.

(2)

البوائج: جمع بائجة، وهى الداهية. التاج (ب و ج).

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فريق".

ص: 467

قضَى فيهم، وكالذى خسَف به وبدارِه الأرضَ، وما أشْبَه ذلك مِن أمرِه وقضائِه، في من كان موجودًا مِن خلقِه في حالِ أمرِه المحتومِ عليه. فوجَّه قائِلو هذا القولِ قولَه:{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . إلى الخصوصِ دونَ العمومِ.

وقال آخرون: بل الآيةُ عامٌّ ظاهِرُها، فليس لأحدٍ أن يُحِيلَها إلى باطنٍ بغيرِ حُجَّةٍ يجبُ التسليمُ لها. وقالوا: إن اللهَ جلَّ ثناؤُه عالمٌ بكلِّ ما هو كائنٌ قبلَ كونِه، فلما كان ذلك كذلك، كانت الأشياءُ التى لم تَكُن -وهى كائنةٌ، لعلمِه بها قبل كونِها- نَظائرَ التى هى موجودةٌ، فجاز أن يَقولَ لها: كونى. ويَأمرَها بالخروجِ مِن حالِ العدمِ إلى حالِ الوجودِ، لتَصوُّرِ جميعِها له، ولعلمِه بها في حالِ العدمِ.

وقال آخرون: بل الآيةُ وإن كان ظاهِرُها ظاهِرَ عمومٍ، فتأويلُها الخصوصُ؛ لأن الأمرَ غيرُ جائزٍ إلا لمأمورٍ على ما وصَفْتُ قبلُ. قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، فالآيةُ تأويلُها: وإذا قضى أمرًا؛ من إحياءِ مَيِّتٍ، أو إماتةِ حىٍّ، ونحوِ ذلك، فإنما يقولُ للحى: كُنْ

(1)

مَيتًا. وللميتِ: كُنْ حيًّا. وما أشْبَه ذلك مِن الأمرِ.

وقال آخرون: بل ذلك مِن اللهِ جلّ ثناؤُه خبرٌ عن جميعِ ما يُنْشِئُه ويُكَوِّنُه، أنه إذا قضاه وخلَقه وأنشَأه كان ووُجِدَ. ولا قولَ هنالك عندَ قائلى هذه المقالةِ إلا وجودُ المخلوقِ، وحدوثُ المَقْضىِّ. وقالوا: إنما قولُ اللهِ: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . نَظيرُ قولِ القائلِ: قال فلانٌ برأْسِه، وقال بيدِه. إذا حرَّك رأسَه وأوْمأ بيدِه، ولم يَقُلْ شيئًا. وكما قال أبو النَّجْمِ

(2)

:

(1)

في الأصل: "كان".

(2)

اللسان (ح ن ق).

ص: 468

قد

(1)

قالتِ الأنْساعُ للبَطْنِ الْحَقِ

(2)

قِدْمًا فآضَتْ كالفَنِيقِ المُحنِقِ

(3)

ولا قولَ هنالك، إنما عَنَى أن الظَّهْرَ قد لحق بالبطنِ. وكما قال عمرُو بنُ حُممةَ الدَّوْسِىُّ

(4)

:

فأصْبَحْتُ [مِثْلَ النّسْرِ طارَتْ فراخُه]

(5)

إذا رَامَ تَطْيَارًا يُقالُ له قَعِ

ولا قولَ هنالك، وإنما معناه: إذا رام طَيَرانًا وقَع. وكما قال الآخرُ

(6)

:

امْتَلأَ الحَوْضُ وقال قَطْنِى

مَهْلًا

(7)

رُوَيْدًا قَدْ مَلأْتَ بَطْنى

وأولى الأقوالِ بالصوابِ في قولِه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . أن يُقالَ: هو عامٌّ في كلِّ ما قضاه اللهُ ودبَّره

(8)

، لأن ظاهِرَ ذلك ظاهِرُ عمومٍ، وغيرُ جائزٍ إحالةُ الظاهرِ إلى الباطنِ مِن التأويلِ بغيرِ برهانٍ؛ لما قد بَينَّا في كتابِنا "كتابِ البيان عن أصولِ الأحكامِ". وإذ كان ذلك كذلك، فأمرُ اللهِ تعالى

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(2)

الأنساع: جمع نسع، وهو سير مضفور تشد به الرحال، ولحق البطن لحوقًا: ضمر. اللسان (ن س ع،

ل ح ق).

(3)

آضت: رجحت. والفنيق: هو الفحل المكرم من الإبل الذى لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم. والمحنق: الضامر. اللسان (أ ى ض، ف ن ق، ح ن ق).

(4)

معجم الشعراء ص 17.

(5)

في معجم الشعراء: "بين الفخ في العش ثاويا".

(6)

أمالى ابن الشجرى 1/ 313، ومجالس ثعلب ص 189.

(7)

في الأصل، م، ت 2، ت 3:"سيلا".

(8)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"برأه".

ص: 469

ذكرُه للشئِ إذا أراد تكوينَه موجودًا بقولِه: {كُنْ} . في حالِ إرادتِه جل ثناؤُه إيّاه مُكَوَّنًا

(1)

، لا يَتقدَّمُ وجودَ

(2)

الذى أراد إيجادَه وتكوينَه، إرادتَه إيَّاه، ولا أمرَه بالكونِ والوجودِ - ولا يَتأخَّرُ عنه، فغيرُ جائزٍ أن يكونَ الشئُ مأمورًا بالوجودِ مرادًا كذلك إلا وهو موجودٌ، ولا أن يكونَ موجودًا إلا وهو مأمورٌ بالوجودِ مرادٌ كذلك. ونظيرُ قولِه:{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . قولُه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. بأن خروجَ القومِ مِن قبورِهم لا يَتقدَّمُ دُعاءَ اللهِ إيَّاهم ولا يتأخَّرُ عنه.

ويُسألُ مَن زعَم أن قولَه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} خاصٌّ في التأويلِ -اعْتِلالًا بأن أمْرَ غيرِ الموجودِ غيرُ جائزٍ- عن دَعْوةِ أهلِ القبورِ، أقبْلَ خُروجِهم مِن قبورِهم أم بعدَه

(3)

، أم هى في خاصٍّ مِن الخلقِ؟ فلن يقولَ في ذلك قولًا إلا أُلْزِم في الآخَرِ مثلَه.

وأمَّا

(4)

الذين زعَموا أن معنى قولِه جل ثناؤُه: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . نظيرُ قولِ القائلِ: قال فلانٌ برأسِه أو بيدِه. إذا حرَّكه أو أوْمَأ. ونَظيرُ قولِ الشاعرِ [مُخبرًا عن ناقتِه]

(5)

:

(1)

في ت 1، ت 2:"تكوينا".

(2)

في م: "وجوده".

(3)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"بعدها".

(4)

في م: "يسأل".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

والبيت للمثقب العبدى، وهو في ديوانه ص 195.

ص: 470

تقولُ إذا دَرَأْتُ

(1)

لها وَضِينِى

(2)

أهذا دِينُه أبدًا ودِينِى

(3)

وما أشْبَهَ ذلك، فإنهم لا صوابَ اللغةِ أصابوا، ولا كتابَ اللهِ وما دلَّت على صحتِه الأدلةُ اتَّبَعُوا، فيُقالُ لقائلى ذلك: إن اللهَ تعالى ذكرُه أخْبَر عن نفسِه أنه إذا قضَى أمرًا قال له: كُنْ. أفتُنْكِرون أن يكونَ قائلًا ذلك؟ فإن أنْكَروه كذَّبوا بالقرآنِ، وخرَجوا مِن الملةِ.

وإن قالوا: بل نُقِرُّ به، ولكنا نَزْعُمُ أن ذلك نظيرُ قولِ القائلِ: قال الحائطُ فمال. ولا قولَ هنالك، وإنما ذلك خبرٌ عن مَيْلِ الحائطِ.

قيل لهم: أفتُجِيزون للمُخْبِرِ عن الحائطِ بالمَيْلِ أن يقولَ: إنما قولُ الحائطِ إذا أراد أن يَميلَ أن يقولَ هكذا فيَمِيلَ؟

فإن أجازوا ذلك، خرَجوا مِن معروفِ كلامِ العربِ، وخالفُوا مَنْطِقَها وما يُعْرَفُ فى لسانِها.

وإن قالوا: ذلك غيرُ جائزٍ. قيل لهم: إن اللهَ تعالى ذكرُه أخْبرَ

(4)

عن نفسِه أن قولَه للشئِ إذا أراده أن يقولَ له: كُنْ. فيكونُ. فأعْلَم عبادَه قولَه الذى يكونُ به الشئُ، ووصَفه ووكَّده. وذلك عندَكم غيرُ جائزٍ فى العبارةِ عما لا كلامَ له ولا بيانَ، فى مثلِ قولِ القائلِ: قال الحائطُ فمال. فكيف لم تَعْلَموا بذلك فَرْقَ ما بينَ قولِ اللهِ: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وقولِ القائلِ: قال الحائطُ فمال؟ وللبيانِ عن فسادِ هذه المَقالةِ موضعٌ غيرُ هذا، نَأْتِى فيه على القولِ بما

(1)

درأت وضين البعير: إذا بسطه على الأرض ثم أبركته عليه لتشده به. التاج (د ر أ).

(2)

الوضين: بطان عريض منسوج من سيور أو شعر. اللسان (و ض ن).

(3)

الدين: العادة. اللسان (د ى ن).

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أخبرهم".

ص: 471

فيه الكِفايةُ إن شاء اللهُ.

وإذْ كان الأمرُ فى قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . هو ما وصَفْنا، مِن أن حالَ أمْرِه الشئَ بالوجودِ حالُ وجودِ المأمورِ بالوجودِ، فَبَيِّنٌ

(1)

بذلك أن الذى هو أولى بقولِه: {فَيَكُونُ} . [أن يكونَ رفعًا]

(2)

على العطفِ على قولِه: {يَقُولُ} . لأن القولَ والكونَ حالُهما واحدةٌ. وهو نظيرُ قولِ القائلِ: تاب فلانٌ فاهْتَدَى، واهْتَدَى فلانٌ فتاب. لأنه لا يكونُ تائبًا إلا وهو مُهْتَدٍ، ولا مُهْتَدِيًا إلا وهو تائبٌ. فكذلك لا يكونُ أن يَكونَ اللهُ آمِرًا شيئًا بالوجودِ إلا وهو موجودٌ، ولا موجودًا إلا وهو آمِرُه بالوجودِ.

ولذلك اسْتَجاز مَن استجاز نَصْبَ (فيكونَ) مَن قرَأ: (إنما قولُنا لشيءٍ إذا أرَدْناه أن نقولَ له كنْ فيكونَ)

(3)

[النحل: 40]. بالمعنى الذى وصَفْنا على معنى: أن نقولَ فيكونَ.

وأمَّا رَفْعُ مَن رفَع ذلك، فإنه رأَى أن الخبرَ قد تمَّ عندَ قولِه:{إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} . إذ كان معلومًا أن اللهَ إذا حتَم قضاءَه على شيءٍ، كان المحتومُ عليه موجودًا، ثم ابْتَدَأ بقولِه:{فَيَكُونُ} . كما قال جلَّ ثناؤُه: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]. وكما قال ابنُ أحْمرَ

(4)

:

يُعالِجُ عاقِرًا أَعْيَتْ علَيه

لِيُلْقِحَها فيَنْتِجُها حُوَارَا

(5)

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فتبين".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"رفع".

(3)

النصب والرفع قراءتان سيأتى تخريجهما فى موضعه من التفسير.

(4)

المعانى الكبير 2/ 846، والكتاب 3/ 54.

(5)

الحوار: ولد الناقة ساعة تضعه أمه خاصة. التاج (ح و ر).

ص: 472

يُريدُ: فإذا هو يَنْتِجُها حُوَارَا.

فمعنى الآيةِ: وقالوا اتَّخَذ اللهُ ولدًا. سبحانَه أن يكونَ له ولدٌ، بل هو مالكُ السماواتِ والأرضِ وما فيهما، كلُّ ذلك له مُقِرٌّ بالعبوديَّةِ، بدلالتِه على وَحْدانيتِه. فأنَّى يكونُ له ولدٌ، وهو ابْتَدَع السماواتِ والأرضَ مِن غيرِ أصلٍ، كما الذى ابْتَدَع المسيحَ مِن غيرِ والدٍ بقدرتِه وسلطانِه، الذى لا يَتَعَذَّرُ عليه به شيءٌ أراده، بل إنما يقولُ له إذا قضاه فأراد تكوينَه: كُنْ. فيكونُ موجودًا كما أراده وشاءَه، فكذلك كان ابتداعُه المسيحَ وإنشاؤُه، إذ أراد خَلْقَه مِن غيرِ والدٍ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى مَن عنَى اللهُ بقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} ؛ فقال بعضُهم: عنَى اللهُ بذلك النَّصارَى.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ فى قولِ اللهِ:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} . قال: النَّصارَى تَقولُه

(1)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حُذَيفةَ، قال: حدثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه، وزاد فيه:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : النصارى.

وقال آخَرون: بل عنى اللهُ بذلك اليهودَ الذين كانوا فى زمانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

(1)

تفسير مجاهد ص 212، ومن طريقه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 215 (1142). وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 110 إلى عبد بن حميد.

ص: 473

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا يونُسُ بنُ بُكَيْرٍ، وحدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سَلَمةُ بنُ الفضلِ، قالا جميعًا: حدثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، أو عِكْرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رافعُ بن حُريمِلةَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إن كنتَ رسولًا مِن عندِ اللهِ كما تقولُ، فقلْ للهِ فلْيُكَلِّمْنا حتى نَسْمَعَ كلامَه. فأنْزَل اللهُ فى ذلك مِن قولِه

(1)

: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} . الآية كلها

(2)

.

وقال آخَرون: بل عنَى اللهُ بذلك مُشْرِكى العربِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} : وهم كفارُ العربِ

(3)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} . قال: هم كفارُ العربِ

(4)

.

(1)

فى الأصل: "قولهم".

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 549، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 215 (1140) من طريق سلمة به.

وينظر تفسير ابن كثير 1/ 232.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 215 عقب الأثر (1141) معلقًا.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 215 عقب الأثر (1141) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 474

وحدَّثنى موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} : أما الذين لا يعلَمون فهم العربُ

(1)

.

وأوْلَى هذه الأقوالِ بالصحةِ والصوابِ قولُ القائلِ: إن اللهَ تعالى ذكرُه عَنَى بقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . النَّصارَى دونَ غيرِهم؛ لأن ذلك فى سياقِ خبرِ اللهِ عنهم، وعن افترائِهم عليه، وادِّعائهم له ولدًا، فقال جلَّ ثناؤُه مخبرًا عنهم فيما أخْبَر عنهم مِن ضلالتِهم، أنهم مع افترائِهم على اللهِ الكذبَ بقولِهم:{اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} . تَمنَّوا على اللهِ الأباطيلَ، فقالوا جَهْلًا منهم باللهِ، وبمنزلتِهم عندَه، وهم باللهِ مُشْرِكون:{لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} كما يُكَلِّمُ رسلَه وأنبياءَه، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} كما أتَتْهم. ولا يَنْبَغِى للهِ أن يُكَلِّمَ إلَّا أولياءَه، ولا يؤْتِىَ آيةً مُعْجِزةً على دَعْوَى مُدَّعٍ إلا لمَن كان مُحِقًّا فى دعواه، وداعيًا إلى دينِه

(2)

وتوحيدِه. فأما مَن كان كاذبًا فى دعواه، وداعيًا إلى الفِريةِ عليه، وادِّعاءِ البنين والبناتِ له، فغيرُ جائزٍ أن يُكَلِّمَه جل ثناؤُه، أو يُؤْتِيَه آيةً مُعْجِزةً تكونُ مُؤَيدةً كَذِبَه وفِريتَه عليه.

فأمَّا

(3)

الزاعمُ أنَّ اللهَ عَنَى بقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . العربَ، فإنه قائلٌ قولًا لا خبرَ بصحتِه، ولا بُرهانَ على حقيقتِه فى ظاهرِ الكتابِ. والقولُ إذا صار إلى ذلك، كان واضحًا خطؤُه؛ لأنه ادَّعَى ما لا برهانَ على صحتِه. وادِّعاءُ مثلِ ذلك لن يَتَعذرَ على أحدٍ.

وأما معنى قولِه: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} . فإنه بمعنى: هَلَّا يُكَلِّمُنا اللهُ. كما

(1)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 233 عن السدى.

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

(3)

فى م: "وقال"، وفى ت 2:"قول".

ص: 475

قال الأشْهَبُ بنُ رُمَيْلةَ

(1)

:

تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ

(2)

أفْضَلَ مَجْدِكُمْ

(3)

بَنِى ضَوْطَرَى

(4)

لَوْلا الكَمِىَّ المُقَنَّعا

يعنى: هلَّا تَعُدُّون الكمىَّ المُقَنَّعَا.

وكما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} . قال: فهلَّا يُكَلِّمُنا اللهُ

(5)

.

وأمَّا "الآيَةُ"، فقد [بيَّنتُ فيما مضى قبلُ]

(6)

أنها العلامةُ. وإنما أخْبَر اللهُ عنهم أنهم قالوا: هلَّا تَأْتينا آيةٌ على ما نُرِيدُ ونَسْألُ، كما أَتَت الأنبياءَ والرسلَ، فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} .

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ فى من عَنَى اللهُ بقولِه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ؛ فقال بعضُهم فى ذلك بما حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} : هم

(1)

البيت لجرير وليس للأشهب، ولعل المصنف قد تابع أبا عبيدة فى مجاز القرآن 1/ 34، ولكن أبا عبيدة نسبه فى النقائض 2/ 833 إلى جرير، وهو فى ديوانه 2/ 907.

(2)

النيب: جمع ناب، والناب: الناقة المسنة، سموها بذلك حين طال نابها وعظم. التاج (ن ى ب).

(3)

فى الديوان والنقائض: "سعيكم".

(4)

بنو ضوطرى: يقال للقوم إذا كانوا لا يَغْنُون غَناء: بنو ضوطرى. اللسان (ض ط ر).

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 215 (1143) عن الحسن بن يحيى به.

(6)

فى م: "ثبت فيما قبل معنى الآية". وينظر ما تقدم فى 1/ 104.

ص: 476

اليهودُ

(1)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الذين من قبلهم اليهودُ.

وقال آخرون: هم اليهودُ والنصارى؛ لأن الذين لا يَعْلَمون هم العربُ

(2)

.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال:{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . يعنى: اليهودُ والنصارى وغيرُهم

(3)

.

وحدَّثنى موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال: قالوا -يعنى العربَ- كما قالت اليهودُ والنصارى مِن قبلِهم

(4)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . يعنى: اليهودُ والنصارى

(5)

.

قال أبو جعفرٍ: قد دَلَّلنا على أن الذين عَنَى اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} . هم النصارى، فالذين قالت النصارى

(6)

مثْلَ

(1)

تفسير مجاهد ص 212.

(2)

فى م: "اليهود".

(3)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 216 عقب الأثر (1144) معلقا.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 216 عقب الأثر (1144) من طريق عمرو بن حماد به.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 216 عقب الأثر (1144) من طريق ابن أبي جعفر به.

(6)

سقط من: م.

ص: 477

قولِهم هم اليهودُ؛ [لأن اليهودَ]

(1)

سأَلت موسى عليه السلام أن يُرِيَهم ربَّهم جهرةً، وأن يُسْمِعَهم كلامَ ربِّهم -كما قد بيَّنا فيما مَضَى مِن كتابِنا هذا

(2)

- وسألوا مِن الآياتِ ما ليس لهم مسألتُه تَحكُّمًا منهم على ربِّهم، وكذلك تَمَنَّت النصارى على ربِّها تَحكُّمًا منها عليه، أن يُسْمِعَهم كلامَه، ويُرِيَهم ما أرادوا مِن الآياتِ، فأخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤُه عنهم أنهم قالوا مِن القولِ في ذلك مِثْلَ الذى قالَتْه اليهودُ، وتَمنَّت على ربِّها مِثْلَ أمانيِّها، وأن قولَهم الذى قالوه مِن ذلك إنما يُشابهُ قولَ اليهودِ، مِن أجلِ تَشابُهِ قلوبِهم في الضلالةِ والكفرِ باللهِ. فهم وإن اخْتَلفتْ مذاهبُهم في كذبِهم على اللهِ، وافترائِهم عليه، فقلوبُهم متشابهةٌ في الكفرِ بربِّهم والفِريةِ عليه، وتَحكُّمِهم على أنبياءِ اللهِ ورسلِه عليهم السلام. وبمثلِ ما قلنا في ذلك قال مجاهدٌ.

حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} : قلوبُ النصارى واليهودِ.

وقال غيرُه: معنى ذلك: تَشابَهت قلوبُ كفارِ العربِ واليهودِ والنصارى وغيرِهم.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . يعنى العربَ واليهودَ والنصارى وغيرَهم.

وحدَّثنى المثنى، حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

(1)

في م: "و".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 687 وما بعدها.

ص: 478

وغيرُ جائزٍ في قولِه: {تَشَابَهَتْ} . التَّثْقِيلُ؛ لأن التاءَ في أوَّلِها زائدةٌ، أُدْخِلت لقولِه:"تفاعَل". فإن ثُقِّلت صارت تاءَيْن، ولا يَجوزُ إدْخالُ تاءَيْن زائِدَتين علامةً لمعنًى واحدٍ، وإنما يَجوزُ ذلك في الاستقبالِ، لاختلافِ معنَى دُخولِهما؛ لأن إحداهما تَدْخُلُ عَلَمًا للاستقبالِ، والأُخْرَى منهما التى في "تفاعَل"، ثم تُدْغمُ إحداهما في الأخرى فتُثَقَّلُ، فيقالُ: تَشَّابَهُ بعدَ اليومِ قلوبُنا.

فمعنَى الآيةِ: وقالت النصارى الجُهَّالُ باللهِ وبعَظمتِه: هَلَّا يُكَلمُنا اللهُ ربُّنا، كما كَلَّم أنبياءَه ورسلَه، أو تَجيئُنا علامةٌ مِن اللهِ نَعْرِفُ بها صدقَ ما نحن عليه، على ما نَسْألُ ونُريدُ. قال اللهُ جلَّ ثناؤُه: فكما قال هؤلاء الجَهَلةُ مِن النصارى وَتمنَّوا على ربِّهم، قال مَن قَبْلَهم مِن اليهودِ، فسألوا ربَّهم أن يُرِيَهم نفسَه جَهْرةً، ويُؤْتِيَهم آيةً، واحْتَكموا عليه وعلى رسلِه، وتَمنَّوا الأمانِىَّ، فاشْتَبهت قلوبُ اليهودِ والنصارى في تَمرُّدِهم على اللهِ، وقِلَّةِ مَعرِفتِهم بعظمتِه، وجُرْأتِهم على أنبيائِه ورسلِه، كما اشْتَبهت أقوالُهم التى قالوها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} : قد بيَّنَّا العلاماتِ التى مِن أجلِها غَضِبَ اللهُ على اليهودِ، وجعَل منهم القِردةَ والخنازيرَ، وأعدَّ لهم العذابَ المُهينَ في معادِهم، والتى مِن أجلِها أخْزَى اللهُ النصارى في الدنيا، وأعدَّ لهم الخزىَ والعذابَ الأليمَ في الآخرةِ، والتى مِن أجلِها جعَل سُكَّانَ الجِنانِ الذين أسْلَموا وجوهَهم للهِ وهم محسنون - في هذه السورةِ وغيرِها، فأُعْلِموا الأسبابَ التى مِن أجلِها استحقَّ كلُّ فريقٍ منهم مِن اللهِ ما فعَل به مِن ذلك. وخصَّ اللهُ بذلك القومَ الذين يُوقِنون؛ لأنهم هم أهلُ التَّثبُّتِ في الأمورِ، والطالبون معرفةَ حقائقِ الأشياءِ على يقينٍ وصحةٍ. فأخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤُه أنه بَيَّن لمَن كانت هذه الصفةُ

ص: 479

صفتَه ما بَيَّن مِن ذلك؛ ليزولَ شَكُّه، ويَعْلَمَ حقيقةَ الأمرِ، إذ كان ذلك خبرًا مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه، وخبرُ اللهِ الخبرُ الذى لا يُعذَرُ سامِعُه بالشكِّ فيه. وقد يَحْتَمِلُ غيرُه مِن الأخبارِ ما يَحْتَمِلُ مِن الأسبابِ العارضةِ فيه، مِن السَّهْوِ والغلَطِ والكذبِ، وذلك مَنْفِىٌّ عن خبرِ اللهِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} .

ومعنى قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} : إنا أرسلناك يا محمدُ بالإسلامِ الذى لا أَقبَلُ مِن أحدٍ غيرَه مِن الأديانِ، وهو الحقُّ، مُبشِّرًا مَن اتَّبَعك فأطاعك، وقَبِل منك ما دَعوتَه إليه مِن الحقِّ، بالنصرِ في الدنيا، والظَّفَرِ بالثوابِ في الآخرةِ، والنعيمِ المُقيمِ فيها، ومُنْذِرًا مَن عصاك فخالفَك، وردَّ عليك ما دَعَوْتَه إليه مِن الحقِّ، بالخِزْىِ في الدنيا، والذلِّ فيها، والعذابِ المُهينِ في الآخرةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} .

قال أبو جعفرٍ: قَرَأت عامَّةُ القَرأةِ: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} . بِضَمِّ التاءِ مِن {تُسْأَلُ} ورَفْعِ اللامِ منها على الخبرِ، بمعنى: يا محمدُ، إنا أرْسَلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا، فبلِّغْ

(1)

ما أُرْسِلْتَ به، فإنما عليك البلاغُ والإنْذارُ، ولسْتَ مسئولًا عمَّن كفَر بما أتَيْتَه به مِن الحقِّ فكان مِن أهلِ الجحيمِ.

وقرَأ ذلك بعضُ أهلِ المدينةِ. (ولا تَسألْ). جَزْمًا بمعنى النَّهْىِ، مفتوحَ التاءِ مِن (تَسْأَلْ)، وبجَزْمِ اللامِ منها

(2)

. ومعنى ذلك على قراءةِ هؤلاء: إنا أرْسَلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا؛ لتُبلِّغَ ما أُرْسِلْتَ به، لا لتسألَ عن أصحابِ الجحيمِ، فلا تَسْأَلْ عن حالِهم.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فبلغت".

(2)

وهذه قراءة نافع، وقرأ الباقون كالوجه الأول. حجة القراءات ص 111.

ص: 480

وتَأوَّل الذين قرَءوا هذه القراءةَ ما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن موسى بنِ عُبيدة

(1)

، عن محمدِ بنِ كعبٍ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ليتَ شِعْرِى ما فعَل أبواى". فنزَلت: (ولا تَسْألْ عن أصحابِ الجَحيمِ)

(2)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا الثورىُّ، عن موسى بنِ عُبيدةَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظىِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ليت شِعْرِى ما فعَل أبواى، ليت شِعْرِى ما فعَل أبواى، ليت شِعْرِى ما فعَل أبواى"

(3)

. فنزَلت: (إنا أرْسَلْناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ولا تَسْألْ عن أصحابِ الجحيمِ). فما ذكَرهما حتى تَوفَّاه اللهُ

(4)

.

وحدَّثنى القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنا حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: أخبرنى داودُ بنُ

(5)

أبى عاصمٍ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يومٍ:"ليت شِعْرِى أين أبواى". فنزَلت: (إنا أرْسَلْناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ولا تَسْألْ عن أصحابِ الجحيمِ)

(6)

.

والصوابُ عندى مِن القراءةِ في ذلك قراءةُ مَن قرَأ بالرفعِ

(7)

، على الخبرِ؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه قصَّ قَصصَ أقوامٍ مِن اليهودِ والنصارى، وذكَر ضلالتَهم وكفرَهم

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبدة". وينظر تهذيب الكمال 29/ 104.

(2)

أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 111 - ومن طريقه ابن الأعرابى في معجمه (751)؛ بالزيادة الآتية في الأثر بعده.

وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى ابن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر، وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد. . . لا يقوم به حجة. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 234.

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ثلاثا".

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 59، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 217 (1151) من طريق الثورى به.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن". وينظر تهذيب الكمال 8/ 407.

(6)

إسناده مرسل. ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 234 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى المصنف، وقال: معضل الإسناد، ضعيف، لا يقوم به حجة.

(7)

القراءتان متواترتان، لا مدخل لترجيح إحداهما على الأخرى.

ص: 481

باللهِ، وجُرْأتَهم على أنبيائِهم

(1)

، ثم قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك يا محمدُ بشيرًا مَن آمَن بك واتبعك، ممن قَصَصتُ عليك أنباءَه ومَن لم أقْصُصْ عليك أنباءَه، ونذيرًا مَن كفَر بك وخالفَك. فبَلِّغْ رسالتى، فليس عليك مِن أعمالِ مَن كفَر بك -بعدَ إبلاغِك إياه رسالتى- تَبِعةٌ، ولا أنت مسئولٌ عما عمِل

(2)

بعدَ ذلك. ولم يَجْرِ لمسألةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ربَّه عن أصحابِ الجحيمِ ذِكْرٌ فيكونَ لقولِه: (ولا تَسْألْ عن أصحابِ الجحيمِ). وجهٌ يُوَجَّهُ إليه. وإنما الكلامُ موجَّهٌ معناه إلى ما دلَّ عليه ظاهرُه المفهومُ، حتى تأتىَ دلالةٌ بينةٌ تَقومُ بها الحجةُ على أنا المرادَ به غيرُ ما دلَّ عليه ظاهرُه، فيكونَ حينَئذٍ مُسلَّمًا للحجةِ الثابتةِ بذلك. ولا خبرَ تَقومُ به الحجةُ على أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نُهِىَ عن أن يَسْألَ في هذه الآيةِ عن أصحابِ الجحيمِ، ولا دلالةَ تدلُّ على أن ذلك كذلك في ظاهرِ التنزيلِ. فالواجبُ أن يكونَ تأويلُ ذلك الخبرَ عمّا

(3)

مَضَى ذِكْرُه قبلَ هذه الآيةِ، وعمَّن ذكَره بعدَها مِن اليهودِ والنصارى وغيرِهم مِن أهلِ الكفرِ، دونَ النهىِ عن المسألةِ عنهم.

فإن ظنَّ ظانٌّ أن الخبرَ الذى رُوِىَ عن محمدِ بنِ كعبٍ صحيحٌ، فإن في استحالةِ الشكِّ مِن الرسولِ صلى الله عليه وسلم -في أن أهلَ الشركِ مِن أهلِ الجحيم، وأن أبويه كانا منهم- ما يَدْفعُ صحةَ ما قاله محمدُ بنُ كعبٍ، إن كان الخبرُ عنه صَحيحًا. مع أن في ابتداءِ اللهِ الخبرَ بعدَ قولِه:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} . بالواوِ، بقولِه:{وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} . وتركِه وَصْلَ ذلك بأولِه بالفاءِ، وأن يقولَ

(4)

: إنا أَرسْلناك بالحقِّ بشيرًا وتذيرًا فلا

(5)

تَسْأَلْ عن أصحابِ الجحيمِ -أوضحَ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنبيائه".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فعل".

(3)

في م: "على ما".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يكون".

(5)

في م: "ولا".

ص: 482

الدلائلِ على أن الخبرَ بقولِه: {وَلَا تُسْأَلُ} . أوْلَى مِن النهىِ، والرفعُ أوْلَى به مِن الجزمِ.

وقد ذُكِرَ أنها في قراءةِ أبىٍّ: (وما تُسْأَلُ). وفى قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (ولن تُسْألَ). وكلتا هاتين القراءتين تَشْهَدُ للرفعِ والخبرِ فيه بالصحةِ

(1)

، دونَ النهىِ.

وقد كان بعضُ نحويِّى البصرةِ يوُجِّهُ قولَه: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} . إلى الحالِ، كأنه كان يَرى أن معناه: إنا أرسلْناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا غيرَ مسئولٍ عن أصحابِ الجحيمِ. وذلك إذا ضَمَّ التاءَ، وقرَأه على معنى الخبرِ. وكان يُجيزُ على ذلك قراءتَه:(ولا تَسْأَلُ). بفتحِ التاءِ وضَمِّ اللامِ على وجهِ الخبرِ أيضًا، بمعنى: إنا أرسلْناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا غيرَ سائلٍ عن أصحابِ الجحيمِ.

وقد بيَّنّا الصوابَ عندنا في ذلك.

وهذان القولان اللذان ذكَرْتُهما عن البصرىِّ في ذلك تَدْفَعُهما

(2)

ما رُوِى عن ابنِ مسعودٍ وأبىٍّ من القراءةِ؛ لأن إدخالَهما ما أَدخلا في

(3)

ذلك من "ما"، و"لن"، يدلُّ على انقطاعِ الكلامِ عن أولِه وابتداءِ قولِه:{وَلَا تُسْأَلُ} . وإذا كان ابتداءً لم يكنْ حالًا.

وأما أصحابُ الجحيمِ، [فإنهم أهلُ الجحيمِ، والجحيمُ]

(4)

هى النارُ بعينِها إذا شبَّ وقودُها، ومنه قولُ أميةَ بنِ أبى الصَّلْتِ

(5)

:

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، وقراءة أُبى وابن مسعود شاذة. ينظر البحر المحيط 1/ 367.

(2)

في م: "يرفعهما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فالجحيم".

(5)

ديوانه ص 51.

ص: 483

إذا شَبَّتْ جَهَنّمُ ثُمَّ دارَت

(1)

وأعْرَضَ عن قَوَابِسِها الجَحِيمُ

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} : وليست اليهودُ يا محمدُ ولا النصارَى براضيةٍ عنك أبدًا، فدَعْ طلبَ ما يُرضِيهم ويوافقُهم، وأقْبِلْ على طلبِ رضا اللهِ في دعائِهم إلى ما بعَثك اللهُ به من الحقِّ، فإن الذى تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيلُ إلى الاجتماعِ فيه معك على الألفةِ والدين القيمِ، ولا سبيلَ لك إلى إرضائِهم باتباعِ ملتِهم؛ لأن اليهوديةَ ضدُّ النصرانيةِ، والنصرانيةَ ضدُّ اليهوديةِ، ولا تَجتمعُ النصرانيةُ واليهوديةُ في شخصٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ، واليهودُ والنصارى لا تجتمعُ على الرضا بك، إلا أن تكونَ يهوديًّا نصرانيًّا، وذلك مما لا يكونُ منك أبدًا؛ لأنك شخصٌ واحدٌ، ولن يَجْتَمِعَ فيك دينان متضادّان في حالٍ واحدةٍ، وإذا لم يكنْ لك إلى اجتماعِهما فيك في وقتٍ واحدٍ سبيلٌ، لم يكنْ إلى إرضاءِ الفريقَيْن سبيلٌ، وإذا لم يكنْ لك إلى ذلك سبيلٌ، فالزمْ هُدَى اللهِ الذى لجميعِ

(2)

الخلقِ إلى الألفةِ عليه سبيلٌ.

وأما "الملةُ"، فإنها الدينُ، وجمعُها المِلَلُ.

ثم قال جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ -لهؤلاءِ النصارَى واليهودِ الذين قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} -: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} . يعنى أن بيانَ اللهِ هو البيانُ المُقنِعُ، والقضاءُ

(1)

في الأصل: "زارت". وفى رواية للديوان: "فارت".

(2)

في م: "لجمع"، وفى ت 1، ت 3:"يجتمع"، وفى ت 2:"يجمع".

ص: 484

الفاصلُ بينَنا، فهَلُمُّوا إلى كتابِ اللهِ وبيانِه الذى بيَّنَ فيه لعبادِه ما اختلَفوا فيه -وهو التوراةُ التى تُقِرُّون جميعًا بأنها من عندِ اللهِ- يَتَّضِحْ لكم فيها المُحِقُّ منا من المُبْطِلِ، وأيُّنا أهلُ الجنةِ وأيُّنا أهلُ النارِ، وأيُّنا على الصوابِ وأيُّنا على الخطأِ.

وإنما أمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَدعوَهم إلى هُدَى اللهِ وبيانِه، لأن فيه تكذيبَ اليهودِ والنصارَى فيما قالوا من أن الجنةَ لن يَدخُلَها إلا من كان هُودًا أو نصارَى، وبيانَ أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، [وأنه رسولُ اللهِ]

(1)

، وأن المُكَذِّبَ به هو من أهلِ النارِ دونَ المصدِّقِ به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بذلك

(2)

: ولئنِ اتَّبعتَ يا محمدُ هَوَى هؤلاءِ اليهودِ والنصارَى، فيما يُرضيهم عنك من تَهَوُّدٍ وتنَصُّرٍ، فصِرْتَ من ذلك إلى رضاهم، ووافقْتَ فيه محبتَهم، من بعدِ الذى جاءَك من العلمِ، بضلالتِهم وكفرِهم بربِّهم، ومن بعدِ الذى اقتصَصْتُ عليك من نبئِهم في هذه السورةِ، {مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ}. يعنى بذلك: ليس لك يا محمدُ من ولىٍّ يَلِى أمرَك، وقَيِّمٍ يقومُ به، {وَلَا نَصِيرٍ} يَنصُرُك من اللهِ، فيدفَعَ عنك ما ينزِلُ بك منه من عقوبةٍ، ويمنَعُك من ذلك إن أحلَّ بك ذلك ربُّك.

وقد بيَّنَّا معنى "الولىِّ" و"النصيرِ" فيما مضَى قبلُ

(3)

.

وقد قيل: إن اللهَ تعالى ذكرُه أنزلَ هذه الآيةَ على نبيِّه عليه السلام؛ لأن اليهودَ والنصارَى دعَتْه إلى أديانِها، وقال كلُّ حزبٍ منهم: إن الهُدَى هو ما نحن عليه،

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "بقوله".

(3)

ينظر ما تقدم ص 408.

ص: 485

دونَ ما عليه غيرُنا من سائرِ المللِ. فوعَظه اللهُ أن يفعلَ ذلك، وعلَّمه الحجةَ الفاصلةَ بينَهم فيما ادَّعى كلُّ فريقٍ منهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} .

اختلف أهلُ التأويلِ في الذين عناهم اللهُ جلَّ ثناؤُه بقولِه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ؛ فقال بعضُهم؛ هم المؤمنون برسولِ اللهِ وبما جاء به من أصحابِه.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : هؤلاء أصحابُ نبىِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، آمَنوا بكتابِ اللهِ وصدَّقُوا به

(1)

.

وقال آخرون: بل عَنَى اللهُ بذلك علماءَ بني إسرائيلَ الذين آمنوا باللهِ وصدَّقوا رسلَه، فأقرُّوا بحكمِ التوراةِ، فعمِلوا بما أمَرهم اللهُ فيها من اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والإيمانِ به، والتصديقِ بما جاء به من عندِ اللهِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} . [قال: مَن آمَن برسولِ اللهِ من بني إسرائيلَ وبالتوراةِ. وقرَأ]

(2)

: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 218 (1161) من طريق شيبان، عن قتادة بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى المصنف وعبد بن حميد عن قتادة بنحوه، وفيه زيادة.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 486

مَن كفر بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم من يهودَ، فأولئك هم الخاسرون

(1)

.

وهذا القولُ أولى بالصوابِ من القولِ الذى قاله قتادةُ؛ لأن الآياتِ قبلَها مضَت بأخبارِ أهلِ الكتابَيْن، وتبديلِ مَن بدَّل منهم كتابَ اللهِ، وتأوُّلِهم إيَّاه على غيرِ تأويلِه، وادِّعائِهم على اللهِ الأباطيلَ، ولم يَجْرِ لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الآيةِ التى قبلَها ذكْرٌ، فيكونَ قولُه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} . موجَّهًا إلى الخبرِ عنهم، ولا لهم بعدَها ذكرٌ في الآيةِ التى تَتْلُوها، فيكونَ مُوَجَّهًا ذلك إلى أنه خبرٌ مبتدأٌ عن قَصَصِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ انقضاءِ قَصَصِ غيرِهما، ولا جاء بأن ذلك خبرٌ عنهم أثَرٌ يَجِبُ التسليمُ له.

فإذْ كان ذلك كذلك، فالذى هو أوْلَى بمعنى الآيةِ أن يكونَ موجَّهًا إلى أنه خبرٌ عمن قصَّ اللهُ نبأَه

(2)

في الآيةِ قبلَها والآيةِ بعدَها، وهم أهلُ الكتابيْن؛ التوراةِ والإنجيلِ. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الآيةِ: الذين آتيْناهم الكتابَ الذى قد عرَفته يا محمدُ، وهو التوراةُ، فقرءُوه واتَّبَعوا ما فيه، فصدَّقوك وآمَنوا بك، وبما جئتَ به مِن عندى، فأولئك يتلونه حقَّ تلاوتِه. وإنما أُدخلت الألفُ واللامُ في {الْكِتَابَ} لأنه معرفةٌ، قد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه عرَفوا أىَّ الكتبِ عَنَى به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} .

اخْتَلف أهلُ التأْويلِ في تأويلِ قولِ اللهِ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: يتَّبعونه حقَّ اتِّباعِه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ وعبدُ الأعلى،

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 235.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جل ثناؤه".

ص: 487

وحدَّثنا عمرُو بنُ علىٍّ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عَدِىٍّ، جميعًا عن داودَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّبَاعِه

(1)

.

وحدَّثنى ابنُ

(2)

المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ الوهَّاب، قال: حدَّثنا داودُ، عن عكرمةَ بمثلِه

(3)

.

وحدَّثنا عمرُو بنُ علىٍّ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدَّثنا داودُ بنُ أبى هندٍ، عن عكرمةَ مثلَه

(3)

.

وحدَّثنى الحسينُ بنُ عمرٍو العَنْقَزىُّ، قال: حدَّثنا أبى، عن أسباطَ، عن السُّدِّىِّ، عن أبى مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يُحِلُّون حلالَه، ويُحَرِّمون حرامَه، ولا يُحَرِّفونه

(4)

.

وحدَّثنا موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: قال أبو مالكٍ: إن ابنَ عباسٍ قال في: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . فذكَر مثلَه، إلَّا أنه قال: ولا يُحَرِّفونه عن مواضعِه

(5)

.

وحدَّثنا عمرُو بنُ علىٍّ، قال: حدَّثنا المُؤَمَّلُ، قال: حدَّثنا سفيانُ، قال: حدَّثنا

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 218 (1159)، وابن المقرئ في معجمه (105) من طريق داود به. وزاد ابن أبى حاتم: ثم قرأ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} يقول: اتبعها. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى ابن المنذر والهروى في فضائله.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. وينظر تهذيب الكمال 26/ 359.

(3)

ينظر ما سيأتي في ص 492.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 218 (1157) من طريق عمرو بن محمد العنقزى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى ابن المنذر.

(5)

أخرجه الحاكم 2/ 266 من طريق عمرو بن حماد به. وقال: صحيح الإسناد.

ص: 488

زُبَيدٌ

(1)

، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ في قولِه:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه

(2)

.

وحُدِّثتُ عن عمَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: والذى نفسى بيدِه، إن حَقَّ تلاوتِه أن يُحِلَّ حلالَه، ويُحَرِّمَ حرامَه، ويَقْرَأَه كما أنزَلَه اللهُ، ولا يُحَرِّفَ الكَلِمَ عن مواضعِه، ولا يَتَأَوَّلَ منه شيئًا على غيرِ تأويلِه

(3)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ ومنصورِ بنِ المُعْتَمِرِ، عن ابنِ مسعودٍ في قولِه:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} : أن يُحَلَّ حلالُه، ويُحَرَّمَ حرامُه، ولا يُحَرَّفَ

(4)

عن مواضعِه

(5)

.

وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِىُّ، قال: حدَّثنا عَبَّادُ بنُ العَوَّامِ، عمَّن ذكَره، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} : يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه

(6)

.

وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا عبادُ بنُ العَوَّامِ، عن الحجَّاجِ، عن عطاءٍ مثلَه

(7)

.

وحدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن

(1)

في م: "يزيد"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"زيد". وينظر تهذيب الكمال 9/ 289.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 236 عن سفيان.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 235 عن أبى العالية.

(4)

في م: "يحرفه".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 56، 57. وقتادة ومنصور لم يدركا ابن مسعود.

(6)

ينظر فضائل القرآن لأبى عبيد ص 61.

(7)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 218 عقب الأثر (1159) معلقا.

ص: 489

منصورٍ، عن أبى رَزِينٍ في قوله:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه

(1)

.

وحدَّثنا عمرُو بنُ علىٍّ، قال: حدَّثنا المُؤمَّلُ، قال: حدَّثنا سفيانُ، وحدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، وحدَّثنى نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدىُّ

(2)

، قال: حدَّثنا يحيى بنُ إبراهيمَ، عن سفيانَ، قالوا جميعًا: عن منصورٍ، عن أبى رَزِينٍ مثلَه.

وحدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن مجاهدٍ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: عمَلًا به.

وحدَّثنى يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الملكِ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، [عن مجاهدٍ]

(3)

: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه، ألم تَرَ إلى قولِه:{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2]؟ يعنى الشمسَ إذا اتَّبعها

(4)

القمرُ

(5)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المُباركِ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبى سليمانَ، عن عطاءٍ وقيسٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يعمَلون به حقَّ عمَلِه.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هُشيمٌ، عن

(1)

تفسير الثورى ص 48.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأزدى".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "تبعها".

(5)

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 62 عن هشيم به.

ص: 490

عبدِ الملكِ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، عن مجاهدٍ، قال: يَتَّبعونه حَقَّ اتِّباعِه.

وحَدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} : يعمَلون به حَقَّ عملِه

(1)

.

وحدَّثنا عمرُو بنُ علىٍّ، قال: حدَّثنا مؤمَّلُ بنُ إسماعيلَ، قال: حدَّثنا حمَّادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبِعونه حَقَّ اتباعِه.

وحدَّثنى عمرٌو، قال: حدَّثنا أبو قُتيبةَ، قال: حدَّثنا الحسنُ بنُ أبى جعفرٍ، عن

(2)

أيوبَ، عن أبى الخليلِ، عن مجاهدٍ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبعونه حَقَّ اتباعِه.

وحدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا يحيى القَطَّانُ، عن عبدِ الملِكِ، عن عطاءٍ قولَه:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبعونه حَقَّ اتباعِه، يعمَلون به حقَّ عمَلِه

(3)

.

وحدَّثنا سفيانُ بنُ وَكِيعٍ، قال: حدَّثنى أبى، عن المُباركِ، عن الحسنِ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يعمَلون بمحكمِه، ويؤمنون بمتشابِهه، ويَكِلُون ما

(1)

تفسير مجاهد ص 212، 213، وأخرجه سعيد بن منصور فى سننه (211 - تفسير) من طريق خصيف عن مجاهد.

(2)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبى". وينظر تهذيب الكمال 3/ 457.

(3)

تقدم من وجه آخر عن عطاء في ص 489.

ص: 491

أَشْكَل عليهم إلى عالمِه

(1)

.

وحدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال: أحَلُّوا حلالَه، وحرَّموا حرامَه، وعمِلوا بما فيه. ذُكِر

(2)

لنا أن ابنَ مسعودٍ كان يقولُ: إن حقَّ تلاوتِه أن يُحَلَّ حلالُه، ويُحَرَّمَ حرامُه، وأن يُقْرَأَ

(3)

كما أنزَلَه اللهُ، ولا يُحَرَّفَ

(4)

عن مواضعِه

(5)

.

حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أبو داودَ، قال: حدَّثنا الحكَمُ بنُ عَطِيَّةَ، قال: سمِعتُ قَتادةَ يقولُ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يتَّبِعونه حقَّ اتِّباعِه

(6)

، يحِلُّون حلالَه، ويحرِّمون حرامَه، ويقرءونه كما أُنْزِل.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: أخبرنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هشيمٌ، عن داودَ، عن عكرمةَ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . قال: يَتَّبِعونه حَقَّ اتِّباعِه، أمَا سمِعتَ قولَ اللهِ:{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2]. قال: إذا اتَّبَعها

(7)

.

وقال آخَرون: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} : يَقْرَءونه حقَّ قراءتِه.

والصوابُ مِن القولِ في تأويلِ ذلك أنه بمعنى: يَتَّبِعونه حَقَّ اتباعِه. مِن قولِ

(1)

أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 111 - ، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 218 (1158).

(2)

في ت 2: "قيل".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقرأه".

(4)

في م: "يحرفه".

(5)

ينظر ما تقدم في ص 486، 489.

(6)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال اتباعه".

(7)

في م، ت 1، ت 3:"تبعها"، وفى ت 2:"تبعتها".

والأثر أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 61 عن هشيم به. وأخرجه في غريب الحديث 4/ 173 عن عباد بن العوام عن داود به. وينظر ما تقدم في ص 488.

ص: 492

القائلِ: ما زلتُ أَتلو أثرَه. إذا اتَّبَع أثرَه؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن أهلِ التأويلِ على أن ذلك تأويلُه. وإذ كان ذلك تأويلَه، فمعنى الكلامِ: الذين آتيناهم الكتابَ يا محمدُ، مِن أهلِ التوراةِ الذين آمنوا بك، وبما جئتَهم به مِن الحقِّ مِن عندى - يَتَّبِعون كتابى الذى أنزلْتُ على رسولى موسى صلواتُ اللهِ عليه، فيؤمِنون به، ويقِرُّون بما فيه مِن نعتِك وصفتِك، وأنك رسولى، فَرْضٌ عليهم طاعتى في الإيمانِ بك، والتصديقِ بما جئتَهم به مِن عندى، ويَعمَلون بما أحْلَلتُ لهم، ويتَجنَّبون

(1)

ما حرَّمتُ عليهم فيه، ولا يُحَرِّفونه عن مواضِعِه، ولا يُبَدِّلونه، ولا يُغَيِّرونه عمَّا

(2)

أنزلتُه عليهم، بتأويلٍ ولا غيرِه.

وقولُه: {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . مبالغةٌ في صفةِ اتِّباعِهم الكتابَ، ولزومِهم العملَ به، كما يقالُ: إن فلانًا لعالمٌ حَقُّ عالمٍ. وكما يقالُ: إن فلانًا لفاضلٌ كلُّ فاضلٍ.

وقد اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في إضافةِ "حقّ" إلى المعرفةِ؛ فقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ: غيرُ جائزةٍ إضافتُه إلى معرفةٍ؛ لأنه بمعنى "أىّ"، وبمعنى قولِك: أفضلُ رجلٍ. قال

(3)

: و "أَفْعَلُ" لا يُضافُ إلى واحدٍ معرفةٍ، لأنه مُبَعَّضٌ، ولا يكونُ الواحدُ [المعرفةُ مبعَّضًا]

(4)

. فأحالوا أن يقالَ: مرَرتُ بالرجُلِ حقَّ الرجُلِ، ومرَرتُ بالرجُلِ جِدَّ الرجُلِ. كما أحالوا: مرَرتُ بالرجُلِ أىَّ الرجُلِ. وأجازوا ذلك في: كلّ الرجلِ، وعين

(5)

الرجلِ، ونفس الرجلِ. وقالوا: إنما أجَزْنا ذلك لأن هذه

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يجتنبون".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فلان".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المبعض معرفة".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"غير".

ص: 493

الحروفَ كانتْ في الأصلِ تواكيدَ، فلمَّا صِرْنَ مُدُوحًا تُرِكْنَ

(1)

على أصولِهنَّ في المعرفةِ.

وزعَموا أن قولَه: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . إنما جازت إضافتُه إلى "التلاوةِ" وهى مضافةٌ إلى معرفةٍ، لأن العربَ تعتدُّ بالهاءِ إذا عادت [بالنكرةِ نكرةً]

(2)

، فيقولون: مرَرتُ برجلٍ واحدِ أُمِّه، ونَسِيجِ وَحْدِه، وسيِّدِ قومِه. قالوا: فكذلك قولُه: {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} . إنما جازت إضافةُ "حقّ" إلى "التلاوةِ" وهى مضافةٌ إلى الهاءِ؛ لاعتدادِ العربِ بالهاءِ التى في نظائرِها في عِدَادِ النكِراتِ. قالوا: ولو كان تأويلُ

(3)

ذلك: حقَّ التلاوةِ. لوجَب أن يكونَ جائزًا: مرَرتُ بالرجُلِ حَقَّ الرجُلِ. فعلى هذا القولِ تأويلُ الكلامِ: الذين آتَيْناهم الكتابَ يَتْلونه حَقَّ تلاوةٍ.

وقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: جائزةٌ إضافةُ "حقّ" إلى النكِراتِ مع النكراتِ، ومع المعارفِ إلى المعارفِ، وإنما ذلك نظيرُ قولِ القائلِ: مرَرتُ بالرجُلِ غُلامِ الرجُلِ، وبرجُلٍ غُلامِ رجلٍ. فتأويلُ الآيةِ على قولِ هؤلاء: الذين آتيناهم الكتابَ يتلُونه حقَّ التلاوةِ

(4)

.

وأَوْلَى ذلك بالصوابِ عندَنا القولُ الأولُ؛ لأن معنى قولِه: {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} : أىَّ تلاوةٍ، بمعنى مَدْحِ التلاوةِ التى تلَوْها وتفضيلِها، و "أىّ" غيرُ جائزةٍ إضافتُها إلى واحدٍ معرفةٍ عندَ جميعِهم، فكذلك "حقّ" غيرُ جائزةٍ إضافتُها إلى واحدٍ معرفةٍ، وإنما أُضِيف في قولِه:{حَقَّ تِلَاوَتِهِ} إلى ما فيه الهاءُ؛ لِماَ وصفتُ مِن العلَّةِ التى

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مدوحا".

(2)

في م:"إلى نكرة بالنكرة".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م، ت 2، ت 3:"تلاوته".

ص: 494

تقدَّمَ بيانُناها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {أُولَئِكَ} : هؤلاء الذين أخْبَر عنهم أنهم يَتْلون ما آتاهم مِن الكتابِ حقَّ تلاوتِه.

وأمَّا قولُه: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} . فإنه يعنى: يُصَدِّقون به. والهاءُ التى في قولِه: {بِهِ} عائدةٌ على الهاءِ التى في {تِلَاوَتِهِ} . وهما جميعًا مِن ذكْرِ الكتابِ الذى قال اللهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} . فأخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤه أن المؤمنَ بالتوراةِ هو المُتَّبِعُ ما فيها مِن حلالِها وحرامِها، والعاملُ بما فيها مِن فرائضِ اللهِ التى فرَضها فيها على أهلِها، وأن أهلَها الذين هم أهلُها مَن كان ذلك صفتَه دونَ مَن كان مُحَرِّفًا لها، مُبَدِّلًا تأويلَها، مُغَيِّرًا سُنَنَها، تاركًا ما فرَض اللهُ فيها عليه.

وإنما وصَف جلَّ ثناؤُه مَن وصَف بما وصَف به مِن مُتَّبِعى التوراةِ، فأَثْنَى عليهم بما أَثْنَى به عليهم؛ لأن في اتباعِها اتباعَ محمدٍ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتصديقَه؛ لأن التوراةَ تَأمُرُ أهلَها بذلك، وتُخْبِرُهم عن اللهِ تعالى ذكرُه بنُبُوَّتِه وفرْضِ طاعتِه على جميعِ خلْقِ اللهِ مِن بنى آدمَ، وأن في التكذيبِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم التكذيبَ بها

(1)

، فأخبَر جلَّ ثناؤُه أن مُتَّبِعى التوراةِ هم المؤمنونَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون بما فيها.

كما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} . قال: مَن آمن برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن بنى إسرائيلَ وبالتوراةِ، وأن الكافرَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم هو الكافرُ بها الخاسرُ، كما قال جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ

(1)

في م: "لها".

ص: 495

فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}

يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} : ومَن يَكْفُرْ بالكتابِ الذى أخبَرَ أنه يَتْلُوه مَن آتاه مِن المؤمنين حَقَّ تلاوتِه.

ويعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {يَكْفُرْ} : يَجْحَدْ ما فيه مِن فرائضِ اللهِ ونُبُوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقِه، ويُبَدِّلْه فيُحَرِّفْ تأويلَه، أولئك هم الذين خسِروا علْمَهم وعمَلَهم، فبَخَسوا أنفسَهم حُظوظَها مِن رحمةِ اللهِ، واسْتَبْدَلوا بها سَخَطَ اللهِ وغضَبَه.

وقال ابنُ زيدٍ في ذلك

(1)

بما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . قال: مَن كفَر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن يهودَ، فأولئك هم الخاسرون.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)} .

وهذه الآيةُ عِظَةٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه لليهودِ الذين كانوا بينَ ظَهْرَانَىْ مُهَاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتذكيرٌ منه لهم بما سلَف مِن أَيَادِيه إليهم في صُنْعِه بأوائلِهم، استعطافًا منه لهم على دينِه، وتصديقِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بنى إسرائيلَ، اذْكُروا أَيَادِىَّ لديكم، وصنائِعى عندَكم، واستنقاذى إيَّاكم مِن أَيْدِى عدوِّكم فرعونَ وقومِه، وإنزالى عليكم المَنَّ والسَّلْوَى في تِيهِكم، وتمكينى لكم في البلادِ، بعدَ أن كنتُم مُذَلَّلينَ مقهورين، واختصاصى الرسُلَ منكم، وتفضيلى إيَّاكم على

(1)

في م: "قوله".

ص: 496

عالَم مَن كنتُم بينَ ظَهْرَانَيْه، أيامَ أنتم في طاعتى [تَبْتَغون مرضاتى، فراجِعوا طاعتى]

(1)

، باتِّباعِ رسولى إليكم، وتصديقِه وتصديقِ ما جاءكم به مِن عندى، ودَعُوا التمادىَ في الضلالِ والغيِّ.

وقد ذكَرْنا فيما مضَى النِّعَمَ التى أنْعَم اللهُ بها على بنى إسرائيلَ، والمعانىَ التى ذكَّرهم اللهُ جلَّ ثناؤُه مِن آلائِه عندَهم، والعالَمَ الذى فُضِّلوا عليه فيما مضَى قبلُ، بالرِّواياتِ والشواهدِ، فكرِهْنا تطويلَ الكتابِ بإعادتِه؛ إذ كان المعنى في ذلك في هذا الموضعِ وهنالك واحدًا

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} .

وهذه الآيةُ ترهيبٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه للذين سلَفت عِظَتُه إيَّاهم بما وعَظهم به في الآيةِ قبلَها، يقولُ اللهُ لهم: واتَّقوا يا معشرَ بنى إسرائيلَ المبُدِّلينَ كتابى وتنزيلى، المحرِّفين تأويلَه عن وجهِه، المكذِّبين برسولي محمدٍ صلى الله عليه وسلم عذابَ يومٍ لا تَقْضِى فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، ولا تُغْنِى عنها غَناءً؛ أن تَهْلِكوا على ما أنتم عليه مِن كفرِكم، وتكذيبِكم رسولى، فتَمُوتوا عليه، فإنه يومٌ لا يُقْبَلُ مِن نفْسٍ فيما لزِمها فِدْيَةٌ، ولا يَشْفَعُ فيما وجَب عليها مِن حقٍّ لها شافعٌ، ولا هم يَنْصُرُهم ناصرٌ مِن اللهِ إذا انْتَقَم منها بمعصيتِها إيَّاه.

وقد مضَى البيانُ عن كلِّ معانى هذه الآيةِ في نظيرتِها قبلُ، فأَغْنى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(3)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 594 - 596، 629، 630.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 631 وما بعدها.

ص: 497

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَإِذِ ابْتَلَى} : وإذ اخْتَبَر. يقالُ منه: ابْتَلَيتُ فلانًا أَبْتَلِيه ابتلاءً. ومنه قولُ اللهِ عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]. يعنى به: اخْتَبِرُوهم. وكان اختبارُ اللهِ تعالى ذكرُه إبراهيمَ اختبارًا بفرائضَ فرَضها عليه، وأمرٍ أمَره به، وذلك هو الكلماتُ التى أوحاهنَّ إليه فكلَّفه العمَلَ بهنَّ، امتحانًا منه له واختبارًا.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ الكلماتِ التى ابْتَلى اللهُ بها إبراهيمَ خليلَه، صلواتُ الله عليه، فقال بعضُهم: هى شرائعُ الإسلامِ، وهى ثلاثون سهمًا.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدثنى عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}. قال: قال ابنُ عباسٍ: لم يُبْتَلَ أحدٌ بهذا الدِّينِ فأقامه إلَّا إبراهيمُ؛ ابتلاه اللهُ بكلماتٍ فأتمهنَّ، قال: فكتَب اللهُ له البراءةَ، فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. قال: عَشْرٌ منها في "الأحزابِ"، وعشْرٌ منها في "براءةَ"، وعشرٌ منها في "المؤمنين"، و "سأل سائل". وقال: إن هذا الإسلامَ ثلاثون سهمًا

(1)

.

وحدثنى إسحاقُ بنُ شاهينٍ الواسطىُّ، قال: ثنا خالدٌ الطَّحَّانُ، عن داودَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما ابتُلى أحدٌ بهذا الدِّينِ فقام به كلِّه غيرُ إبراهيمَ، ابْتُلى بالإسلامِ فأتمَّه، فكتَب اللهُ له البراءةَ، فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . فذكَر

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 279، وأخرجه ابن أبى شيبة 11/ 522، وابن عساكر في تاريخه 6/ 194 من طريق عبد الأعلى به. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 220 (1166)، والحاكم 2/ 470، 552 من طريق داود به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى ابن مردويه.

ص: 498

عشرًا في "براءةَ"، فقال:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} [التوبة: 112]. وعشرًا في "الأحزابِ": {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، وعشرًا في سورةِ "المؤمنين"، إلى قولِه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ

(1)

يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:1 - 9]، وعشرًا في "سأل سائل":{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}

(2)

[المعارج: 22 - 34].

وحدَّثنا عبدُ

(3)

اللهِ بنُ أحمدَ بنِ شَبُّويَه

(4)

، قال: ثنا علىُّ بنُ الحسنِ، قال: ثنا خارجةُ بنُ مُصْعَبٍ، عن داودَ بنِ أبى هندٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الإسلامُ ثلاثون سهمًا، وما ابْتَلى اللهُ بهذا الدِّينِ أحدًا فأقامه إلَّا إبراهيمَ، قال اللهُ:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . فكتب اللهُ له براءةً مِن النارِ

(5)

.

وقال آخَرون: هى خِصالٌ عَشْرٌ مِن سُنَنِ الإسلامِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: ابتلاه اللهُ بالطَّهارةِ؛ خمسٌ في الرأسِ، وخمسٌ في الجسدِ، في الرأسِ قصُّ الشاربِ، والمَضْمَضَةُ، والاسْتِنْشاقُ، والسِّواكُ، وفَرْقُ الرأسِ، وفى الجسدِ تقليمُ الأظفارِ، وحلْقُ العانةِ، والخِتَانُ، ونَتْفُ الإبطِ، وغَسْلُ أَثَرِ الغائطِ والبولِ بالماءِ

(6)

.

(1)

في الأصل، ت 1:"صلاتهم". وهما قراءتان، وسنذكر تخريجهما في موضعه من التفسير.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 279.

(3)

في م: "عبيد". وينظر تاريخ بغداد 9/ 371، والثقات لابن حبان 8/ 366.

(4)

في م: "شبرمة". وينظر المصدر السابق.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 280.

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 57، ومن طريقه الحاكم 2/ 266 - وسقط منه أول الإسناد- والبيهقى 1/ 149.=

ص: 499

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الحَكَمِ بنِ أبانٍ، عن القاسمِ بنِ أبى بَزَّةَ، عن ابنِ عباسٍ بمثلِه، ولم يَذْكُرْ أَثَرَ البولِ

(1)

.

وحدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: ثنا قتادةُ في قولِه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: ابتَلاه؛ أمَره

(2)

بالخِتَانِ، وحلْقِ العانةِ، وغسْلِ القُبُلِ والدُّبُرِ، والسواكِ، وقصِّ الشاربِ، وتقليمِ الأظفارِ، ونتْفِ الإبطِ. قال أبو هلالٍ: ونسِيتُ خَصْلةً

(3)

.

وحُدِّثتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن مَطَرٍ، عن أبى الجَلْدِ، قال: ابْتُلِى إبراهيمُ بعشَرةِ أشياءَ، هنَّ في الإنسانِ سُنَّةٌ؛ الاستنشاقُ، وقصُّ الشاربِ، والسواكُ، ونتْفُ الإبطِ، وتقليمُ الأظفارِ، وغسْلُ البراجِمِ

(4)

، والخِتَانُ، وحلْقُ العانةِ، وغسْلُ الدُّبُرِ والفرجِ

(5)

.

وقال بعضُهم: بل الكلماتُ التى ابْتُلِى بهنَّ عشْرُ خِلالٍ، بعضُهنَّ في تطهيرِ الجسدِ، وبعضُهنَّ في مناسكِ الحجِّ.

= وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 280، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 219 (1165) عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 57، وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 280.

(2)

سقط من: م.

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 280.

(4)

البراجم: العقد التى في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، الواحدة بُرْجُمة. النهاية 1/ 113.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 280، 281: حدثنى عبدان المروزى، ثنا عمار بن الحسن به.

ص: 500

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا محمدُ بنُ حربٍ، قال: ثنا ابنُ لَهِيعةَ، عن ابنِ هُبَيْرَةَ، عن حَنَشٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} . قال: ستَّةٌ في الإنسانِ، وأربعةٌ في المشاعرِ؛ فالتى في الإنسانِ؛ حلْقُ العانةِ، والختانُ، ونتفُ الإبطَيْن

(1)

، وتقليمُ الأظفارِ، وقصُّ الشاربِ، والغُسلُ يومَ الجمعةِ، وأربعةٌ في المشاعرِ؛ الطوافُ، والسعىُ بينَ الصَّفا والمروةِ، ورمىُ الجِمارِ، والإفاضةُ

(2)

.

وقال آخَرون: بل ذلك: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، و

(3)

مناسكُ الحجِّ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ إسماعيلَ بنَ أبى خالدٍ، عن أبى صالحٍ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} : فمنهنَّ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، وآياتُ النُّسُكِ

(4)

وحدَّثنى أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ إسماعيلَ بنَ أبى خالدٍ، عن أبى صالحٍ مولى أُمِّ هانئ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: منهنَّ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، ومنهنَّ آياتُ النسكِ، و:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ}

(4)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإبط".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 281، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 220 (1168) من طريق ابن لهيعة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 111 إلى ابن المنذر.

(3)

في م: "في".

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 281، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 194 من طريق ابن إدريس به.

ص: 501

نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} . قال: قال اللهُ لإبراهيمَ: إنى مُبْتَلِيك بأمرٍ، فما هو؟ قال: تَجْعَلُنِى للناسِ إمامًا؟ قال: نعم. قال: ومِن ذُرِّيَّتِى؟ قال: لا يَنالُ عهدى الظالمين. قال. تَجْعَلُ البيتَ مثابةً للناسِ؟ قال: نعم. وأَمْنًا؟ قال: نعم. وتَجْعَلُنا مُسْلِمَين لك ومِن ذُرِّيَّتِنا أمةً مسلمةً لك؟ قال: نعم. وتُرِينا مناسكَنا وتَتُوبُ علينا؟ قال: نعم. قال: وتَجْعَلُ هذا البلدَ آمِنًا؟ قال: نعم. قال: تَرْزُقُ أهلَه مِن الثمراتِ مَن آمَن

(1)

؟ قال: نعم

(2)

.

وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، أخبرَه به عن عكرمةَ، قال: فعرَضتُه على مجاهدٍ فلم يُنْكِرْه

(3)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه. قال ابنُ جُرَيْجٍ: فاجتمَع على هذا القولِ مجاهدٌ وعكرمةُ جميعًا

(4)

.

وحدَّثنا سفيانُ، قال: حدَّثنى أبى، عن سفيانَ، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابْتُلِىَ بالآياتِ التى بعدَها: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}

(5)

.

(1)

بعده في م: "منهم".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 282، وهو في تفسير مجاهد ص 213، ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 221 (1171).

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 282.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 282.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 282، وأخرجه ابن أبى شيبة 11/ 521 عن وكيع به.

ص: 502

وحُدِّثتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} : فالكلماتُ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} وقولُه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} . وقولُه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . وقولُه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الآية. وقولُه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} الآية. قال: فذلك كلُّه

(1)

مِن الكلماتِ التى ابْتُلِىَ بهنَّ إبراهيمُ

(2)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} : فمنهنَّ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، ومنهنَّ:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} ، ومنهنَّ الآياتُ في شأنِ المَنسَكِ، والمقامُ الذى جُعِل لإبراهيمَ، والرزقُ الذى رُزِق ساكنو البيتِ، ومحمدٌ بُعِث

(3)

في ذُرِّيَّتِهما صلى اللهُ عليهم (2).

وقال آخَرون: بل ذلك مناسكُ الحَجِّ خاصَّةً.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ، قال: ثنا عمرُو بنُ نَبْهانَ، عن قتادةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: مناسكُ الحجِّ

(4)

.

وحدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان

(1)

في م: "كلمة".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 283.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 283، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 195 من طريق شيبان، عن قتادة به نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم.

ص: 503

ابنُ عباسٍ يقولُ فى قولِه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: هى المناسكُ

(1)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، قال: قال ابنُ عباسٍ: ابتلاه بالمناسكِ

(2)

.

وحُدِّثْتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، قال: بلغَنا عن ابنِ عباسٍ أنه قال: إن الكلماتِ التى ابْتُلِى بها إبراهيمُ، المناسكُ

(3)

.

وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرىُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن أبى إسحاقَ، عن التَّمِيمىِّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: مناسكُ الحجِّ (1).

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانىُّ

(4)

، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن أبى إسحاقَ، عن التَّمِيمىِّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: منهنَّ مناسكُ الحجِّ (1).

وقال آخَرون: هى أمورٌ، منهن الخِتانُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ، عن يونسَ بنِ أبى إسحاقَ، عن

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 284.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 284، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 221 (1169) عن الحسن بن يحيى به. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 193 من طريق محمد بن حماد الطهرانى عن عبد الرزاق به.

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 284.

(4)

في حاشية الأصل: "الحمانى كذا وقع في الأم، وهو .. المثنى وعصره إلا أن طاهر. . . عنه على معنى. . . والله أعلم". وينظر ترجمة الحمانى في تهذيب الكمال 31/ 419.

ص: 504

الشَّعْبىِّ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: منهن الخِتانُ

(1)

.

وحدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ أبى إسحاقَ، قال: سمِعتُ الشعبىَّ يقولُ. فذكَر مثلَه

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا يونسُ بنُ أبى إسحاقَ، قال: سمِعتُ الشعبىَّ -وسألَه أبو إسحاقَ عن قولِ اللهِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} - قال: منهن الختانُ يا أبا إسحاقَ

(2)

.

وقال آخَرون: بل ذلك الخلالُ الستُّ؛ الكوكبُ، والقمرُ، والشمسُ، والنارُ، والهجرةُ، والختانُ، التى ابْتُلِى بهنَّ فصبَر عليهنَّ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أبى رجاءٍ، قال: قلتُ للحسنِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} ؟ قال: ابتلاه بالكوكبِ

(3)

فرضِى عنه، وابتلاه بالقمرِ فرضِى عنه، وابْتَلاه بالشمسِ فرضِى عنه، وابْتَلاه بالنارِ فرضِى عنه، وابتلاه بالهجرةِ، وابتلاه بالختانِ

(4)

.

وحدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ يقولُ: إى واللهِ، لابتلاه

(5)

بأمرٍ فصبَر عليه، ابتلاه بالكوكبِ

(3)

، والشمسِ، والقمرِ، فأحسَنَ في ذلك، وعرَف أن ربَّه دائمٌ لا يَزولُ،

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 284، وأخرجه ابن أبى شيبة 11/ 521 عن وكيع عن يونس به.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 284.

(3)

في الأصل: "بالكواكب".

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 285، وابن عساكر في تاريخه 6/ 193 من طريق يعقوب به. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 221 (1170) من طريق ابن علية به.

(5)

في م: "ابتلاه".

ص: 505

فوجَّه وجهَه للذى فطَر السماواتِ والأرضَ حنيفًا، وما كان مِن المشركينَ، ثم ابتلاه بالهجرةِ، فخرَج مِن بلادِه وقومِه حتى لحِق بالشامِ مهاجرًا إلى اللهِ، ثم ابتلاه بالنارِ قبلَ الهجرةِ، فصبَر على ذلك، وابتلاه الله بذَبْحِ ابنِه وبالختانِ، فصبَر على ذلك

(1)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عمَّن سمِع الحسنَ يقولُ في قولِه:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: ابتلاه بذَبْحِ ولدِه، وبالنارِ، وبالكوكبِ، والشمسِ، والقمرِ

(2)

.

وحدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ، قال: ثنا أبو هلالٍ، عن الحسنِ:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . قال: ابتلاه بالكوكبِ، وبالشمسِ، وبالقمرِ، فوجَده صابرًا

(3)

.

وقال آخرون بما حدَّثنى به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ: الكلماتُ التى ابتَلى بهنَّ إبراهيمَ ربُّه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} إلى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}

(4)

.

والصوابُ في ذلك مِن القولِ عندَنا أن يقالَ: إن اللهَ عز وجل أخبَر عبادَه أنه اخْتَبَر إبراهيمَ خليلَه بكلماتٍ أوحاهنَّ إليه، وأمَره أن يَعمَلَ بهنَّ، [فعمِل بهن]

(5)

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 285، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 195 من طريق شيبان، عن قتادة به.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 285، وهو تفسير عبد الرزاق 1/ 57، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 6/ 193 من طريق محمد بن حماد الطهرانى عن عبد الرزاق به.

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 285، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 193، 194 من طريق أبى هلال به نحوه مطولًا.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 240 عن السدى.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 506

وأتمَّهنَّ، كما أخبرَ اللهُ جل ثناؤه عنه أنه فعَل. وجائزٌ أن تكونَ تلك الكلماتُ جميعَ ما ذكَره مَن ذكَرْنا قولَه في تأويلِ الكلماتِ، وجائزٌ أن تكونَ بعضَه؛ لأن إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه قد كان امْتُحِنَ فيما بلغَنا بكلِّ ذلك، فعمِل به، وقام فيه بطاعةِ اللهِ وأمرِه الواجبِ عليه فيه.

وإذ كان ذلك كذلك، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ أن يقولَ: عنَى اللهُ بالكلماتِ اللواتى ابتَلى بهنَّ إبراهيمَ شيئًا مِن ذلك بعينِه دونَ شيءٍ، ولا عنَى به كلَّ ذلك. إلَّا بحُجَّةٍ يَجِبُ التسليمُ لها، مِن خبرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أو إجماعٍ مِن الحُجَّةِ، ولم يصحَّ بشيءٍ

(1)

من ذلك خبرٌ عن الرسولِ بنقلِ الواحدِ، ولا بنقلِ الجماعةِ التى يَجِبُ التسليمُ لِما نَقَلَتْه. غيرَ أنه قد رُوِى عن النبيِ صلى الله عليه وسلم في نظيرِ معنى ذلك خبران لو ثَبَتا أو أحدُهما، كان القولُ به في تأويلِ ذلك هو الصوابَ:

أحدُهما ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا رِشْدِينُ

(2)

بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى زَبّانُ

(3)

بنُ فائدٍ، عن سهلِ بنِ مُعاذِ بنِ أنسٍ، عن أبيه، قال: كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أُخْبِرُكم لِمَ سَمَّى اللهُ، إبراهيمَ خَلِيلَه، الذى وفَّى؛ لأنَّه كان يَقُولُ كُلَّما أصْبَحَ وكُلَّما أمْسَى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] حتى يَخْتِمَ الآيةَ".

والآخَرُ ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا الحسنُ بنُ عطيَّةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن جعفرِ بنِ الزبيرِ، عن القاسمِ، عن أبى أُمامةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

في م: "فيه شيء"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"شيء".

(2)

في م: "راشد"، وفى ت 2:"رشيد"، وفى ت 1، ت 3:"رشد". وينظر تهذيب الكمال 9/ 282.

(3)

في الأصل، م، ت 2، ت 3:"ريان"، وفى ت 1:"زياد". وينظر تهذيب الكمال 9/ 281.

ص: 507

{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. قال: "تدْرُونَ ما وَفَّى؟ " قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "وَفَّى عَمَلَ يَوْمِه أربَعَ رَكَعاتٍ في النَّهَارِ".

فلو كان خبرُ سهلِ بنِ مُعاذٍ عن أبيه صحيحًا سَنَدُه، كان بَيِّنًا أن الكلماتِ التى ابْتُلِى بهنَّ إبراهيمُ، فقام بهنَّ، هى قولُه كُلَّما أصبَحَ وأمسَى:{فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} . أوْ كان خبرُ أبى أمامةَ عُدُولًا نَقَلَتُه، كان معلومًا أن الكلماتِ التى أُوحِينَ إلى إبراهيمَ فابْتُلى بالعمَلِ بهنَّ، أن يُصَلِّىَ كلَّ يومٍ أربعَ ركَعاتٍ، غيرَ أنهما خبرانِ في أسانيدِهما نَظَرٌ.

فالصوابُ مِن القولِ في معنى الكلماتِ التى أخبَر اللهُ أنه ابتَلى بهنَّ إبراهيمَ، ما بيَّنَّا آنفًا.

ولو قال قائلٌ في ذلك: إن الذى قاله مجاهدٌ وأبو صالحٍ والربيعُ بنُ أنسٍ، أوْلَى بالصوابِ مِن القولِ الذى قاله غيرُهم. كان مذهبًا؛ لأن قولَه:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} وقولَه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ، وسائرَ الآياتِ التى هى نظيرةُ ذلك -كالبيانِ عن الكلماتِ التى ذكَر اللهُ أنه ابتَلى بهنَّ إبراهيمَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {فَأَتَمَّهُنَّ} .

ويعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {فَأَتَمَّهُنَّ} : فأتمَّ إبراهيمُ الكلماتِ. وإتمامُه إيَّاهنَّ إكمالُه إيَّاهنَّ بالقيامِ للهِ بما أوجَب عليه فيهنَّ، وهو الوفاءُ الذى قال جلَّ ثناؤه:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . يعنى بذلك: وفَّى بما عَهِد إليه بالكلماتِ فأمَره به،

ص: 508

مِن فرائِضه ومِحَنِه فيها.

كما حدَّثنى محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَأَتَمَّهُنَّ} . أى: فأدَّاهنَّ

(1)

.

وحدَّثنى بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَتَمَّهُنَّ} . أى: عمِل بهنَّ فأتمهنَّ

(2)

.

وحُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَأَتَمَّهُنَّ} . أى: عمِل بهنَّ وأتمهنَّ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} .

يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} : فقال اللهُ: يا إبراهيمُ، إنى مُصَيِّرُك للناسِ إمامًا يُؤْتَمُّ به ويُقْتَدَى به.

كما حُدِّثتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ليُؤَمَّ به ويُقتَدى به

(4)

.

يقال منه: أمَمْتُ القومَ فأنا أَؤمُّهم أَمًّا وإمامةً. إذا كنتَ إمامَهم.

وإنما أراد جلَّ ثناؤه بقولِه لإبراهيمَ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} : إنى مُصَيِّرُك

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 194 من طريق عبد الأعلى به.

(2)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 195 من طريق شيبان، عن قتادة.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 222 عقب الأثر (1173) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 222 عقب الأثر (1174) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 509

تَؤُمُّ مَن بعدَك مِن أهلِ الإيمانِ بى وبرُسُلى، فتَقَدَّمُهم أنت، ويتَّبعون هَدْيَك، ويَستَنُّون بسُنَّتِك التى تَعْمَلُ بها، بأمرِى إيَّاك ووحْيى إليك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} .

يعْنى جلَّ ثناؤه بذلك: قال إبراهيمُ -لمَّا رفَع اللهُ منزلتَه وكرَّمه، وأعلَمَه ما هو صانعٌ به، مِن تصييرِه إمامًا في الخيراتِ لمن في عصرِه، ولمن جاء بعدَه مِن ذُرِّيَّته وسائرِ الناسِ غيرِهم، يُهْتَدَى بهدْيِه ويُقْتَدى بأفعالِه وأخلاقِه - يا ربِّ، ومِن ذُرِّيَّتى فاجعلْ أئمةً يُقْتَدَى بهم، كالذى جعَلْتنى إمامًا يُؤْتَمُّ بى ويُقْتَدَى بى. مسألةٌ مِن إبراهيمَ ربَّه سأله إيَّاها.

كما حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال إبراهيمُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . يقولُ: واجْعَلْ مِن ذُرِّيَّتى مَن يُؤْتَمُّ ويُقْتَدَى به

(1)

.

وقد زعَم بعضُ الناسِ أن قولَ إبراهيمَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} مسألةٌ منه ربَّه لعَقِبهِ أن يكونوا على عهدِه ودِينِه، كما قال:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. فأخبَرَ اللهُ جلَّ ثناؤه أن في عَقِبِه الظالمَ المخالفَ له في دِينِه، بقولِه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .

والظاهرُ مِن التنزيلِ يَدُلُّ على غيرِ الذى قاله صاحبُ هذه المقالةِ؛ لأن قولَ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . في إثرِ قولِ اللهِ له جلَّ ثناؤه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} . فمعلومٌ أن الذى سأَل إبراهيمُ لذُرِّيَّته لو كان غيرَ الذى أخبَره ربُّه أنه أعطاه إيَّاه، لكان مُبَيَّنًا، ولكنَّ المسألةَ لمَّا كانت ممَّا قد جرَى ذكرُه، اكْتُفِىَ بالذكْرِ الذى قد مضَى مِن تكريرِه وإعادتِه، فقال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . بمعنى: ومِن

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 118 إلى المصنف.

ص: 510

ذُرِّيَّتى فاجْعَلْ مثلَ الذى جعَلْتنى به مِن الإمامةِ للناسِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} .

وهذا خبرٌ من اللهِ جل ثناؤُه عن أن الظالمَ لا يكونُ إمامًا يَقْتَدِى به أهلُ الخيرِ. وهو مِن اللهِ جلَّ ثناؤه جوابٌ لإبراهيمَ

(1)

في مسألتِه إياه أن يجعلَ من ذرِّيتِه أئمةً مثلَه. فأخبَره أنه فاعلٌ ذلك إلا بمن كان من أهلِ الظلمِ منهم، فإنه غيرُ مُصَيِّرِه كذلك، ولا جاعلِه في محلِّ أوليائِه عنده بالتَّكْرمةِ بالإمامةِ؛ لأن الإمامةَ إنما هى لأوليائِه وأهلِ طاعتِه، دون أعدائِه والكافرين به.

واختَلف أهلُ التأويلِ في العهدِ الذى حرَم اللهُ تعالى ذكرُه الظالمين أن ينالُوه؛ فقال بعضُهم: ذلك العهدُ هو النُّبوَّةُ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّىِّ:(قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). يقولُ: عهدى: نبوّتى

(2)

.

فمعنى تأويلِ

(3)

هذا القولِ في تأويله

(4)

الآيةَ: لا ينالُ النُّبوَّةَ أهلُ الظلمِ والشركِ.

وقال آخَرون: معنى العهدِ عهدُ الإمامةِ.

فتأويلُ الآيةِ على قولِهم: لا أجعلُ من كان من ذرِّيتِك [يإبراهيمُ]

(5)

ظالمًا،

(1)

في م: "لما توهم"، وفى ت 1:"لا يوهم"، وفى ت 2:"لا يتوهم".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 223 (1182)، من طريق عمرو به.

(3)

في م: "قائل".

(4)

في م: "تأويل".

(5)

في م: "بأسرهم".

ص: 511

إمامًا لعبادى يُقْتَدَى به.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: لا يكونُ إمامًا ظالمٌ

(1)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: لا يكونُ [لى إمامًا ظالمٌ]

(2)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن عكرمةَ بمثلِه.

وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عامِرٍ

(3)

، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: لا يكونُ إمامًا

(4)

ظالمٌ يُقْتَدَى به

(5)

.

وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيرىُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وحدَّثنا مُشَرَّفُ

(6)

بنُ أبانٍ الخطّابُ

(7)

، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: لا أجعلُ إمامًا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد ووكيع.

(2)

في م: "إمام ظالما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عاصم". وينظر تهذيب الكمال 18/ 364.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إمام".

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 241 عن سفيان به. وينظر تفسير سفيان ص 48، وتفسير ابن أبى حاتم 1/ 223 (1179).

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مسروق". وينظر تاريخ بغداد 13/ 224.

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحطاب".

ص: 512

ظالمًا يُقْتَدَى به.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عُبيدٍ المحاربىُّ، قال: ثنا مُسلمُ بنُ خالدٍ الزنْجىُّ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا أجعلُ إمامًا ظالمًا يُقْتَدَى به

(1)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: لا يكونُ إمامًا ظالمٌ.

قال ابنُ جُريجٍ: وأما عطاءٌ فإنه قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فأبَى أن يجعلَ من ذريته ظالمًا إمامًا. قلت لعطاءٍ: ما عهدُه؟ قال: أمرُه

(2)

.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه لا عهْدَ عليك لظالمٍ أن تطيعَه فى ظلمِه.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمى، قال: حدثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . يعنى: لا عهدَ لظالمٍ عليك فى ظلمِه أن تطيعَه فيه

(3)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن مسلمٍ الأعورِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: ليس للظالمين عهدٌ، وإن عاهدْتَه فانقُضْه.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (213 - تفسير) من طريق مسلم بن خالد الزنجي به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 223 (1178) من طريق حجاج عن ابن جريج عن عطاء، وكذا ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 241.

(3)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 241.

ص: 513

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن سفيانَ، عن هارونَ بنِ عنترةَ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: ليس لظالمٍ عهدٌ

(1)

.

وقال آخرون: معنى العهدِ فى هذا الموضعِ الأمانُ.

فتأويلُ الكلامِ على معنى قولِهم: قال اللهُ: لا ينالُ أمانى أعدائى وأهلَ الظلمِ لعبادى. أى: لا أُؤمِّنُهم مِن عذابى فى الآخرةِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} : ذلكم يومَ القيامةِ عندَ اللهِ، لا ينالُ عهدَه ظالمٌ، فأما فى الدنيا فقد نالُوا عهدَ اللهِ، فوارثوا به المسلمين وعادُّوهم

(2)

وناكَحوهم به، فلما كان يومُ القيامةِ قصَر اللهُ عهدَه وكرامتَه على أوليائِه

(3)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا ينالُ عهدَ اللهِ فى الآخرةِ الظالمون

(4)

، فأما فى الدنيا، فقد ناله الظالمُ [فأمِن به]

(5)

، وأكَل به وعاشَ

(6)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ [بنُ عبدِ اللهِ](5)، عن

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 224 (1186) من طريق سفيان به بلفظ: ليس لظالم عليك عهد فى معصية الله أن تطيعه. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 118 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

فى الأصل: "غازوهم به".

(3)

أخرجه ابن عساكر فى تاريخه 6/ 195 من طريق شيبان، عن قتادة نحوه.

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3، وتفسير ابن أبى حاتم:"الظالمين".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 58، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 224 (1187) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 514

إسرائيلَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا ينالُ عهدَ اللهِ فى الآخرةِ الظالمون، فأما فى الدنيا، فقد ناله الظالمُ فأَمِن به، وأكَل وأبصَر وعاشَ

(1)

.

وقال آخرون: بل العهدُ الذى ذكَره اللهُ فى هذا الموضعِ دينُ اللهِ.

ذكرُ من قال ذلك

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: قال اللهُ لإبراهيمَ: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: فعهدُ اللهِ الذى عَهِد إلى عبادِه دينُه. يقولُ: لا ينالُ دينُه الظالمين، ألا ترى أنه قال:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]. يقولُ: ليس كلُّ ذرِّيتِك يا إبراهيمُ على الحقِّ

(2)

.

وحدَّثنى محمدُ

(3)

بنُ جعفرٍ، قال: أخبرَنا يزيدُ، قال: أخبرَنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ فى قولِه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: لا ينالُ طاعَتى

(4)

عدوٌّ لى يَعْصِينى، ولا أَنحَلُها إلا وَلِيًّا لى يُطيعُنى

(5)

.

وهذا الكلامُ وإن كان ظاهرُه ظاهرَ خبرٍ عن أنه لا ينالُ مِن ولدِ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه عهدُ اللهِ -الذى هو النبوّةُ والإمامةُ لأهلِ الخيرِ، بمعنى الاقتداءِ به فى الدنيا، والعهدُ الذى بالوفاءِ [به للهِ]

(6)

ينجو فى الآخرةِ مَن وفَّى للهِ به فى الدنيا- مَن كان

(1)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 242 عن إبراهيم.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 223 عقب الأثر (1180) معلقا، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 242.

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يحيى".

(4)

فى م، ت 2، ت 3:" عهدى"، وفى ت 1:"عهد".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 223، 224 (1183، 1185) من طريق جويبر به.

(6)

فى م، ت 2:"به"، وفى ت 1، ت 3:"لله".

ص: 515

منهم ظالمًا مُعْتَدِيًا

(1)

، جائرًا عن قصدِ سبيل الحقِّ، فهو إعلامٌ من اللهِ تعالَى ذكرُه لإبراهيمَ أنَّ مِن ولدِه من يُشرِكُ به، ويَزولُ

(2)

عن قصدِ السبيلِ، ويَظلِمُ نفسَه وعبادَه.

كالذى حدثنى إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ حبيبِ بنِ الشهيدِ، قال: ثنا عَتّابُ بنُ بشرٍ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . قال: إنه سيكونُ فى ذرّيتِك ظالمون

(3)

.

وأما نَصْبُ {الظَّالِمِينَ} ، فلأن العهدَ هو الذى لا يَنالُ الظالمينَ. وقد ذُكر أنه فى قراءةِ ابنِ مسعودٍ:(لا يَنَالُ عَهْدِى الظالمون)

(4)

. بمعنى أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهدَ اللهِ.

وإنما جاز الرفعُ فى {الظَّالِمِينَ} والنصبُ، وكذلك فى "العهدِ"، لأن كلَّ ما نال المرءَ فقد ناله المرءُ. كما يقالُ: نالنى خيرُ فلانٍ، ونِلْتُ خيرَه. فيُوجَّهُ الفعلُ مرةً إلى الخيرِ، ومرةً إلى نفسِه.

وقد بيّنّا معنى الظُّلمِ فيما مضَى فكَرِهْنا إعادتَه

(5)

.

‌القول فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} .

أما قولُه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} . فإنه عطَف بـ {إِذْ} على قولِه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} . وقولُه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} . معطوفٌ على قولِه: {يَابَنِي

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"متعديا".

(2)

فى م: "يجور".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (212 - تفسير) من طريق عتاب بن بشر به.

(4)

ينظر تفسير القرطبى 2/ 108.

(5)

ينظر ما تقدم فى 1/ 559.

ص: 516

إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}. واذكُروا إذ ابتَلَى إبراهيمَ رُّبه، وإذ جعَلْنا البيتَ مَثابةً.

والبيتُ الذى جعَله اللهُ مَثابةً للناسِ هو البيتُ الحرامُ.

وأما المثابةُ، فإن أهلَ العربيةِ مختلِفون فى معناها، والسببِ الذى من أجلِه أُنِّثَتْ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: أُلْحِقَت الهاءُ فى المثابةِ لمّا كَثُر مَن يَثوبُ إليه، كما يقالُ: سَيّارةٌ. لمن يُكْثِرُ ذلك، ونَسّابةٌ.

وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: بل المَثابُ والمثابةُ بمعنًى واحدٍ، نطيرُ المَقامِ والمَقامَةِ. والمَقامُ ذُكِّر -على قولِه- لأنه أُريدَ به الموضعُ الذى يُقامُ فيه، وأُنِّثَتِ المَقامَةُ لأنه أريد بها البُقْعَةُ. وأَنكرَ هؤلاء أن تكونَ المثابةُ للسيّارةِ

(1)

والنّسّابةِ نَطيرَةً

(2)

. وقالوا: إنما أُدخلتِ الهاءُ فى السيّارةِ والنسّابةِ تشبيهًا لها بالداهيةِ

(3)

.

والمَثابةُ مَفْعَلَةٌ من: ثاب القومُ إلى الموضعِ، إذا رجَعوا إليه، فهم يَثُوبون إليه مَثابًا ومَثابةً وثوابًا.

فمعنى قولِه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} : وإذ جعَلْنا البيتَ مَرجِعًا للناسِ ومَعاذًا، يَأْتُونه كلَّ عامٍ، ويَرجِعون إليه فلا يَقْضُون منه وَطَرًا. ومن المثابِ قولُ وَرَقَةَ ابنِ نوفلٍ فما صفةِ الحَرَمِ

(4)

:

مَثابٌ لأفْنَاءِ القبائلِ كلِّها

تَخُبُّ إليه اليَعْمَلاتُ الطَّلائِحُ

ومنه قيل: ثاب إليه عقلُه، إذا رجَع إليه بعد عُزوبِه عنه. وبنحوِ ما قلْنا فى تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

فى م: "كالسيارة".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

فى م: "بالداعية".

(4)

ينظر تخريج البيت فى البداية والنهاية 3/ 473.

ص: 517

ذكرُ من قال ذلك

حدثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: لا يَقْضون منه وَطَرًا

(1)

.

وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(2)

.

وحدثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: يثوبون إليه، لا يَقْضُون منه وَطَرًا.

وحدثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: أما المثابةُ، فهو الذى يثوبون إليه كلَّ سنةٍ، لا يَدَعُه الإنسانُ إذا أتاه مرّةً أن يعودَ إليه.

وحدثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمى، قال: حدثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} يقولُ: لا يَقْضُون منه وَطَرًا، يَأتونه، ثم يَرجِعون إلى أهليهم، ثم يَعُودون إليه

(3)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 214، ومن طريقه البيهقى 5/ 176، وفى الشعب (3995)، وأخرجه البيهقى أيضا فى سننه من طريق مسلم بن خالد الزنجى، عن ابن أبى نجيح به، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 118 إلى ابن عيينة وعبد بن حميد. وستأتى بقيته فى ص 521.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 58.

(3)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 242 عن العوفى به. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 225 (1191) من طريق مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس نحوه.

ص: 518

وحدثنى عبدُ الكريمِ بنُ أبى عُمَيرٍ، قال: حدثنى الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: قال أبو عمرٍو: حدثنى عَبْدةُ بنُ أبى لُبابةَ فى قولِه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال لا يَنْصَرِفُ عنه مُنْصَرِفٌ وهو يَرى أنه قد قضَى منه وَطَرًا

(1)

.

وحدثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ فى قولِه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: يَثوبون إليه من كلِّ مكانٍ، ولا يَقْضُون منه وَطَرًا

(2)

.

وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه.

وحدثنى محمدُ بنُ عُمارةَ الأسدىُّ، قال: ثنا سهلُ بنُ عامرٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ، عن عطيةَ فى قولِه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: لا يَقْضون منه وَطَرًا

(3)

.

وحدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبى الهُذَيلِ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جُبيرٍ يقولُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: يَحُجُّون ويَثُوبون

(4)

.

وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنَا الثورىُّ، عن أبى الهُذَيلِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ فى قولِه:{مَثَابَةً لِلنَّاسِ} قال: يَحُجُّون [ويَثوبونَ]

(5)

.

(1)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 242 عن المصنف، وعبد الكريم بن أبى عمير ذكره الذهبى فى الميزان 3/ 644، والمغنى 1/ 569، وينظر لسان الميزان 4/ 50، 51.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 225 عقب الأثر (1191) معلقا. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 225 عقب الأثر (1191) معلقا.

(4)

تفسير سفيان ص 48 نحوه.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 519

[وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبد الرزّاقِ، قال: أخبرنا الثَّوريُّ، عن أبي الهُذَيْلِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قولَه: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ}. قال: يحُجُّون]

(1)

، ثم يَحُجُّون، ولا يَقْضُون منه وَطَرًا

(2)

.

وحدثنى المثنى، قال: ثنا ابنُ دُكَيْنٍ

(3)

، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن غالبٍ، عن سعيدِ ابنِ جبيرٍ:{مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: يَثُوبون إليه.

وحدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: مَجْمَعًا

(4)

.

وحدثنى المُثَنّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال حدثنى مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحَةَ، عن ابنِ عباسٍ:{مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . يقولُ: يَثُوبون إليه

(5)

.

وحُدِّثْت عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . يقولُ: يَثُوبون إليه

(6)

.

وحدثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} . قال: يَثُوبون إليه من البُلْدانِ كلِّها ويَأتُونه

(7)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 59.

(3)

في م: "بكير".

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 225 عقب الأثر (1192) معلقا.

(5)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان 2/ 7 - عن أبيه، عن عبد الله بن صالح به، بلفظ: يثوبون إليه ثم يرجعون.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 225 عقب الأثر (1191) من طريق ابن أبي جعفر به.

(7)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 242 عن المصنف.

ص: 520

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَمْنًا} .

والأمنُ مصدرٌ؛ من قولِ القائلِ: أَمِن يَأمَنُ أَمْنًا. وإنما سَمّاه اللهُ أَمْنًا؛ لأنه كان في الجاهليةِ مَعاذًا لمن اسْتعاذَ به، وكان الرجلُ منهم لو لَقِىَ به قاتلَ أبيه أو أخيه لم يَهِجْه ولم يَعْرِضْ له حتى يَخرُجَ منه، وكان كما قال جلَّ ثناؤُه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].

حدثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَأَمْنًا} . قال: مَن أَمَّ إليه فهو آمِنٌ، كان الرجلُ يَلقَى قاتلَ أبيه أو أخيه فلا يَعْرِضُ له

(1)

.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أما {أَمْنًا} فمَن دخَله كان آمنًا

(2)

.

[حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ: {وَأَمْنًا}]

(3)

. قال: تحريمُه

(4)

، لا يخافُ فيه مَن دخَله

(5)

.

وحُدِّثْت عن عَمّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَأَمْنًا} . يقولُ: أمنًا مِن العدوِّ أن يَحْمِلَ فيه السلاحَ، وقد كان في الجاهليةِ

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 243 عن ابن زيد.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 225 عقب الأثر (1194) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

في الأصل: "عريمة".

(5)

تقدم أوله في ص 518.

ص: 521

يُتَخَطَّفُ الناسُ مِن حولِهم وهم آمنون لا يُسْبَوْنَ

(1)

.

وحُدِّثْت عن المِنجابِ، قال: أخبرَنا بشرٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَأَمْنًا} . قال: أمنًا للناسِ

(2)

.

وحدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حَجّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَأَمْنًا} . قال: تحريمُه، لا يَخافُ فيه مَن دخَله.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .

اختلف القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . بكسرِ الخاءِ على وجهِ الأمرِ باتخاذِه مصلًّى، وهى قراءةُ عامةِ قَرَأَةِ المِصْرَيْنِ؛ الكوفَةِ والبصرةِ، وقراءةُ عامةِ قَرَأَةِ أهلِ مكةَ، وبعضِ قَرَأَةِ أهلِ المدينةِ

(3)

.

[وذهَب الذين قرءوا ذلك إلى]

(4)

الخبرِ الذى حدَّثنا أبو كُريبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: حدَّثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرَنا حُميدٌ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو اتخذْتَ المَقامَ مُصَلًّى! فأَنزل اللهُ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 225 عقب الأثر (1194) من طريق ابن أبي جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 118 إلى المصنف عن أبي العالية.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 225 (1193) عن أبي زرعة، عن منجاب به.

(3)

وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء، وسيأتي، ينظر حجة القراءات ص 113.

(4)

في م: "وذهب إليه الذين قرءوه كذلك من"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"وذهب إليه الذين قرءوه كذلك إلى أن".

(5)

أخرجه أحمد 1/ 23 (157)، والبخارى (402)، والترمذى (2960)، والنسائي في الكبرى (10998)، وابن ماجه (1009) من طريق هشيم به. =

ص: 522

وحدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، جميعًا عن حُميدٍ، عن أنَسٍ، عن عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه

(1)

.

وحدثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا حُمَيدٌ، عن أنسٍ، قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ. فذكَر مثلَه.

قالوا: فإنما أنزَل اللهُ تعالى ذكرُه هذه الآيةَ أمرًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم باتِّخاذِ مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى، فغيرُ جائزةٍ قراءتُها وهى أمرٌ، على وجهِ الخبرِ.

وقد زعَم بعضُ نحويِّى البصرةِ أن قولَه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . جزمٌ

(2)

معطوفٌ على قولِه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} واتَّخِذوا مصلًّى من مَقام إبراهيمَ. فكان الأمرُ بهذه الآيةِ، وباتخاذِ المصلَّى من مَقامِ إبراهيمَ -على قولِ هذا القائِلِ- لليهودِ مِن بنى إسرائيلَ الذين كانوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

[وقال]

(3)

الربيعُ بنُ أنسٍ بما حدِّثْت به عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، [عن الرَّبيع بنِ أنَسٍ]

(4)

، قال: من الكلماتِ التى ابتُلِىَ بها إبراهيمُ قولُه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . يأمُرُهم أن يَتَّخِذُوا مِن مَقامِ

= وأخرجه الترمذي (2959) من طريق حماد بن سلمة، عن حميد به. وينظر مسند الطيالسي (41).

(1)

أخرجه أحمد 1/ 24 (160)، وفي فضائل الصحابة (434) من طريق ابن أبي عدي به.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "كما حدثنا"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"حدثنا".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 523

إبراهيمَ مُصَلًّى، فهم يُصَلُّون خلفَ المَقامِ.

فتأويلُ قائلِ هذا القولِ: وإذ ابتلَى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمهُنَّ، قال: إني جاعِلُك للناسِ إمامًا. قال: اتَّخِذوا من مَقامِ إبراهيمَ مصلًّى.

والخبرُ الذى ذكَرْناه عن عمرَ بنِ الخطابِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبلُ، يَدُلُّ على خلافِ الذى قاله هؤلاء، وأنه أمرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه بذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به، وجميعَ الخلقِ المكلَّفِين.

وقرَأه بعضُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والشامِ: (واتَّخَذوا). بفتحِ الخاءِ، على وجهِ الخبرِ.

ثم اختُلِف في الذى عُطِف عليه بقولِه: (واتَّخَذوا). إذا قُرِئ كذلك على وجهِ الخبرِ، فقال بعضُ نحويِّى البَصْرةِ: تأويلُه إذا قُرِئ كذلك: وإذ جعَلْنا البيتَ مَثابةً للناسِ وأمْنًا، [وإذِ اتخَذُوا]

(1)

من مقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى.

وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: بل ذلك معطوفٌ على قولِه: {جَعَلْنَا} . فكأن معنى الكلامِ على قولِه: وإذ جعَلْنا البيتَ مثابةً للناسِ، واتَّخَذُوه مُصَلَّى.

والصوابُ من القولِ والقراءةِ في ذلك عندنا: {وَاتَّخِذُوا} . بكسرِ الخاءِ

(2)

، على تأويلِ الأمرِ باتخاذِ مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى، للخبرِ الثابتِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذى ذكَرْناه آنفًا، وأن عمرَو بنَ عليٍّ حدثنا، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ محمدٍ، قال: حدثني أبي، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قرَأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

(3)

.

(1)

في م: "وإذ واتخذوا".

(2)

القراءتان صواب لأنهما متواترتان.

(3)

أخرجه أحمد 22/ 325 (14440)، وأبو داود (1907، 1909)، وابن خزيمة (2754) من طريق يحيى بن سعيد به مطولًا، وهو جزء من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (1218)، وينظر مسند الطيالسي (1773).

ص: 524

ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . وفى مقامِ إبراهيمَ؛ فقال بعضُهم: مقامُ إبراهيمَ هو الحجُّ كلُّه.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} . قال: الحجُّ كلُّه مقامُ إبراهيمَ

(1)

.

وحدثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . قال: الحجُّ كلُّه.

وحدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن ابنِ جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: الحجُّ كلُّه مَقامُ إبراهيمَ.

وقال آخرون: مَقامُ إبراهيمَ عَرَفةُ والمُزْدَلِفَةُ والجِمارُ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصِمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . قال: لأنى قد جعَلْتُه إمامًا، فمَقامُه عَرَفةُ والمُزْدَلِفَةُ والجِمارُ

(2)

.

وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ

(3)

، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 59، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 226 (1197) من طريق حجاج، عن ابن جريج به مطولًا.

(2)

تفسير مجاهد 1/ 214.

(3)

بعده في م: "عن قتادة".

ص: 525

مُصَلًّى}. قال: مَقامُه جَمْعٌ

(1)

وعَرَفةُ ومِنًى. لا أعلمُه إلا وقد ذكَر مكةَ

(2)

.

وحدثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبو عاصِمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . قال: مَقامُه عَرفةُ.

وحدثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا داودُ، عن الشعبيِّ، قال: نزلَتْ عليه وهو واقفٌ بعرفةَ مَقامِ إبراهيمَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}

(3)

الآية [المائدة: 3].

وحدثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفُضَّلِ، قال: ثنا داودُ بنُ أبي هندٍ، عن الشعبىِّ مثلَه.

وقال آخرون: مَقامُ إبراهيمَ الحرمُ.

ذكرُ من قال ذلك

حدِّثْتُ عن حمادِ بنِ زيدٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . قال: الحرمُ كلُّه مَقامُ إبراهيمَ

(4)

.

وقال آخرون: بل مَقامُ إبراهيمَ هو الحَجَرُ الذى قام عليه إبراهيمُ حين ارتفَع بناؤُه، وضَعُف عن رَفْعِ الحِجارةِ.

(1)

جمع: المزدلفة. اللسان (ج م ع).

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 58.

(3)

سيأتى هذا الأثر في سورة المائدة من طريق عبد الأعلى، وابن علية، وليس فيه: عرفة مقام إبراهيم.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 226 عقب الأثر (1198) معلقا.

ص: 526

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا ابنُ

(1)

سِنانٍ القَزّازُ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ عبدِ المجيدِ أبو عليٍّ الحنفيُّ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ نافعٍ، قال: سمِعتُ كَثيرَ بنَ كَثيرٍ يُحدِّثُ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: جعَل إبراهيمُ يَبْنيه، وإسماعيلُ يُناوِلُه الحجارةَ، ويقولان

(2)

: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . فلمّا ارتفع البنيانُ وضعُف الشيخُ عن رَفْعِ الحجارةِ، قام على حجَرٍ، فهو مَقامُ إبراهيمَ

(3)

.

وقال آخرون: بل مَقامُ إبراهيمَ، هو مَقامُه الذى هو في المسجدِ الحرامِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بن زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} : إنما أمِروا أن يُصلُّوا عندَه ولم يُؤْمَروا بمَسْحِه، ولقد تَكَلَّفَت هذه الأمةُ شيئًا ما

(4)

تَكَلَّفَتْه الأممُ قبلَها، ولقد ذكَر لنا بعضُ مَن رأى أثَرَ عَقِبِه وأصابِعِه

(5)

، فما زالت هذه الأمةُ يمسَحُونه حتى اخْلَوْلَق

(6)

وانْمَحَى

(7)

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في الأصل: "يقولون".

(3)

أخرجه البخارى (3365) من طريق إبراهيم بن نافع به مطولًا، وليس فيه: فهو مقام إبراهيم. وكذلك أخرجه البخاري (3364) من طريق معمر، عن أيوب وكثير بن كثير، عن سعيد به مطولًا، وهذه العبارة عند الأزرقى في أخبار مكة 1/ 273، 274 من طريق مسلم بن خالد عن ابن جريج عن كثير به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مما".

(5)

بعده في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"فيها"، وفى تفسير ابن كثير 1/ 246 "فيه". والمثبت موافق لما في أخبار مكة والدر المنثور.

(6)

خلق الشئ خلقا واخلولق: املاسّ ولان واستوى. اللسان (خ ل ق).

(7)

في الأصل: "امحى".

والأثر أخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 272 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 119 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 527

وحدِّثْت عن عمّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} : [يَأْمُرُهم أن يتَّخِذوا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى]

(1)

، فهم يُصلُّون خلفَ المقامِ.

وحدثنى موسى

(2)

، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} : وهو الصلاةُ عند مَقامِه في الحَجِّ. والمقامُ هو الحَجَرُ الذى كانت زوجةُ إسماعيلَ وَضَعَتْ

(3)

تحت قَدَمِ إبراهيمَ حين غسَلتْ رأسَه، فوضَع إبراهيمُ رِجْلَه عليه وهو راكِبٌ، فغسَلتْ شِقَّه، ثم رفَعتْه

(4)

من تحتِه وقد غابت رِجْلُه في الحَجَرِ، فوضَعتْه تحت الشِّقِّ الآخَرِ فغسَلتْه، فغابت رِجْلُه أيضًا فيه، فجعَلها اللهُ من شعائِرِه، فقال:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

(5)

.

وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ عندنا ما قاله القائلون: إنَّ مَقامَ إبراهيمَ هو المَقامُ المعروفُ بهذا الاسمِ، الذى هو في المسجدِ الحرامِ؛ لما روَيْنا آنفًا عن عمرَ بنِ الخطابِ، ولما حدَّثنا به يوسفُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا حاتمُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا جعفرُ ابنُ محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ، قال: استلَم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرُّكْنَ، فرَمَل ثلاثًا، ومشَى أربعًا، ثم نفَذ

(6)

إلى مَقامِ إبراهيمَ فقرَأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . فجعَل المَقامَ بينَه وبينَ البيتِ، فصلَّى ركعتين

(7)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يونس".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وضعته".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"دفعته".

(5)

أخرج ابن أبى حاتم أوله في تفسيره 1/ 227 (1202) من طريق عمرو به.

(6)

في الأصل: "نفد" بالدال المهملة.

(7)

أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074) من طريق حاتم بن إسماعيل به، وهو جزء من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبى صلى الله عليه وسلم، وينظر ص 524.

ص: 528

فهذان الخبرانِ يُنْبِئان أنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه إنما عَنَى بمَقامِ إبراهيمَ الذى أمَرنا

(1)

باتخاذِه مصلًّى منه

(2)

، هو الذى وصَفْنا، ولو لم يكنْ على صِحَّةِ ما اختَرْنا في تأويلِ ذلك خبرٌ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لكان الواجبُ من القولِ فيه ما قلْنا؛ وذلك أنَّ الكلامَ مَحْمولٌ معناه على ظاهِرِه المعروفِ دونَ باطِنِه المجهولِ، حتى يأتىَ ما يدلُّ على خِلافِ ذلك مما يَجِبُ التسليمُ له. ولا شكَّ أنَّ المعروفَ في الناسِ بمَقامِ إبراهيمَ، هو [ما وصَفتُ دونَ جميعِ الحَرَمِ، ودونَ مَواقِفِ الحجِّ كلِّها.

وأمّا]

(3)

المُصَلَّى الذى قال الله تعالى ذِكْرُه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . فإنَ أهلَ التأويلِ مُختلِفون في معناه؛ فقال بعضُهم: هو المُدَّعَى.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . قال: مصلَّى إبراهيمَ مُدَّعًى

(4)

.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل اتخِذُوا مصلَّى تصلُّون عنده.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بِشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: أُمِروا أن يُصلُّوا عنده

(5)

.

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (214 - تفسير) عن سفيان به، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 227 (1201) من طريق زكريا بن إسحاق، عن ابن أبى نجيح به.

(5)

تقدم تخريجه بتمامه في ص 527.

ص: 529

وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: هو الصلاةُ عندَه

(1)

.

فكأنَّ الذين قالوا: تأويلُ المُصَلَّى ههنا المُدَّعَى. وجَّهوا المُصَلَّى إلى أنه مُفَعَّل، مِن قولِ القائلِ: صلَّيتُ. بمعنى: دعوتُ. وقائلو هذه المقالةِ هم الذين قالوا: إن مَقامَ إبراهيمَ هو الحجُّ كلُّه.

فكأنَّ معناهم في تأويلِ هذه الآيةِ: واتَّخِذوا عرفةَ والمُزْدَلِفَةَ والمَشْعرَ والجَمَراتِ

(2)

وسائرَ أماكنِ الحجِّ التى كان إبراهيمُ يقومُ بها، مُدَّعًى

(3)

تَدْعونَنى

(4)

عندَها، وتَأْتَمُّون

(5)

بإبراهيمَ خليلى صلواتُ اللهِ عليه فيها، فإنى قد جعَلتُه لمَن بعدَه -مِن أوليائى وأهلِ طاعَتى- إمامًا يَقْتَدون به وبآثارِه، فاقْتَدوا به.

وأما تأويلُ القائلين القولَ الآخرَ، فإنه: اتَّخِذوا أيها الناسُ مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصلًّى تُصَلُّون عندَه، عِبادةً مِنكم لى، وتَكْرِمةً منى لإبراهيمَ.

وهذا القولُ هو أوْلَى بالصوابِ عندَنا؛ لما ذَكَرنا مِن الخبَرِ عن عمرَ بنِ الخطّابِ وجابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَعَهِدْنَا} : وأَمَرْنا.

(1)

تقدم تخريجه بتمامه في ص 528.

(2)

في م: "الجمار".

(3)

في م: "مداعى".

(4)

في الأصل: "يدعوننى".

(5)

في الأصل: "يأتمون".

ص: 530

كما حدثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدثنى حَجّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قُلتُ لعطاءٍ: ما عَهْدُه؟ قال: أَمْرُه

(1)

.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} . قال: أَمَرْناه

(2)

.

فمعنى الآيةِ: وأَمَرْنا إبراهيمَ وإسماعيلَ بتطهيرِ بيتى للطائِفين. و"التَّطهيرُ" الذى أمَرَهما اللهُ به في البيتِ هو تطهيرُه مِن الأصنامِ، وعبادةِ الأوثانِ فيه، ومِن الشركِ باللهِ.

فإن قال قائلٌ: وما معنى قولِه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ؟ وهل كان أيامَ إبراهيمَ -قبلَ بنائِه البيتَ- بيتٌ يُطَهَّرُ مِن الشركِ وعبادةِ الأوثانِ في الحَرَمِ، فيجوزَ أن يكونا أُمِرا بتَطْهيرِه؟

قِيل: لذلك وجهانِ مِن التأويلِ، قد [قال بكلِّ]

(3)

واحدٍ مِن الوَجْهين مِن أهلِ التأويلِ جماعةٌ؛ أحدُهما: أن يكونَ معناه: وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن ابْنِيَا بَيْتىَ مُطَهَّرًا مِن الشركِ والرَّيْبِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109]. فكذلك قولُه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} . أى: ابْنِيا بَيْتىَ على طُهْرٍ مِن الشِّركِ بى والرَّيْبِ.

كما حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ،

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 247، عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 121 إلى المصنف.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 248.

(3)

في م، ت 1، ت 3:"كان لكل".

ص: 531

عن السُّدِّىِّ: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} . يقولُ: ابْنِيا بيتى للطائفين

(1)

.

فهذا أحدُ وَجْهَيْهِ.

والوجهُ الآخرُ منهما: أن يكونا أُمِرا بأن يُطَهِّرا مكانَ البيتِ قبلَ بِنائِه

(2)

والبيتَ بعدَ بِنائِه

(2)

، مما كان أهلُ الشركِ باللهِ يَجْعَلونه فيه، على عهدِ نوحٍ ومَن قبلَه مِن الأوثانِ؛ ليكونَ ذلك سُنَّةً لمنَ بعدَهما، إذ كان اللهُ جلَّ ثناؤُه قد جعَل إبراهيمَ إمامًا يُقْتَدَى به

(3)

بعدَه.

كما حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} . قال: مِن الأصنامِ التى يَعْبُدون، التى كان المشركون يُعَظِّمونها

(4)

.

[ذكرُ مَن قال: معنى قولِه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} أى: طهِّراه من الشِّرْكِ والرَّيْبِ]

(5)

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيرىُّ، قال: ثنا

سفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ

(6)

، عن عطاءٍ، عن عُبيدِ بنِ عُمَيرٍ:{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}

(1)

سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 227 (1204) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

في م: "بنيانه".

(3)

بعده في م: "من".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 248.

(5)

سقط من: م.

(6)

في م: "أبى نجيح".

ص: 532

قال: مِن الآفاتِ

(1)

والرَّيْبِ

(2)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ مثلَه

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: مِن الشركِ

(3)

.

وحدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا

(4)

إسرائيلُ، عن أبى حَصينٍ، عن مجاهدٍ:{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} . قال: مِن الأوثانِ

(5)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قوله:{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} . قال: مِن الشركِ وعبادةِ الأوثانِ

(6)

.

حدثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ بمثلِه، وزاد فيه: وقولِ الزُّورِ

(7)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {لِلطَّائِفِينَ} .

اختَلفَ أهلُ التأويلِ في معنى "الطائِفين" في هذا الموضِعِ؛ فقال بعضُهم: هم

(1)

في م: "الأوثان".

(2)

أخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 199 من طريق عثمان بن ساج، عن ابن جريج به.

(3)

تفسير سفيان ص 210.

(4)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبو". وينظر تهذيب الكمال 2/ 515.

(5)

ذكره القرطبى في تفسيره 2/ 114.

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 58، 2/ 36.

(7)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 121 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 533

الغرباءُ الذين يَنْتابون

(1)

البيتَ الحرامَ مِن غربةٍ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثنا أبو كُريبٍ، قال ثنا أبو بكرِ بنُ عَياشٍ، قال: ثنا أبو حَصِينٍ، عن سعيدِ ابنِ جُبَيْرٍ في قولِه:{لِلطَّائِفِينَ} قال: مَن أتاه مِن غربةٍ

(2)

.

وقال آخرون: بل الطائفون هم الذين يَطُوفون به، [غريبًا كان]

(3)

أو مِن أهلِه.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ العلاءِ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن أبي بكرٍ الهُذَليِّ، عن عطاءٍ:{لِلطَّائِفِينَ} . قال: إذا كان طائفًا بالبيتِ، فهو مِن الطائفين

(4)

.

وأوْلَى التأويلين بالآيةِ ما قاله عطاءٌ، لأن الطائفَ هو الذي يَطُوفُ بالشيءِ دونَ غيرِه، والطَّارِئُ مِن غربةٍ لا يَسْتحِقُّ اسمَ طائفٍ بالبيتِ إن لم يَطُفْ به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالْعَاكِفِينَ} .

يعنى تعالى ذِكْرُه بقولِه: {وَالْعَاكِفِينَ} : والمُقِيمين به. والعاكِفُ على الشيءِ: المُقِيمُ عليه، كما قال نابغةُ بنى ذُبْيانَ

(5)

:

عُكُوفًا لَدَى أبْياتِهِمْ يَثْمِدُونَهُم

(6)

رَمَى اللهُ فِى تِلكَ الأكُفِّ الكوَانِعِ

(7)

(1)

في م: "يأتون". وينتابون: يأتون مرة بعد مرة. اللسان (ن و ب).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 228 (1211) من طريق أبي بكر بن عياش به.

(3)

في م، ت 1:"غرباء كانوا".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 228 (1209) من طريق أبي بكر الهذلي به نحوه.

(5)

ديوانه ص 189، وفيه:"قعودا" مكان "عكوفا".

(6)

يثمدونهم: يطلبون معروفهم في إلحاح. اللسان (ث م د)

(7)

الكوانع: الذليلة. اللسان (ك ن ع).

ص: 534

وإنما قيل للمُعْتكِفِ: مُعْتكِفٌ. مِن أجلِ مُقامِه في الموضِعِ الذي حَبَس نفسَه فيه للهِ تعالى.

ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في مَن عَنَى اللهُ بقولِه: {وَالْعَاكِفِينَ} ؛ فقال بعضُهم: عَنَى به الجالسَ في البيتِ الحرامِ بغيرِ طوافٍ ولا صلاةٍ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن أبي بكرٍ الهُذلِيِّ، عن عطاءٍ، قال: إذا كان طائفًا بالبيتِ، فهو مِن الطائفين، وإذا كان جالسًا، فهو مِن العاكفين

(1)

.

وقال بعضُهم: العاكفون: هم المُعْتَكِفون المُجاوِرون.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيرىُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن جابرٍ، عن مُجاهدٍ وعكرمةَ:{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} . قال: العاكِفون

(2)

المُجاوِرون.

وقال بعضُهم: العاكفون هم أهلُ البلد الحرامِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، قال: ثنا أبو حَصينٍ، عن سعيدِ ابنِ جبيرٍ في قولِه:{وَالْعَاكِفِينَ} قال: أهلُ البلدِ

(3)

.

(1)

الشطر الأول تقدم في ص 534، والشطر الثاني ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 228 عقب الأثر (1212) معلقا.

(2)

سقط من: م.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 228 عقب الأثر (1213) معلقا.

ص: 535

وحدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: العاكفون أهلُه

(1)

.

وقال آخرون: العاكفون هم المُصلُّون.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ في قولِه: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} قال: العاكِفون المصلون.

وأوْلَى هذه التأويلاتِ بالصوابِ ما قاله عطاءٌ، وهو أن العاكفَ في هذا الموضِعِ المقيمُ في البيتِ مجاورًا فيه بغيرِ طوافٍ ولا صلاةٍ؛ لأن صِفَةَ العُكوفِ ما وصَفنا مِن الإقامةِ بالمكانِ؛ والمقيمُ بالمكانِ قد يكونُ مقيمًا به وهو جالسٌ ومصلٍّ وطائفٌ ونائمٌ

(2)

، وعلى غيرِ ذلك مِن الأحوالِ، فلما كان جلَّ ثناؤُه قد ذكَر في قولِه:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} المُصلِّين والطائفين، عُلِمَ بذلك أن الحالَ التي عَنَى جلَّ ثناؤُه مِن العاكِفِ غيرُ حالِ المُصلِّى والطائفِ، وأن الذي

(3)

عَنَى مِن أحوالِه هو العُكوفُ بالبيتِ على سبيلِ الجِوارِ فيه، وإن لم يَكُنْ مُصلِّيًا فيه ولا راكعًا ولا ساجدًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَالرُّكَّعِ} جماعةَ القومِ الراكعين فيه له،

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 228 عقب الأثر (1213) معلقا.

(2)

في م: "قائم".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"التي".

ص: 536

واحدُهم "راكِعٌ". وكذلك {السُّجُودِ} هم جماعةُ القومِ الساجدين فيه له، واحدُهم "ساجِدٌ"، كما يُقالُ: رجلٌ قاعِدٌ، ورجالٌ قُعودٌ، ورجلٌ جالسٌ، ورجالٌ جُلوسٌ. وكذلك: رجلٌ ساجدٌ، ورجالٌ سجودٌ.

وقيل

(1)

: عُنِى بـ {الرُّكَّعِ السُّجُودِ} : المصلُّون.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن أبي بكرٍ الهُذليِّ، عن عطاءٍ:{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قال: إذا كان يُصَلِّى فهو مِن الرُّكَّعِ السُّجودِ

(2)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، أهلُ الصلاةِ

(2)

.

وقد أتينا فيما مضَى على بيانِ معنى "الركوعِ" و"السجودِ"، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} : واذْكُروا إذ قال إبراهيمُ: ربِّ اجْعَل هذا البلدَ بلدًا آمنًا. يعنى بقولِه: {آمِنًا} : آمنًا مِن الجبابرةِ وغيرِهم، أن يُسَلَّطوا عليه، ومِن عقوبةِ اللهِ أن تنالَه، كما تنالُ سائرَ البلدانِ، مِن خَسْفِ وائتفاكٍ

(4)

وغرقٍ، وغيرِ ذلك مِن سخطِ اللهِ ومَثُلاتِه التي تُصيبُ سائرَ

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2:"بل".

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 229 عقب الأثر (1216) معلقا.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 613، 715.

(4)

في م: "انتقال". والائتفاك: الانقلاب، يقال منه: ائتفكت بهم الأرض، أي انقلبت. ينظر اللسان (أ ف ك).

ص: 537

البلادِ غيرَه.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكِرَ لنا أن الحرَمَ حُرِّمَ [بحيالِه إلى العرشِ]

(1)

. وذُكِر لنا أن البيتَ هبَط مع آدمَ حينَ هبَط، قال اللهُ له: أُهْبِطُ معك بيتي يُطافُ حولَه كما يُطافُ حولَ عَرْشِي. فطافَ حولَه آدمُ ومَن كان بعدَه مِن المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطُّوفانِ -حين أغْرَق اللهُ قومَ نوحٍ- رفَعه وطَهَّره فلم تُصِبْه عُقوبةُ أهلِ الأرضِ، فتَتبَّع منه إبراهيمُ أثرًا، فبَناه على أساسٍ قديمٍ كان قبلَه

(2)

.

فإن قال لنا قائلٌ: أو ما كان الحرمُ آمنًا إلا بعدَ ما سأَل إبراهيمُ ربَّه له الأمانَ؟

قيل: قد اخْتُلِفَ في ذلك؛ فقال بعضُهم: لم يَزَلِ الحرمُ آمنًا مِن عقوبةِ اللهِ وعقوبةِ جبابرةِ خلقِه، منذُ خُلِقَتِ السماواتُ والأرضُ.

واعْتَلُّوا في ذلك بما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ أبي سعيدٍ المَقْبُريُّ، قال: سمِعت أبا شُريحٍ الخُزاعيَّ يقولُ: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما افْتَتح مكةَ قَتَلت خُزَاعةُ رجلًا مِن هُذَيلٍ، فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: "يا أيُّها الناسُ، إن اللهَ حرَّم مكةَ يومَ خلَق السماواتِ والأرضَ، فهى حرامٌ بحرامِ

(3)

اللهِ إلى يومِ القيامةِ، لا يَحِلُّ لامرئٍ يُؤْمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن يَسْفِكَ فيها

(4)

دمًا، أو يَعْضِدَ بها شجرًا

(5)

، وإنها لا تَحِلُّ لأحدٍ بعدِي،

(1)

في حاشية الأصل: "في الأم: بحياله العرش".

(2)

أخرجه الأزرقي في أخبار مكة 1/ 355 من طريق يزيد به إلى قوله: "العرش".

(3)

في م، ت 2:"بحرمة".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بها".

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ألا".

ص: 538

لا

(1)

تَحِلُّ لي إلا هذه الساعةَ غضبًا

(2)

على أهلِها، ألا فهي قد رجَعت على حالِها بالأمسِ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائِبَ، فمَن قال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قتَل بها، فقولوا: إنَّ اللهَ قد أحلَّها لرسولِه ولم يُحِلَّها لك"

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ، وحدَّثنا ابنُ حميدٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا جريرٌ، جميعًا عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمكةَ حين افتتَحها: "هذه حَرَمٌ حرَّمها اللهُ يومَ خلَق السماواتِ والأرضَ وخلَق الشمسَ [والقمرَ]

(4)

ووضَع هذين الأخْشَبَيْنِ، لم تَحِلَّ لأحدٍ قبلِي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدي، أُحِلَّت لى ساعةً من نهارٍ"

(5)

.

قالوا: فمكةُ لم تَزَلْ منذ خُلِقت حرَمًا آمنًا مِن عقوبةِ اللهِ وعقوبةِ الجبابرةِ.

قالوا: وقد أَخبَرَت عن صحةِ ما قلنا مِن ذلك الروايةُ الثابتةُ

(6)

عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها.

قالوا: ولم يسألْ إبراهيمُ ربَّه أن يؤمِّنَه من عقوبتِه وعقوبةِ الجبابرةِ، ولكنه سأله أن يؤمِّنَ أهلَه من الجدوبِ والقحوطِ، وأن يرزُقَ ساكنيه

(7)

من الثمراتِ، كما أخبر ربُّه عنه أنه سأله بقولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لم".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عصى".

(3)

أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 83 من طريق يونس بن بكير به، وأخرجه أحمد 4/ 300 (16377)، والطحاوي 2/ 260، والطبراني في الكبير 22/ 185 (485) من طرق عن ابن إسحاق به بنحوه، كما أخرجه البخارى (104، 1832، 4295)، ومسلم (1654) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري به بنحوه.

(4)

سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 496، 497، والدارقطني 4/ 235 من طريق يزيد به.

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الثانية".

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ساكنه".

ص: 539

الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

قالوا: وإنما سأل ربَّه ذلك؛ لأنه أَسْكَن فيه ذرِّيَّتَه، وهو غيرُ ذي زَرْعٍ ولا ضَرْعٍ، فاستعاذ بربِّه من أن يُهلكَهم بها جوعًا وعطشًا، فسأله أن يؤمِّنَهم مما حذِر عليهم منه.

قالوا: وكيف يجوزُ أن يكونَ إبراهيمُ صلواتُ اللهِ عليه سأل ربَّه تحريمَ الحرمِ، وأن يؤمِّنَه من عقوبتِه وعقوبةِ جبابرةِ خلقِه، وهو القائلُ حينَ حلَّه ونزَله بأهلِه وولدِه:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].

قالوا: فلو كان إبراهيمُ هو الذي حرَّم الحرمَ أو سأل ربَّه تحريمَه لَمَا قال: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]، عندَ نزولِه به، ولكنه حُرِّم قبلَه وحُرِّم بعدَه.

وقال آخرون: كان الحرَمُ حلالًا قبلَ دعوةِ إبراهيمَ كسائرِ البلادِ غيرِه، وإنما صار حرامًا

(1)

بتحريمِ إبراهيمَ إياه، كما كانت مدينةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حلالًا قبل تحريمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إياها، [فصارت حرامًا بتحريمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إياها]

(2)

.

قالوا: والدليلُ على صحةِ ما قلنا في ذلك ما حدَّثنا به ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الزُّبيرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيمَ حرَّم بيتَ اللهِ وأمَّنه، وإني حرَّمت المدينةَ ما بينَ لابَتَيْها

(3)

، فلا يصادُ صَيْدُها، ولا تُقْطَعُ عِضاهُها

(4)

"

(5)

.

(1)

في الأصل: "حرما".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

اللابتان: تثنية لابة، وهي الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها. النهاية 4/ 274.

(4)

العضاه: أعظم الشجر، وقيل: ما عظم من شجر الشوك. اللسان (ع ض هـ).

(5)

أخرجه النسائي في الكبرى (4284) عن ابن بشار به، وأخرجه مسلم (1362) من طريق سفيان به.

ص: 540

حدثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ، قالا:[حدثنا ابنُ إدريسَ، وحدثنا أبو كريبٍ، قال]

(1)

ثنا عبدُ الرحيمِ الرازىُّ، [قالا جميعًا: سمِعنا]

(2)

أشعثَ، عن نافعٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبراهيمَ كانَ عبدَ اللهِ وخَلِيلَهُ، وإنى عبدُ اللهِ ورسولُه، وإنَّ إبراهيمَ حرَّم مكَّةَ وإنى حرَّمتُ المَدِينَةَ ما بينَ لابَتَيْها؛ عِضَاهَها وَصَيْدَها، ولا يُحْمَلُ فيها سلاحٌ لقتالٍ، ولا يُقْطَعُ منها شَجَرةٌ إلا لعَلَفِ بَعِيرٍ"

(3)

.

وحدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا قتيبةُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بكرُ بنُ مُضَرَ، عن ابنِ الهادِ، عن أبي بكرِ بنِ محمدٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ عثمانَ، عن رافعِ بنِ خَديجٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبراهيمَ حرَّم مكةَ، وإنى أُحَرِّمُ

(4)

ما بينَ لابَتَيْها"

(5)

.

وما أشبَه ذلك مِن الأخبارِ التي يطولُ باستيعابِ ذكرِها الكتابُ.

قالوا: وقد أخبَر اللهُ تعالى ذكرُه في كتابِه أنَّ إبراهيمَ قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} ولم يخبرْ عنه أنَّه سأَله أن يجعَلَه آمنًا مِن بعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ، فليس لأحدٍ أن يَدَّعِىَ أن الذى سأَله مِن ذلك الأمانُ له مِن بعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ إلا بحُجَّةٍ يَجِبُ التسليمُ لها.

قالوا: وأما خبرُ أبي شُرَيحٍ وابنِ عباسٍ فخبران لا تَثْبُتُ بمثلِهما في الدينِ حجةٌ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "سمعت"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"قالا سمعنا".

(3)

عزاه المتقى الهندى في كنز العمال (38156) إلى المصنف عن نافع به، وأخرجه مسلم (1373)، والترمذى (3454) من طريق سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة بنحوه.

(4)

بعده في م: "المدينة".

(5)

أخرجه أحمد 28/ 509 (17273)، ومسلم (1361) والبيهقى 5/ 197، 198 من طريق قتيبة به، وأخرجه الطبرانى في الكبير (4326) من طريقين عن بكر به، وأخرجه أحمد 28/ 507، 508 (17271)، والطحاوى 4/ 193، والطبرانى (4325، 4327، 4328) من طرق عن يزيد به.

ص: 541

لما في أسانيدِهما مِن الأسبابِ التي [يَجِبُ التثبتُ]

(1)

فيها مِن أجلِها.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أن اللهَ جلَّ ثناؤُه جعَل مكةَ حَرَمًا حينَ خلَقها وأنشأَها، كما أخبَر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أنه حرَّمها يومَ خلَق السماواتِ والأرضَ بغيرِ تحريمٍ منه لها على لسانِ أحدٍ مِن أنبيائِه ورسلِه، ولكنْ بمنعِه جلَّ ثناؤُه مَن أرادها بسوءٍ، وبدفعِه عنها مِن الآفاتِ والعقوباتِ وعن ساكنيها، ما أحلّ بغيرِها وغيرِ ساكنيها مِن النِّقْماتِ، فلم يَزَلْ ذلك أمرَها حتى بَوَّأَها اللهُ إبراهيمَ خليلَه، وأسكَن بها أهلَه هاجرَ وولدَه إسماعيلَ، فسأَل حينَئذٍ إبراهيمُ ربَّه إيجابَ

(2)

فرضِ تحريمِها على عبادِه على لسانِه؛ ليكونَ ذلك سنةً لمن بعدَه مِن خلقِه يَسْتَنُّون به

(3)

فيها، إذ كان جلَّ ثناؤُه قد اتَّخَذَه خليلًا، وأخبَرَه أنَّه جاعلُه للناسِ إمامًا يُقْتَدى به، فأجابَه ربُّه إلى ما سأَله، وألزَم عبادَه حينَئذٍ فرضَ تحريمِه على لسانِه.

فصارت مكةُ بعدَ أن كانت ممنوعةً بمنعِ اللهِ إياها بغيرِ إيجابِ اللهِ فرضَ الامتناعِ منها على عبادِه، ومحرّمةً بدفعِ اللهِ عنها بغيرِ تحريمِه إياها على لسانِ أحدٍ مِن رسلِه -فرضًا تحريمُها على خلقِه على لسانِ خليلِه إبراهيمَ عليه السلام، وواجبًا على عبادِه الامتناعُ مِن استحلالِها، واستحلالِ صيدِها وعِضاهِها، بإيجابِه الامتناعَ مِن ذلك؛ ببلاغِ إبراهيمَ رسالةَ اللهِ إليه بذلك إليهم

(4)

، فلذلك أُضيف تحريمُها إلى إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبراهيمَ

(5)

حَرَّمَ مَكّةَ"؛ لأن فرضَ تحريمِها الذى ألزَم اللهُ عبادَه على وجهِ العبادةِ له بِه- دونَ التحريمِ

(1)

في م: "لا يجب التسليم".

(2)

في م، ت 3:"إيجاد".

(3)

في م: "بها".

(4)

في م: "إليه".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

ص: 542

الذى لم يَزَلِ [اللهُ منفردًا]

(1)

لها به على وجهِ الكِلاءَةِ والحفظِ لها قبلَ ذلك - كان عن مسألةِ إبراهيمَ ربَّه إيجابَ فرضِ ذلك على لسانِه، لزِم العبادَ فرضُه دونَ غيرِه.

فقد تبيَّن إذن بما قلنا صحةُ معنى الخبرين؛ أعنى خبرَ أبي شريحٍ وابنِ عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّ اللهَ حرَّم مكةَ يومَ خلَق الشمسَ والقمرَ". وخبرَ جابرٍ وأبى هريرةَ ورافعِ بنِ خَدِيجٍ وغيرِهم، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال:"اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ حرَّم مكةَ". وأنْ ليس أحدُهما دافعًا صحةَ معنى الآخرِ كما ظنَّه بعضُ الجهالِ.

وغيرُ جائزٍ في أخبارِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يكونَ بعضُها دافعًا بعضًا إذا ثبَت صحتُها، وقد جاء الخبران اللذان رُوِيا في ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجيئًا ظاهرًا مستفيضًا يَقْطَعُ عذرَ مَن بلَغه.

وأمَّا

(2)

قولُ إبرهيمَ صلواتُ اللهِ عليه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم 37]. فإنَّه إنْ يَكُنْ قال ذلك

(2)

قبلَ إيجابِ اللهِ فرضَ تحريمِه على لسانِه على خلقِه، فإنما عنى بذلك تحريمَ اللهِ إياه الذى حرَّمه بحياطتِه إياه وكِلاءتِه

(3)

، مِن غيرِ تحريمِه إياه على خلقِه على وجهِ التعبدِ لهم بذلك، وإن يكنْ قال ذلك بعدَ تحريمِ اللهِ إياه على لسانِه على خلقِه على وجهِ التعبدِ، فلا مسألةَ لأحدٍ علينا في ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

وهذه مسألةٌ مِن إبراهيمَ ربَّه أن يَرْزُقَ مؤمنى أهلِ مكةَ مِن الثمراتِ دونَ

(1)

في م، ت 1:"متعبدًا لها".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م، ت 1:"كلائه".

ص: 543

كافريهم، وخصَّ بمسألةِ ذلك للمؤمنين دونَ الكافرين، لا أعلَمه اللهُ -عند مسألتِه إياه أن يَجْعَلَ مِن ذرِّيتِه أئمةً يُقْتَدَى بهم- أنَّ منهم الكافرَ الذى لا ينالُ عهدَه، والظالمَ الذى لا يُدْرِكُ وِلايتَه، فلما

(1)

علِم أنَّ مِن ذرِّيتِه الظالمَ والكافرَ، خصَّ بمسألتِه ربَّه أن يَرْزُقَ مِن الثمراتِ مِن سكانِ مكةَ المؤمنَ منهم دونَ الكافرِ، وقال اللهُ له: قد أجَبت دعاءَك، وسأَرْزُقُ مع مؤمنى أهلِ هذا البلدِ كفَّارَهم، فأُمَتِّعُه به قليلًا.

فأمَّا "مَنْ" في قولِه: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإنه نصبٌ على الترجمةِ والبيانِ عن "الأهلِ"، كما قال جلَّ ثناؤُه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]. بمعنى: يسألونك عن قتالٍ في الشهرِ الحرامِ. وكما قال تعالى ذكرُه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. بمعنى: وللهِ حِجُّ البيتِ على مَن استطاع إليه سبيلًا.

وإنما سأَل إبراهيمُ ربَّه ما سأَل مِن ذلك؛ لأنه حلَّ بوادٍ غيرِ ذى زرعٍ ولا ماءٍ ولا أهلٍ، فسأَل أن يَرْزُقَ أهلَه ثمرًا، وأن يَجْعَلَ أفئدةً من

(2)

الناسِ تَهْوِى إليهم. فذُكِرَ أنَّ إبراهيمَ لما سأَل ذلك ربَّه، نقَل اللهُ الطائفَ مِن

(3)

فلسطينَ.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، قال: ثنا هشامٌ، قال: قرَأتُ على محمدِ بنِ مسلمٍ الطائفىِّ أنَّ إبراهيمَ لما دعا للحَرَمِ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} : نقَل اللهُ الطائف مِن

(3)

فلسطينَ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} .

اختلف أهلُ التأويلِ في قائلِ هذا القولِ، وفى وجهِ قراءتِه؛ فقال بعضُهم: قائلُ

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

زيادة من مصدر التخريج.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 230 (1222) من طريق هشام به.

ص: 544

هذا القولِ ربُّنا تعالى ذكرُه. وتأويلُه على قولِهم: قال اللهُ: ومَن كفَر بى فأُمَتِّعُه برِزقى مِن الثمراتِ قليلًا في الدنيا إلى أن يَأْتِيَه أجلُه. وقرَأ قائلو هذه المقالةِ ذلك: {فَأُمَتِّعُهُ} بتشديدِ التاءِ ورفعِ العينِ

(1)

.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: حدَّثنى أبو العاليةِ، عن أُبىِّ بنِ كعبٍ في قولِه:{فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} . قال: هو قولُ الربِّ تبارك وتعالى

(2)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابنُ إسحاقَ: لما قال إبراهيمُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وعزَل

(3)

الدعوةَ عمن أبَى اللهُ أن يَجْعَلَ له الوِلايةَ؛ انقطاعًا إلى اللهِ ومحبتِه

(4)

، وفِراقًا لمن خالَف أمرَه، وإن كانوا مِن ذريتِه حينَ عرَف أنه كائنٌ

(5)

منهم ظالمٌ لا ينالُ عهدَه، بخبره عن ذلك حين أخبَره، فقال اللهُ: ومن كفر، فإنى أَرْزُقُ البَرَّ والفاجرَ فأُمَتِّعُه قَلِيلًا

(6)

.

وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ على وجهِ المسألةِ منه ربَّه أن يَرْزُقَ الكافرَ أيضًا مِن الثمراتِ بالبلدِ الحرامِ، مثلَ الذى يَرْزُقُ به المؤمنَ، ويُمَتِّعُه بذلك قليلًا [في حياتِه حتى تَخْتَرِمَه مَنِيَّتُه. وقرأ قائلو ذلك: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا]

(7)

ثُمَّ

(1)

هى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبى عمرو وحمزة والكسائى، وقرأ ابن عامر:(فأُمْتِعُه). خفيفة من: أمْتَعْتُ. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 170.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 230 (1224) من طريق أبي جعفر به.

(3)

في م: "عدل".

(4)

في م، ت 1:"محبة".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كان".

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 253 عن ابن إسحاق.

(7)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 545

اضْطَرَّه إِلَى عَذَابِ النَّارِ). بتخفيفِ التاءِ وجزمِ العينِ، وفتحِ الراءِ من (اضْطَرَّه)، ووصلِ

(1)

(ثم اضطَرَّه) بغيرِ قطعِ ألفِها

(2)

، على وجهِ الدعاءِ مِن إبراهيمَ ربَّه لهم والمسألةِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: قال أبو العاليةِ: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: ذلك قولُ إبراهيمَ يَسْأَلُ ربَّه أن (مَن كفَر فأَمْتِعْه قليلًا)

(3)

.

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، [عن أبيه]

(4)

، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:(وَمَنْ كَفَرَ فأَمْتِعْه قَلِيلًا). يقولُ: ومَن كفَر فارْزُقْه أيضًا (ثم اضْطَرَّه إلى عذابِ النارِ)

(5)

.

والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا والتأويلِ ما قاله أبىُّ بنُ كعبٍ [وقرَأ به]

(6)

، لقيامِ الحجةِ بالنقلِ المستفيضِ وراثةً

(7)

بتصويبِ ذلك، وشذوذِ ما خالَفه مِن القراءةِ، وغيرُ جائزٍ الاعتراضُ بمن كان جائزًا عليه في نقلِه الخطأُ والسهوُ على مَن كان ذلك غيرَ جائزٍ عليه في نقلِه.

وإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الآيةِ: قال اللهُ: يا إبراهيمُ، قد أجبتُ دعوتَك ورزَقتُ مؤمنى أهلِ هذا البلدِ مِن الثمراتِ وكفارَهم متاعًا لهم إلى بلوغِ آجالهِم، ثم

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فصل".

(2)

وهى قراءة ابن عباس ومجاهد. البحر المحيط 1/ 384.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 230 (1224) من طريق أبي جعفر به.

(4)

سقط من: م، ت 2.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 253 عن مجاهد.

(6)

في م: "وقراءته".

(7)

في م، ت 1:"دراية".

ص: 546

أضطرُّ كفارَهم بعدَ ذلك إلى عذاب النارِ.

وأما قولُه: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} فإنه يعنى: فأَجْعَلُ ما أَرْزُقُه مِن ذلك في حياتِه متاعًا يَتَمَتَّعُ به إلى وقتِ مماتِه.

وإنما قلنا: إنَّ ذلك كذلك؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما قال ذلك لإبراهيمَ جوابًا لمسألتِه ما سأل مِن رزقِ الثمراتِ لمؤمنى أهلِ مكةَ، فكان معلومًا بذلك أن الجوابَ إنما هو فيما سألَه إبراهيمُ لا في غيرِه. وبالذى قلنا في ذلك قاله مجاهدٌ، وقد ذكَرنا الروايةَ بذلك عنه.

وقال بعضُهم: تأويلُه: فأمتِّعُه بالبقاءِ في الدنيا.

وقال غيرُه: فأمتِّعُه قليلًا في كفرِه ما أقام بمكةَ، حتى أبعَثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم فيَقْتُلَه إن أقام على كفرِه أو يُجْلِيَه عنها. وذلك وإن كان وجهًا يَحْتَمِلُه الكلامُ، فإن دليلَ ظاهرِ الكلامِ على خلافِه؛ لما وصَفنا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} : ثم أَدْفَعُه إلى

(1)

النارِ وأَسُوقُه إليها، كما قال جلَّ ثناؤُه:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]. ومعنى الاضْطرارِ الإكراهُ. يقالُ: اضْطَرَرتُ فلانًا إلى هذا الأمرِ، إذا ألجَأْتَه إليه وحمَلتَه عليه. فكذلك معنى قولِه:{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} : أَدْفَعُه إليه وأَسُوقُه سحبًا وجرًّا على وجهِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} .

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عذاب".

ص: 547

قد دلَّلنا على أنَّ "بئس" أصلُه "بئِس" مِن "البُؤْسِ"، سُكِّنَ ثانيه ونُقِلت حركةُ ثانيه إلى أولِه، كما قيل للكبِدِ: كِبْدٌ، وما أشبَه ذلك.

فمعنى الكلامِ: وساء المصيرُ عذابُ النارِ، بعدَ الذى كانوا فيه مِن متاعِ الدنيا الذى مَتَّعْتُهم فيها.

وأما "المصيرُ" فإنه "مَفْعِلٌ" مِن قولِ القائلِ: صِرْتُ مَصيرًا صِلْحًا

(1)

. وهو الموضعُ الذى يَصِيرُ إليه [من جهنمَ. فتأويلُ الكلامِ: وبئس المكانُ الذى يصيرُ إليه]

(2)

الكافرُ باللهِ

(3)

عذابُ النارِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} : واذكروا إذ يرفَعُ إبراهيمُ القواعدَ مِن البيتِ، و "القواعدُ" جمعُ قاعدةٍ، يقالُ للواحدةِ من قواعدِ البيتِ: قاعدةٌ. وللواحدةِ مِن قواعدِ النساءِ -وهن

(4)

عجائزُهن- قاعدٌ. فتُلْقَى

(5)

هاءُ التأنيثِ؛ لأنَّها "فاعلٌ" مِن قولِ القائلِ: قد قعَدت عن الحيضِ. ولا حظَّ فيه للذكورِ، كما يقالُ: امرأةٌ طاهرٌ وطامثٌ؛ لأنه لا حظَّ في ذلك للذكورِ، ولو عُنِي به القُعودُ الذى هو خلافُ القيامِ لقيل: قاعدةٌ. ولم يَجُزْ حينَئذٍ إسقاطُ هاءِ التأنيثِ. وقواعدُ البيتِ: إساسُه

(6)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"صالحا"، وكلاهما بمعنًى.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

بعده في م: "من".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

في م: "فتلغى" وهما بمعنى.

(6)

الإساس: جمع، واحده الإس مثلثة، والإس أصل البناء كالأساس والأسَس. التاج (أ س س).

ص: 548

ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في "القواعدِ" التى رفَعها إبراهيمُ وإسماعيلُ مِن البيتِ، أهما أحدَثا ذلك، أم هى قواعدُ كانت له قبلَهما؟ فقال قومٌ: هى قواعدُ بيتٍ كان بناه آدمُ أبو البشرِ بأمرِ اللهِ إياه بذلك، ثم درَس مكانُه وتَعَفَّى أثرُه بعدَه حتى بَوَّأَه اللهُ إبراهيمَ عليه السلام فبناه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: قال آدمُ: أىْ

(1)

ربِّ، إنى لا أسمعُ أصواتَ الملائكةِ. قال: خطيئتُك

(2)

، ولكنِ اهبِطْ إلى الأرضِ فابنِ لي بيتًا، ثم احْفُفْ به كما رأَيتَ الملائكةَ تَحُفُّ ببيتىَ الذى في السماءِ. فيَزْعُمُ

(3)

الناسُ أنه بناه مِن خمسةِ أجبُلٍ؛ من حِراءٍ، وطورِ زَيْتَا

(4)

، وطورِ سَيْناءَ، و

(5)

لُبنانٍ، والجُوديِّ، وكان رُبْضُه

(6)

من حِراءٍ، فكان هذا بناءَ آدمَ حتى بناه إبراهيمُ بعدُ

(7)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ

(1)

في م: "يا".

(2)

في م: "بخطيئتك".

(3)

في الأصل: "فزعم".

(4)

طور زيتا: علم مرتجل لجبل بقرب رأس عين عند قنطرة الخابور على رأسه شجر زيتون يسقيه المطر ولذلك سمى طور زيتا، وجبل زيتا: مطل على مسجد بيت المقدس شرقى وادى سلوان. معجم البلدان 3/ 558.

(5)

بعده في م: "جبل".

(6)

الرُّبْضُ: أساس البناء. وقيل: وسط الشئ. التاج (ر ب ض).

(7)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9092)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 127، 131 إلى ابن المنذر والبيهقى. وينظر أخبار مكة للأزرقى 1/ 7، ونقله ابن كثير في تفسيره 1/ 259 عن عبد الرزاق، وقال: وهذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم.

ص: 549

الْبَيْتِ}. قال: القواعدُ التى كانت قواعدَ البيتِ قبلَ ذلك

(1)

.

وقال آخرون: بل هى قواعدُ بيتٍ كان اللهُ جلَّ ثناؤُه أهبَطه لآدمَ مِن السماءِ إلى الأرضِ، يَطُوفُ به كما كان

(2)

يَطُوفُ بعرشِه في السماءِ، ثم رفَعه إلى السماءِ أيامَ الطوفانِ، فرفَع إبراهيمُ قواعدَ ذلك البيتِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهّابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن أبى قِلابةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو

(3)

، قال: لما أهبَط اللهُ آدمَ مِن الجنةِ قال: إنى مُهبِطٌ معك -أو منزِلٌ معك- بيتًا يُطافُ

(4)

حولَه، كما يُطافُ حولَ عرشى، ويُصَلَّى عندَه، كما يُصَلَّى عندَ عرشى. فلما كان زمنُ الطوفانِ رفِع، فكانت الأنبياءُ يَحُجونَه ولا يَعْلَمون مكانَه، حتى بَوَّأَه الله إبراهيمَ وأعلَمه مكانَه، فبناه مِن خمسةِ أجْبُلٍ: من حِراءٍ، وثَبِيرٍ، ولُبنانٍ، وجبلِ الطورِ، وجبلِ الخَمَرِ

(5)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 58، 59، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 231 (1232) من طريق محمد ابن ثور، عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 126، 127 إلى ابن المنذر، وصحح الحافظ إسناده في الفتح 8/ 170.

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"عمر".

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3:"فطف".

(5)

في ت 1، ت 2، ت 3:"الحمر". وبعده في حاشية الأصل: "جبل بالشام". وبعده في الدر المنثور: "وهو جبل بيت المقدس". وجبل الخمر يراد به جبل بيت المقدس، سمى بذلك لكثرة كرومه. معجم البلدان 2/ 21.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم والطبرانى في الكبير عن عبد الله بن عمرو. ينظر مجمع الزوائد 3/ 288، والدر المنثور 1/ 127. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (9093) عن معمر، عن أيوب قال: بنيت الكعبة من خمسة أجبل. فذكر نحو أثر عطاء السابق. وينظر البداية والنهاية 3/ 477.

ص: 550

وحدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا إسماعيلُ ابنُ عليةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن أبي قِلابةَ، قال: لما أُهبِط آدمُ. ثم ذكَر نحوَه

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا هشامُ بنُ حسانَ، عن سَوّارٍ [ختَنِ عطاءَ، عن]

(2)

عطاءِ بنِ أبى رباحٍ، قال: لما أهبَط اللهُ آدمَ مِن الجنةِ كان رِجلاه في الأرضِ ورأسُه في السماءِ، يَسْمَعُ كلامَ أهلِ السماءِ ودعاءَهم، يأنَس إليهم، فهابَتِ

(3)

الملائكةُ حتى شكَت إلى اللهِ في دعائِها وفى صلاتِها، فخفَضه اللهُ

(4)

إلى الأرضِ، فلما فقَد ما كان يَسْمَعُ منهم، استوحَش حتى شكا ذلك إلى اللهِ في دعائِه وفى صلاتِه، فوجِّه إلى مكةَ، فكان موضعُ قدمِه قريةً وخَطْوُه مفازةً، حتى انتهى إلى مكةَ، وأنزَل اللهُ ياقوتةً مِن ياقوتِ الجنةِ، فكانت على موضعِ البيتِ الآنَ، فلم يَزَلْ يَطُوفُ به حتى أنزَل اللهُ الطوفانَ، فَرُفِعت تلك الياقوتةُ، حتى بعَث اللهُ إبراهيمَ فبناه، فذلك قول اللهِ:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}

(5)

[الحج: 26].

وحدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: وضَع اللهُ البيتَ مع آدمَ

(6)

، أهبَط اللهُ آدمَ إلى الأرضِ، وكان مَهْبِطُه بأرضِ الهندِ، وكان رأسُه في السماءِ ورِجلاه في الأرضِ، فكانت الملائكةُ تَهابُه، فنُقِص إلى

(1)

أخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 30 من طريق أيوب به.

(2)

في م، ت 1، ت 3:"عن"، وفى ت 2:"ختن".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فهابته".

(4)

سقط من: م.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 123. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (9090)، وابن عساكر في تاريخه 7/ 421 من طريق هشام بن حسان به، وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 7، وأبو الشيخ العظمة (1021) من طريق طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، وطلحة متروك.

(6)

بعده في م: "حين".

ص: 551

ستين ذِراعًا، فحزِن آدمُ إذ فقَد أصواتَ الملائكةِ وتسبيحَهم، فشكا ذلك إلى اللهِ تعالى، فقال اللهُ: يا آدمُ، إنى قد أهبَطتُ لك بيتًا تَطُوفُ به كما يُطافُ حولَ عرشى، وتصَلِّى عندَه كما يُصَلَّى عندَ عَرْشى. فانطَلَق إليه آدمُ، فخرَج ومُدّ له في خطوِه، فكان [بينَ كلِّ خُطوتين]

(1)

مفازةٌ، فلم تَزَلْ تلك المفاوزُ بعدَ ذلك، فأتى آدمُ البيتَ فطاف به ومَن بعدَه مِن الأنبياءِ

(2)

.

وحدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن أَبانٍ أنَّ البيتَ أُهبِط ياقوتةً واحدةً، أو دُرّةً واحدَةً، حتى إذا أغرَق اللهُ قومَ نوحٍ رفَعه وبقِىَ أساسُه، فبوَّأه اللهُ لإبراهيمَ، فبناه بعدَ ذلك

(3)

.

وقال آخرون: بل كان موضعُ البيتِ ربوةً حمراءَ كهيئةِ القبةِ، وذلك أن اللهَ لما أراد خلْقَ الأرضِ علا الماءَ زَبَدةٌ حمراءُ أو بيضاءُ، وذلك في موضعِ البيتِ الحرامِ، ثم دَحَا اللهُ الأرضَ مِن تحتِها، فلم يَزَلْ ذلك كذلك حتى بوَّأه اللهُ إبراهيمَ، فبناه على أساسِه. وقالوا: أساسُه على أركانٍ أربعةٍ في الأرضِ السابعةِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال جريرُ بنُ حازمٍ: حدَّثنى حميدُ بنُ قيسٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان موضعُ البيتِ على الماءِ قبلَ

(1)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"كل خطوة بين"، وفى التاريخ والمصنف:"بين كل خطوة". والمثبت موافق لما سيأتى في تفسير الآية (26) من سورة الحج، وكذلك هو في الدر المنثور.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 123. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (9096)، وهو في تفسيره 2/ 34، وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 12 من طريق معمر به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 353 إلى ابن المنذر وابن أبى حاتم.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9096)، وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 10 من طريق معمر به.

ص: 552

أن يَخْلُقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، مثلَ الزَّبَدةِ البيضاءِ، ومِن تحتِه دُحِيَت الأرضُ

(1)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قال عطاءٌ وعمرُو بنُ دينارٍ: بعَث اللهُ رِياحًا فصَفَقت الماءَ، فأبْرزَتْ في موضعِ البيتِ عن حَشَفةٍ

(2)

كأنها القبّةُ، فهذا البيتُ منها، فلذلك هى أمُّ القُرَى. قال ابنُ جُريجٍ: قال عطاءٌ: ثم وَتَدها بالجبالِ كى لا تكَفَّأَ؛ تَمِيدَ

(3)

، فكان أولَ جبلٍ أبو قُبَيسٍ

(4)

.

حدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّىُّ، عن حفصِ بنِ حميدٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: وُضِعَ البيتُ على أركانِ الماءِ، على أربعةِ أركانٍ، قبلَ أن تُخْلَقَ الدُّنْيا بألفَى عامٍ، ثم دُحِيت الأرضُ مِن تحتِ البيتِ

(5)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن هارونَ بنِ عنترةَ، عن عطاءِ بنِ أبى رباحٍ، قال: وَجَدوا بمكةَ حجرًا مكتوبًا فيه

(6)

: إنى أنا اللهُ ذو بكةَ، بنَيْتُه يومَ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9097) من طريق حميد به بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 128 إلى عبد بن حميد بآخره.

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"حسنة". وفى مصنف عبد الرزاق: "خشفة"، وبالحاء والخاء روايتان، وتروى بالعين أيضًا بدل الفاء.

والخشفة: صخرة رخوة حولها سهل من الأرض. التاج (ح ش ف).

والخشفة واحدة الخشف: وهى حجارة تنبت في الأرض نباتا. ذكره ابن الأثير في النهاية 2/ 35 عن الخطابى.

(3)

في م: "بميد".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9089)، وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 4 من طريق آخر عن عطاء، عن ابن عباس، نحوه.

(5)

أخرجه أبو الشيخ في العظمة (901) من طريق يعقوب القمي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 128 إلى عبد بن حميد.

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليه".

ص: 553

صُغْتُ

(1)

الشمسَ والقمرَ، وحفَفْتُه بسبعةِ أملاكٍ حنفاءَ

(2)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: حدَّثنى عبدُ اللهِ بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ وغيرِه مِن أهلِ العلمِ، أن اللهَ لمَّا بَوَّأ لإبراهيمَ مكانَ البيتِ، خرَج إليه مِن الشامِ، وخرَج معه بإسماعيلَ وبأمِّه هاجرَ، وإسماعيلُ طفلٌ صغيرٌ يَرْضَعُ، وحُمِلُوا -فيما حدَّثنى- علَى البُراقِ، ومعه جبريلُ يَدُلُّه على مَوْضعِ

(3)

البيتِ ومَعالمِ الحرمِ، فخرَج وخرَج معه جبريلُ -يقال: كان لا يمرُّ بقريةٍ إلا قال: أبهذه أُمِرْتَ يا جبريلُ؟ فيقولُ جبريلُ: امْضِهْ- حتى قَدِم به مكةَ، وهى إذ ذاك عِضَاهُ سَلَمٍ وسَمُرٍ

(4)

، وبها

(5)

أناسٌ يقالُ لهم: العَماليقُ خارجَ مكةَ وما حولَها، والبيتُ يومَئذٍ رَبوةٌ حمراءُ مَدَرَةٌ. فقال إبراهيمُ لجبريلَ: أههنا أُمِرتَ أن أضَعَهما؟ قال: نعم. فعمَد بهما

(6)

إلى موضعِ الحجرِ فأنزَلهما فيه، وأمر هاجرَ أمَّ إسماعيلَ أن تَتخِذَ فيه عريشًا، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إلى قولِه: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}

(7)

[إبراهيم: 37].

قال ابنُ حميدٍ: قال سلمةُ: قال ابنُ إسحاقَ: ويَزْعُمون -واللهُ أعلمُ- أن ملكًا مِن الملائكةِ أتَى هاجرَ أمَّ إسماعيلَ -حينَ أنزَلهما إبراهيمُ مكةَ قبلَ

(1)

في م: "صنعت".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حفا".

(3)

في الأصل: "مواضع". وينظر مصدر التخريج.

(4)

السَّلَمُ شجر من العضاه وورقها القرَظ الذى يدبغ به الأديم، والسَّمُرُ ضرب من العضاه، وقيل من الشجر صغار الورق قصار الشوك وله بَرَمَةٌ صفراء يأكلها الناس. اللسان (س ل م، س م ر).

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يروبها".

(6)

في الأصل: "بها".

(7)

أخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 21، 22 من طريق محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وحده، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 260.

ص: 554

أن يَرْفعَ إبراهيمُ وإسماعيلُ القواعدَ مِن البيتِ -فأشار لها

(1)

إلى البيتِ، وهو

(2)

رَبْوةٌ حمراءُ مَدَرَةٌ، فقال لها

(3)

: هذا أولُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ

(4)

، وهو بيتُ اللهِ العتيقُ، واعْلَمِى أن إبراهيمَ وإسماعيلَ هما يَرفعانه

(5)

. فاللهُ أعلمُ.

وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا هشامُ بنُ حسانَ، قال: أخْبَرنى حُميدٌ، عن مجاهدٍ، قال: خلَق اللهُ مَوْضِعَ هذا البيتِ قبلَ أن يَخْلُقَ شيئًا مِن الأرضِ بأَلْفَى سنةٍ، وأركانُه في الأرضِ السابعةِ

(6)

.

وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا ابنُ عُيَينةَ، قال: أخْبَرنى بِشْرُ بنُ عاصمٍ، عن ابنِ المسيّبِ، قال: حدَّثنا كعبٌ أن البيتَ كان غُثاءةً على الماءِ قبلَ أن يَخلُقَ اللهُ الأرضَ بأربعين سنةً، ومنه دُحِيَت الأرضُ. قال: وحدَّثنا

(7)

عليُّ بنُ أبي طالبٍ أن إبراهيمَ أقْبَل مِن إرمينيةَ ومعَه السكينةُ تَدُلُّه، [حتى تبوَّأَ]

(8)

البيتَ، كما تَتَبوأُ العنكبوتُ بيتَها. قال: فرَفَعت عن أحجارٍ يُطِيقُه -أو لا يُطيقُه- ثلاثون رجلًا. قال: قلت: يا أبا محمدٍ، فإن اللهَ يقُولُ:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال: كان ذلك بعدُ

(9)

.

(1)

في النسخ: "لهما". والمثبت من أخبار مكة.

(2)

في الأصل: "هي". والمثبت من أخبار مكة.

(3)

في النسخ: "لهما".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في الأرض". وينظر مصدر التخريج.

(5)

أخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 23 من طريق ابن إسحاق به بنحوه.

(6)

أخرجه عبد الرزَّاق في المصنف (9097)، وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 3، 4 من طريقين عن هشام به. وليس في الموضع الثاني ذكر حميد.

(7)

بعده في م: "عن".

(8)

في م، ت 1، ت 2:"علة تبوئ".

(9)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9098).

ص: 555

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أن يقالَ: إن اللهَ جلَّ ثناؤه أخْبَر عن إبراهيمَ خليلِه أنه وابنَه إسماعيلَ رفَعا القواعدَ مِن البيتِ الحرامِ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك قواعدَ بيتٍ كان أهْبَطه مع آدمَ، فجَعله مكانَ البيتِ الحرامِ الذي بمكةَ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك كان القُبَّةَ التى ذكَرها عطاءٌ مما أنْشَأه اللهُ مِن زَبَدِ الماءِ. وجائزٌ أن يكونَ كان ياقوتةً أو درةً أُهْبِطتا مِن السماءِ. وجائزٌ أن يكونَ كان آدمُ بناه ثم تَهَدَّم حتَّى رفَع قَواعِدَه إبراهيمُ وإسماعيلُ. ولا علمَ عندَنا بأيِّ ذلك كان من أيّ؛ لأن حقيقةَ ذلك لا تُدْركُ إلا بخبرٍ عن اللهِ أو

(1)

عن رسولِه صلى الله عليه وسلم بالنَّقْلِ المُسْتفيضِ. ولا خبرَ بذلك تقومُ به الحجةُ، فيَجِبَ التسليمُ لها، ولا هو -إذ لم يَكُنْ به خَبَرٌ على ما وصفنا- مما [يُدْرَكُ علمُه]

(2)

بالاستدلالِ والمقاييسِ، فيُمَثلَ بغيرِه، ويُسْتنبطَ عِلمُه مِن جهةِ الاجتهادِ. فلا قولَ في ذلك هو أوْلَى بالصوابِ مما قلنا واللهُ تعالى أعلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} .

يعني تعالى ذِكْرُه بذلك وإذْ يَرْفَعُ إبراهيمُ القواعِدَ من البيتِ وإسماعيلُ. يقولان: ربَّنا تقبَّلْ منا. وذُكِرَ أن ذلك كذلك في قراءةِ ابنِ مسعودٍ

(3)

، وهو قولُ جماعةٍ مِن أهلِ التأويلِ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن

= وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 232 (1235، 1236)، والأزرقى في أخبار مكة 1/ 3، 29 من طريق ابن عيينة به. وأخرجه الحاكم 2/ 267 من طريق بشر بن عاصم به، بأثر على وحده. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 126 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن علي وحده.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(2)

في م: "يدل عليه".

(3)

المصاحف ص 57.

ص: 556

السدىِّ، قال: بنَيا وهما يَدْعوان الكلماتِ التى ابْتَلى بها إبراهيمَ ربُّه، قال:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} - {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}

(1)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخْبَرنى ابنُ كثيرٍ، قال: ثنا سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} قال: قاما

(2)

يَرْفعان القواعدَ مِن البيتِ، ويقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال: وإسماعيل يَحْمِلُ الحجارةَ على رقبتِه، والشَّيخُ يَبْنى

(3)

.

فتأويلُ الآيةِ على هذا القولِ: وإذ يَرْفعُ إبراهيمُ القواعدَ مِن البيتِ وإسماعيلُ قائلين: ربنا تَقبَّلْ مِنَّا.

وقال آخرون: بل قائلُ ذلك كان إسماعيلَ.

فتأويلُ الآية على هذا القولِ: وإذ يَرفعُ إبراهيمُ القواعدَ مِن البيتِ، وإذ يقولُ إسماعيلُ: ربَّنا تَقبلْ مِنَّا. فيَصِيرُ حينئذٍ {إِسْمَاعِيلُ} مرفوعًا بالجملةِ التى بعدَه، و "يقول" حينئذٍ خبرٌ له دونَ إبراهيمَ.

ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في الذي رفَع القواعدَ، بعدَ إجماعِهم على أن إبراهيمَ كان ممن رفَعها؛ فقال بعضُهم: رفَعها إبراهيمُ وإسماعيلُ جميعًا.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 232 (1237) من طريق عمرو به.

(2)

في م: "هما".

(3)

أخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 25، 26 من طريق ابن جريج به مطولًا.

ص: 557

السدىِّ: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} . قال: فانطلَق إبراهيمُ حتى أتَى مكَّةَ، فقام هو وإسماعيلُ وأخَذا المعاولَ لا يَدْرِيان أين البيتُ، فبعَث اللهُ ريحًا يقال لها: ريحُ الخَجُوجِ

(1)

، لها جَناحان ورأسٌ، في صورةِ حيَّةٍ، فكنَست لهما ما حولَ الكعبةِ

(2)

عَنْ أساسِ البيتِ الأولِ، واتَّبَعاها بالمَعاولِ يَحْفِران حتى وضَعا الأساسَ، فذلك حين يقولُ:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]. فلما بنَيا القواعدَ فبلَغا مكانَ الرُّكنِ، قال إبراهيمُ لإسماعيلَ: يا بُنيّ، اطْلُبْ لي حجرًا حسنًا أضعْه ههنا. قال: يا أبَتِ إنى كسلانُ لَغِبٌ

(3)

. قال: علىَّ ذلك. فانطلَق يطلُبُ حجرًا، فجاءه بحجرٍ فلم يَرْضَهْ، فقال: ائتنى بحجرٍ أحسنَ مِن هذا. فانْطَلق يَطْلُبُ له حجرًا، وجاءه جبريلُ بالحجرِ الأسودِ مِن الهندِ، وكان أبيضَ، ياقوتةً بيضاءَ مثلَ الثَّغامةِ

(4)

، وكان آدمُ هبَط به مِن الجنةِ فاسودَّ مِن خطايا الناسٍ، فجاءه إسماعيلُ بحجرٍ فوجدَه عندَ الركنِ، فقال: يا أبتِ، مَن جاءك بهذا؟ فقال:[جاء به]

(5)

مَن هو أنشطُ مِنك. فبنَياه

(6)

.

وحدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن عمر

(7)

بنِ عبدِ اللهِ بنِ عروةَ

(8)

، عن

(9)

عبيدِ بنِ عميرٍ الليثىِّ، قال: بَلَغنى أن إبراهيمَ

(1)

ريح خجوج: شديدة المرور في غير استواء. النهاية 2/ 11.

(2)

بعده في م: "و".

(3)

لَغَب يلغُب لَغْبًا: أعيا أشد الإعياء. اللسان (ل غ ب).

(4)

الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر يشبه به الشيب، وقيل: هي شجرة تبيض كأنها الثلج. النهاية 1/ 214.

(5)

سقط من: م.

(6)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 252 مختصرا، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 232 (1237) من طريق عمرو به وأخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 53 من طريق أسباط به نحوه.

(7)

في الأصل، م، ت 1، ت 3:"عمرو".

(8)

في النسخ: "عتبة"، والمثبت من تاريخ المصنف 1/ 261. وينظر تهذيب الكمال 21/ 413.

(9)

في ت 2، ت 3:"بن".

ص: 558

وإسماعيلَ هما رفَعا قواعدَ البيتِ

(1)

.

وقال آخرون: بل رفَع قواعدَ البيتِ إبراهيمُ، وكان إسماعيلُ يُناوِلُه الحجارةَ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أحمدُ بنُ ثابتٍ الرازىُّ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا معمرٌ، عن أيوبَ وكثيرِ بنِ كثيرِ بنِ المطلبِ بنِ أبي وداعةَ -يَزيدُ أحدُهما على الآخرِ- عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: جاء إبراهيمُ وإسماعيلُ يَبْرِى نَبْلًا قريبًا مِن زمزمَ، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يَصْنعُ الوَالدُ بالولدِ، والوَلدُ بالوالدِ، ثم قال: يا إسماعيلُ، إن اللهَ أمَرنى بأمْرٍ. قال: فاصْنَعْ ما أمَرَك ربُّك. قال: وتُعِينُنى؟ قال: وأُعِينُك. قال: فإن اللهَ أمَرَنى أن أبنىَ ههنا بيتًا. وأشار إلى الكعبةِ مُرتفعةً على ما حولَها. قال: فعنَد ذلك رفعا القواعدَ من البيتِ. قال: فجعلَ إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يَبْنى، حتى إذا ارتفَع البناءُ جاء بهذا الحجرِ فوضَعه له، فقام عليه وهو يَبنى، وإسماعيلُ يُناولُه الحجارةَ وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} حتى دَوَّر حولَ البيتِ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ سنانٍ

(3)

القَزازُ، قال: ثنا عبيدُ

(4)

اللهِ بنُ عبدِ المجيدِ أبو عليٍّ الحنَفىُّ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ نافعٍ، قال: سمِعتُ كثيرَ بنَ كثيرٍ يُحدِّثُ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ قال: جاء -يعني إبراهيمَ- فوجَد إسماعيلَ يُصْلحُ نَبْلًا له

(5)

مِن وراءِ زمزمَ،

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 261، مطولًا.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9107)، ومن طريقه البخاري (3364)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 232 (1234)، والبيهقي في الدلائل 2/ 46، 52. وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 25، 26 من طريق معمر به. وينظر أخبار مكة 1/ 22، والدر المنثور 1/ 125.

(3)

في م: "بشار". وينظر تهذيب الكمال 25/ 323.

(4)

في ت 1، ت 3:"عبد".

(5)

سقط من: م.

ص: 559

فقال إبراهيمُ: يا إسماعيلُ، إن ربَّك قد أمرَنى أن أبنىَ له بيتًا. فقال له إسماعيلُ: فأطِعْ ربَّك فيما أمَرك به. فقال له إبراهيمُ: قد أمرَك أن تُعِينَنى عليه. قال: إذن أفْعَلَ. قال: فقام معه، فجَعل إبراهيمُ يَثنِيه وإسماعيلُ يُناولُه الحجارةَ، ويقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . فلما ارْتَفع البنيانُ، وضَعُف الشَّيخُ عن رفع الحجارةِ، قام على حجَرٍ فهو مَقامُ إبراهيمَ، فجعَل يُناولُه ويقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

(1)

.

وقال آخرون: بل الذي رفَع قواعدَ البيتِ إبراهيمُ وحدَه، وإسماعيلُ يومئذٍ طفلٌ صغيرٌ.

ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ ومحمدُ بنُ المثني، قالا: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن حارثةَ بنِ مُضَرِّبٍ

(2)

، عن عليٍّ، قال: لما أُمِرَ إبراهيمُ ببناءِ البيتِ، خرَجَ معه إسماعيلُ وهاجرُ، قال: فلما قَدِم مكَّةَ رأى على رأسِه في موضعِ البيتِ مثلَ الغَمامةِ فيه مثلُ الرأسِ فكَلَّمه، فقال: يا إبراهيمُ، ابْنِ على ظلِّى -أو على قَدْرى- ولا تَزِدْ ولا تَنْقُصْ. فلما بَنَى خرَج

(3)

وخَلَّف إسماعيلَ وهاجرَ، فقالت

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 259، 260 عن محمد بن سنان به. وأخرجه الحاكم 2/ 551، 552 من طريق محمد بن سنان به، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 256. وأخرجه البخاري (3365)، والنسائي في الكبرى (8380)، وابن أبي حاتم 1/ 232 (1233) من طريق إبراهيم بن نافع به. وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 25، 26، وابن مردويه -كما في التفسير لابن كثير 1/ 256 - من طريق كثير بن كثير به.

(2)

في م: "مصرف". وينظر تهذيب الكمال 5/ 317.

(3)

سقط من: م.

ص: 560

هاجرُ: يا إبراهيمُ إلى مَن تَكِلُنا؟ قال: إلى اللهِ. قالت: انْطَلِقْ فإنه لا يُضَيِّعُنا. قال: فعَطِش إسماعيلُ عَطَشًا شديدًا، قال: فصَعِدت هاجرُ الصَّفَا فنظَرت فلم تَرَ شيئًا، ثم أتَتِ المَروةَ فنَظَرتْ فلم ترَ شيئًا، ثم رجَعت إلى الصَّفَا فنَظَرت فلم تَر شيئًا، حتى فعَلت ذلك سبعَ مرارٍ، فقالت: يا إسماعيلُ مُتْ حيثُ لا أراك. فأتَتْه وهو يَفْحَصُ برجلِه مِن العطش، فناداها جبريلُ، فقال لها: مَن أنتِ؟ فقالت: أنا هاجرُ أمُّ ولدِ إبراهيمَ. قال: إلى مَن وَكَلكما؟ قالت: وَكَلنا إلى اللهِ. قال: وَكَلكما إلى كافٍ. قال: ففَحَص الغلامُ

(1)

الأرضَ بأصبعِه، فنَبَعت زمزمُ، فجعَلت تحبسُ الماءَ، فقال: دَعيه، فإنها رَوَاءٌ

(2)

.

حدَّثنا [هنادُ بنُ السرىِّ]

(3)

، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، أن رجلًا قام إلى عليٍّ فقال: ألا تُخْبرُنى عن البيتِ أهو أولُ بيتٍ وُضِعَ في الأرضِ؟ فقال: لا، ولكنه أولُ بيتٍ وُضِعَ فيه

(4)

البركةُ، مَقامُ إبراهيمَ، ومَن دخَله كان آمنًا، وإن شِئْتَ أنْبأتُك كيف بُنِىَ، إن اللهَ أوْحَى إلى إبراهيمَ أن ابْنِ لي بيتًا في الأرضِ. قال: فضاق إبراهيمُ بذلك ذَرْعًا، فأرسل اللهُ السكينةَ -وهي ريحٌ خَجُوجٌ، ولها رأسان- فأَتْبع أحدُهما صاحبَه حتى انْتَهت إلى مكَّةَ، فتَطوَّت على مَوضعِ البيتِ

(1)

زيادة من تاريخ المصنف.

(2)

الماء الرواء: العذب. اللسان (روى).

والاُثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 252. وأخرجه الحاكم 2/ 551 من طريق مؤمل به. وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه الأزرقى في أخبار مكة 1/ 27، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 231 (1229) من طريق أبي إسحاق به، بأوله. ونقله ابن كثير 1/ 257، 258 عن المصنف، وقال: ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما، وقد يحتمل -إن كان محفوظًا- أن يكون أوّلًا وضع له حوطا وتحجيرا، لا أنه بناه إلى أعلاه، حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا كما قال الله تعالى.

(3)

في م: "عباد".

(4)

في الأصل، م:"في". والمثبت من مصادر التخريج.

ص: 561

كتَطوِّى الحَجَفَةِ

(1)

، وأُمِر إبراهيمُ أن يبنىَ حيثُ تَستقرُّ السكينةُ. فبنى إبراهيمُ وبقِى حجرٌ، فذهب الغلامُ يَبْنى

(2)

شيئًا، فقال إبراهيمُ: لا، أبْغِنى حجرًا كما آمُرُك. قال: فانْطَلق الغلامُ يَلْتمِسُ له حجرًا، فأتاه به

(3)

فوجَده قد رَكَّب الحجرَ الأسودَ في مكانِه، فقال: يا أبَتِ، مَن أتاك بهذا الحجرِ؟ فقال: أتانى به مَن لم يَتَّكِلْ على بنائِك، جاء به جبريلُ مِن السماءِ. فأتَمَّاه

(4)

.

وحدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ

(5)

، عن سماكٍ، قال: سمِعت خالدَ بنَ عرعرةَ يُحدِّث عن عليٍّ بنحوِه.

وحدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ وحمادُ بنُ سلمةَ وأبو الأحوصِ، كلُّهم عن سماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، عن عليٍّ بنحوِه

(6)

.

فمن قال: رفَع القواعدَ إبراهيمُ وإسماعيلُ. أو قال: رفَعها إبراهيمُ وكان إسماعيلُ يناولُه الحجارةَ. فالصوابُ في قولِه أن يكونَ المضمرُ مِن القولِ لإبراهيمَ وإسماعيلَ، ويكونُ الكلامُ حينئذٍ وإذ يَرْفَعُ إبراهيمُ القواعِدَ من البيتِ وإسماعيلُ يقولان: ربَّنا تقبَّلْ منا.

(1)

الحجفة: التُرْس. النهاية 1/ 345.

(2)

في م: "يبغى".

(3)

سقط من: م.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 251.

وأخرجه البيهقى في الدلائل 2/ 56 من طريق أبى الأحوص به.

وأخرجه الحاكم 2/ 292، والبيهقى في الدلائل 2/ 55 من طريق سماك به.

وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 126 إلى ابن أبى شيبة وعبد بن حميد والحارث بن أبى أسامة. والحديث إسناده ضعيف لجهالة خالد بن عرعرة.

(5)

في م: "سعيد".

(6)

أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده -كما في المطالب العالية (3923) - والأزرقى في أخبار مكة 1/ 28 من طريق حماد به.

ص: 562

وقد كان يَحْتمِل على هذا التأويلِ أن يكونَ المُضمرُ مِن القولِ لإسماعيلَ خاصةً دونَ إبراهيمَ، ولإبراهيمَ خاصةً دونَ إسماعيلَ، لولا ما عليه عامةُ أَهلِ التأويلِ مِن أن المُضمرَ مِن القولِ [في ذلك]

(1)

لإبراهيمَ وإسماعيلَ جميعًا.

وأما على التأويلِ الذى رُوِىَ عن علىٍّ -أن إبراهيمَ هو الذى رفَع القواعدَ دونَ إسماعيلَ- فلا يجوزُ أن يكونَ المضمرُ مِن القولِ عندَ ذلك إلا لإسماعيلَ خاصةً.

والصوابُ مِن القولِ عندَنا في ذلك أن المُضمرَ مِن القولِ لإبراهيمَ وإسماعيلَ، وأن قواعدَ البيتِ رفَعها إبراهيمُ وإسماعيلُ جميعًا، وذلك أن إبراهيمَ وإسماعيلَ إن كانا هما بنياها

(2)

ورفعاها، فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيمُ تَفرَّد ببنائِها، وكان إسماعيلُ يُناولُه أحجارَها

(3)

، فهما أيضًا رفعاها، لأن رفعَها كان بهما؛ مِن أحدِهما البناءُ، ومِن الآخرِ نقلُ الحجارةِ إليها ومعونةُ وَضْعِ الأحجارِ مواضعَها. ولا تَمْتنِعُ العربُ مِن إضافةِ

(4)

البناءِ إلى مَن كان بسببِه البناءُ ومَعونتِه. وإنما قلنا ما قلنا مِن ذلك لإجماعِ جميعِ أهلِ التأويلِ على أن إسماعيلَ معنىٌّ بالخبرِ الذى أخْبَر اللهُ عنه وعن أبيه أنهما كانا يقولانه، وذلك قولُهما:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فمعْلُومٌ أن إسماعيلَ لم يَكُنْ ليقولَ ذلك إلا وهو إما رجلٌ كاملٌ، وإما غلامٌ قد فَهِم مواضعَ الضُّرِّ مِن النفعِ، ولزِمَته فرائضُ اللهِ وأحكامُه. وإذا كان [ذلك أمرَه](1) في حالِ بناءِ أبيه ما أمَره اللهُ ببنائِه ورفعِه قواعدَ بيتِ اللهِ

(5)

-

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "بنياهما".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م: "نسبة".

(5)

بعده في م: "كذلك".

ص: 563

فمعلومٌ أنه لم يكن تاركًا معونةَ أبيه، إما على البناءِ، وإما على نقلِ الحجارةِ. وأىُّ ذلك كان منه، فقد دخَل في معنى مَن رفَع قواعدَ البيتِ، وثبَت أن القولَ المُضمرَ خبرٌ عنه وعن والدِه إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليهما. فتأويلُ الكلامِ: وإذ يَرفَعُ إبراهيمُ القواعدَ مِن البيتِ، يقولان: ربَّنا تَقَبلْ مِنَّا عملَنا، وطاعتَنا إياك وعبادَتنا لك، في انتهائِنا إلى أمرِك الذى أمَرتنا به في بناءِ بيتِك الذى أمَرْتنا ببنائِه، إنك أنت السميعُ العليمُ.

وفى إخبارِ اللهِ جلَّ ثناؤُه أنهما رفَعا القواعدَ مِن البيتِ وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} دليلٌ واضحٌ على أن بناءَهما ذلك لم يَكُنْ بناءَ مَسكنٍ يَسْكُنانه ولا منزلٍ يَنْزلانِه، بل هو دليلٌ على أنهما بنياه ورفَعا قواعدَه لكلِّ مَن أراد أن يَعْبُدَ اللهَ، تَقرُّبًا منهما إلى اللهِ بذلك، ولذلك قالا:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ولو كانا بنياه مسكنًا لأنفسِهما لم يكنْ لقولِهما: {تَقَبَّلْ مِنَّا} وَجهٌ مفهومٌ، لأنه [كان يكونُ]

(1)

-لو كان الأمْرُ كذلك- [سألا ربَّهما]

(2)

أن يَتقبَّلَ منهما ما لا قُرْبةَ فيه إليه. وليس [من صفتِهما]

(3)

مسألةُ اللهِ قبولَ ما لا قُربةَ إليه فيه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} .

وتأويلُ قولِه: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} : إنك أنت السميعُ دعاءَنا ومَسألتَنا إياك قَبولَ ما سألناك قَبولَه منا مِن [طاعتِنا لك]

(4)

في بناءِ بيتِك الذى أمَرْتنا ببنائِه، العليمُ بما في ضمائرِ نفوسِنا مِن الإذعانِ لك بالطاعةِ والمصيرِ إلى ما فيه لك

(1)

في م: "كانا يكونان".

(2)

في م: "سائلين".

(3)

في م: "موضعهما".

(4)

في م: "طاعتك".

ص: 564

الرضا والمحبةُ، وما نُبْدِى وما

(1)

نُخْفِى مِن أعمالِنا.

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: أخْبَرنى ابنُ

(2)

كثيرٍ، قال: ثنا سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يقولُ: تَقبَّلْ مِنَّا إنك سميعُ الدعاءِ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} .

وهذا أيضًا خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن إبراهيمَ وإسماعيلَ، أنهما كانا يَرفعان القواعدَ مِن البيتِ وهما يقولان:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} . يعنيان بذلك: واجْعَلْنا مُستسلِمَين لأمرِكَ، خاضعَيْنِ لطاعتِكَ، لا نُشْرِكُ معَك في الطاعةِ أحدًا سواك، ولا في العبادةِ غيرَك.

وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أن معنى "الإسلامِ" الخضوعُ للهِ بالطاعةِ

(4)

.

وأمَّا قولُه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فإنهما خصَّا بذلك بعضَ الذُّرِّيَّةِ؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه قد كان أعلمَ إبراهيمَ خليلَه قبلَ مسألتِه هذه أن مِن ذُرِّيَّته مَن لا يَنالُ عهدَه، لظلمِه وفجورِه، فخَصَّا بالدعوةِ بعضَ ذُرِّيَّتهما. وقد قيل: إنهما عنَيا بذلك العربَ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن

(1)

زيادة من: ت 3.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبو".

(3)

ينظر ما تقدم في ص 557.

(4)

ينظر ما تقدم في ص 432، 433.

ص: 565

السُّدِّىِّ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} : يَعنيانِ العربَ

(1)

.

وهذا قولٌ يَدُلُّ ظاهرُ الكتابِ على خلافِه، لأن ظاهرَه يَدُلُّ على أنهما دَعَوَا اللهَ أن يَجْعَلَ مِن ذُرِّيَّتِهما أهلَ طاعتهِ وولايتِه والمُسْتَجِيبينَ لأمرِه، وقد كان في ولدِ إبراهيمَ العربُ وغيرُ العربِ، والمستجيبُ لأمرِ اللهِ والخاضعُ له بالطاعةِ مِن الفريقين، فلا وجهَ لقولِ مَن قال: عنَى إبراهيمُ بدعائِه ذلك فريقًا مِن ولدِه بأعيانِهم دونَ غيرِهم، إلَّا التحكُّمَ الذى لا يعْجِزُ عنه أحدٌ.

وأمَّا "الأُمَّةُ" في هذا الموضعِ، فإنه يَعني بها الجماعةَ مِن الناسِ، مِن قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: 159].

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} .

اخْتَلَفتِ القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم. {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} . بمعنى رُؤيةِ العينِ، أى: أظهِرْها لأعيُنِنا حتى نراها. وذلك قراءةُ عامَّةِ قرأةِ

(2)

الحجازِ والكوفةِ. وكان بعضُ مَن يُوَجِّهُ تأويلَ ذلك إلى هذا التأويلِ يُسَكِّنُ الراءَ مِن (أرْنا)

(3)

، غيرَ أنه يُشِمُّها كسرةً

(4)

.

واختلف قائلُو هذه المقالةِ وقَرَأَةُ هذه القراءةِ في تأويلِ قولِه: {مَنَاسِكَنَا} ؛ فقال بعضُهم: هى مناسكُ الحجِّ ومعالِمُه.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 234 (1246) من طريق عمرو به.

(2)

في م: "أهل".

(3)

تسكين الراء قراءة ابن كثير المكى، والسوسى عن أبى عمرو، ويعقوب الحضرمى، وهو من العشرة. والاختلاس قراءة الدورى عن أبي عمرو، والباقون بكسر الراء. ينظر النشر 2/ 222، وإتحاف فضلاء البشر ص 90.

(4)

المراد بالإشمام هنا: الاختلاس، أى: إخفاء الحركة، وهو الإتيان بثلثى الحرف بحيث يكون المنطوق به من الحركة أكثر من المحذوف منها. ينظر الوافى في شرح الشاطبية ص 203.

ص: 566

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} : فأراهما اللهُ مناسِكَهما بالطوافِ بالبيتِ، والسعْىِ بينَ الصفا والمروةِ، والإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ، والإفاضَةِ مِن جَمعٍ، ورمْىِ الجمارِ، حتى أكمل اللهُ الدِّينَ - أو: دِينَه

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال: أرِنا نُسُكَنا وحِجَّنا

(2)

.

حدَّثنا موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: لمَّا فرَغ إبراهيمُ وإسماعيلُ مِن بنيانِ البيتِ أمَره اللهُ أن يُنادىَ، فقال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]،. فنادَى بينَ أَخْشَبَيْ مكةَ

(3)

: يا أيُّها الناسُ، إن اللهَ يأمرُكم أن تَحُجُّوا بيتَه. قال: فوقَرت في قلبِ كلِّ مؤمنٍ، فأجابه كلُّ شيءٍ

(4)

سمِعه مِن جبلٍ أو شجرٍ أو دابَّةٍ: لبَّيْكَ لبَّيْك. فأجابوه بالتلبيةِ: لبَّيك اللهمَّ لبَّيْك. وأتاه مَن أتاه، فأمَره اللهُ أن يَخْرُجَ إلى عرفاتٍ ونعَتها فخرَج، فلمَّا بلَغ الشجرةَ عندَ العَقَبَةِ اسْتَقْبَله الشيطانُ فردَّه

(5)

، فرمَاه بسبعِ حَصَياتٍ يُكَبِّرُ معَ كلِّ حصاةٍ، فطار فوقَع على الجمرةِ الثانية أيضًا، فصدَّه فرماه وكبَّر، فطار فوقَع على الجمرةِ الثالثةِ، فرماه وكبَّر، فلمَّا رأى أنه

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى عبد بن حميد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 59.

(3)

الأخشب من الجبال الغليظ، والأخشبان: جبلان يضافان تارة إلى مكة، وتارة إلى منى، وهما واحد، أحدهما أبو قبيس والآخر قعيقعان، ويقال: أحدهما أبو قبيس، والآخر الجبل الأحمر المشرف هنالك. معجم البلدان 1/ 159، 163.

(4)

في م: "من".

(5)

سقط من: م.

ص: 567

لا يُطيقُه، ولم يَدْرِ إبراهيمُ أين يذهبُ، فانطلق حتى أتى ذا المجازِ، فلمَّا نظَر إليه فلم يَعْرِفْه جاز، فسُمِّى ذا المجازِ، ثم انْطَلق حتى وقَع بعرفاتٍ، فلمَّا نظَر إليها عرَف النعتَ، قال: قد عرَفتُ. فسُمِّى عرفاتٍ، فوقَف إبراهيمُ بعرفاتٍ، حتى إذا أمسى ازْدَلَف إلى جَمْعٍ، فسُمِّيتِ المُزْدَلِفةَ، فوقَف بجمعٍ، ثم أقبل حتى أتى الشيطانُ حيثُ لقِيه أوَّلَ مرَّةٍ، فرمَاه بسبعِ حَصَياتٍ سبعَ مرَّاتٍ، ثم أقام بمِنًى حتى فرَغ مِن الحجِّ وأمرِه، وذلك قولُه:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}

(1)

.

وقال آخَرون -ممَّن قرَأ هذه القراءةَ-: المناسكُ: المذابحُ. فكان تأويلُ هذه الآيةِ على قولِ مَن قال ذلك: وأرِنا كيف نَنْسُك لك يا ربَّنا نسائكَنا فنَذْبَحُها لك.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قال: ذَبْحَنا.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثورىُّ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: مذابحَنا

(2)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(3)

.

وحدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

(1)

ذكره البغوى في تفسيره 1/ 228 بنحوه.

(2)

تفسير الثورى 1/ 49، وتفسير عبد الرزاق 1/ 59، ولفظ تفسير الثورى:"ذبائحنا".

(3)

تفسير مجاهد ص 214. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 235 (1251) من طريق سفيان، عن ابن أبى نجيح به.

ص: 568

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال لى

(1)

عطاءٌ: سمعتُ عُبيدَ بنَ عُميرٍ يقولُ: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} . قال: مذابحَنا.

وقرأ ذلك آخَرون: (وأرْنا مَناسِكَنا). بتسكينِ الراءِ، وزعَموا أن معنى ذلك: وعَلِّمْنا ودُلَّنا عليها. لا أن معناها: أرِناها بأبصارِنا. وزعَموا أن ذلك نظيرُ قولِ حُطائِطِ بنِ يَعفُرَ أخى الأسودِ بنِ يَعْفُرَ

(2)

:

أَرِينِى جَوَادًا ماتَ هَزْلًا لأَنَّنِى

(3)

أَرَى ما تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا

يعنى بقولِه: أرينى: دُلِّينى عليه وعَرِّفِينى مكانَه. ولم يَعْنِ به رؤيةَ العينِ. وهذه قراءةٌ رُوِيتْ عن بعضِ المُتَقدِّمين.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال عطاءٌ: (أَرْنَا مَناسِكَنا): أخرِجْها لنا، علِّمْناها

(4)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ المُسَيَّبِ، قال عليُّ بنُ أَبى طالبٍ: لَمَّا فرَغ إبراهيمُ مِن بناءِ البيتِ، قال: قد

(5)

فعَلتُ أىْ ربِّ، فأَرْنَا مناسِكَنا -أَبْرِزْها لنا، علِّمْناها- فبعَث اللهُ جبريلَ عليه السلام فحجَّ به

(6)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

البيت مختلف في نسبته: فهو لحطائط بن يعفر في الحماسة 2/ 358، ومجاز القرآن 1/ 55، والشعر والشعراء 1/ 248، 256، وسمط اللآلى 2/ 714، ولحاتم الطائى في ديوانه ص 40، ولمعن بن أوس في ديوانه 49، ولدريد بن الصمة أو حطائط أو حاتم أو معن في اللسان (أ ن ن)، وسيأتى 9/ 488 منسوبًا لدريد.

(3)

في ت 1، ت 2:"أننى"، وفى الشعر والشعراء وسمط اللآلى:"لعلنى".

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 234 (1249) من طريق حجاج به.

(5)

سقط من: م.

(6)

أخرجه عبد الرزاق في المصنّف (9099) مطولًا.

ص: 569

والقولُ [عندى في ذلك أن تأويلَ (أرنا) بكسرِ الراءِ وتسكينِها]

(1)

واحدٌ؛ فمَن كسَر الراءَ جعَل علامةَ الجزمِ سقوطَ الياءِ التى في قولِ القائلِ: [أريتُه، أُرِيه]

(2)

. وأقرَّ الراءَ مكسورًا كما كانت قبلَ الجزمِ. ومَن سكَّن الراءَ مِن (أرْنا) توهَّم أن إعرابَ الحرفِ في الراءِ فسكَّنها للجزمِ

(3)

، كما فعَلوا ذلك في "لم يكن""ولم يكُ"، وسواءٌ كان ذلك مِن رؤيةِ العينِ، أو مِن رؤيةِ القلبِ، ولا معنى لفرقِ مَن فرَّق بين رؤيةِ العينِ في ذلك وبين رؤيةِ القلبِ.

وأمَّا "المناسكُ" فإنها جمعُ مَنْسِكٍ، وهو الموضعُ الذى يُنْسَكُ للهِ فيه، ويُتَقَرَّبُ إليه فيه بما يُرْضِيه مِن عملٍ صالحٍ؛ إمَّا بذبحِ ذبيحةٍ له، وإما بصلاةٍ أو طوافٍ أو سعْىٍ، وغيرِ ذلك مِن الأعمالِ الصالحةِ، ولذلك قيل لمشاعرِ الحجِّ: مناسكُه؛ لأنَّها أماراتٌ وعلاماتٌ يعتادُها الناسُ، ويَتَرَدَّدون إليها.

وأصلُ "المنسِك" في كلامِ العربِ: الموضعُ المعتادُ الذى يَعتادُه الرجلُ ويألفُه، يقال: إن لفلانٍ منسِكًا. وذلك إذا كان له موضعٌ يعتادُه لخيرٍ أو لشرٍّ، ولذلك سُمِّيت المناسكُ مناسكَ؛ لأنَّها تُعْتَادُ ويُتَرَدَّدُ إليها بالحجِّ والعمرةِ، وبالأعمالِ

(4)

التى يُتَقَرَّبُ بها إلى اللهِ.

وقد قيل: إن معنى النسكِ: عبادةُ اللهِ، وإن الناسكَ إنما سُمِّى ناسكًا بعبادتِه ربَّه. فتأوَّل قائلُو هذه المقالةِ قولَه:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} : وعلِّمْنا عبادتَك كيف نعبُدُك، وأين نعبدُك، وما يُرْضِيك عنَّا فنفعلُه. وهذا القولُ وإن كان مذهبًا يحتمِلُه الكلامُ، فإن الغالبَ على معنى المناسكِ ما وصَفْنا قبلُ مِن أنَّها مناسكُ الحجِّ التى

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "أرنيه".

(3)

في م: "في الجزم".

(4)

في الأصل: "للأعمال".

ص: 570

ذكَرْنا معناها، وخرَج هذا الكلامُ مِن قولِ إبراهيمَ وإسماعيلَ على وجهِ المسألةِ منهما ربَّهما لأنفسِهما، وإنما ذلك منهما مسألةُ ربِّهما لأنفسِهما وذُرِّيَّتِهما المسلمين، فلمَّا ضمَّا ذُرِّيَّتَهما المسلمين إلى أنفسِهما صارا كالمُخْبِرين عن أنفسِهما بذلك. وإنما قلنا: إن ذلك كذلك، لتقدم الدعاءِ منهما للمسلمين مِن ذُرِّيَّتِهما قبلُ في أوَّلِ الآيةِ، وتأخرِه بعدُ في الآيةِ الأُخرى.

فأمَّا الذى في أوَّلِ الآيةِ فقولُهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} . ثم جَمَعَا أنفسَهما والأمَّةَ المسلمةَ مِن ذُرِّيَّتِهما في مسألتِهما ربَّهما أن يُرِيَهم مناسكَهم فقالا: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} .

وأمَّا الذى

(1)

في الآيةِ التى بعدَها: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} . فجعَلا المسألةَ لذُرِّيَّتِهما خاصَّةً.

وقد ذُكِر أنَّها في قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (وأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ)

(2)

. يعنى بذلك: وأرِ ذُرِّيَّتَنا المسلمةَ مناسكَهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِهِ جلَّ ثناؤه: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} .

أمَّا التوبةُ فأصلُها الأَوْبَةُ مِن مكروهٍ إلى محبوبٍ، فتوبةُ العبدِ إلى ربِّه أوبتُه ممَّا يكرَهُه اللهُ منه بالندمِ عليه والإقلاعِ عنه، والعزمِ على تركِ العودِ فيه. وتوبةُ الربِّ على عبدِه عَوْدُه عليه بالعفوِ له عن جُرْمِه والصفحِ له عن عقوبةِ ذنبِه، مغفرةً منه له، وتَفَضُّلًا عليه.

(1)

في م: "التى".

(2)

ينظر البحر المحيط 1/ 390.

ص: 571

فإن قال لنا قائلٌ: وهل كانت لهما ذنوبٌ فاحتاجا إلى مسألةِ ربِّهما التوبةَ؟

قيل: إنه لا أحدَ مِن خلقِ اللهِ إلَّا وله مِن العملِ فيما بينه وبين ربِّه ما يَجِبُ عليه الإنابةُ منه والتوبةُ، فجائزٌ أن يكونَ ما كان مِن قيلِهما

(1)

ما قالا مِن ذلك

(2)

، إنما خصَّا به الحالَ التى كانا عليها مِن رفْعِ قواعدِ البيتِ؛ لأنَّ ذلك كان أحْرَى الأماكنِ أن يستجيبَ اللهُ فيها دعاءَهما، وليَجْعَلا ما فعَلا مِن ذلك سُنَّةً يُقْتَدَى بها بعدَهما، وتَتَّخِذَ الناسُ تلك البقعةَ بعدَهما موضعَ تنَصُّلٍ مِن الذُّنُوبِ إلى اللهِ. وجائزٌ أن يكونا عَنَيا بقولِهما:{وَتُبْ عَلَيْنَا} : وتُبْ على الظَّلَمةِ مِن أولادِنا وذُرِّيَّتِنا، الذين أعلَمْتَنا أمرَهم مِن ظلمِهم وشِركِهم، حتى يُنِيبوا إلى طاعتِك. فيكونُ ظاهرُ الكلامِ على الدعاءِ لأنفسِهما، والمعنيُّ به ذُرِّيَّتُهما، كما يقالُ: أكرَمنى فلانٌ في ولدى وأهلي، وبرَّنى فلانٌ، إذا برَّ ولدَه.

وأمَّا قولِه: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فإنه يعنى به: إنك أنت العائدُ على عبادِك بالفضلِ، والمُتَفضِّلُ عليهم بالعفوِ والغفرانِ، الرحيمُ بهم، المستنقذُ مَن تشاءُ منهم برحمتِك مِن هَلكتِه، المُنجِى مَن تُرِيدُ نجاتَه منهم برأفتِك مِن سَخَطِك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} .

وهذه دعوةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ صلواتُ اللهِ عليهما لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، وهى الدعوةُ التى كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يقولُ:"أنا دعوةُ أبى إبراهيمَ، وبُشْرَى عيسى".

حَدَّثَنَا بذلك ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن ثورِ بنِ

(1)

في م: "قبلهما".

(2)

بعده في م: "و".

ص: 572

يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ الكَلاعىِّ، أن نفرًا مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسولَ اللهِ، أخْبِرْنا عن نفسِك. قال:"نعم، أنا دعوةُ أبى إبراهيمَ، وبُشْرَى عيسى عليه السلام"

(1)

.

حَدَّثَنِي عمرانُ بنُ بَكَّارٍ الكَلاعيُّ، قال: ثنا أبو اليمانِ، قال: ثنا [أبو بكرِ بنُ]

(2)

أبى مريمَ، عن سعيدِ بنِ سُوَيْدٍ، عن العِرْبَاضِ بنِ سارِيَةَ السُّلَمِيِّ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنى عندَ

(3)

اللهِ في أُمِّ الكتابِ لخاتمُ النبيِّين، وإن آدَمَ لمُنْجَدِلٌ

(4)

في طِينتِه، وسوف أُنَبِّئُكم بتأويلِ ذلك

(5)

؛ دعوةُ أبى إبراهيمَ، وبشارةُ عيسى قومَه، ورُؤْيا أُمِّى"

(6)

.

حَدَّثَنِي يونسُ بنُ عبدِ الأعلي، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَنى معاويةُ بنُ صالحٍ، وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ بنُ آدمَ بنِ أبى إياسٍ العَسْقَلانيُّ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: ثنا الليثُ بن سعدٍ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، قالا جميعًا: عن سعيدِ بنِ سُوَيْدٍ، عن

(1)

أخرجه المصنّف في تاريخه 2/ 165، مطولًا. وأخرجه ابن إسحاق في السيرة ص 28 - ومن طريقه الحاكم 2/ 600، والبيهقيُّ في الدلائل 1/ 83، مطولًا. وصححه الحاكم.

(2)

في م: "أبو كريب عن". وينظر تهذيب الكمال 33/ 109.

(3)

في ت 1، ت 3:"عبد".

(4)

المنجدل: الملقى على الجَدَالة، وهى الأرض. النهاية 1/ 248.

(5)

بعده فى م: "أنا".

(6)

أخرجه أحمد 28/ 395 (17163)، والحاكم 2/ 600، والبيهقيُّ في الدلائل 1/ 83 من طريق أبى اليمان به. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (409)، والبزار (2365 - كشف)، والطبراني في الكبير 18/ 253 (631)، وابن بشران في الأمالى (40) من طريق أبي بكر به. وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبى بضعف أبى بكر. وقد خولف فيه.

وقال البَيْهَقِيُّ: قصر أبو بكر بن أبى مريم بإسناده فلم يذكر فيه عبد الأعلى بن هلال، وقصر بمتنه فجعل الرؤيا بخروج النور منها وحده، وكذلك قال خالد بن معدان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 573

عبدِ اللهِ

(1)

بنِ هلالٍ السُّلَمِيِّ، عن عِرْبَاضِ بنِ ساريةَ السُّلَمِيِّ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه

(2)

.

وحَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ، عن سعيدِ بنِ سُوَيْدٍ، عن عبدِ الأعلى بنِ هلالٍ السُّلَمِيِّ، عن عِرْبَاضِ بنِ سارِيَةَ أنه قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ. فذكَر نحوَه

(3)

.

وبمثلِ الذى قلنا في ذلك قال جماعةُ

(4)

أهلِ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} : ففعَل اللهُ ذلك، فبعَث فيهم رسولًا مِن أنفسِهم يعرِفون وَجهَه ونَسَبَه، يُخْرِجُهم مِن الظلماتِ إلى النورِ، ويَهْدِيهم إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ

(5)

.

(1)

قوله: "عبد الله". هكذا قال ابن مهدى عند أحمد. والصواب: عبد الأعلى. كما قال عبد الله بن أحمد 28/ 386 (17154). وكذلك هو في المصادر.

(2)

أخرجه المصنّف في تفسير الآية 6 من سورة الصف، عن يونس به. وفيه: عبد الأعلى بن هلال. على الصواب. وفيه زيادة بعد قوله: "ورؤيا أمى".

وأخرجه ابن حبان (6404)، وأبو نعيم في الدلائل (9)، والبغوى في تفسيره 1/ 151، من طريق ابن وهب به. وأخرجه ابن سعد 1/ 148، 149، وأحمد 28/ 382 (17151)، والطبراني في الكبير 18/ 252 (630) من طريق الليث به، بالزيادة. وأخرجه أحمد 28/ 379 (17150) -ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل (10) - من طريق معاوية به.

(3)

أخرجه الفسوى في تاريخه 2/ 345، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 236 (1254)، والطبراني في الكبير 18/ 252 (629)، والآجرى في الشريعة (948)، والبيهقيُّ في الدلائل 1/ 80، 2/ 130 من طريق أبى صالح به. وينظر تعجيل المنفعة 1/ 583، 584، ولسان الميزان 3/ 33، ومسند الطيالسى (1236)، والصحيحة (1925)، والضعيفة (2085).

(4)

بعده في م: "من".

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم 1/ 236 (1257) من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى عبد بن حميد.

ص: 574

وَحَدَّثَنَا موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} : وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وحُدِّثتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} : هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد [استجبتُ لك]

(2)

، وهو في آخرِ الزمانِ

(3)

.

ويعْنى تعالى ذكرُه بقولِه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} : يَقْرَأُ عليهم كتابَك الذى تُوحِيه إليه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .

ويعْنى بالكتابِ القرآنَ. وقد بيَّنتُ فيما مضَى لمَ سُمِّى القرآنُ كتابًا، وما تأويلُه

(4)

. وهو قولُ جماعةِ

(5)

أهلِ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} : [قال: الكتاب]

(6)

القرآنُ.

ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى "الحكمةِ" التى ذكَرها اللهُ في هذا الموضعِ؛

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 236 (1256) عن أبي زرعة، عن عمرو به.

(2)

في م: "استجيب ذلك".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى المصنّف وابن أبي حاتم عن أبي العالية، وهو عند ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 236 (1255) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 238 - 231.

(5)

بعد فى م: "من".

(6)

سقط من: م.

ص: 575

فقال بعضُهم: هى السُّنَّةُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قاال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالْحِكْمَةَ} . أي: السُّنَّةَ

(1)

.

وقال بعضُهم: الحكمةُ هى المعرفةُ بالدِّينِ والفقهُ فيه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قلتُ لمالكٍ: ما الحكمةُ؟ قال: المعرفةُ بالدِّينِ، والفقهُ فيه، والاتِّباعُ له

(2)

.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالْحِكْمَةَ} قال: الحكمةُ: الدِّينُ [التى لا يعرفونها]

(3)

إلَّا به صلى الله عليه وسلم، يُعَلِّمُهم إيَّاها. قال: والحكمةُ: العقلُ في الدِّينِ. وقرَأ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وقال لعيسى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]. قال: وقرَأ ابنُ زيدٍ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]. قال: لم يَنْتَفِعْ بالآياتِ حين

(4)

لم

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 237 عقب الأثر (1262) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى المصنف وعبد بن حميد، مطولا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 532 (2829)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (70) من طريق ابن وهب به نحوه مطولا.

(3)

في م: "الذى لا يعرفونه".

(4)

في م: "حيث".

ص: 576

تَكُنْ معَها حكمةٌ. قال: والحكمةُ شيءٌ يَجْعَلُه اللهُ في القلبِ يُنَوِّرُه

(1)

له به

(2)

.

والصوابُ مِن القولِ عندَنا في "الحكمةِ" أنها العِلْمُ بأحكامِ اللهِ التى لا يُدْرَكُ عِلْمُها إلَّا ببيانِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم والمعرفةِ بها، وما دَلَّ عليه ذلك مِن نظائرِه، وهو عندى مأخوذٌ مِن "الحُكْمِ" الذى بمعنى الفصلِ بين الحقِّ والباطلِ، بمنزلةِ "الجِلْسةِ والقِعْدَةِ" مِن الجلوسِ والقعودِ، يقال منه: إن فلانًا لحكيمٌ بيِّنُ الحِكمةِ. يعْنى بذلك أنه لبيِّنُ الإصابةِ في القولِ والفعلِ

وإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الآيةِ: ربَّنا وابعَثْ فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتِك، ويُعَلِّمُهم كتابَك الذى تُنزِّلُه عليهم، وفصلَ قضائِك، وأحكامَك التى تُعلِّمُه إيَّاها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَيُزَكِّيهِمْ} .

قد دلَّلْنا فيما مضَى قبلُ على أن معنى التزكيةِ التطهيرُ، وأن معنى الزكاهِ النماءُ والزيادةُ

(3)

. فمعنى قولِه: {وَيُزَكِّيهِمْ} في هذا الموضعِ: ويُطَهِّرُهم مِن الشركِ باللهِ، وعبادةِ الأوثانِ ويُنَمِّيهم ويُكَثِّرُهم بطاعةِ اللهِ.

كما حدَّثنى المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويزكيهم} . قال: يعنى بالزكاةِ طاعةَ اللهِ والإخلاصَ

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيْنُ، قال: ثنا حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ:

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ينور".

(2)

ينظر تفسير ابن أبي حاتم 2/ 534 (2838)، وما سيأتي في تفسير، الآية (269) من هذه السورة.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 611، 612.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 237 (1265) من طريق عبد الله بن صالح به.

ص: 577

قولَه: {وَيُزَكِّيهِمْ} قال: يُطَهِّرُهم مِن الشركِ ويُخَلِّصُهم منه

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: إنك يا ربِّ أنت العزيزُ. يعنى: القوىُّ الذى لا يُعْجِزُه شيءٌ أرادَه، فافعلْ بنا وبذُرِّيَّتِنا ما سألْناه وطلَبْناه منك. والحكيمُ الذى لا يَدْخُلُ تدبيرَه خَلَلٌ ولا زَلَلٌ، فأعْطِنا ما يَنْفَعُنا وينفعُ ذُرِّيَّتَنا، ولا يَنْقُصُك ولا يَنْقُصُ خزائنَك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} .

يعْنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} : وأىُّ الناسِ يَزْهَدُ في ملَّةِ إبراهيمَ ويترُكُها رغبةً عنها إلى غيرِها. وإنما عنَى اللهُ بذلك اليهودَ والنصارَى لاختيارِهم ما اختارُوا مِن اليهوديَّةِ والنَّصْرانيةِ على الإسلامِ؛ لأن ملَّةَ إبراهيمَ هى الحنيفيَّةُ المُسْلِمةُ، كما قال تعالى ذكرُه:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] فقال تعالى ذكرُه لهم: ومَن يَزْهَدُ في ملَّةِ إبراهيمَ الحنيفيَّةِ المسلمةِ إلَّا مَن سفِه نفسَه.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} : رغِب عن ملَّتِه اليهودُ والنصارَى، واتَّخَذوا اليهوديةَ والنصرانيةَ بدعةً ليستْ مِن اللهِ، وترَكوا ملةَ إبراهيمَ، يعنى الإسلامَ حنيفًا، كذلك بعَث اللهُ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بملةِ إبراهيمَ

(2)

.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى المصنف.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 238 عقب الأثر (1270) معلقًا، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 139 إلى عبد بن حميد.

ص: 578

حُدِّثتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال: رغِبت اليهودُ والنصارَى عن ملةِ إبراهيمَ وابْتَدَعوا اليهوديةَ والنصرانيةَ وليستْ مِن اللهِ، وترَكوا ملةَ إبراهيمَ الإسلامَ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} .

يعْنى تعالى ذكرُه بقولِه: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} : إلَّا مَن سفِهت نفسُه. وقد بَيَّنَّا فيما مضَى أن معنى السفَهِ الجهلُ

(2)

. فمعنى الكلامِ: وما يَرْغَبُ عن ملةِ إبراهيمَ الحنيفيَّةِ إلَّا سفيهٌ جاهلٌ بموضعِ حظِّ نفسِه فيما يَنْفَعُها ويَضُرُّها في مَعَادِها.

كما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال: إلَّا مَن أخطأ حظَّه

(3)

.

وإنما نصَب "النفسَ" على معنى المفسِّرِ؛ وذلك أن "السفَهَ" في الأصلِ للنفسِ، فلمَّا نُقِل إلى "مَن" نُصِبت "النفسُ" بمعنى التفسيرِ

(4)

، كما يقالُ: هو أوسعُكم دارًا. فتدخلُ الدارُ في الكلامِ على أن السّعةَ فيها لا في الرجلِ، فكذلك النفسُ، أُدْخِلت لأن السفهَ للنفسِ لا لـ "مَن"، ولذلك لم يَجُزْ أن يقالَ: نفسَه

(5)

سَفِه أخوك. وإنما جاز أن يُفَسَّرَ بالنفْسِ وهى مضافةٌ إلى معْرفةٍ؛ لأنها في تأويلِ نكرةٍ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 238 (1270) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية من قوله.

(2)

ينظر ما تقدم فى 1/ 302.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى المصنف.

(4)

يريد بالتفسير هنا التمييز. مصطحات النحو الكوفى ص 29.

(5)

سقط من: م.

ص: 579

وقد قال بعضُ نحويِّى البصرةِ: إن قولَه: {سَفِهَ نَفْسَهُ} جرَت مَجْرَى "سفه" إذا كان الفعلُ غيرَ مُتَعَدٍّ، وإنما عدَّاه إلى "نفسِه" و"رأيِه" وأشباهِ ذلك ممَّا هو في المعنى نحوُ "سَفِه"، إذا هو لم يَتَعَدَّ، فأمَّا "غبِن" و"خسِر" فقد يَتَعَدَّى إلى غيرِه، يقال: غبِن خمسين وخسِر خمسين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} : ولقد اصطفَيْنا إبراهيمَ. والهاءُ التى في قولِه: {اصْطَفَيْنَاهُ} مِن ذكْرِ إبراهيمَ.

والاصطفاءُ الافتعالُ، مِن الصفوةِ، وكذلك "اصطفيْنا"؛ افتعلْنا، منه، صُيِّرت تاؤها طاءً لقربِ مخرجِها مِن مخرجِ الصادِ.

ويعْنى بقولِه: {اصْطَفَيْنَاهُ} : اخترْناه، واجْتبيْناه للخُلَّةِ، ولنُصَيِّرَه في الدنيا لمَنْ بعدَه إمامًا. وهذا خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن أن مَن خالف إبراهيمَ فيما سنَّ لِمَن بعدَه فهو للَّهِ مخالفٌ، وإِعلامٌ منه خلقَه أن مَن خالف ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيمَ مخالفٌ، وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه أخبرَ أنه اصطفاه لخُلَّتِه، وجعَله للناسِ إمامًا، وأخبرَ أن دينَه كان الحنيفيَّةَ المسلمةَ، ففى ذلك أوضحُ البيانِ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن أن مَن خالفه فهو للَّهِ عدوٌّ، لمخالفتِه الإمامَ الذى نصَبه لعبادِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} : وإن إبراهيمَ في الدارِ الآخرةِ لمن الصالحين، والصالحُ مِن بني آدمَ هو المؤدِّى حقوقَ اللهِ عليه. فأخبرَ تعالى ذكرُه عن إبراهيمَ خليلِه أنه في الدنيا له صَفِىٌّ، وفى الآخرةِ ولىٌّ، وأنه واردٌ مواردَ أوليائِه المُوفِين بعهدِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ

ص: 580

الْعَالَمِينَ (131)}.

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} : إذ قال لإبراهيمَ

(1)

ربُّه: أَخْلِصْ لىَ العبادةَ، واخْضَعْ لى بالطاعةِ.

وقد دلَّلنا فيما مضَى على معنى "الإسلامِ" في كلامِ العربِ، فأغْنى ذلك عن إعادتِه

(2)

.

وأمَّا معنى قولِه: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فإنه يعنى تعالى ذكرُه: قال إبراهيمُ مُجيبًا لربِّه: خضَعتُ بالطاعةِ، وأخلَصتُ العبادةَ لمالكِ جميعِ الخلائقِ ومُدَبِّرِها دونَ غيرِه.

فإن قال قائلٌ: قد علِمتَ أنَّ "إذ" وقْتٌ، فما الذى وُقِّتَ به، وما الذى جلبَه

(3)

؟. قيل: هو صلةٌ لقولِه: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} . وتأويلُ الكلام [: ولقد اصْطَفَيناه في الدنيا حين قال ربُّه: أسلمْ. قال: أسْلَمْتُ لرب العالمين. وإنَّما معْنى الكلامِ]

(4)

: ولقد اصْطَفَيناه في الدنيا حين قلنا له: أسْلِمْ. قال: أسلمتُ لربِّ العالمين. فأظْهَر اسمَ اللهِ تعالى ذكرُه في قولِه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} على وجهِ الخبرِ عن غائبٍ، وقد جرَى ذكرُه قبلُ على وجهِ الخبرِ عن نفسِه، كما قال خُفَافُ ابنُ نُدْبَةَ

(5)

:

أقْولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ

تَأَمَّلْ خُفَافًا إنَّنِى أنا ذَالِكا

فإن قال لنا قائلٌ: وهل دعا اللهُ جل ثناؤه إبراهيمَ إلى الإسلامِ. قيل له

(6)

:

(1)

في م: "له".

(2)

ينظر ما تقدم في ص 431، 432.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"صلته".

(4)

سقط من: م.

(5)

تقدم تخريجه في 1/ 230.

(6)

زيادة من: م.

ص: 581

نعم، قد دعاه إليه.

فإن قال: وفى أىِّ حالٍ دعاه إليه؟ قيل: حينَ قال: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78، 79]. وذلك هو الوقتُ الذى قال له ربُّه: أسلِمْ. مِن بعدِ ما امتحَنه بالكوكبِ

(1)

والقمرِ والشمس.

‌القول في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَوَصَّى بِهَا} : ووصّى بهذه الكلمةِ، أعنى بالكلمةِ قولَه:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [وهى]

(2)

الإسلامُ الذى أمَر به نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وهى إخلاصُ العبادةِ والتوحيدِ للهِ، وخضوعُ القلبِ والجوارحِ له.

ويعنى بقولِه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} : عهِد إليهم بذلك وأمرَهم به.

وأمَّا قولُه: {وَيَعْقُوبُ} فإنه يعنى: ووصَّى بذلك أيضًا يعقوبُ بَنِيه.

كما حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} يقولُ: ووصَّى بها يعقوبُ بَنِيه بعد إبراهيمَ

(3)

.

وحدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} : وصَّاهم بالإسلامِ، ووصَّى يعقوبُ بمثلِ ذلك

(4)

.

(1)

في م: "بالكواكب".

(2)

في م: "وهو".

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 239 عقب الأثر (1276) معلقًا.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 239 (1275، 1276) عن محمد بن سعد به.

ص: 582

وقال بعضُهم: قولُه {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} خبرٌ مُنْقَضٍ. وقولُه: {وَيَعْقُوبُ} خبرٌ مُبْتَدَأٌ، كأنه

(1)

قال: ووَصَّى بها إبراهيمُ بَنيه بأنْ يقولوا: أسلمْنا لربِّ العالمين. ووصَّى يعقوبُ بَنيه أنْ: يا بنيَّ إن اللهَ اصْصَفَى لكم الدينَ فلا تموتُنَّ إلَّا وأنتم مسلمون.

ولا معنى لقولِ مَن قال ذلك؛ لأنَّ الذى أوْصَى به يعقوبُ بَنيه نظيرُ الذى أوصَى به إبراهيمُ بَنيه مِن الحَثِّ على طاعةِ اللهِ والخضوعِ له والإسلامِ.

فإن قال قائلٌ: فإنْ كان الأمرُ [على ما]

(2)

وصفتَ مِن أنَّ معناه: ووصَّى بها إبراهيمُ بَنِيه ويعقوبُ أن يا بنيَّ. فما بالُ "أنْ" محذوفةً مِن الكلامِ؟

قيل: لأنَّ الوصيةَ قولٌ، فحُمِلت على معناها، وذلك أن ذلك لو جاء بلفظِ القولِ

(3)

لَمْ تَحْسُنْ معه "أن"، وإنما كان يقالُ: وقال إبراهيمُ لبَنِيه ويعقوبُ: يا بَنيَّ. فلمَّا كانت الوصيةُ قولًا حُملتْ على معناها دونَ لفظِها، فحُذفتْ "أن" التى تَحْسُنُ معَها، كما قال تعالى ذكرُه:{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. وكما قال الشاعرُ

(4)

:

إنِّى سَأُبْدى لَكَ فيما أُبْدِى

لِى شَجَنانِ شَجَنٌ

(5)

بنَجْدِ

وشَجَنٌ لى بِبِلادِ السِّنْدِ

(1)

في م: "فإنه".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"كما".

(3)

في الأصل: "القرآن".

(4)

معانى القرآن 1/ 80، 180، واللسان (ش ج ن) بغير نسبة.

(5)

الشجَن: الحاجة أينما كانت. اللسان (ش ج ن).

ص: 583

فحُذِفت "أنْ" إذ كان الإبداءُ باللسانِ في المعنى قولًا، فحمَله على معناه دونَ لفظِه.

وقد قال بعصُ أهلِ العربيةِ: إنما حُذفتْ "أن" من قولِه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} اكْتِفاءً بالنِّداءِ. يعنى بالنداءِ قولَه: {يَابَنِيَّ} وزعَم أن علَّتَه في ذلك أن مِن شأنِ العربِ الاكتفاءَ بالأدواتِ من

(1)

"أنْ"، كقولِهم: ناديت هل قمتَ؟ وناديتُ أين زيدٌ؟. قال: وربَّما أدْخَلوها مع الأدواتِ فقالوا: ناديتُ أن هل قمتَ؟.

وقد قرَأ جماعةٌ مِن القَرَأَةِ: (وأوصَى بها إبراهيمُ)

(2)

. بمعنى: عهِد.

وأمّا مَن قرَأ: {وَوَصَّى} مشدَّدةً، فإنه يعنى بذلك أنه عهِد إليهم عهدًا بعد عهدٍ، وأوصَى وصيةً بعد وصيةٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} : إن اللهَ اختار لكم هذا الدِّينَ الذى [عَهِدنا فيه إليكم]

(3)

، واجتباه لكم. وإنما أدخَل الألفَ واللامَ في {الدِّينَ} ؛ لأنَّ الذين خُوطبوا مِن ولدِهما وبَنِيهما بذلك كانوا قد عرَفوه بتوصيتِهما إيَّاهم به، وعهدِهما إليهم فيه، ثم قالا لهم بعد أن عرّفاهموه: إنَّ اللهَ اصطفَى لكم هذا الدينَ الذى قد عهِدنا إليكم فيه، فاتَّقوا

(4)

أن تموتوا إلَّا وأنتم عليه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} .

إن قال لنا قائلٌ: أوَ إلى بنى آدمَ الموتُ والحياةُ فيُنْهَى أحدُهم أن يموتَ إلّا على حالةٍ دونَ حالةٍ؟

(1)

في م، ت 1:"عن".

(2)

وهى قراءة نافع وابن عامر، والباقون بدون همز وتشديد الصاد. السبعة لابن مجاهد ص 171.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عهد إليكم فيه".

(4)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".

ص: 584

قيل له: إن معنى ذلك على غيرِ الوجهِ الذى ظننتَ، وإنما معناه:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أى: فلا تُفارِقُنَّ هذا الدِّينَ -وهو الإسلامُ- أيامَ حياتِكم، وذلك أن أحدًا لا يَدْرِى متى تأتِيه مَنِيَّتُه، فلذلك قالا لهم:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مَناياكم مِن ليلٍ أو نهارٍ، فلا تُفارِقوا الإسلامَ فتأتيَكم مناياكُم وأنتم على غيرِ الدِّينِ الذى اصطفاه لكم ربُّكم فتموتوا وربُّكم عليكم ساخطٌ، فتَهْلِكوا.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} : أكنتُم شهداءَ

(1)

. ولكنَّه اسْتَفْهم بـ "أمْ" إذ كان استفهامًا مستأنَفًا على كلامٍ قد سبَقه، كما قيل: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ

(2)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 1 - 3]. وكذلك تفعلُ العربُ في كلِّ استفهامٍ ابتدأْته بعدَ كلامٍ قد سبَقه، تَستفهِمُ فيه بـ "أمْ".

والشهداءُ جمعُ شهيدٍ، كما الشُّرَكاءُ جمعُ شَرِيكٍ، والخُصَمَاءُ جمعُ خَصيمٍ.

وتأويلُ الكلامِ: أكنتُم يا معشرَ اليهودِ والنصارى المُكَذِّبين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، الجاحدِين نبوَّتَه - حُضورَ يعقوبَ وشُهودَه إذ حضَره الموتُ. أى: إنَّكم لَمْ تَحْضُروا ذلك، فلا تَدَّعوا على أنَّبيائى ورُسُلى الأباطيلَ، وتَنْحُلوهم اليهوديَّةَ والنَّصرانيةَ، فإنِّى ابْتَعَثتُ خليلى إبراهيمَ وولدَه إسحاقَ وإسماعيلَ وذُرِّيَّتَهم بالحنيفيَّةِ المسلمةِ، وبذلك وصَّوْا بَنِيهم، وبه عهِدوا إلى أولادِهم مِن بعدِهم، فلو حضَرْتُموهم فسمِعتُم منهم علِمْتُم أنَّهم على غيرِ ما تَنْحُلونهم مِن الأديانِ والمِلَلِ

(2)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

بعده في م: "من بعدهم".

ص: 585

وهذهِ الآياتُ نزَلت تكذيبًا مِن اللهِ تعالى لليهودِ والنصارى في دعواهم إبراهيمَ وولدَه و

(1)

يعقوبَ أنَّهم كانوا على ملَّتِهم، فقال لهم في هذه الآيةِ:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} فتَعْلَموا ما قال لولدِه، وقال له ولدُه؟ ثم أعلَمَهم ما قال لهم وقالوا له.

وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال؛ ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قوله:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} : يعنى أهلَ الكتابِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثَناؤُه: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} : إذ قال يعقوبُ لبَنِيه. و {إِذْ} هذه مُكَرَّرةٌ إبدالًا مِن {إِذْ} الأُولي، بمعنى: أم كنتُم شهداءَ يعقوبَ إذ قال يعقوبُ لبَنِيه حينَ حضورِ موتهِ؟.

ويعنى بقولِه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} : أىَّ شيءٍ تَعْبُدون مِن بعدِى؟ أى: مِن بعدِ وفاتى؟ {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} يعنى به: قال بَنُوه له: نَعْبُدُ معبودَك الذى تعبُدُه، ومعبودَ آبائِك إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ {إِلَهًا وَاحِدًا} أى: نُخْلِصُ له العبادةَ، ونُوَحِّدُ له الرُّبُوبيَّةَ، فلا نشرِكُ به شيئًا ولا نتَّخذُ دونَه ربًّا.

ويعنى بقولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : ونحن له خاضِعون بالعبودةِ والطاعةِ.

(1)

سقط من: م.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 239 (1278) من طريق أبى جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية من قوله.

ص: 586

ويَحْتَمِلُ قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أن تكونَ بمعنى الحالِ، كأنهم قالوا: نعبُدُ إلهَكَ مُسلمينَ له بطاعتِنا وعبادتِنا إيَّاه. ويَحتمِلُ أن يكونَ خبرًا مُستأنفًا، فيكونَ بمعنى: نعبدُ إلهَك بعدَك، ونحن له الآن وفى كلِّ حالٍ مسلمون.

قال أبو جعفرٍ: وأحسنُ هذين الوجهينِ في تأويلِ ذلك أن يكونَ بمعنى الحالِ، وأن يكونَ بمعنى: نعبُدُ إلهَك وإلهَ آبائِك إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ مسلمينَ لعبادتِه.

وقيل: إنما قُدِّم ذكرُ إسماعيلَ على إسحاقَ؛ لأنَّ إسماعيلَ كان أسنَّ مِن إسحاقَ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي يونسُ بنُ عبدِ الأعِلي، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} قال: يُقالُ: بدَأ بإسماعيلَ لأنه أكبرُ

(1)

.

وقرَأ بعضُ القرأةِ

(2)

: (وَإلَه أبيكَ إبْرَاهِيمَ)

(3)

. ظنًّا منه أن إسماعيلَ إذ كان عمًّا ليعقوبَ، فلا يجوزُ أن يكونَ في من تُرْجِم به عنِ الآباءِ وداخلًا في عِدادِهم. وذلك من قارئِه

(4)

كذلك قِلَّةُ علمٍ منه بمجَارِى كلامِ العربِ، والعربُ لا تَمْتَنِعُ مِن أن تَجْعَلَ الأعمامَ بمعنى الآباءِ، والأخوالَ بمعنى الأُمَّهاتِ، فلذلك دخَل إسماعيلُ في مَن تُرْجِم به عن الآباءِ.

و {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ترجمةٌ عن الآباءِ في موضعِ جرٍّ، ولكنَّهم نُصِبوا بأنهم

(5)

لا يُجْرَون.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 139 إلى المصنّف.

(2)

في م: "المتقدمين".

(3)

هى قراءة ابن عباس والحسن وابن يَعمر والجحدرى وأبى رجاء. ينظر البحر المحيط 1/ 402.

(4)

في الأصل: "قراءته".

(5)

في م، ت 1، ت 2:"لأنهم".

ص: 587

والصوابُ مِن القراءةِ عندنا في ذلك: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} لإجماعِ القَرَأةِ على تصويب ذلك وشذوذِ مَن خالَفه مِن القَرَأةِ ممَّن قرَأ خلافَ ذلك.

ونُصِب قولُه: {إِلَهًا} على الحالِ من قولِه: {إِلَهَكَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ وولدَهم. يقولُ لليهودِ والنصارى: يا معشرَ اليهودِ والنصاري، دَعُوا ذكْرَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والمسلمينَ مِن أولادِهم بغيرِ ما هم أهلُه، ولا تَنْحُلوهم [الكفرَ و]

(1)

اليهوديَّةَ والنصرانيَّةَ فتُضِيفُوها إليهم، فإنهم أُمَّةٌ -ويعنى بالأُمَّةِ في هذا الموضعِ الجماعةَ والقرنَ مِن الناسِ- {قَدْ خَلَتْ}: قد

(2)

مضَت لسبيلِها.

وإنما يقالُ للذى قد مات فذهَب: قد خلَا. لتخلِّيه مِن الدنيا، وانفرادِه مما

(3)

كان مِن الأُنْسِ بأهلِه وقُرَنائِه في دنياه، وأصلُه مِن قولِهم: خلا الرجلُ. إذا صار إلى المكانِ الذى لا أنيسَ له فيه وانفرَد مِن الناسِ، فاسْتُعمِل ذلك فى الذى يموتُ على ذلك الوجهِ.

ثم قال تعالى ذكرُه لليهودِ والنصارى: إن لمَن نحَلْتُموه ضلالَكم

(4)

وكفرَكم الذى أنتم عليه مِن أنبيائى ورسلى ما كسَب

(5)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كفر".

(2)

سقط من: م.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما".

(4)

في م، ت 3:"بضلالكم".

(5)

في م: "كسبت".

ص: 588

والهاء والألفُ في قوله: {لَهَا} عائدة إن شئتَ على {تِلْكَ} ، وإن شئتَ على {أُمَّةٌ} .

ويعنى بقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أى: ما عملت من خير، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عمِلتم، ولا تُؤاخَذون أنتم أيها [الناحِلوهم ما تنحُلونهم]

(1)

من الملل، فتُسألوا عمَّا كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدُهم يعملون فيكسِبون من خير وشرّ؛ لأن لكل نفس ما كسَبت، وعليها ما اكتسَبت، فدَعُوا انتحالهم وانتحالَ مِلَلِهم، فإن الدعاوَى غيرُ مُغْنِيَتِكم عندَ اللهِ شيئا

(2)

، وإنما يُغْنى عنكم عنده ما سلَف لكم مِن صالحِ أعمالِكم إن كنتم عمِلتموها وقدَّمْتُموها أمامَكم

(2)

.

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} .

يعني تعالى ذكره بقوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} : وقالتِ

اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا يهودًا تَهْتَدُوا. وقالتِ النصارى لهم: كونوا نصارَى تَهْتَدُوا. ويعنى بقوله: {تَهْتَدُوا} . أى: تُصِيبوا طَريق الحقِّ.

كما حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونُس بنُ بُكيرٍ، وحدثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، جميعا عن ابن إسحاقَ، قال: حدثني محمدُ بن أبى محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباس، قال: قال عبدُ اللَّهِ ابنُ صُورِيا الأعورُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ما الهُدَى إلا ما نحن عليه، فاتَّبِعْنا يا محمد تَهْتَد. وقالتِ النصارى مثلَ ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ

(1)

فى م، ت 1، ت 3:«الناحلون ما نحلتموهم» ، وفى ت: 2 «الناحلون ما ينحلونهم» .

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 589

نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}

(1)

.

فاحتجَّ اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أبلغَ حُجةٍ وأوجزَها وأكملَها، وعلَّمها محمدًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ، قل للقائلين لك من اليهودِ والنصارَى ولأصحابِك: كونوا هُودًا أو نَصارَى تَهْتَدُوا-: بل تعالَوْا فلنَتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ التي يُجْمِعُ

(2)

جميعُنا على الشهادةِ لها بأنها دينُ اللهِ الذي ارْتَضاه واجْتَباه وأمَر به، فإنَّ دينَه كان الحَنِيفيةَ المسلِمةَ، ونَدَعْ سائرَ المللِ التي نَخْتَلِفُ فيها فيُنكرُها بعضُنا ويُقِرُّ بها بعضُنا، فإن ذلك على اختلافِه لا سبيلَ لنا إلى

(3)

الاجتماعِ عليه، كما لنا السبيلُ إلى الاجتماعِ على ملةِ إبراهيمَ.

وفي نَصْبِ قولِه: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أوجُهٌ ثلاثةٌ:

أحدُها: أن يُوَجَّهَ معنى قولِه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} إلى معنى: وقالوا: اتَّبِعُوا اليهوديةَ والنصرانيةَ. لأنهم إذ قالوا: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} إلى اليهوديةِ والنصرانيةِ دَعَوْهم، ثمَّ يُعطَفُ على ذلك المعنى بالملةِ، فيكونُ معنى الكلامِ حينئذٍ: قلْ يا محمدُ: لا نتّبعُ اليهوديةَ والنصرانيةَ، ولا نتّخِذُها ملةً، بل نتّبعُ ملةَ إيراهيمَ حنيفًا. ثمَّ يُحذَفُ "نَتّبعُ" الثانيةُ، ويُعطَفُ بالملةِ على إعرابِ "اليهوديةِ" و"النصرانيةِ".

والآخرُ: أن يكونَ نَصْبُه بفعلٍ مُضْمَرٍ بمعنى "نتّبعُ".

والثالثُ: أن يكونَ أُريدَ: بل نكونُ أصحابَ ملةِ إبراهيمَ، أو أهلَ ملةِ إبراهيمَ. ثمَّ حذَف الأهلَ والأصحابَ، وأُقِيمتِ الملةُ مُقامَهم، إذ كانت مُؤَديةً عن

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 549، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 241 (1290) من طريق يونس به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 140 إلى ابن المنذر. وينظر تفسير البغوي 1/ 155، وتفسير ابن كثير 1/ 271.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تجمع".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"على".

ص: 590

معنى الكلامِ، كما قال الشاعرُ

(1)

:

حَسِبْتَ بُغامَ راحلتى عَناقًا

وما هى وَيْبَ غيرِكَ بالعَناقِ

يعني صوتَ عَناقٍ. فتكونُ الملةُ حينئذٍ منصوبةً عطفًا في الإعرابِ على اليهودِ والنصارَى. وقد يجوزُ أن يكونَ منصوبًا على وجهِ الإغراءِ باتباعِ ملةِ إبراهيمَ.

وقرَأ بعضُ القَرَأةِ ذلك رفعًا

(2)

، فتأويلُه على قراءةِ من قرَأه رفعًا: بل الهُدى ملةُ إبراهيمَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} .

والملَّةُ الدينُ، وأما الحَنِيفُ فإنَّه المستقيمُ من كلِّ شيءٍ. وقد قيل: إن الرجلَ الذي تُقْبِلُ إحدى قدمَيْه على الأخرى إنما قيل له: أَحْنَفُ. نظرًا له إلى السلامةِ، كما قيل للمَهْلَكةِ من البلادِ: المَفازَةُ. بمعنى الفوزِ بالنجاةِ فيها

(3)

والسلامةِ، وكما قيل لِلَّديغِ: السَّلِيمُ. تفاؤُلًا له بالسلامةِ من الهلاكِ، وما أَشبهَ ذلك.

فمعنى الكلامِ إذن: قلْ يا محمدُ: بل نَتَّبعُ ملةَ إبراهيمَ مستقيمًا. فيكونُ "الحنيفُ" حينئذٍ حالًا من "إبراهيمَ".

وأما أهلُ التأويلِ، فإنهم اختلَفوا في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: الحَنِيفُ الحاجُّ. وقال

(4)

: إنما سُمِّى دينُ إبراهيمَ الإِسلامَ الحنَيِفيةَ؛ لأنه أوّلُ إمامٍ لَزِم العِبادَ الذين كانوا في عصْرِه، والذين جاءُوا بعدَه إلى يومِ القيامةِ - اتباعُه في مناسكِ الحجِّ، والائتمامُ به فيه. قالوا: فكلُّ من حجَّ البيتَ فنَسَك مَناسِكَ إبراهيمَ على ملتِه، فهو حَنِيفٌ مسلمٌ على دينِ إبراهيمَ.

(1)

تقدم في ص 265.

(2)

هى قراءة ابن هرمز الأعرج وابن أبي عبلة وابن جندب. ينظر مختصر ابن خالويه ص 17، والبحر المحيط 1/ 406.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منها".

(4)

في م، ت 2، ت 3:"قيل".

ص: 591

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِىٍّ، قال: ثنا القاسمُ بنُ الفضلِ، عن كَثيرٍ أبى سهلٍ، قال: سألتُ الحسنَ عن الحَنِيفيةِ، قال: حجُّ البيتِ.

وحدثنى محمدُ بنُ عُمارةَ

(1)

الأسدىُّ، قال: ثنا عبيدُ

(2)

اللهِ بنُ موسى، قال: أخبرَنا فُضَيلٌ، عن عطيةَ في قولِه:{حَنِيفًا} قال: الحَنِيفُ الحاجُّ

(3)

.

وحدثنى الحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدائىُّ، قال: ثنا أبى، عن الفُضَيلِ، عن عطيةَ مثلَه.

وحدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكّامُ بنُ سلمٍ

(4)

، عن عَنْبسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بنِ أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ، قال: الحَنِيفُ الحاجُّ.

وحدثنى الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ التَّيْمِىِّ، عن كَثيرِ بنِ زيادٍ، قال: سألتُ الحسنَ عن الحَنيفيةِ، قال: هو حَجُّ هذا البيتِ. قال ابنُ التَّيْمِىِّ: وأخبرَنى جُويبرٌ، عن الضحاكِ بنِ مُزاحِمٍ مثلَه

(5)

.

وحدثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْدِىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن السدىِّ، عن مجاهدٍ {حُنَفَاءَ} [الحج: 31] قال: حُجّاجًا

(6)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبادة".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد".

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 241، عقب الأثر (1291) معلقا.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سالم".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 59.

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 359 إلى عبد بن حميد وهو في تفسير سفيان ص 212 عن السدى من قول ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 241 عقب الأثر (1291) من طريق أسباط، عن السدى. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 140، 4/ 359 إلى ابن المنذر عن السدى.

ص: 592

وحدثنى المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{حَنِيفًا} قال: حاجًّا

(1)

.

حدِّثْت عن وكيعٍ، عن فُضَيلِ بنِ غَزْوانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ القاسمِ، قال: كان ناسٌ

(2)

من مُضَرَ يَحُجُّون البيتَ في الجاهليةِ يُسَمَّوْن حُنفاءَ، فأَنزَل اللهُ تعالى ذكرُه {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}

(3)

.

وقال آخرون: الحَنِيفُ المتَّبِعُ. كما وصَفْنا قبلُ مِن قولِ الذين قالوا: إن معناه الاستقامةُ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{حُنَفَاءَ} قال: مُتَّبِعِين

(4)

.

وقال آخرون: إنما سُمِّى دينُ إبراهيمَ الحنيفيةَ؛ لأنه أوّلُ إمامٍ سَنَّ للعبادِ الخِتانَ، فاتَّبَعه مَن بعدَه عليه. قالوا: فكلُّ مَن اخْتَتَنَ على سبيلِ اخْتِتانِ إبراهيمَ، [وهو]

(5)

على ما كان عليه إبراهيمُ من الإِسلامِ، فهو حَنيفٌ على ملةِ إبراهيمَ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 241 (1291) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 359 إلى ابن المنذر.

(2)

في م، ت 1، ت 2:"الناس".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 359 إلى ابن أبي حاتم.

(4)

تفسير سفيان ص 212، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 241 (1292). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 359 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(5)

في م: "فهو".

ص: 593

وقال آخرون: قولُه: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} : بل ملةَ إبراهيمَ مُخلِصًا. فالحَنِيفُ على قولِهم، المُخْلِصُ دينَه للهِ وحدَه.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]. يقولُ: مخْلِصًا

(1)

.

وقال آخرون: بل الحَنِيفيةُ الإِسلامُ، فكلُّ مَن ائْتَمَّ بإبراهيمَ في مِلَّتِه فاستقام عليها فهو حَنِيفٌ.

قال أبو جعفرٍ: والحَنيفُ عندي هو الاستقامةُ على دينِ إبراهيمَ واتباعُه على مِلَّتِه، وذلك أن الحَنِيفيةَ لو كانت حجَّ البيتِ، لوجَب أن يكونَ الذين كانوا يَحُجُّونه في الجاهليةِ من أهلِ الشركِ كانوا حنفاءَ، وقد نَفَى اللهُ جل ثناؤه أن يكونَ ذلك تَحَنُّفًا بقولِه:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]. وكذلك القولُ في الختانِ؛ لأنَّ الحَنِيفيةَ لو كانت هى الخِتانَ، لوجَب أن يكونَ اليهودُ حنفاءَ، وقد أخرجَهمُ اللهُ من ذلك بقولِه:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]. فقد صحَّ إذن أن الحنيفيةَ ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيتِ وحدَه، ولكنّه هو ما وصَفْنا من الاستقامةِ على ملةِ إبراهيمَ واتباعِه عليها والائتمامِ به فيها.

فإن قال قائلٌ: أَوَما كان مَن كان قبلَ إبراهيمَ عليه السلام من الأنبياءِ وأتباعِهم مستقيمِين على ما أُمِروا به من طاعةِ اللهِ استقامةَ إبراهيمَ وأتباعِه؟ قيل: بلى.

فإن قال قائلٌ: فكيف أُضِيفَ الحَنِيفيةُ إلى إبراهيمَ وأتباعِه على مِلَّتِه خاصةً دونَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1074 (6011) من طريق أحمد بن المفضل به.

ص: 594

سائرِ الأنبياءِ قبلَه وأتباعِهم؟

قيل: إن كلَّ مَن كان قبلَ إبراهيمَ من الأنبياءِ كان حنيفًا مُتَّبِعًا طاعةَ اللهِ، ولكنَّ اللهَ تعالى ذكرُه لم يَجعلْ أحدًا منهم إمامًا لمن بعدَه من عِبادِه إلى قيامِ الساعةِ، كالذى فعَل مِن ذلك بإبراهيمَ، فجعَله إمامًا فيما بَيَّنه من مناسكِ الحجِّ والخِتانِ، وغيرِ ذلك من شرائعِ الإِسلامِ - يُقتدَى

(1)

به أبدًا إلى قيامِ الساعةِ، وجعَل ما سنَّ من ذلك عَلَمًا مُمَيَّزًا بين مؤمِنى عبادِه وكفارِهم، والمطيعِ منهم له والعاصى، فسُمِّىَ الحنيفُ من الناسِ حنيفًا باتِّباعِه مِلَّتَه واستقامتِه على هَدْيِه ومِنهاجِه، وسُمِّى الضّالُّ عن ملَّتِه بسائرِ أسماءِ المللِ، فقيل: يهودىٌّ ونصرانىٌّ ومَجوسىٌّ، وغيرُ ذلك من صنوفِ المللِ.

وأما قولُه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فإنَّه يقولُ: إنه لم يكنْ ممن يَدِينُ بعبادةِ الأوثانِ والأصنامِ، ولا كان من اليهودِ ولا من النصارَى، بل كان حنيفًا مسلمًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: قولوا أيُّها المؤمنون لهؤلاء اليهودِ والنصارَى الذين قالوا لكم: كونوا هُودًا أو نصارَى تَهتدُوا -: {آمَنَّا بِاللَّهِ} . أي: صدَّقْنا.

وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أن معنى الإيمانِ التصديقُ، بما أَغنى عن إعادتِه

(2)

.

{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يقولُ: وصدَّقْنا أيضًا بالكتابِ الذي أَنزَل اللهُ إلى نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطابَ بالتنزيلِ إليهم، إذ كانوا مُتَّبِعيه ومأمورِين مَنْهِيِّين به، فكان وإن كان تنزيلًا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمعنى التنزيلِ إليهم لِلذى لهم فيه من

(1)

في م: "تعبدا".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 240، 241.

ص: 595

المعانى التي وَصَفْتُ.

ويعنى بقولِه: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} : وصدَّقْنا أيضًا وآمَنّا بما أُنزِل إلى إبراهيمَ وإلى إسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ. وهم الأنبياءُ من ولدِ يعقوبَ.

وقولُه: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} يعني: وآمَنّا أيضًا بالتوراةِ التي آتاها اللهُ موسى، وبالإنجيلِ الذي آتاه عيسى، والكتبِ التي آتى النبيِّين كلَّهم، وأَقْرَرْنا وصدَّقْنا أن ذلك كلَّه حقٌّ وهُدًى ونورٌ من عندِ اللهِ، وأن جميعَ مَن ذكَر اللهُ من أنبيائِه كانوا على حقٍّ وهُدًى يُصَدِّقُ بعضُهم بعضًا على مِنهاجٍ واحدٍ في الدعاءِ إلى توحيدِ اللهِ والعملِ بطاعتِه.

{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} . يقولُ: لا نؤمنُ ببعضِ الأنبياءِ ونكفُرُ ببعضٍ، ونتبرَّأُ من بعضٍ ونَتَوَلَّى بعضًا، كما تبرَّأتِ اليهودُ من عيسى ومحمدٍ عليهما السلام وأقرَّتْ بغيرِهما

(1)

من الأنبياءِ

(2)

، وكما تَبَرَّأَتِ النصارَى من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقرَّت بغيرِه من الأنبياءِ، بل نَشْهَدُ لجميعِهم أنهم كانوا رسلَ اللهِ وأنبياءَه، بُعِثوا بالحقِّ والهُدَى.

وأما قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فإنَّه يعني تعالى ذكرُه: ونحن لله خاضِعون بالطاعةِ، مُذْعِنون له بالعبودةِ. فذُكِر أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهودِ، فكَفروا بعيسى وبمن يُؤمِنُ به.

كما حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدَّثنى سعيدُ بنُ جُبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من يهودَ فيهم أبو ياسرِ بنُ أَخْطَبَ، ورافعُ بنُ أبي رافعٍ، وعازَرُ وخالدٌ، وزيدٌ، وإزارُ بنُ أبي إزارٍ، وأَشْيَعُ، فسألوه عمن يُؤمِنُ به من الرسلِ، فقال: "أُومِن باللهِ وما أُنزِلَ إلينا، وما أُنزِلَ إلى

(1)

في الأصل: "بغيره".

(2)

فوقها إحالة في الأصل، وفي الحاشية كلام غير مقروء.

ص: 596

إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، وما أُوتِىَ موسى وعيسى، وما أُوتِىَ النبيُّون من ربِّهم، لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ منهم ونحن له مُسلِمُون". فلما ذكَر عيسى جَحَدوا نُبُوَّتَه وقالوا: لا نُؤْمِنُ بعيسى، ولا نُؤْمِنُ بمن آمَن به. فأَنزَل اللهُ فيهم:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].

وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَه، إلا أنه قال: ونافعُ بنُ أبى نافعٍ. مكانَ رافعِ بنِ أبى رافعٍ

(1)

.

وقال قتادةُ: أُنزِلت هذه الآيةُ أمرًا من اللهِ تعالى ذكرُه للمؤمنين بتصديقِ رسلِه كلِّهم.

حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} . إلى قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : أمَر اللهُ المؤمنين أن يُؤمِنوا ويُصَدِّقُوا بأنبيائِه ورسلِه كلِّهم

(2)

، ولا يُفَرِّقوا بين أحدٍ منهم

(3)

.

وأما الأسباطُ الذين ذكَرهمُ اللهُ، فهم اثنا عشَرَ رجلًا من ولدِ يعقوبَ بنِ

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 567، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 243، 4/ 1164 (1299، 6559) من طريق سلمة به.

(2)

في الأصل: "كلها".

(3)

أخرج آخره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 243 (1305) من طريق يزيد به، وأخرج أوله (1304) من طريق شيبان النحوى عن قتادة.

ص: 597

إسحاقَ بنِ إبراهيمَ، ولَد كلُّ رجلٍ منهم أُمةً من الناسِ، فسُمُّوا أسباطًا.

كما حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: الأسباطُ: يوسفُ وإخوتُه بنو يعقوبَ، ولَد اثنَىْ عشَرَ رجلًا، فولَد كلُّ رجلٍ منهم أُمةً من الناسِ، فسُمُّوا أسباطًا

(1)

.

حدثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: أما الأسباطُ فهم بنو يعقوبَ؛ يوسفُ، وبِنْيامِينُ، ورُوبيلُ، ويهوذَا، وشَمْعُونُ، ولَاوِى، ودانُ، وقهاثُ

(2)

،

حدثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ

(3)

، قال. ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: الأسباطُ: يوسفُ وإخوتُه بنو يعقوبَ اثنا عشَرَ رجلًا، فوُلِد لكلِّ رجلٍ منهم أُمةٌ من الناسٍ، فسُمُّوا الأسباطَ

(4)

.

حدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: حدثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: نكَح يعقوبُ بنُ إسحاقَ -وهو إسرائيلُ- ابنةَ خالِه ليا ابنةَ ليانَ بنِ تبويلَ

(5)

بنِ إلياسَ، فولَدت له رُوبيلَ بنَ يعقوبَ، وكان أكَبرَ ولدِه، وشَمْعُونَ بنَ يعقوبَ، ولَاوِى ابنَ يعقوبَ، ويهوذا بنَ يعقوبَ، وربالونَ

(6)

بنَ يعقوبَ، ويشجرَ بنَ يعقوبَ، ودينةَ بنتَ يعقوبَ، ثم تُوُفِّيَت ليا بنتُ ليانَ، فخلَف يعقوبُ على أختِها راحيلَ بنت ليانَ بنِ

(1)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 243 عقب الأثر (1300) معلقًا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 243 (1301) من طريق عمرو به.

(3)

في الأصل: "أسباط".

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 243 عقب الأثر (1300) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

في م: "توبيل"، وفى ت 3:"يوبيل"، وفى تاريخ المصنف:"بتويل".

(6)

في م: "ريالون".

ص: 598

تبويلَ بنِ إلياسَ، فوَلَدتْ له يوسفَ بنَ يعقوبَ وبنْيامِينَ [بنَ يعقوبَ]

(1)

، وهو بالعربيةِ شدادٌ

(2)

، ووُلِد له من سُرِّيَّتَينْ له، اسمُ إحداهما زلفةُ، واسمُ الأخرى بلهةُ

(3)

، أربعةُ نفرٍ: دانُ بنُ يعقوبَ، ونفثالى

(4)

بنُ يعقوبَ، وجادُ بنُ يعقوبَ، وأشرُ

(5)

بنُ يعقوبَ، فكان بنو يعقوبَ اثنَىْ عشَرَ رجلًا، نَشَر اللهُ منهم اثنَىْ عَشَرَ سِبْطًا لا يُحْصِى عددَهم ولا يعلمُ أنسابَهم إلا اللهُ، يقولُ اللهُ تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}

(6)

[الأعراف: 160].

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} : فإن صَدَّق اليهودُ والنصارَى باللهِ وما أُنزِل إليكم وما أُنزِل إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، وما أُوتِىَ موسى وعيسى، وما أُوتِىَ النبيُّون من ربِّهم، وأقرُّوا بذلك مثلَ ما صدَّقْتم أنتم به أيُّها المؤمِنون وأقرَرْتم، فقد وُفِّقوا ورَشَدوا ولَزِموا طريقَ الحقِّ فاهتدَوا

(7)

، وهم حينئذٍ منكم وأنتم منهم لدخولِهم

(8)

في ملَّتِكم، بإقرارِهم بذلك. فدَلَّ تعالى ذكرُه بهذه الآيةِ على أنه لم يَقْبَلْ من أحدٍ عملًا إلا بالإيمانِ بهذه

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "أشد".

(3)

في م: "بلهية".

(4)

في الأصل: "تفثالى".

(5)

في م: "أشرب".

(6)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 317.

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"واهتدوا".

(8)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بدخولهم".

ص: 599

المعانى التى [عدَّها قبلَها]

(1)

.

كما حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} ونحو هذا. قال: أخبرَ اللهُ سبحانه أن الإيمانَ هو العروةُ الوُثْقَى، وأنه لا يَقْبَلُ عملًا إلا به، ولا يُحَرِّمُ الجنةَ إلا على مَن تَرَكه

(2)

.

وقد رُوِى عن ابنِ عباسٍ في ذلك قراءةٌ جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافِها، وأجمعت قَرَأةُ القرآنِ على تركِها.

وذلك ما حدثنا به محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبى حمزةَ، قال: قال ابنُ عباسٍ: لا تقولوا: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} -فإنه ليس للهِ مِثلٌ- ولكن قولوا: (فإن آمَنوا بالذى آمَنتم به). أو قال: (فإن آمَنوا بما آمَنتم به)

(3)

.

فكأن ابنَ عباسٍ في هذه الروايةِ -إن كانت صحيحةً عنه -وَجَّه تأويلَ قراءةِ من قرَأ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} : فإن آمَنوا بمثلِ اللهِ، وبمثلِ ما أُنْزِل على إبراهيمَ وإسماعيلَ. وذلك إذا صُرِف إلى هذا الوجهِ شِرْكٌ -لا شكَّ- باللهِ العظيمِ؛ لأنه لا مثلَ للهِ تعالى ذكرُه فيُؤْمَنَ أو يُكْفَرَ به، ولكنَّ تأويلَ ذلك على غيرِ المعنى الذى وُجِّه إليه تأويلُه، وإنما معناه ما وصَفْنا، وهو: فإن صدَّقوا مثلَ تصديقِكم بما صدَّقْتم به مِن جميعِ ما عدَدْنا عليكم من كُتبِ اللهِ وأنبيائِه، فمد اهتدَوْا. فالتشبيهُ إنما وقَع

(1)

في الأصل: "عددها فيها".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 244 (1307) من طريق أبى صالح به.

(3)

أخرجه ابن أبى داود في المصاحف ص 76، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 244 (1306)، والبيهقى في الأسماء والصفات (603) من طريق شعبة به. عنه ابن أبى داود "أبو جمرة" وأبو حمزة هو عمران بن =

ص: 600

بين التصديقَيْن والإقرارَيْن اللذين هما إيمانُ هؤلاءِ وإيمانُ هؤلاءِ، كقولِ القائلِ: مرَّ عمرٌو بأخيك مثلَ ما مرَرْتُ به. يعنى بذلك: مرَّ عمرٌو بأخيك مثلَ مرورِى به. فالتمثيلُ

(1)

إنما دخَل تمثيلًا بين المرورَيْن، لا بين عمرٍو وبين المتكلِّمِ، فكذلك قولُه:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} إنما وقَع التمثيلُ بين الإيمانَيْن لا بين المؤمَنِ به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه {وَإِنْ تَوَلَّوْا} : وإن تَوَلَّى هؤلاءِ الذين قالوا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه: كونوا هُودًا أو نَصارَى. فأعرَضوا، ولم يُؤمِنوا مثلَ إيمانِكم أيها المؤمنون باللهِ، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابْتُعِثتْ به الرسلُ، وفرَّقُوا بين رسلِ اللهِ، وبين اللهِ ورسُولِه

(2)

، فصدَّقوا ببعضٍ وكَفروا ببعضٍ، فاعلَمُوا أيها المؤمنون أنهم إنما هم في عِصيانٍ وفِراقٍ وحربٍ للهِ ولرسولِه ولكم.

كما حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، [قال: حدَّثنا سعيدٌ]

(3)

عن قتادةَ: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أى: في فِراقٍ

(4)

.

وحدثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} يعنى: فِراقٍ

(5)

.

وحدثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا

= أبى عطاء القصاب، وأبو جمرة نصر بن عمران كلاهما رويا عن ابن عباس، وروى عنهما شعبة.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"والتمثيل".

(2)

في م، ت 1:"ورسله".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 244 عقب الأثر (1311) معلقا.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 244 عقب الأثر (1311) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 601

هُمْ فِي شِقَاقٍ} قال: الشِّقاقُ المنازعةُ والمحاربةُ، إذا شاقَّ فقد حارَبَ، وإذا حارَبَ فقد شاقَّ، وهما واحدٌ فى كلامِ العربِ. وقرَأ:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115].

وأصلُ الشِّقاقِ عندنا، واللهُ أعلمُ، مأخوذٌ من قولِ القائلِ: شقَّ عليَّ

(1)

هذا الأمرُ، إذا كَرَثَه

(2)

وآذاه. ثم قيل: شاقَّ فلانٌ فلانًا. بمعنى: نال كلَّ واحدٍ منهما مِن صاحبِه ما كَرَثَه وآذاه وأَثقلَتْه مَساءتُه، ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35]. بمعنى: فِراقَ بينِهما.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} : فسيَكْفِيك اللهُ يا محمدُ هؤلاءِ الذين قالوا لك ولأصحابِك: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} . من اليهودِ والنصارَى، إن هم تَوَلَّوْا عن أن يُؤمِنوا مثلَ

(3)

إيمانِ أصحابِك باللهِ، وبما أُنزِل إليك، وما أُنزِل إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ وسائرِ الأنبياءِ غيرِهم، وفَرَّقوا بين اللهِ ورسلِه، إما بقتلٍ بالسيفِ، وإما بجَلاءٍ عن جِوارِك، وغيرِ ذلك من العقوباتِ، فإن اللهَ هو السميعُ لما يقولون لك بألسنتِهم، ويُبْدُون لك بأفواهِهم من الجهلِ والدعاءِ إلى الكفرِ والمِللِ الضالّةِ، العليمُ بما يَنْطُوون

(4)

لك ولأصحابِك من المؤمنين عليه

(5)

في أنفسِهم من الحسَدِ والبغضاءِ، ففعَل اللهُ بهم ذلك عاجلًا، وأَنجزَ وَعْدَه، فكفاهم

(6)

نبيَّه صلى الله عليه وسلم بتسليطِه إياه عليهم حتى قَتَل بعضَهم، وأَجلَى بعضًا، وأَذلَّ بعضًا وأَخزاه بالجِزْيةِ والصَّغارِ.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليه".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كربه"، وكرثه الأمر يَكْرِثه ساءه واشتد عليه وبلغ منه المشقة. اللسان (كرث).

(3)

في م، ت 2:"بمثل".

(4)

في م: "يبطنون"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"ينطرون".

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2.

(6)

في م، ت 2:"فكفى".

ص: 602

‌القول في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} .

يعنى تعالى ذكرُه بالصِّبغةِ صبغةَ الإسلامِ، وذلك أن النصارَى إذا أرادت أن تُنَصِّرَ أطفالَهم جعَلتهم في ماءٍ لهم تزعُمُ أن ذلك لها تقديسٌ بمنزلةِ الخِتَانةِ

(1)

لأهلِ الإسلامِ، وأنه صِبغةٌ لهم في النصرانيةِ، فقال اللهُ تعالى ذكرُه، إذ قالوا لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه المؤمنين به:{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} : قل لهم يا محمدُ: أيُّها اليهودُ والنصارَى، بل اتَّبِعُوا ملةَ إبراهيمَ صِبغةَ اللهِ التى هى أحسنُ الصِّبَغِ، فإنها هى الحَنِيفيّةُ المُسلِمةُ، ودَعُوا الشركَ باللهِ والضلالَ عن مَحَجّةِ هُداه.

ونَصَب "الصِّبغةَ" مَن قرَأها نَصْبًا على الردِّ على "الملةِ"، وكذلك رفَع "الصِّبغةَ" مَن رفَع "المِلةَ" على ردِّها عليها. وقد يجوزُ رفعُها على غيرِ هذا الوجهِ، وذلك على الابتداءِ، بمعنى: هى صِبغةُ اللهِ. وقد يجوزُ نصبُها على غيرِ وجهِ الردِّ على "الملةِ"، ولكن على قولِه:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} . إلى قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} صبغةَ اللهِ، بمعنى: آمَنَّا هذا الإيمانَ. فيكونُ الإيمانُ حينئذٍ هو صِبغةَ اللهِ.

وبمثلِ الذى قلنا في تأويلِ "الصِّبغةِ" قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} : إن اليهودَ تَصْبُغُ أبناءَها يهودَ، والنصارَى تَصْبُغُ أبناءَها نصارَى، وإن صبغةَ اللهِ الإسلامُ، فلا صِبْغةَ أحسنُ من الإسلامِ ولا أَطْهرُ، وهو دينُ اللهِ الذى بعَث به نوحًا والأنبياءَ بعدَه

(2)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"غسل الجنابة". وينظر معانى القرآن للفراء 1/ 82.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 141 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 603

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال لى عطاءٌ: {صِبْغَةَ اللهِ} : صَبَغت اليهودُ أبناءَهم، خالَفُوا الفِطرةَ.

واختلَف أهل التأويلِ في تأويلِ قولِه: {صِبْغَةَ اللهِ} ؛ فقال بعضُهم: دينَ اللهِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ:{صِبْغَةَ اللهِ} قال: دينَ اللهِ

(1)

.

وحدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن أبى جعفر، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِه:{صِبْغَةَ اللهِ} قال: دينَ اللهِ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً}: ومَن أحسنُ من اللهِ دينًا

(2)

؟.

وحدثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(3)

.

وحدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيرىُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(4)

.

وحدثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وحدثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 60.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 245 عقب الأثر (1313، 1315) من طريق أبى جعفر به.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 245 عقب الأثر (1313، 1315) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

أخرجه عبد بن حميد - كما في الفتح 8/ 161 من طريق منصور، عن مجاهد، وهو في تفسير سفيان ص 49 من قوله.

ص: 604

مجاهدٍ مثلَه.

وحدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزبيرىُّ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ قولَه:{صِبْغَةَ اللهِ} قال: دينَ اللهِ

(1)

.

وحدثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} يقولُ: دينَ اللهِ، ومن أحسنُ من اللهِ دينًا

(2)

؟.

وحدثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{صِبْغَةَ اللهِ} قال: دينَ اللهِ

(3)

.

وحدثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللهِ: {صِبْغَةَ اللهِ} قال: دينَ اللهِ.

وحدثنى ابنُ البَرْقيِّ، قال: ثنا عمرُو بن أبى سلمةَ، قال: سألتُ ابنَ زيدٍ عن قولِ اللهِ: {صِبْغَةَ اللهِ} [قال: دينَ اللهِ]

(4)

.

وقال آخرون: {صِبْغَةَ اللهِ} : فطرةَ اللهِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ،

(1)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 245 عقب الأثر (1313) معلقًا.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 245 عقب الأثر (1313، 1315) من طريق عمرو به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 141 إلى المصنف، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 245 (1313) من طريق الضحاك، عن ابن عباس.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فذكر مثله".

ص: 605

عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ: {صِبْغَةَ اللهِ} قال: فطرةَ اللهِ التى فطَر الناسَ عليها

(1)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا محمدُ بنُ حربٍ، قال: ثنا ابنُ لَهِيعةَ، عن جعفرِ بنِ ربيعةَ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} . قال: الصِّبغةُ الفطرةُ.

وحدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال:{صِبْغَةَ اللهِ} : الإسلامَ، فطرةَ اللهِ التى فطرَ الناسَ عليها. قال ابنُ جريجٍ: قال لى عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ: {صِبْغَةَ اللهِ} قال: دينَ اللهِ، ومَن أحسنُ من اللهِ دينًا؟ قال: هى فطرةُ اللهِ.

قال أبو جعفرٍ: ومن قال هذا القولَ فوجَّه الصِّبغةَ إلى الفطرةِ، فمعناه: بل نَتَّبعُ فطرةَ اللهِ وملَّتَه التى خلَق عليها خلقَه، وذلك الدينُ القيِّمُ، من قولِ اللهِ تعالى ذكرُه {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1] بمعنى: خالقِ السماواتِ والأرضِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} .

وقولُه تعالى ذكرُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} أمرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقولَه لليهودِ والنصارَى الذين قالوا له ولمَن تَبعه من أصحابِه: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} فقال لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ: بل نَتَّبِعُ ملةَ إبْرَاهيمَ حَنِيفًا صِبْغَةَ اللهِ، ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ - [ويعنى بالعابدين]

(2)

: الخاضعِين للهِ المستكِينِين له- في اتّباعِنَا ملةَ إبْرَاهيمَ ودَيْنُونَتِنا له بذلك، غيرَ مستكبِرِين عليه

(3)

في اتِّباعِ أمرِه والإقرارِ برسالِة

(4)

(1)

تفسير مجاهد ص 214، وعزاه الحافظ في الفتح 8/ 161، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 141 إلى عبد بن حميد من طريق ابن أبى نجيح به.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعنى ملة".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"رسالته".

ص: 606

رُسلِه، كما استكْبَرت اليهودُ والنصارَى، فكفَروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم استكبارًا وبَغْيًا وحسَدًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ} : قل يا محمدُ لمَعاشرِ اليهودِ والنصارَى الذين قالوا لك ولأصحابِك: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} . وزعَموا أن دينَهم خيرٌ من دينِكم، وكتابَهم خيرٌ من كتابِكم؛ لأنه كان قبلَ كتابِكم، وزعَموا أنهم من أجلِ ذلك أَوْلَى باللهِ منكم-: أتُحاجُّوننا في اللهِ وهو ربُّنا وربُّكم؟ بيدِه الخيراتُ، وإليه الثوابُ والعقابُ، والجزاءُ على الأعمالِ، الحسناتِ منها والسيئاتِ، فتزعُمون أنكم أوْلى باللهِ منا من أجلِ أن نبيَّكم قبلَ نبيِّنا، وكتابَكم قبلَ كتابِنا، وربُّكم وربُّنا واحدٌ، وإنّما

(1)

لكلِّ فريقٍ منا ما عَمِل واكتسَب من صالحِ الأعمالِ وسيِّئها، وعليها

(2)

يُجازَى، فيُثابُ أو يُعاقَبُ، لا على الأنسابِ وقِدَمِ الدينِ والكتابِ.

ويعنى بقولِه: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} قلْ: أتُخاصِموننا وتُجادِلُوننا؟

كما حدثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ} قل: أتُخاصِمُوننا؟

حدثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} : أتُخاصِمُوننا؟

حدثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمِّى، قال: حدثنى

(1)

في م، ت 1، ت 2:"إن".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 607

أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ [{أَتُحَاجُّونَنَا}: أتُجادِلوننا]

(1)

؟

فأمّا قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} فإنه يعنى: ونحنُ للهِ مُخْلِصو العبادةِ والطاعةِ، لا نشركُ به شيئًا، ولا نَعبُدُ غيرَه أحدًا، كما عبَد أهلُ الأوثانِ معه الأوثانَ، وأصحابُ العجلِ معه العجلَ. وهذا من اللهِ تعالى ذكرُه توبيخٌ لليهودِ واحتجاجٌ لأهلِ الإيمانِ، بقولِه تعالى ذكرُه للمؤمنين من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قولوا -أيها المؤمنون لليهودِ والنصارَى الذين قالوا لكم: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} -: أَتُجادلوننا

(2)

في اللهِ. وإنما

(3)

يعنى بقولِه: {فِي اللهِ} : في دينِ اللهِ الذى أمَرنا أن نَدِينَه به، وربُّنا وربُّكم واحدٌ عَدْلٌ لا يَجورُ، وإنما يُجازِى العبادَ على ما اكْتَسبوا، فتَزعُمون أنَّكم أَوْلَى باللهِ منا لقِدَمِ دينِكم وكتابِكم ونبيِّكم، ونحن مُخلِصون له العبادةَ لم نُشرِكْ به شيئًا، وقد أَشركْتُم في عبادتِكم إياه، فعَبد بعضُكم العجلَ، وبعضُكم المسيحَ، فأنَّى تكونوا خيرًا منا، وأَوْلَى باللهِ منا؟

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} .

قال أبو جعفرٍ: وفى قراءةِ ذلك وجهان؛ أحدُهما: {أَمْ تَقُولُونَ} بالتاءِ

(4)

، فمَن قرَأه كذلك، فتأويلُه: قل يا محمدُ -للقائلين لك من اليهودِ والنصارَى: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} -: أتُجادِلُوننا في اللهِ؟ أمْ تَقُولُونَ: إن إبْرَاهيمَ؟

(1)

في الأصل: "تحاجون: تجادلون".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 141، إلى المصنف، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 245 (1316) من طريق الضحاك، عن ابن عباس بلفظ "أتخاصموننا".

(2)

في م، ت 2، ت 3:"أتحاجوننا".

(3)

سقط من: م.

(4)

وهى قراءة حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة والكسائى. ينظر حجة القراءات ص 115.

ص: 608

فيكونُ ذلك معطوفًا على قولِه {أَتُحَاجُّونَنَا} .

والوجهُ الآخرُ منهما: (أم يقولون) بالياءِ

(1)

. ومن قرَأ ذلك كذلك وجَّه قولَه: (أم يقولون) إلى أنه استفهامٌ مُستأنَفٌ كقولِه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس: 38]. وكما يقالُ: إنها لإبلٌ أم شاءٌ؟ وإنما جعَله استفهامًا مستأنَفًا لمجئِ خبرٍ مُستأنَفٍ، كما يقالُ: أتقومُ أم يقومُ أخوك؟ فيصيرُ قولُه: أم يقومُ أخوك؟ خبرًا مستأنَفًا بجُملةٍ

(2)

ليست من الأوّلِ واستفهامًا مبتدأً، ولو كان نَسَقًا على الاستفهامِ الأوّلِ لكان خبرًا عن الأوّلِ، فقيل: أتقومُ أم تقعدُ؟

وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أن ذلك إذا قُرِئ كذلك بالياءِ، فإن كان الذى بعد "أَمْ" جملةً تامةً فهو عطفٌ على الاستفهامِ الأوّلِ؛ لأن معنى الكلامِ قيل: أىُّ هذين الأمرَيْن كائنٌ، أهذا أم هذا؟

والصوابُ من القراءةِ عندنا في ذلك: {أَمْ تَقُولُونَ} بالتاءِ دون الياءِ

(3)

، عطفًا على قولِه:{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} بمعنى: أىَّ هذين الأمرَيْن تفعَلون؟ أتُجادِلُوننا في دينِ اللهِ؟ فتَزعُمون أنكم أَوْلَى منّا، وأَهْدَى منّا سبيلًا، وأمْرُنا وأمْرُكم ما وصَفْنَا على ما قد بَيّنّاه آنفًا

(4)

، أم تزعُمون أن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ ومن سمَّى اللهُ كانوا هُودًا أو نَصارَى على مِلَّتِكم؟ فيَضِحُ

(5)

للناسِ بَهْتُكم وكَذِبُكم؛ لأن اليهوديةَ والنصرانيةَ حدَثَتْ بعدَ هؤلاءِ الذين سمّاهم اللهُ من أنبيائِه. وغيرُ جائزةٍ قراءةُ ذلك بالياءِ لشذوذِها عن قراءةِ القرَأةِ.

(1)

وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو، وأبى بكر عن عاصم. حجة القراءات ص 115.

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"لجملة".

(3)

القراءتان كلتاهما صواب؛ لأنهما متواترتان.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أيضا".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يصح".

ص: 609

وهذه الآيةُ أيضًا احتجاجٌ من اللهِ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على اليهودِ والنصارَى الذين ذكَر اللهُ قَصَصَهم، يقولُ اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاءِ اليهودِ والنصارَى: أتُحاجُّوننا في اللهِ، وتزعُمون أن دينَكم أفضلُ من دينِنا، وأنَّكم على هُدًى ونحن على ضَلالةٍ ببُرْهانٍ من اللهِ تعالى ذكرُه فتَدْعُوننا إلى دينِكم؟ فهاتُوا برهانَكم على ذلك فنَتبِعَكم عليه. أم تقولون: إنّ إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصارَى على دينِكم؟ فهاتوا على دَعْواكم ما ادَّعيْتم من ذلك بُرْهانًا فنُصَدِّقَكم، فإن اللهَ قد جعَلَهم أئمةً يُقْتَدَى بهم، ثم قال تعالى ذكرُه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمدُ إن ادَّعَوا أن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هُودًا أو نَصارَى: أأنتم أَعْلمُ بهم وبما كانوا عليه من الأديانِ أم اللهُ؟

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} .

يعنى جل ثناؤُه بذلك: فإن زعَمَتْ يا محمدُ اليهودُ والنصارَى الذين قالوا لك ولأصحابِك: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، أن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هُودًا أو نصارَى، فمن أظلمُ منهم؟! يقولُ: وأيُّ امرِئٍ أظلمُ منهم وقد كَتَموا شهادةً عندَهم من اللهِ بأن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكَتَموا ذلك ونحَلُوهم اليهوديةَ والنصرانيةَ.

واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فحدثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} قال: في قولِ يهودَ لإبراهيمَ وإسماعيلَ ومَن ذُكِر معهما: إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقولُ اللهُ: لا تَكْتُموا منى شهادةً إن كانت عندَكم فيهم. وقد عَلِم أنهم كاذبون

(1)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 215، وعزاه السيوطي أيضا في الدر المنثور 1/ 141 إلى عبد بن حميد.

ص: 610

وحدثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} : في قولِ اليهودَ لإبراهيمَ وإسماعيلَ ومن ذُكِر معهما: إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فقال اللهُ لهم: لا تَكْتُموا منى الشهادةَ فيهم إن كانت عندَكم فيهم، وقد عَلِم اللهُ أنَّهم كانوا كاذبين.

وحدّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى إسحاقُ، عن أبى الأشهبِ، عن الحسنِ أنه تلا هذه الآيةَ:{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} . إلى قولِه: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} قال الحسنُ: واللهِ لقد كان عندَ القومِ من اللهِ شهادةٌ أن أنبياءَه بُرَآءُ من اليهوديةِ والنصرانيةِ، كما أن عندَ القوم من اللهِ شهادةً أن دماءَكم وأموالَكم حرامٌ بينكم، فبم استحَلُّوها

(1)

؟.

وحدِّثْت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} : أهلُ الكتابِ كَتَموا الإسلامَ، وهم يَعلمون أنه دينُ اللهِ، وهم يَجِدُونه مكتوبًا عندهم في التوراةِ والإنجيلِ، أنهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهوديةُ والنصرانيةُ بعدَ هؤلاءِ بزمانٍ

(2)

.

وإنما عَنَى تعالى ذكرُه بذلك أن اليهودَ والنصارَى إن ادَّعَوْا أن إبراهيمَ ومن سُمِّىَ معه في هذه الآيةِ كانوا هودًا أو نصارَى، تَبَيَّنَ

(3)

لأهلِ الشركِ الذين هم نصراؤُهم كَذِبُهم وادِّعاؤُهم على أنبياءِ اللهِ الباطِلَ؛ لأن اليهوديةَ والنصرانيةَ حدَثت

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 141 إلى المصنف، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 246 (1320) من طريق عباد بن منصور، عن الحسن بنحوه.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 246 عقب الأثر (1319) من طريق ابن أبى جعفر به.

(3)

في م: "بين".

ص: 611

بعدَهم، وإن هم نَفَوْا عنهم اليهوديةَ والنصرانيةَ، قيل لهم: فهَلُمّوا إلى ما كانوا عليه من الدينِ، فإنا وأنتم مُقِرُّون جميعًا بأنَّهم كانوا على حقٍّ، ونحن مختلِفون فيما خالَف الدينَ الذى كانوا عليه.

وقال آخرون: بل عَنَى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} اليهودَ في كتمانِهم أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوَّتَه، وهم يَعلمون ذلك ويَجِدُونه في كُتُبِهم.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} : أولئك أهلُ الكتابِ، كَتَموا الإسلامَ وهم يَعلمون أنه دينُ اللهِ، واتَّخَذُوا اليهوديةَ والنصرانيةَ، وكَتَموا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يَعلمون أنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَجِدُونه مكتوبًا عندَهم في التوراةِ والإنجيلِ

(1)

.

وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} قال: الشهادةُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكتوبٌ عندَهم، وهو الذى كَتَموا

(2)

.

وحدثنى المثنَّى [قال: حدثنى إسحاقُ]

(3)

، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ نحوَ حديثِ بشرِ بنِ معاذٍ، عن يزيد بنِ زريعٍ

(4)

.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 141 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 60.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 246 عقب الأثر (1319) من طريق ابن أبى جعفر به.

ص: 612

حدثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} قال: هم يهودُ يُسألون عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن صفتِه في كتابِ اللهِ عندَهم، فيَكْتُمون الصفةَ.

وإنما اخترْنا القولَ الذى قُلْناه في تأويلِ ذلك، لأنَّ قولَه تعالى ذكرُه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} في إثْرِ قصةِ مَن سمَّى اللهُ من أنبيائِه، وأمامَ قَصِّه

(1)

لهم، فأَوْلَى بالذى هو بيْن ذلك أن يكونَ من قَصصِهم دون غيرِه.

فإن قال قائلٌ: وأيّةُ شهادةٍ عندَ اليهودِ والنصارَى من اللهِ في أمرِ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ؟

قيل: الشهادةُ التى عندَهم من اللهِ في أمرِهم ما أنزل اللهُ إليهم في التوراةِ والإنجيِلِ، وأمَرَهم فيهما

(2)

بالاستنانِ بسنتِهم واتباعِ مِلَّتِهم، وأنهم كانوا حنفاءَ مسلمين، فتلك هى الشهادةُ التى عندهم من اللهِ التى كتَموها حين دعاهم نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلامِ، فقالوا له:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} . وقالوا له ولأصحابِه: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} . فأنزَل اللهُ فيهم هذه الآياتِ بتكذيبِهم

(3)

وكتمانِهم الحقَّ، وافترائِهم على أنبياءِ اللهِ الباطلَ والزُّورَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} .

يعْنى تعالى ذكرُه بذلك: وقل لهؤلاءِ اليهودِ والنصارَى الذين

يحاجُّونك يا محمدُ: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من كتمانِكم الحقَّ

فيما ألزَمَكم في كتابِه بيانَه للناسِ، من أمرِ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ

(1)

في م: "قصته".

(2)

في م، ت 1، ت 2:"فيها".

(3)

في م: "في تكذيبهم".

ص: 613

والأسباطِ و

(1)

أمرِ الإسلامِ، وأنهم كانوا مسلمين، وأن الحنِيفيّةَ المسلمةَ دينُ اللهِ الذى على جميعِ الخلقِ الدَّينُونة به دونَ اليهوديةِ والنصرانيةِ وغيرِهما من الملل، ولا هو ساهٍ عن عقابِكم على فعلِكم ذلك، بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيَكم به من الجزاءِ ما أنتم له أهلٌ في عاجلِ الدنيا وآجلِ الآخرةِ. فجازاهم جلَّ ذكرُه عاجلًا في الدنيا بقَتْلِ بعضِهم [وتَشريدِ بعضِهم]

(2)

وإجلائِه عن وطنِه ودارِه، وهو مُجازِيهم في الآخرةِ العذابَ المُهِينَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} .

يعْنى تعالى ذكرُه بقولِه: {تِلْكَ أُمَّةٌ} إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ.

كما حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} يعنى: إبراهيمَ وإسماعيلَ وإِسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ

(3)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ بمثلِه

(3)

.

وقد بَيَّنَّا فيما مضَى أن الأُمةَ الجماعةُ

(4)

.

فمعنى الآيةِ إذن: قلْ يا محمدُ لهؤلاء الذين يُجادِلُونك في اللهِ من اليهودِ والنصارَى إن كَتَموا ما عندَهم من الشهادةِ في أمرِ إبراهيمَ ومَنْ سَمَّيْنا معه، وأنّهم

(1)

في م: "في".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 141 إلى المصنف.

(4)

ينظر ما تقدم في 566.

ص: 614

كانوا مسلمِينَ، وزَعَمُوا أنّهم كانوا هودًا أو نصارَى، فكَذَبوا: إنّ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ أمةٌ قد خَلَتْ؛ أى: مضَت لسبيلِها، فصارت إلى ربِّها، وخَلَت بأعمالِها، وإنما

(1)

لها

(2)

عندَ اللهِ ما كانت

(3)

كَسَبت من خيرٍ في أيامِ حياتِها، وعليها ما اكْتَسَبت من شرٍّ، لا ينفعُها غيرُ صالحِ أعمالِها، ولا يضرُّها غيرُ سَيِّئِها، فاعلَموا أيها اليهودُ والنصارَى ذلك، فإنَّكم إن كان هؤلاءِ -و

(4)

هم الذين بهم تَفْتَخِرون وتزعُمون أن بهم تَرْجُون النجاة من عذابِ ربِّكم مع سيئاتِكم، وعظيمِ خطيئاتِكم- لا ينفعُهم عندَ اللهِ غيرُ ما قدَّمُوا من صالحِ الأعمالِ، ولا يضرُّهُمْ غيرُ سيِّئِها، فأنتم كذلك أَحْرَى ألا ينفعَكم عند اللهِ غيرُ ما قَدَّمْتُم من صالحِ الأعمالِ، ولا يضرُّكم غيرُ سَيِّئِها، فاحذَرُوا على أنفسِكم وبادِرُوا خروجَها بالتوبةِ وبالإنابةِ إلى اللهِ مما أنتم عليه من الكفرِ والضلالةِ والفِرْيةِ على اللهِ وعلى أنبيائِه ورسلِه، ودَعُوا الاتّكالَ على فضائلِ الآباءِ والأجْدادِ، فإنما لكم ما كسَبتم، وعليكم ما اكْتَسَبتم، ولا تُسألُون عمَّا كان إبراهيمُ وإسماعيلُ وإسحاقُ ويعقوبُ والأسباطُ يَعمَلون من الأعمالِ؛ لأن كلَّ نفسٍ قَدِمَتْ على اللهِ يومَ القيامةِ فإنما تُسألُ عما كسَبت وأَسْلَفت، دون ما أَسلفَ غيرُها.

‌القولُ في تأويلِ قوْلِه جل ثناؤُه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} .

يعنى بقولِه جلّ ثناؤُه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} : سيقولُ الجُهالُ من الناسِ، وهم اليهودُ وأهلُ النفاقِ. وإنما سمّاهم اللهُ عز وجل سفهاءَ؛ لأنهم سفِهوا الحقَّ،

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"آمالها".

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م، ت 1.

(4)

سقط من: م.

ص: 615

فتجاهَلتْ أحبارُ اليهودِ، وتعاظمَت جُهّالُهم وأهلُ الغباءِ منهم عن

(1)

اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العربِ ولم يكنْ من بنى إسرائيلَ، وتحيَّرَ المنافقون فتبلَّدوا.

وبما قلنا في السفهاءِ أنهم هم اليهودُ وأهلُ النفاقِ قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ من قال: هم اليهودُ

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} قال: اليهودُ تقولُه حين ترَك بيتَ المقدسِ

(2)

.

وحدثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وحدثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن إسرائيلَ، عن أبى إسحاقَ، عن البراءِ:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} . قال: اليهودُ

(3)

.

وحدِّثتُ عن أحمدَ بنِ يونسَ، عن زهيرٍ، عن أبى إسحاقَ، عن البراءِ:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} . قال: اليهودُ

(4)

.

(1)

في ت 1، ت 3:"عند".

(2)

تفسير مجاهد ص 215. وأخرجه الثورى في تفسيره ص 50 عن رجل، عن مجاهد. وينظر الفتح 8/ 171.

(3)

أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 142 - وأخرجه ابن المقرئ في معجمه (717) من طريق وكيع، عن سفيان، عن أبى إسحاق به. وأخرجه البخارى (399)، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 247 (1323)، والواحدى في أسباب النزول ص 28 من طريق إسرائيل به. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وأبى داود في ناسخه وابن المنذر.

(4)

سيأتى مطولا في ص 620.

ص: 616

وحدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا الحِمَّانيُّ، قال: حدَّثنا شريكٌ، عن أبى إسحاقَ، عن البراءِ في قولِه:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} قال: أهلُ الكتابِ

(1)

.

وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حدثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ ابنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: اليهودُ

(2)

.

وقال آخَرون: السفهاءُ المنافقون.

ذِكرُ من قال ذلك

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: نزلَت: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} : في المنافقين

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه {مَا وَلَّاهُمْ} : أيُّ شيءٍ صرفَهم عن قبلتِهم؟ وهو من قولِ القائلِ: ولانى فلانٌ دُبُرَه. إذا حوَّل وجهَه عنه واستدْبَره، فكذلك قولُه:{مَا وَلَّاهُمْ} : أىُّ شيءٍ حوَّل وجوهَهم؟

وأما قولُه: {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} فإن قبلةَ كلِّ شيءٍ ما قابلَ وجهَه، وإنما هى فِعْلةٌ، بمنزلةِ الجِلْسَةِ والقِعْدةِ [وصِفوةِ الشئِ]

(4)

، من قولِ القائلِ: قابلتُ فلانًا، إذا صرتَ قُبالتَه، أقابِلُه، فهو لى قِبلةٌ، وأنا له قِبلةٌ، إذا قابلَ كلُّ واحدٍ منهما بوجهِه وجهَ صاحبِه.

(1)

أخرجه النسائى في الكبرى (11001)، والبغوى في الجعديات (2132) من طريق شريك به. وسيأتى مطولا في ص 620.

(2)

تقدم مطولا في ص 450.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 247 (1324) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به. وسيأتى مطولا في ص 640.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 617

فتأويلُ الكلامِ إذن إذْ كان ذلك

(1)

معناه: سيقولُ السفهاءُ من الناسِ لكم أيها المؤمنون باللهِ وبرُسلِه

(2)

، إذا حوّلْتم وجوهَكَم عن قبلةِ اليهودِ التى كانت لكم قبلةً، قبلَ أمرِى إياكم بتحويلِ وجوهِكم عنها شطرَ المسجدِ الحرامِ: أيُّ شيءٍ حوّل وجوهَ هؤلاء فصرَفها عن الموضعِ الذى كانوا يستقبِلونه بوجوهِهم في صلاتِهم؟

فأعلمَ اللهُ جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ما اليهودُ والمنافقون قائِلون من القولِ عند تحويلِ اللهِ

(3)

قبلتَه وقبلةَ أصحابِه، عن الشامِ إلى المسجدِ الحرامِ، وعلّمَه ما ينبغِى أن يكونَ مِن ردِّه عليهم من الجوابِ، فقال له: إذا قالوا ذلك لكَ يا محمدُ، فقلْ لهم:{لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وكان سببَ ذلك أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى نَحْوَ بيتِ المقدسِ مدةً سنذكُرُ مبلَغَها فيما بعدُ إن شاء اللهُ تعالي، ثم أرادَ اللهُ تعالى صرْفَ قبلةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم إلى المسجدِ الحرامِ، فأخبرَه عما اليهودُ قائلُوه من القولِ عند صرْفِه وجهَه ووُجوهَ أصحابِه شَطْرَه، وما الذى ينبغِى أن يكون من مَردِّه

(4)

عليهم من الجوابِ.

‌ذكرُ المدةِ التى صلّى

(5)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه نحوَ بيتِ المقدسِ، وما كان سببُ صلاتِه نحوَه، وما الذى دعا اليهودَ والمنافقين إلى قيلِ ما قالوا عند تحويلِ اللهِ قبلةَ المؤمنين عن بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ

اخْتلَفَ أهلُ العلْمِ في المدّةِ التى صلّى

(5)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَ بيتِ المقدسِ بعدَ الهجرةِ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، وحَدَّثَنَا ابنُ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "رسوله"، وفى ت 1، ت 3:"برسوله".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "رده".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"صلاها".

ص: 618

حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلَمةُ، قالا جميعًا: حَدَّثَنَا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بن أبى محمدٍ مولَى زيدِ بن ثابتٍ، قال: حَدَّثَنِي سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ -شكَّ محمدُ بنُ أبى محمدٍ- عن ابنِ عباسٍ، قال: لما صُرِفت القبلةُ عن الشامِ إلى الكعبةِ -وصُرِفت في رجبٍ على رأسِ سبعةَ

(1)

عشرَ شهرًا من مَقدَمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيسٍ، وقَرْدَمُ بن عمرٍو، وكعبُ بنُ الأشرفِ، ونافعُ بنُ أبى نافعٍ -هكذا قال ابنُ حميدٍ، وقال أبو كُريبٍ: ورافعُ بنُ أبى رافعٍ- والحجاجُ بنُ عمرٍو، حليفُ كعبِ بنِ الأشرفِ، والربيعُ ابنُ الربيعِ بنِ أبى

(2)

الحُقَيقِ، وكِنانةُ [بنُ الربيعِ]

(3)

بنِ أبى الحُقَيقِ، فقالوا له: يا محمدُ، ما ولَّاك عن قبلتِك التى كنت عليها وأنت تزعُمُ أنك على ملةِ إبراهيمَ ودينِه، ارجِعْ إلى قبلتِك التى كنتَ عليها نتبِعْك ونصدِّقْك. وإنما يُريدون فتنتَه عن دينِه، فأنزَل اللهُ فيهم:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إلى قولِه: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}

(4)

.

حَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عَيّاشٍ، قال: قال البراءُ: صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَ بيتِ المقدسِ سبعةَ عشرَ شهرًا. قال: وكان يشتهِى أن يُصرفَ إلى الكعبةِ. قال: فبينا نحن نصلِّى ذات يومٍ، فمرَّ بنا مارٌّ، فقال: ألا هل علِمتم أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد صُرِف إلى الكعبةِ؟ قال: وقد صلّينا ركعَتين إلى ههنا، وصلّينا ركعَتين إلى ههنا.

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"تسعة".

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

زيادة من: م. وهو كذلك في سيرة ابن هشام.

(4)

سيرة ابن هشام 1/ 550، وأخرجه البَيْهَقِيُّ في الدلائل 2/ 575 من طريق يونس بن بكير به. وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 247، 248 (1327) من طريق سلمة به.

ص: 619

قال أبو كريبٍ: فقيل له: فيه أبو إسحاقَ؟ فسكَت.

وحَدَّثَنَا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن أبى بكرِ بنِ عياشٍ، عن أبى إسحاقَ، عن البراءِ، قال: صلَّينا بعدَ قدومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ ستةَ

(1)

عشرَ شهرًا إلى بيتِ المقدسِ

(2)

.

وحَدَّثَنَا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيي، عن سفيانَ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن البراءِ بنِ عازبٍ، قال: صلَّيتُ مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَ بيتِ المقدسِ ستةَ عشرَ شهرًا أو سبعةَ عشرَ شهرًا -شكّ سفيانُ- ثم صُرِفْنا إلى الكعبةِ

(3)

.

وحَدَّثَنِي المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا النُّفيليُّ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا زُهيرٌ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن البراءِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان أوّلَ ما قدِم المدينةَ نزلَ على أجدادِه أو أخوالِه من الأنصارِ، وأنه صلَّى قِبَلَ بيتِ المقدسِ ستةَ عشرَ [أو سبعةَ عشرَ]

(4)

شهرًا، وكان يُعْجِبُه أن تكونَ قبلتُه قِبَلَ البيتِ، وأنه صلَّى صلاةَ العصرِ ومعه قومٌ، فخرَج رجلٌ ممن صلَّى معه، فمرَّ على أهلِ المسجدِ وهم ركوعٌ، فقال: أشهَدُ لقد صليتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ. فدارُوا كما هم قِبَلَ البيتِ، وكان يُعجِبُه أن يحوَّلَ قِبَلَ البيتِ، وكان اليهودُ قد

(5)

أعجَبَهم هذا

(5)

؛ أن كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

في م: "سبعة".

(2)

أخرجه ابن ماجة (1010)، والدارقطني 1/ 273 من طريق أبي بكر بن عياش به.

وأورد الحافظ في الفتح 1/ 97 الخلاف في هذه المدة، وقال: وشذت أقوال أخري؛ ففى ابن ماجة من طريق إلى بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: "ثمانية عشر شهرا". وأبو بكر سيء الحفظ، وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية:"سبعة عشر". وفى رواية: "ستة عشر".

(3)

تفسير سفيان ص 52. وأخرجه النسائي (487) عن ابن بشار به. وأخرجه أحمد 30/ 511 (18539)، والبخارى (4492)، ومسلم (525)، وابن خزيمة (428) من طريق يحيى به.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 620

يصلِّى قِبَلَ بيتِ المقدسِ وأهلِ الكتابِ، فلما ولَّى وجْهَه قِبَلَ البيتِ أنكَروا ذلك

(1)

.

وحَدَّثَنَا عمرانُ بنُ موسي، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ المسيَّبِ، قال: صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَ بيتِ المقدسِ بعد أن قَدِم المدينةَ ستةَ عشرَ شهرًا، ثم وُجِّه نحوَ الكعبةِ قبلَ بدرٍ بشهْرين

(2)

.

وقال آخَرون بما حَدَّثَنَا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عثمان بنُ سعدِ الكاتبُ، قال: حَدَّثَنَا أنسُ بنُ مالكٍ، قال: صُرِف

(3)

نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَ بيتِ المقدسِ تسعةَ أشهرٍ أو عشرةَ أشهرٍ، فبينما هو قائمٌ يصلِّى الظهرَ بالمدينةِ، وقد صلَّى ركعتين نحوَ بيتِ المقدسِ، انصرفَ، بوجهِه إلى الكعبةِ، فقال السفهاءُ:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}

(4)

.

وقال آخَرون بما حدَّثَنَا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا المسعودِىُّ، عن عمرِو بنِ مُرّةَ، عن ابنِ أبي ليلي، عن معاذِ بنِ جبلٍ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ، فصلَّى نحوَ بيتِ المقدسِ ثلاثةَ عشرَ شهرًا

(5)

.

(1)

أخرجه البَيْهَقِيُّ في المعرفة (658) من طريق النفيلى به. وأخرجه ابن سعد 1/ 242، 243، وأحمد 30/ 453، 454 (18496)، والبخارى (40، 4486)، وابن منده في الإيمان (167)، والبيهقيُّ 2/ 3 من طريق زهير به. وينظر مسند الطيالسي (755).

(2)

أخرجه سفيان في تفسيره ص 51، ومالك في الموطأ 1/ 196 - ومن طريقه الشافعي في مسنده (190)، والبيهقيُّ في المعرفة (656)، وفى الدلائل 2/ 573 - عن يحيى بن سعيد به. وينظر علل الدارقطني 4/ 365، والتمهيد 23/ 134، وفتح البارى لابن رجب 1/ 180، 181.

(3)

في م: "صلى".

(4)

إسناده ضعيف؛ عثمان بن سعد ضعيف. وأخرجه البزار (420 - كشف) عن عمرو بن على به. وأخرجه ابن خزيمة (434) من طريق أبى عاصم به. وقال الهيثمى: حديث أنس بن مالك في الصحيح أن ذلك في صلاة الصبح. والذى في صحيح مسلم (527) ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

إسناده منقطع؛ ابن أبى ليلى لَمْ يدرك معاذا. وأخرجه أبو داود (507) عن ابن المثنى به. والحديث في مسند الطيالسى (567)، وفيه: فصلى سبعة عشر شهرا.

ص: 621

وحَدَّثَنِي أحمدُ بنُ المِقْدامِ، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ أبي، قال: ثنا قتادةُ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ أن الأنصارَ صلَّت القبلةَ الأُولَى قبلَ قدومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بثلاثِ حِجَجٍ، وأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى القبلةَ الأولَى بعد قُدومِه المدينةَ ستةَ

(1)

عشرَ شهرًا

(2)

. أو كما قال. وكِلا الحديثين يحدِّث قتادةُ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ.

‌ذكرُ السببِ الذى كان من أجلِه صلى الله عليه وسلم يصلِّى

(3)

نحوَ بيتِ المقدسِ، قبل أن يُفرضَ عليه التوجُّهُ شطرَ الكعبةِ

اختلَف أهلُ العلمِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: كان ذلك باختيارٍ من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، [من غيرِ أن يكونَ اللهُ فرَض ذلك عليه]

(4)

.

ذِكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ أبو تُميلَةَ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، [عن عكرمةَ، و]

(5)

عن يزيدَ النحوىِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصرىِّ، قالا: أوَّلُ ما نُسِخ من القرآنِ القبلةُ، وذلك أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يستقبِلُ صخرةَ بيتِ المقدسِ، وهى قبلةُ اليهودِ، فاستقبلَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشرَ شهرًا، ليؤْمِنوا به ويتَّبِعوه، ويَدعُو بذلك الأمِّيين من العربِ، فقال اللهُ:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(6)

(1)

في الأصل: "ثلاثة".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 143 إلى المصنّف.

(3)

في م: "يصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 142 إلى المصنّف عن عكرمة وحده. وعزاه أيضًا إلى أبي داود في ناسخه عن ابن عباس بلفظه.

ص: 622

وحَدَّثَنِي المثنَّى بنُ إبراهيمَ، [قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ]

(1)

، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} : يعنُون بيتَ المقدسِ.

قال الربيعُ: قال أبو العاليةِ: إن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُيِّرَ بين

(2)

أَنْ يُوجِّهَ وجهَه حيث شاء، فاختارَ بيتَ المقدسِ، لكى يتألَّفَ أهلَ الكتاب، فكانت قبلةً

(3)

ستةَ عشرَ شهرًا، وهو في ذلك يقلِّبُ وجْهَه في السماءِ، ثم وجَّهه اللهُ إلى البيتِ الحرامِ

(4)

.

وقال آخرون: بل كان فعل ذلك من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بفرضِ اللهِ عليهم.

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنِي المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: حَدَّثَنَا معاوية بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبى طلحة، عن ابنِ عباسٍ قال: لما هاجرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، وكان أكثرَ

(5)

أهلِها اليهودُ، أمرَه اللهُ أن يستقْبِلَ بيتَ المقدسِ، ففرِحت اليهودُ، فاستقبَلها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضعةَ عشرَ شهرًا، فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحبُّ قبلةَ إبراهيمَ عليه السلام، وكان يدْعو وينظُرُ إلى السماءِ، فأنزلَ اللهُ:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية. فارْتاب من ذلك اليهودُ، وقالوا:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟ فأنزَل اللهُ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}

(6)

.

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، قال: قال ابنُ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في م: "قبلته".

(4)

ينظر تفسير ابن أبي حاتم 1/ 248 (1327).

(5)

سقط من: م.

(6)

تقدم تخريجه في ص 450.

ص: 623

جُريجٍ: صلّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلَّى إلى الكعبةِ، ثم صُرِف إلى بيتِ المقدسِ، فصلَّت الأنصارُ نحوَ بيتِ المقدسِ قبلَ قدومِه عليه السلام ثلاثَ حِجَجٍ، وصلَّى بعدَ قدومِه ستةَ عشرَ شهرًا، ثم ولاه اللهُ إلى الكعبةِ.

‌ذكرُ السببِ الذى من أجلِه قال [من قال]

(1)

{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}

اختلَف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فرُوى عن ابنِ عباسٍ فيه قولان؛ أحدُهما، ما حَدَّثَنَا به ابنُ حُميدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمةُ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ إسحاقَ، قال: حَدَّثَنِي محمدُ بنُ أبى محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال ذلك قومٌ من اليهودِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتِك التى كنتَ عليها نَتَّبِعْك ونصدِّقك. يُريدون فتنتَه عن دينِه

(2)

.

والقولُ الآخرُ: ما ذكَرتُ من حديثِ علىِّ بنِ أبى طلحةَ عنه الذى مضَى قبلُ

(3)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} قال: صلَّت الأنصارُ نحوَ بيتِ المقدسِ حولَين قبلَ قدومِ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وصلَّى نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومِه المدينةَ مهاجرًا نحوَ بيتِ المقدسِ ستةَ عشرَ شهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبةِ البيتِ الحرامِ، فقال في ذلك قائلُون من الناسِ:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟ لقد اشتاق الرَّجلُ إلى مولدِه. فقال اللهُ عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

تقدم مطولًا في ص 618، 619.

(3)

تقدم في ص 623.

ص: 624

وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

(1)

.

[وقال آخَرون: بل قائِلو]

(2)

هذه المقالةِ المنافقون، وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلامِ.

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنِي موسي، قال: حَدَّثَنَا عمرٌو، قال: حَدَّثَنَا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قِبلَ المسجدِ الحرامِ، اختلَفَ الناسُ فيها فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلةٍ زمانًا ثم ترَكوها وتوجَّهوا

(3)

غيرَها؟! فأنزَل اللهُ في المنافِقين: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} . الآية كلّها

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} .

يعنى جل ثناؤُه بذلك: قلْ يا محمدُ -لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابِك: ما ولّاكم عن قبلتِكم من بيتِ القدسِ التى كنتم على التوجُّهِ إليها، إلى التوجُّهِ شطرَ المسجدِ الحرامِ؟ -: للهِ مُلكُ المشرقِ والمغربِ -يعنى بذلك: مُلكُ ما بينَ قُطْرَىْ مَشرِقِ الشمسِ، وقُطْرَىْ مَغرِبها، وما بينهما من العالَمِ- يَهْدى من يشاءُ من خَلْقِه فيسدِّدُه ويوفِّقُه إلى الطريقِ القويمِ، وهو الصراطُ المستقيمُ -ويعنى بذلك: إلى قبلةِ إبراهيمَ الذى جعلَه للناسِ إمامًا- ويخذُلُ من يشاءُ منهم فيضِلُّه عن سبيلِ الحقِّ.

وإنما عَنى جل ثناؤُه بقولِه: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : قلْ يا محمدُ: إنّ اللهَ هدانا بالتوجُّهِ شطرَ المسجدِ الحرامِ لقبلةِ إبراهيمَ، وأضلَّكم أيها

(1)

سيأتى بتمامه في ص 639، 640.

(2)

في م: "وقيل قائل".

(3)

بعده في م: "إلى".

(4)

سيأتى بتمامه في ص 640، 641، 668.

ص: 625

اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشركِ باللهِ، فخذَلكم عما هدَانا له من ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} : كما هدَيْناكم أيها المؤْمنون بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، وبما جاءَكم به من عندِ اللهِ، فخصَصْناكم بالتوفيقِ لقبلةِ إبراهيمَ وملّتِه، وفضَّلناكم بذلك على من سواكم من أهلِ المللِ، كذلك خصَصْناكم أيضًا ففضَّلناكم على غيرِكم من أهلِ الأديانِ؛ بأن جعَلْناكم أمة وسطًا، وقد بيّنا أن "الأمَّةَ" هى القرنُ من الناسِ، والصِّنْفُ منهم وغيرهم

(1)

.

وأما "الوسطُ" فإنه في كلام العربِ الخيارُ، يقالُ منه: فلانٌ واسِطُ

(2)

الحسَبِ في قومِه. أى: متوسِّطُ الحسَبِ، إذا أرادُوا بذلك الرفعَ في حسبِه، وهو وسطٌ في قومِه وواسطٌ. كما يقالُ: شاةٌ يابسةُ اللبنِ، ويَبَسةُ اللَبنِ. وكما قال جل ثناؤُه:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77]. وقال زهيرُ بنُ أبى سُلْمَى في "الوسطِ"

(3)

:

هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ بحُكمِهمْ

إذا نَزَلَت إحدَى الليالى بمُعْظَمِ

قال أبو جعفرٍ: وأنا أرَى أن "الوسَطَ" في هذا الموضعِ هو الوسَطُ الذى بمعنى الجزءِ الذي هو بين الطرفَين، مثلَ وسَطِ الدارِ، [محرِّكةُ الوسطِ مثقَّلتُه]

(4)

، غيرُ جائزٍ في سينِه التخفيفُ. وأرَى أن اللهَ تبارك وتعالى إنما وصَفهم بأنهم

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 224، 2/ 588.

(2)

في م: "وسط".

(3)

شرح ديوان زهير ص 27. والبيت فيه هكذا:

لحى حلال يعصم الناس أمرهم

إذا طرقت. . . . . . . .

وأنشده الجاحظ في البيان والتبيين 3/ 255 غير منسوب هكذا:

هم وسط يرضى الإله بحكمهم

إذا طرقت. . . . . . . .

(4)

في م: "محرك الوسط مثقله"، وفى ت 2:"محركة الوسط مثقلة".

ص: 626

وسَطٌ، لتوسُّطِهم في الدينِ، فلا هم أهلُ غلوٍّ فيه غلوَّ النصارَى الذين غَلوْا بالترهُّبِ، وقيلِهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهلُ تقصيرٍ فيه تقصيرَ اليهودِ الذين بدَّلوا كتابَ اللهِ، وقتَلوا أنبياءَهم، وكذَبوا على ربِّهم، وكفَروا به، ولكنهم أهلُ توسُّطٍ واعتدالٍ فيه، فوصَفهم اللهُ بذلك، إذْ كان أحبَّ الأمورِ إلى اللهِ أوساطُها

(1)

.

وأما التأويلُ فإنه جاء بأن الوسَطَ العدْلُ، وذلك هو معنى الخيارِ؛ لأنَّ الخيارَ من الناسِ عُدولُهم.

‌ذكر من قال: الوسطُ العَدْلُ

حدّثَنِي سلمُ

(2)

بنُ جُنادَةَ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، عن الأعمشِ، عن أبى صالحٍ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: "عدلًا"

(3)

.

حَدَّثَنَا مجاهدُ بنُ موسى ومحمدُ بنُ بشارٍ، قالا: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، عن الأعمشِ، عن أبى صالحٍ، عن أبى سعيدٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه

(4)

.

وحَدَّثَنَا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حَدَّثَنَا مؤَمَّلٌ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبى صالحٍ، عن أبى سعيدٍ الخُدرىِّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أوسطها".

(2)

في م: "سالم".

(3)

في م: "عدولا".

والحديث أخرجه الإسماعيلى -كما في الفتح 8/ 172 - من طريق حفص بن غياث به، مختصرا. وأخرجه أحمد 17/ 122، 372 (11068، 11271)، والترمذى (2961)، والنسائى في الكبرى (11006)، وأبو يعلى (1207)، وابن حبان (7216)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 248، 249 (1331)، والإسماعيلي، وأبو عمرو بن منده في فوائده (1) من طرق عن الأعمش به، مختصرًا. وسيأتى مطولًا في ص 630.

(4)

سيأتى مطولا في ص 630، 631.

ص: 627

وَسَطًا} قال: "عدلًا"

(1)

.

وحَدَّثَنِي عليُّ بنُ عيسي، قال: حَدَّثَنَا سعيدُ بنُ سليمانَ، عن حفصِ بنِ غِياثٍ، [عن الأعمشِ]

(2)

، عن أبي صالحٍ، عن أبى هريرةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: "عدلًا"

(3)

.

حَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلًا.

وحَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . قال: عدلًا

(4)

.

وحَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال؛ حَدَّثَنَا أبو

(5)

حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وحَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه؛ {أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلًا.

وحَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أُمَّةً وَسَطًا} قال: عُدولًا

(6)

.

وحدَّثنى المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه،

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عدولا".

والأثر في تفسير الثورى ص 50. وأخرجه الحاكم 2/ 268 بإسناد منقطع عن الأعمش به.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 144 إلى المصنّف.

(4)

تفسير مجاهد ص 215، بلفظ: عدولًا. وستأتى بقيته في ص 633.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 60، 61.

ص: 628

عن الربيعِ في قولِه: {أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلًا.

وحدَّثَنِى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . يقولُ: جعَلكم أمة عدلًا

(1)

.

وحدَّثَنِى المثنَّي، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن رِشْدِين

(2)

بنِ سعدٍ، قال: أخبرنى ابنُ أنْعُمٍ المَعافِرىُّ، عن حِبّانَ بنِ أبى جَبَلَةَ يُسْنِدُه

(3)

إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . قال: "الوسَطُ العدلُ"

(4)

.

وحَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ ومجاهدٍ وعبدِ اللهِ بنِ كَثيرٍ:{أُمَّةً وَسَطًا} . قالوا: عدلًا. قال مجاهدٌ: عدولًا.

وحدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . قال: هم وسطٌ بين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وبين الأُممِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .

والشهداءُ جمعُ شهيدٍ.

فمعنى ذلك: وكذلك جعَلناكُم أُمةً [عدلًا لتكونوا]

(5)

شهداءَ لأنْبيائى ورُسلى

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 144 إلى المصنّف.

(2)

في م: "راشد"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"رشد".

(3)

في م، ت 2، ت 3:"بسنده".

(4)

سيأتى مطولًا في ص 635، 636.

(5)

في م: "وسطا عدولًا".

ص: 629

على أُمِمها بالبلاغِ، أنَّها قد بلَّغت ما أُمِرت ببلاغِه من رسالاتى إلى أُمَمِها، ويكونَ رَسولى محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانِكم به، وبما جاءكم به من عندى.

[وقيل: معْنى "عَلَيْكُمْ" في قولِه: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} : لكم. كأن تأويلَه عندهم: ويكونَ الرسولُ شهيدًا لكم.

وقال قائلُ هذه المقالةِ: هذا نظيرُ قولِه: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] إنما هو: وما ذبح للنصُبِ]

(1)

.

حَدَّثَنِي أبو السّائبِ، قال: حَدَّثَنَا حفصٌ، عن الأعمشِ، عن أبى صالحٍ، عن أبى سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُدْعَى بنُوحٍ عليه السلام يومَ القيامَةِ، فيُقالُ له: هل بَلَّغْتَ ما أرْسِلتَ به؟ فيقولُ: نعم. فيقالُ لقَومِه: هل بَلَّغَكم؟ فيقولُون: ما جاءنَا من نَذيرٍ. فيُقالُ له: من يَعْلَمُ ذاك؟ فيقولُ: محمَّدٌ وأُمَّتُه". فهو قولُه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}

(2)

.

وحَدَّثَنَا مجاهدُ بنُ موسي، قال: حَدَّثَنَا جعفرُ بنُ عوْنٍ، قال: أخبَرنا الأعمشُ، عن أبى صالحٍ، عن أبي سعيدٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه، إلَّا أنه زاد فيه:["فتُدْعَوْن فتَشْهَدون]

(3)

أنه قد بلَّغ"

(4)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (222 - تفسير)، وابن أبى شيبة 11/ 454، وأحمد 17/ 383، 18/ 112 (11283، 11558)، والبخارى (3339، 4487، 7349)، وفى خلق أفعال العباد (158)، وابن ماجه (4284)، والنسائى في الكبرى (11007)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (196)، وأبو يعلى (1173)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 249، 250 (1332، 1336)، والبيهقيُّ في الأسماء والصفات (464) من طرق عن الأعمش به، مطولًا. وتقدم مختصرا في ص 627.

(3)

في م: "فيدعون ويشهدون".

(4)

أخرجه الترمذى 5/ 191 (2961) عن ابن بشار عن جعفر بن عون، مطولا. وتقدم في ص 627 عن ابن بشار، مختصرًا. =

ص: 630

وحَدَّثَنَا محمدُ بن بشارٍ، قال: حَدَّثَنَا مؤمَّلٌ، قال: حَدَّثَنَا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبى صالحٍ، عن أبى سعيدٍ الخدرىِّ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بأن الرسلَ قد بلَّغُوا، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} بما عمِلْتم أو فعَلْتم

(1)

.

وحَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ فُضَيلٍ، عن أبى مالكٍ الأشْجعيِّ، عن المغيرةِ ابنِ عُتَيْبةَ

(2)

بنِ النَّهّاسِ، أن مُكْتِبًا

(3)

لهم حدَّثهم، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّى وأُمَّتى لعلى كَوْمٍ

(4)

يومَ القيامةِ مُشْرفين على الخلائقِ، ما أحدٌ من الأُمم إلَّا ودَّ أنه منا

(5)

أيَّتُها

(6)

الأُمَّةُ، وما من نبيٍّ كذَّبه قومُه إلَّا نحن شُهَداؤُه يومَ القيامةِ أنه قد بلَّغ رسالاتِ ربِّه ونصَح لهم. قال:[والرسولُ عليكم شهيدٌ]

(7)

".

وحَدَّثَنِي عصامُ بنُ رَوّادِ

(8)

بنِ الجرّاحِ العسقلانيُّ، قال: حدَّثنى أبي، قال:

= وأخرجه عبد بن حميد (911) -وعنه الترمذى 5/ 190 (2961) - والبيهقيُّ في الشعب (264) من طريق جعفر به.

(1)

تفسير سفيان ص 51.

(2)

في م: "عيينة". ينظر الجرح والتعديل 8/ 227.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مكاتبًا". والمكتب: المعلِّم. التاج (ك ت ب).

(4)

الكوم: المواضع المشرفة، واحدها كومة. النهاية 4/ 211.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منها".

(6)

هذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه، كما في حديث كعب بن مالك: فتخلفنا أيَّتُها الثلاثة. يريد تخلفهم عن غزوة تبوك وتأخر توبتهم. ينظر النهاية 1/ 88، واللسان (أيا).

(7)

في م: "ويكون الرسول عليكم شهيدا".

والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 144 إلى المصنّف. وأخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 1/ 276 - من طريق عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعى به. وينظر المؤتلف للدارقطني 4/ 2132.

(8)

في م: "وراد"، وفى ت 2، ت 3:"داود". ينظر الجرح والتعديل 7/ 26.

ص: 631

حَدَّثَنَا الأوزاعىُّ، عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي

(1)

الفضلِ، عن أبى هريرةَ، قال: خرَجْتُ مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في جِنازةٍ، فلما صُلِّى على الميت قال الناسُ: نِعمَ الرجلُ. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ". ثم خرَجْتُ معه في جِنازَةٍ أُخري، فلمّا صلَّوْا على الميتِ قال الناسُ: بئسَ الرجلُ. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ". فقام إليه أُبيُّ بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولُك: وَجَبَتْ؛ قال: "قولُ اللهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ".

وحَدَّثَنِي عليُّ بنُ سهلٍ الرمْليُّ، قال: حَدَّثَنَا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: حَدَّثَنِي أبو عمروٍ، عن يحيي، قال: حَدَّثَنِي عبدُ اللهِ بن أبى الفضلِ المدينيُّ، قال: حَدَّثَنِي أبو هريرةَ، قال: أُتى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بجِنازةٍ، فقال الناسُ: نِعمَ الرجلُ. ثم ذكَر نحوَ حديثِ عصامٍ، عن أبيه

(2)

.

[حَدَّثَنَا العباسُ بنُ الوليدِ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي الأوزاعيُّ، قال: حَدَّثَنِي يحيى بنُ أبى كثيرٍ، قال: حَدَّثَنِي عبدُ اللهِ، قال: حَدَّثَنِي أبو هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه]

(3)

.

وَحَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: حَدَّثَنَا زيدُ بنُ حُبَابٍ، قال: حَدَّثَنَا عكرمةُ بنُ عمارٍ، قال: حَدَّثَنِي إياسُ بنُ سلمةَ بنِ الأكوعِ، عن أبيه، قال: كنا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فمُرَّ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 249 (1334) من طريق الوليد به. وعبد الله بن إلى الفضل مجهول. وأخرجه أحمد 12/ 513، 16/ 287، 487 (7552، 10471، 10836)، وغيره عن أبي هريرة بمعناه دون ذكر أُبي بن كعب، وقال في آخره:"إنكم شهداء الله في الأرض".

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 632

بجنازةٍ عليه فأُثْنِى عليها ثناءٌ

(1)

حسنٌ، فقال:"وَجَبَتْ". ومُرَّ عليه بجِنازةٍ أُخْري، فأُثْنِى عليها دونَ ذلك، فقال:"وَجَبَتْ". قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما "وجَبَتْ؟ " قال: "الملائِكةُ شُهداءُ اللهِ في السماءِ، وأنتم شُهداءُ اللهِ في الأرضِ، فما شَهِدْتم عليه [من شيءٍ]

(2)

وَجَبَتْ". ثم قرَأ: "{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} "

(3)

الآية [التوبة: 105].

وحَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} : تكونوا شهداءَ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم على الأُممِ؛ اليهودِ والنصارَى والمجوسِ

(4)

.

وحَدَّثَنِي المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وحَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبى نجيحٍ، قال: يأْتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ القيامةِ بإذنِه

(5)

ليس معه أحدٌ، فتَشْهَدُ له أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن قد

(6)

بلَّغهم.

وحَدَّثَنِي المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شبلٌ، عن ابن أبى نَجيحٍ، عن أبيه، أنه سمِع عُبيد بنَ عُميرٍ [يقولُ. فذكَر](2) مثلَه

(7)

.

(1)

في م: "بثناء".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 368، وابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 1877 (10055)، والطبراني في الكبير (6259، 6262) من طرق عن إياس بن سلمة به.

(4)

تقدم أوله في ص 627.

(5)

في ت 2: "بادية"، وغير منقوطة في ت 1. وينظر الدر المنثور 1/ 146.

(6)

كتب مقابله في حاشية الأصل: "ربه لا صلى". ولم نهتد إلى صوابها.

(7)

تفسير مجاهد ص 215. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 146 إلى عبد بن حميد.

ص: 633

وحَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: حَدَّثَنِي ابنُ أبى نَجيحٍ، عن أبيه، قال: يأتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ القيامةِ. فذكَر مثلَه، ولم يذكُرْ عُبيدَ بنَ عُميرٍ

(1)

.

وحَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حَدَّثَنَا يزيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أى: أنَّ رسلَهم قد بلّغتْ قومَها عن ربِّها، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} على أنَّه قد بلَّغ رسالاتِ رِّبه إلى أُمتِه.

وحَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادَةَ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} : لتكونَ هذه الأمةُ شهداءَ على الناسِ أن الرسُلَ قد بلَّغتهم، ويكونَ الرسولُ على هذه الأمةِ شهيدًا أن قد بلَّغ ما أُرْسِل به

(2)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن زيدِ ابنِ أسلمَ، أنّ قومَ نوحٍ يقولون يومَ القيامةِ: لَمْ يبلِّغْنا نوحٌ. فيُدْعَى نوحٌ فيُسألُ: هل بلَّغتَهم؟ فيقولُ: نعم، [قد بلَّغتُهم]

(3)

. فيقالُ: من شُهودُك؟ فيقولُ: أحمدُ وأُمتُه. فتُدْعَوْن فتُسأَلون فتقولون: نعم قد بلَّغهم. فيقولُ قومُ نوحٍ: كيف تَشْهدون

(4)

علينا ولم تُدْرِكونا

(5)

؟ قالوا: قد جاءنا

(6)

نبيُّ اللهِ فأخبَرنا أنه قد بلَّغكم، وأُنزلَ عليه أنه قد بلَّغكم، فصدَّقْناه. قال: فيُصدَّق نوحٌ [ويكذبون هم]

(7)

. قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}

(8)

.

(1)

بعده في م: "مثله".

(2)

تفسير عبد الرزاق 9/ 60، 61.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في الأصل: "يشهدون".

(5)

في الأصل: "يدركونا".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جاء".

(7)

في م: "ويكذبونهم".

(8)

تفسير عبد الرزاق 1/ 61.

ص: 634

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرَنا عبد الرزّاق، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، أن الأممَ يقولون يومَ القيامةِ: واللهِ لقد كادت هذه الأمةُ أن يكونوا

(1)

أنبياءَ كلَّهم. لِما يَرَوْن اللهَ أعطاهم

(2)

.

وحدَّثنى المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ المباركِ، عن رِشدِينَ

(3)

بنِ سعدٍ، قال: أخبَرنى ابنُ أنعمٍ المَعافرِىُّ، عن حِبّانَ بنِ أبى جَبَلةَ، يُسْنِدُه

(4)

إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جمَع اللهُ عبادَه يومَ القيامَة كان أوَّلَ من يُدْعَى إسْرافيلُ، فيقولُ له ربُّه: ما فعَلْتَ في عَهْدى؟ هل بَلَّغْتَ عَهْدى؟ فيقولُ: نعم رَبِّ، قد بَلَّغْتُه جبْريلَ. فيُدْعَى جبْرِيلُ فيقالُ له: هل بَلَّغَك

(5)

إسْرافيلُ عَهْدى؟ فيقولُ: نعم ربِّ، قد بَلَّغنى. فيُخَلَّى عن إسرافيلَ، ويقالُ لجبريلَ: هل بَلَّغْتَ عَهْدى؟ فيقولُ: نعم قد بَلَّغْتُ الرُّسُلَ. فتُدْعَى الرسلُ فيقالُ لهم: هل بَلَّغَكم جبريلُ عَهْدِى؟ فيقولون: نعم رَبَّنا. فيُخَلَّى عن جبريلَ، ثم يقالُ للرسلِ: ما فَعَلتم بعَهْدى؟ فيقولون: بلَّغْنا أُمَمَنا. فتُدْعى الأُممُ فيقالُ: هل بَلَّغَكم الرسلُ عَهْدى؟ فمنهم المُكَذِّبُ، ومنهم المُصدِّقُ، فتقولُ الرسلُ: إن لنا عليهم شُهودًا يَشْهَدون أنْ قد بَلَّغْنا مع شَهادتِك. فيقولُ: من يَشْهَدُ لكم؟ فيقولون: أُمَّةُ أحمدَ. فتُدْعَى أُمةُ أحمدَ. فيقولُ: أتَشْهَدُون أن رُسُلى هؤلاء قد بَلَّغوا عَهْدى إلى من أُرْسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم رَبَّنا، شهِدْنا أنْ قد بَلَّغوا. فتقولُ تلك الأُممُ: ربَّنا

(6)

، كيف يَشْهَدُ علينا من لَمْ يُدْرِكْنا؟ فيقولُ لهم الرَّبُّ: كيف تَشْهَدون على من لَمْ تُدْرِكوا؟

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تكون".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 61.

(3)

في م: "راشد"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"رشد".

(4)

في م: "بسنده".

(5)

في م: "بلغت".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 635

فيقولون: رَبَّنا بَعَثْتَ إلينا رسولًا، وأنزَلْت إلينا عهْدَك وكتابَك، وقصَصْتَ علينا أنهم قد بَلَّغُوا، فشهِدْنا بما عَهِدْتَ إلينا. فيقولُ الرَّبُّ: صَدَقُوا. فذلك قولُه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . والوسطُ العدلُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ". قال ابنُ أنعمٍ: فبلَغنى أنه يشهَدُ يومئذٍ أمةُ محمدٍ إلَّا من كان في قلبِه حِنَةٌ

(1)

على أخيه

(2)

.

حَدَّثَنَا المثنَّي، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ، قال: حَدَّثَنَا أبو زهيرٍ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} : يَعنى بذلك الذين استَقاموا على الهدَي، فهم الذين يكونون شهداءَ على الناسِ يومَ القيامةِ، لتكذيبِهم رسلَ اللهِ، وكفرِهم بآياتِ اللهِ.

وحدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . يقولُ: لتكونوا شهداءَ على الأُمَمِ الذين خلَوْا من قبلِكم بما جاءتهم به

(3)

رسلُهم، وبما كذَّبوهم، فقالوا يومَ القيامةِ وعجِبوا: إن أمةً لَمْ يكونوا في زمانِنا، فآمَنوا بما جاءَت به رسلُنا، وكذَّبْنا نحن بما جاءُوا به! فعجِبوا كلَّ العجبِ

(4)

.

وقولُه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يعنى: بإيمانِهم به، وبما أُنزِل عليه.

(1)

الحنة: العداوة، وهى لغة قليلة في الإحنة. النهاية 1/ 453.

(2)

إسناده مرسل ضعيف؛ رشدين وعبد الرَّحمن بن زياد بن أنعم ضعيفان. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1598)، ومن طريقه ابن أبى الدنيا في الأهوال (237).

(3)

سقط من، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 249 (1335) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية، بأوله.

ص: 636

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمِّي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} : يعنى أنهم شهداءُ

(1)

على القرونِ بما سمَّى اللهُ لهم.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: قلتُ لعطاءٍ: ما قولُه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} قال: أمةُ محمدٍ شُهداءُ

(1)

على من ترَك الحقَّ حين جاءَه، [والإيمانَ]

(2)

والهدَى ممن كان قبلَنا. [وقالها]

(3)

عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ. قال: وقال عطاءٌ: هم

(4)

شهداءُ على من ترَك الحقَّ، من

(5)

ترَكه من الناسِ أجمعين، جاء ذلك أمةَ محمدِ في كتابِهم، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} على أنَّهم قد آمَنوا بالحقِّ حين جاءهم، وصدَّقوا به

(6)

.

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّتِه، وهم شهداءُ على الأُمَمِ، وهم أحدُ الأشهادِ الذين قال اللهُ:{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51][والأشهادُ أربعةٌ:]

(7)

الملائكةُ الذين يُحصُون أعمالَنا، لنا وعلينا. وقرَأ قولَه:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] وقال: هذا يومُ القيامةِ. قال: والنبيُّون شهداءُ على أُممِهم. قال: وأمةُ محمدٍ شهداءُ

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"شهدوا".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإيمان".

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"قالها".

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

في م: "ممن".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 250 (1337) من طريق حجاج به.

(7)

في م: "الأربعة".

ص: 637

على الأُممِ. قال: والأطوارُ الأجسادُ والجلودُ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} : ولم نجعَلْ صرْفَك عن القبلةِ التى كنتَ على التوجُّهِ إليها يا محمدُ، فصرَفْناكَ عنها، إلَّا لنعلَمَ من يتَّبِعُك

(2)

ممن ينقلِبُ على عَقِبيه.

والقبلةُ التى كان صلى الله عليه وسلم عليها، التى عناها اللهُ بقولِه:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} ، هى القبلةُ التى [كان يتوجَّهُ]

(3)

إليها قبلَ أن يَصْرِفَه

(4)

إلى الكعبةِ.

كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ قال: حَدَّثَنَا عمرُو بنُ حمادٍ، عن أسباطَ، عن السُّدِّىَّ:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} يَعنى بيتَ المقدِس

(5)

.

حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: حَدَّثَنَا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} ؟ قال: القبلةُ بيتُ المقدسِ

(6)

.

وإنما ترَك ذكرَ الصرفِ عنها اكتِفاءً بدَلالةِ ما قد ذُكِر من الكلامِ على معْناه،

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 352 إلى المصنّف وابن أبي حاتم، بلفظ: الأشهاد أربعة. . . .

وقوله: "الأطوار". لعل الصواب: "الأطراف". وفى التبيان 2/ 7: قال ابن زيد: الأشهاد أربعة. . . . والجوارح كما قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

(2)

بعده في م: "ممن لا يتبعك".

(3)

في م: "كنت تتوجه".

(4)

في م: "يصرفك".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 250 عقب الأثر (1340) عن أبي زرعة، عن عمرو به.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 250 (1340) من طريق حجاج به.

ص: 638

كسائرِ ما قد ذكرْنا فيما مضَى من نظائرِه

(1)

.

وإنما قلنا ذلك معْناه؛ لأن محنةَ اللهِ أصحابَ رسولِه في القبلةِ إنما كانت -فيما تظاهَرَت به الأخبارُ- عند التحويلِ من بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ، حتى ارتدَّ -فيما ذُكر- رجالٌ ممن كان قد أسلَم واتَّبعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأظهَر

(2)

كثيرٌ من المنافقين من أجلِ ذلك نفاقَهم، وقالوا: ما بالُ محمدٍ يحوِّلُنا مرَّةً إلى ههنا، ومرَّةً إلى ههنا. ومرَّةً إلى ههنا. وقال المسلمون [في أنفسِهم وفي من]

(3)

مضَى من إخوانِهم المسلمين، وهم يصلُّون نحوَ بيتِ المقدسِ: بطَلَتْ أعمالُنا وأعمالُهم وضاعتْ. وقال المشرِكون: تحيّرَ محمدٌ في دينِه. فكان ذلك فتنةً للناسِ وتمحيصًا للمؤمنين، فلذلك قال جل ثناؤُه:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} بمعْنى

(4)

: وما جعلْنا صرْفَك عن القبلةِ التى كنتَ عليها. وتحويلَك إلى غيرِها. كما قال جل ثناؤُه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] بمعنى: وما جعلْنا خبرَك عن الرُّؤْيا التى أرَيناك. وذلك أنه لو لم يكنْ أخبرَ القومَ بما كان أُرِىَ صلى الله عليه وسلم، لم يكنْ فيه على أحد فتنةٌ. وكذلك القبلةُ الأُولى التى كانت نحوَ بيتِ المقدسِ لو لم يكنْ صرفٌ عنها إلى الكعبةِ، لم يكنْ فيها على أحدٍ فِتْنةٌ ولا محنةٌ.

‌ذِكرُ الأخبارِ التى رُوِيت في ذلك بمعْنى ما قلنا

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قال:

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 139 - 141، 178 - 180.

(2)

في الأصل: "أصر".

(3)

في م: "فيما".

(4)

في م: "أى".

ص: 639

كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتَمْحيصٌ، صلَّتِ الأنصارُ نحوَ بيتِ المقدسِ حولَيْن قبل قدومِ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ

(1)

، وصلَّى نبيُّ اللهِ بعد قُدومِه المدينةَ مهاجرًا نحوَ بيتِ المقدسِ ستةَ

(2)

عَشرَ شهرًا، ثم وَجَّهه اللهُ بعدَ ذلك إلى الكعبةِ البيتِ الحرامِ، فقال في ذلك قائلُون من الناسِ:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟ لقد اشتاقَ الرجلُ إلى مولدِه! قال اللهُ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فقال أناسٌ لمّا صُرِفت القبلةُ نحوَ البيتِ الحرامِ: كيف بأعمالِنا التى كنا نعمَلُ في قبلتِنا الأُولَى؟ فأنزلَ اللهُ جل ثناؤُه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، وقد يَبْتلى اللهُ العبادَ بما شاء من أمرِه، الأمرَ بعدَ الأمرِ؛ ليعلمَ من يُطيعُه ممن يَعصِيه، وكلُّ ذلك مقبولٌ إذا كان في إيمانٍ باللهِ، وإخلاصٍ له، وتَسليمٍ لقضائِه

(3)

.

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلِّى قِبَلَ بيتِ المقدس، فنَسَختها الكعبةُ، فلمّا تَوجَّه قِبلَ المسجدِ الحرامِ، اختلفَ الناسُ فيها فكانوا أصنافًا؛ فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلةٍ زمانًا، ثم ترَكوها وتوجَّهُوا

(4)

غيرَها؟ وقال المسلمون: ليت شِعْرَنا عن إخوانِنا الذين ماتوا وهم يصلُّون قِبلَ بيتِ المقدسِ، هل تَقبَّل اللهُ منّا ومنهم أم لا؟ وقالت اليهودُ: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولدِه، ولو ثبَت على قبلتِنا، لكنا نرجُو أن يكونَ هو صاحبَنا الذي ننتظِرُ. وقال المشرِكون من أهلِ مكةَ: تحيّرَ [محمدٌ على]

(5)

دينِه،

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "سبعة".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وتقدم أوله في ص 624، 625.

(4)

بعده في م: "إلى".

(5)

في م: "على محمد".

ص: 640

فتوجَّه بقبلتِه إليكم، وعلِم أنكم كنتم أهدَى منه، ويوشِكُ أن يدخُلَ في دينِكم. فأنزَل اللهُ في المنافقين:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إلى قولِه: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} وأنزلَ في الآخَرين الآياتِ بعدَها

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ؟ فقال عطاءٌ: يَبْتليهم ليعلمَ من يُسلِمُ لأمرِه. قال ابنُ جُريجٍ: بلَغنى أن ناسًا ممن أسلَم رجَعوا فقالوا: مرَّةً ههنا ومرَّةً ههنا

(2)

!

فإن قال لنا قائلٌ: أوَ ما كان اللهُ عالمًا بمن يتَّبعُ الرسولَ ممن ينقلِبُ على عَقِبيه، إلا بعدَ اتِّباعِ المتَّبعِ، وانقلابِ المنْقلِبِ على عَقِبيه، حتى قال: ما فعَلْنا الذي فعَلْنا من تحويلِ القبلةِ إلا لنعلَمَ المتَّبِعَ رسولَ اللهِ من المنقلِبِ على عَقِبيه؟

قيل: إن اللهَ جل ثناؤُه هو العالمُ بالأشياءِ كلِّها قبلَ كونِها، وليس قولُه:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [بخبرٍ عن]

(3)

أنه لم يعلَمْ ذلك إلا بعدَ وجودِه.

فإن قال: فما معْنى ذلك؟

قيل له: أمّا معْناه عندَنا فإنه: وما جعَلْنا القبلةَ التى كنتَ عليها إلا ليعلمَ رسولى وحِزْبى وأوْليائِي مَن يتَّبِعُ الرسولَ ممن ينقلِبُ على عَقِبيه، فقال جل ثناؤُه: {إِلَّا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 142 إلى المصنف. وتقدم أوله في ص 624. وينظر ما سيأتى في ص 687.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 251 عقب الأثر (1342) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 146 إلى المصنف.

(3)

في م: "يخبر".

ص: 641

لِنَعْلَمَ}. ومعناه: ليعلَمَ رسولى وأوليائِى. إذْ كان رسولُه وأولياؤُه من حزْبِه، وكان من شأنِ العربِ إضافةُ ما فعَلته أتباعُ الرئيسِ إلى الرئيسِ، وما فعَل بهم إليه، نحوَ قولِهم: فتَح عمرُ بنُ الخطابِ سوادَ العراقِ، وجبَى خراجَها. وإنما فعَل ذلك أصحابُه عن سببٍ كان منه في ذلك.

وكالذي رُوِى في نظيرِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقولُ اللهُ: مَرِضْتُ فلم يَعُدْنى عَبْدى، واسْتقْرَضْتُه فلم يُقْرِضْنى، وشَتَمَنى ولم يَنْبَغِ له أن يَشْتُمَنى".

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا خالدٌ، عن محمدِ بنِ جعفرٍ، عن العلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يقولُ

(1)

اللهُ: استقْرَضْتُ عَبْدى فلم يُقْرِضنى، وشَتَمَنى ولم يَنْبَغِ له أن يَشْتُمَنى، يقولُ: وادَهْراه. [وأنا]

(2)

الدهْرُ، أنا الدهْرُ".

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن العلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.

فأضاف تعالى ذكرُه الاستقراضَ والعيادةَ إلى نفسِه، وإن

(3)

كان ذلك بغيرِه، إذْ كان ذلك عن سَببِه.

وقد حُكِى عن العربِ سماعًا: أجوعُ في غيرِ بطنى، وأعْرَى في غيرِ ظهرِى. بمعنى جوعِ أهلِه وعيالِه، وعُرْىِ ظهورِهم. فكذلك قولُه:{إِلَّا لِنَعْلَمَ} بمعنى:

(1)

في م: "قال".

(2)

في الأصل: "أنا".

(3)

في م: "قد".

ص: 642

يعلَمُ أوليائى وحِزْبى. وبنحوِ ما

(1)

قلْنا في ذلك [قالت جماعةٌ من]

(2)

أهلِ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدثنى معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} . قال ابنُ عباسٍ: لنَميزَ أهلَ اليقينِ من أهلِ الشكِّ

(3)

والرِّيبةِ

(4)

.

وقد

(5)

قال بعضُهم: إنما قيلَ ذلك من أجلِ أن العربَ تضَعُ العِلْمَ مكانَ الرؤْيةِ، والرؤيةَ مكانَ العلمِ، كما قال جل ثناؤُه:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، فزعَم أن معنى:{أَلَمْ تَرَ} ألم تعْلَمْ؟ وزعَم أن معنى قولِه: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} بمعنى: إلا لنَرى من يتّبعُ الرسولَ. وزعَم أن قولَ القائلِ: رأيْتُ وعلِمتُ وشهِدتُ. حروفٌ تتعاقَبُ، فيوضَعُ بعضُها موضعَ بعضٍ، كما قال جريرُ ابنُ عطيةَ

(6)

:

كأنّك لم تَشْهَدْ لَقِيطًا وحاجِبًا

وعمرَو بنَ عمرٍو إذ دعا

(7)

يا لدارِمِ

بمعنى: كأنك لم تعلَمْ لقيطًا؛ لأن بينَ هُلْكِ لَقيطٍ وحاجبٍ وزمانِ جريرٍ ما لا يَخْفى بُعدُه من المُدَّةِ، وذلك أن الذين ذكَرهم هلَكوا في الجاهليةِ، وجريرٌ كان بعدَ

(1)

في م: "الذي".

(2)

في م: "قال".

(3)

في م: "الشرك".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 250 (1341) من طريق أبي صالح به.

(5)

سقط من: م.

(6)

ديوان جرير 2/ 1004.

(7)

في الديوان: "دعوا".

ص: 643

بُرهةٍ مضَت من مجئِ الإسلامِ.

وهذا تأويلٌ بعيدٌ؛ من أجلِ أن الرؤْيةَ وإن استُعْملت في موضعِ العلمِ، من أجلِ أنه مستحِيلٌ أن يَرَى أحدٌ شيئًا، فلا توجِبُ له

(1)

رؤيتُه إياه علْمًا بأنه قد رآه، إذا كان صحيحَ الفِطرةِ، فجاز من الوجهِ الذي أثبَتَه رؤيةً أن يُضافَ إليه إثباتُه إياه علْمًا، وصحَّ أن يدُلَّ بذكرِ الرؤيةِ على معنى العلمِ من أجلِ ذلك، فليس ذلك وإن جاز

(2)

في الرؤيةِ -لما وصفْنا- بجائزٍ في العلمِ، فيدُلَّ بذكرِ الخبرِ عن العلمِ على الرؤْيةِ؛ لأن المرءَ قد يعلَمُ أشياءَ كثيرةً لم يرَها ولا يراها، ويستَحِيلُ أن يَرى شيئًا إلا علِمه، [على ما]

(3)

قد قدَّمنا البيانَ، مع أنه غيرُ موجودٍ في شيءٍ من كلامِ العربِ أن يقالَ: علِمتُ كذا. بمعنى: رأيتُه. وإنما يجوزُ توجيهُ معانى ما في كتاب اللهِ الذي أنزَله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الكلامِ، إلى ما كان موجودًا مثلَه في كلامِ العربِ، دونَ ما لم يكنْ موجودًا في كلامِها، فموجودٌ في كلامِها: رأيتُ

(4)

بمعنى: علِمتُ

(5)

. وغيرُ موجودٍ في كلامِها: علِمتُ

(5)

بمعنى: رأيتُ

(4)

. فيجوزُ توجيهُ قولِه

(1)

: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} إلى معنى: إلَّا لنرَى.

وقال آخرون: إنما قيل: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} من أجلِ أنّ المنافقين واليهودَ وأهلَ الكفرِ باللهِ أنكَروا أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه يعلَمُ الشئَ قبلَ كونِه، وقالوا -إذْ قيل لهم: إن قومًا من أهلِ القبلةِ سيرْتدُّون على أعقابِهم إذا حُوِّلت قبلةُ محمدٍ إلى الكعبةِ-: ذلك غيرُ كائنٍ. أو قالوا: ذلك باطلٌ. فلمَّا فعَل اللهُ ذلك، وحوَّل القبلةَ، وكفَر من أجلِ

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "كان".

(3)

في م: "كما".

(4)

في الأصل: "أرأيت".

(5)

في الأصل: "أعلمت".

ص: 644

ذلك من كفَر، قال جل ثناؤه: ما فعَلتُ إلا ليُعلَمَ

(1)

عندَكم -أيها

(2)

المنكِرون علْمِى بما هو كائنٌ من الأشياءِ قبل كونِه- أنى عالمٌ بما هو كائِنٌ مما لم يكنْ بَعدُ.

فكأنّ معْنى قائِلِى

(3)

هذا القولِ في تأويلِ قولِه: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} : إلا ليتبيَّن

(4)

لكم أنّا نعلمُ من يتَّبعُ الرسولَ ممّن ينقلبُ على عَقِبَيْه. وهذا وإنْ كانَ وجهًا لهُ مَخْرجٌ، فبعيدٌ من المفهومِ.

وقال آخرون: إنّما قيل: {لِنَعْلَمَ} -وهو بذلك عالمٌ قبلَ كونِه، وفي [حالِ كونِه]

(5)

- على وجهِ الترفُّقِ

(6)

بعبادِه واستمالتِهم إلى طاعتِه، كما قال جلَّ ثناؤه:{قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وقد عَلِم أنه على هدًى وأنهم على ضلالٍ مبينٍ، ولكنَّه رفَق بهم في الخطابِ، فلم يقُلْ: إنا على هدًى وأنتم على ضلالٍ. فكذلك قولُه: {إِلَّا لِنَعْلَم} معناه عندَهم: إلا لتعلَموا أنتم إذْ كنتم جُهّالًا به قبلَ أن يكونَ. فأضاف العلمَ إلى نفسِه، رفقًا بخطابِهم.

وقد بينَّا القولَ الذي هو أولَى

(7)

ذلك بالحقِّ.

فأما قولُه: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} . فإنه يعنى: الذي يتَّبعُ محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولَ اللهِ، فيما يأمرُه اللهُ به، فيتوَجَّهُ

(8)

نحوَ الوجهِ الذي يتوجَّهُ نحوَه محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

(1)

في م: "لنعلم ما".

(2)

بعده في م: "المشركون".

(3)

في م: "قائل".

(4)

في م: "لنبين".

(5)

في م: "كل حال".

(6)

في م: "الترفيق".

(7)

بعده في م: "في".

(8)

في م: "فيوجه".

ص: 645

وأما قولُه: {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} فإنه يعنى به

(1)

: من الذي يرتدُّ عن دينِه، فيُنافقُ، أو يكفُرُ، أو يخالفُ محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذلك، ممن يُظهِرُ اتِّباعَه.

كما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} قال: من إذا دخَلته شبهةٌ رجَع عن اللهِ، وانقَلب كافرًا على عَقِبيْه.

وأصلُ المرتدِّ على عَقِبيه - [وهو]

(2)

المنقلِبُ على عَقِبيه- الراجِعُ مستدبِرًا في الطريقِ الذي قد كان قطَعه، منصرِفًا عنه، فقيل ذلك لكلِّ راجعٍ عن أمرٍ كان فيه، من دينٍ أو خبرٍ

(3)

، ومن ذلك قولُه:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] بمعنى: رجَعا في الطريقِ الذي كانا سلَكاه.

وإنما قيل للمرتدِّ: مُرتدٌّ. [من ذلك]

(4)

؛ لرُجوعِه عن دينِه وملَّتِه التى كان عليها. وإنما قيل: رجَع على عَقِبيه. لرُجوعِه دُبُرًا علَى عَقِبيْه

(5)

إلى الوجهِ الذي كان فيه بدءُ سيرِه قبلَ مرجِعِه عنه. فجُعل

(6)

ذلك مثلًا لكلِّ تاركٍ أمرًا وآخذٍ آخرَ غيرَه، إذا انصَرف عما كان فيه إلى الذي كان له تاركًا فأخذَه، فقيل: ارتدَّ فلانٌ على عَقِبيْه (5)، وانقلَب على عَقِبيْه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} .

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "هو".

(3)

في م: "خير".

(4)

سقط من: م.

(5)

في م: "عقبه".

(6)

في م: "فيجعل".

ص: 646

اختلَف أهلُ التأويلِ في التى وصَفها اللهُ جل ثناؤه بأنها كانت كبيرةً إلا على الذين هدَى اللهُ.

فقال بعضُهم: عنَى جل ثناؤُه بالكبيرةِ التوليةَ من بيتِ المقدسِ شطرَ المسجدِ الحرامِ والتحويلةَ

(1)

، وإنما أُنِّثت

(2)

الكبيرةُ لتأنيثِ التوليةِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ [قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ]

(3)

، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ: قال اللهُ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} يعنى: تحويلَها

(4)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: حدَّثنا الضّحّاكُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: حدَّثنا عيسى بنُ ميمونٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} قال: ما أُمِروا به [من التَّحوُّلِ]

(5)

إلى الكعبةِ من بيتِ المقدسِ

(6)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

(1)

في م: "التحويل".

(2)

في م: "أنث".

(3)

سقط من: م.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 251 (1344) من طريق عبد الله بن صالح به.

(5)

في الأصل: "في التحويل".

(6)

تفسير مجاهد ص 216، ومن طريقه ابن أبي حاتم 1/ 251 (1343)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 146 إلى عبد بن حميد.

ص: 647

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه. {لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ}. قال: كبيرةٌ حين حُوِّلتِ القبلةُ إلى المسجدِ الحرامِ، فكانت كبيرةً إلا على الذين هدَى اللهُ

(1)

.

وقال آخرون: بل الكبيرةُ هى القبلةُ بعينِها التى كان صلى الله عليه وسلم يتوجَّهُ إليها من بيتِ المقدسِ قبلَ التحويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، [عن الربيعِ]

(2)

عن أبى العاليةِ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} . أى قبلةَ بيتِ المقدسِ: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ}

(3)

.

وقال بعضُهم: بل الكبيرةُ هى الصلاةُ التى كانوا صلَّوْها

(4)

إلى القبلةِ الأُولى.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} قال: صلاتَكم حتى يَهِديَكم اللهُ القبلةَ

(5)

.

وقد حدَّثنى

(6)

يونسُ مرَّةً أُخرى فقال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ:

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 61، 62.

(2)

سقط من النسخ، وهو من الأسانيد الدائرة.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 251 عقب الأثر (1343) من طريق أبي جعفر به.

(4)

في م: "يصلونها".

(5)

سيأتى بتمامه في ص 650.

(6)

بعده في م: "به".

ص: 648

{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} . قال: صلاتَكم

(1)

ههنا -يعنى إلى بيتِ المقدسِ ستةَ عشرَ شهرًا- وانحرافَكم

(2)

ههنا.

وقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: أُنِّثت الكبيرةُ لتأنيثِ القبلةِ، وإيّاها عنَى جل ثناؤُه بقولِه:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} .

وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: بل أُنِّثث الكبيرةُ لتأنيثِ التوليةِ والتحويلةِ.

فتأويلُ الكلامِ على معنَى ما تأوَّلَه قائلُو هذه المقالةِ: وما جعلَنا تحويلَتَنا إيّاكَ عن القبلةِ التى كنتَ عليها وتولِيتَنَاكَ عنها، إلا لنعلَمَ من يتبِعُ الرسولَ ممن ينقلِبُ على عَقِبيْه، وإن كانت تحويلَتُنا إياك عنها وتولِيتُنَاكَ لكبيرةً إلا على الذين هدَى اللهُ.

وهذا التأويلُ أولَى التأويلاتِ عندى بالصوابِ؛ لأن القومَ إنما كبُر عليهم تحويلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجهَه عن القبلةِ الأولَى إلى الأُخْرى، لا عينُ القبلةِ، ولا الصلاةُ؛ لأن القبلةَ الأولَى والصلاةَ قد كانت وهى غيرُ كبيرةٍ عليهم. إلا أن يُوجِّهَ موجِّهٌ تأنيثَ الكبيرةِ إلى القبلةِ، ويقولَ: اجتُزِئ بذكرِ القبلةِ من ذكرِ التوليةِ والتحويلةِ؛ لدَلالةِ الكلامِ على معنى ذلك. كما قد وصفنا ذلك

(3)

في نظائرِه

(4)

، فيكونَ ذلك وجهًا صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا.

ومعنَى قولِه: {لَكَبِيرَةً} : عظيمةً.

(1)

في م: "صلاتك".

(2)

في م: "انحرافك".

(3)

في م: "لك".

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 39 - 141، 178 - 180، 2/ 638، 639.

ص: 649

كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} قال: كبيرةٌ في صدورِ الناسِ، فيما يدخُلُ الشيطانُ به ابنَ آدمَ، قال: ما لهم صلَّوْا إلى ههنا ستةَ عشرَ شهرًا ثم انحرفُوا! فكبُر

(1)

في صُدورِ من لا يعرِفُ ولا يعقِلُ والمنافقين، قالوا: أيُّ شيءٍ هذا الدينُ؟ وأما الذين آمنوا فثبَّت اللهُ ذلك في قلوبهم. وقرَأ قولَ اللهِ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} . قال: صلاتُكم حتى يَهدِيَكم للقبلةِ.

وأما قولُه: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} فإنه يعنى به: وإن [كانت نَقْلَتُناكَ]

(2)

عن القبلةِ التى كنتَ عليها لعظيمةً إلا على من وفَّقه اللهُ فهَداه لتصديقِك، والإيمانِ

(3)

بذلك، واتباعِك فيه، وفيما أنزلَ اللهُ عليك.

كما حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} . يقولُ: إلا على الخاشِعين، يعْنى المصدِّقين بما أنزَل اللهُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قيل: عَنَى بالإيمانِ في هذا الموضعِ الصلاةَ.

‌ذكرُ الأخبارِ التى رُوِيت بذلك وذكرُ قولِ من قاله

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ وعُبيدُ اللهِ، وحدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، جميعًا عن إسرائيلَ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن

(1)

بعده في م: "ذلك".

(2)

في م: "كان تقليبتناك".

(3)

بعده في م: "بك و".

ص: 650

ابنِ عباسٍ، قال: لما وُجِّه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الكعبةِ قالوا: كيف بمن مات من إخوانِنا قبلَ ذلك وهم يصلُّون نحوَ بيتِ المقدسِ؟ فأنزلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}

(1)

.

حدَّثنى إسماعيلُ بنُ موسى السُّدِّىُّ، قال: أخبرنا شَرِيكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ في قولِ اللهِ عز وجل:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال: صلاتكُم نحوَ بيتِ المقدسِ

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازِيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبيرِيُّ، قال: حدَّثنا شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ نحوَه.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ نُفَيلٍ

(3)

الحرّانيُّ، قال: حدَّثنا زهيرٌ، قال: حدَّثنا أبو إسحاقَ، عن البراءِ، قال: مات على القبلةِ قبلَ أن تُحوَّلَ إلى البيتِ رجالٌ وقُتلوا، فلم ندْرِ ما نقولُ فيهم، فأنزلَ اللهُ:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}

(4)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ،

(1)

أخرجه أحمد 5/ 298 (3249) -ومن طريقه الخلال في السنة (1143) - والترمذى (2964)، وابن حبان (1717) من طريق وكيع به. وأخرجه الدارمي 1/ 281، والحاكم 2/ 269 من طريق عبيد الله بن موسى به. وأخرجه أحمد 4/ 426، 495، 5/ 118 (2691، 2774، 2964)، والطبراني في الكبير (11729) من طرق عن إسرائيل به. وأخرجه الطيالسي (2795 - طبعتنا)، وأبو داود (4680) من طريق سماك به.

(2)

أخرجه الطيالسي (758 - طبعتنا)، وسعيد بن منصور في سننه (225 - تفسير)، والخلال في السنة (1142)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 251 (1347)، وأبي عمر وعثمان بن محمد السمرقندي في الفوائد المنتقاة ص (85)، وابن منده في الإيمان (168) من طرق عن شريك به.

(3)

بعده في م: "عن".

(4)

تقدم أوله في ص 620.

ص: 651

قال: قال أناسٌ من الناسِ لما صُرِفَت القبلةُ نحوَ البيتِ الحرامِ: كيف بأعمالِنا التى كنا نَعملُ في قبلَتِنا الأُولى

(1)

؟. فأنزل اللهُ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: لما توجَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ المسجدِ الحرامِ، قال المسلمون: ليت شِعْرَنا عن إخوانِنا الذين ماتوا وهم يصلُّون قِبَلَ بيتِ المقدسِ، هل تقبَّل اللهُ منَّا ومنهم أم لا؟ فأنزَل اللهُ فيهم:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال: صلاتَكم قِبَلَ بيتِ المقدسِ. يقولُ: إن تلك كانت

(1)

طاعةً وهذه طاعةٌ.

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيهِ، عن الربيعِ، قال: قال ناسٌ لما صُرِفت القبلةُ إلى البيتِ الحرامِ: كيف بأعمالِنا التى كنا نعملُ في قبلَتِنا الأولَى؟ فأنزلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريحٍ: أخبرَنى داودُ بنُ أبى عاصمٍ، قال: لما صُرِف [رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم]

(2)

إلى الكعبةِ، قال المسلمون: هلَك أصحابُنا الذين كانوا يصلُّون إلى بيتِ المقدسِ. فنزَلت: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبي، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يقولُ: صلاتَكم التى صلَّيتم

(3)

من قبلِ أن تكونَ القبلةُ. وكان المؤمنون قد أشفَقوا على من

(1)

سقط من: م.

(2)

زيادة من: م.

(3)

في م: "صليتموها".

ص: 652

صلَّى منهم أن لا تُقبلَ صلاتُهم

(1)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال

(2)

: صلاتَكم.

حدَّثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ الضِّرارىُّ

(3)

، قال: أخبرنا مؤمَّلٌ، قال: حدَّثنا سفيانُ، حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ فى هذه الآيةِ:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال: صلاتَكم نحوَ بيتِ المقدسِ.

قال أبو جعفرٍ: قد دلَّلْنا فيما مضَى على أن معنَى (2) الإيمانِ التصديقُ، وأن التصديقَ قد يكونُ بالقولِ وحدَه، وبالفعلِ وحدَه، وبهما جميعًا

(4)

.

فمعنى قولِه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} -على ما تظاهَرتْ به الرِّوايةُ من أنه الصلاةُ-: وما كان اللهُ ليُضيعَ تصديقَكم

(5)

رسولَه عليه الصلاة والسلام بصلاتِكم التى صلَّيتُموها نحوَ بيتِ المقدسِ عن أمرِه؛ لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولى، واتِّباعًا لأمرِى، وطاعةً منكم لى

(6)

. وإضاعتُه إياه جل ثناؤُه -لو أضاعَه- تركُ إثابةِ أصحابِه وعامليه عليه، فيذهَبُ ضياعًا، ويصيرُ باطلًا، كهيئةِ إضاعةِ الرجلِ مالَه، وذلك إهلاكُه إياه فيما لا يَعتاضُ منه عِوَضًا فى عاجلٍ ولا آجلٍ. فأخبرَ اللهُ جل ثناؤُه أنه لم يكنْ بالذى

(7)

يُبطِلُ عمَلَ عاملٍ عمِل له عملًا وهو له طاعةٌ، فلا يُثيبُه عليه، وإن نُسِخ ذلك الفرضُ بعدَ عملِ العاملِ إياه على ما كلَّفه من عملِه.

(1)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 146 إلى المصنف.

(2)

سقط من: م.

(3)

فى م: "الفزارى". وينظر تهذيب الكمال 24/ 482.

(4)

ينظر ما تقدم فى 1/ 240، 241.

(5)

فى م: "تصديق".

(6)

بعده فى م: "قال".

(7)

سقط من ت م، وفى ت 1:"عمل".

ص: 653

فإن قال لنا

(1)

قائلٌ: وكيف قال اللهُ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فأضاف الإيمانَ إلى الأحياءِ المخاطَبين، والقومُ المخاطَبون بذلك إنما كانوا أشفَقُوا على إخوانِهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلُّون نحوَ بيتِ المقدسِ، وفى ذلك من أمرِهم أُنزلت هذه الآيةُ؟

قيل: إن القومَ وإن كانوا قد

(1)

أشفَقوا من ذلك، فإنهم أيضًا قد كانوا مشفِقين من حُبوطِ ثوابِ صلاتِهم التى صلَّوْها إلى بيتِ المقدسِ قبلَ التحْويلِ إلى الكعبةِ، وظنُّوا أن عملَهم ذلك قد بطَل وذهَب ضياعًا، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ حينَئذٍ، فوجَّه الخطابَ بها إلى الأحياءِ ودخَل فيهم الموتَى منهم؛ لأن من شأنِ العربِ إذا اجتَمع فى الخبرِ المخاطَبُ والغائبُ، أن يُغَلِّبوا المخاطَبَ، فيُدْخلوا

(2)

الغائبَ في الخطابِ، فيقولُوا لرجلٍ خاطَبوه على وجهِ الخبرِ عنه، وعن آخرَ غائبٍ غيرِ حاضرٍ: فعلْنا بكما وصنعْنا بكما. كهيئةِ خِطابِهم لهما وهما حاضِران، ولا يَسْتجِيزون أن يقولوا: فعلْنا بهما. وهم يُخاطِبون أحدَهما، فردُّوا

(3)

المخاطَبَ إلى عدادِ الغائبِ

(4)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثثاؤُه: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} .

ومعنى قولِه جلّ ثناؤه: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أن اللهَ بجميعِ عبادِه ذُو رأفةٍ. والرأفةُ على معانى الرحمةِ، وهى عامةٌ لجميعِ الخلقِ فى الدنيا ولبعضِهم فى الآخرةِ، وأمّا الرحيمُ، فإنه ذُو الرحمةِ للمؤمنين فى الدنيا والآخرةِ على ما قد بيَّنا فيما مضَى قبلُ

(5)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

فى م: "فيدخل".

(3)

فى م: "فيردوا".

(4)

فى م: "الغيب". وهما بمعنى. وينظر ص 188.

(5)

ينظر ما تقدم فى 1/ 124 - 134.

ص: 654

وإنما أراد جل ثناؤُه بذلك أن اللهَ أرحمُ بعبادِه من أن يُضِيعَ لهم طاعةً أطاعُوه بها فلا يُثِيبَهم عليها، وأرأفُ بهم من أن يُؤاخذَهم بتركِ ما لم يَفرِضْ عليهم، أى: فلا تأسَوْا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلُّون إلى بيتِ المقدسِ، فإنى لهم -على طاعتِهم إياىَ بصلاتِهم التى صلَّوها كذلك - مثيبٌ؛ لأنى أرحمُ بهم من أن أُضيعَ لهم عملًا عمِلوه لى، ولا تحزَنُوا عليهم، فإنى غيرُ مؤاخِذِهم بتركِهم الصلاةَ إلى الكعبةِ؛ لأنى لم أكنْ فرضْتُ ذلك عليهما، وأنا أرأفُ بخلقى من أن أعاقِبَهم على تركِهم ما لم آمرْهم بعملِه.

وفى الرءوفِ لغاتٌ: إحداها، "رَؤُفٌ" على مثالِ (فعُل)، كما قال الوليدُ بنُ عقبةَ

(1)

:

وشَرُّ الطّالبين

(2)

فلا تَكُنْهُ

بقاتِلِ

(3)

عَمِّه الرَّؤُفُ الرَّحيمُ

وهى قراءةُ عامَّةِ قرَأةِ أهلِ الكوفةِ. والأُخْرى: رَءوفٌ على مثالِ (فَعولٍ). وهى قراءةُ عامةِ قَرَأَةِ أهلِ

(4)

المدينةِ. ورَئِفٌ، وهى لغةُ غَطَفَانَ، على مثالِ (فَعِل)، مثل "حَذِر". ورأْفٌ، على مثالِ (فعْل) بجزمِ الهمزِ

(5)

، وهى لغةٌ لبنى أسَدٍ.

(1)

البيت فى تفسير القرطبى 2/ 158، والبحر المحيط 1/ 427.

وللوليد بن عقبة أبيات يحض فيها معاوية على قتال على رضي الله عنهما، وهذا البيت يدور معناه فى فلك هذه الأبيات، غير أنه ليس منها. ينظر هذه الأبيات فى تاريخ الطبرى 4/ 564، واللسان (ح ل م).

(2)

فى البحر المحيط: "الظالمين".

(3)

فى تفسير القرطبى: "يقاتل"، وفى البحر المحيط:"يقابل".

(4)

سقط من: م. وقراءة "لرؤفٌ" هى قراءة أبى عمرو وعاصم فى رواية أبى بكر، وحمزة والكسائى، وقراءة "لرءُوفٌ" هى قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم فى رواية حفص، وروَى الكسائى عن أبى بكر عن عاصم "لرؤفٌ".

(5)

فى م: "العين"، والقراءتان الأخيرتان شاذتان.

ص: 655

والقراءةُ على أحدِ الوجْهين الأوَّلين.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: قد نرَى يا محمدُ نحن تقلُّبَ وجهِك فى السماءِ. ويعْنى بالتقلُّبِ التحوُّلَ والتصرُّفَ. ويعنى بقولِه: {فِي السَّمَاءِ} نحوَ السماءِ وقِبَلَها.

وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم -فيما بلغَنا- لأنه كان قبلَ تحويلِ قبلتِه من بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ يرفعُ بصرَه إلى السماءِ، تَنظُّرًا

(1)

من اللهِ جلَّ ثناؤُه أمْرَه بالتحولِ

(2)

نحوَ الكعبةِ.

كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقلِّبُ وجهَه إلى

(3)

السماءِ يحبُّ أن يَصرِفَه اللهُ إلى الكعبةِ حتى صرَفه اللهُ إليها

(4)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فكان نبىُّ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّى نحوَ بيتِ المقدسِ، يهوَى ويشتَهِى القبلةَ نحوَ البيتِ الحرامِ، فوجَّهه اللهُ لقبلةٍ كان يهوَاها ويشتَهِيها

(5)

.

حدَّثثا المثنَّى، قال: حدَّثنى إسحاقُ، قال: حدَّثنى ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه،

(1)

فى م، ت 1، ت 2:"ينتظر".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالتحويل".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فى"

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 62.

(5)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 146 إلى المصنف وعبد بن حميد، نحوه.

ص: 656

عن الربيعِ فى قولِه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} يقولُ: نظرَك فى السماءِ. وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يقلِّبُ وجهَه فى الصلاةِ وهو يصلِّى نحوَ بيتِ المقدسِ، وكان يهوَى قِبلةَ البيتِ الحرامِ، فولَّاه اللهُ قبلةً كان يهوَاها

(1)

.

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: كان الناسُ يصلُّون قِبَلَ بيتِ المقدسِ، فلما قدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأسِ ثمانيةَ عشرَ شهرًا من مُهاجَرِه، وكان إذا صلَّى رفَع رأسَه إلى السماءِ ينظُرُ ما يُؤْمَرُ، وكان يصلِّى قِبَلَ بيتِ المقدسِ، فنسَخَتْها الكعبةُ. وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُصلِّىَ قِبلَ الكعبةِ، فأنزَل اللهُ:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية.

ثم اختُلِف فى السببِ الذى من أجلِه كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يهوَى قبلةَ الكعبةِ.

فقال بعضُهم: كرِهَ قبلةَ بيتِ المقدسِ من أجلِ أن اليهودَ قالوا: يتَّبعُ قبلتَنا ويخالِفُنا فى دينِنا!

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: قالت اليهودُ: يخالفُنَا محمدٌ ويتَّبعُ قبلَتَنا. فكان يدعوُ اللهَ [ويستفرِضُ القبلةَ]

(2)

، فنزَلت:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} -وانقطَع قولُ يهودَ:

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 253 (1356، 1358) من طريق أبى جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية.

(2)

فى م، ت 2:"يستعرض للقبلة". قال الشيخ شاكر: ليست بشئ. وقال: أى يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين، وهذا ما لم تثبته كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية.

ص: 657

يخالِفُنا ويتَّبعُ قِبلَتَنا! - فى صلاةِ الظهرِ، فجعَل الرجالَ مكانَ النساءِ، والنساءَ مكانَ الرجالِ

(1)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: سمعتُه -يعنى ابنَ زيدٍ- يقولُ: قال اللهُ لنبيِّه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]. قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقبِلُون بَيْتًا من بُيُوتِ اللهِ -لبيتِ المقدسِ- لو أنا استقْبلْناه". فاستقْبَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم ستةَ عشرَ شهرًا، فبلَغه أن اليهودَ تقولُ: واللهِ ما دَرَى محمدٌ وأصحابُه أين قِبلتُهم حتى هدَيْناهم. فكرِه ذلك النبىُّ صلى الله عليه وسلم، ورفَع وجهَه إلى السماءِ، فقال اللهُ:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية

(2)

.

وقال آخرون: بل كان يهوَى ذلك من أجلِ أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيمَ عليه السلام.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما هاجَر إلى

(3)

المدينةِ، وكان أكثرَ أهلِها اليهودُ، أمَرَه اللهُ أن يستقبلَ بيتَ المقدسِ، ففرِحت اليهودُ، فاستقبَلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بضعةَ

(4)

عشرَ شهرًا، فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحبُّ قبلةَ إبراهيمَ، فكان يدْعو وينظُرُ إلى السماءِ، فأنزَل اللهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي

(1)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 147 إلى المصنف وعبد بن حميد. وأخرجه البغوى فى تفسيره 1/ 161 من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد. والزنجي ضعيف.

(2)

تقدم فى ص 452.

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"ستة".

ص: 658

السَّمَاءِ} الآية

(1)

.

وأما قولُه: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فإنه يعنى: فلنَصرِفَنَّك عن بيتِ المقدسِ إلى قبلةٍ ترضاها. [ويَعنى بقولِه: {تَرْضَاهَا}]

(2)

تهوَاها وتُحبُّها.

وأما قولُه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} فإنه

(3)

يعنى به

(3)

: اصرِفْ وجهَك وحوِّلْه.

وقولُه: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعنى بالشَّطرِ: النحوَ والقصدَ والتِّلقاءَ، كما قال الهُذَلىُّ

(4)

:

إن العَسيرَ

(5)

بها داءٌ مُخامِرُها

(6)

فشَطْرَها نَظَرُ العَينَينْ مَحْسُورُ

(7)

يعنى بقولِه: شَطْرَها: نحوَها. وكما قال ابنُ أحمرَ

(8)

:

تَعْدُو بنا شَطْرَ جَمْعٍ

(9)

وهْى عاقِدَةٌ

(10)

قد كارَبَ

(11)

العَقْدُ من إيفادِها

(12)

الحقَبا

(13)

(1)

تقدم تخريجه فى ص 450.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

هو قيس ابن العيزارة، والعيزارة أمه، واسمه قيس بن خويلد. البيت فى شرح أشعار الهذليين 2/ 607، واللسان (ح س ر، ش ط ر).

(5)

العسير: الناقة التى ركبت قبل تذليلها. اللسان (ع س ر).

(6)

خامره الداء: خالطه. اللسان (خ م ر).

(7)

حسر بصره: كَلّ وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك. اللسان (ح س ر).

ورواية البيت فى شرح أشعار الهذليين هكذا:

إن النعوس بها داء يخامرها

فنحوها بصر العينين مخزور

(8)

مجاز القرآن 1/ 60، وسيرة ابن هشام 1/ 551، وخزانة الأدب 6/ 255.

(9)

جمع: المزدلفة، سميت بذلك لاجتماع الناس بها. اللسان (ج م ع)

(10)

ناقة عاقد: تعقد بذنبها عند اللقاح. اللسان (ع ق د).

(11)

كارب الشئ: قاربه. اللسان (ك ر ب).

(12)

فى ت 3: "إيقادها". وهو لفظ رواية مجاز القرآن. والإيفاد: الإسراع. اللسان (و ف د). فهما بمعنى.

(13)

الحقب: حبل يشد به الرحل فى بطن البعير مما يلى ثيله، لئلا يؤذيه التصدير، أو يجتذبه التصدير، =

ص: 659

وبنحوِ الذى قلْنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن سفيانَ، عن داودَ بنِ أبى هندٍ، عن

(1)

أبى العاليةِ: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال

(2)

: تلقاءَه

(3)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} نحوَه

(4)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} نحوَه

(5)

.

حدّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:

= فيقدمه. اللسان (ح ق ب).

وقال فى الخزانة: وروى أيضا:

تعدو بنا شطر جمع وهى موفدة

قد قارب الغرض من إيفادها الحقبا

(1)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابن".

(2)

فى م: "يعنى".

(3)

أخرجه وكيع -كما فى الدر المنثور 1/ 147 - وعنه ابن أبى شيبة 1/ 335. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 254 (1361، 1362) من طريق داود به. وأخرجه ابن عيينة فى تفسيره -كما فى الدر المنثور- وعنه سعيد بن منصور سننه (227 - تفسير) عن عاصم الأحول عن أبى العالية، وعزاه السيوطي أيضًا فى الدر المنثور 1/ 147 إلى عبد بن حميد والدينورى.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره -كما فى الإتقان 2/ 7 - ، والبيهقى 2/ 3 من طريق عبد الله بن صالح به.

(5)

تفسير مجاهد ص 216، ومن طريقه البيهقى 2/ 3.

ص: 660

{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أى: تلقاءَ المسجدِ الحرامِ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ

(2)

بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: نحوَ المسجدِ الحرامِ

(3)

.

حدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أى: تلقاءَه

(4)

.

وحدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: أخبرنى عمرُو بنُ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال:{شَطْرَهُ} نحوَه.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا الحِمَّانىُّ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن أبى إسحاقَ، عن البراءِ:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} قال: قِبَلَه

(5)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {شَطْرَهُ} ناحيتَه، جانِبَه. قال: وجوانبُه شُطورُه.

ثم اختلَفوا فى المكانِ الذى أمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يولِّىَ وجهَه إليه من المسجدِ الحرامِ: فقال بعضُهم: القِبلةُ التى حُوِّل إليها النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وعناها اللهُ جلَّ ثناؤه بقولِه:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} حِيالَ مِيزابِ

(6)

الكعبةِ.

(1)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 254 عقب الأثر (1364) معلقًا.

(2)

فى م، ت 1، ت 3:"الحسين".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 62. بزيادة: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} -أى: تلقاءه.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 254 عقب الأثر (1361) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 254 عقب الأثر (1363) معلقًا.

(6)

الميزاب: هو ما يسيل منه الماء من موضع عال. تاج العروس (و ز ب).

ص: 661

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنى عبدُ الله بنُ أبى زيادٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ عمرَ، قال: أخبرَنا شعبةُ، عن يعلَى بنِ عطاءٍ، عن يحيى بنِ قمِطَّةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: حِيالَ ميزابِ الكعبةِ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: حدَّثنا هُشَيمٌ، عن يعلَى بنِ عطاءٍ، عن يحيى -يَعنى

(2)

ابنَ قمِطَّةَ- قال: رأيتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو جالسًا فى المسجدِ الحرامِ بإزاءِ الميزابِ، وتلا هذه الآيةَ:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: هذه القِبلةُ

(3)

، هذه القِبلةُ

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا هشيمٌ بإسنادِه، عن عبدِ اللهِ ابنِ عمرٍو، نحوَه، إلَّا أنه قال: استقبَل الميزابَ فقال: هذه القبلةُ التى قال اللهُ لنبيِّه: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} .

وقال آخَرون: بل ذلك البيتُ كلُّه

(5)

.

(1)

أخرجه الحاكم 2/ 269 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي أيضا فى الدر المنثور 1/ 147 إلى ابن المنذر وابن أبى شيبة والطبرانى. وقال الهيثمى فى المجمع 6/ 316: رواه الطبرانى من طريقين، ورجال إحداهما ثقات.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"هى".

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 62، وأخرجه سعيد بن منصور فى سننه (226 - تفسير)، وأحمد بن منيع فى مسنده -كما فى المطالب العالية (357) - وابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 253 (1357) من طريق هشيم به.

(5)

بعده فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قبلة وقبلة البيت الباب".

ص: 662

ذكرُ من قال ذلك

[حدَّثنى عمران بنُ موسى القزّازُ، قال: حدّثنا عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: البيتُ كلُّه قبلةٌ، وقبلةُ البيتِ البابُ

(1)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه]

(2)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُليَّةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: البيتُ كلُّه قبلةٌ، وهذه قبلةُ البيتِ. يعنى التى فيها البابُ.

والصوابُ من القولِ فى ذلك عندى ما قال اللهُ جلَّ ثناؤه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فالمولِّى وجهَه شطرَ المسجدِ الحرامِ

(3)

هو المصيبُ القبلةَ، وإنما على من توجَّه إليه النيةُ بقلبِه أنه متوجِّهٌ إليه، كما أن على مَن ائتمَّ بإمامٍ فإنما عليه الائتمامُ به وإن لم يكنْ مُحاذيًا بدَنُه بدَنَه، وإن كان فى طرَفِ الصفِّ والإمامُ فى طرَفٍ آخرَ، عن يمينِه أو عن يسارِه، بعد أن يكونَ مَن خلفَه مؤتمًّا به مصلِّيًا إلى الوجهِ الذى يُصلِّى إليه الإمامُ. فكذلك حكمُ القبلةِ، وإن لم يُحاذِها

(4)

كلُّ مصلٍّ ومتوجِّهٍ إليها ببدَنِه، غيرَ أنه متوجِّهٌ إليها. وإن كان عن يمينِها أو

(5)

عن يسارِها مقابلَها، فهو مستقبلُها، بَعُدَ ما بينَه وبينها أو قرُب، مِن عن يمينِها أو عن يسارِها، بعد أن يكونَ

(1)

ذكره ابن رجب فى فتح البارى 3/ 80 عن المصنف من طريق عطاء به. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 147 إلى المصنف.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يكن يحاذيها".

(5)

فى الأصل: "و".

ص: 663

غيرَ مستدبِرِها، ولا منحرفٍ عنها ببدنِه ووجهِه.

كما حدّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزبيرىُّ، قال: حدَّثنا إسرائيل، عن أبى إسحاقَ، عن عَمِيرةَ بنِ زيادٍ الكندىِّ، عن علىٍّ:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: شطْرَه فينا قِبلَه

(1)

.

وقبلةُ البيتِ الحرامِ

(2)

بابُه.

كما حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ والفضلُ بنُ الصَّبَّاحِ، قالا: حدَّثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: قال أسامةُ بنُ زيدٍ: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين خرَج من البيتِ أقبلَ بوجهِه إلى البابِ، فقال:"هذه القبلةُ، هذه القبلةُ"

(3)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ وسفيانُ، قالا: حدَّثنا جريرُ بنُ عبدِ الحميدِ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبى سليمانَ، عن عطاءٍ، قال: حدَّثنى أسامةُ بنُ زيدٍ، قال: خرَج النبىُّ صلى الله عليه وسلم من البيتِ، فصلَّى ركعَتَين مستقبِلًا بوجهِه الكعبةَ، فقال:"هذه القبلةُ". مرَّتين

(4)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، عن أسامةَ بنِ زيدٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَه.

حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى الأُموىُّ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنا ابنُ جُريجٍ،

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قبلة".

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 254 (1363) من طريق إسرائيل به. وأخرجه الحاكم 2/ 269 - وعنه البيهقى 2/ 3 - من طريق أبى إسحاق به. وعزاه السيوطي أيضا فى الدر المنثور 1/ 147 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والدينورى فى المجالسة.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه النسائى (2915)، وابن خزيمة (3005) عن يعقوب بن ابراهيم به. وأخرجه أحمد 5/ 209 (الميمنية) عن هشيم به. وأخرجه ابن خزيمة -أيضًا- من طرق عن عبد الملك به.

(4)

أخرجه ابن خزيمة (3006) من طريق جرير به.

ص: 664

قال: قلتُ لعطاءٍ: أسمِعتَ ابنَ عباسٍ يقولُ: إنما أُمِرْتم بالطوافِ، ولم تُؤْمروا بدُخولِه؟ قال: لم يكنْ ينهَى عن دُخولِه، ولكنى سمِعتُه يقولُ: أخبرَنى أسامةُ بنُ زيدٍ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما دخَل البيتَ دعا فى نواحيه كلِّها، ولم يصلِّ حتى خرَج، فلما خرَج ركَع فى قُبُلِ القبلةِ ركعتين، وقال:"هذه القبلةُ"

(1)

.

فأخَبر صلى الله عليه وسلم أن البيتَ هو القبلةُ، وأن قبلةَ البيتِ بابُه.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه عز وجل: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: وأينما كنتم من الأرضِ أيها المؤمِنون، فحوِّلوا وجوهَكم فى صلاتِكم نحوَ المسجدِ الحرامِ وتلقاءَه. والهاءُ التى فى:{شَطْرَهُ} عائدةٌ إلى المسجدِ الحرامِ. فأوجَب جلَّ ثناؤُه بهذه الآيةِ على المؤمِنين فرضَ التوجُّهِ نحوَ المسجدِ الحرامِ فى صلاتِهم حيثما كانوا من أرضِ اللهِ، وأُدْخلت الفاءُ فى قولِه:{فَوَلُّوا} جوابًا للجزاءَ، وذلك أن قولَه:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} جزاءٌ، ومعناه: حيثما تكونوا فولُّوا وجوهَكم شطْرَه.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يَعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أحبارَ اليهودِ وعلماءَ النصارى.

وقد قيل: إنما عنَى بذلك اليهودَ خاصةً.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّىِّ: {وَإِنَّ

(1)

أخرجه عبد الرزاق (9056)، وأحمد 5/ 201، 208 (الميمنية)، ومسلم (1330)، والنسائى (2917)، والبيهقى 2/ 328 من طريق ابن جريج به. وينظر مسند الطيالسى (2775).

ص: 665

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} قال

(1)

: أُنزِل ذلك فى اليهودِ

(2)

.

وقولُه: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعنى به (1) هؤلاءِ الأحبارَ والعلماءَ من أهلِ الكتابِ، يعلَمون أن التوجُّهَ نحوَ المسجدِ الحرامِ (1) الحقُّ الذى فرَضه اللهُ عز وجل على إبراهيمَ وذرِّيتِه وسائرِ عبادِه بعدَه.

ويَعنى بقولِه: {مِنْ رَبِّهِمْ} أنه الفرضُ الواجبُ على عبادِ اللهِ تعالى ذكرُه، وهو الحقُّ من عندِ ربِّهم، فرَضه عليهم.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تعْمَلُونَ

(3)

}.

يَعنى بذلك جل ثناؤُه: وليس اللهُ بغافلٍ عما تعملون أيها المؤمِنون فى اتِّباعِكم أمرَه، وانتهائِكم إلى طاعتِه، فيما ألزَمكم من فرائضِه، وإيمانِكم به فى صلاِتكم نحوَ بيتِ المقدسِ، ثم صلاتِكم من بعدِ ذلك شطرَ المسجدِ الحرامِ، ولا هو ساهٍ عنه، ولكنه جلَّ ثناؤه مُحصِيه لكم، ومُدَّخِرُه لكم عندَه، حتى يُجازيَكم به أحسنَ جزاءٍ، ويُثيبَكم عليه أفضلَ ثوابٍ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} .

يَعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: ولئن جئتَ يا محمدُ اليهودَ والنصارَى بكلِّ برهانٍ وحُجةٍ، وهى الآيةُ، بأن الحقَّ هو ما جئتَهم به من فرضِ التحوُّلِ من قِبلةِ ييتِ المقدسِ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 4/ 251 (1365) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(3)

كذا فى الأصل، م، ت 1 بالتاء، وهى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائى، وفى ت 2، ت 3 بالياء وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وعاصم. ينظر حجة القراءات ص 116، 117.

ص: 666

فى الصلاةِ إلى قبلةِ المسجدِ الحرامِ، ما صدَّقوا به ولا تبِعوا -مع قيامِ الحُجَّةِ عليهم بذلك- قبلتَك التى حولتُك إليها، وهى التوجُّهُ شَطرَ المسجدِ الحرامِ.

وأُجِيبتْ {وَلَئِنْ} بالماضى من الفعلِ، وحكْمُها الجوابُ بالمستقبلِ، تشبيهًا لها بـ "لو"، فأجِيبت بما تُجابُ به "لو" لتقارُبِ معنَيَيْهما. وقد مضَى البيانُ عن نظيرِ ذلك فيما مضَى

(1)

. وأُجِيبتْ {وَلَئِنْ}

(2)

بجوابِ الأيْمانِ، ولا تفعَلُ العربُ ذلك إلا فى الجزاءِ خاصةً؛ لأن الجزاءَ مُشابهُ اليمينِ فى أن كلَّ واحدٍ منهما لا يَتِمُّ أولُه إلا بآخرِه، ولا يتمُّ وحدَه، ولا يصِحُّ إلَّا بما يؤكَّدُ به بعدَه. فلما بدَأ باليمينِ فأُدخِلت على الجزاءِ، صارت اللامُ الأُولى بمنزلةِ يمينٍ، والثانيةُ بمنزلةِ جوابٍ لها، كما قيل: لعمرُكَ لتقُومَنَّ. إذْ كثُرت اللامُ من "لعمرُك" حتى صارت كحرفٍ من حروفِه، فأُجِيبتْ بما تجابُ به الأيمانُ، إذْ كانت اللامُ تنوبُ فى الأيْمانِ عن الأيمانِ دونَ سائرِ الحروفِ غيرِها

(3)

التى هى أجوبةُ الأيمانِ، فتدلُّ على الأيمانِ، وتعمَلُ عملَ الأجوبةِ، ولا تدُلُّ سائرُ أجوبةِ الأيمانِ

(4)

على الأيمانِ، فشُبهت اللَّامُ التى [هى جوابٌ للأيمانِ]

(5)

بالأيمانِ، لما وصفْنا، فأُجِيبتْ بأجوبتِها.

فكان معنى الكلامِ، إذ كان الأمرُ على ما وصفْنا:[واللهِ]

(6)

لو أتيتَ الذين أُوتوا الكتابَ بكلِّ آيةٍ ما تبِعوا قبلتَك.

وأما قولُه: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} يقولُ: وما لكَ من سبيلٍ يا محمدُ إلى

(1)

ينظر ما تقدم فى ص 372، وينظر معانى القرآن 1/ 84.

(2)

فى م: "لو".

(3)

فى م، ت 2، ت 3:"غير".

(4)

بعده فى م، ت 2، ت 3:"لنا".

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فى جواب الأيمان".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 667

اتِّباعِ قبلتِهم، وذلك أن اليهودَ تستقبِلُ بيتَ المقدسِ بصلاتها، وأن النصارى تستقبِلُ المشرِقَ، فأنَّى يكونُ لك السبيلُ إلى اتباعِ قبلتِهم مع اختلافِ وُجوهِها؟! يقولُ: فالزَمْ قبلتَك التى أُمرتَ بالتوجُّهِ إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهودُ والنصارى، وتدعُوك إليه مِن قِبلتِهم واستقبالِها.

وأما قولُه: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فإنه يَعنى: وما اليهودُ بتابعةٍ قبلةَ النصارى، وما

(1)

النصارَى بتابعةٍ قبلةَ اليهودِ، فمتوجِّهةٌ نحوَها.

كما حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّىِّ:{وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يقولُ: ما اليهودُ بتابِعى قبلةِ النصارَى، ولا النصارَى بتابِعى قبلةِ اليهودِ

(2)

. قال: وإنما أُنزِلت هذه الآيةُ من أجلِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إلى الكعبةِ، قالت اليهودُ: إن محمدًا اشتاق إلى بلدِ أبيه ومَولِده، ولو ثبَت على قبلتِنا لكنا نَرْجُو أن يكونَ هو صاحبَنا الذى ننتَظِرُ. فأنزَل اللهُ جلَّ ثناؤُه فيهم:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} إلى قولِه: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

(3)

.

وحدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} مثلَ ذلك.

وإنما قلنا

(4)

: يعنى جلَّ ثناؤُه بذلك أن اليهودَ والنصارَى لا تجتمِعُ على قبلةٍ واحدةٍ، مع إقامةِ كلِّ حزبٍ منهم على مِلَّتِه. فقال تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ لا تُشْعِرْ نفْسَك رضا هؤلاء اليهودِ والنصارَى، فإنه أمرٌ لا سبيلَ إليه؛ لأنهم

(1)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"لا".

(2)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 147 إلى المصنف.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 255 (1365) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به. وتقدم أوله فى ص 624.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 668

مع اختلافِ مِلَلِهم لا سبيلَ لك إلى إرضاءِ كلِّ حزْبٍ منهم، من أجْلِ أنك إن اتبَعتَ قبلةَ اليهودِ أسخَطتَ النصارَى، وإن اتبَعتَ قبلةَ النصارَى أسخَطتَ اليهودَ، فدعْ ما لا سبيلَ إليه، وادْعُهم إلى ما لهم السبيلُ إليه، من الاجتماعِ على مِلَّتِك الحنيفيَّةِ المُسلِمةِ، وقبلتِك قبلةِ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه والأنبياءِ من بعدِه.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} .

يعنى بقولِه جلَّ ذكرُه: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} ولئن التمَستَ يا محمدُ رضَا هؤلاءِ اليهودِ والنصارَى الذين قالوا لك ولأصحابِك: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]. فاتبَعْتَ قبلَتَهم، يَعنى: فرجَعْتَ إلى قبلَتِهم.

ويَعنى بقولِه: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} من بعدِ ما وصَل إليك من العلمِ، بإعلامِى إياك أنهم مقيمون على باطلٍ، على

(1)

عنادٍ منهم للحقِّ، ومعرفةٍ منهم بأن

(2)

القبلةَ التى وجهتُك إليها هى القبلةُ التى فَرضْتُ على أبيكَ إبراهيمَ، صلواتُ اللهِ عليه وسائرِ ولدِه، [ومَن]

(3)

بعدَه من الرسلِ، التوجُّهَ نحوَها.

{إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يعنى: إنك، إذا فعَلتَ ذلك، من عبادى الظلَمةِ أنْفسَهم، المخالِفين أمرى، والتارِكين طاعتى، وأحدُهم [وفى]

(4)

عِدادِهم.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .

(1)

فى م: "وعلى".

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".

(4)

فى الأصل: "فى".

ص: 669

يَعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} أحبارَ اليهودَ وعلماءَ النصارَى. يقولُ: يعرِفُ هؤلاء الأحبارُ من اليهودِ، والعلماءُ من النصارَى، أن البيتَ الحرامَ قبلتُهم وقبلةُ إبراهيمَ وقبلةُ الأنبياءِ قبلك، كما يعرِفون أبناءَهم.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولِه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يقولُ: يعرِفون أن البيتَ الحرامَ هو

(1)

القبلةُ

(2)

.

حدَّثنى المثنّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ فى قولِ اللهِ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يَعنى القبلةَ

(3)

.

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} عرَفوا أن قبلة البيتِ الحرامِ هى قبلتُهم التى أُمِروا بها، كما عرَفوا أبناءَهم

(4)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمِّى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعنى بذلك الكعبةَ البيتَ الحرامَ

(5)

.

(1)

فى الأصل، ت 1، ت 3:"هى".

(2)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 255 عقب الأثر (1368) معلقًا، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 147 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 (1371) من طريق ابن أبى جعفر به.

(4)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 255 عقب الأثر (1368) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 255 (1367) عن محمد بن سعد به.

ص: 670

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعرِفون الكعبةَ [أنها هى]

(1)

قبلةُ الأنبياءِ، كما يعرِفون أبناءَهم

(2)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} قال: اليهودُ يعرِفون أنها هى القبلةُ، مكةُ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ فى قولِه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} قال: القبلةُ والبيتُ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: وإنَّ طائفةً من الذين أوتوا الكتابَ، وهم اليهودُ والنصارَى. وكان مجاهدٌ يقولُ: هم أهلُ الكتابِ.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بذلك

(3)

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ مثلَه.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى

(1)

فى النسخ: "من". والمثبت من تفسير ابن أبى حاتم.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 255 (1368) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(3)

تفسير مجاهد ص 216، ومن طريقه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 (1370).

ص: 671

نَجيحٍ، [عن مجاهدٍ]

(1)

مثلَه.

{لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} وذلك الحقُّ هو القبلةُ التى وَجَّه اللهُ عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقولِه

(2)

: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. التى كانت الأنبياءُ مِن قبلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها، فكَتَمتْها اليهودُ والنصارَى، فوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم بيتَ المقدسِ، ورفَضوا ما أمَرهم اللهُ به، وكتَموا مع ذلك أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهم يجِدونه مكتوبًا عندَهم فى التوراةِ والإنجيلِ، فأطلعَ اللهُ عز وجل نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه على خيانَتِهم اللهَ تبارك وتعالى و

(3)

عبادَه، بكتمانِهم

(4)

ذلك، وأخبَر أنهم يفعَلون ما يفعَلون من ذلك على علمٍ منهم بأن الحقَّ غيرُه، وأن الواجبَ عليهم من اللهِ جلَّ ثناؤه خلافُه، فقال:{لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه

(5)

ليس لهم كتمانُه، فيتعمَّدون معصيةَ اللهِ تبارك وتعالى

(6)

.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فكتَموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال: يكتُمون محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجِدونه مكتوبًا عندَهم فى التوراةِ والإنجيلِ

(7)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".

(3)

بعده فى م، ت 1، ت 2 ت 3:"خيانتهم".

(4)

فى م: "وكتمانهم".

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن".

(6)

هنا نهاية الخرم فى النسخة "ص"، والمشار إليه فى 1/ 721.

(7)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 (1372) من طريق أبى حذيفة به.

ص: 672

حدَّثنا المثنَّى قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يَعنى القبلةَ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} .

يقولُ جلَّ ثناؤه: اعلمْ يا محمدُ أنَّ الحقَّ ما أعلمَك ربُّك وأتاك من عندِه، لا ما يقولُ لك اليهودُ والنصارَى. وهذا من اللهِ جلَّ وعزَّ خبرٌ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، عن أن القبلةَ التى وجَّهه نحوَها هى القبلةُ الحقُّ التى كان عليها إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ، ومَن بعدَه مِن أنبياءِ اللهِ. [يقولُ تعالى ذكرُه]

(1)

له: فاعمَلْ بالحقِّ الذى أتاك من ربِّك يا محمدُ، ولا تكونَنَّ من الممْترِين. يَعنى بقولِه:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} . أى: فلا تكونَنَّ من الشاكِّين فى أن القبلةَ التى وجَّهْتُك نحوَها قبلةُ إبراهيمَ خليلى وقبلةُ الأنبياءِ غيرِه.

كما حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: قال اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يقولُ: لا تكنْ فى شكٍّ، فإنها قِبلَتُك وقبلةُ الأنبياءِ قبلَك

(2)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} قال: من الشاكِّين

(3)

، لا تَشُكَّنَّ فى ذلك.

وإنما

(4)

المُمْترِى مُفْتعِلٌ، من المِرْيةِ، والمِريةُ هى الشكُّ، ومنه قول الأعشَى

(5)

:

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 (1373) من طريق أبى جعفر به. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 147، 148 إلى المصنف وأبى داود فى ناسخه عن أبى العالية.

(3)

بعده فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

(4)

سقط من: م.

(5)

ديوان الأعشى ص 23.

ص: 673

تَدِرُّ

(1)

على أسْؤُقِ

(2)

المُمْتَريـ

ـنَ

(3)

رَكْضًا إذا ما السَّرابُ ارْجَحَنْ

(4)

فإن قال قائلٌ: أوَ كان النبىُّ شاكًّا فى أن الحقَّ من ربِّه، أو

(5)

فى أن القبلةَ التى وجَّهه اللهُ إليها حقٌّ من اللهِ، حتى نُهِى عن الشكِّ فى ذلك، فقيل له:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .

قيل: ذلك من الكلامِ الذى تُخْرِجُه العربُ مُخرَجَ الأمْرِ و

(6)

النهىِ للمخاطَبِ به، والمرادُ به غيرُه، كما قال جلَّ ثناؤه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 1، 2]. فخرَج الكلامُ مَخرَجَ الأمْرِ للنبىِّ والنَّهىِ له، والمرادُ به أصحابُه المؤمِنون به، وقد بيَّنَّا نظيرَ ذلك فيما مضَى قبلُ بما أغنَى عن إعادَتِه

(7)

.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} .

يعنى بقولِه: [{وَلِكُلٍّ}]

(8)

ولكلِّ أهلِ مِلَّةٍ. فحذَف أهلَ مِلةٍ، واكتَفى بدَلالةِ الكلامِ عليه.

كما حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى،

(1)

در الفرس يدِر دريرا ودرة: عدا عدوا شديدا. ومر على درته: أى لا يثنيه شيء. اللسان (د ر ر).

(2)

أسؤق: جمع ساق، ويجمع أيضا على سوق وسيقان. تاج العروس (س و ق).

(3)

مِرْية الفرس: ما استخرج من جريه فدر لذلك عرقه، ومَرَيتُ الفرس: إذا استخرجتَ ما عنده من الجرى بسوط أو غيره. اللسان (م ر ى).

(4)

ارجحن السراب: ارتفع. اللسان (رجحن).

(5)

فى ص: "و".

(6)

فى ص، م، ت 1، ت 2:"أو".

(7)

ينظر ما تقدم فى ص 404 - 406.

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 674

عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} قال: لكلِّ صاحبِ مِلَّةٍ

(1)

.

وحدَّثنا المثنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} فلليهودِىِّ

(2)

وِجْهةٌ هو مُوَلِّيها، وللنصرانىِّ

(3)

وِجهةٌ هو مُوَلِّيها، وهَداكم اللهُ أنتم أيتُها الأمةُ للقبلةِ التى هى قبلةٌ

(4)

.

حدَّثنى القاسمُ، قال: حدَّثنى الحسينُ، قال: حدَّثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: قولُه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال: كلُّ

(5)

أهلِ دينٍ؛ اليهودُ والنصارَى. قال ابنُ جُريجٍ: قال مجاهدٌ: لكلِّ صاحبِ مِلَّةٍ

(6)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال: لليهودِ قبلةٌ. وللنصارَى قبلةٌ. ولكم قبلةٌ. يُريدُ المسلمين.

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنى أبى، قال: حدَّثنى عمى، قال: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} . يَعنى بذلك أهلَ الأديانِ، يقولُ: لكلٍّ قبلةٌ يَرضَوْنها، ووَجهُ اللهِ حيثُ توجَّه المؤمنون، وذلك أن اللهَ قال:

(1)

تفسير مجاهد ص 216. وعزاه السيوطي أيضًا فى الدر المنثور 1/ 148 إلى عبد بن حميد. وستأتى بقيته فى ص 676، 677.

(2)

فى م، ت 1، ت 2:"فلليهود".

(3)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"للنصارى".

(4)

فى م، ت 3:"قبلته".

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 عقب الأثر (1375) من طريق ابن أبى جعفر به.

(5)

فى ص، م، ت 2:"لكل".

(6)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 عقب الأثر (1375) معلقًا.

ص: 675

{فَأَيْنَمَا

(1)

تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(2)

[البقرة: 115].

حدَّثنى موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} . يقولُ: لكلِّ قومٍ قبلةٌ قد وُلُّوها

(3)

.

فتأويلُ أهلِ هذه المقالةِ فى هذه الآيةِ: ولكلِّ أهلِ ملَّةٍ قبلةٌ هو مستقبِلُها ومُوَلٍّ وجهَه إليها.

وقال آخرون بما حدَّثنا به الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} . قال: هى صلاتُهم إلى بيتِ المقدسِ، وصلاتُهم إلى الكعبةِ

(4)

.

وتأويلُ قائلى

(5)

هذه المقالةِ: ولكلِّ ناحيةٍ وجَّهكَ إليها ربُّك يا محمدُ قِبلةٌ، اللهُ مُولِّيها عبادَه.

وأمّا الوِجهةُ، فإنها مصدرٌ مثلُ القِعدةِ والمِشيةِ، من التوَجُّهِ. وتأويلُها: مُتَوَجَّهٌ يَتوجَّهُ إليه

(6)

بوَجْهِه

(7)

فى صلاتِه.

كما حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى،

(1)

فى الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حيث ما".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 (1374) عن محمد بن سعد به، ولم يذكر الآية آخره.

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 256 عقب الأثر (1375) عن أبى زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 62، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 257 (1377) عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 148 إلى أبى داود فى ناسخه.

(5)

فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قائل".

(6)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"إليها".

(7)

فى ص: "توجهه". وينظر معانى القرآن 1/ 90.

ص: 676

عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وِجْهَةٌ} . قبلةٌ

(1)

.

حدَّثنى المثنى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} . قال: وجهٌ.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وِجْهَةٌ} . قبلةٌ.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، قال: قلتُ لمنصورٍ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} . قال: نحن نقرؤها: (ولكلٍّ جعَلْنا قبلةً يَرْضَونها)

(2)

.

وأَمَّا قولُه: {هُوَ مُوَلِّيهَا} . فإنَّه يَعنى: هو مولٍّ وجهَه إليها، [ومستقبِلُها]

(3)

.

كما حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{هُوَ مُوَلِّيهَا} . قال: هو مستقبلُها (1).

حدَّثنى المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

ومعنى التوْليةِ ههنا: الإقبالُ، كما يقولُ القائلُ لغيرِه: انصرِفْ إلىَّ. بمعنى: أقْبِلْ إلىَّ. والانصِرافُ المستعمَلُ إنما هو الانصِرافُ عن الشئِ، ثم يقالُ: انصَرفَ إلى الشئِ. بمعنى: أقبَلَ إليه مُنصرِفًا عن غيرِه. وكذلك يقالُ: ولَّيْتُ عنه. إذا

(1)

تقدم أول هذا الأثر فى ص 674.

(2)

أخرجه ابن أبى داود فى المصاحف ص 55 من طريق جرير به، والقراءة بها شاذة لمخالفتها رسم المصاحف العثمانية.

(3)

فى م: "مستقبلها".

ص: 677

أدْبَرْتَ عنه. ثم يقالُ: ولَّيتُ إليه. بمعنى: أقبلْتُ إليه مُوَلِّيًا عن غيرِه

(1)

.

والفعلُ - أَعني التوليةَ - في قولِه: {هُوَ مُوَلِّيهَا} لـ"لكُلٍّ" و

(2)

{هُوَ} التي مع {مُوَلِّيهَا} هي

(3)

الكلُّ، وُحِّدت للفظِ الكلِّ. فمعنى الكلامِ إذًا: ولكلِّ أهلِ ملةٍ وِجهةٌ، الكلُّ

(4)

منهم مولُّوها وُجُوهَهم.

وقد رُوِي عن ابنِ عباسٍ وغيرِه أنهم قرَءوها: (هو مُوَلَّاها)

(5)

. بمعنى أنه مُوجَّهٌ نحوَها. ويكونُ الكلُّ

(6)

حينَئذٍ غيرَ مسمًّى فاعلُه، ولو سُمِّى فاعلُه لكان الكلامُ: ولكلِّ ذِي مِلَّةٍ وِجْهةٌ، اللهُ مولِّيه إياها. بمعنى: مُوجِّهُه إليها.

وقد ذُكِر عن بعضِهم أنه قرَأ ذلك: (ولكُلِّ وِجْهةٍ هو موليها) بتَرْكِ التنوينِ والإضافةِ

(7)

.

وذلك لحنٌ لا

(8)

تجوزُ القراءةُ به؛ لأن ذلك إذا قُرِئ كذلك، كان الخبرُ غيرَ تامٍّ، وكان كلامًا لا معنَى له، وذلك غيرُ جائزٍ أن يكونَ من اللهِ تعالى ذكرُه

(9)

.

(1)

ينظر معاني القرآن 1/ 85.

(2)

سقط من: ص.

(3)

في ص: "وهو". وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".

(4)

في م: "لكل".

(5)

قراءة ابن عباس أخرجها ابن الأنباري في المصاحف كما في الدر المنثور 1/ 148، وذكرها القرطبي في تفسيره 2/ 164، وأبو حيان في البحر المحيط 1/ 437، وابن كثير في تفسيره 1/ 281، عن ابن عباس وأبي جعفر الباقر. ومن السبعة قرأها ابنُ عامر وحده، والباقون بكسر اللام وبعدها ياء. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 171، وحجة القراءات ص 117.

(6)

في م، ت 2، ت 3:"الكلام".

(7)

أخرج هذه القراءة ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 257 (1378) بإسناده إلى ابن عباس وذكر ابن عطية في المحرر الوجيز 1/ 450 أن أبا عمرو الداني حكاها عن ابن عباس، وذكرها أبو حيان في البحر المحيط 1/ 437 غير معزوة إلى أحد، ووصفها بالشذوذ.

(8)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولا".

(9)

وقال ابن عطية: وهي متجهة، أي: فاستبقوا الخيرات لكلِّ وجهةٍ ولاكموها، ولا تعترضوا فيما =

ص: 678

والصوابُ عندنا من القراءةِ في ذلك: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} بمعنى

(1)

: ولكلٍّ وِجهةٌ وقِبلةٌ، ذلك الكلُّ مُوَلٍّ وَجْهَه نحوَها؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من القرَأةِ على قراءةِ ذلك كذلك، وتصويبِها إياها، وشُذوذِ مَن خالَف ذلك إلى غيرِه، وما جاء به النقلُ مستفِيضًا فحُجَّةٌ، وما انفرَد به مَن كان جائزًا عليه السهوُ والغَلطُ

(2)

، فغيرُ جائزٍ الاعتراضُ به على الحُجَّةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} .

يعني جلَّ ثناؤه بقولِه: {فَاسْتَبِقُوا} : فبادِرُوا وسارِعُوا، من الاستِباقِ، وهو المبادرَةُ والإسراعُ.

كما حدَّثني المُثَنَّى قال: حدَّثني إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} . يقولُ

(3)

: فسارِعوا في الخيرات

(4)

.

وإنما يعني جلَّ ثناؤه بقولِه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي: قد بيَّنتُ لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهدَيتُكم للقبلةِ التي ضلَّت عنها اليهودُ والنصارَى، وسائرُ أهلِ المللِ غيرِكم، فبادِرُوا بالأعمالِ الصالحةِ، شكرًا لربِّكم، وتزوَّدُوا في دنْياكم لآخرتِكم، فإنيِّ قد بيَّنتُ لكم سبيلَ النجاةِ، فلا عُذرَ لكم في التفْريطِ، وحافِظوا على قبلتِكم، فلا تُضيِّعوها كما ضيَّعَتْها الأمَمُ قبلَكم، فتضِلُّوا كما ضلَّتْ.

= أمركم بين هذه وهذه

، وقدم قوله:(لكلِّ وجهةٍ). على الأمر في قوله: (فاستبقوا). للاهتمام بالوجهة

قال أبو حيان - بعد أن نقل عنه هذا التوجيه - في البحر المحيط 1/ 438، 439: وهو توجيه لا بأس به.

(1)

ليست في الأصل، ت 2.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الخطأ".

(3)

في م: "يعني".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 257 عقب الأثر (1379) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 679

كالذي حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} يقولُ: لا تُغلَبُنَّ على قبلتِكم

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} قال: الأعمالُ الصالحةُ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} .

ومعنى قولِه: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا} في أيِّ مكانٍ وبقعةٍ تهلِكونَ فيه، يأتِ بكم اللهُ جميعًا يومَ القيامةِ:{إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

كما حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا} يقولُ: أينما تكونوا يأتِ بكم اللهُ جميعًا يومَ القيامةِ

(3)

.

حدَّثنا موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا} . يعني يومَ القيامةِ

(4)

.

وإنما حَضَّ اللهُ المؤمِنين بهذه الآيةِ على طاعتِه، والتزوُّدِ في الدنيا للآخرةِ، فقال جلَّ ثناؤه لهم: فاستبِقُوا أيها المؤمنون إلى العملِ بطاعةِ ربِّكم، ولُزومِ ما هَداكم له من قبلةِ إبراهيمَ خليلِه، وشرائِعِ دينِه، فإن اللهَ يأتي بكم وبمن خالفَ قبلَتَكم

(5)

ودينَكم

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى المصنف.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى المصنف، وسقط متنه من المطبوع. وينظر فتح القدير 1/ 158.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 258 عقب الأثر (1382) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 258 عقب الأثر (1382) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.

(5)

في م: "قبلكم".

ص: 680

وشريعتَكم جميعًا يومَ االقيامةِ، من حيثُ كنتم من بقاعِ الأرضِ، حتى يوفِّيَ

(1)

المحسنَ منكم جزاءَه بإحسانِه، والمسيءَ عقابَه بإساءتِه، أو يتفضّلَ فيصفَحَ.

وأما قولُه: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإنه تعالى ذكرُه يعني: إن اللهَ على جمعِكم - بعد مماتِكم - من قبورِكم إليه

(2)

، من حيثُ كنتم [وكانت قُبورُكم]

(3)

، وعلى غيرِ ذلك مما يشاءُ قادرٌ

(4)

، فبادِرُوا خُروجَ أنفسِكم بالصالحاتِ من الأعمالِ قبلَ مماتِكم، ليومِ بعثِكم وحشْرِكم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

(5)

(149)}.

يعني جلَّ ثناؤه بقولِه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} ومن أيِّ موضعٍ خرَجْتَ إلى أَيِّ موضعٍ وجَّهْتَ، فولِّ يا محمدُ وجهَك. يقولُ: حوِّلْ وجْهَك.

وقد دلَّلْنا على أن التَّوليةَ في هذا الموضعِ شطرَ المسجدِ الحرامِ، إنما هي الإقبالُ بالوجهِ نحوَه، وقد بينَّا مَعنى الشطرِ فيما مضَى

(6)

.

وأما قولُه: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فإنه يعني به جلَّ ثناؤه: وإن التوجُّهَ شطرَه لَلحقُّ الذي لا شكَّ فيه من عندِ ربِّك، فحافِظوا عليه، وأطِيعوا اللهَ بتوجُّهِكمِ

(7)

قِبَلَه.

(1)

في ص: "يؤتى".

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: م.

(4)

في م، ت 2:"قدير".

(5)

في ص: (يعملون). وهي قراءة أبي عمرو، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالخطاب. إتحاف فضلاء البشر ص 91.

(6)

ينظر ما تقدم في ص 659.

(7)

في ص: "فتوجهكم"، وفي م، ت 2:"في توجهكم".

ص: 681

وأما قولُه: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)} فإنه يقولُ: فإن اللهَ ليس بساهٍ عن أعمالِكم، ولا بغافلٍ عنها، ولكنه مُحصِيها لكم حتى يُجازيَكم بها يومَ القيامةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .

يَعني بقولِه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ومن أيِّ مكانٍ وبقعةٍ شَخَصْتَ فخرَجتَ يا محمدُ، فحوِّلْ

(1)

وجهَك تلقاءَ المسجدِ الحرامِ، وهو شطرُه.

ويَعني بقولِه: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرضِ اللهِ، فولُّوا وُجوهَكم في صَلواتِكم تُجاهَه وقِبَلَهُ وقَصْدَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} .

فقال جماعةٌ من أهلِ االتأويلِ: عَنى اللهُ بالناسِ في قولِه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ} أهلَ الكتابِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يَعني بذلك أهلَ الكتابِ، قالُوا حين صُرِف نبيُّ اللهِ إلى الكعبةِ البيتِ الحرامِ: اشتاقَ الرجلُ إلى بيتِ أبيه ودينِ قومِه

(2)

.

(1)

في م، ت 2، ت 3:"فول".

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 258 عقب الأثر (1387) معلقا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 682

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يَعني بذلك أهلَ الكتابِ، قالوا حينَ صُرِف نبيُّ اللهِ إلى الكعبةِ: اشتاقَ الرجلُ إلى بيتِ أبيه ودينِ قومِه

(1)

.

فإن قال قائلٌ: فأيَّةُ حُجَّةٍ كانت لأهلِ الكتابِ بصلاةِ رسولِ اللهِ وأصحابِه نحوَ بيتِ المقدسِ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه؟

قيل: قد ذكَرْنا فيما مضَى ما رُوِي في ذلك، قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درَى محمدٌ وأصحابُه أين قِبلتُهم حتى هدَيناهم نحن! وقولَهم: يخالِفُنا محمدٌ في دينِنا ويتَّبعُ قبلَتَنا

(2)

! فهي الحُجَّةُ التي كانوا يحتَجُّون بها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، على وجهِ الخُصومةِ منهم لهم، والتَّمويهِ منهم بها على الجُهّالِ وأهلِ الغَباءِ

(3)

من المشرِكين.

وقد بينَّا فيما مضَى أن معنى حِجاجِ القومِ إيّاه الذي ذَكَره اللهُ في كتابِه إنما هو

(4)

الخُصوماتُ والجدالُ، فقطَع اللهُ ذلك من حُجَّتِهم وحسَمه، بتحويلِ قِبلةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم والمؤمِنين به، من قِبلةِ اليهودِ إلى قِبلةِ خليلِه إبراهيمَ عليه السلام.

فذلك هو معنى قولِ اللهِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يَعني بـ"الناس"، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصَفْتُ، وأما قولُه:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فإنهم مشرِكو العربِ من قريشٍ، فيما تأوَّله أهلُ التأويلِ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 258 عقب الأثر (1387) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

ينظر ما تقدم في ص 657.

(3)

في م: "العناد".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هي".

ص: 683

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} : قومُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. حدَّثني موسى قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: هم المشركون من أهلِ مكةَ.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} : يعني مشرِكي قريشٍ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، وابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِه:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال: هم مشركو العربِ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} : والذين ظلَموا مشرِكو قريشٍ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال عطاءٌ: هم مشرِكو قريشٍ. قال ابنُ جُريجٍ: وأخبرَني عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ أنه سمِع مجاهدًا يقولُ مثلَ قولِ عطاءٍ

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 259 عقب الأثر (1389) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

سيأتي مطولا في ص 686.

(3)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 165. وينظر ما سيأتي في ص 687.

ص: 684

فإن قال قائلٌ: فأيّةُ حُجةٍ كانت لمشرِكي قريشٍ على رسولِ اللهِ وأصحابِه في توجُّهِهم في صلاتِهم إلى الكعبةِ؟ وهل يجوزُ أن يكونَ للمشرِكين على المؤمنين - فيما أمَرهم اللهُ به أو نَهاهم عنه - حُجةٌ؟

قيل: إن معنَى ذلك بخلافِ ما توهّمتَ وذهَبْتَ إليه، وإنما الحُجةُ في هذا الموضعِ الخصومةُ والجدلُ ومعنى الكلامِ: لئلَّا يكونَ لأحدٍ من الناسِ عليكم خُصومةٌ ودعوَى باطلٍ

(1)

، غيرَ مشرِكي قريشٍ، فإن لهم عليكم دعوَى باطلٍ

(1)

وخصومةً بغيرِ حقٍّ، بقيلِهم لكم: رجَع محمدٌ إلى قبلَتِنا، وسيرجِعُ إلى دينِنا. فذلك من قولِهم وأمانيِّهم الباطِلةِ، هي الحجةُ التي كانت لقريشٍ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، ومن أجلِ ذلك استَثْنى اللهُ تعالى الذين ظلَموا من قريشٍ من سائرِ الناسِ غيرِهم، إذْ نفَى أن يكونَ لأحدٍ منهم في قبلتِهم التي وجَّههم إليها حُجَّةٌ.

وبمثلِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك منهم

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قومُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. قال مجاهدٌ: يقولُ: حُجَّتُهم قولُهم: قد راجعْتَ

(2)

قبلَتَنا

(3)

.

(1)

في م، ت 2:"باطلة".

(2)

في م: "رجعت".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى المصنف وعبد بن حميد، بلفظ: حجتهم

، وفي تفسير مجاهد ص 216:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحجتهم قولهم: تركت قبلتنا.

ص: 685

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلّا أنه قال: قولُهم: قد رجعْتَ إلى قِبلَتِنا؟.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، وابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِه:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قالا: هم مشرِكو العربِ، قالوا حينَ صُرِفتْ القبلةُ إلى الكعبةِ: قد رجَع إلى قبلتِكم، فيوشِكُ أن يرجِعَ إلى دينِكم. قال اللهُ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي

(1)

}.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ قال: حدَّثنا سعيدٌ عن قتادةَ قولَه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} والذين ظلَموا مشرِكو قريشٍ. يقولُ: إنهم سيحْتجُّون عليكم بذلك. فكانت حُجَّتُهم على نبيِّ اللهِ بانصرافِه

(2)

إلى البيتِ الحرامِ أنهم قالوا: سيرجِعُ إلى دينِنا كما رجَع إلى قِبلتِنا. فأنزَل اللهُ في ذلك كلِّه

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(4)

.

حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ فيما

(1)

في الأصل، وتفسير عبد الرزاق:(واخشون) بحذف الياء، والقرأة متفقة على إثبات الياء. وينظر إتحاف فضلاء البشر ص 91.

والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 62. وعزاه السيوطي أيضًا في الدر المنثور 1/ 148 إلى ابن المنذر وأبي داود في ناسخه. وينظر تفسير البغوي 1/ 165.

(2)

في ص: "انصرافه".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى المصنف وعبد بن حميد. وزاد فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

(4)

تقدم مختصرًا في ص 684.

ص: 686

يَذكُرُ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهمْدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ قالوا

(1)

: لما صُرِف نبيُّ اللهِ نحوَ الكعبةِ بعدَ صلاتِه إلى بيتِ المقدسِ، قال المشركون من أهلِ مكةَ: تَحيّر على محمدٍ دينُه، فتوجَّهَ بقبلتِه إليكم، وعلِم أنكم كنتم أهدَى منه سبيلًا، ويوشِكُ أن يدخُلَ في دينِكم. فأنزَلَ اللهُ فيهم:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: قولَه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال: قالت قريشٌ لمّا رجَع إلى الكعبةِ وأُمر بها: ما كان يستغْنى عنَّا، قد استقْبلَ قبلَتَنا. فهي حُجَّتُهم، وهمِ الذين ظلَموا. قال ابنُ جريجٍ: وأخبَرني عبدُ اللهِ بنُ

(3)

كثيرٍ أنه سمِع مجاهدًا يقولُ مثلَ قولِ عطاءٍ، فقال مجاهدٌ: حُجّتُهم: قولُهم: رجَعتَ إلى قِبلَتِنا

(4)

.

فقد أبان تأْويلُ من ذكَرنا تأْويلَه - من أهلِ التأويلِ - قولَه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} عن صحةِ ما قلنا في تأويلِه، وأنه استِثناءٌ على [صحةٍ، بمعنى]

(5)

الاستِثناءِ المعروفِ، الذي يَثْبُتُ فيه لما بعدَ حرفِ الاستثناءِ ما كان منفيًّا عما قبلَه، كما

(6)

قولُ القائلِ: ما سار من الناسِ أحدٌ إلّا أخوك. إثباتٌ للأخِ من السَّيرِ ما هو

(1)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى المصنف، وينظر ما تقدم في ص 640، 641.

(3)

بعده في الأصل: "أبي". وينظر تهذيب الكمال 15/ 468.

(4)

ينظر ما تقدم في ص 684، 685.

(5)

في م: "معنى".

(6)

بعده في م: "أن".

ص: 687

مَنفيٌّ عن كلِّ أحدٍ من الناسِ. فكذلك قولُه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} نَفْيٌ عن أن يكون لأحدٍ خُصومةٌ وجَدَلٌ قِبلَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ودعوَى باطلٍ

(1)

عليه وعلى أصحابِه، بسببِ تَوجُّهِهم في صلاتِهم قِبلَ الكعبةِ، إلَّا الذين ظلَموا أنفسَهم من قريشٍ، فإن لهم قِبلَهُم خصومةً ودعوَى باطلٍ

(1)

، بأن يقولوا: إنما توجّهتُمْ إلينا وإلى قبلتِنا لأنا كنا منكم أهدَى سبيلًا، وأنكم كنتم بتوجُّهِكم نحوَ بيتِ المقدسِ على ضلالٍ وباطلٍ.

وإذْ كان ذلك معنَى الآيةِ بإجماعِ الحُجَّةِ من أهلِ التأويلِ، فبَيِّنٌ

(2)

خطأُ قولِ من زعَم أن معنَى قولِه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ولا الذين ظلَموا منهم

(3)

. وأن معنى

(4)

{إِلَّا} بمعنَى الواوِ؛ لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفْيُ الأولُ عن جميعِ الناسِ - أن يكونَ لهم حُجةٌ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في تحوُّلِهم نحوَ الكعبةِ بوُجوهِهم - مُبَيِّنًا عن المعنَى المرادِ، ولم يكنْ في ذكرِ قولِه بعدَ ذلك:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} إلا التلْبيسُ الذي يتعالَى عن أن يُضافَ إليه أو يُوصفَ به. هذا مع خروجِ معنَى الكلامِ إذا وُجِّهَت

(5)

{إِلَّا} إلى معنَى الواوِ وبمعنَى

(6)

العطفِ، من كلامِ العربِ. وذلك أنه غيرُ موجودةٍ "إلا" في شيْءٍ من كلامِها بمعنى الواوِ، إلَّا مع استثناءٍ سابقٍ قد تقدّمَها، كقولِ القائلِ: سارَ القومُ إلَّا عَمرًا إلَّا أخاك. بمعنى: إلّا عَمرًا وأخاك. فتكون "إلّا" حينئذٍ مؤدِّيةً عما تؤدِّي عنه الواوُ لتعلُّقِ "إلا"

(1)

في م: "باطلة".

(2)

في ص: "فتبين".

(3)

كأنه يعني أبا عبيدة، فهذا القول له في مجاز القرآن 1/ 60.

(4)

سقط من: م.

(5)

في ص: "وجهه".

(6)

في ص، م:"معنى".

ص: 688

الثانيةِ [بـ"إلّا"]

(1)

الأُولى. ويُجمعُ أيضًا فيها بينَ "إلّا" والواوِ، فيقالُ: سار القومُ إلّا عَمرًا، وإلّا أخاك. فتُحذفُ إحداهما فتنوبُ الأخرَى عنها، فيقالُ: سارَ القومُ إلّا عَمرًا وأخاك. أو: إلّا عَمرًا إلّا أخاك. لما وصَفْنا قبلُ.

فإذْ كان ذلك كذلك، فغيرُ جائزٍ لمدَّعٍ

(2)

من الناسِ أن يدّعِيَ أن {إِلَّا} في هذا الموضعِ بمعنى الواوِ التي تأتي بمعنَى العطفِ.

وواضحٌ فسادُ قولِ من زعَم أن معنى ذلك

(3)

: إلّا الذين ظلَموا منهم، فإنهم لا حُجّةَ لهم، فلا تَخشَوْهم، كقولِ القائلِ في الكلامِ

(4)

: الناسُ كلُّهم لك حامدون، إلّا الظالمَ

(5)

المعتدِيَ عليك، فإن ذلك لا يُعتدُّ بعُدْوانِه

(6)

، ولا بترْكِه الحمدَ لموضِعِ العداوةِ. وكذلك الظالمُ لا حُجةَ له، وقد سُمِّى ظالمًا - لإجماعِ جميعِ أهلِ التأويلِ على تخْطِئةِ ما ادَّعى من التأويلِ في ذلك. وكفَى شاهدًا على خطأِ مقالةٍ

(7)

إجماعُهم على تخطِئَتِها.

وظاهرٌ بطولُ قولِ من زعَم أن الذين ظلَموا عهنا ناسٌ من العربِ كانوا يهودًا أو

(8)

نصارَى، فكانوا يحتَجُّون على النبيِّ، فأما سائرُ العربِ، فلم تكنْ لهم حُجّةٌ، وكانت حُجّةُ من يحتَجُّ مُنكسِرةً؛ لأنك تقولُ لمن تُريدُ أن تكَسِرَ عليه حُجَّتَه: إن لك

(1)

في ص: "إلى".

(2)

هو أبو عبيدة معمر بن المُثَنَّى. ينظر مجاز القرآن 1/ 60.

(3)

هو الفراء، وما سيأتي هو نص كلامه في معاني القرآن 1/ 89.

(4)

في م، ت 2:"كلامه".

(5)

بعده في معاني القرآن: "لك".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعداوته".

(7)

في م، ت 2:"مقالته".

(8)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

ص: 689

عليَّ حُجّةً، ولكنها مُنكسِرَةٌ، إنَّك لتحتجُّ بلا حُجَّةٍ، وحُجّتُك ضعيفةٌ. ووَجَّه

(1)

معنى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} إلى معنَى: إلّا الذين ظلموا منهم من أهلِ الكتابِ، فإن لهم عليكم حُجةً واهيةً، أو حُجةً ضعيفةً. ووَهَاءُ

(2)

قولِ من قال: "إلّا" في هذا الموضعِ بمعنى "لكن". وضَعْفُ قولِ من زعَم أنه ابتداءٌ بمعنَى: إلّا الذين ظلَموا منهم فلا تخشوهم؛ لأن تأويلَ أهلِ التأويلِ جاءَ في ذلك بأن ذلك من اللهِ خبرٌ عن الذين ظلَموا منهم أنهم يحتَجُّون على النبيِّ وأصحابِه بما قد ذكرْنا، ولم يقصِدْ في ذلك إلى الخبرِ عن صفةِ حُجّتِهم بالضعفِ ولا بالقوَّةِ - وإن كانت ضعيفةً لأنها باطلةٌ - وإنما قصَد فيه الإثباتَ للذين ظلَموا ما قد نَفَى عن الذين قبلَ حرفِ الاستثناءِ من الصفةِ.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، قال: قال الربيعُ: إن يهوديًّا خاصمَ أبا العاليةِ فقال: إن موسى كان يُصلِّي إلى صخرةِ بيتِ المقدسِ. فقال أبو العاليةِ: كان يُصلِّي عند الصخرةِ إلى البيتِ الحرامِ. قال: قال فبيني وبينَك مسجدُ صالحٍ، فإنه نحَته من الجبلِ. قال أبو العاليةِ: قد صلّيتُ فيه وقبلتُه إلى البيتِ الحرامِ. قال الربيعُ: وأخبرَني أبو العاليةِ أنه مرَّ على مسجدِ ذِي القرنين وقِبلتُه إلى الكعبةِ.

وأما قولُه: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} يعني: فلا تخشَوْا هؤلاء الذين وصَفْتُ لكم أمرَهم من الظلَمةِ

(3)

، في حُجّتِهم وجدالِهم وقولِهم ما يقولُون من

(4)

أن محمدًا

(1)

التقدير: وظاهر بطلان قول من وجّه.

(2)

في النسخ عدا الأصل: "وهي" وهما بمعنى. وتقدير الكلام: وظاهر وهاء.

(3)

في م: "الظلم".

(4)

في ص: "في".

ص: 690

قد رجَع إلى قبلتِنا، وسيَرْجِعُ إلى دينِنا، أو أن يقدِرُوا لكم على ضُرٍّ في دينِكم، أو صَدِّكم عما هَداكم اللهُ له من الحقِّ، ولكن اخشوْني، فخافوا عقابي في خلافِكم أمرِي إن خالَفتُموه.

وذلك من اللهِ تقدُّمٌ إلى عبادِه المؤمنين، بالحضِّ على لزومِ قبلتِهم والصلاةِ إليها، وبالنَّهي عن التوجُّهِ إلى غيرِها. يقولُ جلَّ ثناؤُه: واخشَوْني أيها المؤمنون، في ترْكِ طاعتي فيما أمَرتُكم به من الصلاةِ شطرَ المسجدِ الحرامِ.

وقد حُكِي عن السُّدِّيِّ في ذلك ما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} يقولُ: لا تخشَوْا أن أردَّكم في دينِهم

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} .

يَعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ومن حيث خرَجتَ من البلادِ والأرضِ إلى أيِّ بقعةٍ شَخَصْتَ، فولِّ وجْهَك شَطرَ المسجدِ الحرامِ، وحيثُ كنتَ أنت يا محمدُ والمؤمنون، فولُّوا وُجوهَكم في صلاتِكم شطْرَه، واتّخِذوه قِبلةً لكم، كيلا يكونَ لأحدٍ من الناسِ عليكم

(2)

سِوَى مشركِي قريشٍ حُجةٌ، وكي أُتِمَّ بذلك - من هِدايتي لكم إلى قبلةِ خليلِي إبراهيمَ، الذي جعَلْتُه إمامًا للناسِ - نعْمتي، فأُكمِلَ لكم به فضلي عليكم، وأتمِّمَ به شرائعَ ملَّتِكم الحنِيفيّةِ المسلمةِ التي وصَّيتُ بها نوحًا وإبراهيمَ وموسى وعيسى وسائرَ الأنبياءِ غيرَهم.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 259 (1390) عن أبي زرعة، عن عمرو به. وإلى هنا انتهى المجلد الثاني من نسخة دار الكتب المصرية. وقد أشرنا في المقدمة إلى أن الجزء الثالث منها غير موجود وتستأنف عند قوله جل ثناؤه:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} . من الآية 220 من سورة البقرة.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 691

وذلك هو نِعْمتُه التي أخبَرَ جلَّ ثناؤُه أنه مُتِمُّها على رسولِه والمؤمنين به من أصحابِه.

وقولُه: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} يعني: وكي [تَهْتَدوا فتَرْشُدوا]

(1)

للصوابِ من القِبَلِ

(2)

. و {وَلَعَلَّكُمْ} عطفٌ على قولِه: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ، [وقولُه]

(3)

{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عطفٌ على قولِه: {لِئَلَّا يَكُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} .

يَعني بقولِه تعالى ذكرُه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} . ولأُتِمَّ نعمَتِي عليكم ببيانِ شرائِع ملّتِكم الحنيفيّةِ وأهديَكم لدينِ خليلِي إبراهيمَ، فأجعَلَ لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألَنِيها فقال:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128] كما جعَلتُ لكم دَعوَتَه التي دعانِي بها، ومسألَته التي سألَنيها فقال:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] فابتعثْتُ منكم رسولِي الذي سألَني خليلي إبراهيمُ وابنُه إسماعيلُ أن أبعَثَه من ذُرِّيتِهما.

فـ {كَمَا} إذن - إذ كان ذلك معنى الكلامِ - صلةٌ لقولِ اللهِ: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [وتأويلُه: ولأُتمَّ نعْمتي عليكم كما أرسلْنَا فيكم رسولًا منكم]

(4)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ترشدوا".

(2)

في م، ت 2:"القبلة".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م: "ولا يكون قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}. متعلقا بقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ". وهو جيد أيضًا.

ص: 692

وقد قال قومٌ

(1)

: إن مَعنى ذلك: فاذْكُروني كما أرسَلْنا فيكم رسولًا منكم أذكُرْكم. وزعَموا أن ذلك من المقدَّمِ الذي مَعناه التأْخيرُ، فأغرَقوا النَّزْعَ

(2)

، وبعُدوا من الإصابةِ، وحمَلوا الكلامَ على غيرِ معناه المعروفِ، وسِوَى وجهِه المفهومِ. وذلك أن الجاريَ من الكلامِ على ألسُنِ العربِ، المفهومَ في خطابِهم بينَهم، إذا قال بعضُهم لبعضٍ: كما أحسَنتُ إليك يا فلانُ فأحسِنْ. أن لا يشترطوا: لأُحسن

(3)

. لأن الكافَ في "كما" شرطٌ، معناه: افعَلْ كما فعَلتُ. ففي مجئ جوابِ: {فَاذْكُرُونِي} . بعدَه، وهو قولُه:{أَذْكُرْكُمْ} أوضحُ الدليلِ على أن قولَه: {كَمَا أَرْسَلْنَا} من صلةِ الفعلِ الذي قبلَه، وأن قولَه:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} خبرٌ مبتدأٌ منقطِعٌ عن الأَولِ، وأنه من سببِ قولِه:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} بمعزِلٍ.

وقد زعَم بعضُ النحْويين

(4)

أن قولَه: {فَاذْكُرُونِي} إذا جُعِل قولُه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} جوابًا له جمع قولِه: {أَذْكُرْكُمْ} نظيرُ الجزاءِ الذي يُجابُ بجوابين، كقولِ القائلِ: إذا أتاك فلانٌ فائْتِه تُرْضِه. فيصيرُ قولُه: فائْته

(5)

تُرْضِه جَوابين لقولِه: إذا أتاك. وكقولِه: إن تأتني أُحسِنْ إليكَ أُكْرِمْك.

وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهبِ، فليس بالأشهرِ

(6)

الأفصحِ في كلامِ العربِ، والذي هو أوْلَى بكتابِ اللهِ أن يوجَّهَ إليه من اللغاتِ الأفصحُ الأعرفُ من كلامِ العربِ، دونَ الأنْكَرِ الأجهلِ من منطقِها. هذا، مع بُعد وَجْهِه من المفهومِ في التأويلِ.

(1)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 92.

(2)

أغرق النازع في القوس: أي استوفى مدها، يضرب مثلا للغلو والإفراط. اللسان (غ ر ق).

(3)

في م: "للآخر".

(4)

هو من قول الفراء أيضًا، ينظر معاني القرآن 1/ 92.

(5)

بعده في م: "و".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالأسهل".

ص: 693

ذكرُ من قال: إن قولَه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} جوابٌ لقولِه: {فَاذْكُرُونِي} .

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، قال: سمِعتُ ابنَ أبي نَجيحٍ يقولُ في قولِ اللهِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} : كما فعَلتُ فاذْكرونِي.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال. حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(1)

.

[وأمّا]

(2)

قولُه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} فإنه يَعني بذلك العربَ، قال لهم: الزَموا أيها العربُ طاعتي، وتوجَّهوا إلى القِبلةِ التي أمَرْتكم بالتوجُّهِ إليها، لتنقطِعَ حُجَّةُ اليهودِ عنكم، فلا تكونُ لهم عليكم حُجّةٌ، ولأُتمَّ نعمتي عليكم وتهْتدوا، كما ابتدَأْتكم بنعمَتي، فأرسَلْتُ فيكم رسولًا إليكم منكم. وذلك الرسولُ الذي أرسَلَه إليهم منهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وأما قولُه: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} فإنه يعني آياتِ القرآنِ. وبقولِه: {وَيُزَكِّيكُمْ} ويطهِّرُكم من دَنسِ الذنوبِ: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} وهو

(1)

تفسير مجاهد ص 217، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 259 (1391)، وينظر تفسير البغوي 1/ 166، 167. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 148 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وقد سقط أوله من المطبوع.

(2)

سقط من: م.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 259 عقب الأثر (1392) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 694

القرآنُ

(1)

، يعني أنه يعلِّمُهم أحكامَه. ويعني بالحكمةِ السُّننَ والفقهَ في الدينِ، وقد بيَّنا جميعَ ذلك فيما مضَى قبلُ بشواهِدِه

(2)

.

وأما قوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} فإنه يَعني: ويعلِّمُكم من أخبارِ الأنبياءِ، وقَصصِ الأممِ الخاليةِ، والخبرِ عما هو حادثٌ وكائنٌ من الأمورِ التي لم تكنِ العربُ تعلَمُها. فعلَّمهموها

(3)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأخبَرهم اللهُ أن ذلك كلَّه إنما يُدْرِكونه برسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} .

يَعني بذلك: فاذْكُروني أيها المؤمنون بطاعتِكم إيّايَ فيما آمُرُكم به وفيما أنْهاكم عنه، أذكُرْكم برحْمتي إيَّاكم ومغْفِرتي لكم.

كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ لَهيعَةَ، عن عطاءِ بنِ دينارٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ في:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال: اذْكُروني بطاعتي، أذكُرْكم بمغفرتي

(4)

.

وقد كان بعضُهم يتأوَّلُ ذلك أنه من الذِّكرِ بالثناءِ والمدحِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن

(1)

في م: "الفرقان".

(2)

ينظر ما تقدم في ص 575.

(3)

في م: "فعلموها من".

(4)

أخرجه أبن أبي حاتم في تفسيره 1/ 260 (1398) من طريق ابن لهيعة به. وأخرجه 1/ 261 (1399) من طريق ابن لهيعة به، بلفظ: أذكركم برحمتي. وعزاه السيوطي أيضًا في الدر المنثور 1/ 148 إلى عبد بن حميد. وينظر تفسير البغوي 1/ 167.

ص: 695

الربيعِ في قولِه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} إن اللهَ ذاكرٌ من ذكَره، وزائدٌ من شكَره، ومعذِّبٌ من كفَره

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال: ليس مِن عبدٍ يذكُرُ اللهَ إلا ذكَره اللهُ، لا يذكُرُه مؤمنٌ إلا ذكَره برحمةٍ، ولا يذكُرُه كافرٌ إلا ذكَره بعذابٍ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}

يَعني: اشكُروا لي أيُّها المؤمنون فيما أنعَمتُ عليكم به من الإسلامِ، والهدايةِ للدينِ الذي شرَعتُه لأنبيائي وأصْفيائي، {وَلَا تَكْفُرُونِ}. يقولُ: ولا تجْحَدوا إحساني إليكم، فأسْلُبَكم نعمَتي التي أنعمْتُ عليكم، ولكنِ اشكُروا لي عليها، فأزيدَكم، وأُتَمِّمَ نعمَتي عليكم، وأهديَكم لما هَدَيتُ له من رَضِيتُ عنه من عبادي، فإني وَعَدتُ خلقي أن من شكَر لي زدْتُه، ومن كفَرني حرَمتُه وسلَبتُه ما أعطَيتُه.

والعربُ تقولُ: [شكَرْتُ لك صَنيعتَك. ولا تكادُ تقولُ: شكَرْتُك. وكذلك تقولُ. نصَحتُ لك]

(3)

. ولا تكادُ تقولُ: نصَحتُك. وربما قالتْ: شكَرتُك ونصَحتُك. من ذلك قولُ الشاعرِ

(4)

:

همُ جمَعوا بُؤسَي ونُعْمَي عليكُمُ

فهلَّا شَكَرْتَ القَوْمَ إذ

(5)

لم تُقاتِلِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 260، 261 عقب الأثر (1396، 1403) من طريق ابن أبي جعفر به، نحوه.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 260 عقب الأثر (1396، 1397) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به، نحوه.

(3)

في م: "نصحت لك وشكرت لك".

(4)

نسبه أبو حيان في البحر المحيط 1/ 447 إلى عمرو بن لجأ التميمي، وذكره الفراء في معاني القرآن 1/ 92 ولم ينسبه.

(5)

في م: "إن".

ص: 696

وقال النابغةُ في: نصَحْتُك

(1)

:

نَصَحْتُ بني عَوْفٍ فلم يَتَقبَّلوا

رسولي

(2)

ولم تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وَسائِلي

وقد دلَّلْنا على أن معنى الشكرِ الثناءُ على الرجلِ بأفعالِه المحمودَةِ، وأن معنى الكفرِ تغطيةُ الشيْءِ، فيما مضَى قبلُ، فأغنَى ذلك عن إعادتِه

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} .

وهذه الآيةُ حَضٌّ من اللهِ على طاعتِه، واحتمالِ مَكْروهِها على الأبدانِ والأموالِ، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا} على القيامِ بطاعتي، وأداءِ فرائضِي في ناسخِ أحكامِي، والانصرافِ عما أنْسَخُه منها إلى الذي أُحْدِثُه لكم مِن فرائضِي، وأنقُلُكم

(4)

إليه مِن أحْكَامِي، والتسليمِ لأمرِي فيما آمرُكم به في حينِ إلزامِكم حُكْمَه، والتحوُّلِ عنه بعدَ تحويلي إيَّاكم عنه - وإنْ لحِقَكُم في ذلك مَكْروهٌ مِن مقالةِ أعدائِكم مِن الكفارِ [تَحَدُّلٌ منهم لكم بالباطلِ]

(5)

، أو مَشَقَّةٌ على أبدانِكم في قيامِكم به، أو نَقْصٌ في أموالِكم - وعلى جهادِ أعدائِكم وحربِهم في سبيلي، بالصبرِ مِنكم لي على مكروهِ ذلك، ومشقتِه عليكم، واحتمالِ عِبْئِه

(6)

(1)

ديوان النابغة صفحة 67.

(2)

في ديوان النابغة تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم صفحة 143: "وصاتى". والرسول: الرسالة، يؤنث ويذكر. اللسان (ر س ل).

(3)

ينظر ما تقدم في معنى الشكر في 1/ 153 - 138، وفي معنى الكفر ما تقدم في 1/ 262.

(4)

في حاشية الأصل: "في الأم وأنقله".

(5)

في م: "بقذفهم لكم الباطل"، وفي ت 1:"يحد لهم منهم لهم الباطل"، وفي ت 2:"لخذلهم منهم لكم بالباطل"، وفي ت 3:"بخذلهم منهم لكم بالباطل". وتحدُّل أي: ظلم. ينظر التاج (ح د ل).

(6)

في م: "عنائه".

ص: 697

وثِقَلِه، [وبالعزاءِ منكم عمَّن قُتِل في سبيلي]

(1)

، ثم بالفَزعِ منكم فيما ينوبُكم مِن مُفظِعاتِ الأمورِ إلى الصلاةِ لي، فإنَّكم بالصبرِ على المَكارِه تُدْرِكون مرضاتي، وبالصلاةِ لي تَسْتَنْجِحون طَلِباتِكم قِبَلي، وتُدْرِكون حاجاتِكم عندي، فإني مع الصابرين على القيامِ بأداءِ فرائضِي وتركِ معاصِيَّ، أنصُرُهم وأرعاهُم وأكلؤُهم حتى يظفَرُوا بما طلَبوا وأمَّلوا مِن قِبَلي، وقد بَيَّنْتُ معنى الصبرِ والصلاةِ فيما مضَى قبلُ فكرِهْنا إعادَتَه

(2)

.

كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} يقولُ: استعينوا بالصبرِ والصلاةِ على مرضاةِ اللهِ، واعلَموا أنَّهما مِن طاعةِ اللهِ

(3)

.

حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} اعْلَموا أنهما عَوْنٌ على طاعةِ اللهِ.

وأما قولُه: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فإن تأويلَه أن اللهَ ناصِرُه وظَهِيرُه، وراضٍ بفعلِه، كقولِ القائلِ لآخرَ:"افعلْ يا فلانُ كذا وأنا معكَ". يعني: إني ناصرُك على فعلِك ذلك ومعينُك عليه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} .

يعني بذلك: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبرِ على طاعتي في جهادِ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 248، 617، 618.

(3)

تقدم في 1/ 620، 621.

ص: 698

عدوِّكم، وتركِ معاصيَّ، وأداءِ سائرِ فرائضِي عليكم، ولا تقولوا لمَن يُقتلُ مِنكم في سبيلي: هو ميِّتٌ. فإن اميتَ مِن خلْقِي هو مَن سلَبتُه حياتَه وأعدمْتُه حوَاسَّه، فلا يَلْتَذُّ لذَّةً ولا يُدركُ نعيمًا، وإنَّ مَن قُتِلَ مِنكم ومِن سائرِ خَلقِي في سبيلِي أحياءٌ عندِي في حَبْرةٍ

(1)

و: نعيمٍ، وعيشٍ هنيٍّ، ورِزْقٍ سَنيٍّ، فَرِحين بما آتيْتُهم مِن فضلِي وحَبَوْتُهمْ به مِن كرامتي.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. [قال: يُرزَقون]

(2)

من ثمرِ الجَنَّةِ، ويجدون ريحَهَا وليسُوا فيها

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثلَه.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قولَه:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} ، [كنا نُحدَّثُ]

(4)

أنّ أرواحَ الشهداءِ تَعارفُ في طيرٍ بِيضٍ

(5)

يأْكُلْنَ من ثمارِ الجَنَّةِ، وأن مساكنَهم السِّدرةُ

(6)

، وأن للمجاهدِ في سبيلِ اللهِ ثلاثَ خَصَلاتٍ

(7)

: مَن قُتِلَ في

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حياة".

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

تفسير مجاهد ص 217، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 813 (4495). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 155، 2/ 96 إلى ابن المنذر.

(4)

في م: "كما يحدث".

(5)

في الأصل: "خضر".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سدرة المنتهى".

(7)

في م: "خصال من خير".

ص: 699

سبيلِ اللهِ منهم صارَ حيًّا مَرْزوقًا، ومَن غلَب آتاه الله أجرًا عظيمًا، ومَن ماتَ رزَقَه اللهُ رِزقًا حَسنًا

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} . قال: أرواحُ الشهداءِ في صُوَرِ

(2)

طيرٍ بيضٍ

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع في قولِه:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} . [قال: أحياءٌ]

(4)

في صورِ طيرٍ خضرٍ يطيرون في الجَنَّةِ حيث شاءُوا منها، يأكلون مِن حيثُ شاءو

(5)

.

حدَّثني المُثَنَّى، [قال: حدثنا إسحاقُ]

(6)

، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ غِياثٍ، قال: سمعتُ عكرمةَ يقول في قولِه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} . قال: أرواحُ الشهداءِ في طيرٍ بِيضٍ

(7)

في الجَنَّةِ

(8)

.

فإن قال لنا قائلٌ: وما في قولِه عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 155 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

في الأصل: "صدور".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 63، وأخرجه كذلك في مصنفه (9553، 9558)، وينظر الدر المنثور 1/ 155.

(4)

سقط من: م.

(5)

سيأتي نحوه عن الربيع في 6/ 231، 232. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 263 (1412)، والبيهقي في الشعب (9686) من طريق أبي جعفر عن الربيع، عن أبي العالية.

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(7)

في م: "خضر".

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 337 من طريق عثمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 155 إلى=

ص: 700

أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} مِن خصوصيةِ الخبرِ عن المقتولِ في سبيلِ اللهِ الذي لم يُعمَّ به غيرُه، وقد عَلِمتَ تَظاهرَ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه وصَف حالَ المؤمنينَ والكافرينَ بعدَ وفاتِهم، فأخبرَ عن المؤمنينَ أنهم تُفتحُ لهم مِن قبورِهم أبوابٌ إلى الجَنَّةِ يتَنَسَّمُون

(1)

منها رَوْحَها، ويَسْتَعْجِلونَ اللهَ قيامَ الساعةِ؛ ليَصيروا إلى مساكنِهم منها، ويُجْمَعَ بينَهم وبينَ أهالِيهم وأولادِهم فيها، وعن الكافرين أنه

(2)

تُفْتَحُ لهم من قبورِهم أبوابٌ إلى النارِ يَنظُرونَ إليها ويُصيبُهم مِن نَتْنِها ومَكْروهِها، ويُسلَّطُ عليهم فيها إلى قيامِ الساعةِ مَن يَقمَعُهم فيها، ويسألون اللهَ فيها تأخيرَ قيامِ الساعةِ؛ حَذارًا مِن المصيرِ إلى ما أُعِدَّ لهم فيها، من

(3)

أشباهِ ذلك من الأخبارِ

(4)

. فإذا كانت الأخبارُ بذلك مُتَظَاهرةً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما الذي خُصَّ به القتيلُ في سبيلِ اللهِ مما لمْ يُعمَّ به سائرُ البشرِ غيرُه من الحياةِ، وسائرُ الكفارِ والمؤمنين غيرُه أحياءٌ في البَرْزَخِ، أما الكفارُ فمعذَّبونَ فيه بالمَعِيشَةِ الضَّنْكِ، وأما المؤمنون فمُنَعَّمون بالرَّوْحِ والرَّيْحانِ ونَسِيمِ الجِنَانِ؟

قيل: إنّ الذي خَصَّ اللهُ به الشهداءَ في ذلك وأفادَ المؤمنين بخبرِه عنهم جلَّ ثناؤُه، إعلامُه إيَّاهم أنَّهم مَرزُوقون مِن مآكلِ الجَنَّةِ ومطاعِمِها في بَرْزَخِهم قَبلَ بَعْثِهم، ومُنعَّمُون بالذي يُنَعَّمُ به داخلُوها بعدَ البعثِ من سائرِ البشرِ مِن لَذيذِ مطاعمِها؛ [التي لم يُعْطِها]

(5)

اللهُ أحدًا غيرَهم في بَرْزَخِه قبلَ مَبْعَثِه

(6)

، فذلك هو

= المصنف وابن أبي شيبة في المصنف. وعثمان بن غياث، كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عكرمة في التفسير.

(1)

في م، ت 1، ت 2:"يشمون".

(2)

في م: "أنهم".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مع".

(4)

ينظر مسند الطيالسي (789).

(5)

في م، ت 3:"الذي لم يطعمها"، وفي ت 1، ت 2:"التي لم يعطها".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعثه".

ص: 701

الفضيلةُ التي فضَّلهَم بها وخصَّهم بها مِن غيرِهم، والفائدةُ التي أفاد المؤمنين بالخبرِ عنهم، فقال جلَّ وعزَّ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170].

وبمثلِ ذلك جاء الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ وعَبْدَةُ بنُ سليمانَ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن الحارثِ بنِ فُضيلٍ، عن محمودِ بنِ لَبِيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَداءُ على بارقٍ

(1)

؛ نهرٍ ببابِ الجنَّةِ، في قُبَّةٍ خَضْراءَ - وقال عَبْدَةُ: في رَوْضَةٍ خَضْراءَ - يَخْرُجُ عليهمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الجنَّةِ بُكرَةً وَعَشِيًّا"

(2)

.

حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن الإفْريقيِّ، عن ابنِ يسارٍ

(3)

السُّلَمِيِّ، أو أبي يسارٍ

(3)

- الطبريُّ يشكُّ - قال: أرواحُ الشهداءِ في قِبابٍ بِيضٍ مِن قِبابِ الجَنَّةِ، في كلِّ قُبةٍ زوجتانِ، رِزْقُهمْ في كلِّ يومٍ طلَعتْ فيه الشمسُ ثَوْرٌ وحُوتٌ؛ فأمّا الثورُ ففيه طَعْمُ كلِّ ثَمَرةٍ في الجَنَّةِ، وأما الحوتُ ففيهِ طَعْمُ كلِّ شرابٍ في الجَنَّةِ

(4)

.

فإن قال قائلٌ: فإن الخبرَ عمَّا ذكرتَ أن اللهَ أفاد المؤمنين بخبرِه عن الشهداءِ من النِّعمةِ التي خصَّهم بها في البرْزَخِ، غيرُ موجودٍ في قولِه:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} وإنما فيه الخبرُ عن حالِهم؛ أمواتٌ هُمْ أمْ أحياءٌ.

(1)

بعده في ص، ت 2، ت 3:"على".

(2)

سيأتي تخريجه في 6/ 230.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يشار".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 96 إلى المصنف.

ص: 702

قيل: إن المقصودَ بذكرِ الخبرِ عن حياتِهم إنما هو الخبرُ عمَّا هُمْ فيه مِنَ النِّعمةِ، ولكنَّه جلَّ ذكرُه لمَّا كان قد أنبأ عبادَه عمَّا قد خصَّ به الشهداءَ - في قولِه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وعلِمُوا حالَهم بخبرِه ذلك، ثم كان المرادُ من اللهِ في قولِه:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} نَهْىَ خَلْقِه عن أن يقولوا للشهداءِ: إنَّهم مَوْتَى - ترَك إعادةَ ذكرِ ما قد بينَّ لهم مِن خبرِهم.

وأما قولُه: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} فإنه يعني به: ولكنَّكم لا تَرونَهم، فتعلَموا أنّهم أحياءٌ، وإنما تعلَمون ذلك بخبرِى إيّاكم به.

وإنما رفَع قولَه: {أَمْوَاتٌ} بإضمارِ مكنيٍّ من

(1)

أسماءِ: "من يُقتلُ في سبيلِ اللهِ".

ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل اللهِ: هُم أمواتٌ. ولا يجوزُ النصبُ في "الأمواتِ"؛ لأنّ "القولَ" لا يعملُ فيهم، وكذلك قولُه:{بَلْ أَحْيَاءٌ} رَفعٌ بمعنى [بل هم]

(2)

أحياءٌ.

‌القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} .

وهذا إخبارٌ من اللهِ أتباعَ رسولِه محمدٍ، أنه مُبتلِيهم فممتحنُهم بشدائدَ من الأمورِ؛ ليعلَمَ مَن يَتَّبعُ الرسولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ على عَقِبَيْهِ، كما ابتلاهم فامتحَنهم بتحويلِ القِبلةِ مِن بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ، وكما امتحَن أصْفِياءَه قبلَهم، ووعَدهم

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنهم".

ص: 703

ذلك في آيةٍ أخرى فقال لهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} [البقرة: 214].

وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك كان ابنُ عباسٍ وغيرُه يقولُ.

حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا عبدُ اللهِ، قال: حدثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، قولَه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} ونحوِ هذا. قال: أخبرَ اللهُ سبحانَه المؤمنين أن الدنيَا دارُ بلاءٍ، وأنه مُبتَلِيهم فيها، وأمَرَهُم بالصبرِ وبشَّرهم، فقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} . ثم أخبرَهم أنه هكذا فعَل بأنبيائِه وصِفْوَتِه؛ لتَطِيبَ أنفسُهم، فقال:{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}

(1)

.

فمعنى قولِه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} : ولَنَخْتَبِرَنَّكم، وقد أتَيْنا على البيانِ عن أن معنى الابتلاءِ الاختبارُ، فيما مضَى قبلُ

(2)

.

وقولُه: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} ، يعني: من الخوفِ مِن العدوِّ، وبالجوعِ، وهو القَحْطُ، يقولُ: لَنَخْتَبِرَنَّكُم بشيءٍ مِن خوفٍ ينالُكم مِن عدُوِّكم، وبسَنةٍ تُصيبُكم، ينالُكم فيها مجاعةٌ وشدَّةٌ وتَعَذُّرُ المطالبِ عليكم، فتنقُصُ لذلك أموالُكمْ، وحروبٍ تكونُ بينَكم، وبينَ أعدائِكم من الكفارِ، فينقُصُ لها عددُكم، وموتِ ذَرَاريِّكم وأولادِكم، وجُدوبٍ تحدُثُ، فتَنْقُصُ لها ثمارُكم، كلُّ ذلك امتحانٌ منِّي لكم، واختبارٌ منِّي لكم؛ ليتَبَيَّنَ صادقُوكُم في إيمانِهم مِن كاذِبِيكم فيه، ويُعرفَ أهلُ البصائرِ في دينِه

(3)

مِنكم مِن أهلِ النفاقِ فيه، والشكِّ والارتيابِ،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 263، 264 (1416، 1419) من طريق عبد الله بن صالح به.

(2)

ينظر ما مضى في 1/ 653، 654.

(3)

في م، ت 1، ت 2:"دينهم".

ص: 704

كلُّ ذلك خطابٌ منه لأتباعِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه.

كما حدثني هارونُ بنُ إدريسَ الأصمُّ الكوفيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المحاربيُّ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} . قال: هم أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وإنما قال جلَّ ثناؤُه: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} ، ولم يقُلْ: بأشياءَ؛ لاختلافِ أنواعِ ما أعلمَ عبادَه أنه مُمتَحنُهم به، فلما كانَ ذلك مختلفًا - وكانتْ "مِن" تدلُّ على أن مع كلِّ نوعٍ منها مُضْمَرًا "شيْءٌ"، وأن معنى ذلك: ولَنَبْلونَّكم بشيْءٍ مِن الخوفِ، وبشيْءٍ من الجوعِ، وبشيْءٍ من نقصِ الأموالِ - اكتفَى بدَلالةِ ذِكرِ "الشيْءِ" في أولِه من إعادتِه مع كلِّ نوعٍ منها. ففعَل جلَّ ثناؤُه كلَّ ذلك بهِم، فامتحَنهم بضُروبِ المِحَنِ.

كما حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} . قال: قد كان ذلك، وسيكونُ ما هو أشدُّ مِن ذلك، قال اللهُ عند ذلك:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}

(2)

.

ثم قال جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ: وبشِّرْ، يا محمدُ، الصابرين على امتحانِي بما أمْتَحِنُهم

(3)

به، والحافظين أنفسَهم عن التقدّمِ على نهْيي عما أنهاهم عنه، والآخذِين

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 263 (1414، 1415)، من طريق عبد الملك به.

(2)

أخرجه البيهقي في الشعب (9686) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"امتحنتهم".

ص: 705

أنفُسَهم بأداءِ ما أكلِّفُهم مِن فرائضِي مع ابتلائِي إيَّاهم بما أبْتَلِيهم

(1)

به، القَائلين إذا أصابتْهم مصيبةٌ: نحن

(2)

للهِ ونحن

(2)

إليه راجعون. فأمَره اللهُ عز وجل بأن يَخصَّ بالبشارَةِ على ما يَمْتَحِنُهم به من الشدائدِ، أهلَ الصبرِ الذين وصَف صِفتَهم.

وأصلُ "التبشيرِ": إخبارُ الرجلِ الرجلَ الخبرَ يَسُرُّه أو يَسوءُه لم يَسْبِقْه به إليه غيرُه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} .

يعني بذلك: وبشِّرْ، يا محمدُ، [من الصابرين]

(3)

، الصابرين الذين يعلَمون أن جميعَ ما بهم مِن نعمةٍ فمنِّي، فيُقرُّون بعبودتي

(4)

، ويوحِّدونَني بالرُّبوبيةِ، ويصدِّقون بالمعادِ والرجوعِ إليَّ، فيَستسْلِمون لقضائِي، ويَرجُون ثَوابِي، ويخافون عقابِي، ويقولون - عندَ امتحانِي إيَّاهم ببعضِ مِحَنِي، وابتلائِي إيَّاهم بما وعَدتُهم أن أبتلِيَهم به من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وغيرِ ذلك من المصائبِ التي أنا مُمْتَحِنُهم بها -: إنّا مماليكُ رِّبنا ومَعْبودِنا أحياءً ونحنُ عبيدُه، وإنّا إليه بعدَ مَماتِنا صائرونَ. تسليمًا لقضائِي ورضًا بأحكامِي.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} .

يعني بقولِه: {أُولَئِكَ} : هؤلاءِ الصابرين الذين وصَفهم ونعَتهم.

{عَلَيْهِمْ} يعني: لهم {صَلَوَاتٌ} يعني: مغفرةٌ. وصلواتُ اللهِ على عبادِه:

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابتليتهم".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إنا".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعبوديتي".

ص: 706

غُفرانُه

(1)

، كالذي رُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اللّهُم صَلِّ على آلِ أبي أوْفَى"

(2)

.

يعني: اغفرْ لهم.

وقد بينَّا الصلاةَ وما أصلُها في غيرِ هذا الموضعِ

(3)

.

وقولُه: {وَرَحْمَةٌ} ، يعني: ولهم مع المغفرةِ التي

(4)

صفَح عن ذنوبهم وتغمَّدها، رحمةٌ من اللهِ لهم ورأفةٌ.

ثم أخبَر عز وجل مع الذي ذكَر أنه مُعطيهم على اصطِبارِهم على مِحَنِه تسليمًا منهم لقضائِه من المغفرةِ والرحمةِ - أنهم هم المهتدون المصيبون طريقَ الحقِّ، والقائلون ما يُرْضِي عنهم ربَّهم

(5)

، والفاعلون ما استوجَبُوا به من اللهِ الجزيلَ مِن الثوابِ.

وقد بيَّنا معنى الاهتداءِ فيما مضَى، وأنه بمعنى الرُّشْدِ للصوابِ

(6)

.

وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.

ذِكرُ مَن قال في لك

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ

(1)

بعده في م: "لعباده"، وبعده في ت 1، ت 2، ت 3:"عباده".

(2)

أخرجه البخاري (1497)، ومسلم (1078). وينظر مسند الطيالسي (857).

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 248.

(4)

بعده في م: "بها".

(5)

سقط من ت م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

ينظر ما تقدم في 1/ 234.

ص: 707

الْمُهْتَدُونَ (157)}. قال: أخبرَ اللهُ أنّ المؤمنَ إذا سلَّم لأمرِ اللهِ، ورجَّع واسْتَرْجَعَ عندَ المصيبَةِ، كتَب اللهُ

(1)

له ثلاثَ خصالٍ من الخيرِ: الصلاةَ مِن اللهِ، والرحمةَ، وتحقيقَ سبيلِ الهدَى. وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَن اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَر اللهُ مُصِيبَتَهُ، وأحْسَنَ عُقْباهُ، وجعَل له خلَفًا صَالحًا يَرْضَاهُ"

(2)

.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} . يقولُ: الصلواتُ والرحمةُ على الذين صبرُوا واسْتَرْجعوا

(3)

.

حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ العُصْفُرِيِّ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: ما أُعطِيَ أحدٌ ما أُعطِيَتْ هذه الأُمةُ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ولو أُعطِيَها أحدٌ لأُعطِيَها يعقوبُ، ألمْ تسمَعْ إلى قولِه:{يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}

(4)

[يوسف: 84].

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} .

والصَّفَا: جمعُ صَفَاةٍ، وهي الصخْرةُ المَلْساءُ، ومنه قولُ الطِّرِمُّاحِ بنِ حكيمٍ

(5)

:

أبَى لي ذُو القُوَى والطَّوْلِ ألَّا

يُؤِّبسَ

(6)

حافِرٌ أبَدًا صَفَاتِي

(1)

ليس في: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 264 (1421)، والطبراني في الكبير (13027)، والبيهقي في الشعب (9689) من طريق عبد الله بن صالح له.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 266 (1428)، والبيهقي في الشعب (9686) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 265 (1422)، والبيهقي في الشعب (9691) من طريق سفيان العصفري به.

(5)

ديوانه ص 24. وفيه يؤيس بدلا من يؤبس، وهما بمعنى. وينظر التاج (أ ب س، أ ي س).

(6)

ذو القوى والطول: هو الله تعالى ذكره، ويؤبس: يذلل ويكسر. ينظر التاج (أ ب س).

ص: 708

وقد قيل: إن الصَّفَا واحدٌ، وأنه يُثنَّى صفَوَان، ويُجمعُ أصْفاءٌ وصُفِيًّا وصِفيًّا.

واستشهَدوا على ذلك بقولِ الراجزِ

(1)

:

كأنَّ مَتْنَيْه مِن النَّفِيِّ

(2)

مَوَاقِعُ الطَّيْرِ على الصُّفِيِّ

وقالوا: هو نظيرُ عَصَا وعُصِيٍّ ورَحَا ورُحِيٍّ وأرْحَاءَ

(3)

.

وأمَّا المرْوَةُ فإنَّها الحصاةُ الصغيرةُ يُجمعُ قليلُها؛ مَرَوَاتٌ، وكثيرُها؛ المرْوُ مثلُ تمْرَةٍ وتمَراتٍ وَتمْرٍ. كما قال الأعشى ميمونُ بنُ قَيْسٍ

(4)

:

[وتُولِّى الأرْضَ]

(5)

خُفًّا زائِلًا

(6)

فإذا ما صادَف المَرْوَ رَضَحْ

(7)

يعني بالمرْوِ: الحصَى

(8)

الصغارَ، ومِن ذلك قولُ أبي ذؤيبٍ الهُذَليِّ

(9)

:

حتى كأنّي للحَوَادِثِ مَرْوَةٌ

بصَفا المُشَرَّقِ

(10)

كلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ

[ويُقالُ: المشقَّرُ]

(11)

. وإنما عنَى اللهُ تعالى ذكرُه بقولهِ: {إِنَّ الصَّفَا

(1)

هو الأخيل الطائي. كما في اللسان (ن ف ى، هـ ى ص، هـ ى ض). وينظر أمالي القالي 2/ 8.

(2)

في الأصل، ت 1، ت 3، وفي ت 2:"التقى" والنفى: ما وقع عن الرِّشاء من الماء على ظهر المُستقى. وقيل: هو تطاير الماء عن الرشاء عند الاستقاء. اللسان (ن ف ى).

(3)

ينظر تفسير الطبري تحقيق الشيخ محمود شاكر 2/ 225.

(4)

ديوانه ص 241.

(5)

في م: "وترى بالأرض". وفي ت 2: "وترى الأرض".

(6)

في الأصل: "زابلا"، وفي الديوان:"مجمرًا".

(7)

رضَح الحصى والنَّوى يَرْضَحه رَضْحا. كسره ودقَّه. التاج (ر ض ح).

(8)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الصخر". وينظر القاموس المحيط (م ر و).

(9)

ديوان الهذليين 1/ 3 وشرح أشعار الهذليين 1/ 9، واللسان:(ش ر ق).

(10)

قال الضبي: المشرَّق المُصلَّى. قال ابن الأنباري: وإنما خص المشرق؛ لكثرة مرور الناس به. ديوان المفضليات ص 857.

(11)

سقط من: الأصل. والمشقر: لفظ رواية أبي عبيدة، قال ابن الأنباري: يعني سوق الطائف.=

ص: 709

وَالْمَرْوَةَ}. في هذا الموضعِ: الجَبَلَيْن المسمَّيَيْنِ بهذَيْنِ الاسْمَيْنِ اللذَيْنِ في حَرَمِه دونَ سائرِ الصَّفا والمرْوةِ

(1)

، ولذلك أدخَل فيهما الألفَ واللَّامَ؛ ليُعْلِمَ عبادَه أنه عنَى بذلك الجبلَينْ المعروفَيْن بهذَيْن الاسمَيْن، دون سائرِ الأصفاءِ والمرْوِ.

وأما قولُه: {مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} . فإنه يَعْني به: مِن معالم اللهِ التي جعَلَها جلَّ ثناؤُه لعبادِه مَعْلَمًا ومَشْعَرًا يعبدونَه عندَها إمَّا بالدُّعاءِ، وإمَّا بالذِّكرِ

(2)

، وإما بأداءِ ما فُرضَ عليهم من العملِ عندَها، ومنه قولُ الكُميْتِ

(3)

بنِ زيدٍ:

نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا

(4)

فجِيلًا نَرَاهُمُ

(5)

شَعائِرَ قُرْبانٍ بِهِمْ نَتَقَرَّبُ

(6)

وكان مجاهدٌ يقولُ في الشعائرِ ما حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، حدثنا عيسى، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} . قال: من الخيرِ الذي أَخبَركم عنه

(7)

.

فكأنّ مجاهدًا كان يرى أن الشعائرَ إنما هو جمعُ شَعِيرةٍ من إشْعارِ اللهِ عبادَه أمْرَ الصفَا والمروةِ، وما عليهم في الطوافِ بهما، بمعنى

(8)

إعلامِهم ذلك، وذلك تأويلٌ من المَفْهومِ بعيدٌ.

= ينظر المصدر السابق.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المرو".

(2)

في الأصل: "الصلاة". وفي ت 3: "بالفكرة".

(3)

البيت في اللسان، والتاج (ش ع ر).

(4)

في م: "جبيلا".

(5)

في م، واللسان، والتاج:"تراهم". وينظر تفسير الطبري للشيخ محمود شاكر 2/ 226 حاشية (3).

(6)

في م، ت 2، ت 3:"يتقرب".

(7)

تفسير مجاهد ص 217، بزيادة ستأتي في ص 716، 723، 728.

(8)

في م: "فمعناه".

ص: 710

وإنما أعلَمَ اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} . عبادَه المؤمنين أن السَّعيَ بينهما مِن مَشاعرِ الحجِّ التي سنَّها لهم، وأمَر بها خليلَه إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، إذْ سألَه أن يُرِيَه مناسكَ الحجِّ، وذلكَ وإنْ كان مَخرجُه مَخرَجَ الخبرِ، فإنه مرادٌ به الأمرُ؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه قد أمَر نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم باتِّباعِ مِلةِ إبراهيمَ عليه السلام، فقال له:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وجعَل تعالى ذِكرُه إبراهيمَ إمامًا لمن بعدَه، فإذا كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بينَ الصفَا والمروةِ مِن شعائرِ اللهِ ومن مَناسِكِ الحجِّ، فمعلومٌ أنَّ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، قد عمِل به، وسنَّه لمَنْ بعدَه، وقد أُمِرَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وأُمَّتُه باتِّباعِه، فعليهمُ العملُ بذلكَ على ما بيَّنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} .

يعني تعالى ذِكرُه: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} فمَن أتاه عائدًا إليه بعدَ بدءٍ، وكذلك كلُّ مَن أكثَرَ الاختلافَ إلى شيْءٍ فهو حاجٌّ إليه، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

وأَشْهدَ مِن عَوْفٍ حُلُولًا كَثيرةً

يَحُجُّونَ بيتَ

(2)

الزِّبْرِقانِ

(3)

المُزَعْفَرَا

يعني بقولِه يَحجُّون: يُكثِرون التردُّدَ إليه لسُؤْدَدِه ورِياسَتِه، وإنَّما قيل للحاجِّ: حاجٌّ. لأنه يأتي البيتَ قبلَ التعريفِ

(4)

، ثم يعودُ إليه للطوافِ

(5)

يومَ النَّحْرِ

(1)

هو المخبل السعدى، والبيت في البيان والتبين 3/ 97، وفي التاج (س ب ب). واللسان (س ب ب، ح ج ج، ز ب ر ق).

(2)

كذا في النسخ، وفي مصادر التخريج:"سِبّ" والسب: هو العمامة كما ذهب إليه الجاحظ ووافقه الطبري، وذهب غيرهم إلى أن السب هنا هي الاست. ينظر تعليق الشيخ شاكر 3/ 228.

(3)

الزبرقان: هو حصين بن بدر الفزاري من سادات العرب. المصدر السابق (س ب ب).

(4)

التعريف: الوقوف بعرفات. اللسان (ع ر ف).

(5)

في م، ت 3:"لطواف" وفي ت 2: "مرة بعد أخرى لطواف".

ص: 711

بعدَ التعريفِ، ثم يَنْصَرِفُ عنه إلى مِنًى، ثم يعودُ إليه لِطوافِ الصَّدَرِ

(1)

، فلِتَكْرَارِه العَوْدَ إليه مرَّةً بعدَ أُخرى قيل له: حاجٌّ. وأما المعتمرُ فإنما قيلَ له: مُعْتَمِرٌ. لأنه إذا طاف به انْصَرَف عنه بعدَ زيارتِه إيّاه، وأما قولُه:{أَوِ اعْتَمَرَ} فإنه يعني: أو اعتمَرَ البيتَ، ويعني بالاعتمارِ الزيارَةَ، فكلُّ قاصدٍ لشيْءٍ فهو له مُعتمِرٌ، ومنه قولُ العَجَّاجِ

(2)

:

لَقَدْ سَمَا ابنُ مَعْمَرٍ حينَ اعْتَمَرْ

مَغْزًى بَعيدًا مِن بَعيدٍ وضَبَرْ

(3)

يعني بقولِه حينَ اعْتَمر: حين قصَدَه وأَمَّه.

‌القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

يعني تعالى ذِكرُه بقولِه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . يقولُ: فلا حَرَجَ عليه ولا مأْثَمَ في طوافِه بهما.

فإن قال قائلٌ: وما وجهُ هذا الكلامِ، وقد قلْتَ لنا: إنّ قولَه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} وإنْ كان ظاهرُه ظاهرَ الخبرِ، فإنَّه في معنى الأمْرِ بالطوافِ بهما

(4)

؟ فكيف يكونُ أمْرًا بالطوافِ، ثم يقالُ: لا جُناحَ على مَن حَجَّ البيتَ أو اعْتَمر في الطوافِ بهما. وإنما يُوضعُ الجُناحُ عمن أتَى ما عليه بإتيانِه الجُناحَ والحَرَجَ،

(1)

طواف الصدَر: هو طواف الوداع. وسمى بذلك؛ لأن الناس يصدرون عن مكة بهذا الطواف إلى أماكنهم بعد قضاء نسكهم. ينظر تاج العروس (ص د ر).

(2)

ديوانه ص 50.

(3)

قال الأصمعي: إذا وثب الفرس فوقع مجموعة يداه، فذلك الضَّبْرُ. التاج (ض ب ر).

(4)

في الأصل: (بينهما).

ص: 712

فالأمرُ بالطوافِ بهما، والترخيصُ في الطوافِ بهما غيرُ جائزٍ اجتماعُهما في حالٍ واحدةٍ؟! قيلَ: إنّ ذلك بخلافِ ما إليه ذهبتَ

(1)

، وإنما معنَى ذلك عندَ أقوامٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما اعتمَرَ عُمرةَ القضيَّةِ تَحَوَّبَ

(2)

أقوامٌ كانوا يَطُوفون بهما في الجاهليةِ قبلَ الإسلامِ لصَنَمَيْن كانا عليْهما؛ تعظيمًا منهم لهما فقالوا: وكيف نطوفُ بهما، وقد علِمْنَا أن تعظيمَ الأصنامِ وجميعِ ما كانَ مِن ذلك يُعبدُ مِن دونِ اللهِ باللهِ شِركٌ، [وطوافُنا]

(3)

بهذيْن الحَجَريْن أحدُ ذلك؛ لأن الطوافَ بهما في الجاهِليةِ إنما كان للصنمينِ اللذينِ كانَا عليهمَا، وقد جاء اللهُ اليومَ بالإسلامِ ولا سبيلَ إلى تعظيمِ شيْءٍ مع اللهِ بمعنى العبادةِ له؟! فأنزَل اللهُ تعالى ذِكرُه في ذلك مِن أمرِهمْ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} يعني: إنّ الطوافَ بهما. فترَك ذِكرَ الطوافِ بهما اكتفاءً بذكرِهما منه، إذْ كان معلومًا عند المخاطَبِينَ به أن معناهُ: من معالمِ اللهِ التي جعَلها عَلَمًا لعبادِه يَعبُدونَه عندَهما بالطوافِ بينَهما ويَذْكُرونه عليْهما وعندَهما، بما هو له أهلٌ من الذِّكرِ، فمَن حجَّ البيتَ أو اعتمَرَ فلا [يَتَحَوَّبَنَّ مِن]

(4)

الطوافِ بهما، مِن أجلِ ما كان أهلُ الجاهليةِ يَطوفُون بهما، مِن أجلِ الصنَمَيْن اللّذيْن كانَا عليهما، فإنّ أهلَ الشركِ كانوا يَطوفُون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفُون بهما إيمانًا بي

(5)

وتصديقًا لرسولِي، وطاعةً لأمْرِي، فلا جُناحَ عليكم في الطوافِ بهما.

والجنُاحُ: الإثمُ. كما حدثني موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذهب".

(2)

في م: "تخوّف"، والتَّحوُّبُ: التحوُّج والتأثُّم. وينظر اللسان (ح و ب).

(3)

في م، ت 1، ت 3:"ففي طوافنا". وفي ت 2: "بطوافين في صلواتنا".

(4)

في م: "يتخوفن".

(5)

سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 713

السُّديِّ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . يقولُ: ليس عليه إثمٌ ولكنْ له أجرٌ.

وبمثلِ الذي قلْنا في ذلك تظاهرتِ الروايةُ عن السَّلفِ من الصحابةِ والتابعين.

ذِكرُ الأخبارِ التي رُويتْ بذلك

حدثني محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الشواربِ: قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا داودُ، عن الشَّعبيِّ، أن وَثَنًا كان في الجاهليةِ على الصَّفَا يُسمَّى إسَافًا، ووَثَنًا على المَرْوةِ يُسمَّى نائلةَ، فكان أهلُ الجاهليةِ إذا طافوا بالبيتِ مسَحُوا الوثَنَيْن؛ فلمَّا جاء الإسلامُ وكُسرت الأوثانُ، قال المسلمون: إن الصّفا والمروةَ إنما كان يُطافُ بهما من أجلِ الوثَنينْ، وليس الطوافُ بهما مِن الشعائرِ. قال: فأنزَل اللهُ أنهما من الشعائرِ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}

(1)

.

حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن الشَّعبيِّ، نحوَه، وزادَ فيه، قال: فجعَله اللهُ تَطوُّعَ خيرٍ.

حدثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، قال: كان صَنمٌ بالصَّفا يُدعى إسافًا، ووَثَنٌ بالمروةِ يُدعَى نائلةَ. ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابنِ أبي الشواربِ، وزادَ فيه، قال: فذُكِّرَ الصَّفا من أجل الوثَنِ الذي كان عليه مذكَّرًا، وأُنِّث المروةُ من أجلِ الوثنِ الذي كان عليه مؤنَّثًا.

حدثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن أبي زائدَةَ، قال: أخبَرني عاصمٌ الأحولُ، قال:

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (234 - تفسير) من طريق داود بن أبي هند به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 160 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وعزاه الحافظ في الفتح 3/ 500 إلى الفاكهي وإسماعيل القاضي في الأحكام بإسناد صحيح عن الشعبي.

ص: 714

قلتُ لأنسِ بنِ مالكٍ: أَكُنتم تكرهون الطوافَ بينَ الصَّفَا والمروةِ حتى نزَلتْ هذه الآيةُ؟ فقال: نعم كنّا نَكرَهُ الطوافَ بينَهما؛ لأنهما مِن شعائرِ الجاهليةِ حتى نزَلتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}

(1)

.

حدثني عليُّ بنُ سهلٍ الرَّمْليُّ، قال: ثنا مُؤَمَّلُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، قال: سأَلتُ أنسًا عن الصفَا والمروةِ، فقال: كانتا من مشاعرِ أهلِ الجاهليةِ، فلما كان الإسلامُ أمْسَكوا عنهما، فنَزلتْ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}

(2)

.

حدثني عبدُ الوارثِ بنُ عبدِ الصمدِ بنِ عبدِ الوارثِ [قال: حدثني أبي]

(3)

، قال: حدثني الحسينُ

(4)

المعلِّمُ، قال: ثنا شيبانُ

(5)

أبو معاويةَ، عن جابرٍ الجُعْفيِّ، عن عمرِو بنِ حُبشيٍّ، قال: قلتُ لابنِ عمرَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال: انْطلِقْ إلى ابنِ عباسٍ فاسْألْه، فإنه أعلمُ مَن بقيَ بما أُنزِل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأتيتُه فسألتُه، فقال: إنه كان عندَهما أصْنَامٌ

(6)

، فلمَّا حُرِّمْنَ أمسَكوا عن الطوافِ بينهما حتى أُنزلتْ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري (1648)، ومسلم (1278)، والنسائي في الكبرى (3159)، وابن خزيمة (2768) من طرق عن عاصم به. وينظر ما سيأتي في ص 717، 723.

(2)

أخرجه عبد بن حميد (1224 - منتخب)، والبخاري (4496)، والترمذي (2966)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 267 (1432) من طريق سفيان به.

(3)

سقط من: م.

(4)

في م: "أبو الحسين". ينظر تهذيب الكمال 6/ 472.

(5)

في م: "سنان" وهو تحريف.

(6)

بعده في الأصل: "وعند البيت أصنام". وليس في مصدر التخريج.

(7)

ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 31 عن عمرو بن حبشي، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 159 إلى المصنف.

ص: 715

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: حدثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} . وذلك أن ناسًا تَحرًّجُوا

(1)

أن يَطَّوَّفُوا بينَ الصفَا والمروةِ، فأخبَر اللهُ أنهما مِن شعائرِه، والطوافُ بينَهما أحبُّ إليه

(2)

، فمضت السُّنةُ بالطوافِ بينَهما

(3)

.

حدثني موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . قال: زعَم أبو مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان في الجاهليةِ شياطينُ تعزِفُ

(4)

الليلَ أجمعَ بينَ الصفا والمروةِ، وكانت بينَهما آلهةٌ، فلمّا جاء الإسلامُ وظهَر، قال المسلمون: يا رسولَ اللهِ لا تَطُوفَنَّ

(5)

بينَ الصفَا والمروةِ، فإنه شِرْكٌ كنّا نَصْنَعُه

(6)

في الجاهليةِ فأنزَل اللهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}

(7)

.

حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} قال: قالت الأنصارُ: إن السعيَ بينَ هذينِ الحَجَريْن مِن أمرِ الجاهليةِ، فأنزَل اللهُ تعالى ذِكرُه:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}

(8)

.

(1)

في م: "كانوا يتحرّجون".

(2)

في الأصل: "إلى". وينظر مصدر التخريج.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 159 إلى المصنف.

(4)

عزيف الجن: جرس أصواتها. اللسان (ع ز ف).

(5)

في م: "نطوف".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"نفعله".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 267 (1435)، والحاكم 2/ 271 من طريق عمرو عن أسباط به. كلاهما بزيادة في آخره "يقول: ليس عليه إثم ولكن له أجر". وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 100 من طريق عامر بن الفرات، عن أسباط به.

(8)

أخرجه سعيد بن منصور سننه (235 - تفسير) عن ابن علية به. وتقدم أوله في ص 710.

ص: 716

حدثني محمدُ بنُ عَمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.

[حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حُذيفةَ، قال: حدثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه]

(1)

.

حدثني يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . قال: كان أهلُ الجاهليةِ قد وضَعوا على كلِّ واحدٍ منهما صنمًا يُعَظِّمونَهما؛ فلمَّا أسلَم المسلمون كرِهوا الطوافَ بالصفَا والمروةِ لمكانِ الصنَمينْ، فقال اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وقرَأ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وسَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الطوافَ بهما.

حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، قال: قلت لأنسِ بنِ مالكٍ: الصفَا والمروةَ أكنتمْ تكرَهون أنْ تطوفُوا بهما مع الأصنام التي نُهيتُم عنها؟ قال: نعمْ حتى نزَلتْ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}

(2)

.

حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، قال: سَمِعتُ أنسَ بنَ مالكٍ يقولُ: إن الصفَا والمروةَ كانا من مشَاعرِ قريشٍ في الجاهليةِ، فلمَّا كان الإسلامُ تَرَكْنَاهُما.

وقال آخرون: بل أنزَل اللهُ تعالى ذكرُه هذه الآيةَ في سببِ قومٍ كانوا في الجاهليةِ لا يسعَوْنَ بينَهما، فلما جاءَ الإسلامُ تَحَوَّبوا

(3)

السعْيَ بينَهما كما

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

تقدم تخريجه في ص 715.

(3)

في م: "تخوّفوا".

ص: 717

كانوا يَتَحَوَّبُونه

(1)

في الجاهليةِ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآيةَ، فكان حيٌّ مِن تِهامَةَ في الجاهليةِ لا يسعَوْن بينَهما، فأخبَرهمُ اللهُ أنّ الصفَا والمروةَ من شعائرِ اللهِ وكان من سُنةِ إبراهيمَ وإسماعيلَ الطوافُ بينَهما

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: كان ناسٌ من أهلِ تِهامةَ لا يَطُوفُونَ بين الصفَا والمروةِ، فأنزلَ اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} .

حدَّثْنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبد اللهِ قال: حدَّثني الليثُ، قال: حدَّثني عُقيلٌ، عن ابنِ شهابٍ، قال: حدَّثني عروةُ بنُ الزبيرِ، قال: سألتُ عائشةَ فقلتُ لها: أرأيتِ قولَ اللهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وقلتُ لعائشةَ: واللهِ ما على أحدٍ جُناحٌ أن لا يطُوف بالصفَا والمروةِ؟ فقالتْ عائشةُ: بئسَ ما قلتَ يا ابنَ أختِي، إن هذه الآيةَ لو كانت كما أوَّلتَها كانت: لا جُناحَ عليه أن لا يطَّوَّفَ بهما، ولكنها إنما أُنزِلتْ في الأنصارِ كانوا قبلَ أنْ يُسْلموا يُهِلُّونَ لمنَاةَ الطاغيةِ التي كانوا يَعْبُدونَ بالمُشَلَّلِ

(3)

، وكان مَن أهَلَّ لها يَتَحرَّج أن يَطُوفَ بالصفَا والمروةِ، فلمّا أسلموا سألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنّا كنّا نتحرّجُ أن نطوفَ بالصَّفَا والمروةِ. فلما

(1)

في م: "يتخوّفونه".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 160 إلى المصنف.

(3)

المشلّل، بالضم ثم الفتح: جبل يُهبط منه إلى قُديدٍ (موضع قرب مكة) من ناحية البحر. ينظر معجم البلدان 4/ 543، ومعجم ما استعجم 3/ 1055، 4/ 1217، 1233.

ص: 718

سألوا رسولَ اللهِ عن ذلك؛ أنزَل اللهُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . قالت عائشةُ: ثم قدْ سنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الطوافَ بينَهما، فليس لأحدٍ أن يترُكَ الطوافَ بينَهما

(1)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزهريِّ، عن عُروةَ، عن عائشةَ، قالت: كان رجالٌ مِن الأنصارِ مِمَّن يُهِلُّ لمنَاةَ في الجاهليةِ، ومَناةُ صَنمٌ بينَ مكةَ والمدينةِ، قالوا: يا نبيَّ الله، إنّا كنا لا نطوفُ بينَ الصفَا والمروةِ تعظيمًا لمناةَ، فهلْ علينا مِن حَرَجٍ أن نطوفَ بهما؟ فأنزَل اللهُ تعالَى ذِكرُه:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] قال عروةُ: فقلت لعائشةَ: ما أبالِي أن لا أطوفَ بينَ الصفَا والمروةِ، قال اللهُ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} قالت: يا ابنَ أختِي، ألَا ترى أنه يقولُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} . قال الزهريُّ: فذكرتُ ذلك لأبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشام، فقال: هذا العلمُ! قال أبو بكرٍ: ولقد سمِعتُ رِجالًا مِن أهلِ العلمِ يقولون: لمّا أنزَل اللهُ الطوافَ بالبيتِ، ولم يُنزِلِ الطوافَ بينَ الصفَا والمروةِ، قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنّا كُنا نطوفُ في الجاهليةِ بينَ الصفَا والمروةِ، وإنّ اللهَ قد ذكَر الطوافَ بالبيتِ، ولم يَذْكُرِ الطوافَ بينَ الصفَا والمروةِ، فهل علينا مِن حرَجٍ أن لا نطوفَ بهما؟ فأنزَل اللهُ تعالى ذِكرُه:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآيةَ كلَّها. قال أبو بكرٍ: فأسمعُ هذه الآيةَ نزلتْ في الفريقينْ كلَيْهما؛ فيمن طافَ وفيمن لمْ يَطُفْ

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (1277/ 262)، والبيهقي 5/ 96، 97 من طريق ليث به. وأخرجه أحمد 6/ 144، 227 (الميمنية)، والبخاري (1643، 4861)، ومسلم (1277/ 261، 263)، والترمذي (2965)، والنسائي (2967، 2968)، وأبن أبي حاتم في تفسيره 1/ 266 (1430، 1431) من طريق الزهري به. وسيأتي من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه في ص 721، 726.

(2)

أخرجه أحمد 6/ 162 (الميمنية)، وابن أبي داود في المصاحف ص 100 من طريق عبد الرزاق به.

ص: 719

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، [قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ]

(1)

، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، قال: كان ناسٌ من أهلِ تِهامةَ لا يطوفون بينَ الصفَا والمروةِ، فأنزلَ اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}

(2)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنَا، أن يُقال: إنّ اللهَ تعالى ذِكرُه قد جعَل الطوافَ بينَ الصفَا والمروةِ مِن شعائرِ اللهِ، كما جعَل الطوافَ بالبيتِ مِن شعائرِه، فأما قولُه:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فجائزٌ أن يكونَ قيلَ لكلَا الفريقين اللّذيْنِ تَحَوَّب

(3)

بعضُهم الطوافَ بهما مِن أجلِ الصّنميِنْ اللَّذيْنِ ذكَرهما الشعبيُّ

(4)

، وبعضُهْم من أَجْلِ ما كان مِن كراهتِهم الطوافَ بهما

(5)

في الجاهليةِ على ما رُويَ عن عائشةَ. وأيُّ الأمريْنِ كان مِن ذلك فليس قولِ اللهِ تعالى ذِكرُه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} دَلالةٌ [في الآيةِ]

(6)

على أنه عَنى به وضْعَ الحرَجِ عمَّن طاف بهما، مِن أجلِ أن الطوافَ بهما كان غيرَ جائزٍ بحظْرِ اللهِ ذلك، ثم جَعَل الطوافَ بهما رُخْصةً؛ لإجماعِ الجميعِ على أنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه لم يَحظُرْ ذلك في وقتٍ، ثم رخَّص فيه بقولِه:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

وإنما الاختلافُ في ذلك بينَ أهلِ العلمِ على أوْجُهٍ؛ فرأَى بعضُهم أن تاركَ الطوافِ بينَهما تاركٌ من مَناسكِ حَجِّهِ ما لا يُجزئُه منه غيرُ قضائِه بعَيْنِه، كما لا

(1)

سقط من: م.

(2)

تقدم في ص 718.

(3)

في م: "تخوف".

(4)

ينظر ما تقدم في ص 713.

(5)

في الأصل: "بينهما".

(6)

سقط من: م.

ص: 720

يُجْزِئُ تاركَ الطوافِ، الذي هو طوَافُ الإفاضةِ إلا قَضاؤُه بعَيْنِه، وقَالوا: هما طوافانِ أمَر اللهُ بهما؛ أحدُهما بالبيتِ، والآخرُ بينَ الصفَا والمروةِ، [حُكْمُهما واحدٌ]

(1)

.

ورأَى بعضُهم أن تاركَ الطوافِ بهما يُجزئُه مِن تَرْكِه فِديةٌ، ورأَوْا أنَّ حُكمَ الطوافِ بهما حُكْمُ رَمْيِ بعضِ الجمَراتِ، والوقوفِ بالمشعَرِ، وطوافِ الصَّدَرِ، وما أشبهَ ذلك مما يُجزِئُ تارِكَه مِن تَرْكِه فديةٌ، ولا يَلْزَمُه العوْدُ لقضَائِه بعينِه.

ورأى آخرون أنَّ الطوافَ بهما تطوُّعٌ؛ إنْ فعَله فاعلٌ

(2)

كان مُحْسنًا، وإن ترَكه تاركٌ لم يلْزَمْه بترْكِه شيْءٌ. واللهُ تعالى أعلمُ.

ذِكرُ مَن قال: إنّ الطوافَ

(3)

بينَ الصفا والمروةِ واجبٌ ولا يُجزِئُ منه فديةٌ، ومَن ترَكهُ فعليه [العَوْدُ له]

(4)

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيعٌ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالتْ: لعَمرِي ما حجَّ مَن لمْ يسْعَ بينَ الصَّفَا والمروةِ؛ لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}

(5)

.

حدثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال مالكُ بنُ أنسٍ: مَن نَسِيَ السعيَ بينَ الصفَا والمروةِ، حتى يَسْتَبْعِدَ مِن مكّةَ فلْيَرْجِعْ فلْيَسْعَ، وإن كان قد أصابَ النساءَ فعليه العُمْرةُ والهَدْيُ

(6)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

في م: "صاحبه".

(3)

في م: "السعي".

(4)

في م: "العودة".

(5)

أخرجه مسلم (1277/ 259، 260)، وابن ماجه (2986) من طريق هشام بن عروة به. وسيأتي من طريق مالك عن هشام في ص 726. وسبق من طرق عن الزهري في ص 718، 719.

(6)

الموطأ 1/ 374 (130).

ص: 721

وكان الشافعيُّ يقولُ: على مَن ترَك الطوافَ

(1)

بينَ الصفا والمروةِ حتى

(2)

يرجعَ إلى بلدِه، العوْدُ إلى مكةَ حتى يطوفَ بينَهما، لا يُجزئُه غيرُ ذلك، حدَّثنا بذلك عنه الربيعُ

(3)

.

ذِكرُ مَن قال: يُجزئُ منه دمٌ وليس عليه عَوْدٌ لقضائِه

قال الثوريُّ فيما حدَّثني به عليُّ بنُ سهل، عن زيدِ بنِ أبي الزرقاءِ عنه

(4)

، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ: إن عاد تاركُ الطوافِ بينَهما لقضائِه فحسنٌ، وإن لم يعُدْ فعليه دَمٌ

(5)

.

ذِكرُ مَن قال: الطوافُ بينَهما تطوُّعٌ ولا شيْءَ على مَن ترَكه، ومَن كان يقرأُ:(فلا جُناحَ عليه أن لا يطَّوَّف بهما)

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، قال: قال عطاءٌ: لو أن حاجًّا أفاض بعدَ رَمْي الجَمْرةِ؛ جَمرةِ العقبةِ فطاف بالبيتِ ولم يَسْعَ، فأصابَها، يعني امرأتَه، لم يكن عليه شيْءٌ؛ لا حجٌّ ولا عمرةٌ، من أجلِ قولِ اللهِ في مصحفِ ابنِ مسعودٍ: (فمَنْ حَجَّ البيتَ [أوِ اعتَمَرَ]

(6)

فلا جُناحَ عليه أن لا يَطَّوَّف بهما). فعاودْتُه بعدَ ذلك، فقلتُ له

(7)

: إنه قد ترَك سُنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ألا تَسْمَعُه يقولُ: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] فأبَى أن يَجْعَلَ عليه شيئًا

(8)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"السعي".

(2)

في ت 2: "حين".

(3)

الأم 2/ 210.

(4)

ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 12/ 202 (17351).

(5)

ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 12/ 202 (17352).

(6)

سقط من: الأصل. والقراءة في مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب، وهي أيضًا قراءة أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب وهي قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 1/ 456.

(7)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(8)

ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 12/ 206 (17373) عن عطاء، وروى ابن حزم القراءة في المحلى 7/ 111 =

ص: 722

حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ، أنه كان يقرأُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}

(1)

.

حدثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا مؤملٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، قال: سمِعتُ أنسًا يقولُ: الطوافُ بهما

(2)

تطوُّعٌ

(3)

.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، قال: أخبرنا عاصمٌ الأحولُ، قال: قال أنسُ بنُ مالكٍ: هما تطوُّعٌ

(3)

.

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال: فلم يُحرِّجْ من لم يَطفْ بهما

(4)

.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ

(5)

، عن قيسٍ

(6)

، عن عطاءٍ، أن عبدَ اللهِ بنَ الزبيرِ قال: هما تطوُّعٌ.

= من طريق عبد بن حميد عن الضحاك عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن مسعود.

(1)

أخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 163، وابن أبي داود في المصاحف ص 73 من طريق هشيم به. وأخرجه أبو عبيد ص 163، والبيهقي في المعرفة (2984) من طريق عبد الملك به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 160 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بينهما".

(3)

تقدم طرف منه في ص 714 - 717. وينظر تفسير الثوري ص 53.

(4)

تقدم أوله في ص 710.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أحمد".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عيسى بن قيس".

ص: 723

حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، قال: قلتُ لأنسِ بنِ مالكٍ: السعيُ بينَ الصفَا والمروةِ تطوُّعٌ؟ فقال: تطوُّعٌ

(1)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أن الطوافَ بهما فرضٌ واجبٌ، وأن على مَن ترَكه العَوْدَ لقضائِه، ناسيًا كان ترَكهَ

(2)

أو عامدًا، لا يُجزِئُهُ غيرُ ذلك، لتظاهُرِ الأخبارِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه حجَّ بالناسِ فكان مما علَّمهم من مناسكِ حجِّهم الطوافُ بهما.

ذِكرُ الروايةِ عنه بذلك

حدثني يوسُفُ بنُ سلمانَ البصريُّ

(3)

، قال: ثنا حاتمُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا جعفرُ بنُ محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ، قال: لما دنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الصفَا في حجَّتِه

(4)

، قال: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} ، ابدَءُوا بِمَا بَدأ اللهُ به

(5)

".

فبدأَ بالصفَا فرقِى عليه

(6)

.

حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا محمود بنُ ميمونٍ أبو الحسنِ، عن أبي بكرِ بنِ عياشٍ، عن ابنِ عطاءٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:" {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} ". فأتَى الصفَا فبَدأَ بها، فقام عليها، ثم أتى المروةَ فقام عليها وطاف سَبْعًا

(7)

.

(1)

تقدم طرف منه في ص 716.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

زيادة من الأصل.

(4)

في م: "حجة".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3. "بذكره".

(6)

أخرجه عبد بن حميد (1133)، ومسلم (1218/ 147)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074) من طريق حاتم بن إسماعيل به. وهذا الحديث جزء من حديث جابر، الطويل المشهور. وينظر مسند الطيالسي (1773).

(7)

في م: "وسعى".

ص: 724

فإذ كان صحيحًا بإجماعِ الجميعِ مِن الأمَّةِ أن الطوافَ بهما [مما علَّم]

(1)

النبيُّ أمَّتَه في مناسكِهم، وعَمِلَه في حجِّه وعُمرتِه، وكان بيانُه لأمَّتِه جُمَلَ ما نصَّ اللهُ في كتابِه، وفرَضه في تَنْزِيلِه، وأمَر به مما لا

(2)

يُدْرَكُ عِلْمُه إلَّا بِبَيانِه عليه السلام، لازمًا العملُ به أمَّتَه، لما قد بَيَّنَّا في كتابِنا "كتابِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ" إذا اخْتَلَفَت الأُمةُ في وُجُوبِه، ثم كان مُخْتَلَفًا في الطوافِ بينَهما: هل هو واجِبٌ أم غيرُ واجبٍ - كان بيِّنًا وُجوبُ فَرْضِه على مَن حجَّ أو اعْتَمَر لما وصَفْنا.

وكذلك وجوبُ العوْدِ لقضاءِ الطوافِ بينَ الصفَا والمروةِ، لمَّا كان مُخْتَلَفًا فيها

(3)

على مَن ترَكه، مع إجماعِ جَميعِهم، على أنَّ ذلك مما فعَله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعلَّمه أُمتَه في حجِّهم

(4)

، إذْ علَّمَهُم مَناسِكَ حجِّهم، كما طافَ بالبيتِ، وعلَّمه أمتَه في حجِّهم وعُمرتِهم، إذْ علَّمهم مناسكَ حجِّهم وعمرتِهم. ثم أجمع الجميعُ على أن الطوافَ بالبيتِ لا تُجزِئُ منه فِديةٌ ولا بَدَلٌ، ولا يُجْزِئُ تاركَه إلا العوْدُ لقضائِه، كان نظيرًا له الطوافُ بالصفَا والمروةِ، لا تُجزِئُ منه فديةٌ ولا جزاءٌ، ولا يُجِزئُ تاركَه إلا العوْدُ لقضائِه، إذْ كانا كلاهُما طَوافين؛ أحدُهما بالبيتِ، والآخرُ بالصفَا والمروةِ، ومَن فرَّق بينَ حُكْميهما

(5)

عُكِس عليه القولُ فيه، ثم سُئلَ البرهانَ على التفرقةِ بينَهما.

فإنِ اعْتَلَّ بقراءةِ مَن قرَأ: (فلا جُنَاحَ عليه أن لا يطَّوَّفَ بهما). قيل: ذلك قراءةُ

(6)

خلافِ ما في مصاحفِ المسلمينَ، غيرُ جائزٍ لأحدٍ أن يزيدَ في مصاحفِهم

(1)

في م، ت 1، ت 2:"على تعليم". وفي ت 3: "على عمل".

(2)

في م: "لم".

(3)

في م: "فيما".

(4)

بعده في م: "وعمرتهم".

(5)

في م: "حكمهما".

(6)

سقط من: م.

ص: 725

ما ليس فيها، وسواءٌ قرَأ ذلك كذلك قارئٌ، أو قرَأ قارئٌ:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، (فلا جُناحَ عليهم

(1)

أن لا يطَّوَّفوا به) فإنْ جازتْ

(2)

إحدَى الزيادتينِ اللَّتيْن ليستَا في المصاحِفِ

(3)

كانت الأخْرَى نظيرتَها، وإلَّا كان مُجيزُ إحداهُما إذا منَع الأخرى مُتَحَكِّمًا، والتَّحَكُّمُ فلا يَعْجِزُ عنه أحدٌ، وقد رُوِيَ إنكارُ هذه القراءةِ وأن يكونَ التنزيلُ بها، عن عائشةَ.

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني مالكُ بنُ أنسٍ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، قال: قلت لعائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذٍ حديثُ السِّنِّ: أرأيتِ قولَ اللهِ عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . فما نرَى على أحدٍ شيئًا أن لا يطوَّفَ بهما؟ فقالت عائشةُ: كلَّا لو كانتْ كما تقولُ كانتْ: فلا جُناحَ عليه أن لا يطوَّفَ بهما. إنما أُنزلتْ هذه الآيةُ في الأنصارِ؛ كانوا يُهِلُّونَ لِمَناةَ وكانتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وكانوا يَتحرَّجون أن يَطُوفُوا بينَ الصفَا والمروَةِ؛ فلمَّا جاء الإسلامُ سألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزَل اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}

(4)

.

وقد يَحتمِلُ قراءةُ مَن قرَأ: (فلا جناحَ عليه أن لا يطَّوَّف)[أن يكونَ معناها: فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف {بِهِمَا}]

(5)

- أن تكونَ "لا" التي هي مع "أن" صِلَةً في الكلامِ

(6)

،

(1)

في م: "عليه".

(2)

في م: "جاءت".

(3)

في م: "المصحف".

(4)

الموطأ 1/ 373 (129)، ومن طريقه البخاري (1790)، وأبو داود (1901)، والنسائي في الكبرى (11009). وأخرجه أبو داود (1901) من طريق ابن وهب به. وسبق من طريق وكيع عن هشام في ص 721، ومن طرق عن الزهري عن عروة في ص 718، 719.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 95.

ص: 726

إذْ كان قد تقدَّمَها جَحْدٌ في الكلامِ قبلَها، وهو قولُه:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} ، فيكونُ نظيرَ قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]. بمعنى ما منعكَ أن تسجدَ، كما قال الشاعر

(1)

:

ما كان يَرْضَى رسولُ اللهِ فعلَهمُ

(2)

والطيِّبان أبو بَكْرٍ ولا عُمَرُ

فلو كان رسمُ المصحفِ كذلك لم يكن فيه لمحتجٍّ به حجةٌ، مع احتمالِ الكلامِ ما وصفْنَا؛ لما بيَّنَّا من أنّ ذلك مما علَّم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه في مناسكِهم على ما ذَكَرْنا، ولدَلالةِ القياسِ على صحتِه، فكيف وهو خلافُ رُسومِ مصاحفِ المسلمين، ومما لوْ قرأ به اليومَ قارئٌ كان مُسْتَحِقًّا العقوبةَ؛ لزيادتِه في كتابِ اللهِ عز وجل ما ليس منه؟!

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} .

اختَلَف القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَتْه عامَّةُ قَرَأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}

(3)

. على لفظِ المُضِيِّ؛ بالتاءِ وفَتْحِ العينِ. وقرأتْه عامةُ قرَأةِ الكوفيين: (ومَنْ يَطَّوَّعْ خيرًا)

(4)

بالياءِ وجَزْمِ العينِ وتشْديدِ الطاءِ، بمعنى: ومَن يتطوَّعْ. وذُكِر أنها في قراءةِ عبدِ اللهِ (ومَن يَتطوّعْ)

(5)

. فقرأتْ ذلك قَرَأَةُ أهلِ الكوفةِ، على ما وصَفْنا، اعتبارًا بالذي ذكرْنا مِن قراءةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، سوَى عاصمٍ فإنه وافَق المدنيِّينَ، فشدّدُوا الطاءَ طلبًا لإدغامِ التاءِ في الطاءِ. وكلْتَا القراءتَينْ معروفةٌ

(1)

هو جرير بن عطية. والبيت تقدم في 1/ 193.

(2)

في م: "فعلهما".

(3)

هذه قراءة غير حمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 118.

(4)

هذه قراءة حمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 118.

(5)

حجة القراءات ص 118. وقراءته: (ومن يتطوع بخير). وهي قراءة شاذة. ينظر المصاحف ص 57، والبحر المحيط 1/ 458.

ص: 727

صحيحةٌ متفِقٌ مَعْنيَاهما غيرُ مُخْتَلِفَينْ؛ لأن الماضِيَ من الفعلِ مع حروفِ الجزاءِ بمعنى المستقبلِ، فبأيِّ هاتَينْ القراءتَينْ قرَأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ.

ومعنى ذلك: فمَن تطوَّع بالحجِّ والعمرةِ بعدَ قضاءِ حَجَّتِه الواجبةِ عليه، فإن اللهَ شاكرٌ له على تطوُّعِه له بما تطوَّع به من ذلك ابتغاءَ وجهِه فمجازِيه به، عليمٌ بما قصَد وأرادَ بتطوُّعِه بما تطوَّع منه

(1)

.

وإنما قلنا: إنَّ الصوابَ في معنى قولِه: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} هو ما وصفْنَا دونَ قولِ مَن زعَم أنه معنيٌّ به: فمَن تطوَّعَ بالسعي والطوافِ بينَ الصفا والمروةِ. لأن الساعيَ بينَهما لا يكونُ متطوعًا بالسعي بينَهما إلَّا في حجِّ تَطوُّعٍ أو عُمرةِ تطوُّعٍ، لمَا وصفْنَا قبلُ. وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنَى بالتطوُّعِ بذلك، التطوّعَ بما يُعمَلُ ذلك فيه من حجٍّ أو عمرةٍ.

وأما الذين زعَمُوا أن الطوافَ بهما تطوُّعٌ لا واجبٌ، فإن الصوابَ أن يكونَ تأويلُ ذلك على قولِهم: فمَن تطوَّعَ بالطوافِ بهما فإن اللهَ شاكرٌ. لأنَّ للحاجِّ والمعتمرِ على قولِهم الطوافَ بهما إن شاءَ، وتَرْكَ الطوافِ، فيكونُ معنى الكلامِ على تأويلهم: فمَن تطوَّعَ بالطوافِ بالصفَا والمروةِ، فإنّ اللهَ شاكرٌ تطوعَه ذلك، عليمٌ بما أرادَ ونوَى الطائفُ بهما كذلك.

كما حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} . قال: مَن تطوَّعَ خيرًا فهو خيرٌ له، تطوَّع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فكانتْ من السُّنَنِ

(2)

.

(1)

في م: "به".

(2)

تقدم أوله في ص 710.

ص: 728

وقال آخرون: معنى ذلك: ومَن تطوَّعَ خيرًا فاعتمرَ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} : ومَن تطوَّعَ خيرًا فاعتمرَ فإن اللهَ شاكرٌ عليمٌ؛ قال: فالحجُّ فريضَةٌ، والعمرةُ تطوُّعٌ، ليستِ العمرةُ واجبةً على أحدٍ من الناسِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} .

وإنما يَعْني بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} : علماءَ اليهودِ وأحبارَها وعلماءَ النصارى؛ لكِتْمانِهم الناسَ أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتركِهم اتِّباعَه، وهم يَجِدُونه عندَهم مكتوبًا في التوراةِ والإنجيلِ.

و

(1)

"البينات" التي أنزَلها اللهُ عز وجل؛ ما بَيَّنَ مِن أمْرِ نُبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومَبعَثِه وصِفَتِه، في الكتابيْنِ اللَّذيْنِ أخبَر اللهُ تعالى ذكرُه أن أهلَهما يَجِدون صفتَه فيهما.

ويعني جلَّ ثناؤه بـ {وَالْهُدَى} : ما أوْضَحَ لهم مِن أمرِه في الكُتُبِ التي أنزَلَها على أنبيائِهم، فقال عزَّ ذِكرُه: إن الذين يكتمونَ الناسَ الذي أنزلْنا في كُتُبِهم من البيانِ عن أمرِ محمدٍ ونبوَّتِه وصحةِ الملَّةِ التي أرْسَلْتُه بها وحَقِيقتِها

(2)

فلا يُخْبِرُونَهم به [وهم يعلَمون تَبْيينِي]

(3)

ذلك للناسِ، وإيضاحِي لهم في الكتابِ الذي

(1)

في م: "من".

(2)

في م: "وحقيتها".

(3)

في م: "ولا يعلمون من تبييني".

ص: 729

أنزَلْتُه إلى أنبيائِهم - {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية.

كما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قالَا جميعًا: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثني محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عِكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: سأَل معاذُ بنُ جبلٍ أخو بنِي سَلِمَةَ، وسعدُ بنُ معاذٍ أخو بني عبدِ الأشهلِ، وخارجةُ ابنُ زيدٍ أخو بني الحارثِ بنِ الخَزْرَجِ - نَفَرًا مِن أحبارِ يَهودَ، مَال أبو كُريبٍ: عما في التَّوْراةِ. وقال ابنُ حميدٍ: عن بعضِ ما في التَّوْراةِ. فكَتَموهم إيَّاهُ، وأبَوْا أن يُخْبِرُوهم عنه، فأنزَل اللهُ تعالى ذِكرُه فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثني عيسى، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فما قولِ اللهِ:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} . قال: هم أهلُ الكتابِ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} . قال: كتمُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يَجِدُونه مَكْتوبًا عندَهم، فكَتَموه حَسَدًا وبَغْيًا

(3)

.

(1)

سيرة ابن هشام 1/ 551، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 268 (1439) من طريق سلمة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 161 إلى ابن المنذر.

(2)

تفسير مجاهد ص 218، بزيادة:"كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 268 عقب الأثر (1441) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 730

حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} . أولئِكَ أهل الكتاب، كَتَمُوا الإسلامَ وهو دينُ اللهِ، وكَتَمُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يَجِدُونه مَكتوبًا عندَهم في التوراةِ والإنجيلِ

(1)

.

حدثني موسى، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} . زعَموا أن رجلًا مِن اليهودِ كان له صديقٌ من الأنصار يُقالُ له: ثَعلبةُ بنُ عَنَمةَ

(2)

. قال له: هل تجِدون محمدًا عندَكم؟ قال: لا. قال: محمدٌ: البيناتُ

(3)

.

[ويَعْنى بقولِه]

(4)

: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} . بعضَ الناسِ؛ لأن العلمَ بنبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصفتِه، ومبعثِه لم يكنْ إلا عندَ أهلِ الكتابِ، دونَ غيرِهم، وإيَّاهم عَنَى بذلك عز وجل. ويعني جلَّ ذِكرُه بالكتابِ التوراةَ والإنجيلَ، وهذه الآيةُ وإن كانت نزلتْ في خاصٍّ من الناسِ، فإنها مَعنيٌّ بها كلٌّ كاتمٍ علمًا فرَض اللهُ تعالَى عليه بيانَه للناسِ، وذلك نظيرُ الخبرِ الذي رُوِيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن سُئِلَ عن عِلْمٍ يَعْلَمُه فَكَتَمَه، أُلْجِمَ يومَ القيامةِ بلجامٍ مِن نارٍ"

(5)

.

وكان أبو هريرةَ يقولُ بما حدثنا به نصرُ بنُ عليٍّ الجَهْضَمِيُّ، قال: ثنا حاتمُ بنُ وَرْدانَ، قال: ثنا، أيوبُ السَّخْتيانيُّ، [عن محمدٍ]

(6)

، عن أبي هريرةَ، قال: لولا

(1)

أخرجه ابن سعد 1/ 362، 363 من طريق سعيد به نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 161 إلى عبد بن حميد. وستأتي بقيته في ص 736.

(2)

في م: "غنمه"، وفي ت 1:"عثمة". وينظر الإصابة 1/ 406.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 162 إلى المصنف.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"القول في تأويل قوله تعالى".

(5)

أخرجه أحمد 13/ 17 (7571)، وأبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (261، 264، 266) من حديث أبي هريرة وغيره.

(6)

سقط من: م.

ص: 731

آيةٌ في كتابِ اللهِ ما حدَّثْتُكم. وتلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}

(1)

.

حدثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أبو زُرعةَ وهْبُ اللهِ بنُ راشدٍ، عن يونسَ قال: قال ابنُ شهابٍ، قال ابنُ المسيَّبِ، قال أبو هريرةَ: لولا آيتان أنزَلهما اللهُ في كتابِه ما حَدَّثْتُ شيئًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} ، إلى آخرِ الآيةِ

(2)

. والآيةُ الأخرى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}

(3)

[آل عمران: 187] إلى آخرِ الآيةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} : هؤلاءِ الذين يَكْتُمون ما أنزَل اللهُ مِن أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصفتِه وأمرِ دينِه، أنه الحقُّ، مِن بعدِ ما بيَّنَه اللهُ لهم في كتُبِهم، يَلْعَنُهم اللهُ بكِتْمانِهم ذلك وتَرْكِهم تَبْيِينَه للناسِ. واللعنةُ الفَعْلةُ. مِن: لَعَنه اللهُ، بمعنى: أقصاهُ اللهُ وأبعدَه وأسْحقَه. وأصلُ اللعنِ: الطَّرْدُ، كما قال الشَّماخُ بنُ ضِرارٍ، وذكَر ماءً ورَد عليه

(4)

:

ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ

(5)

عنه

مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللّعِينِ

يعني به مَقامَ الذئبِ الطَّرِيدِ، و"اللعينُ" من نعتِ الذئبِ، وإنما أرادَ: مَقامَ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في التفسير 1/ 64، وابن سعد في الطبقات 2/ 362، 363، وأحمد 12/ 221 (7276)، والبخاري (118)، ومسلم (2492)، وغيرهم من طريق الأعرج عن أبي هريرة. وينظر الدر المنثور 1/ 163.

(2)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"الآيتين". وهو لفظ مسلم في الموضع الآتي.

(3)

أخرجه مسلم (2492) عقب حديث عائشة، من طريق يونس به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 268 (1440) من طريق ابن شهاب به. وعندهما بغير ذكر آية آل عمران.

(4)

ديوان الشماخ ص 321.

(5)

في الأصل: "ونيت".

ص: 732

الذئبِ

(1)

اللعينِ كالرَّجلِ.

فمعنى الآيةِ إذًا: أولئِك يُبْعِدُهُم اللهُ منه ومِن رحمتِه، ويَسْأَلُ ربَّهم اللاعنون أن يَلْعَنَهم؛ لأن لعنةَ بني آدمَ وسائرِ خَلقِ اللهِ ما لَعنوا أن يقولوا:"اللهمَّ الْعَنْه". وإن كانَ معنى اللعنِ هو ما وصَفْنا مِن الإقْصَاءِ والإبْعادِ [وأما مِن اللهِ فالإبعادُ من رحمتِه]

(2)

.

وإنما قُلْنا: إنَّ لعنةَ اللاعنين هي ما وصفنا مِن مَسْألتِهم ربَّهم أن يَلْعَنَهم، وقولِهم: لعنهُ اللهُ. أو: عليه لعنةُ اللهِ. لأن محمدَ بنَ خالدِ بنِ خِداشٍ ويعقوبَ بنَ إبراهيمَ حدَّثاني، قالا: ثنا إسماعيلُ ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [قال: اللاعنون]

(3)

: البهائمُ، قال: إذا أَسْنَتَتِ

(4)

السنةُ، قالتِ البهائمُ: هذا من أجْلِ عُصاةِ بني آدمَ، لعَن اللهُ عُصاةَ بني آدمَ

(5)

.

واختَلفَ أهلُ التأويلِ فيمنْ عنَى اللهُ تعالى ذِكرُه باللّاعِنين؛ فقال بعضُهم: عنى بذلك دوابَّ الأرضِ وهوامَّها.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: تَلْعَنُهم

(1)

بعده في م: "الطريد و".

(2)

سقط من: م.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "أسنت". وأسفتت السنة: أجدبت، من السنة وهو القحط: الجدب. ينظر اللسان (ج د ب).

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (236 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 269 (1446) من طريق إسماعيل ابن علية به.

ص: 733

دوابُّ الأرضِ وما شاء اللهُ من الخنافِسِ والعقاربِ، تقولُ: نُمْنَعُ القَطْرَ بذُنوبهم

(1)

.

حدثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . قال: دوابُّ الأرضِ: العقاربُ والخنافسُ يقولون: مُنِعْنَا القَطْرَ بخطايا بني آدمَ

(2)

.

حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَمرٍو، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال: تلعنهم الهوامُّ ودوابُّ الأرضِ، تقولُ: أُمْسِكَ القَطرُ عنا بخطايا بني آدمَ

(3)

.

حدثنا مُشَرَّفُ بنُ أبانٍ الخطَّابُ

(4)

، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . قال: يَلْعَنُهم كلُّ شيْءٍ حتى الخنافسُ والعقاربُ، يقولون: مُنِعْنَا القَطْرَ بذنوبِ بني آدمَ

(5)

.

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: اللّاعنون: البهائمُ.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} : البهائمُ تَلْعَنُ عُصاةَ بني آدمَ حينَ أمسكَ اللهُ

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 286 من طريق جرير به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (237 - تفسير)، وابن أبي الدنيا في العقوبات (271)، والطبراني في الدعاء (955)، من طريق منصور به.

(2)

تفسير سفيان ص 53. وأخرجه البيهقي في الشعب (3317) من طريق عبد الرحمن به.

(3)

أخرجه ابن المقرئ في معجمه (738) من طريق الأعمش عن مجاهد، بلفظ: يلعنهم كل شيء حتى هوام الأرض.

(4)

في الأصل: "الحطاب". وينظر الثقات 9/ 203، وتاريخ بغداد 13/ 224. وقد تقدم قبل ذلك.

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 269 عقب الأثر (1447) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 162 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 734

عنهم بذنوبِ بني آدمَ القَطْرَ

(1)

، فتخرجُ البهائمُ فتَلْعَنُهم

(2)

.

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني مسلمُ بنُ خالدٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} : البهائمُ؛ الإبلُ والبقرُ والغنمُ، تلعنُ عصاةَ بني آدمَ إذا أجدبتِ الأرضُ

(3)

.

فإن قال قائلٌ: وما وجهُ [قولِ هؤلاءِ]

(4)

الذين وجَّهوا تأويلَ قولِه: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} إلى أنَّ اللّاعنين هُم الخنافسُ والعَقاربُ، وغيرُ ذلك مِن هوامِّ الأرضِ، وقد علمتَ [أن العربَ]

(5)

إذا جَمعتْ ما كانَ من نوعِ البهائمِ وغيرِ بني آدمَ، فإنما تَجْمَعُه بغيرِ الياءِ والنونِ وغيرِ الواوِ والنونِ، وإنما تجمَعُه بالتاءِ، وما خالف ما ذكرنَا، فتقولُ:"اللاعِنَاتُ". ونحوُ ذلك؟

قيل: إن الأمرَ وإن كان كذلك، فإنَّ مِن شأنِ العربِ إذا وَصَفَتْ شيئًا من البهائمِ أو غيرِها مما حُكْمُ جَمعِه أن يكونَ "بالتاءِ"، أو

(6)

بغيرِ صُورةِ جَمْعِ ذُكرانِ بني آدمَ بما هو مِن صفةِ الآدميِّينَ - أن يَجمَعُوه جَمْعَ ذُكورِهم، كما قال عز وجل:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]. فأخرَج خطابَها

(7)

على مثالِ خطابِ ذكورِ

(8)

بني آدمَ إذ كلَّمَتْهم، وكلَّمُوها، وكما قال:{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]. وكما قال: {وَالشَّمْسَ

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المطر".

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (236 - تفسير) من طريق ابن أبي نجيح به نحوه.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 270 (1448) عن يونس بن عبد الأعلى به.

(4)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

في م: "أنها".

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".

(7)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"خطابهم".

(8)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 735

وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].

وقال آخرون: عنى اللهُ تعالى ذِكرُه بقولِه: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} : الملائكةَ والمؤمنين.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، [قال: حدثنا سعيدٌ]

(1)

، عن قتادةَ:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . قال: يقولُ: اللاعنون مِن ملائكةِ اللهِ ومن المؤمنين

(2)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [قال: اللاعنون]

(3)

الملائكةُ

(4)

.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ ابنِ أنسٍ، قال: اللَّاعنون مِن ملائكةِ اللهِ والمؤمنين

(5)

.

وقال آخرون: يعني باللَّاعنِين: كلَّ ما عَدا بني آدمَ والجنَّ

(6)

.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال: قال البراءُ بنُ عازبٍ: إنَّ الكافرَ إذا وُضِعَ في قبرِه أتتْهُ دابةٌ كأن عيْنَيْها قِدرانِ مِن نُحاسٍ معها عمودٌ من حديدٍ، فتَضْرِبُه ضَرْبةً بينَ كَتِفَيْه فيَصِيحُ، فلا يَسْمَعُ أحدٌ صوتَه إلا لَعنَهُ، ولا يبقَى شيْءٌ إلا سمِع صوتَه، إلا الثقلين الجنَّ

(1)

سقط من: م.

(2)

تقدم أوله في ص 731.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 65.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 269 عقب الأثر (1445) من طريق ابن أبي جعفر به.

(6)

في الأصل: "الحن".

ص: 736

والإنْسَ

(1)

حدثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . قال: الكافرُ إذا وُضِعَ في حفرَتِه ضُربَ ضَرْبةً بمِطْرَقٍ فيَصِيحُ صَيْحةً فيَسمَعُ صَوْتَه كلُّ شيْءٍ إلَّا الثَّقَلين؛ الجنَّ والإنسَ، فلا يَسْمَعُ صَيْحَتَه شيْءٌ إلَّا لعَنه

(2)

.

وأوْلَى هذه الأقوالِ بالصحةِ عندنا قولُ مَن قال: اللاعنون: الملائكةُ والمؤمنون؛ لأنّ اللهَ تعالى ذِكرُه قد وصَف الكفارَ بأن اللّعنةَ التي تَحِلُّ بهم إنما هي مِن اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، فقال جلَّ ثناؤه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . فكذلك اللعنةُ التي أخبَر اللهُ جلَّ ذِكرُه أنها نازلةٌ

(3)

بالفريقِ الآخرِ: الذين يَكْتُمونَ ما أنزلَ اللهُ مِن البيِّناتِ والهُدى من بعدِ ما بيَّنه

(4)

للناسِ، هي لعنةُ اللهِ الذين

(5)

أخبرَ أن لعنتَهم حالَّةٌ بالذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ، وهم اللاعنون؛ لأن الفريقَينْ جميعًا أهلُ كفرٍ.

وأما قولُ مَن قال: إنّ اللَّاعنِين هم الخنافِسُ والعقاربُ وما أشبَه ذلك من دَبيبِ الأرضِ وهَوامِّها. فإنه قولٌ لا تُدرَكُ حقيقَتُه إلا بخبرٍ عن اللهِ أن ذلك مِن فعلِها [وقيلِها]

(6)

، تقومُ به الحجّةُ، ولا خبرَ بذلك عن نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيجوزَ أن

(1)

هذا الحديث جزء من حديث البراء الطويل المشهور، وقد أخرجه الطيالسي (789) فراجع تخريجه هناك. وسيأتي في تفسير سورة إبراهيم آية (27).

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 162 إلى المصنف.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حالة".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بيناه".

(5)

في م: "التي".

(6)

سقط من: م. وفي ت 1، ت 2، ت 3:"وفعلها".

ص: 737

يقالَ: إنَّ ذلك كذلك.

وإذ كان ذلك كذلك، فالصوابُ مِن القولِ فيما قالوه أن يُقالَ: إن الدليلَ مِن ظاهرِ كتابِ اللهِ موجودٌ بخلافِ هذا

(1)

التأويلِ، وهو ما وصفْنَا، وإن كان جائزًا أن تكونَ البهائمُ وسائرُ خلقِ اللهِ تَلْعَنُ الذين يكتُمونَ ما أنزلَ اللهُ في كتابِه من صِفَةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه ونُبُوتهِ، بعدَ علْمِهم به، وتَلْعَنُ معهم جميعَ الظَّلَمَةِ، [غيرَ أنه غيرُ]

(2)

جائزٍ قطعُ الشهادةِ بأنَّ

(3)

اللهَ عَنى باللَّاعنين البهائمَ والهوامَّ ودَبيبَ الأرضِ، إلا بخبرٍ للعذرِ قاطعٍ، ولا خبرَ بذلك، وكتابُ اللهِ الذي ذكرناه دالٌّ على خِلافِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} .

يعنِي بذلك جلَّ ثناؤه أنَّ اللهَ واللّاعنِينَ يَلْعَنونَ الكاتمِى الناسِ ما عَلِمُوا مِن أمْرِ نُبُوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونَعتِه وصِفَتِه في الكتابِ الذي أنْزَلَهُ اللهُ وبيَّنهُ للناسِ، إلَّا مَن أنابَ مِن كِتمانِه ذلك مِنهم، ورَاجعَ التوبةَ بالإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، والإقرارِ به وبنُبُوَّتِه، وتَصْدِيقِه فيما جاء به مِن عندِ اللهِ، وبَيانِ ما أنزَل اللهُ في كُتُبِه التي أنزَلها إلى أنبيائِه من الأمرِ باتباعِه، وأصلَحَ حالَ نفسِه بالتقرُّبِ إلى اللهِ مِن صالحِ الأعمالِ بما يُرْضيهِ عنه، وبينَّ الذي علِم من وحْيِ اللهِ الذي أنزَله إلى أنبيائِه وعَهِد إليهم في كُتُبِه، فلم يكْتُمْه، وأظْهرَه فلم يُخْفِه، {فَأُولَئِكَ}: فهؤلاء الذين فعَلوا هذا الذي وصَفْتُ منهم، هم الذين أتوبُ عليهم، فأجْعَلُهم من أهلِ الإيابِ إلى طاعتِي، والإنابةِ إلى مَرْضاتِي.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أهل".

(2)

في م: "فغير".

(3)

في م: "في أن".

ص: 738

ثم قال جلَّ ثناؤه: {وَأَنَا التَّوَّابُ} . يقولُ: وأنا الذي أَرجِعُ بقلوبِ عبيدِي المُنْصَرِفةِ عنِّي إليَّ، والرادُّها بعدَ إدبارِها عن طاعتي، إلى طلبِ مَحبَّتي، والرحيمُ بالمُقْبِلينَ بعدَ إقبالِهم إليَّ، أَتَغَمَّدُهم منِّي بعفوٍ، وأصْفَحُ عنهم

(1)

عظيمَ ما كانوا اجترَمُوا فيما بيني وبينَهم بفضلِ رحمتِي لهم.

فإنْ قال قائلٌ: وكيف يُتابُ على مَن قد تاب؟ وما وجهُ قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ؟ وهل يكونُ تائبٌ إلا وهو مَتوبٌ عليه، أو مَتوبٌ عليهِ إلَّا وهو تائبٌ؟ قيلَ: ذلك مما لا يكونُ أحدُهما إلَّا والآخرُ معه، فسواءٌ قيلَ: إلَّا الذين تِيبَ عليهم فتابُوا. أو قيلَ: إلَّا الذين تابوا فإنِّي أتوبُ عليهم.

وقد بينَّا وجْهَ ذلك فيما جاءَ من الكلام هذا المجئَ في نطيرِه فيما مضَى من كتابِنا هذا، فكرِهْنا إعادتَه في هذا الموضِعِ

(2)

.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} . يقولُ: أصلَحوا فيما بينَهم وبينَ اللهِ، وبَيَّنُوا الذي جاءَهم من اللهِ فلم يكْتُموه، ولم يَجْحَدُوا به، {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

(3)

.

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} . قال: بيَّنُوا ما في كتابِ اللهِ للمؤمنين، ولِمَا

(1)

في م، ت 2:"عن".

(2)

ينظر ما تقدم في ص 472.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 270 (1450) من طريق شيبان النحوي عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 163 إلى عبد بن حميد.

ص: 739

سألوهُم عنه من أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا كلُّه في يهودَ.

وقد زعَم بعضُهم أنَّ معنَى قولِه: {وَبَيَّنُوا} . إنما هو: وبيَّنوا التوبةَ بإخلاصِ العملِ.

ودليلُ ظاهرِ الكتابِ والتنزيلِ بخلافِه؛ لأن القومَ إنما عُوتِبوا في

(1)

هذه الآيةِ على كتمانِهم ما أنزَل اللهُ تعالى ذِكرُه وبيَّنه في كتابِه من

(2)

أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ودينِه، ثم استثنَى منهم جلَّ ثناؤه الذين يبيِّنون أَمْرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ودينَه، ويتوبونَ مما كانوا عليهِ من الجُحودِ والكتمانِ، فأخرَجَهم من عِدادِ

(3)

مَن يَلْعَنُه اللهُ ويَلْعَنُه اللّاعنون، ولم يكنِ العتابُ على ترْكِهم تبْيِينَ التوبةِ بإخلاصِ العملِ.

والذين استثنَى اللهُ مِن الذين يكتُمون ما أنْزَل اللهُ مِن البيناتِ والهدَى مِن بعدِ ما بيَّنه

(4)

للناسِ في الكتابِ، عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ وذَوُوه مِن أهلِ الكتابِ الذين أسْلَموا فحسُنَ إسْلامُهم واتَّبعوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} .

يعني جلَّ ثناؤه بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : إنَّ الذين جَحدُوا نبوّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّبوا به، مِن اليهودِ والنصارَى وسائرِ أهلِ المللِ، والمشركينَ مِن عَبَدَةِ الأوثانِ، {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}. يعني: وماتوا وهم على جُحُودِهم ذلك وتكذيبِهم

(1)

بعده في م: "مثل".

(2)

في م: "من".

(3)

في م: "عذاب".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بيناه".

ص: 740

محمدًا صلى الله عليه وسلم، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ} . يعني [بـ {أُولَئِكَ}]

(1)

: الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ، {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ}. يقولُ: أبْعَدَهم اللهُ وأسْحَقَهم مِن رحمتِه، {وَالْمَلَائِكَةِ}. يعني: ولعنَتْهم الملائكةُ والناسُ أجمعون.

ولعنةُ الملائكةِ والناسِ إيَّاهم قولُهم: عليهم لعنةُ اللهِ. وقد بينَّا معنَى اللعنةِ فيما مضَى قبلُ

(2)

، بما أغنَى عن إعادَتِه.

فإن قال قائلٌ: وكيف تكونُ على الذي يموتُ كافرًا بمحمدٍ [لعنةُ جميع الناسِ، وقد عَلِمتَ أنَّ من يَكفُرُ بمحمدٍ]

(3)

صلى الله عليه وسلم مِن أصنافِ الأُمَمِ، [أكثرُ ممَّن يؤمنُ]

(4)

به ويُصدِّقُه؟ قيل: إنّ معنَى ذلك على خلافِ ما ذهبتَ إليه.

وقد اختلفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: عَنَى اللهُ بقولِه: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . أهلَ الإيمانِ به وبرسولِه خاصةً، دونَ سائرِ البشرِ.

ذِكرُ من قال ذلك

حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . يعني بالناسِ أجمعينَ: المؤمنين

(5)

.

وحدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . يعني بالناسِ أجمعينَ: المؤمنين.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فأولئك".

(2)

تقدم في ص 230.

(3)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في م: "وأكثرهم ممن لا يؤمن".

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 271 عقب الأثر (1456) معلقًا.

ص: 741

وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامةِ، يُوقَفُ على رءوسِ الأشهادِ الكافرُ، فيَلْعَنُه الناسُ كلُّهم.

ذكرُ من قال ذلك

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، أن الكافرَ يُوقَفُ يومَ القيامةِ فيَلْعَنُه اللهُ، ثم يلعنُه الملائكةُ، ثم يلعنُه الناسُ أجمعونَ

(1)

.

وقال آخرون: بل ذلك قولُ القائلِ كائنًا مَنْ كان: لعَن اللهُ الظالمَ. فيَلْحَقُ ذلك كلَّ كافرٍ؛ لأنه مِن الظَّلَمةِ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ قولَه:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} : فإنه لا يتلاعَنُ اثنانِ مؤمنانِ ولا كافرانِ، فيقولُ أحدُهما: لعنَ اللهُ الظالمَ. إلّا وجبتْ تلك اللعنةُ على الكافرِ؛ لأنه ظالمٌ، فكلُّ أحدٍ من الخَلْقِ يَلْعَنُه

(2)

.

وأوْلَى هذه الأقوالِ بالصوابِ عندَنا قولُ مَن قال: عنَى اللهُ بذلك جميعَ الناسِ، بمعنى لَعْنِهم إيّاه

(3)

بقولِهم: لعنَ اللهُ الظالمَ أو الظالمين. فإنَّ كلَّ أحدٍ مِن بني آدمَ لا يَمْتَنِعُ

(4)

مِن قِيلِ ذلك كائنًا مَن كان، ومِن أيِّ أهلِ مِلةٍ كان، فيَدخُلُ بذلك في لعنتِه كلُّ كافرٍ كائنًا مَن كان، وذلك بمعنَى ما قاله أبو العاليةِ؛ لأنّ اللهَ جلَّ ثناؤه أخبرَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 271 (1456) من طريق أبي جعفر به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 271 (1457) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إياهم". ويعني بـ" إياه": الظالم.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يمنع".

ص: 742

عمَّن شَهِدهم يومَ القيامةِ أنَّهم يَلعَنُونهم، فقال جل ثناؤه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

وأمّا ما قاله قتادةُ مِن أنه عُنِي به بعضُ الناسِ، فقولٌ ظاهرُ التنزيلِ بخلافِه، ولا برهانَ على حقيقتِه من خبرٍ ولا نظرٍ، فإنْ كان ظَنَّ أنَّ المَعْنِيَّ به المؤمنون، مِن أجلِ أن الكفارَ لا يَلْعَنونَ أنفُسَهم ولا أولياءَهم، فإنَّ اللهَ جلَّ ثناؤه قد أخبرَ أنهم يَلْعَنونهم في الآخرةِ، ومعلومٌ منهم أنهم يَلْعَنون الظَّلَمةَ، وداخلٌ في الظَّلمةِ كلُّ كافرٍ بظُلمِه نفسَه، وجُحودِه نعمةَ ربِّه، ومخالفتِه أمرَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} .

قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: ما الذي نَصَب {خَالِدِينَ} ؟ قيل: نُصِب على الحالِ، من الهاءِ والميمِ اللَّتيْن في {عَلَيْهِمْ}. وذلك أن معنى قولِه:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} : أولئكَ يَلْعَنهم اللهُ، [فتأويلُ الكلامِ: أولئك يَلْعَنهم اللهُ]

(1)

والملائكةُ والناسُ أجمعونَ، خالِدِين فيها. ولذلك قرأَ ذلك:(أولئِك عليهم لعنةُ اللهِ والملائكةُ والناسُ أجمعون)

(2)

مَن قَرَأه كذلك، توجيهًا منه إلى المعنَى الذي وَصَفتُ، وذلك وإن كان جائزًا في العربيةِ، فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به؛ لأنه خلافُ القراءةِ

(3)

لمصاحفِ المسلمين، وما جاء به المسلمون مِن القراءةِ مُستفيضًا [فيهم، وغيرُ]

(4)

جائزٍ الاعتراضُ بالشاذِّ من القولِ على ما قد ثَبَتَتْ حُجَّتُه بالنقلِ المستفيضِ.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "أجمعين". وقراءة الرفع هذه هي قراءة الحسن. ينظر المحتسب 1/ 116.

(3)

زيادة من: الأصل.

(4)

في م: "فيها فغير".

ص: 743

وأمّا الهاءُ والألفُ اللتان في قوله: {فِيهَا} ، فإنهما عائدتان على اللعنةِ، والمرادُ بالكلامِ ما صار إليه الكافرُ باللعنةِ مِن اللهِ ومن ملائكتِه ومن النَّاسِ، والذي صار إليه بها، نارُ جهنمَ، فأجْرَى الكلامَ على اللعنةِ؛ والمرادُ بها ما صار إليه الكافرُ، كما قد بيَّنا مِن نظائرِ ذلك فيما مضَى قبلُ.

كما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{خَالِدِينَ فِيهَا} . يقول: خالدين في جهنمَ في اللَّعنةِ

(1)

.

وأما قولُه: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} ، فإنه خبرٌ من اللهِ عن دوامِ العذابِ لهم

(2)

أبدًا مِن غيرِ تَوْقيةٍ

(3)

ولا تخفيفٍ، كما قال جلّ ثناؤه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36].

وكما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56].

وأما قولُه: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، فإنه يعني: ولا هم ينتظِرون

(4)

لمعذرةٍ

(5)

يَعْتَذِرُون.

كما حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. يقولُ: لا ينظرون فيَعْتَذِرون، كقولِه {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}

(6)

[المرسلات: 35، 36].

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 271 (1458) من طريق أبي جعفر به.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في الأصل: "ترقيه"، وفي م، ت 3:"توقيت".

(4)

في م: "ينظرون".

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمعذرة".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 271 من طريق أبي جعفر به نحوه.

ص: 744

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} .

قد بينَّا فيما مضَى معنى الأُلُوهةِ

(1)

، وأنها اعْتِبادُ الخلقِ، فمعنى قولِه:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} والذي يَسْتَحِقُّ عليكم أيها الناسُ الطاعةَ له، ويَسْتَوجِبُ منكم العبادةَ، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحدٌ، فلا تَعْبُدوا غيرَه ولا تُشْرِكُوا معه سِواه، فإن مَن تُشْرِكونَه معه في عبادتِكم إياه هو خلقٌ مِن خلقِ إلهِكم مثلُكم، وإلهُكم واحدٌ، لَا مِثْلَ له ولَا نطيرَ.

واختُلِفَ في معنى وحدانيتِه جلَّ ذِكرُه؛ فقال بعضُهم: معنى وحدانيةِ اللهِ معنى نفيِ الأشباهِ والأمْثالِ عنه، كما يقالُ: فلانٌ واحدُ الناسِ، وهو واحدُ قومِه. يعني بذلك أنه ليسَ له في الناسِ مِثلٌ، ولا له في قومِه شبيهٌ ولا نظيرٌ. قالوا

(2)

: فكذلك معنى قولِنا

(3)

: اللهُ واحدٌ. نعْني

(4)

به: اللهُ جلَّ ثناؤه لا مِثلَ له ولا نظيرَ. فزَعمُوا أن الذي دلَّهم على صحةِ تأويلِهم ذلك، أن قولَ القائلِ:"واحدٌ". اسمٌ

(5)

لمعانٍ أربعةٍ: أحدُها، أن يكونَ واحدًا مِن جنسٍ، كالإنسانِ الواحدِ من الإنسِ. والآخَرُ، أن يكونَ غيرَ مُتَنَصِّفٍ

(6)

، كالجزءِ الذي لا يَنْقَسِمُ. والثالثُ، أن يكونَ معنيًّا به: المِثلُ والاتِّفاقُ، كقولِ القائلِ: هذان الشيئانِ واحدٌ. يرادُ بذلكَ أنهمَا متشابهانٍ

(1)

في م: "الألوهية". وينظر ما تقدم في 1/ 121 - 124.

(2)

سقط من: م.

(3)

في م، ت 2:"قول".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعني".

(5)

في م، ت 1، ت 2:"يفهم".

(6)

في م: "متصرف". وقد أثبتها الشيخ شاكر في 2/ 265: "متفرق".

ص: 745

حتى صارَا لاشتباهِهما في المعاني كالشيءِ الواحدِ. والرابعُ، أن يكون مرادًا به نَفْيُ النظيرِ عنه والشبيهِ

(1)

. قالوا: فلمّا كانتِ المعاني الثلاثةُ مِن معاني الواحدِ مُنْتَفِيَةً عنه، صحَّ المعنى الرابعُ الذي وَصَفْناه.

وقال آخرون: معنى وحدانيتِه، عزَّ ذِكرُه، معنى انفرادِه مِن الأشياءِ، وانفرادِ الأشياءِ منه. وقالوا: إنما كان منفردًا وحدَه؛ لأنه غيرُ داخلٍ في شيْءٍ، ولا داخلٍ فيه شيْءٌ. قالوا: ولا صِفةَ

(2)

لقولِ القائلِ: "واحدٌ" مِن جميعِ الأشياءِ، إلَّا ذلكَ.

وأنْكَر قائلو هذه المقالةِ المعانيَ الأربعةَ التي قالها الآخرون.

وأما قولُه جلَّ ثناؤه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، فإنه خبرٌ منه جل جلاله أنْ لا ربَّ للعالمين غيرُه، ولا مُسْتَوْجِبَ

(3)

على العبادِ العبادةَ سواه، وأنّ كلَّ ما سواه فهُم خلقُه، والواجبُ على جميعِهم طاعتُه، والانقيادُ لأمرِه، وتركُ عبادةِ ما سواه مِن الأندادِ والآلهةِ، وهجرُ الأوثانِ والأصنامِ؛ لأنَّ جميعَ ذلك خلقُه، وعلى جميعِهم الدَّينُونَةُ له بالوحدانيةِ والأُلوُهَةِ، ولا تنبغي الأُلوهةُ إلا له، إذ كان ما بهم مِن نعمةٍ في الدنيا فمنه، دونَ ما يعبدونَه مِن الأوثانِ ويُشرِكون معه مِن الأشْراكِ

(4)

، وما يصيرون إليه مِن نعمةٍ في الآخرةِ فمنه، وأن ما أشركوا معه مِن الأشْراكِ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ في عاجلٍ ولا آجلٍ، ولا في دنيا ولا آخرةٍ. وهذا تنبيهٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤه أهلَ الشِّركِ به على ضَلالِهم، ودعاءٌ منه لهم إلى الأَوْبَةِ مِن كفرِهم، والإنابةِ من شركِهم، ثم عرَّفهم جلَّ ذكرُه بالآيةِ التي تَتلُوها موضعَ استدلالِ ذوِي الألبابِ منهم،

(1)

في الأصل، ت 1:"التشبيه".

(2)

في م، ت 2:"صحبة".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يستوجب".

(4)

الأشراك جمع شِرك وشريك. اللسان (ش ر ك).

ص: 746

على حقيقةِ ما نَبَّهَهم عليه مِن توحيدِه وحُجَجِه الواضحةِ القاطعةِ عُذرَهم، فقال عزَّ ذِكرُه: أيها المشركون إنْ جَهِلْتم، أو شَكَكْتم في حقيقةِ ما أخبرتُكم مِن الخبرِ؛ من أنّ إلهَكم إلهٌ واحدٌ، دون ما تدَّعون أُلُوهتَه

(1)

مِن الأنْدادِ والأوثانِ، فتَدَبَّروا حُجَجِي، وفَكِّروا فيها، فإن مِن حججي خَلْقَ السماواتِ والأرضِ، واختلافَ الليلِ والنهارِ، والفُلْكَ التي تجري في البحرِ بما ينفعُ الناسَ، وما أنزلتُ مِن السماءِ مِن ماءٍ فأحييتُ به الأرضَ بعدَ موتِها، وما بَثَثْتُ فيها مِنْ كلِّ دابةٍ، والسحابَ الذي سَخَّرْتُه بينَ السماءِ والأرضِ، فإن كانَ ما تَعْبُدونه مِن الأوثانِ والآلهةِ والأندادِ وسائرِ ما تُشْرِكون به، إذا اجْتَمَع جميعُه فتَظاهرَ، أو انْفَرَد بعضُه دونَ بعضٍ، يَقْدِرُ على أنْ يَخْلُقَ نظيرَ شيْءٍ مِن خَلْقي الذي سمَّيتُ لكم، فلكم بعبادتِكم ما تَعْبُدون مِن دونِي حينئذٍ عُذرٌ، وإلَّا فلَا عذرَ لكم في اتخاذِ إلهٍ سِوايَ، ولا إلهَ لكم ولما تَعْبدون غَيرِي.

قال أبو جعفرٍ: فلْيَتَدَبَّرْ أولو الألبابِ إيجازَ اللهِ جلَّ ثناؤه، واحتجاجَه على جميعِ أهلِ الكفرِ به، والملحدين في توحيدِه، في هذه الآيةِ وفي التي بعدَها، بأوجزِ كلامٍ وأبلغِ حُجَّةٍ وألطفِ معنًى، يُشْرِفُ بهم على معرفةِ فضلِ حكمةِ اللهِ وبيانِه.

(1)

في م، ت 1، ت 2:"ألوهيته".

ص: 747