الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في المعنَى الذي مِن أجلِه أنزلَ اللهُ علَى نبيِّه صلى الله عليه وسلم قولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في السببِ الذي مِن أجلِه أنزلَ اللهُ تعالى ذِكرُه هذه الآيةَ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ فقال بعضُهم: أنزلها جلَّ ثناؤه عليه احتجاجًا له على أهلِ الشركِ به من عَبَدَةِ الأَوثانِ، وذلك أنَّ الله تعالى ذكرُه لما أَنْزَل على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . فتلا ذلك على الصَّحابةِ، وسَمِع به المشركون من عبدةِ الأَوثانِ، قال المشركون: وما الحجةُ والبرهانُ على أنَّ ذلك كذلك، ونحن نُنْكِرُ ذلك، وَنَزْعُمُ أنَّ لنا آلهةً كثيرةً؟ فأنزلَ اللهُ عند ذلك:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} احتجاجًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرْنا عنهم.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، أنَّ عطاءً قال: نَزَل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فقال كفارُ قريشٍ بمكَّةَ: كيف يَسَعُ الناسَ إلهٌ واحدٌ؟ فأَنْزَل اللهُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى
قولِه: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فبهذا تعلمون
(1)
أنه إلهٌ واحدٌ، وأنه إلهُ كلِّ شيْءٍ، وخالقُ كلِّ شيْءٍ
(2)
.
وقال آخرون، بل أُنْزِلت هذه الآيةُ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أجلِ أنَّ أهلَ الشركِ سألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم آيةً
(3)
، فأنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ، يُعْلِمُهم فيها أنَّ لهم في خلقِ السماواتِ والأرضِ وسائرِ ما ذُكِر مع ذلك - آيةً بينةً على وحدانيةِ اللهِ، وأنه لا شريكَ له في مُلكِه لمن عَقَل وتَدَبَّر ذلكَ بفهمٍ صحيحٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن أبيه، عن أبي الضُّحَى، قال: لما نَزَلتْ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قال المشركون: إنْ كان هذا هكذا فليَأْتِنا بآيةٍ. فأنْزَل اللهُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية
(4)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، قال: حَدَّثَنِي سعيدُ بنُ مسروقٍ، عن أبي الضُّحي، قال: لما نَزَلتْ هذه
(1)
في م: "يعلمون".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 272 (1462)، وأبو الشيخ في العظمة (118)، والواحدي في أسباب النزول ص 31، 32 من طريق إلى حذيفة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 164 إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 3.
(4)
تفسير سفيان ص 54. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 163 إلى وكيع. وبعده في م، ت 1، ت 2:"حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ بنُ الحَجّاجِ، قال، ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، قال: حَدَّثَنِي سعيدُ بنُ مسروقٍ، عن أبي الضُّحَى، قال: لما نَزَلَتْ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليَأْتنا بآيةٍ. فأنْزَل اللهُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية".
الآيةُ جَعَل المشركون يَعْجَبون ويقُولون: يقولُ: إلهُكم إلهٌ واحدٌ! فليَأْتِنا
(1)
بآيةٍ إن كنتَ مِن الصادقين. فأنْزَل اللهُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية
(2)
.
حَدَّثَنِي القاسمُ، قال: حدَّثَنِي الحسينُ، قال: حدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، أنَّ المُشركين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أرِنا آيةً. فنَزَلتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: سألتْ قريشٌ اليهودَ، فقالوا: حَدِّثونا عما جاءَكم به موسى مِن الآياتِ. فحَدَّثوهم بالعصا وبيدِه بَيْضاءَ للناظرين، وسألوا النصارى عما جاءَهم به عيسى مِن الآياتِ، فأحْبَروهم أنه كان يُبرِئُ الأكْمَهَ والأبرصَ ويُحيى الموتى بإذنِ اللهِ، فقالتْ قريشٌ عندَ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ادعُ اللهَ أن يَجْعَلَ لنا الصَّفا ذهبًا فنَزْدادَ يقينًا، ونَتَقَوَّى به على عدوِّنا. فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه، فأوْحَى إليه: إنِّي مُعْطيهم، [أن أجْعَلَ]
(3)
لهم الصَّفا ذهبًا، ولكن إن كذَّبوا بَعْدُ
(4)
، عَذَّبْتُهم عذابًا لَمْ أُعَذِّبْه أحدًا مِن العالمين. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"ذَرْنِي وَقَوْمي فأدْعُوَهُمْ يَوْمًا بِيَوْمٍ". فأنْزَل اللهُ عليه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. إنَّ في ذلك لآيةً لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجْعَلَ لهم الصَّفا
(1)
في م، ت 1:"فلتأتنا".
(2)
أخرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره - كما في الدر المنثور 1/ 163 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 272 (1461)، والبيهقي في الشعب (104)، وفي الاعتقاد ص 32 - عن أبي جعفر به. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (239 - تفسير)، وأبو الشيخ في العظمة (31)، والواحدي في أسباب النزول ص 32 من طريق أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق به.
(3)
في م: "فاجعل".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذهبًا ليَزْدادوا يَقينًا، فخَلْقُ
(1)
السماواتِ والأرضِ، واختلافُ الليلِ والنهارِ، أعظمُ مِن أن أجعلَ لهم الصَّفا ذهبًا
(2)
.
حدَّثَنِي موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فقال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: غَيِّرْ لنا الصَّفا ذهبًا إن كنتَ صادقًا، [آيةً منك]
(3)
. فقال اللهُ: إنَّ في هذا
(4)
لآياتٍ لقومٍ يَعْقِلون وقال: قد سأل الآياتِ قومٌ مِن قَبْلِكم، ثم أصْبَحوا بها كافرين.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن اللهَ تعالى ذِكرُه نَبَّه عبادَه على الدَّلالةِ على وحدانيتِه وتَفرُّدِه بالأُلوهةِ، دونَ كلِّ ما سواه مِن الأشياءِ، بهذه الآيةِ. وجائزٌ أن تكونَ نَزَلَتْ فيما قاله عطاءٌ، وَجائزٌ أن تكونَ نَزَلتْ فيما قاله سعيدُ بنُ جبيرٍ وأبو الضُّحَى، ولا خبرَ عندَنا بتصحيحِ قولِ أحدِ الفريقين يَقْطَعُ العذرَ، فيجوزَ أن يَقضيَ أحدٌ لأحدِ الفريقين بصحةِ قولِه على الآخَرَين، وأيِّ القولَينْ كان صحيحًا، فالمرادُ مِن الآيةِ ما قلنا.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
يعني تعالى جل ثناؤُه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : إن في إنشاءِ اللهِ السماواتِ والأرضَ وابْتدَاعِهما. ومعنى خَلْقِ اللهِ الأشياءَ: ابتداعُه لإيجادُه إيَّاها بعدَ أن لَمْ تكل موجودةً.
(1)
بعده في م: "الله".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 163 إلى المصنّف وعبد بن حميد. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 273 (1465) من طريق يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 290 - من طريق جعفر به مثله.
(3)
في م، ت 1:"أنه منه"، وفي ت 2:"أنه منك".
(4)
في م: "هذه الآيات".
وقد دَلَّلْنا فيما مضَى على المعنى الذي مِن أجلِه قيلَ: الأرض. ولم تُجْمَعْ كما جُمِعَتِ السماواتُ، فأغْنَى ذلك عن إعادَتِهِ
(1)
.
فإن قال لنا قائلٌ: وهل للسماواتِ والأرضِ خَلْقٌ هم غيرُها، فيقالَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ؟!
قيل: قد اخْتُلِف في ذلك؛ فقال بعضُ الناسِ: لها خلقٌ هو غيرُها. واعْتَلُّوا في ذلك بهذه الآيةِ، وبالتي في سورةِ "الكهفِ":{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، وقالوا: لَمْ يخْلُقِ اللهُ شيئًا إلَّا واللهُ له مريدٌ. قالوا: فالأشياءُ كانت، بإرادةِ اللهِ، والإرادةُ خَلْقٌ لها.
وقال آخرون: خلْقُ الشيءِ صفةٌ لهُ، لَا هِي هُو، ولَا هي
(2)
غيرُه.
وقالوا: لو كان غيرَه لوَجَب أن يكونَ مِثْلُه موصوفًا. قالوا: ولو جازَ أن يكونَ خَلْقُه غيرَه وأن يكونَ موصوفًا لوَجَب أن تكون له صفةٌ هي له خَلْقٌ، ولو وَجَب ذلك كذلكَ، لَمْ يكنْ لذلك نهايةٌ. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفةٌ للشيْءِ. قالوا: فخَلْقُ السماواتِ والأرضِ صفةٌ لهما، على ما وَصَفْنا. واعْتَلُّوا أيضًا بأن للشيْءِ خلقًا ليس هو به، من كتابِ اللهِ بنَحْوِ الذي اعْتَلَّ به الأَوَّلون.
وقال آخرون: خَلْقُ السماواتِ والأرضِ، وخلقُ كلِّ مخلوقٍ، هو ذلك الشيْءُ بعينِه لا غيرُه. فمعنى قولِه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : إنَّ في السماواتِ والأرضِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} .
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 459 وما بعدها.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
يعنِي جل ثناؤُه بقولِه: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : وتَعاقُبِ الليلِ والنهارِ عليكم أيها، الناسُ، وإنَّما الاختلافُ في هذا الموضِعِ الافْتِعالُ، مِن خُلُوفِ كلِّ واحدٍ منهما الآخرَ، كما قال عز ذكرُه:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] بمعنى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَخْلُفُ مكانَ صاحبِه، إذا ذهبَ الليلُ جاء النهارُ بعدَه، وإذا ذهبَ النهارُ جاء الليلُ خِلَافَه
(1)
.
ومِن ذلك قيل: خَلَف فلانٌ فلانًا في أهلِه بسوءٍ. ومنه قولُ زُهيرٍ
(2)
:
بها العِينُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً
…
وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِن كُلِّ مَجْثَمِ
(3)
وأما "الليلُ" فإنه جمعُ لَيْلَةٍ، نظيرُ التَّمْرِ الذي هو جمعُ تَمْرَةٍ، وقد تُجمَعُ "ليالٍ"، فيَزِيدون في جمعِها ما لَمْ يكنْ في واحِدَتِها، وزيادتُهم الياءَ في ذلك نظيرُ زيادَتِهم إيَّاها في رَباعِيَةٍ وثَمانِيَةٍ وكَراهِيَةٍ.
وأما "النهارُ" فإنه لا تكادُ العربُ تَجْمَعُه؛ لأنه بمنزلةِ الضَّوْءِ، وقد سُمِع في جمعِه "النُّهُر"، قال الشاعرُ
(4)
:
لَوْلا الثَّرِيدانِ هَلَكْنا بالضُّمُرْ
…
ثَريدُ لَيْلٍ وثَريدٌ بالنُّهُرْ
ولو قِيل في جمعِ قليلِه: أنْهِرَةٌ. كان قياسًا.
(1)
في م، ت 1، ت 3:"خلفه". وهما بمعنًى.
(2)
شرح ديوانه ص 5.
(3)
العين: البقر، الواحدة عَيْناء، والذكر أعْيَن، وسميت عينا لسعة أعينها. والآرام: الظباء البيض الخوالص البياض. خلفة: يعني إذا مضى فوج جاء آخر. أطلاؤها: جمع طلا وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير. وينهضن من كل مجثم: أراد أنهن يُنِمن أولادهن إذا أرضعنهن ثم يرعين، فإذا ظنن أن أولادهن أنفدن ما في أجوافهن من اللبن صَوَّتن بأولادهن فينهضن ليشربن. المجثم من جَثَم: إذا لزم مكانه فام يبرح أو لصِق بالأرض. ينظر شرح ديوان زهير ص 6، 7.
(4)
البيت في: الأزمنة والأمكنة ص 77، والمخصص 9/ 51 واللسان (ن هـ ر).
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} .
يعني جل ثناؤُه: وإنَّ في الفُلكِ التي تجري في البحرِ. والفُلكُ هو السُّفنُ، واحدُه وجمعُه بلفظٍ واحدٍ، ويُذكَّرُ ويُؤنَّثُ، كما قال جلَّ ثناؤه في تذكيرِه في آيةٍ أُخرى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ
(1)
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] فذَكَّرَه، وقد قال في هذه الآيةِ:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} . [وإنما قِيل: تَجْري في البحرِ]
(2)
. وهي مُجْراةٌ؛ لأنَّها إذا أُجْرِيَتْ فهي الجاريةُ، فأُضِيف إليها مِن الصِّفةِ ما هو لها.
وأما قولُه: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فإنَّ معناه: بنَفْعِ
(3)
الناسِ. [فتأويلُ الكلامِ: وإنَّ في جَرْيِ الفُلكِ بنَفْعِ الناسِ]
(2)
في البَحرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .
يعني جلّ ذكرُه بقولِه: {وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} : وفيما أنزَل اللهُ مِن السماءِ من ماءٍ؛ وهو المطرُ الذي يُنزِلُه اللهُ مِن السماءِ.
وقولُه: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} . وإحياؤُها: عِمارتُها وإخراجُ نباتِها.
(1)
في الأصل: "ذرياتهم". وهي قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالإفراد. ينظر حجة القراءات ص 600.
(2)
سقط كما: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2:"ينفع".
والهاءُ التي في {بِهِ} عائدةٌ على "الماءِ"، والهاءُ والألفُ في قولِهِ:{بَعْدَ مَوْتِهَا} على الأرضِ. وموتُ الأرضِ: خرابُها ودُثُورُ عمارتِها، وانقطاعُ نباتِها الذي هو للعبادِ أقْواتٌ، وللأنامِ أرزاقٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} .
يعني بقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} : وإنَّ فيما بَثَّ في الأرضِ من دابةٍ.
ومعنى قوله: {وَبَثَّ فِيهَا} : وفَرَّقَ فيها، مِن قولِ القائلِ: بَثَّ الأميرُ سَراياه.
يعني: فَرَّقَ.
والهاءُ والألفُ في قولِه: {فِيهَا} عائدَتانِ على "الأرضِ".
والدَّابَّةُ: الفاعِلَةُ، من قولِ القائلِ: دَبَّتِ الدَّابَّةُ تَدِبُّ دَبيبًا فهي دابَّةٌ. والدَّابَّةُ اسمٌ لكلِّ ذي رُوحٍ كان غيرَ طائرٍ بِجَناحٍ؛ لدَبِيبهِ على الأرضِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} .
يعني بقولِه: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} : وفي تصريفه الرياحَ. فأسْقَطَ ذكْرَ الفاعلِ وأضاف الفِعلَ إلى المفعولِ، كما يقال: يُعْجِبني إكرامُ أخيك. يُرادُ: إكرامُك أخاك.
وتصريفُ اللهِ إيَّاها أن يُرْسِلهَا مرةً لَواقِحَ، ومرةً يَجْعَلُها عَقِيمًا، ويَبْعَثُها عذابًا تُدّمِّرُ كلَّ شيْءٍ بأمرِ ربِّها.
كما حَدَّثَنَا بشرُ بن مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} قال: قادرٌ واللهِ ربُّنَا على ذلك، إذا شاءَ جَعَلَها عذابًا ريحًا عَقيمًا لا تُلْقِحُ، إنما هي عذابٌ على من
(1)
أُرسِلَتْ
(1)
في ص: "ما".
عليه
(1)
.
وزَعم بعضُ أهلِ العربيةِ
(2)
أنَّ معنى قولِه: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} . أنَّها تأتي مرَّةً جنوبًا، وشمالًا، وقبولًا، ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفُها
(3)
.
وهذه الصفةُ التي وصَف الرياحَ بها صفةُ تَصَرُّفِها لا صفةُ تَصْرِيفها؛ لأنَّ تصريفَها تصريفُ اللهِ لها، وتصرُّفَها اختلافُ هُبُوبِها.
وقد يجوزُ أن يكونَ معنى قولِه: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} : وتصريفِ اللهِ هبوبَ الرياحِ باختلافِ مَهابِّها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} .
يعني بقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} : وفي السحاب المُسخَّرِ.
و"السحابُ" جمعُ سحابةٍ. يَدُلُّ علَى ذلك قولُه جل ذكرُه: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12].
ووحَّدَ المُسخَّرِ وذَكَّره، كما يُقالُ: هذه تمرةٌ، وهذا تمرٌ كثيرٌ، في جمعِه، وهذه نخلةٌ، وهذا نخلٌ.
وإنما قيل للسحاب: سحابٌ - إنْ شاء اللهُ - لجرِّ بعضِه بعضًا، وسَحْبِه إيَّاهُ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 275 (1474) من طريق شيبان، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 164 إلى عبد بن حميد.
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 1/ 97.
(3)
في الأصل: "تصرفها".
مِن قولِ القائلِ: مَرَّ فلانٌ يَسْحَبُ
(1)
ذيلَه. [بمَعْنى: يَجُرُّه]
(2)
.
فأمّا معنى قولِه: {لَآيَاتٍ} : فإنه: علاماتٍ ودلالاتٍ على أنَّ خالقَ ذلك كلِّه ومُنْشِئَه إلهٌ واحدٌ. {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لمن عَقَل مواضعَ الحُجَجِ، وفَهِم عن اللهِ أدِلَّتَه على وحدانيَّتِه.
فأعلَم عزّ ذِكرُه عبادَه بأنَّ الأدلةَ والحُجَجَ إنما وُضعتْ مُعْتبَرًا لذوِي العقولِ والتمييزِ، دونَ غيرِهم مِن الخلْقِ، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمرِ والنهيِ، والمُكَلَّفين الطاعةِ والعبادةَ، ولهم الثوابُ، وعليهم العقابُ.
فإن قال قائلٌ: وكيف احْتَجَّ على أهلِ الكفرِ بقولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. في توحيدِ اللهِ، وقد عَلِمْتَ أن أصنافًا من أصنافِ الكُفْرِ
(3)
تَدْفَعُ أن تكونَ السماواتُ والأرضُ وسائرُ ما ذُكِر في هذه الآيةِ مخلوقةً؟
قيل: إنَّ إنكارَ مَن أنْكَر ذلك غيرُ دافعٍ أن يكونَ جميعُ ما ذَكَر جل ثناؤُه في هذه الآيةِ دليلًا على خالقِه وصانعِه، وأنَّ له مُدَبِّرًا لا يُشبِهُه، وبارئًا لا مِثْلَ له، وذلك وإن كان كذلك، فإن اللهَ إنما حاجَّ بذلكَ قومًا كانوا مُقِرِّين بأن اللهَ خالِقُهم، غيرَ أنهم كانوا يُشرِكون في عبادَتِه عبادةَ الأصنامِ والأوثانِ، فحاجَّهم تعالى ذِكرُه فقال - إذ أنكروا قولَه:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وزَعَموا أنَّ له شركاءَ مِن الآلِهةِ -: إنّ إلهَكم الذي خَلَق السماواتِ والأرضَ، وأجْرَى فيها الشمسَ والقمرَ لكم بأرزاقِكم دائِبَيْن في سيرِهما - وذلك هو معنى اختلافِ الليلِ
(1)
في م: "يجر".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت؛:"يعني يسحبه".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"الكفرة".
والنهارِ -[وحَمَلَكم في البَرِّ والبحرِ]
(1)
- وذلك هو معنى قولِه: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} - وأنْزَل لكم الغيثَ مِن السماءِ، فأخْصَب به جَنابَكم
(2)
بعدَ جُدُوبِه، وأَمْرَعَه
(3)
بعدَ دُثُورِه، فنَعَشَكم
(4)
به بعدَ قُنوطِكم - وذلك هو معنى قولِه: {وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} - وسخَّر لكم الأنعامَ فيها لكم مطاعِمُ ومآكلُ، ومنها جَمالٌ ومَراكِبُ، ومنها أثاثٌ وملابسُ - وذلك هو معنى قولِه:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} - وأرسلَ لكم الرِّياحَ لَواقِحَ لأشجارِ ثمارِكم وغذائِكم وأقْواتِكم، وسَيَّر لكم السحابَ الذي بوَدْقِه
(5)
حياتُكم، وحياةُ نَعَمِكم ومواشِيكم، وذلك هو معنى قولِه:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .
فأخْبَرَهم أن إلهَهم هو اللهُ الذي أنْعَم عليهم بهذه النِّعمِ، وتَفَرَّد لهم بها، ثم قال:{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40]، فتُشْرِكوه في عبادتِكم إياي، وتَجْعلوه لي نِدًّا وعِدْلًا؟ فإنْ لَمْ يكنْ مِن شركائكم مَن يَفْعَلُ من ذلكم مِن شيْءٍ، ففي الذي عدَدْتُ عليكم مِن نِعْمتي، وتَفَرَّدتُ لكم بأياديَّ دَلالاتٌ لكم إنْ كنتم تَعْقِلون مواقعَ الحقِّ والباطلِ، والجَوْرِ والإنصافِ، وذلك أنِّي لكم بالإحسانِ إليكَم مُتفرِّدٌ دونَ غيري، وأنتم تَجْعَلون لي في عبادتِكم إيَّايَ أنْدادًا. فهذا هو معنى الآيةِ.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في الشمس والقمر".
(2)
الجناب: الناحية، والفناء وما قرب من محلة القوم. اللسان (ج ن ب).
(3)
أمرع: أخصَب وأكْلأ. اللسان (م ر ع).
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فينعشكم".
(5)
الوَدْق: المطر كله شديده وهَيِّنُه. اللسان (و د ق).
والذين، ذُكِّروا بهذه الآيةِ، واحْتُجَّ عليهم بها، هم القومُ الذين، وَصَفْتُ صفتَهم دونَ المعطِّلةِ والدَّهْرِيةِ، وإن كان في أصغرٍ ما عدَّد اللهُ في هذه الآيةِ مِن الحُجَجِ البالغةِ، المَقْنَع لجميعِ الأنامِ، تَرَكْنا البيانَ عنه كراهةَ إطالةِ الكتابِ بذِكرِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلُّ ثناؤُه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} .
يعني جلُّ ثناؤُه بذلك أنَّ مِن الناسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دونِ اللهِ أندادًا الله. وقد بَيَّنَا فيما مضَى أن النِّدَّ العِدْلُ: بما يَدُلُّ على ذلك مِنْ الشواهدِ، فكَرِهْنا إعادتَه
(1)
، وأنَّ الذين اتَّخذوا هذه الأندادَ مِن دونِ اللهُ، يُحِبون أندادَهم كحبِّ المؤمنين اللهَ، ثم أخْبَرَهم أن المؤمنين أشدُّ حبًّا للهِ من متَّخذِي هذه الأندادِ لأندادِهم.
واختلَف أهلُ التأويلِ في "الأندادِ" التي كان القومُ اتَّخذوها، وما هي؟ فقال بعضُهم: هي آلهتُهم التي كانوا يَعْبُدونها مِن دون اللهِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} : من الكفارِ لأوثانِهم
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 390 - 392.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 276 عقب الأثر (1484) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى عبد بن حميد.
نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} : مباهاةً ومضاهاةً للحقِّ بالأندادَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} مِن الكفارِ لآلهتِهم
(1)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وحُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} . قال: هي الآلهةُ التي تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ، يقولُ: يُحِبُّون أوثانَهم كحبِّ اللهِ. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} . أي: مِن الكفارِ لأوثانِهم
(2)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال بن زيدٍ في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} . قال: هؤلاءِ المشركون، أندادُهم آلهتُهم التي عَبَدوا مع الله، يُحِبُّونهم كما يُحِبُّ الذين آمنوا اللهَ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} مِن حُبِّهم همْ آلهتَهم
(3)
.
وقال آخرون: بل الأندادُ في هذا الموضعِ إنما هم سادَتُهم الذين كانوا يُطيعونهم في معصيةِ اللهِ تعالى.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"لأوثانهم".
والأثر في تفسير مجاهد ص 218، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 276 (1483). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 276 عقب الأثر (1482، 1484) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى المصنف، وسقط من المطبوع.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي موسى، قال:[حدَّثنا عمرٌو، قال]
(1)
ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} . قال. الأندادُ مِن الرجالِ، يُطيعونهم كما يطيعون اللهَ، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوُا اللهَ
(2)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {كَحُبِّ اللهِ} ؟! وهل يحبُّ اللهُ الأندادَ؟! أو هل كان مُتَّخِذو الأندادِ يُحِبون اللهَ فيقالَ: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} ؟! قيل: إنَّ معنى ذلك بخلافِ ما ذَهَبْتَ إليه، وإنما نَظيرُ ذلك قولُ القائِلِ: بِعتُ غلامِي كبَيْعِ غلامِك. بمعنى: بِعْتُه كما بِيعَ غُلامُك، وكبَيْعِك غلامَك. واسْتَوْفَيْتُ حقِّي منه استِيفاءَ حقِّك. بمعنى: استيفائِك حقَّكَ. فتَحْذِفُ مِن الثاني كنايةَ اسمِ المخاطَبِ اكتفاءً بكنايتِه في "الغلامِ" و"الحقِّ"، كما قال الشاعرُ
(3)
:
فلستُ مُسَلِّمًا ما دُمْتُ حَيًّا
…
على زَيْدٍ بتَسْلِيمِ الأميرِ
يعني بذلك: كما يُسَلَّمُ على الأميرِ.
فمعنى الكلامِ إذن: ومِن الناسِ مَن يَتَّخِذُ - أيها المؤمنون - مِن دونِ اللهِ أندادًا يُحِبُّونهم كحُبِّكم
(4)
اللهَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ يَرَى
(5)
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 276 (1481) من طريق عمرو بن حماد به.
(3)
معاني القرآن للفراء 1/ 100، والبيان والتبيين 4/ 51، وأمالي المرتضى 1/ 215.
(4)
في م: "كحب".
(5)
في الأصل: "ترى". وينظر ما سيأتي في الآية من قراءات.
اخْتَلَفَتِ القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقَرَأتْه عامَّةُ قَرَأةِ أهلِ المدينةِ والشامِ: (وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالتاءِ، (إذْ يَرَون العذابَ) بالياءِ، (أنَّ القوَّةَ للهِ جميعًا وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ)
(1)
بفتح "أنَّ" و"أنَّ" كلتيهما بمعنى: ولوْ تَرى يا محمدُ الذين كفروا وظلَموا أنْفُسَهم حينَ يَرَوْن عذابَ اللهِ ويُعايِنُونه، أنَّ القوةَ للهِ جميعًا، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ.
ثم في نَصْبِ "أنّ" و"أنَّ" في هذه القراءةِ وجهانِ: أحدُهما، أن تُفْتَحَ بالمحذوفِ مِن الكلامِ الذي هو مطلوبٌ فيه. فيكونُ تأويلُ الكلامِ حينَئذٍ: ولو ترى يا محمدُ الذين ظَلَموا إذ يَرَوْن عذابَ اللهِ لَأَقَرُّوا. ومعنى (تَرَى). معنى: تُبصِرُ أن القوَّةَ للهِ جميعًا، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ. ويكونُ الجوابُ حينئذٍ - إذا فَتَحْتَ "أنَّ" على هذا الوجْهِ - متروكًا قد اكْتُفِيَ بدَلالةِ الكلامِ عليه، ويكونُ المعنى ما وَصَفْتُ. فهذا أحدُ وَجْهَي فَتْحِ "أنّ" على قراءةِ من قرَأ:(وَلَوْ تَرَى) بالتاءِ.
والوجهُ الآخرُ في الفتحِ، أن يكونَ معناه: ولو تَرَى يا محمدُ إذ يَرى الذين ظلَموا عذابَ اللهِ؛ لأنَّ القوَّةَ للهِ جميعًا، وأنَّ الله شديدُ العذابِ، لَعَلِمْتَ مبلغَ عذابِ اللهِ. ثم تُحْذَفُ اللامُ، فتُفتَحُ بذلك المعنى، لدلالةِ الكلامِ عليها.
وقَرَأ ذلك آخرون مِن سَلَفِ القَرَأةِ: ولو تَرَى الذين ظلَموا إذ يَرَون العذابَ إنَّ القوةَ للهِ جميعًا وإنَّ اللهَ شديدُ العذابِ)
(2)
. بمعنى: ولو تَرَى يا محمدُ الذينَ ظلَمُوا حينَ يعاينُونَ عذابَ اللهِ، لَعَلِمتَ الحالَ التي يَصيرون إليها. ثم أخْبَر جل ثناؤُه خبرًا مُبْتَدأً عن قدرتِه وسلطانِه بعدَ تمامِ الخبرِ الأوَّلِ، فقال: إنَّ القوةَ للهِ جميعًا في الدنيا
(1)
وهي قراءة: نافع وابن عامر، إلَّا أن ابن عامر قرأ بضم الياء من:(يُرَون العذابَ). وقرأ نافع بفتحها. حجة القراءات ص 119، 120.
(2)
وهي قراءة أبي جعفر المدني ويعقوب. النشر 2/ 224.
والآخرةِ، دونَ مَن سواه مِن الأندادِ والآلهة، وإنَّ اللهَ شديدُ العذابِ لمن أَشْرَك به، وادَّعَى معه شِرْكًا
(1)
، وجَعَل له نِدًّا.
وقد يَحْتَمِلُ وجهًا آخرَ في قراءةِ من كَسَر "إنَّ"[وقَرَأ]
(2)
بالتاء، وهو أن يكونَ معناه: ولو تَرَى يا محمدُ الذين ظلَموا إذ يَرَوْن العذابَ، يقولون: إنَّ القوَّةَ للهِ جميعًا، وإنَّ اللهَ شديدُ العذابِ. ثم يُحْذَفُ القولُ ويُكْتَفَى منه بالمقولِ.
وقَرَأ ذلك آخرون: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالياء، {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} بفتحِ الألفِ من {أَنَّ} و {أَنَّ}
(3)
، بمعنى: ولو يَرَى الذين ظلَموا عذابَ الله الذي أُعِدَّ لهم في جهنمَ، لعَلِموا حينَ يَرَوْنَه فيُعايِنونَه، أنَّ القوةَ للهِ جميعًا، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ، إذ يَرَوْن العذابَ. فتكونُ {أَنَّ} الأُولَى منصوبةً لتَعَلُّقِها بجوابِ {وَلَوْ} المحذوفِ، ويكونُ الجوابُ متروكًا، وتكونُ الثانيةُ معطوفةً على الأُولى. وهذه قراءةُ عامَّةِ القَرَأةِ الكوفيين والبصريين وأهلِ مكَّةَ.
وقد زعم بعضُ نَحْويِّى أهلِ البصرة أن تأويلَ قراءةِ مَن قَرَأَ: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} بالياءِ في {يَرَى} وفَتْحِ الألفينِ في {أَنَّ} وَ {أَنَّ} : ولو يَعْلَمون؛ لأنَّهم لَمْ يكونوا عَلِموا قَدْرِ ما يُعايِنون مِن العذابِ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِم. فإذا قال:(ولو تَرَى). فإنما يُخاطِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قال: ولو كُسِرَتْ "إنَّ" على الابتداءِ إذا قال: (ولو يَرَى). جاز؛ لأنَّ (لو يَرَى): لو يَعْلَمُ. وقد يكون "لو يعلمُ" في معنًى لا يَحتاجُ معها إلى
(1)
في م، ت 1:"شريكا". والشِّرْك كالشريك. اللسان (ش ر ك).
(2)
في م: "في ترى".
(3)
وهي قراءة ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 120.
شيْءٍ، تقولُ للرجلِ: أمَا واللهِ لو تَعْلَمُ، ولو يَعلَمُ. كما قال الشاعرُ
(1)
:
إنْ يَكُنْ طِبُّك
(2)
الدلالَ فلَوْ في
…
سَالِفِ الدَّهْرِ والسِّنِينَ الخَوَالي
هذا ليس له جوابٌ إلَّا في المعنى. وقال الشاعرُ
(3)
:
وبحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ ولا تَذْ
…
هَبْ بَكِ التُّرَّهاتُ في الأهْوالِ
فأضْمَر: عِيشي.
قال: وقال بعضُهم: (ولو تَرَىَ). وفَتَح (أنّ) على (تَرَى)، وليس ذلك؛ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
(4)
يَعْلَمُ، ولكن أرادَ أن يَعْلَمَ ذلك الناسُ، كما قال:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [السجدة: 3] ليُخْبِرَ
(5)
الناسَ عن جهلِهم، وكما قال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 107].
قال أبو جعفرٍ: وأنْكَر قومٌ أن تكونَ "أنَّ" عاملًا فيها قولُه: {وَلَوْ يَرَى} .
وقالوا: إنَّ الذين ظلَموا قد علِموا حينَ يَرَوْن العذابَ أنَّ القوَّةَ للهِ جميعًا، فلا وجهَ لقولِ مَن تَأَوَّل ذلك: ولو يَرَى الذين ظلمُوا أنَّ القوةَ للهِ. وقالوا: إنما عَمِل في "أنَّ" جوابُ "لو" الذي هو بمعنى العِلْمِ، لتقدُّمِ العلمِ الأولِ.
وقال بعضُ نَحْوِيِّى الكوفةِ: مَن نَصَب {أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ} ، {وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} ممَّن قرَأ:{وَلَوْ يَرَى} بالياءِ، فإنّما نَصَبها بإعمالِ الرؤيةِ فيها، وجَعَل الرؤيةَ واقعةً عليه. وأمَّا مَن نَصَبها مِمَّن قرأَ:(ولو تَرَى) بالتاء؛ فإنه نَصَبها على
(1)
هو عَبيد بن الأبرص، والبيت في ديوانه ص 107.
(2)
الطِّب: الدَّأْب والعادة. اللسان (ط ب ب).
(3)
هو عَبيد أيضًا، ديوانه ص 108.
(4)
بعده في الأصل: "لم".
(5)
في الأصل: "لتخبر".
تأويلِ: لأنَّ القوّةَ للهِ جميعًا؛ ولأنّ اللهَ شديدُ العذابِ. قال: ومَن كَسَرهما ممن قرأَ بالتاءِ، فإنه يَكْسِرُهما على الخبرِ.
وقال آخرون منهم
(1)
: فتْحُ "أنَّ" في قراءةِ مَن قَرَأ: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالياءِ، بإعمالِ "يَرَى"، وجوابُ الكلامِ حينئذٍ متروكٌ، كما تُرِك جوابُ {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} [الرعد: 31]. لأنَّ معنَى الجَنَّةِ والنارِ مُكرَّرٌ معروفٌ. وقالوا: جائزٌ كسرُ "إنَّ" في قراءةِ من قرأَ بالياءِ، وإيقاعُ الرؤيةِ على "إذْ" في المعنى. وأجازوا نَصْبَ "أنَّ" على قراءةِ مَن قَرَأ ذلك بالتاءِ، بمعنى
(2)
نيةِ فعلٍ آخرَ، وأن يكونَ تأويلُ الكلامِ: ولو تَرَى الذين ظلَموا إذ يَرَون العذابَ يَرَوْن
(3)
أن القوةَ للهِ جميعا. وزَعَموا أنَّ كَسْرَ "إنَّ" الوجهُ، إذا قُرِئَتْ (ولو تَرَى) بالتاءِ على الاستئنافِ؛ لأنَّ قولَه:(ولو تَرى) قد وَقَع على (الذين ظَلموا).
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القراءةِ عندَنا في ذلك: (ولو تَرَى الذين ظلَموا). بالتاءِ مِن (تَرَى)، (إذ يرون العذابَ أن القوَّةَ للهِ جميعًا وأن اللهَ شديدُ العذابِ). بمعنى: لرَأَيْت أنَّ القوَةَ للهِ جميعًا، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ. فيكونُ قولُه: لَرَأَيْتَ. الثانيةُ محذوفًا مُستَغْنًى بدلالةِ قولِه: (ولو تَرَى الذينَ ظلمُوا). عن ذكرِه، وإن كان جوابًا لـ "لو"، ويكونُ الكلامُ وإن كانَ مَخرَجُه مَخْرَجَ الخطابِ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَعْنِيًّا به غيرُه؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان لاشكَّ عالمًا بأنَّ القوةَ للهِ جميعًا، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ، ويكونُ ذلك نظيرَ قولِه:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 107]. وقد بَيَّنْتُه في موضعِه
(4)
.
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 1/ 97.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لمعنى".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
تقدم في 2/ 403 - 406.
وإنما اخْتَرْنا ذلك على قراءةِ الياءِ؛ لأنَّ القومَ إذا رَأَوُا العذابَ فقد أيْقَنوا أنَّ القوَّةَ للهِ جميعًا، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ، فلا وجهَ لأنَّ يُقالَ: لو يَرَوْن أن القوَّةَ للهِ جميعًا. حينئذٍ؛ لأنه إنما يقالُ: لو رَأَيْتَ. لمن لَمْ يَرَ. فأمَّا مَن قد رآه، فلا معنَى لأنَّ يُقالَ له: لو رأيتَ.
ومعنى قولِه: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} : إذ يُعايِنون العذابَ.
كما حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} يقولُ: لو قد عايَنوا العذابَ
(1)
.
وإنما عَنَى جل ثناؤُه بقولِه: (ولو ترى الذين ظَلَموا): ولو تَرَى يا محمدُ الذين ظلَمُوا أنفسَهم، فاتَّخَذوا مِن دُوني أندادًا يُحِبونهم كحُبِّكم إيَّايَ، حينَ يُعايِنون عذابِي يومَ القيامةِ الذي أعْدَدْتُ لهم، لَعَلِمْتم أنَّ القوَّةَ كلَّها لي دونَ الأندادِ والآلهةِ، وأنَّ الأندادَ والآلهةَ لا تُغنِي عنهم هنالك شيئًا، ولا تَدْفَعُ عنهم عذابًا أحْلَلْتُ بهم، وأيْقَنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كَفَر بي، وادَّعَى معي إلهًا غيري.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} .
يعني بقولِه جل ذكرُه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} : [وأنَّ اللهَ شديدُ العقابِ]
(2)
إذ تَبَرَّأ الذين اتُّبِعوا مِن الذين اتَّبَعوا.
ثم اخْتَلَف أهل التأويلِ في الذين عَنَى اللهُ بقولِه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} . فقال بعضُهم بما حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 277 عقب الأثر (1486) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"ورأوا العذاب".
قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} : وهم الجبابرةُ والقادةُ والرءوسُ في الشِّركِ [والشَّرِّ]
(1)
، {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}: وهم الأتباعُ الضعفاءُ، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ}
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} . قال: تَبَرَّأَتِ القادةُ مِن الأتباعِ يومَ القيامةِ
(3)
.
حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال
(4)
: قال ابنُ جُريجٍ: قلتُ لعطاءٍ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} قال: تَبَرَّأ رؤساؤُهم وقادتُهم وسادَتُهم من الذين اتَّبَعوهم
(5)
.
وقال آخرون بما حدَّثني به موسى بن هارونَ، قال: ثنا عمرُو بن حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} : أمّا الذين اتُّبِعوا فهم الشياطينُ، تَبَرَّءُوا من الإنْسِ
(6)
.
والصوابُ مِن القولِ عندي في ذلك أنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه أخْبَرَ أنَّ المتَّبَعِين على
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 277 (1490) من طريق يزيد به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 277 (1489) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، بزيادة: إذا رأت العذاب.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 277 عقب الأثر (1490)، وابن عبد البر في الاستذكار 8/ 173، 174 معلقًا.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 278 (1491) من طريق عمرو بن حماد به.
الشِّرْكِ باللهِ يَتَبَرَّءُون مِن أتباعِهم حينَ يُعايِنون عذابَ اللهِ، ولم يَخْصُصْ بذلك منهم بعضًا دونَ بعضٍ، بل عَمَّ جميعَهم، فداخِلٌ
(1)
في ذلك كلُّ متبوعٍ على الكفرِ باللهِ والضلالِ، أنه يَتَبَرَّأُ مِن تُبّاعِه الذين كانوا يَتَّبِعونه على الضلالِ في الدنيا، إذ عاينوا عذابَ اللهِ في الآخرِة.
وأمّا دَلالةُ الآيةِ في مَن عَنَى بقولِه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} . فإنها إنما تَدُلُّ على أنَّ الأندادَ الذين اتَّخَذَهم مِن دونِ اللهِ مَن وَصَف جل ذكرُه صفتَه بقولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا} . هم الذين يَتَبَرَّءون مِن أتْباعِهم.
وإذ كانتِ الآيةُ على ذلك دَالَّةً، صحَّ التأويلُ الذي تَأَوَّلَه السُّدِّيُّ
(2)
في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا} . أنَّ "الأنْدادَ" في هذا الموضعِ إنما أُرِيد بها الأندادُ مِن الرجالِ الذين يُطيعونهم فيما أمَروهم به مِن أمرٍ، ويَعْصُون اللهَ في طاعتِهم إيَّاهم، كما يُطِيعُ اللهَ المؤمنون ويَعْصُون غيرَه - وفَسَد تأويلُ قولِ مَن قال:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} أنهم الشياطينُ تَبَرَّءوا مِن أوليائِهم مِن الإنسِ؛ لأنَّ هذه الآيةَ إنما هي في سياقِ الخبرِ عن مُتَّخذي الأندادِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)} .
يعني جل ثناؤُه بذلك، وأنَّ اللهَ شديدُ العذابِ إذ تَبَرَّأ الذين اتُّبِعوا مِن الذِين اتَّبَعوا، وإذ تَقَطَّعَتْ بهم الأسبابُ.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"فدخل".
(2)
كذا ذكر المصنف، وقول السدي هو القول الذي سيردُّه المصنف من أن الذين اتُّبِعوا هم الشياطين، والقول الآخر الذي اختاره المصنف هو قول قتادة والربيع وعطاء، كما ذكر المصنف نفسه.
ثم اخْتَلَف أهل التأويلِ في معنى "الأسبابِ"؛ فقال بعضُهم بما حدَّثني به يحيى ابنُ طلحةَ اليَرْبُوعِيُّ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ عياضٍ، وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عُبيدٍ المُكْتِبِ، عن مجاهدٍ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: الوِصالُ الذي كان بينَهم في الدنيا
(1)
.
حدَّثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن عُبيدٍ المكتِبِ، عن مجاهدٍ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: تَواصُلُهم في الدنيا
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازِيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قالا جميعًا: ثنا سفيانُ، عن عُبيدٍ المُكْتِبِ، عن مجاهدٍ بمثلِه.
حدثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: المَوَدَّةُ
(3)
.
حدثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني القاسمُ، قال: ثني الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: تَواصُلٌ كان بينهم بالمودَّةِ في الدنيا.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (240 - تفسير)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 285 من طريق فضيل به. وأخرجه سعيد بن منصور - أيضًا - (241) عن جرير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(2)
تفسير سفيان ص 54، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 278 (1493).
(3)
تفسير مجاهد ص 218.
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، قال: أخبرني قيسُ ابنُ سعدٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: المودَّةُ
(1)
.
حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} : أسبابُ الندامةِ يومَ القيامةِ، وأسبابُ المُواصَلَةِ التي كانت بينَهم في الدنيا يَتَواصَلون بها، ويَتخالُّون
(2)
بها، فصارتْ عليهم عَداوةً يومَ القيامةِ {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}:[العنكبوت: 25] ويَتَبَرَّأُ بعضُكم مِن بعضٍ
(3)
. وقال اللهُ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فصارتْ كلُّ خُلَّةٍ عداوةً على أهلِها، إلا خُلَّةَ المتقين.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: هو الوَصْلُ الذي كان بينَهم في الدنيا
(4)
.
وحُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} . يقولُ: أسبابُ
(5)
النّدامةِ
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 278 (1492)، والحاكم 2/ 272 من طريق أبي عاصم به، وصححه الحاكم، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"يتحابون".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 65.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأسباب".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 278 عقب الأثر (1496) من طريق ابن أبي جعفر به.
وقال بعضُهم: بل معنى الأسبابِ: المنازلُ التي كانت لهم مِن أُهلِ الدنيا،
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} يقولُ: تقطَّعت بهم المنازلُ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ، عن أبي جعفرٍ الرازِيِّ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} . قال: الأسبابُ: المنازلُ
(2)
.
وقال آخرون: الأسبابُ: الأرْحامُ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ
(3)
، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: وقال ابنُ عباسٍ: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: الأرحامُ
(4)
.
وقال آخرون: الأسبابُ: الأعمالُ التي كانوا يَعْمَلُونها في الدنيا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أمّا {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} فالأعمالُ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 278 (1494) عن محمد بن سعد به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 278 (1497) من طريق أبي جعفر به.
(3)
بعده في م: "قال: ثنا الحسن".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى المصنف وابن المنذر.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 279 عقب الأثر (1498) من طريق عمرو بن حماد به.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ، وهبٍ: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: أسبابُ أعمالِهم؛ فأهلُ التقوَى أُعْطُوا أسبابَ أعمالِهم
(1)
وثيقةً فيَأْخُذون بها فيَنْجُون، والآخرون أُعْطُوا أسبابَ أعمالِهم الخبيثةِ فتَتَقَطَّعُ
(2)
بهم فيَذْهَبونَ في النارِ
(3)
. قال: والأسبابُ: الشيْءُ يُتَعَلَّقُ به. قال: والسببُ: الحبلُ.
والأسبابُ: جمعُ سببٍ، وهو كل ما تَسَبَّبَ به الرجلُ إلى طَلِبَتِه وحاجَتِه، فيقالُ للحبلِ: سببٌ؛ لأنه يُتَسبَّبُ بالتَّعَلُّقِ به إلى الحاجةِ التي لا يُوصَلُ إليها إِلَّا بالتعلُّقِ به. ويقالُ للطريقِ: سببٌ؛ للتَّسَبُّبِ برُكوبِه إلى ما لا يُدرَكُ إلَّا بقَطْعِه.
وللمُصاهَرَةِ: سببٌ؛ لأنها سببٌ للحُرْمَةِ. وللوسِيلةِ: سببٌ؛ للوصولِ بها إلى الحاجةِ. وكذلك كلُّ ما كان به إدراكُ الطَّلِبَةِ، فهو سببٌ لإدراكِها.
فإذ كان ذلك كذلك، فالصوابُ من القولِ في في تأويلِ قولِه:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} أن يقالَ: إنَّ اللهَ أخْبَرَ أنَّ الذين ظَلَموا أنفسَهم من أهلِ الكُفرِ الذين ماتوا وهم كفارٌ، يتبَرَّأُ عندَ مُعاينَتهِم عذابَ اللهِ المَتبوعُ مِن التابعِ، وتَتَقَطَّعُ بهم الأسبابُ، وقد أَخْبَر اللهُ جل ثناؤُه في كتابِه أن بعضَهم يَلْعَنُ بعضًا، وأخْبَر عن الشيطانِ أنه يقولَ لأوليائِه:{مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]. وأخْبَر جل ثناؤُه أنَّ الأخِلَّاءَ يومئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌّ إلَّا المتقين، وأن الكافرين لا يَنْصُرُ يومئذٍ بعضُهم بعضًا، فقال تعالى ذِكرُه:
(1)
في الأصل: "أعمال".
(2)
في م، ت 3:"فتقطع"، وفي ت 1:"فيقطعون"، وفي ت 2:"فيعطون".
(3)
ينظر المحرر الوجيز 1/ 475.
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 24، 25]. وأن الرجلَ منهم لا يَنْفَعُه نَسِيبُه ولا ذو رَحِمِه، وإن كان نَسيبُه للهِ وليًّا، فقال جل ثناؤُه في ذلك:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]. وأخبر جل ذِكرُه أن أعمالَهم تَصيرُ عليهم حسراتٍ.
وكلُّ هذه المعاني أسبابٌ يُتَسبَّبُ في الدنيا بها إلى مطالبَ، فقَطَع اللهُ منافعَها في الآخرةِ عن الكافرين به [في الدنيا]
(1)
؛ لأنها كانت بخلافِ طاعتِه ورضاه، فهي منقطعةٌ بأهلِها، فلَا خِلالُ بعضِهم بعضًا نَفَعهم عند وُرودهِم على ربِّهم، ولا عِبادتُهم أَنْدادَهم، ولا طاعتُهم شياطِينَهم، ولا دافَعَتْ عنهم أرحامٌ فنَصَرَتْهم مِن انتقامِ اللهِ منهم، ولا أغنَتْ عنهم أعمالُهم، بل صارتْ عليهم حسراتٍ، فكلُّ أسبابِ الكفارِ منقطعةٌ، فلَا معنى أبلغُ في تأويلِ قولِه:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} مِن صفةِ اللهِ، وذلك ما بيَّنَّا مِن جميعِ أسبابِهم دونَ بعضِها، على ما قلنا في ذلك.
ومن ادَّعَى أن المَعْنيَّ بذلك خاصٌّ مِن الأسبابِ، سُئِل البُرهانَ
(2)
على دعواه مِن أصلٍ لا تَنازُعَ فيه، وعُورِضَ بقولِ مخالِفِه فيه، فلن يقولَ في شيْءٍ من ذلك قولًا إلَّا أُلزِم في الآخَرِ مِثلَه.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} .
(1)
سقط من: م. ت 1، ت 2.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن البيان".
يعني جلَّ ثناؤُه لقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} : وقال تُبَّاعُ الرجالِ الذين كانوا اتَّخَذوهم أندادًا من دونِ اللهِ، يُطيعونهم في معصيةِ اللهِ، ويَعْصُون ربَّهم في طاعتِهم، إذ يَرَوْن عذابَ اللهِ في الآخرةِ:{لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} . يعني بالكَرَّةِ: الرَّجْعَةَ إلى الدنيا. مِن قولِ القائلِ: كررتُ على القومِ أَكُرُّ عليهم
(1)
كَرًّا [ومَكَرًّا]
(2)
. والكرَّةُ: المَرَّةُ الواحدةُ. وذلك إذا حَمَل عليهم راجعًا بعدَ الانصرافِ عنهم، كما قال الأخْطَلُ
(3)
:
ولقد عَطَفْنَ على فزَارَةَ عَطْفَةً
…
كَرَّ المَنيحِ
(4)
وجُلْنَ ثَمَّ مَجَالَا
وكما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} أي
(5)
: رجعةً إلى الدنيا
(6)
.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثني إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} قال: قالت الأتْباعُ: لو أن لنا كرةً إلى الدنيا فنَتَبَرَّأَ منهم كما تَبَرَّءُوا منا
(7)
.
وقولُه: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} منصوبٌ؛ لأنه جوابٌ للتَّمَنى بالفاءِ؛ لأنَّ القومَ تَمَنَّوا رجعةً إلى الدنيا ليَتَبَرَّءُوا مِن الذين كانوا يُطيعونهم في معصيةِ اللهِ، كما تَبَرَّأ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
شرح ديوانه 391.
(4)
المنيح: قدح لا حظ له في الميسر، ولكنه يعاد مع القداح في كل ضربة. نقائض جرير والأخطل ص 80.
(5)
بعده في م: "لنا".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 166 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 279 (1499) من طريق أبي جعفر عن الربيع، عن أبي العالية.
منهم رؤساؤُهم الذين كانوا في الدنيا، المَتْبوعون فيها على الكفرِ باللهِ، إذ عاينُوا عظيمَ النازلِ بهم مِن عذابِ اللهِ، فقالوا: يا ليتَ لنا كَرَّةً إلى الدنيا، فنَتَبَرَّأَ منهم، و {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27].
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} .
ومعنى قولِه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ} . يقولُ: كما أراهم العذابَ الذي ذَكَره في قولِه: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الذي كانوا يُكَذِّبون به في الدنيا، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالَهم الخبيثَةَ التي اسْتَحَقُّوا بها العقوبةَ مِن اللهِ {حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} يعني: نَداماتٍ.
والحَسَراتُ جمعُ حَسْرَةٍ، وكذلك كلُّ اسمٍ كان واحِدُه على "فَعْلَةٍ" مفتوحُ الأوَّلِ ساكِنُ الثاني، فإنَّ جمعَه على "فَعَلاتٍ"، مثل: شَهْوَةٍ وتَمْرةٍ، تُجْمَعُ: شَهَواتٍ وتَمَراتٍ. مُثَقَّلَةُ الثَّواني مِن حروفِها. فأمَّا إذا كان نعتًا فإنَّك تَدَعُ ثانِيَه ساكنًا، مِثلَ: ضَخْمةٍ، تَجْمَعُها: ضَخْماتٍ، وعَبْلَةٍ تَجْمعُها عَبْلاتٍ.
وربما سُكِّن الثاني في الأسماءِ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أو دُولاتِها
(2)
…
يُدِلْنَنا اللَّمَّةَ مِن لَماَّتِها
فتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِن زَفْرَاتِها
فسَكَّن الثاني مِن "الزَّفْراتِ" وهي اسمٌ.
(1)
اللسان (ل م م)، (ع ل ل)، (ز ف ر).
(2)
الدولات: مفردها دَوْلة ودُولة وهي: العُقبَى، في المال والحرب سواء. وقيل: الدُّولة بالضم، في المال. والدَّولة بالفتح، في الحرب. اللسان (د و ل).
وقيل: إنَّ الحسرةَ أشَدُّ الندامةِ.
فإن قال لنا قائلٌ: فكيف يَرَوْن أعمالَهم حسراتٍ عليهم، وإنما يَتَنَدَّمُ
(1)
المُتنَدِّمُ على تَرْكِ الخيراتِ وفَوْتِها إيَّاه، وقد عَلِمْتَ أنَّ الكفارَ لم يكنْ لهم مِن الأعمال ما يتَنَدَّمون على تركِهم الازديادَ منه، فيُريَهم اللهُ قليلَةً، بل كانت أعمالُهم كلُّها معاصيَ للهِ، ولا حسرةَ عليهم في ذلك، وإنما الحسرةُ عليهم فيما لم يَعْملوا مِن طاعةِ اللهِ؟
قِيل له: إنَّ أهلَ التأويلِ في تأويلِ ذلك مُخْتَلِفون، فنَذْكُرُ في ذلك ما قالوا، ثم نُخْبِرُ بالذي هو أوْلَى بتأويلِه إن شاء اللهُ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: كذلك يُريهم اللهُ أعمالَهم التي فَرَضها عليهم في الدنيا، فضَيَّعوها ولم يَعْملوا بها، حتى اسْتَوْجَب ما كان اللهُ أعَدَّ [له - لو كان عمِل بها في حياتِه]
(2)
، مِن المساكنِ والنِّعَمِ - غيرُه
(3)
بطاعتِه ربَّه، فصار ما فاته
(4)
مِن الثوابِ - الذي كان اللهُ أعدَّه [له عندَه، لو كان أطاعه في الدنيا، إذ عاينه]
(5)
عندَ دخولِ النارِ، أو قبلَ ذلك - أسًى وندامةً وحسرةً عليه
(6)
.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:
(1)
في الأصل: "يندم".
(2)
في م: "لهم لو كانوا عملوا بها في حياتهم".
(3)
في م: "غيرهم".
(4)
في م: "فاتهم".
(5)
في م: "لهم عنده، لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه".
(6)
في م: "عليهم".
{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} . زَعَم أنه تُرْفَعُ لهم الجنةُ، فيَنْظُرون إليها وإلى بيوتِهم فيها، لو أنَّهم أطاعوا اللهَ، فيقالُ لهم: تلك مساكنكم لو أطَعْتم اللهَ. ثم تُقَسَّمُ بينَ المؤمنين، فيَرِثُونهم، فذلك حينَ يَنْدَمون
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن سَلَمةَ بنِ كُهَيلٍ، قال: ثنا أبو الزَّعْراءِ، عن عبدِ اللهِ في قصةٍ ذَكَرها فقال: فليس نفسٌ إلَّا وهي تَنْظُرُ إلى بيتٍ في الجَنَّةِ وبيتٍ في النارِ، وهو يومُ الحسرةِ. قال: فيَرَى أهلُ النارِ [البيتَ الذي]
(2)
في الجنَةِ، فيقالُ لهم: لو عَمِلْتم؟ فتَأْخُذُهم الحسرةُ. قال: ويرَى أهلُ الجَنَّةِ البيتَ الذي في النارِ، فيقالُ: لولا أن مَنَّ اللهُ عليكم
(3)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكونُ مضافًا إليهم من العمل مالم يَعْمَلوه على هذا التأويلِ؟
قِيل: كما يُعْرَضُ على الرجلِ العملُ، فيقالُ قبلَ أن يَعْمَلَه: هذا عملُك.
يعني: هذا الذي يَجبُ عليك أن تَعْمَلَه. كما يقالُ للرجلِ يَحْضُرُ غداؤُه قبلَ أن يَتَغَدَّى به: هذا غَداؤك اليومَ. يَعْني به: هذا ما تتَغَدَّى به اليومَ. فكذلكَ قولُه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} يعني: كذلك يُريهم اللهُ أعمالَهم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 279 من طريق عمرو بن حماد به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذين".
(3)
حديث منكر. أخرجه العقيلي 2/ 314، والطبراني في الكبير (9761)، والحاكم 4/ 496، 598، والبيهقي في البعث (657)، من طريق سفيان به. وقال البخاري في التاريخ 5/ 221: أبو الزعراء
…
روى عن ابن مسعود، رضي الله عنه في الشفاعة، ولا يتابع في حديثه. وقال ابن كثير في النهاية في النهاية 20/ 230: حديث غريب جدا. وستأتي أجزاء متفرقة من هذا الأثر بهذا الإسناد في تفسير الآية 79 من سورة الإسراء، والآية 100 من سورة الكهف، والآية 96 من سورة الأنبياء، والآية 9 من سورة فاطر، والآية 24 من سورة الصافات، والآية 49 من سورة المدثر، والآية 42 من سورة القلم.
التي كان لازمًا لهم العملُ بها في الدنيا، حسراتٍ عليهم.
وقال آخرون: كذلك يُريهم اللهُ أعمالَهم السيئةَ حسراتٍ عليهم: لم عَمِلوها؟ وهَلَّا عَمِلوا بغيرِها مما يُرْضِي اللهَ تعالى؟
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} : فصارتْ أعمالُهم الخبيثةُ حسرةً عليهم يومَ القيامةِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} قال: أو ليسَ أعمالُهم الخبيثةُ التي أدْخَلَهم اللهُ بها النارَ حسراتٍ عليهم؟ قال: وجَعَل أعمالَ أهلِ الجَنَّةِ لهم. وقَرَأ قولَ اللهِ: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى التأويليْن بالآيةِ تأويلُ مَن قال: معنى قولِه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} : كذلك يُرِي اللهُ الكافرين أعمالَهم الخبيثةَ حسراتٍ عليهم، لم عَمِلوا بها؟ وهَلَّا عَمِلوا بغيرِها؟ فَندِموا على ما فَرَط منهم مِن أعمالِهم الرَّديئةِ إذ
(2)
رَأَوْا جزاءَها مِن اللهِ وعقابَها؛ لأنَّ اللهَ أخْبر أنه يُرِيهم أعمالَهم نَدمًا عليهم. فالذي هو أوْلَى بتأويلِ الآيةِ ما دلَّ عليه الظاهرُ دونَ ما احْتَمَلَه الباطنُ الذي لا دَلالةَ على أنه المَعْنِيُّ بها. والذي قاله السُّدِّيُّ في ذلك، وإن كان مَذهبًا تَحْتَمِلُه الآيةُ، فإنه مَنْزَعٌ بعيدٌ، ولا أثرَ بأنَّ ذلك كما ذكَر تقومُ له حجةٌ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 279 عقب الأثر (1499) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
في م، ت 2:"إذا".
فيُسَلَّمَ له
(1)
، ولا دلالةَ في ظاهرِ الآيةِ أنه المرادُ بها، فإذ
(2)
كان الأمرُ كذلك لم يُحَلْ ظاهرُ تنزيلٍ إلى باطنِ تأويلٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} .
يعني جل ذِكرُه بذلك: وما هؤلاءِ الذين وَصَف صفتَهم مِن الكفارِ - وإن نَدِموا بعدَ مُعايَنتِهم ما عايَنوا من عذابِ اللهِ، فاشْتَدَّتْ نَدامَتُهم على ما سَلَف منهم مِن أعمالِهم الخبيثةِ، وتَمَنَّوْا إلى الدنيَا كَرَّةً لِيُنيبوا فيها، ويَتَبَرَّءُوا مِن مُضِلِّيهم وسادَتِهم الذين كانوا يُطيعونهم في معصيةِ اللهِ فيها - بخارجين من النارِ التي أَصْلاهُموها اللهُ بكفرِهم به في الدنيا، ولا نَدَمُهم فيها بمُنْجِيهم مِن عقاب اللهِ حينئذٍ، ولكنهم فيها مُخلَّدون.
وفي هذه الآيةِ الدَّلالةُ على تكذيبِ اللهِ الزاعمين أنَّ عذابَ اللهِ أهلَ النارِ مِن أهلِ الكفرِ به مُنْقَضٍ، وأنه إلى نهايةٍ، ثم هو بعدَ ذلك فانٍ؛ لأنّ اللهَ تعالى ذكرُه أخْبَرَ عن هؤلاء الذين وَصَف صفتَهم في هذه الآيةِ، ثم خَتَم الخبرَ عنهم بأنَّهم غيرُ خارجين من النارِ، بغيرِ استثناءٍ منه وقتًا دونَ وقتٍ، فذلك إلى غيرِ حدٍّ ولا نهايةٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} .
يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الناسُ كلُوا ممَّا أحَللْتُ لكم مِن الأطعمةِ على لسانِ رسولِي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فَطَيَّبْتُهُ لكُمْ، مما تُحرِّمُونَه على أنْفُسِكم من البحائرِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لها".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإذا".
والسوائبِ والوصائلِ، وما أشبهَ ذلك مما لم أحرِّمْهُ علَيْكم، دونَ ما حرَّمْتُه عليكُم مِن المطاعمِ والمآكلِ فنجَّستُه، من مَيْتةٍ ودمٍ ولحمِ خنزيرٍ، وما أُهِلَّ به لِغيرِي، ودَعُوا خطواتِ الشيطانِ التي تُوبِقُكُم فتُهلِكُكم وتُورِدُكُم مواردَ العَطَبِ، وتُحرِّمُ عليكم أموَالَكم فلا تَتَّبِعُوها ولا تَعمَلُوا بها. {إِنَّهُ} يَعنِي بقولِه:{إِنَّهُ} : إنَّ الشيطانَ، والهاءُ في قولِه:{إِنَّهُ} عائدةٌ على الشيطانِ {لَكُمْ} أيها الناسُ {عَدُوٌّ مُبِينٌ} يعني جلّ ثناؤه أنه قد أبانَ لكم عدَاوَتَه بإبائِه
(1)
السجودَ لأبيكم وغُرورِه إيَّاه حتى أخرجَه من الجَنَّةِ واستزَلّهُ بالخطيئة، وأكَل من
(2)
الشجرةِ. يقولُ جلّ ثناؤُه: فلا تَنْتَصِحُوه أيها الناسُ مع إِبانتِه لكم العداوةَ، ودعُوا ما يأمرُكُم به، والزَمُوا طاعَتي فيما أمرْتُكم به ونَهيتُكُم عنه مما حلّلْتُه لكم، وحرَّمتُه عليكُم، دونَ ما حرَّمتُمُوه أنتم علَى أنفُسِكم وحلَّلْتمُوه طاعةً منكُم للشيطانِ واتباعًا لأمرِه. ومعنَى قولِه:{حَلَالًا} : طِلْقًا، وهو مصدرٌ من قولِ القائلِ: قد حلَّ لكَ هذا الشيْءُ. أي: صارَ لك مُطْلَقًا، فهو يَحِلُّ لك حلَالًا وحِلًّا. ومن كلامِ العربِ: هو لكَ حِلٌّ بِلٌّ طِلْقٌ.
وأمّا قولُه: {طَيِّبًا} فإنه يعني به: طاهرًا غيرَ نجِسٍ ولا مُحرَّمٍ.
وأما "الخُطواتُ" فهي جمعُ خُطوةٍ، والخُطوةُ بُعدُ ما بينَ قدمَي الماشِي، والخَطوةُ بفتحِ الخاءِ: الفَعلةُ الواحدةُ، من قولِ القائلِ: خطوتُ خَطْوةً واحدةً. وقد تُجمعُ الخُطوةُ خُطًا، والخَطوة تُجمعُ خَطَوَاتٍ وخِطاءً.
والمعنى في النهي عن اتباعِ خُطواتِه، النهيُ عن طريقهِ وأثرِه فيما دعا إليه مما هو خلافُ طاعةِ اللهِ.
(1)
بعده في م: "عن".
(2)
سقط من: ص.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الخُطواتِ؛ فقال بعضُهم: خُطواتُ الشيطانِ عملُه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يقولُ: عملُه
(1)
.
وقال بعضُهم: خُطواتُ الشيطانِ
(2)
: خَطاياه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قالَ: خطيئَتُه
(3)
.
حدثني المُثَنَّى، قالَ: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قالَ: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ، قال: خَطاياهُ.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال: خَطاياه
(4)
.
حدثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبرَنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا جُوَيْبِرٌ، عن الضَّحاكِ في قولِه:{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال: خَطايا الشيطانِ التي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 371 (1951) من طريق عبد الله بن صالح به.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
تفسير مجاهد ص 218، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 280 (1505)، بلفظ: خطأه. زاد ابن أبي حاتم: أو قال: خطاياه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 167 إلى عبد بن حميد.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82.
يأمرُ بها.
وقال آخرون: خطواتُ الشيطانِ: طاعتُه.
ذكرُ من قال ذلك
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يقولُ: طاعتُه
(1)
.
وقال آخرون: خُطواتُ الشيطانِ: النذورُ في المعاصِي.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن سليمانَ، عن أبي مِجلَزٍ في قولِه:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال: هي النذورُ في المعاصِي
(2)
.
وهذه الأقوالُ التي ذكرناهَا عمَّن ذكرْنَاها عنه في تأويلِ قولِه: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قريبٌ معنَى بعضِها من بعضٍ؛ لأنّ كلَّ قائلٍ منهم قولًا في ذلك فإنه أشارَ إلى نَهْي اتباعِ الشيطانِ في آثارِه وأعمالِه، غيرَ أن حقيقةَ تأويلِ الكلمةِ هو ما بَيَّنْتُ من أنها بُعْدُ ما بينَ قدَميه، ثم تُستعملُ في جميعِ آثارِه وطُرُقِه على ما قد بَيَّنْتُ. القول في تأويل قولِه جلّ ثناؤه:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} .
يعني جلّ ثناؤه بقولِه: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} : الشيطانُ، {بِالسُّوءِ} . والسوءُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 371 (1952).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 281 (1507) من طريق جرير به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (242 - تفسير) عن معتمر بن سليمان، عن أبيه به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 167 إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ.
الاسمُ
(1)
مثلُ الضُّرِّ من قولِ القائلِ: ساءك هذا الأمرُ يسوءُك سُوءًا. وهو ما يسوءُ الفاعلَ.
وأما الفحشاءُ فهي مصدرٌ مثلُ السرّاءِ والضرّاءِ، وهي كلُّ ما اسْتُفْحِشَ ذِكرُه وقَبُحَ مَسموعُه.
وقيلَ: إنّ السوءَ الذي ذكرَه اللهُ هو معاصِي اللهِ. فإن كان ذلك كذلك، فإنّما سماها اللهُ سوءًا؛ لأنّها تَسوءُ صاحبَها بسوءِ عاقِبتِها له عندَ اللهِ.
وقيل: إنّ الفحشاءَ الزنا. فإنْ كان ذلك كذلك، فإنما [سمِّى بذلك]
(2)
لِقُبْحِ مَسمُوعِه، ومكرُوهِ ما يُذكرُ به فاعلُه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} : أما "السوءُ" فالمعصيةُ، وأما "الفحشاءُ" فالزنا
(3)
.
وأما قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فهو ما كانوا يُحرِّمون من البحائرِ والسوائبِ والوصائلِ والحوامِي، ويَزعُمون أنّ اللهَ حرّمَ ذلك، فقال جلّ ثناؤه لهم:{مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)} [المائدة: 103] وأخبَرهم جلّ ثناؤه في
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإثم".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يسمى".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 281 (1510) من طريق عمرو بن حماد به.
هذه الآيةِ أنّ قِيلَهُم: إن اللهَ حرَّم هذا. من الكذبِ الذي يأمرُهم به الشيطانُ، وأنه قد أحلَّه لهم وطَيَّبه، ولم يحرِّمْ أكلَه عليهم، ولَكِنَّهم يقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ حقيقتَه، طاعةً منهم للشيطانِ، واتباعًا منهم خُطواتِه، واقتفاءً منهم آثارَ أسلافِهم الضُّلَّالِ، وآبائِهم الجهّالِ، الذين كانوا باللهِ وبما أنزَل على رسلِه جُهّالًا، وعن الحقِّ ومنهاجِه ضُلَّالًا، وانصرافًا
(1)
منهم عمّا أنزلَ الله في كتابِه على رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال جلّ ثناؤه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} .
في هذه الآيةِ وجهان من التأويلِ؛ أحدُهما، أن تكونَ الهاءُ والميمُ من قولِه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} عائدةً على {مَن} في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا} . فيكونُ معنى الكلامِ: ومن الناسِ مَن يتخذُ من دونِ اللهِ أندادًا، وإذا قيلَ لهم: اتّبعوا ما أنزَلَ اللهُ، قالوا: بلْ نتبعُ ما ألفينا عليه آباءَنا. والآخرُ، أن تكونَ الهاءُ والميمُ اللتان في قولِه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} من ذكرِ "الناسِ" الذين في قولِه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} فيكونُ ذلك انصرافًا من الخطابِ إلى الخبرِ عن الغائبِ، كما قال جلّ ثناؤه:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22].
وأشبهُ عندِي وأوْلَى بالآيةِ أن تكونَ الهاءُ والميمُ في {لَهُمُ} من ذكرِ
(1)
في م: "إسرافا". وفي ت 1، ت 2، ت 3:"إصدافا".
"الناسِ"[في قولِه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}]
(1)
، وأن يكونَ ذلك رجوعًا من الخطابِ إلى الخبرِ عن الغائبِ؛ لأنَّ ذلك عَقيبَ قولِه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} فَلأنْ يكون خبرًا عنهم أوْلَى مِن أنْ يكونَ خبرًا عن الذين أخبَر عنهم
(2)
أنّ منهم مَن يَتخِذُ من دونِ اللهِ أندادًا، معَ ما بينَهما من الآياتِ وانقطاعِ قَصَصِهم بقصَّةٍ مُستأنَفةٍ غيرِها، وإنما نزَلتْ في قومٍ من اليهودِ قالوا ذلك إذ دُعوا إلى الإِسلامِ.
حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ بنُ الفضلِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: دعَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهلِ الكتابِ إلى الإِسلامِ ورغَّبهم فيه، وحذَّرَهم عذابَ
(3)
اللهِ ونِقمتَه، فقال له رافعُ بنُ خارجةَ ومالكُ بنُ عَوفٍ: بل نتَّبِعُ ما وجَدْنا
(4)
عليه آباءَنا، فهم
(5)
كانوا أعلمَ وخيرًا منَّا. فأنزَل اللهُ [في ذلك من قولِهما]
(6)
(7)
.
حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثني محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: حدثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ مِثلَه، إلا أنه قال: فقال له أبو رافعِ بنُ خارجةَ وخالدُ بنُ عوفٍ.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عقاب".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ألفينا".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإنهم".
(6)
في م: "من قولهم ذلك"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"ذلك من قولهم". والمثبت من الأصل وكتب في حاشيته: "في الأم: قولهم". يعني: بدلا من "قولهما".
(7)
سيرة ابن هشام 1/ 552، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 281 (1511) من طريق سلمة به.
وأما تأويلُ قولِه: {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ} فإنه: اعمَلوا بما أنزَل اللهُ في كتابِه على رسولِه، فأَحِلُّوا حلالَه وحرِّمُوا حرامَه، واجعلوه لكم إمامًا تأتُّمونَ به، وقائدًا تتَّبِعون أحكامَه.
وقولُه: {أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يعني: وجَدْنا. كما قال الشاعرُ
(1)
:
فألْفَيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍ
(2)
…
وَلا ذَاكرِ اللهَ إلَّا قلِيلا
يعني: وجدْتُه.
وكما حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي: ما وجدْنا عليه آباءَنا
(3)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(4)
.
فمعنى الآيةِ: وإذا قيلَ لهؤلاءِ الكفارِ: كُلُوا مما أحَلَّ الله لكم ودَعُوا خطواتِ الشيطانِ وطريقَه، واعمَلُوا بما أنزَل اللهُ علَى نبيِّه في كتابِه، استكبَرُوا عن الإذعانِ للحقِّ، وقالوا: بل نأتمُّ بآبائِنا، فنتَّبعُ ما وجدناهُم عليه من تحليلِ ما كانوا يُحِلُّون، وتَحريمِ ما كانوا يحُرِّمون. قال اللهُ جلّ ثناؤه:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} يعني آباءَ هؤلاءِ الكافرين الدين مضَوا على كفرِهم باللهِ العظيمِ {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا}
(1)
هو أبو الأسود الدئلي، والبيت في الكتاب 1/ 169، والأغاني 12/ 310، واللسان (ع ت ب)، والخزانة 1/ 284.
(2)
الاستعتاب: طلب العتبى، وهي الرضا. تقول: استعتبته فأعتبني. أي: استرضيته فأرضاني. التاج (ع ت ب).
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 281 عقب الأثر (1512) معلقًا.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 281 عقب الأثر (1512) من طريق ابن أبي جعفر به.
من دينِ اللهِ وفرائضِه وأمرِه ونهيِه، فيُتَّبَعوا على ما سلَكُوا من الطريقِ ويُؤتَمَّ بهم في أفعالِهم، {وَلَا يَهْتَدُونَ} لرُشدٍ فيَهتدِيَ بهم غيرُهم، ويقتدِيَ بهم مَن طلَبَ الدِّينَ، وأراد الحقَّ والصوابَ!
يقولُ جلّ ثناؤه لهؤلاء الكفارِ: فكيفَ أيها الناسُ تتبِعون ما وجَدتُم عليه آباءَكم فتترُكونَ ما يأمرُكم به ربُّكم، وآباؤكم لا يعقِلون من أمرِ اللهِ شيئًا، ولا هم مُصيبون حقًّا ولا مُدرِكون رُشدًا، وإنما يتَّبعُ المتَّبعُ ذا المعرفةِ بالشيْءِ المستعملَ له في نفْسِه، فأما الجاهلُ فلا يتّبعُه فيما هو به جاهلٌ إلَّا مَن لا عقلَ له ولا تمييزَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: مثلُ الكافرِ في قلَّةِ فَهمِه عن اللهِ ما يُتلَى عليه من
(1)
كتابِه، وسوءِ قبولِه لما يُدعَى إليه من توحيدِ الله، ويوعَظُ به - مثلُ البهيمةِ التي تسمعُ الصوتَ إذا نُعِقَ بها ولا تعقِلُ ما يقالُ لها.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا هنَّادُ بنُ السَّريِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} قال: مثلُ البعيرِ أو مثلُ الحمارِ تدْعُوه فيسمَعُ الصوتَ ولا يفقَهُ ما تقولُ
(2)
.
(1)
في م: "في".
(2)
أخرجه سفيان في تفسيره ص 55 عن خصيف، عن عكرمة، نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 167، 168 إلى وكيع.
حدثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ بَزِيعٍ
(1)
، [قال: ثنا يوسفُ بنُ خالدٍ السَّمْتيُّ]
(2)
، قال: ثنا نافعُ بنُ مالكٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} قال: هو مثلُ
(3)
الشاةِ ونحوِ ذلك
(4)
.
حدثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} : كمثلِ البعيرِ والحمارِ والشاةِ، إن قلتَ لبعضِها: كُلْ. لا يعلَمُ ما تقولُ غيرَ أنه يسمَعُ صوتَك، كذلك الكافرُ إن أمرْتَه بخيرٍ أو نهيتَه عن شرٍّ أو وعَظْتَه لم يعقِلْ ما تقولُ، غيرَ أنه يسمَعُ صوتَك
(5)
.
حدثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: مثلُ الدابةِ تُنادَى فتسمَعُ ولا تعقِلُ ما يُقالُ لها، كذلك الكافرُ يسمَعُ الصوتَ ولا يعقِلُ
(6)
.
حدثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} قال: مَثَلُ الكافرِ مَثلُ البهيمةِ تسمَعُ الصوتَ ولا تعقِلُ
(7)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن
(1)
في م: "زريع". وينظر تهذيب الكمال 25/ 453.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م: "كمثل".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور ص 39 و (مخطوط) إلى المصنف.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 282 (1513) عن محمد بن سعد به.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 167 إلى المصنف.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 167 إلى عبد بن حميد.
مجاهدٍ: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} : مَثلٌ ضرَبه اللهُ للكافرِ يسمَعُ ما يُقالُ له ولا يَعقِلُ، كمَثلِ البهيمةِ تسمَعُ النَّعيقَ ولا تعِقلُ.
حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}
(1)
: مثلُ الكافرِ كمثلِ البعيرِ والشاةِ، تَسمَعُ الصوتَ
(2)
ولا تدرِي
(3)
ما عُنِي به.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} قال: هو مَثلٌ ضرَبه اللهُ للكافرِ، يقولُ: مَثلُ هذا الكافرِ مَثلُ هذه البهيمةِ التي تسمَعُ الصوتَ ولا تدرِي ما يقالُ لها، فكذلك الكافرُ [يُقال له و]
(4)
لا يَنْتفِعُ بما يُقالُ له
(5)
.
حدثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: هو مثلُ الكافرِ يسمَعُ الصوتَ ولا يعقِلُ ما يقالُ له
(6)
.
حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنا حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: وسألتُ عطاءً، ثم قلتُ له: يُقالُ: لا تعقِلُ، يعني البهيمةَ، إلّا أنها تسمَعُ دعاءَ الرَّاعِي
(7)
حين يَنعِقُ بها، فهُم كذلك لا يعقِلون، وهم يسمعون؟! فقال: كذلك. قال: وقال مجاهدٌ: {الَّذِي يَنْعِقُ} الراعِي، يَنعِقُ
(8)
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولا يعقل".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يدري".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 65.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 282 عقب الأثر (1513) من طريق ابن أبي جعفر به.
(7)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الداعي".
(8)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
البهائمِ
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} : الراعِي: {بِمَا لَا يَسْمَعُ} البهائمُ.
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بن حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} : لا يعقِلُ ما يقالُ له، إلا أن تُدعَى فتأتيَ، أو ينادَى بها فتذهَبَ، وأما {الَّذِي يَنْعِقُ} فهو الراعِي الغنمَ، كما ينعِقُ الراعِي {بِمَا لَا يَسْمَعُ} ما يُقالُ له، إلَّا أن يُدعَى أو يُنادَى، فكذلك محمدٌ صلى الله عليه وسلم يدعُو من لا يسمعُ إلّا حَويرَ
(2)
الكلامِ، يقولُ اللهُ:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}
(3)
.
ومَعْنَى قائلِي هذا القولِ في تأويلِهم ما تأوَّلوُا على ما حكيتُ عنهم: ومَثَلُ وعْظِ الذين كفَروا وواعظِهم، كمثَلِ نَعْقِ الناعِقِ بغنمِه ونَعيقِه به
(4)
. فأُضيف المثَلُ إلى الذين كفَروا، وترَك ذكرَ الوعظِ والواعظِ، لدلالةِ الكلامِ على ذلك، كما يقالُ: إذا لقِيتَ فلانًا فعظِّمْه تعظيمَ السلطانِ. يرادُ به: كما تُعظِّمُ السلطانَ. وكما قال الشاعرُ
(5)
:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا ما دُمْتُ حيًّا
…
علَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِيرِ
يرادُ به: كما يُسلَّمُ على الأميرِ.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 282 عقب الأثر (1513) معلقًا.
(2)
في م: "خرير". وعند ابن أبي حاتم: "جويز".
والحوير: الجواب. يقال: كلمته فما رجَع إليّ حوارًا وحويرًا، أي جوابا، والاسم من المحاورة الحوير، تقول: سمعت حويرهما وحوارهما. التاج (ح و ر).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 282 (1514) عن أبي زرعة، عن عمرو به.
(4)
في م: "بها".
(5)
تقدم في ص 18.
وقد يَحتمِلُ أن يكونَ المعنَى على هذا التأويلِ الذي تأوَّله هؤلاءِ: ومَثلُ الذين كفَرُوا في قلّةِ فَهمِهم عن اللهِ وعن رسولهِ كمَثلِ المنْعوقِ به من البهائمِ الذي لا يفقَهُ من الأمرِ والنَّهْىِ غيرَ الصوتِ؛ وذلك أنه لو قيلَ له: اعْتلِفْ. أو: رِدِ الماءَ. لم يدرِ ما يقالُ له غيرَ الصوتِ الذي يسمَعُه من قائلِه، فكذلك الكافرُ، مَثلُه في قلَّةِ فَهمِه لما يُؤمرُ به ويُنهَى عنه، بسوءِ تدَبُّرِه إيَّاه، وقلةِ نظرِه وفكرِه فيه، مَثلُ هذا المنعوقِ به فيما أُمِرَ به ونُهِيَ عنه، فيكونُ المعنى للمنعوقِ به، والكلامُ خارجٌ على الناعقِ، كما قال نابغةُ بني ذُبيانَ
(1)
:
وَقَدْ خِفْتُ حتَّى ما تَزِيدُ مَخافَتِي
…
على وَعِلٍ في ذِي المَطارَةِ
(2)
عاقِلٍ
(3)
والمعنَى: حتى ما تَزيدُ مخافةُ الوعِلِ على مخافتِي. وكما قال الآخرُ
(4)
:
كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كمَا
…
كانَ الزِّناءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ
والمعنى: كما كان الرجمُ فريضةَ الزِّنا. فجعلَ الزِّنا فريضةَ الرَّجْمِ لوضوحِ معنى الكلامِ عندَ سامعِيه
(5)
، وكما قال الآخرُ
(6)
:
إنَّ سِرَاجًا لَكَريمٌ مَفْخَرُهْ
…
تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُهْ
(7)
والمعنى: يَحْلى بالعينِ. فجعلَه: تحْلَى به العينُ. ونظائرُ ذلك من كلامِ العربِ
(1)
ديوانه ص 68.
(2)
ذو المطارة: جبل. اللسان (ط ي ر).
(3)
وَعِل عاقل: إذا تحصن بوزره عن الصياد. تهذيب اللغة 1/ 241.
(4)
هو النابغة الجعدي، والبيت في شرح ديوانه ص 235.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سامعه".
(6)
معاني القرآن للفراء 1/ 99، وأمالي المرتضى 1/ 216.
(7)
جهَر الرجلَ: رآه بلا حجاب بينه وبينه، أو جهَره: نظر إليه. وما في العين أحد تجهره عيني، أي تأخذه. التاج (ج هـ ر).
أكثرُ من أن تُحصى، مما تُوَجِّهُه العربُ من خبرِ ما تخبِرُ عنه إلى ما صاحَبَه؛ لظهورِ معنى ذلك عند سامعِيه
(1)
، فتقولُ: اعرضِ الحوضَ على الناقةِ. وإنما تُعرَضُ الناقةُ على الحوضِ، وما أشبهَ ذلك من كلامِها.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومثلُ الذين كفَروا في دعائِهم آلهتَهم وأوثانَهم التي لا تسمَعُ ولا تعقِلُ، كمثلِ الذي يَنْعِقُ بما لا يسمَعُ إلا دعاءً ونداءً، وذلك الصَّدَى الذي يُسمَعُ صوتُه، ولا يُفْهِمُ [عن الناعقِ به]
(2)
شيئًا.
فتأويلُ الكلامِ على قولِ قائلِ ذلك: ومثَلُ الذين كفَروا وآلهتِهم في دعائِهم إيّاها وهي لا تفقَهُ ولَا تعقِلُ، كمَثلِ الناعقِ بما لا يَسْمَعُه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً. أي: لا يسمعُ منه الناعقُ إلا دعاءَه [ونداءَه]
(3)
.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} قال: الرجلُ الذي يصيحُ في جوفِ الجبالِ فيجيبُه فيها صوتٌ يراجعُه يقالُ له: الصَّدَى. فمثلُ آلهةِ هؤلاءِ لهم، كمَثلِ الذي يُجيبُه بهذا الصّوتِ ولا ينفعُه؛ لا يسمعُ إلّا دعاءً ونداءً.
قال: والعربُ تسمِّي ذلك الصَّدَى.
وقد تَحتمِلُ الآيةُ على هذا التأويلِ وجهًا آخرَ غيرَ ذلك، وهو أن يكونَ معناها: ومَثلُ الذين كفَروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَهُ دعاءَهم، كمَثلِ الناعقِ بغنمٍ له من
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سامعه".
(2)
في م: "به عنه الناعق".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
حيثُ لا تسمَعُ صوتَه غنمُه، فلا تَنتفعُ من نَعيقِه
(1)
بشيْءٍ، غيرَ أنه في عَناءٍ من دعاءٍ ونداءٍ، فكذلك الكافرُ في دعائِه آلهتَه، إنما هو في عَناءٍ من دُعائِه إيَّاها وندائِه لها، ولا تنفعُه شيئًا
(2)
.
وأوْلى التأويلَيْن
(3)
عندي بالآيةِ التأويلُ الأولُ الذي قاله ابنُ عباسٍ ومَنْ وافَقه عليه، وهو أن معنى الآيةِ: ومَثلُ وَعْظِ الكافِر وَوَاعِظِه، كمثلِ الناعِقِ بغنمِه ونعيقِه، فإنه يسمَعُ نعيقَه ولا يعقِلُ كلامَه. على ما قد بينَّا قبلُ.
فأما وجْهُ جوازِ حذفِ الوعظِ اكتفاءً بالمثَلِ منه، فقد أتينَا على البيانِ عنه في قولِه:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وفي غيرِه من نظائرِه من الآياتِ بما فيه الكفايةُ عن إعادَتِه. وإنما اختَرنا هذا التأويلَ؛ لأن هذه الآيةَ نزَلت في اليهودِ، وإيّاهُم عَنَى اللهُ بها، ولم تكنِ اليهودُ أهلَ أوثانٍ يَعبدونها ولا أهلَ أصنامٍ يُعظِّمونَها، ويَرجونَ نَفْعَها أو دفعَ ضُرِّها، فلا وجهَ، إذْ كان ذلكَ كذلكَ، لتأويلٍ من تأوَّلَ ذلك أنه بمعنى: مَثَلُ الذين كفَروا في ندائِهم الآلهةَ ودُعائِهم إيّاها.
فإن قال قائلٌ: وما دليلُك على أن المقصودَ بهذه الآيةِ اليهودُ؟
قيل: دليلُنا على ذلك ما قبْلَها من الآياتِ وما بعدَها، [وأنهم]
(4)
هم المعنيُّون به، فكان ما بينَهما بأن يكونَ خبرًا عنهم أحقَّ وأوْلَى من أن يكونَ خبرًا عن غيرِهم، حتى تأتيَ الأدلةُ واضحةً بانصرافِ الخبرِ عنهم إلى غيرِهم، هذا مع ما قد ذكَرنا من الأخبارِ عمَّن ذكَرناها عنه أنها فيهم نزَلتْ، والروايةِ التي روَينا عن ابنِ عباسٍ أن الآيةَ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"نعقه".
(2)
في م: "شيء".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"التأويل".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإنهم".
التي قبلَ هذه الآيةِ نزَلتْ فيهم.
وبما قلنا من أن هذه الآيةَ معنىٌّ بها اليهودُ، كان عطاءٌ يقولُ.
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال لي عطاءٌ في هذه الآيةِ: هم اليهودُ الذين أنزَل اللهُ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى قولِه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}
(1)
.
وأما قولُه: {يَنْعِقُ} . فإنه: يُصوِّتُ بالغنمِ، [يُقالُ لتصويتِ الراعي بالغنمِ]
(2)
: النَّعيقُ والنُّعَاقُ. ومنه قولُ الأخطلِ
(3)
:
فانعِقْ بضَأْنِكَ ياجَريرُ فإنَّما
…
مَنَّتْكَ نفسُكَ في الخلاءِ ضَلَالا
يعني: صوِّتْ به.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} .
يعني بقولِه جلّ ثناؤه: {صُمٌّ} : هؤلاءِ الكفارُ الذين مَثلُهم كمثَلِ الذي يَنْعِقُ بما لا يسمَعُ إلّا دعاءً ونداءً صُمٌّ عن الحقِّ فهم لا يسمَعونه {بُكْمٌ} يعني: خُرْسٌ عن قيلِ الحقِّ والصوابِ، والإقرارِ بما أمرَهم اللهُ أن يُقِرُّوا به، وتَبْيينِ ما أمرَهم اللهُ تعالى ذكرُه أن يُبيِّنوه من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم للناسِ، فلا ينطِقُون به ولا يقُولونه ولا يبيِّنونه للناسِ، {عُمْيٌ} عن الهدَى وطريقِ الحقِّ لا يُبصِرونه.
كما حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه: {صُمٌّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 168 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
شرح ديوانه ص 392.
بُكْمٌ عُمْيٌ}. يقولُ: صمٌّ عن الحقِّ فلا يسمَعونَه ولا ينتفِعونَ به ولا يعقِلونَه، عُميٌ عن الحقِّ والهدَى فلا يبصِرُونه، بكمٌ عن الحقِّ فلا ينطِقونَ به
(1)
.
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . يقولُ: عن الحقِّ.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . يقولُ: لا يَسمَعون الهدَى ولا يُبصِرونَه ولا يَعقِلونَه
(2)
.
وأما الرفعُ في قولِه: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . فإنه أتاه من قِبَلِ الابتداءِ والاستئنافِ، يدُلُّ على ذلك قولُه:{فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} كما يقالُ في الكلامِ: هو أصمُّ فلا يسمَعُ، وهو أبكمُ فلا يتكلَّمُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} .
يعني بقولِه جلّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : يا أيُّها الذين صدَّقوا اللهَ ورسولَه، وأقَرُّوا للهِ بالعبودةِ
(3)
، وأذعَنوا له بالطاعةِ.
كما حدثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . يقولُ: صدَّقوا
(4)
.
(1)
تقدم في 1/ 348.
(2)
تقدم في 1/ 348.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"العبودية".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 168 إلى المصنف إلى قوله: وطيَّبها لكم. على أنه من كلام الضحاك، والصواب أنه من كلام المصنف.
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} يعني: اطْعَموا من حلالِ الرزقِ الذي أحلَلْناه لكُم، فطابَ لكم بتحليلي إيَّاه لكم مما كنتم تُحَرِّمونه أنتم ولم أكنْ حرَّمْتُه عليكم، من المطاعم والمشاربِ، {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} يقولُ: وأَثنُوا على اللهِ جلّ ثناؤه بما هو [أهلٌ منكم]
(1)
، على النِّعمِ التي رزَقكم، وطيَّبها لكُمْ، {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} يقولُ: إن كنتم منقادِين لأمرِه سامعِين له مطيعِين، فكلوا مما أباحَ لكم أكلَه وحلَّله وطيَّبه لكم، ودَعوا في تحريمِه خطواتِ الشيطانِ.
وقد ذكَرنا بعضَ ما كانوا في جاهليتِهم يحرِّمونه من المطاعمِ، وهو الذي ندَبهم إلى أكلِه، ونهاهُم عن اعتقادِ تحريمِه، إذْ كان تحريمُهم إيَّاه كان في الجاهليةِ طاعةً منهم للشيطانِ، واتباعًا لأهلِ الكفرِ منهم باللهِ من الآباءِ والأسلافِ. ثم بيَّن لهم جلّ ثناؤه ما حرَّم عليهم، وفصَّله
(2)
لهم مفسَّرًا.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} .
يعني جلّ ثناؤه بذلك: لا تحرِّموا على أنفُسِكم ما لم أحرِّمْه عليكم أيها المؤمنون باللهِ وبرسولِه من البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك، بل كُلُوا ذلك، فإني لم أحرِّمْ عليكم غيرَ المَيْتةِ والدمِ ولحمِ الخنزيرِ وما أُهِلَّ به لغيرِي.
ومعنى قولِه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} : ما حرَّم عليكم إلّا الميْتةَ.
و {إِنَّمَا} حرفٌ واحدٌ، ولذلك نُصِبت "الميتةُ والدمُ"، وغيرُ جائزٍ في "الميتةِ" إذا جعَلتَ "إنما" حرفًا واحدًا إلا النصبُ، ولو كانت "إنما"
(1)
في م، ت 1:"أهله منكم".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فصل".
حرفين، [فكانت "ما"]
(1)
منفصلةً من "إنّ" لكانت "الميتةُ" مرفوعةً وما بعدَها، وكان تأويلُ الكلامِ حينئذٍ: إن الذي حرَّم اللهُ عليكم من المطاعمِ الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ لا غيرُ ذلك.
وقد ذُكِر عن بعضِ القرَأةِ أنه قرَأ ذلك كذلك على هذا التأويلِ
(2)
، ولستُ للقراءةِ به مُستجيزًا، وإن كان له في التأويلِ والعربيةِ وجهٌ مفهومٌ؛ لاتفاقِ الحجةِ من القرأةِ على خلافِه، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ الاعتراضُ عليهم فيما نقَلوه مجمِعين عليه، ولو قُرِئ
(3)
(حُرِّم)
(4)
بضمِّ الحاءِ من {حَرَّمَ} لكان في "الميتةِ" وجهانِ من الرفعِ؛ أحدُهما، من أن الفاعلَ غيرُ مسمًّى، و "إنما" حرفٌ واحدٌ.
والآخَرُ: أنّ "إنّ" و "ما" في معنى حرفيْن، و"حُرِّم" من صلةِ "ما"، و"الميتة" خبرُ "الذي" مرفوعٌ على الخبرِ. ولستُ - وإن كان لذلك أيضًا وجهٌ - مُستجيزًا القراءةَ به؛ لما ذكرتُ.
وأما {الْمَيْتَةَ} ، فإن القرأةَ مختلفةٌ في قراءتِها، فقرَأها بعضُهم بالتَّخفيفِ
(5)
، ومعناه فيها التشديدُ، ولكنه يُخفِّفُها كما يخفِّفُ القائلون: هو هيْن ليْن، الهيِّنُ الليِّنُ. كما قال الشاعرُ
(6)
:
ليسَ مَن مات فاسْتَراح بمَيْتٍ
…
إنَّما الميتُ مَيِّتُ الأحياءِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكانت".
(2)
وهم أبو جعفر بن القعقاع - وهو من العشرة - وابن أبي عبلة وأبو عبد الرحمن السلمي. ينظر معجم القراءات القرآنية 1/ 136.
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(4)
وهي قراءة أبي جعفر كما في البحر المحيط 1/ 486 وهي قراءة شاذة.
(5)
هي قراءة أبي جعفر المدني. ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 92.
(6)
البيت لعدي ابن الرعلاء الغساني، وهو في الأصمعيات ص 152، ومعجم الشعراء ص 86.
فجمَع بين اللُّغتين في بيتٍ واحدٍ، في معنًى واحدٍ.
وقرَأها بعضُهم بالتشديدِ وحمَلوها على الأصلِ، وقالوا: إنما هو "مَيْوِت"، "فَيْعِل"، من الموتِ، ولكنَّ الياءَ الساكنةَ والواوَ المتحركةَ لماّ اجتمعتَا، والياءُ مع سكونِها متقدِّمةٌ، [قُلبتِ الواوُ ياءً و]
(1)
شُدِّدَتْ، فصارَتَا ياءً مشدَّدَةً، كما فعَلوا ذلك بـ "سيِّد وجيِّد". قالوا: ومَن خفَّفَها فإنما طلَب الخِفَّةَ، والقراءةُ بها على أصلِها الذي هو أصلُها أوْلَى.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندي أن التَّشديدَ والتَّخفيفَ في ياءِ "الميتة" لغتان [وقراءتان]
(2)
معروفتان في القراءةِ وفي كلامِ العربِ، فبأيِّهما قرَأ ذلكَ القارئُ فمصيبٌ، لانّه لا اختلافَ في مَعْنَيَيْهما.
وأما قولُه: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} . فإنه يعني به: وما ذُبِح للآلهةِ والأوثانِ، فسُمِّي عليه غيرُ اسمِه، أو قُصِد به غيرُه من الأصنامِ.
وإنما قيلَ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ} لأنهم كانوا إذا أرادُوا ذبْحَ ما قرَّبوه لآلهتِهم، سمَّوُا اسمَ آلهتِهم التي قرَّبوا ذلك لها، وجهَروا بذلكَ أصْواتَهم، فجرَى ذلك من أمرِهم على ذلك، حتى قيل لكلِّ ذابحِ ذبْحٍ
(3)
، سَمَّى أو لم يُسمِّ، جهَر بالتسميةِ أو لم يَجهَرْ: مُهِلٌّ. فرفْعُهم أصواتَهم بذلك هو الإهلالُ الذي ذكَره اللهُ جل جلاله فقال: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} ومن ذلك قيلَ للمُلَبِّي في حَجةٍ أو عمرةٍ:
مُهِلٌّ. لرَفْعِه صوتَه بالتلْبيةِ. ومنه استهلالُ الصَّبِيِّ، إذا صاحَ عند سقوطِه من بطنِ أمِّهِ، واستهلالُ المطرِ، وهو صوتُ وقوعِه على الأرضِ، كما قال عَمرُو بنُ
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"قبل الواو".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ليست في: م، ت 1، ت 2.
قَمِيئةَ
(1)
:
ظَلَم البِطاحَ له انْهِلالُ حَرِيصَةٍ
…
فَصَفا النِّطافُ له بُعَيْدَ المُقْلَعِ
واختلَف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: يعني بقولِه: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} : وما ذُبح لغيرِ اللهِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} : ماذُبح لغيرِ اللهِ.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاق، قال: أخبرَنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} قال: ما ذُبح لغيرِ اللهِ مما لم يُسمَّ عليه
(2)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ}: ما ذُبح لغيرِ اللهِ
(3)
.
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قال ابنُ عباسٍ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} . قال: ذُبح
(4)
.
حدثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ:
(1)
تقدم هذا البيت في 1/ 559 وأن صواب نسبته إلى الحادرة.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 65.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 283 (1519) من طريق أبي حذيفة به.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما أهل به للطواغيت".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 168 إلى ابن المنذر.
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} . قال: ما أُهِلَّ به للطواغيتِ
(1)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} . يعني: ما أُهِلَّ للطواغيتِ كُلِّها
(2)
.
يعنِي: ما ذُبحَ لغيرِ اللهِ من أهلِ الكفرِ غيرَ اليهودِ والنصارَى.
حدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءٍ في قولِ اللهِ:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} قال: هو ما ذُبح لغيرِ اللهِ.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذُكِرَ عليه غيرُ اسمِ اللهِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} . يقولُ: ما ذُكر عليه غيرُ اسمِ اللهِ
(3)
.
حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ - وسألتُه عن قولِ اللهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} - قال: ما يُذبَحُ لآلهتِهم، الأنصابُ التي يعبُدونها، و
(4)
يُسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: باسمِ فلانٍ. كما تقولُ أنت: باسمِ اللهِ. قال: فذلك ما أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ.
حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنا حَيْوَةُ، عن عُقبةَ بنِ مُسلمٍ التُّجِيبيِّ وقيسِ بنِ رافعٍ الأشْجعيِّ، أنهما قالَا: أُحِلَّ لنا ما ذُبحَ لعيدِ الكنائسِ، ومَا
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 283 عقب الأثر (1519) معلقًا.
(2)
أخرجه البيهقي 9/ 249 من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 283 عقب الأثر (1518) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
في م: "أو".
أُهدِيَ لها مِن خبزٍ أو لحمٍ، فإنما هو طعامُ أهلِ الكتابِ. قال حَيوةُ: فقلتُ: أرأيتَ قولَ اللهِ تبارك وتعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} . قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثانِ والمشركون.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} .
يعني بقولِه جلّ ثناؤه: {فَمَنِ اضْطُرَّ} : فمن حلّتْ به ضرورةُ مجاعةٍ إلى ما حرَّمتُ عليكم، من الميْتةِ والدمِ ولحمِ الخنزيرِ وما أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ، وهو بالصِّفةِ التي وصَفْنا، فلا إثمَ عليه في أكْلِه إن أكَلَه.
وقولُه: {اضْطُرَّ} : افتُعِل، من الضرورةِ.
و: {غَيْرَ بَاغٍ} نَصْبٌ على الحالِ مِن "مَن"، كأنه قيلَ: فمنِ اضْطُرَّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكَلَه، فهو له حلالٌ.
وقد قيل: إن معنى قولِه: {فَمَنِ اضْطُرَّ} : فمن أُكرِه على أكْلِه فأكَله، فلَا إثْمَ عليه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيرِيُّ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ الأفطسِ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} . قال: الرجلُ يأخذُه العدوُّ فيدْعُونَه إلى معصيةِ اللهِ.
وأما قولُه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} . فإن أهلَ التأويلِ في تأْويلِه مختلِفون؛ فقال بعضُهم: يعني بقولِه: {غَيْرَ بَاغٍ} : غيرَ خارجٍ على الأُمَّةِ
(1)
(1)
في م: "الأئمة".
بسيفِه، باغيًا عليهم بغيرِ حَقٍّ
(1)
، ولا عاديًا عليهم بحربٍ [ظُلمًا وعُدْوانًا]
(2)
، فمُفْسدٌ عليهم السبيلَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا، عن مجاهدٍ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: غيرَ قاطعِ سبيلٍ، ولا مفارقِ جماعةٍ، ولا خارجٍ في معصيةِ اللهِ، فله الرخصةُ
(3)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} يقولُ: لا قاطعًا للسبيلِ، ولا مفارِقًا للأئمةِ، ولا خارجًا في معصيةِ اللهِ، فله الرخصةُ، ومَن خرَج باغيًا أو عاديًا، أو
(4)
في معصيةِ اللهِ، فلا رخصةَ له وإنِ اضطُرَّ إليه
(5)
.
حدثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} . قال: هو الذي يقطعُ الطريقَ، فليس له رخصةٌ إذا جاعَ أن يأكُلَ الميْتةَ، وإذا عَطِشَ أن يشرَبَ الخمرَ
(6)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن شَرِيكٍ،
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جور".
(2)
في م: "وعدوان"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"وعدوانا".
(3)
أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (1076، 1077) من طريق ليث بن أبي سليم به.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 283 (1523) من طريق أبي حذيفة به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 284 (1524) من طريق شريك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 168 إلى أبي الشيخ.
عن سالمٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} . قال: الباغِي العادِي الذي يقطَعُ الطريقَ، فلا رخصةَ له ولا كرامةَ.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: إذا خرَج في سبيلٍ من سُبلِ اللهِ فاضْطُرَّ إلى
(1)
الخمرِ شَرِب، وإذا اضْطُرَّ إلى الميتةِ أكَل، وإذا خرَج يقطَعُ الطريقَ فلَا رخصةَ له. حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حفصُ بنُ غياثٍ، عن الحجّاجِ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ، قال:{غَيْرَ بَاغٍ} : على الأئمةِ، {وَلَا عَادٍ} قاطعُ السبيلِ
(2)
.
حدثنا هنَّادٌ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن ورقاءَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: غيرَ قاطعٍ السبيلَ، ولا مفارقٍ الأئمةَ، ولا خارجٍ في معصيةِ اللهِ، فله الرخصةُ
(3)
.
حدثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الحجّاجِ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: غيرَ باغٍ على الأئمةِ، ولا عادٍ على ابنِ السبيلِ.
وقال آخرون: بل تأويلُ قولِه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} : غيرَ باغٍ الحرامَ في أكْلِه، ولا مُعتدٍ الذي أبيحَ له منه.
(1)
بعده في م: "شرب".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 283، 284 (1522، 1528) من طريق الحجاج به.
(3)
أخرجه آدم بن أبي إياس - كما في الدر المنثور 1/ 168 - عن ورقاء به. وهو في تفسير مجاهد ص 218، 219 - ومن طريقه البيهقي 3/ 156 - دون قوله: فله رخصة. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (243 - تفسير)، ومن طريقه البيهقي في المعرفة (1620) - عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا بشرٌ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} : غيرَ باغٍ في أكْلِه، ولا عادٍ أن يتعدَّى حلَالًا إلى حرامٍ، وهو يجدُ عنه مندوحةً
(1)
.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن الحسنِ في قولِه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: غيرَ باغٍ فيها، ولا معتدٍ فيها، يأكُلُها وهو غنيٌّ عنها.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزَّاقِ، عن مَعمرٍ، عمّن سمِعَ الحسنَ يقولُ ذلك
(2)
.
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنا أبو تُمَيْلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ وعكرمةَ قولَه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} : {غَيْرَ بَاغٍ} ييتغِيه، {وَلَا عَادٍ} يتعدَّى على ما يُمسِكُ نفْسَه.
وحُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} يقولُ: مِن غيرِ أن يبتغِيَ حرامًا ويتعدَّاه، ألا ترَى أنه يقولُ:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7، المعارج: 31].
حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَمَنِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 284، 285 (1530) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 168 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 65.
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}. قال: غيرَ
(1)
أن يأكُلَ ذلك بغْيًا وتعدِّيًا عن الحلالِ إلى الحرامِ، ويتركَ الحلالَ وهو عندَه، ويتعدَّى بأكلِ هذا الحرامِ؛ هذا التعدِّي. يُنكِرُ أن يكونا مختلِفَيْن، ويقولُ: هذا وهذا واحدٌ.
وقال آخرون: تأويلُ ذلك: فمن اضطُرَّ غيرَ باغٍ في أكلِه شهوةً، ولاعادٍ فوقَ ما لابدَّ له منه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} : أما "باغ" فيبتغِي
(2)
فيه شهوتَه، وأما "العادي"، فيتعدَّى في أكلِه، يأكُلُ حتى يشبَعَ، ولكن يأكُلُ منه قوتًا
(3)
، ما يُمسِكُ به نفْسَه حتى يبلُغَ حاجتَه
(4)
.
وأوْلى هذه الأقاويلِ بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: فَمَن اضْطُرَّ غيرَ باغٍ بأكلِه ما حُرِّم عليه من أكلِه، ولا عادٍ في أكلِه، وله عن تركِ أكلِه - بوجودِه
(5)
غيرَه مما أحلَّه اللهُ له - مندوحةٌ وغنًى؛ وذلك أن اللهَ لم يرخِّصْ لأحدٍ في قتلِ نفسِه بحالٍ. فإذْ كان ذلك كذلكَ، فلا شكَّ أن الخارجَ على الإمامِ والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيَا ما حرَّمَ اللهُ عليهما - من خروجِ هذا على من خرَج عليه، وسَعْي هذا بالإفسادِ في الأرضِ - فغيرُ مُبيحٍ لهما فِعلُهما ما فعَلا - مما حرَّمَ اللهُ عليهما - ما كان حرامًا
(6)
(1)
سقط من ت م، ت 1، ت 2.
(2)
في م، ت 2:"فيبغي".
(3)
في م: "قدر".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 284 (1526، 1529) من طريق عمرو بن حماد به.
(5)
في م: "بوجود".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حرم الله".
عليهما قبلَ إتيانِهما ما أتيَا من ذلك، من قتلِ أنفسِهما، بل ذلك مِن فعلِهما، [إذ لم يَزِدْهما لمحارمِ]
(1)
اللهِ عليهما تحريمًا، فغيرُ مُرَخِّصٍ لهما ما كان عليهما قبلَ ذلك حرامًا. فإذْ كان ذلك كذلك، فالواجبُ على قُطَّاعِ الطرقِ، والبُغاةِ على الأئمةِ العادلةِ، الأوبةُ إلى طاعةِ اللهِ، والرجوعُ إلى ما ألزَمهم
(2)
اللهُ الرجوعَ إليه، والتوبةُ مِن معاصِي اللهِ، لا قتلُ أنفسِهما بالمجاعةِ، فيزدَادَانِ إلى إثمِهما إثمًا، وإلى خِلافِهما أمرَ اللهِ خِلافًا.
وأما الذي وجَّهَ تأويلَ ذلك إلى أنه غيرُ باغٍ في أكلِه شهوةً، فأكَل ذلك شهوةً لا لدفعِ الضرورةِ المَخُوفِ منها الهلاكُ، مما قد دخَل فيما حرَّمه اللهُ عليه، فهو بمعنى ما قلنا في تأويلِه، وإن كان للفظِه مُخالِفًا.
فأما توجيهُه تأويلَ قولِه: {وَلَا عَادٍ} : ولا آكلٍ منه شِبَعَه، ولكن ما يُمسِكُ به نفسَه. فإن ذلك بعضُ معاني الاعتداءِ في أكلِه، ولم يَخْصُصِ اللهُ عز وجل من معاني الاعتداءِ في أكْلِه معنًى فيقالَ: عنَى به بعضَ معانيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالصَّوابُ من القولِ ما قلنا من أنه الاعتداءُ في كلِّ معانيه المحرَّمةِ.
وأما تأويلُ قولِه: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْه} . يقولُ: مَن أكَل ذلك على الصِّفةِ التي وصَفْنا، فلا تَبِعةَ عليه في أكلِه ذلك كذلك ولا حرجَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} .
يعني جلّ ثناؤه بقولِه: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ} : إن اللهَ غفورٌ - إن أطَعتم اللهَ في إسلامِكم، فاجْتنَبتم أكْلَ ما حرَّم عليكم، وترَكْتم اتباعَ الشيطانِ فيما كنتم تحرِّمونه
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وإن لم يؤدهما إلى محارم".
(2)
في م: "ألزمهما".
في جاهليَّتِكم؛ طاعةً منكم للشيطانِ واقتفاءً منكم خُطواتِه، مما لم
(1)
أُحرِّمْه عليكم - لما سلَف منكم في كفرِكم، وقبلَ إسلامِكم في ذلك، من خطأٍ وذنبٍ ومعصيةٍ، فَصافِحٌ عنكم، وتاركٌ عقوبتَكم عليه، {رَحِيمٌ} بكم إن أطَعتمُوه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
يعني جلّ ثناؤه بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ} أحبارَ اليهودِ الذين كتَمُوا الناسَ أمرَ محمدٍ ونبوَّتَه، وهم يجِدونَه مكتوبًا عندَهم في التوراةِ، برِشًا كانوا أُعطوها على ذلك.
كما حدثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ} الآية كلها: هم أهلُ الكتابِ، كتَمُوا ما أنزَل اللهُ عليهم وبيَّن لهم من الحقِّ والهدَى، من نعتِ
(2)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمرِه
(3)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . قال: هم أهلُ الكتابِ، كتَموا ما أنزَل اللهُ عليهم من الحقِّ والإسلامِ وشأنِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:
(1)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"بعث".
(3)
ذكره ابن أبي حاتم تفسيره 1/ 285 عقب الأثر (1533) معلقًا.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 285 عقب الأثر (1533) من طريق ابن أبي جعفر به.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ} : فهؤلاء اليهودُ، كتَموا اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(1)
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عكرمةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ} والتي في "آل عمرانَ": {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]: نزَلتا جميعًا في يهودَ
(2)
.
وأما تأويلُ قولِه: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} فإنه يعني: يَبْتاعون به. والهاءُ التي في {بِهِ} من ذِكرِ الكتمانِ. فمعناه: ويبتاعون
(3)
بكتمانِهم ما كتَمُوا الناسَ من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمرِ نبوَّتِه ثمنًا قليلًا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَون على تحريفِهم كتابَ اللهِ، وتأوُّلِهمُوه على غيرِ وجْهِه، وكتمانِهم الحقَّ في ذلك، اليسيرُ من عرَضِ الدنيا.
كما حدثنا موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} قال
(4)
: كتَموا اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأخَذوا عليه طمعًا قليلًا، فهو الثمنُ القليلُ
(5)
.
وقد بينتُ فيما مضَى معنى
(6)
اشترائِهم ذلك، بما أغنَى عن إعادتِه
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 285 عقب الأثر (1533) من طريق عمرو به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 168 إلى المصنف.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابتاعوا".
(4)
في الأصل: "قالوا".
(5)
تقدم أول هذا الأثر في ص 62.
(6)
في م: "صفة".
(7)
ينظر ما تقدم في 1/ 324 وما بعدها.
يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}.
يعني جلّ ثناؤه بقولِه: {أُولَئِكَ} : هؤلاءِ الذين يكتُمون ما أنزَل اللهُ من الكتابِ في شأنِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بالخسيسِ من الرِّشوةِ يُعْطَوْنَها، فيحرِّفون لذلك آياتِ اللهِ، ويُغيّرونَ معانِيَها، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} بأكلِهم ما أكَلُوا من الرِّشَا على ذلك والجَعالةِ
(1)
، وما أخَذُوا عليه من الأجرِ، {إِلَّا النَّارَ} يعني: إلا ما يُورِدُهم النارَ ويُصْلِيهمُوها. كما قال جلّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10].
معناه: ما يأكُلون في بطونِهم إلّا ما يُورِدُهم النارَ بأكْلِهم. فاستغنَى بذكرِ النارِ وفَهمِ السامعين معنَى الكلامِ، من
(2)
ذكرِ ما يُوردُهم أو يُدخِلُهم.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} يقولُ: ما أخَذُوا عليه من الأجرِ
(3)
.
فإن قال قائلٌ: وهل يكونُ الأكْلُ في غيرِ البطنِ فيُقالَ: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ؟
قيلَ له: قد تقولُ العربُ: جُعتُ في غيرِ بطنِي، وشبِعتُ في غير بطنِي.
فقيلَ: {فِي بُطُونِهِمْ} لذلك، كما يقالُ: فعَل فلانٌ هذا نفسَه. وقد بينَّا ذلك في
(1)
الجعاله مثلثة الجيم: الرشوة في الحكم. التاج (ج ع ل).
(2)
في م: "عن".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 286 (1535) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
غيرِ هذا الوضعِ فيما مضَى
(1)
.
وأما قولُه: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقولُ: ولا يكلِّمُهم بما يُحبُّون ويَشْتَهون، فأمَّا بما يسوءُهم ويَكرَهون، فإنه سيكلِّمُهم، لأنّه قد أخبَر جلّ ثناؤه أنه يقولُ لهم - إذا قالوا:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}
(2)
-: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107، 108] الآيتين.
وأما قولُه: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} فإنه يعني: ولا يطهِّرُهم من دَنسِ ذُنوبِهم وكفرِهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعنِي: موجِعٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} .
يعني بقولِه جلّ ثناؤه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : أولئك الدين أخَذُوا الضّلالَة وترَكُوا الهدَى، وأخَذوا ما يوجِبُ لهم عذابَ اللهِ يومَ القيامةِ، وترَكوا ما يوجِبُ لهم غُفرانَه ورِضوانَه. فاستغنَى بذكرِ العذابِ والمغفرةِ من ذكرِ السببِ الذي يُوجِبُهما؛ لفَهْمِ سامعِي ذلكَ لمعناه والمرادِ منه. وقد بينّا نظائرَ ذلك فيما مضَى، وكذلك بينَّا وجْهَ اشتراءِ الضَّلالَةِ بالهُدَى، باختلافِ المختلِفينَ، [والأدلةَ الشاهدةَ لما]
(3)
اختَرنا من القولِ فيما مضَى قبلُ، فكرِهنا إعادتَه
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} .
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 168، 169، 641 - 643.
(2)
بعده في م: "قال".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"والدلالة الشاهدة بما".
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 324 وما بعدها.
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فما أجرأَهم على العملِ الذي يقرِّبُهم إلى النارِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} يقولُ: فما أجرأَهم على العملِ الذي يقرِّبُهم إلى النارِ!
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} يقولُ: فما أجْرَأَهم عليها
(1)
!
حدثني
(2)
المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: ثنا هشيمٌ، عن يُونُسَ
(3)
، عن الحسنِ في قوله:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قال: واللهِ ما لهم عليها من صبرٍ، ولكن ما أجْرَأَهم على النارِ
(4)
!
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزبيريُّ، قال: ثنا مِسعرٌ، وحدثني المُثَنَّى، قال: ثنا [ابنُ دُكينٍ]
(5)
، قال: ثنا مِسعرٌ، عن حمادٍ، عن مجاهدٍ، أو سعيدِ بنِ جبيرٍ، أو بعضِ أصحابِه:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} : ما أجْرَأَهم
(6)
!
حُدثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 66.
(2)
بعده في الأصل: "محمد بن".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"بشر"، ومطموسة في الأصل، والمثبت مما سيأتي في ص 316.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور ص 40 (مخطوط) إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في م: "أبو بكير"، وفي ت 1، ت 3:"أبو بكر".
(6)
أخرجه سفيان في تفسيره ص 55 عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 286 عقب الأثر (1537) معلقًا عن سعيد.
قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} يقولُ: ما أجْرَأَهم وأصْبَرَهم على النارِ
(1)
! وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعْملَهم بأعمالِ أهلِ النارِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قال: ما أعملَهم بالباطلِ
(2)
.
حدثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
واختلفوا في تأويلِ "ما" الذي في قولِه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ} . فقال بعضُهم: هو بمعنى الاستفهامِ، وكأنه قال: فما الذي صَبَّرهم؟ أيُّ شيْءٍ صبَّرهم؟.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} : هذا على وجهِ الاستفهامِ، يقولُ: ما الذي أصْبَرهم على النارِ
(3)
؟
حدثنا العباسُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا حجاجٌ الأعْورُ، قال: أخبَرنا ابنُ جُريجٍ، قال: قال لي عطاءٌ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} يقولُ: ما يُصبِّرُهم على النارِ حينَ ترَكوا الحقَّ واتَّبَعوا الباطلَ
(3)
؟
حدثنا أبو كُريبٍ، قال: سُئل أبو بكرِ بنُ عياشٍ عن قولِه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 286 عقب الأثر (1537) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
تفسير مجاهد ص 219.
(3)
أخرجه البغوي في تفسيره 1/ 185 من طريق عمرو بن حماد وابن جريج به.
النَّارِ} قال: هذا استفهامٌ، ولو كانت من الصَّبْرِ قال: فما أصْبَرُهم. رفعًا. قال: يقالُ للرجلِ: ما أصبَرَكَ؟ ما الذي فعَل بكَ هذا؟
حدثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قال: هذا استفهامٌ، يقولُ: ما هذا الذي صَبَّرهم علي النارِ حتى جَرَّأهم فعمِلوا بهذا؟
وقال آخرون: هو تعجُّبٌ، بمعنى: فما أشدَّ جُرْأتَهم على النارِ لعَملِهم أعمالَ أهلِ النار!
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابنِ عُيَينةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قال: ما أعملَهم بأعمالِ أهلِ النارِ
(1)
!
وهو قولُ الحسنِ البصريِّ وقتادةَ، وقد ذكَرناه قبلُ.
فمَن قال: هو تعجُّبٌ. وجَّه تأويلَ الكلامِ إلى: أولئك الذين اشترَوُا الضلالَةَ بالهدَى والعذابَ بالمغفرةِ، فما أشدَّ جُرْأتَهم بفعلِهم ما فعَلُوا من ذلك، على ما يوجِبُ لهم النارَ! كما قال تعالى ذكرُه:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
تَعجُّبًا من كفرِه بالذي خلَقه وسوَّى خلْقَه.
فأما الذين وجَّهوا تأويلَه إلى الاستفهامِ فمعناهم
(2)
: هؤلاء الذين اشترَوُا
(1)
أخرجه ابن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 169 - ومن طريقه سعيد بن منصور في سننه (244 - تفسير، وأبو نعيم في الحلية 3/ 290، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "فمعناه".
الضلالَةَ بالهدَى والعذابَ بالمغفرةِ، فما الذي
(1)
أصبرَهم على النارِ؟ والنارُ لا صبرَ عليها لأحدٍ، حتى استبدَلُوها بمغفرةِ اللهِ فاعتاضُوها منها بدلًا.
وأوْلى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ قولُ من قال: ما أجْرَأَهُم على النارِ! بمعنى: ما أجرَأَهم على عذابِ النارِ، وأعملَهم بأعمالِ أهلِها! وذلك أنه مسموعٌ من العربِ: ما أصبَرَ فلانًا على اللهِ! بمعنى: ما أجرَأَ فلانًا على اللهِ! وإنما يُعجِّبُ جلّ ثناؤه خَلْقَه بإظهارِه الخبرَ عن القومِ الذين يكتُمون ما أنزَل اللهُ تبارك وتعالى من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوَّتِه، باشترائِهم
(2)
- بكتمانِ ذلك - ثمنًا قليلًا، من السُّحتِ والرِّشَا التي أُعطُوها، على وجهِ التعحبِ من تقدُّمِهم على ذلك، مع علمِهم بأن ذلك مُوجِبٌ لهم سَخطَ اللهِ تبارك وتعالى وأليمَ عقابِه.
وإنما معنى ذلك: فما أجرَأَهُم على عذابِ النارِ. ولكن اجْتُزِئَ بذكرِ النارِ من ذكرِ عذابِها، كما يقالُ: ما أشبهَ سخاءَك بحاتمٍ. بمعنى: ما أشبَهَ سخاءَك بسخاءِ حاتمٍ، وما أشبَهَ شَجاعتَكَ بعنترةَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} .
أما قولُه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} : فإنه اخْتُلِفَ في المعنيِّ بـ {ذَلِكَ} ؛ فقال بعضُهم: معنى {ذَلِكَ} : فعلُهم هذا الذي يفعَلون - مِن جُرأتِهم على عذابِ النارِ في مخالفتِهم أمرَ اللهِ، وكتمانِهم الناسَ ما أَنْزلَ اللهُ في كتابِه وأمرَهم ببيانِه لهم من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأمرِ دينهِ - من أجلِ أنَّ اللهَ نزَّل
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"واشترائهم".
الكتابَ بالحقِّ، وتنزيلُه الكتابَ بالحقِّ هو خبرُه عنهم في قولِه لنبيِّه محمدٍ:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7] فهم - مع ما قد أخبرَ اللهُ عنهم من أنهم لا يؤمنون - لا يكون منهم غيرُ اشتراءِ الضلالةِ بالهدَى والعذابِ بالمغفرةِ.
وقال آخرون: معنى {ذَلِكَ} : معلومٌ لهم بأن اللهَ نزَّل الكتابَ بالحقِّ؛ لأنَّا قد أُخْبِرْنا في الكتابِ أن ذلك لهم، والكتابُ حقٌّ.
كأن قائِلِي هذا القولِ كان تأويلُ الآيةِ عندَهم: ذلك العذابُ - الذي قال اللهُ عز وجل: فما أَصْبرَهم عليه - معلومٌ أنه لهم؛ لأن اللهَ تبارك وتعالى قد أَخْبَر في مواضعَ من تنزيلِه أن النارَ للكافرين، وتنزيلُه حقٌّ، فالخبرُ عن ذلك عندَهم مُضمرٌ.
وقال آخرون: معنى {ذَلِكَ} أن اللهَ جلَّ ثناؤُه وصَف أهلَ النارِ، فقال:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار} . ثم قال: هذا العذابُ بكفرِهم. و"هذا" ههنا عندَهم هي التي يجوزُ مكانَها "ذلك"، كأَنَّه قال: فعَلْنا ذلك بأن اللهَ نزَّل الكتابَ بالحقِّ فكفَروا به. قالوا
(1)
: فيكونُ {ذَلِكَ} - إذا كان ذلك معناه - نصبًا، ويكونُ رفعًا بالباءِ
(2)
.
وأولى الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ عندِي أنّ اللهَ جلَّ ثناؤُه أشارَ بقولِه: {ذَلِكَ} إلى جميعِ ما حواه قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ} . إلى قولِه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} من خبرِه عن أفعالِ أحبارِ اليهودِ
(1)
في م: "قال".
(2)
أي: بالجار والمجرور وهما الخبر، ورفع "ذلك" بالابتداء.
وذكْرِه ما أعَدَّ لهم جلَّ وعزَّ منَ العقابِ عليه
(1)
على ذلك، فقال: هذا الذي فعَلَتْه هؤلاءِ الأحبارُ من اليهودِ بكتمانِهمُ الناسَ ما كتَمُوا من أمرِ محمدٍ ونبوَّتِه، مع علمِهم به، طلبًا منهم لعرَضٍ من الدنيا خَسيسٍ، وبخلافِهم أمرِي وطاعتي، وذلك من ترْكِي تطهيرَهم وتزكيتَهم وتكليمَهم، وإعدادِي لهمُ العذابَ الأليمَ بأنِّي أنزلتُ كتابي بالحقِّ فكفَروا به واخْتَلفوا فيه.
فيكونُ في {ذَلِكَ} حينَئذٍ! وجهان من الإعرابِ: رفعٌ، ونصبٌ، فالرفعُ بالباءِ، والنصبُ بمعنى: فعَلتُ ذلك بأنِّي أنزَلتُ كتابي بالحقِّ، فاخْتَلفُوا فيه وكفَروا به. وترَك ذكْرَ: فكفَروا به، واخْتَلفوا. اجتزاءً بدلالةِ ما ذكَر من الكلامِ عليه.
وأمّا قولُه: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . يعني بذلك اليهودَ والنصارَى، اخْتَلفوا في كتابِ اللهِ، فكفَرتِ اليهودُ بما قصَّ اللهُ تبارك وتعالى فيه من قَصصِ عيسى ابنِ مريمَ وأمِّه، وصدَّقتِ النصارَى ببعضِ ذلك وكفَروا ببعضِه، وكفَروا جميعًا بما أنْزَل اللهُ فيه من الأمرِ بتصديقِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنّ هؤلاء الذين اخْتَلفوا فيما أنزلتُ عليك
(2)
يا محمدُ لفِي مُنازعةٍ ومُفارقةٍ للحقِّ، بعيدةٍ من الرُّشدِ والصوابِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137].
كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمزو بنُ حمادٍ، قال حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . يقولُ: همُ اليهودُ والنصارَى، يقولُ: هم في عداوةٍ بعيدةٍ
(3)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "إليك".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 286، 287 (1538) من طريق عمرو به.
وقد بيَّنتُ معنى "الشِّقاقِ" فيما مضَى
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {لَيْسَ الْبِرَّ
(2)
أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}.
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصَّلاةُ وحدَها، ولكنَّ البرَّ الخصالُ التي أُبَيِّنُها لكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمِّي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباس قولَه:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} . يعني الصلاةَ، يقوْلُ: ليسَ البِرَّ أن تصلُّوا ولا تعمَلُوا، فهذا منذُ تحوَّلَ من مكَّةَ إلى المدينةِ، ونَزلتِ الفرائضُ، وحُدَّ الحدودُ، فأمرَ اللهُ بالفرائِضِ، وعُمِل
(3)
بها
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} : ولكنَّ البرَّ ما ثَبَت في القلوبِ من طاعةِ اللهِ
(5)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 601، 602.
(2)
ضبطها في الأصل بالرفع، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم، وقرأ حمزة وحفص بالنصب. السبعة لابن مجاهد ص 175.
(3)
في م: "العمل".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 287 (1540) عن محمد بن سعد به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 287 (1542) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 170 إلى عبد بن حميد.
حدثني المُثَنَّى
(1)
، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدثني القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: هذه الآيةُ نزَلت بالمدينةِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} . يعني الصلاةَ، يقولُ: ليس البرَّ أن تصلُّوا ولا تعمَلُوا غيرَ ذلك. قال ابنُ جُريجٍ: وقال مجاهدٌ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} : يعني السجودَ. ولكنَّ البرَّ ما ثبَت في القلبِ من طاعةِ اللهِ
(2)
.
حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنا أبو تُميْلةَ، عن عُبيدِ بنِ سليمانَ، عن الضحاكِ بنِ مُزاحمٍ أنه قال فيها، قال: يقولُ: ليس البرَّ أن تصلُّوا ولا تعمَلُوا غيرَ ذلك، وهذا حينَ تحوَّل من مكَّةَ إلى المدينةِ، فأَنْزَلَ اللهُ الفرائضَ وحدَّ الحدودَ بالمدينةِ، وأمرَ بالفرائضِ أن يُؤخذَ بها
(3)
.
وقال آخرون: عنَى اللهُ بذلك اليهودَ والنصارَى، وذلك أن اليهودَ تُصلِّي فتتوجَّهُ قِبلَ الغرِبِ، والنصارَى تصلِّي فتتوجَّهُ قِبلَ المشرقِ، فأَنْزَلَ اللهُ فيهم هذه الآيةَ يُخْبرُهم فيها أن البرَّ غيرُ العملِ الذي يعمَلُونه، ولكنَّه ما بيَّنه
(4)
في هذه الآيةِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معْمرٌ، عن قتادةَ، قال: كانتِ اليهودُ تصلِّي قِبلَ المغربِ، والنصارَى تصلِّي قِبلَ المشرقِ،
(1)
في م، ت 2، ت 3:"القاسم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 169 إلى المصنف عن ابن عباس، نحوه، دون ذكر مجاهد.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 287 عقب الأثر (1540) معلقًا.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بيناه".
فنزَلت: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ بنُ مُعاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : ذُكرَ لنا أنّ رجلًا سأل نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن البرِّ، فأَنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ. وذُكرَ لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم دعا الرجلَ فتَلاها عليه، وقد كان الرجلُ قبلَ الفرائضِ إذا شهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، ثم مات على ذلك يُرجَى له ويُطمعُ له في خيرٍ. فأَنْزلَ اللهُ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} . وكانتِ اليهودُ تَوجَّهتْ قِبلَ المغربِ، والنصارَى قِبلَ المشرقِ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، قال: كانتِ اليهودُ تصلِّي قِبلَ المغربِ، والنصارَى قِبلَ المشرقِ، فنزَلت:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}
(3)
.
وأوْلى هذين القولَين بتأويلِ الآيةِ القولُ الذي قاله قتادةُ والربيعُ بنُ أنسٍ أن يكونَ عَنَى بقولِه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} . اليهودَ والنصارَى؛ لأن الآياتِ قبلَها مَضَتْ بتوبيخِهم ولوْمِهم، والخبرِ عنهم وعمَّا أُعِدَّ لهم من أليمِ العذابِ، وهذه في سياقِ ما قبلَها - فتأويلُها
(4)
إذْ كان الأمرُ كذلك - ليس البرَّ أيُّها اليهودُ والنصارَى أن يُولِّيَ بعضُكم وجهَه قِبلَ المشرقِ، وبعضُكم قِبلَ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 66.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 169 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 287 عقب الأثر (1541) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
سقط من: م.
المغربِ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} برُّ {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ} الآية.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} . وقد علِمتَ أن "البر" فعلٌ
(1)
، و "مَنْ" اسمٌ، فكيفَ يكونُ الفعلُ هو الإنسانُ؟
قيل: إن معنى ذلك على غيرِ ما توهَّمْتَه، وإنما معناه: ولكنَّ البرَّ [برُّ مَن]
(2)
آمَن باللهِ واليومِ الآخرِ. فوضَع "مَن" موضعَ الفعلِ اكتفاءً بدَلالِته ودلالَةِ صِلَتِه التي هي له صِفةٌ، مِن الفعلِ المحذوفِ، كما تفعَلُه العربُ، فتضعُ الأسماءَ مواضعَ أفعالِها التي هي بها مشهورَةٌ فتقولُ: الجودُ حاتمٌ، والشجاعةُ عنترةُ
(3)
. ومعناها: الجودُ جودُ حاتمٍ، والشجاعةُ شجاعةُ عنترةَ. فتستغنِي بذكرِ حاتمٍ - إذْ كان معروفًا بالجودِ - مِن إعادةِ ذكرِ الجودِ بعدَ الذي قد ذكرتَه فتضعُه موضعَ جودِه، لدلالةِ الكلامِ على ما حذَفتَه؛ استغناءً بما ذكَرتَه عما لم تذكُرْه، كما قيل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] والمعنى: أهلَ القريةِ. وكما قال الشاعرُ، وهو ذو الخِرَقِ الطُّهَوِيُّ
(3)
:
حَسِبْتَ بُغامَ رَاحِلَتي عَناقًا
…
ومَا هِيَ وَيْبَ غَيرِك بالعَناقِ
يريدُ: بُغامَ عَناقٍ أو صوتَ. كما تقولُ: حَسبتَ صياحِي أخاكَ. يعني به: حَسبتَ صياحِي صياحَ أخيك.
وقد يجوزُ أن يكونَ معنى الكلامِ: ولكنَّ البارَّ مَن آمَن باللهِ. فيكونُ "البرّ" مصدرًا وُضِع موضعَ الاسمِ.
(1)
يريد بالفعل هنا المصدر. مصطلحات النحو الكوفي ص 53.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كمن".
(3)
تقدم في 2/ 265.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} : وأعطَى مالَه في حينِ محبَّتِه إيَّاه وضَنِّه به وشُحِّه عليه.
كما حدَّثنا أبو كُريبٍ وأبو السائبِ، قالا: حدثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا، عن زُبيدٍ، عن مُرَّةَ بنِ شراحيلَ البَكِيليِّ، عن عَبدِ الله بنِ مسعودٍ:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} : أن
(1)
يُؤتِيَه وهو صحيحٌ شحيحٌ يأمُلُ العيشَ ويخشَى الفقرَ.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ، وحدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قالَا جميعًا عن سفيانَ، عن زُبيدٍ الياميِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . قال: وأنتَ شحيحٌ
(2)
تأمُلُ العيشَ وتخشَى الفقرَ
(3)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"أي".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"صحيح".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 66، ومصنفه (16324)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (8503). وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (245 - تفسير) عن مصعب بن ماهان، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 288 (1546) من طريق وكيع، كلاهما عن سفيان - زاد وكيع: والأعمش - به. وأخرجه الحاكم 2/ 272 من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن منصور، عن زبيد به. وصححه على شرط الشيخين. وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 297 عن الحاكم مرفوعًا، وقال: وقد رواه وكيع، عن الأعمش وسفيان، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا، وهو أصح. وقال ابن صاعد في زوائده على زهد ابن المبارك (24): رفع بعض هذا الحديث مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زبيد. وأخرجه أبو نعيم في الحلية 7/ 238 من طريق مسعر، عن زبيد به. وعزاه السيوطي أيضًا في الدر المنثور 1/ 170 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والفريابي وابن مردويه.
ومعناه ثابت مرفوعًا من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (1419)، ومسلم (1032)، وغيرهما.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّي، قال حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدثنا شعبةُ، عن زُبيدٍ الياميِّ، [عن مرةَ]
(1)
عن عبدِ اللهِ أنه قال في هذه الآيةِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . قال: وأنتَ حريصٌ صحيحٌ
(2)
تأمُلُ العيشَ
(3)
وتخشَى الفقرَ
(4)
.
حدثني أحمدُ بنُ نُعمةَ المصريُّ
(5)
، قال: حدثنا أبو صالحٍ، قال: حدثني الليثُ، قال حدثنا إبراهيمُ بنُ أعينَ، عن شعبةَ بنِ الحجاجِ، عن زُبيدٍ الياميِّ، عن مُرَّةَ الهمْدَانيِّ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ في قولِ اللهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} . قال: حريصًا شحيحًا يأمُلُ العيشَ (3) ويخشَى الفقرَ.
حدثنا أبو كُريبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالَا: حدثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن الشَّعبيِّ سمِعتُه سُئِل: هل على الرجلِ حقٌّ في مالِه سوَى الزكاةِ؟ قال: نَعمْ. وتلا هذه الآيةَ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}
(6)
.
حدثنا أبو كُريبٍ، قال حدثنا سويدُ بنُ عَمرٍو الكلبيُّ، قال: حدثنا حمادُ بنُ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شحيح".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الغني".
(4)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (24)، وأخرجه البيهقي 4/ 190، وفي الشعب (3472) من طريق وهب ابن جرير ويزيد بن هارون - ثلاثتهم - عن شعبة به. وأخرجه الحاكم 2/ 272 - مقرونًا بطريق أبي حذيفة عن سفيان، كما سبق - من طريق أبي النضر عن شعبة، عن منصور، عن زبيد به.
(5)
في الأصل: "البصري". وشيخ ابن جرير هذا لم أجد له ترجمة، وإنما رجحنا أنه مصري لأن شيخه أبا صالح هو عبد الله بن صالح المصري. والله أعلم.
(6)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (930) عن هشيم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 172 إلى عبد بن حميد. وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 191 من طريق بيان عن الشعبي قال: في المال حق سوى الزكاة.
سلمةَ، قال: أخبَرنا أبو حمزةَ، قال: قلتُ للشعبيِّ: إذا زكَّى الرجلُ مالَه أيطيبُ له مالُه؟ فقرَأ هذه الآيةَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} . إلى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . إلى آخرِها. ثم قال: حدَّثتني فاطمةُ بنتُ قيسٍ أنها قالت: يا رسولَ اللهِ، إن لي سبعين مِثقالًا من ذهبٍ، فقال:"اجْعَلِيها في قرابتِك"
(1)
.
حدَّثنا الربيعُ، قال: حدثنا أسدُ بنُ موسى، قال: حدثنا شَريكُ
(2)
بنُ عبدِ اللهِ، عن أبي حمزةَ، عن عامرٍ، عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"في المالِ حَقٌّ سوَى الزَّكاةِ". وتلا هذه الآيةَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} . إلى آخرِ الآيةِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شَريكٍ، قال: حدثنا أبو حمزةَ - فيما أعلمُ - عن عامرٍ، عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ أنها سمِعَتْه يقولُ:"إنَّ في المالِ لحقًّا سوَى الزكاةِ"
(4)
.
(1)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (929)، وابن زنجويه في الأموال (1368) من طريق حماد به دون قوله: وحدثتني فاطمة .... وذكر السيوطي في الدر المنثور 1/ 171 المرفوع وعزاه إلى ابن المنذر. وأخرجه الدارقطني 2/ 107 من طريق أبي بكر الهذلي، عن شعيب بن الحبحاب، عن الشعبي، عن فاطمة، نحوه. وينظر نصب الراية 2/ 373.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سويد".
(3)
أخرجه الدارمي 1/ 385، والترمذي (659، 660)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 288 (1548)، والدارقطني 2/ 125، وابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 298 - وابن عدي 4/ 1328، والبيهقي 4/ 84 من طرف عن شريك به، مطولًا ومختصرًا. وقال الترمذي: هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح.
(4)
أخرجه ابن ماجه (1789) عن علي بن محمد عن يحيى بن آدم به، بلفظ:"ليس في المال حق سوى الزكاة". وذكره الحافظ في التلخيص 2/ 149، 160، والسيوطي في الجامع عن ابن ماجه بلفظه هذا. والذي في التحفة 12/ 465، وجامع المسانيد 16/ 31 عن الترمذي وابن ماجه باللفظ الأول. وقال البيهقي 4/ 84: والذي يرويه أصحابنا في التعاليق: ليس في المال حق سوى الزكاة، فلست أحفظ فيه إسنادًا.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا ابنُ عُليةَ، عن أبي حيانَ، قال: حدثني مزاحمُ بنُ زُفَرَ، قال: كنتُ جالسًا عندَ عطاءٍ، فأتاه أعرابيٌّ فقال له: إنّ لِي إبلًا، فهل عليَّ فيها حقٌّ بعدَ الصَّدقةِ؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: عاريَّةُ الدَّلوِ
(1)
، وطَرْقُ
(2)
الفحلِ، والحلَبُ.
حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ، ذكَرَه عن مُرَّةَ الهَمْدانيِّ، في:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} .
قال: قال عبدُ اللهِ بنُ مسعود: تُعطيهِ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ تُطيلُ الأملَ وتخافُ الفقرَ
(3)
.
وذكر أيضًا عن السُّدِّيِّ أن هذا شيْءٌ واجبٌ في المالِ حقٌّ على صاحبِ المالِ أن يفعَلَه سوَى الذي عليه من الزكاةِ.
وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن زُبيدٍ الياميِّ، عن مُرَّةَ ابنِ شَراحيلَ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ في قولِه:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . قال: أن يُعطِيَ الرجلُ وهو صحيحٌ شحيحٌ
(4)
يأمُلُ العيشَ ويخافُ الفقرَ.
فتأويلُ الآيةِ: وأعطَى المالَ - وهو له محبٌّ حريصٌ [على جمعِهْ]
(5)
شحيحٌ به - ذوِي قرابَتِه، فوصَل به أرحامَهم.
وإنما قلتُ: عنَى بقولِه: {ذَوِي الْقُرْبَى} . ذوِي قرابةِ مُؤتِي المالَ على
(1)
في م: "الذلول".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"طروق". والطرق: ماء الفحل.
(3)
ينظر ما تقدم في ص 78، 79.
(4)
بعده في م: "به".
(5)
سقط من: الأصل.
حُبِّه؛ للخبرِ الذي رُوي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [الذي ذكَرناه عنه]
(1)
، من أمرِه فاطمةَ بنتَ قيسِ، وقولِه صلى الله عليه وسلم حينَ سُئِل: أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جُهْدُ المُقلِّ على ذِي القرابةِ الكاشحِ"
(2)
.
وأما {الْيَتَامَى} و {الْمَسَاكِينَ} ، فقد بيَّنا معناهما فيما مضَى
(3)
.
وأما {وَابْنَ السَّبِيلِ} فإنه المجتازُ بالرَّجلِ.
ثم اخْتَلف أهلُ العلمِ في صفتِه؛ فقال بعضُهم: هو الضيفُ [ينزلُ بالرّجلِ]
(4)
.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ:{وَابْنَ السَّبِيلِ} . قال: هو الضيفُ
(5)
. قال: وذُكرَ لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "من كان يؤْمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ [فلْيُكرمْ ضيفَه، ومَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ]
(6)
فَلْيقلْ خيرا أو لِيسكتْ"
(7)
. قال: وكان يقالُ
(8)
: حقُّ الضيافةِ ثلاثُ ليالٍ، فكلُّ شيْءٍ
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه أحمد 14/ 324 (8702)، وأبو داود (1677)، وابن خزيمة (2444)، وابن حبان (3346)، والحاكم 1/ 414، من حديث أبي هريرة، بلفظ:"جهد المقل، وابدأ بمن تعول". وأخرجه الحاكم 1/ 406 من حديث أم كلثوم بنت عقبة، بلفظ:"أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح".
(3)
ينظر ما تقدم في 2/ 192، 193.
(4)
في م، ت 1، ت 2:"من ذلك".
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 289 عقب الأثر (1554) معلقا.
(6)
سقط من: م، ت 1: ت 2، ت 3.
(7)
أخرجه البخاري (6018، 6019)، ومسلم (47، 48)، وغيرهما من حديث أبي هريرة وأبي شريح الخزاعي. وينظر مسند الطيالسي (2468).
(8)
في م: "يقول".
أصابه
(1)
بعد ذلك صدقةٌ
(2)
.
وقال بعضُهم: هو المسافرُ يمرُّ عليك.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا ابنُ وكيعٍ، قال ثنا أبي، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن أبي جعفرٍ:{وَابْنَ السَّبِيلِ} . قال: المجتازُ مِن أرضٍ إلى أرضٍ
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، عن معمرٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، وقتادةَ في قولِه:{وَابْنَ السَّبِيلِ} . قال: الذي يَمرُّ عليكَ وهو مسافرٌ
(4)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عمَّن ذَكَره، عن ابنِ [أبي نَجيحٍ]
(5)
، عن مجاهدٍ، وقتادةَ مثلَه
(6)
.
وإنما قيل للمسافرِ: ابنُ السبيلِ. لملازَمتِه الطريقَ، والطريقُ هو السبيلُ، فقيل لملازمتِه إيَّاه في سفرِه: ابنُه. كما يقالُ لطيرِ الماءِ: ابنُ الماء. لملازمتِه إيَّاه، وللرجلِ الذي قد أتَت عليه الدهورُ: ابنُ [الأيامِ والليالي]
(7)
. ومنه قولُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أضافه".
(2)
ثبت مرفوعا من حديث أبي شريح العدوي. أخرجه البخاري (6019، 6135)، وينظر مسند الطيالسي (2683).
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 290 عقب الأثر (1555) معلقًا.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 159، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 290، 3/ 950 (1555، 5309) عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق به.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جريج".
(6)
البر والصلة (215) عن معمر به.
(7)
في م: "الأيام والليالي والأزمنة"، وفي ت 1، ت 2:"الأيام والأزمنة".
ذِي الرُّمَّةِ
(1)
:
وَرَدْتُ
(2)
اعْتِسافًا
(3)
والثُّرَيَّا كأنَّها
…
على قمةِ الرأسِ ابْنُ ماءٍ مُحَلِّقُ
وأمَّا قولُه: {وَالسَّائِلِينَ} . فإنه يعني به: المسْتطْعِمِين الطالبِينَ.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال حدثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابنُ إدريسَ، عن حُصينٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَالسَّائِلِينَ} . قال: السائلُ
(4)
الذي يسألُكَ
(5)
.
وأما قولُه: {وَفِي الرِّقَابِ} . فإنه يعني بذلك جلَّ ذكرُه: وفي فكِّ الرقابِ من العبودةِ، وهمُ المُكاتَبون الذين يَسعَوْن في فكِّ رقابِهم من العبودَةِ بأداءِ كتاباتِهم التي فارَقوا عليها سادتَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} .
يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} : أدامَ العملَ بها بحدودِها.
وبقولِه جلَّ ذكْرُه: {وَآتَى الزَّكَاةَ} : أعطاها على ما فرَضها اللهُ عليه.
فإن قال قائلٌ: وهل من حقٍّ يجبُ في المالِ إيتاؤُه فرضًا غيرَ الزكاةِ؟
قيل: قد اخْتَلف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوَى الزكاةِ. واعْتلُّوا لقولِهم ذلك بهذه الآيةِ. وقالوا: لماّ قالَ اللهُ تبارك وتعالى: {وَآتَى
(1)
ديوانه 1/ 490.
(2)
في الأصل: "وزدت".
(3)
الاعتساف: السير بغير هداية ودون توخِّى صَوْب.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 171 إلى المصنف.
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}. ومَن سمَّى اللهُ معهم، ثم قال بعدَ ذلك:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . علِمنا أن المالَ الذي وصَف المؤمنين به أنهم يُؤتُونه ذوِي القُرْبى ومَن سمَّى معهم، غيرُ الزكاةِ التي ذَكَر أنهم يُؤْتونها؛ لأنَّ ذلك لو كان مالًا واحدًا لم يكنْ لتكريرِه معنًى مفهومٌ. قالوا: فلمَّا كان غيرَ جائزٍ أن يقولَ جلَّ ثناؤُه قولًا لا معنى له، علِمنا أن حكمَ المالِ الأوَّلِ غيرُ الزكاةِ، وأن الزكاةَ التي ذكَرها
(1)
بعدَه غيرُه. قالوا: وبعدُ، فقد أبانَ تأويلُ أهلِ التأويلِ صحةَ ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المالُ الأولُ هو الزكاةُ، ولكنَّ اللهَ وصَف إيتاءَ المؤمنين من آتَوْه ذلك في أولِ الآيةِ، فعرَّف عبادَه بوصْفِه ما وصَف مِن أمرِهم، المواضعَ التي يجبُ عليهم أنْ يضَعوا فيها زكَوَاتِهم، ثم دلَّهم بقولِه بعدَ ذلك:{وَآتَى الزَّكَاةَ} .
أن المالَ الذي آتاه القومُ هو الزكاةُ المفروضةُ كانت عليهم، إذْ كان أهلُ سُهْمانِهم الذين أَخْبَر في أولِ الآيةِ أن القومَ آتَوْهم أموالَهم.
وأما قولُه: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} . فإنه يعني جلَّ ثناؤُه: والذين لا ينقُضون عهدَ اللهِ بعدَ المعاهدَةِ، ولكن يُوفون به ويتمِّمونه على ما عاهدوا عليه مَن عاهَدُوه عليه.
كما حُدِّثت به عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ في قولِه:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} . قال: فمَنْ أعطَى عهدَ اللهِ ثم نقضَه، فاللهُ ينتقِمُ منه، ومن أعطَى ذِمّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم غدَرَ بها، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم خَصْمُه يومَ القيامةِ
(2)
.
(1)
في الأصل: "ذكره". وما أثبت هو الصواب.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 291 عقب الأثر (1561) من طريق ابن أبي جعفر به.
وقد بيَّنتُ معنى "العهدِ" فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} .
قد بيَّنا تأويلَ "الصَّبرِ" فيما مضَى قَبلُ
(2)
.
فمعنى الكلامِ: والمانِعين أنفسَهم في البأساءِ والضرَّاءِ وحينَ البأسِ مما يكْرَهُه اللهُ لهم، والحابِسيها على ما أمَرهم به من طاعتِه.
ثم قال أهلُ التأويلِ في معنى {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ، بما حدثني به الحسينُ بنُ عَمرِو بنِ محمدٍ العَنْقزيُّ، قال: حدثنا أبي، وحدَّثني موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قالَا جميعًا: حدثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، عن مُرَّةَ الهَمدانيِّ، عن ابنِ مسعودٍ أنه قال: أمَّا البأساءُ فالفقرُ، وأمَّا الضرَّاءُ فالسُّقْمُ
(3)
.
حدثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ قال: حدثنا أبي، وحدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا الحِمَّانيُّ، قالَا جميعًا: حدثنا شَريكٌ، عن السُّدِّيِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ في قولِه:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} . قال: البأساءُ الجوعُ، والضراءُ المرضُ
(4)
.
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثنا أبو أحمدَ، قال: حدثنا شَريكٌ، عن السُّديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: البأساءُ الحاجةُ، والضرَّاءُ المرضُ.
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 435، 436.
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 617.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 291 (1565) من طريق عمرو العنقزي به. وأخرجه الحاكم 2/ 273 من طريق عمرو بن حماد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 172 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ. وستأتي بقيته في ص 91.
(4)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 172 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 291 (1563) بلفظ: {الْبَأْسَاءِ} قال: الفقر.
حدثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كنا نتحدَّثُ أن البأساء البؤسُ والفقرُ، وأن الضرَّاء السُّقْمُ، وقد قال نبيُّ اللهِ أيوبُ صلى الله عليه وسلم:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
(1)
[الأنبياء: 83].
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ في قولِه:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} . قال: البؤسُ الفاقةُ والفقرُ، والضرَّاءُ في النفسِ من وجعٍ أو مرضٍ يُصيبُه في جسدِه
(2)
.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرَّزاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} . قال: البأساءُ البؤسُ، والضراءُ الزَّمانةُ في الجسدِ
(3)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدثنا عُبيدٌ، عن الضحاكِ، قال: البأساءُ الفقرُ
(4)
، والضراءُ المرضُ.
حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}. قال: البأساءُ البؤسُ والفقرُ، والضراءُ السُّقْمُ والوجَعُ.
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثنا أبو أحمدَ، قال: حدثنا عُبيدُ بنُ الطُّفَيلِ أبو سِيدانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ يقولُ في هذه الآيةِ: {الْبَأْسَاءِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 172 إلى المصنف وعبد بن حميد، بلفظ:
…
السقم والوجع. دون آخره، وستأتي بقيته في ص 91.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 291 عقب الأثر (1563، 1565) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 66، ليس فيه قتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 291 (1566) عن الحسن بن يحيى به، بآخره. وستأتي بقيته في ص 92.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
وَالضَّرَّاءِ} قال: البأساءُ الفقرُ، والضراءُ المرضُ
(1)
.
وأما أهلُ العربيةِ فإنهم اخْتَلفوا في ذلك؛ فقال بعضُهم: البأساءُ والضرَّاءُ مصدرٌ جاءَ على "فَعْلاء" ليس له "أَفعل"؛ لأنه اسمٌ، كما قد جاء "أفعل" في الأسماءِ ليس له "فَعْلاء"، نحو "أحمد". وقد قالوا في الصِّفةِ:"أفعل" ولم يجئْ له "فَعْلاء"، فقالوا: أنتَ من ذلك أَوْجلُ. ولم يقولوا: "وجْلاء".
وقال بعضُهم: هو اسمٌ للفعلِ، كأنَّ
(2)
البأساءَ البؤسُ، والضراءَ الضُّرُّ، وهو اسمٌ يقعُ إن شئتَ لمؤنثٍ، وإن شئتَ لمذكرٍ، كما قال زهيرٌ
(3)
:
فتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمانَ أشْأمَ كُلُّهُمْ
…
كأحْمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فتَفْطِمِ
يعني: فتُنْتَجْ لكم غلمانَ شُؤْمٍ.
وقال بعضُهم: لو كان ذلك اسمًا يجوزُ صرفُه إلى مؤنثٍ ومُذكرٍ، لجازَ إجراءُ "أَفْعل" في النكرةِ، ولكنه اسمٌ قام مقامَ المصْدَرِ، والدليلُ على ذلك قولُهم: لئن طلبتَ نُصرتَهم لَتجِدنَّهمْ غيرَ أبعدَ. بغيرِ إجراءٍ. قال: وإنما كان اسمًا للمصدرِ؛ لأنه إذا ذُكر عُلمَ أنه يُرادُ به المصدرُ.
وقال غيرُهم: لو كان ذلك مصدرًا فوقَع بتأنيثٍ لم يقعْ بتذكيرٍ، ولو وقَع بتذكيرٍ لم يقعْ بتأنيثٍ؛ لأن من سُمِّيَ "بأفعل" لم يُصرفْ إلى "فُعْلَى"، ومن سُمِّيَ "بفُعْلَى" لم يُصرَفْ إلى "أفعل"؛ لأن كلَّ اسمٍ يَبْقى بهيئتِه لا يُصرفُ إلى غيرِه، ولكنهما لغتان، فإذا وقَع التذكيرُ، كان: بأمرٍ أَشْأمَ، وإذا وقَع البأساءُ
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الصبر (57) من طريق عبيد بن الطفيل به، بزيادة. وستأتي في ص 92.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإن".
(3)
شرح ديوانه ص 20.
والضرَّاءُ، وقَع الخَلَّةُ البأساءُ، والخَلَّةُ الضرَّاءُ، وإنْ كان لم يُبنَ على الضرَّاءِ "الأضرّ"، ولا على الأشأم "الشَّأْماء"؛ لأنه لم يرِدْ مِن تأنيثِه التذكيرُ، ولا مِن تَذْكيرِه التأنيثُ، كما قالوا: امرأةٌ حسناءُ. ولم يقولوا: رجلٌ أحسنُ. وقالوا: رجلٌ أمردُ. ولم يقولوا: امرأةٌ مَرْداءُ. فإذا قيلَ: الخَصْلةُ الضرَّاءُ. والأمرُ الأَشْأمُ. دلَّ على المصدرِ، ولم يحتجْ إلى أن يكونَ اسمًا، وإن كان قد كفَى من المصدرِ.
وهذا قولٌ مخالفٌ تأويلَ مَنْ ذكَرْنَا تأويلَه من أهلِ العلمِ في تأويلِ: {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} وإن كان صحيحًا على مذهبِ العربيةِ، وذلك أن أهلَ التأويلِ تأولوا البأساءَ بمعنَى البؤسِ، والضرَّاءَ بمعنى الضُّرِّ في الجسدِ، وذلك من تأويلِهم يُنبئُ عن أنهم وجَّهوا البأساءَ والضراء إلى أسماءِ الأفعالِ دونَ صفاتِ الأسماءِ ونُعوتِها، فالذي هو أوْلَى بـ {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} على قولِ أهلِ التأويلِ، أن تكونَ البأساءُ والضَّرَّاءُ أسماءَ أفعالٍ، فتكونَ البأساءُ اسمًا للبؤسِ، والضراءُ اسمًا للضُّرِّ.
وأمّا {الصَّابِرِينَ} فنصبٌ، وهو من نعتِ {مَنْ} على وجْهِ المدحِ؛ لأنَّ مِن شأنِ العربِ إذا تطاولت صفةُ الواحدِ الاعتراضَ بالمدحِ والذمِّ بالنّصبِ أحيانًا، وبالرفعِ أحيانًا، كما قال الشاعرُ
(1)
:
إلى الملِكِ القَرْمِ
(2)
وابنِ الهُمامِ
…
وليثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وذا الرأْيِ حينَ تُغَمُّ الأمورُ
…
بذاتِ الصَّليلِ وذاتِ اللُّجُمْ
فنصَب "ليثَ الكتيبة"، و"ذَا الرأي" على المدحِ، والاسمُ قبلَهما
(1)
معاني القرآن للفراء 1/ 105، 2/ 58، وخزانة الأدب 1/ 451.
(2)
القرم: السيد العظيم.
مخفوضٌ؛ لأنه من صفةِ واحدٍ، ومنه قولُ الآخرِ
(1)
:
فلَيْتَ التي فيها النُّجومُ تَوَاضَعت
(2)
…
على كلِّ غَثٍّ منهمُ وسَمِينِ
غيوثَ الحَيَا
(3)
في كلِّ مَحْلٍ ولَذْبةٍ
(4)
…
أسُودَ الشَّرَى يَحْمِين كلَّ عَرينِ
وقد زعَمَ بعضُهم أن قولَه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} . نصبٌ عطفًا على {السَّائِلِينَ} . كأنَّ معنى الكلامِ عندَه: وآتَى المالَ على حبِّه ذوِي القُرْبَى واليتامَى والمساكينَ وابنَ السبيلِ والسائلين والصابرين في البأساءِ والضراءِ.
وظاهرُ كتابِ اللهِ يدلُّ على خطأِ هذا القولِ، وذلك أن الصابرين في البأساءِ والضراءِ هم أهلُ الزَّمانَةِ في الأبدانِ، وأهلُ الإقتارِ مِن
(5)
الأموالِ، وقد مضَى وصفُ القومِ بإيتاءِ مَن كان ذلك صِفتَه المالَ في قولِه:{وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} . وأهلُ الفاقةِ والفقرِ هم أهلُ البأساءِ والضرَّاءِ، لأنَّ مَن لم يكنْ مِنْ أهلِ الضَّراءِ ذا بأساءَ، لم يكنْ ممَّن لهُ قَبولُ الصدقةِ، وإنما له قَبولُها إذا كان جامعًا إلى ضرَّائِه بأساءَ، وإذا جمَع إليها بأساءَ كان من أهل المَسْكنَةِ الذين قد دخَلوا في جملةِ المساكين الذين قد مضَى ذكرُهم قبلَ قولِه:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} . وإذا كان ذلك كذلك، ثم نصَبَ {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} بقولِه:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . كان الكلامُ تكريرًا بغيرِ فائدةِ معنًى، كأنه قيلَ: وآتى المالَ على حُبِّه ذوِي القُرْبَى واليتامى والمساكينَ [والمساكينَ]
(6)
. واللهُ يتعالى عن أن يكونَ ذلك في
(1)
معاني القرآن للفراء 1/ 106، وأمالي المرتضى 1/ 206.
(2)
تواضعت: تساقطت وانحطت.
(3)
في م: "الورى". والحيا: المطر والخصب.
(4)
في م: "أزمة". واللذبة: شدة السنة، وهي القحط.
(5)
في م: "في".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
خطابِه عبادَه، ولكن معنى ذلك: ولكنَّ البرَّ مَن آمَن باللهِ واليومِ الآخرِ
(1)
، الموفون بعهْدِهم إذا عاهَدوا، والصابرين في البأساءِ والضراءِ. و {الْمُوفُونَ} رفعٌ؛ لأنه من صفةِ {مَنْ} ، و {مَنْ} رفعٌ، فهو معربٌ بإعرابِه، و {الصَّابِرِينَ} نصبٌ - وإن كان من صفتهِ - على وجهِ المدحِ الذي وصَفنا قبلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَحِينَ الْبَأْسِ} .
يعني جلَّ ذِكرُه بقولِه: {وَحِينَ الْبَأْسِ} : والصابرين في وقتِ البأسِ. وذلك وقتُ شدةِ القتالِ في الحربِ.
كما حدثني الحسينُ بنُ عمرِو بنِ محمدٍ العَنْقَزيُّ، قال حدثنا أبي، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ في قولِه تبارك وتعالى:{وَحِينَ الْبَأْسِ} . قال. حينَ القتالِ
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرٌو، قال حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ مثلَه
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَحِينَ الْبَأْسِ} : القتالِ
(4)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَحِينَ الْبَأْسِ} . أي: عندَ مَواطنِ القتالِ.
(1)
بعده في م: "و".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 292 (1569) من طريق عمرو العنقزي به، وتقدم أوله في ص 86.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 273 من طريق عمرو بن حماد به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 292 عقب الأثر (1569) معلقًا.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا مَعمرٌ، عن قتادةَ:{وَحِينَ الْبَأْسِ} : القتالِ
(1)
.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{وَحِينَ الْبَأْسِ} : عندَ لقاءِ العدوِّ
(2)
.
حدثني المُثَنَّى قال: حدثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدثنا عُبيدٌ، عن الضحَّاكِ:{وَحِينَ الْبَأْسِ} . القتالُ.
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدثنا أبو أحمدَ، قال: حدثنا عُبيدُ بنُ الطُّفيلِ أبو سِيدانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ بنَ مُزاحمٍ يقولُ في قولِه: {وَحِينَ الْبَأْسِ} .
قال: القتالِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} .
يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} . من آمَن باللهِ واليومِ الآخرِ، ونَعتَهم النعتَ الذي نعَتَهم به في هذه الآيةِ، يقولُ: فمن فعَل هذه الأشياءَ فهم الذين صدَقوا اللهَ في إيمانِهم به، وحقَّقوا قولَهم بأفعالِهم، لا مَن ولَّى وجهَه قِبلَ المشرقِ والمغربِ وهو يُخالِفُ اللهَ في أمرِه، وينقُضُ عهدَه وميثاقَه، ويكتُمُ الناسَ وإنَ ما أمَره بِبَيانِه ويكذِّبُ رسلَه.
وأما قولُه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . فإنه يعني: أولئك هم الذين اتَّقَوا
(1)
تقدم أوله في ص 87.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 292 عقب الأثر (1569) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به. وتقدم أوله في ص 87.
(3)
تقدم أوله في ص 87، 88.
عقابَ اللهِ، فتجنَّبوا عصيانَه، وحذِروا وعيدَه
(1)
، فلم يتعدَّوا حدودَه، وخافوه فقاموا بأداءِ فرائضِه.
وبمثلِ الذي قلنا في قولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} . كان الربيعُ بنُ أنسٍ يقولُ.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، بن أبيه، عن الرَّبيعِ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} . قال: فتكلَّموا بكلامِ الإيمانِ، فكانت حقيقَتُه العملَ، صدَقوا اللهَ. قال: وكان الحسنُ يقولُ: هذا كلامُ الإيمانِ، وحقيقتُه العملُ، فإن لم يكنْ مع القولِ عملٌ فلا شيْءَ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .
يعني جلَّ ذِكرُه بقولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} : فُرِض عليكم.
فإن قال قائلٌ: أَفرضٌ على وليِّ القتيلِ القِصاصُ مِن قاتِل وَلِيِّه؟
قيل: لَا، ولكنَّه مباحٌ له ذلك، والعفوُ، وأخذُ الدِّيَةِ.
فإن قال: وكيفَ قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} ؟
قيل: إن معنَى ذلك على خلافِ ما ذهَبتَ إليه، وإنما معناه: يا أيها الذين آمَنوا كُتب عليكم في القتْلَى قِصاصٌ؛ الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبدِ، والأُنْثى كفْءُ الأنثى. أي أن الحرَّ إذا قتَل الحرَّ، فدمُ القاتلِ كفءٌ لدمِ القتيلِ بالقِصاصِ
(3)
منه
(1)
في م: "وعده".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 292 عقب الأثر (1570) من طريق ابن أبي جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 172 إلى المصنف.
(3)
في م: "والقصاص".
دونَ غيرِه مِن الناسِ، ولا تُجاوِزوا بالقتلِ إلى غيرِه ممن لم يقتُلْ؛ فإنه حرامٌ عليكم أن تقتُلوا بقتيلِكم غيرَ قاتلِه.
والفرضُ الذي فرَضه اللهُ علينا في القِصاصِ هو ما وصَفتُ، من تَرْكِ المجاوزةِ بالقِصاصِ قتلَ القاتلِ بقتيلِه إلى غيرِه، لا أنه وجَب علينا القِصاصُ فرضًا، وجوبَ فرضِ الصلاةِ والصيامِ، حتى لا يكونَ لنا تركُه، ولو كان ذلك فرضًا لا يجوزُ لنا تركُه لم يكنْ لقولِه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . معنًى مفهومٌ؛ لأنه لا عفوَ بعدَ القِصاصِ فيقالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} .
وقد قيل: إن معنى القِصاصِ في هذه الآيةِ مُقاصَّةُ دِياتِ بعضِ القتْلَى بدِياتِ بعضٍ. وذلك أن الآيةَ عندَهم نزَلتْ في حزبين تحاربوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقتَل بعضُهم بعضًا، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصلِحَ بينَهم، بأن يُسقِطَ
(1)
ديَاتِ نساءِ أحدِ الحزبين بدياتِ نساءِ الآخرين، ودياتِ رجالِهم بدياتِ رجالِهم، ودياتِ عبيدِهم بدياتِ عبيدِهم، قِصاصًا. فذلك عندَهم مَعنى القِصاص في هذه الآيةِ.
فإن قال قائلُ: فإنّه جلَّ ثناؤُه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . أفما لنا أن نقتصَّ للحُرِّ إلَّا من الحُرِّ، ولَا للأُنثى إلَّا من الأُنثى؟
قيل: بلى
(2)
، لنا أن نقتصَّ للحرِّ من العبدِ، وللأنثى من الذكرِ، يقولُ جلَّ ثناؤُه:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]. وبالنقلِ
(1)
في م: "تسقط".
(2)
في م، ت 1، ت 3:"بل".
المستفيضِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمنون
(1)
تتكافأُ دماؤُهم"
(2)
.
فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فما وجهُ تأويلِ هذه الآيةِ؟
قيل: اخْتَلفَ أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: نزَلتْ هذه الآيةُ في قومٍ كانوا إذا قتَل الرجلَ منهم عبدُ قومٍ آخرين، لم يرضَوْا من قتيلِهم بدمِ قاتلِه، من أجلِ أنه عبدٌ حتى يقتُلُوا به سيدَه، وإذا قتَلتِ المرأةُ من غيرِهم رجلًا منهم، لم يرضَوْا بالقِصاصِ
(3)
بالمرأةِ القاتلةِ حتى يقتُلوا رجلًا من رهطِ المرأةِ وعشيرَتِها، فأَنْزَل اللهُ جلَّ وعزَّ هذه الآيةَ، فأَعْلَمهم أن الذي فُرِض لهم من القِصاصِ أن يقتُلوا بالرجلِ الرجلَ القاتلَ دونَ غيرِه، وبالأُنثى الأُنثى القاتلةَ دونَ غيرِها من الرجالِ، وبالعبدِ العبدَ القاتلَ دونَ غيرِه من الأحرارِ، ونهاهم أن يتعدَّوا القاتلَ إلى غيرِه في القِصاصِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو الوليدِ، وحدثنا المُثَنَّى، قال: حدثنا الحجاجُ، قالَا جميعًا: حدثنا حمادٌ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن الشَّعْبيِّ في قولِه:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . قال: نزَلت في قبيلتين من قبائِلِ العربِ اقْتتلَتا قتالَ عِمِّيَّةٍ
(4)
، فقالوا: نقتُلُ بعبدِنا فلانَ بنَ فلانٍ، وبفلانةَ فلانَ بنَ فلانٍ. فأَنْزَل اللهُ:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}
(5)
.
(1)
في م: "المسلمون".
(2)
أخرجه الطيالسي (2372)، وابن أبي شيبة 9/ 432، وأحمد 11/ 402 (6797)، وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو. وينظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 85، 86.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من دم صاحبهم".
(4)
العمية: من العماء: الضلالة، كالقتال في العصبية والأهواء، وحكى بعضهم فيها ضم العين. النهاية 3/ 304.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 172 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} : وكان أهل الجاهليةِ فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشيطانِ، فكان الحيُّ إذا كان فيهم عزةٌ
(1)
ومنَعةٌ، فقتَل عبدُ قومٍ آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتُلُ به إلَّا حُرًّا. تَعزُّزًا، لفضلِهم على غيرِهم في أنفسِهم، وإذا قُتِلتْ لهم امرأةٌ قتَلتْها امرأةُ قومٍ آخرين، قالوا: لا نقتُلُ بها إلَّا رجلًا. فأَنْزَل اللهُ هذه الآيةَ يُخْبرُهم أن العبدَ بالعبدِ، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البَغْيِ، ثم أَنْزَل اللهُ جلَّ ثناؤُه في سورةِ "المائدة" بعدَ ذلك فقال:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
(2)
[المائدة: 45].
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} قال: لم يكنْ لمن قبلَنا دِيةٌ، إنما هو القتلُ أو العفوُ إلى أهلِه، فنزَلتْ هذه الآيةُ في قومٍ كانوا أكثرَ مِن غيرِهم، وكانوا إذا قُتِل من الحيِّ الكثيرِ عبدٌ قالوا: لا نقتُلُ به إلَّا حرًّا. وإذا قُتلتْ منهم امرأةٌ قالوا: لا نقتُلُ بها إلَّا رجلًا. فأَنْزَل اللهُ تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: حدثنا معتمرٌ، قال: سمِعتُ داودَ، عن عامرٍ في هذه الآيةِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . قال: إنما ذلك في قتالِ عِمِّيةٍ، إذا أُصِيبَ مِن هؤلاءِ عبدٌ ومن هؤلاءِ عبدٌ
(1)
في م: "عدة".
(2)
أخرجه البيهقي 8/ 26، وابن الجوزي في ناسخه ص 157 من طريق شيبان، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 173 إلى عبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه وأبي القاسم الزجاجي في أماليه.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 66.
تَكافَأ
(1)
، وفي المرأتين كذلك، وفي الحُرَّين كذلك، هذا معناه إن شاء اللهُ.
وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قد دخَل في قولِ اللهِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الرجلُ بالمرأةِ، والمرأةُ بالرجلِ. وقال عطاءٌ: ليس بينَهما فَضلٌ
(2)
.
وقال آخرون: بل نزَلتْ هذه الآيةُ في فريقين كان بينَهم قتالٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقُتل مِن كلَا الفريقين جماعةٌ من الرجالِ والنساءِ، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصلِحَ بينَهم، بأن يجعَلَ ديَاتِ النساءِ من كلِّ واحدٍ من الفريقين قِصاصًا بدياتِ النساءِ من الفريقِ الآخرِ، ودياتِ الرجالِ بالرجالِ، ودياتِ العبيدِ بالعبيدِ، فذلك معنى قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: حدثنا عمرُو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . قال: اقتتَل أهلُ ماءين
(3)
من العربِ، أحدُهما مسلمٌ والآخرُ مُعاهَدٌ، في بعضِ ما يكونُ بينَ العربِ من الأمرِ، فأَصْلحَ بينَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد كانوا قَتَلوا الأحرارَ والعبيدَ والنساءَ - على أن يؤدِّيَ الحرُّ ديةَ الحرِّ، والعبدُ ديةَ العبدِ، والأنثى ديةَ الأنثى، فقاصَّهم بعضَهم مِن بعضٍ
(4)
.
(1)
في الأصل، ت 3:"كانا"، وفي ت 1:"كافأ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق (17973)، وابن أبي شيبة 9/ 296، 434 من طريق ابن جريج، عن عطاء.
(3)
في م: "ملتين".
(4)
ذكره النحاس في ناسخه ص 84 معلقا عن السدي.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن سفيانَ، عن السُّديِّ، عن أبي مالكٍ، قال: كان بينَ حَيَّيْن من الأنصارِ قتالٌ، كان لأحدِهما على الآخرِ الطَّوْلُ، فكأنَّهم طلَبوا الفضلَ، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليصلِحَ بينَهم، فنزَلتْ هذه الآيةُ:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . فجعَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحرَّ بالحرِّ، والعبدَ بالعبدِ، والأنثى بالأنثى
(1)
.
حدثنا المُثَنَّى، قال: حدثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن شعبةَ، عن أبي بشرِ، قال: سمِعتُ الشَّعْبيَّ يقولُ في هذه الآيةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} . قال: نزَلتْ في قتالِ عِمِّيَّةٍ - قال شعبةُ: كأنَّه في صلحٍ - قال: اصْطَلحُوا على هذا
(2)
.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال. حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، قال: سمِعتُ الشَّعْبيَّ يقولُ في هذه الآيةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . قال: نزَلتْ في قتالِ عِمِّيةٍ، قتالٌ
(3)
كان على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون. بل ذلك أمرٌ مِن اللهِ بمقاصَّةِ ديةِ الحرِّ وديةِ العبدِ، وديةِ الذكرِ وديةِ الأُنثى، في قتلِ العمدِ، إن اقتُصَّ للقتيلِ من القاتلِ، والتراجعِ بالفضلِ والزيادةِ بين ديتيِ القتيلِ والمقتصِّ منه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 294 عقب الأثر (1576) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 172 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 293 (1575) من طريق شعبة عن مغيرة عن الشعبي، بنحوه دون قول شعبة.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
ذِكرُ من قال ذلك
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . قال: حُدِّثنا عن عليٍّ بنِ أبي طالبٍ أنه كان يقولُ: أيُّما حرٍّ قتَل عبدًا فهو به قَوَدٌ، فإن شاءَ موالى العبدِ أن يقتُلوا الحرَّ قتَلوه وقاصُّوهم بثمنِ العبدِ من دِيةِ الحرِّ، وأدَّوا إلى أولياءِ الحرِّ بقيةَ دِيَتِه، وأيُّ
(1)
عبدٍ قتَل حرًّا فهو به قَوَدٌ، فإن شاء أولياءُ الحرِّ قتَلوا العبدَ وقاصُّوهم بثمنِ العبدِ، وأخَذوا بقيةَ ديةِ الحرِّ، وإن شاءُوا أخَذُوا الديةَ كلَّها واستحيَوُا العبدَ، وأيُّ حرٍّ قتَل امرأةً فهو بها قَوَدٌ، فإن شاء أولياءُ المرأةِ قتَلُوه وأدَّوا نصفَ الديةِ إلى أولياءِ الحُرِّ، وأيُّ
(1)
امرأةٍ قتَلتْ حرًّا فهي به قَوَدٌ، فإن شاء أولياءُ الحرِّ قتَلُوها وأخَذوا نصفَ الديةِ، وإن شاءوا أخَذوا الديةَ كلَّها واسْتحْيَوْها، وإن شاءُوا عفَوْا
(2)
.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدثنا هشامُ بنُ عبدِ الملكِ، قال: حدثنا حمادُ ابنُ سلَمةَ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، أن عليًّا قال في رجلٍ قتَل امرأتَه، قال: إن شاءُوا
(3)
قتَلوه وغَرِموا نصفَ الديَةِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدثنا يحيى بنُ
(4)
سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: لا يُقتَلُ الرجلُ بالمرأةِ حتى يُعطُوا نصفَ الديَةِ
(5)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إن".
(2)
أخرجه البيهقي 8/ 35، 38 مفرقًا من طريق الحكم ومحمد بن علي عن علي. وقوله: وأيُّ حرٍ قتَل امرأة
…
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 296، 297 من طريق الحكم والشعبي عن علي.
(3)
في الأصل: "شاء".
(4)
في م: "عن".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 297 من طريق عوف به.
حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن سماكٍ، عن الشَّعْبيِّ، قال في رجلٍ قتَل امرأتَه عمدًا، فأتَوا به عليًّا، فقال: إن شئتُم فاقتُلوه وردُّوا فضلَ ديةِ الرجلِ على ديَةِ المرأةِ
(1)
.
وقال آخرون: بل نزَلتْ هذه الآيةُ في حالِ ما نزَلتْ والقومُ لا يقتُلون الرجلَ بالمرأةِ، ولكنهم كانوا يقتُلونَ الرجلَ بالرجلِ، والمرأةَ بالمرأةِ، حتى سوَّى اللهُ بين حكمِ جميعِهم بقولِه:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
فجعَل جميعَهم قَوَدًا بعضَهم ببعضٍ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} : وذلك أنهم كانوا لا يقتُلون الرجلَ بالمرأةِ، ولكن يقتُلون الرجلَ بالرجلِ، والمرأةَ بالمرأةِ، فأَنْزَل اللهُ سبحانه:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} . فجعَل الأحرارَ في القِصاصِ سواءً فيما بينَهم في العمدِ، رجالُهم ونساؤُهم، في النفسِ وما دونَ النفسِ، وجعَل العبيدَ مُستوين فيما بينَهم في العمدِ، في النفسِ وما دونَ النفسِ، رجالُهم ونساؤُهم
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: فإذا كان مُختَلَفًا الاختلافُ الذي وصَفتُ فيما نزَلتْ فيه
(3)
هذه الآيةُ، فالواجبُ علينا استعمالُها فيما دلَّت عليه من الحكمِ بالخبرِ القاطِعِ العذرَ. وقد تَظاهرتِ الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالنقلِ العامِّ أن نفْسَ الرجلِ الحرِّ قوَدٌ قِصاصًا
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 296، 297 عن جرير به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 294 (1578)، والبيهقي 8/ 40 من طريق أبي صالح به. وينظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 83.
(3)
في الأصل: "في".
بنفسِ المرأةِ الحرَّةِ. فإذ كان ذلك كذلك - وإن كانت الأمَّةُ مختلفةً في التراجُعِ بفضلِ ما بينَ ديةِ الرجلِ والمرأةِ، على ما قد بيَّنا من قولِ عليٍّ وغيرِه - وكان واضحًا فسادُ قولِ من قالَ بالقِصاصِ في ذلك، والتراجعِ بفضلِ ما بينَ الدِّيتين، بإجماعِ جميعِ أهلِ الإسلامِ على أن حرامًا على الرجلِ أن يُتلِفَ من جسدِه عضوًا بعوضٍ يأخُذُه على إتلافِه - [فدعْ ما]
(1)
جميعَه - وعلى أن حرامًا على غيرِه إتلافُ شيْءٍ منه - مثلَ الذي حُرِّمَ من ذلك عليهِ بعوضٍ يُعطيه عليه - فالواجبُ أن تكونَ نفسُ الرجلِ الحرِّ بنفسِ المرأةِ الحرَّةِ قوَدًا.
وإذا كان ذلك كذلك، كان بَيِّنًا بذلك أنه لم يُرِدْ بقولِه:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . ألا يُقادَ العبدُ بالحرِّ، ولا
(2)
ألا تُقتلَ الأُنثى بالذَّكرِ، ولا الذَّكرُ بالأُنثى.
وإذا كان كذلك، كان بَيِّنًا - [على ما ذكَرنا]
(3)
- أن الآيةَ معنيٌّ بها أحدُ المعنيين الآخرين؛ إمّا [ما قلنا]
(4)
من ألا يُعَدَّى بالقِصاصِ إلى غيرِ القاتلِ والجانِي، فيُؤخذَ بالأنثى الذكرُ، وبالعبدِ الحرُّ. وإما القولُ الآخرُ، وهو أن تكونَ الَايةُ نزَلتْ في قومٍ بأعْيانِهم خاصَّةً، أُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يجعَلَ دياتِ قتلَاهم قِصاصًا. بعضُها من بعضٍ، كما قاله السُّديُّ ومَن ذكَرنا قولَه.
وقد أجْمع الجميعُ - لا خلافَ بينَهم - على أن المقُاصَّةَ في
(5)
الحقوقِ غيرُ واجبةٍ، وأَجْمعوا على أنَّ اللهَ عز وجل لمْ يقضِ في ذلك قضاءً ثم نسَخه. وإذا كان
(1)
في م: "فدع"، وفي ت 1:"فدفعنا".
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(4)
في م: "قولنا".
(5)
سقط من الأصل.
كذلك، وكان قولُه جلَّ ثناؤُه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . ينبئُ على
(1)
أنه فرضٌ، كان معلومًا أن القولَ خلافُ ما قالَه قائلُ هذه المقالَةِ؛ لأنَّ ما كان فرضًا على أهلِ الحقوقِ أن يفعَلوه، فلا خِيارَ لهم فيه، والجميعُ مجمِعون على أن لأهلِ الحقوقِ الخِيارَ في مقاصَّتِهم حقوقَهم بعضَها من بعضٍ. فإذْ تبيَّن فسادُ هذا الوجهِ الذي ذكَرنا، فالصحيحُ من القولِ في ذلك هو ما قلنا.
فإن قال قائلٌ: إذ ذكَرتَ أن معنى قولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . بمعنى: فُرِضَ عليكم القِصاصُ. ولا يُعرفُ لقولِ القائلِ: كتَب. معنًى إلَّا بمعنى. خطَّ ذلك ورسَم خطًّا وكتابًا، فما برهانُك على أن معنَى قولِه:{كُتِبَ} : فُرِض؟
قيل: ذلك في كلامِ العربِ موجودٌ، وفي أشعارِهم مستفيضٌ، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
كُتِب القتلُ والقتالُ علينا
…
وعلى المحصناتِ جرُّ الذيولِ
وقولُ نابغةِ بني جَعْدةَ
(3)
:
يا بنتَ عمِّي كتابُ اللهِ أَخْرَجني
…
[عنكم فهل]
(4)
أمنعَنَّ اللهَ ما فعَلا
وذلك أكثرُ في أشعارِهم وكلامِهم من أن يُحصَى. غيرَ أن ذلك وإن كان بمعنى "فُرِض"، فإنه عندِي مأخوذٌ من الكتابِ الذي هو رسمٌ وخطٌّ، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه قد كتَبَ جميعَ ما فَرَض على عبادِه، وجميعَ ما هُم عامِلوه
(1)
في م، ت 2:"عن".
(2)
هو عمر بن أبي ربيعة. ينظر: ملحقات ديوانه ص 498، والكامل 3/ 246، والعقد الفريد 4/ 407، 6/ 118، ونسب لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت في بهجة المجالس 2/ 55.
(3)
شرح ديوانه ص 194.
(4)
في الديوان: "كرها وهل".
في اللوحِ المحفوظِ، فقال جلَّ ذكرُه في القرآنِ:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]. وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78]. [فأَخْبرَ أن القرآنَ في اللَّوحِ المحفوظِ، وفي كتابٍ مكنونٍ]
(1)
. فقد تبينَ بذلك أن كلَّ ما فرَضَه علينا في
(2)
اللوحِ المحفوظِ مكتوبٌ.
فمعنى قولِه - إذ كان ذلك كذلك -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} : كُتب عليكم في اللوحِ المحفوظِ القِصاصُ في القتلَى فرضًا، ألا تقْتُلوا بالمقتولِ غيرَ قاتلِه.
وأما "القِصاصُ"، فإنه من قولِ القائلِ: قاصصْتُ فلانًا حَقِّي قِبَلَه من حقِّه قِبَلي، [وقاصَّني](1) قِصاصًا ومُقاصَّةً. فقَتلُ القاتِلِ بالذي قتَله قِصاصٌ به
(3)
؛ لأنه مفعولٌ به مثلُ الذي فعَل مِن
(4)
قتلِه، وإن كان أحدُ الفعلين عُدوانًا والآخرُ حقًّا، فهما وإن اخْتَلفا من هذا الوجهِ، فهما متَّفِقانِ في أن كلَّ واحدٍ قد فعَل بصاحبِه مثلَ الذي فعَل صاحبُه به. وجعَل فعْلَ وليِّ القتيلِ الأولِ إذا قتَل قاتلَ ولِيِّه قِصاصًا، إذ كان بسببِ قتيله
(5)
استحقَّ قتلَ مَن قتَلَه، فكأنَّ وليَّه المقتولَ هو الذي وَلِي قتلَ قاتلِه، فاقتصَّ منه.
وأمَّا "القتلَى" فإنها جمعُ قتيلٍ، كما الصرعَى جمعُ صَريعٍ، والجرحَى جمعُ جريحٍ. وإنما يُجمعُ الفَعِيلُ على الفَعْلَى ما
(6)
كان صفةً للموصوفِ به، بمعنى الزَّمانةِ والضررِ الذي لا يقدِرُ معه صاحبُه على البَراحِ من موضِعِه ومصرَعِه، نحوُ: القتلى في
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ففي".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمن".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قتله".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إذا".
معاركِهم، والصرْعَى في أماكِنِهم
(1)
، والجرحَى، وما أشبهَ ذلك.
فتأويلُ الكلامِ إذن: فُرِض عليكم أيها المؤمنون القِصاصُ في القَتلَى، أن يقتصَّ الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبدِ، والأنثى بالأنثى. ثم ترَك ذكْرَ "أن يقتصَّ"، اكتفاءً بدلالةِ قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . عليه [من ذكرِه]
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: فمَن تُرِك له من القَتَلةِ
(3)
ظُلمًا من الواجبِ كان لأخيه عليه من القِصاصِ - وهو الشيْءُ الذي قال اللهُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} - فاتِّباعٌ بالمعروفِ من العافِي للقاتلِ بالواجبِ له قِبَلَه من الديةِ، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسانٍ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثنا أبو كُريبٍ وأحمدُ بنُ حمادٍ الدُّولَابيُّ، قالا: حدثنا سفيانُ بنُ عُيينةَ، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} : فالعفوُ أن يقبَلَ الدِّيةَ في العمدِ، واتباعٌ بالمعروفِ، أن يطلُبَ هذا بمعروفٍ ويؤدِّيَ هذا بإحسانٍ
(4)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"مواضعهم".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م، ت 1، ت 3:"القتل".
(4)
أخرجه الإسماعيلي - كما في الفتح 12/ 208 - من طريق أبي كريب وغيره به، وأخرجه الشافعي في مسنده 2/ 197، وعبد الرزاق في تفسيره 1/ 67، وفي مصنفه - (18451)، وسعيد بن منصور في سننه (246 - تفسير)، وابن أبي شيبة 9/ 433، والبخاري (4498، 6881)، والنسائي (4795)، =
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا حجَّاجُ بنُ المنهالِ، قال: حدثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، قال: أخبَرنا عَمرُو بنُ دينارٍ، عن جابرِ بنِ زيدٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال في قولِه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فقال: هو العمدُ يَرْضَى أهلُه بالديةِ، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أُمِر به الطالبُ، {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} من المطلوبِ
(1)
.
حدثنا محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسنِ بنِ شقيقٍ، قال: حدثنا أبي، وحدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قالا جميعًا: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن محمدِ بنِ مُسلمٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ: عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الذي يقبَلُ الديةَ ذلك منه
(2)
عفوٌ، فاتباعٌ بالمعروفِ، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسانٍ
(3)
.
حدثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} : وهي الديةُ، أن يُحسِنَ الطالبُ الطلبَ، {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، وهو أن يحسِنَ المطلوبُ الأداءَ.
حدثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ
= والطحاوي 3/ 175، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 294 (1579)، والنحاس في ناسخه ص 86، 87، والدارقطني 3/ 199، والحاكم 2/ 273، والبيهقي 8/ 51 من طرق عن ابن عيينة به.
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 273 من طريق حجاج به مختصرًا، وأخرجه البيهقي 8/ 52 من طريق حماد به. وصححه الحاكم على شرط مسلم. وقد خالف حمادُ بنُ سلمةَ ابنَ عيينة ومحمدَ بنَ مسلم - كما في الأثر السابق والآتي - وتابعهما ابن أبي نجيح عن مجاهد - كما سيأتي في ص 113 - وذكرهما الحافظ في النكت الظراف 5/ 223 عن المصنف، وقال: والأول أصح.
(2)
في الأصل: "منهم".
(3)
أخرجه ابن حبان (6010) من طريق ابن المبارك به.
أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} : والعَفُوُّ الذي يعفو عن الدَّمِ ويأخذُ الدِّيةَ
(1)
.
حدثني سفيانُ، قال: حدثنا أبي، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . قال: الديةُ.
حدثنا ابنُ وكيعٍ، قال: حدثنا أبي، عن يزيدَ بنِ
(2)
إبراهيمَ، عن الحسنِ:{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . قال: على هذا الطالبِ أن يطلُبَ بالمعروفِ، وعلى هذا المطلوبِ أن يؤدِّيَ بإحسانٍ
(3)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} : والعَفُوُّ الذي يعفُو عن الدَّمِ ويأخُذُ الديةَ.
حدثني محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو الوليدِ، قال: حدثنا حمادٌ، عن داودَ ابنِ أبي هندٍ، عن الشَّعْبيِّ في قولِه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: هو العمدُ يَرضَى أهلُه بالدِّيةِ
(4)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا الحجاجُ، قال: حدثنا حمادٌ، عن داودَ، عن الشعبيِّ مثلَه.
حدثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَمَنْ
(1)
تفسير مجاهد ص 219.
(2)
في م: "عن".
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 295 عقب الأثر (1581) معلقًا.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 434، 435 من طريق ابن أشوع عن الشعبي نحوه مطولا.
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. يقولُ: من قَتَل عمدًا فعُفي عنه، وقُبِلت منه الديةُ، يقولُ:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . فأمَر المتَّبِعَ أن يتَّبِعَ بالمعروفِ، وأمَر المؤدِّيَ أن يؤدِّيَ بإحسانٍ، فالعمدُ قَودٌ إليه قِصاصٌ، لا عَقْلَ
(1)
فيه، إلَّا أن يرضَوْا بالديةِ، فإن رَضُوا بالديةِ فمائةُ خَلِفةٍ
(2)
، فإن قالوا: لا نرضَى إلَّا بكذَا وكذَا. فذلك لهم.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . قال: يَتَّبعُ
(3)
الطالبُ بالمعروفِ، ويؤدِّي المطلوبُ بإحسانٍ
(4)
.
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ في قولِه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .
يقولُ: فمن قتَل عمدًا فعُفِيَ عنه، وأُخذتْ منه الدِّيةُ، يقولُ:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . أمَر صاحبَ الدِّيةِ الذي
(5)
يأخُذُها أن يتبِعَ بالمعروفِ، وأمَر المؤدِّيَ أن يؤدِّيَ بإحسانٍ
(6)
.
حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: قولُه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
(1)
العقل: الدية. اللسان (ع ق ل).
(2)
الخلفة: الحامل من النوق. اللسان (خ ل ف).
(3)
بعده في م: "به".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 67.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"التي".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 295 عقب الأثر (1581) من طريق ابن أبي جعفرٍ به.
بِإِحْسَانٍ}. قال: ذلك إذا أخَذ الدِّيةَ، فهو عَفوُه
(1)
.
[حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ]
(2)
، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: أخبَرني القاسمُ. بنُ أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ، قال: إذا قبِل الديةَ فقد عفَا عن القِصاصِ، فذلك قولُه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . قال ابنُ جُريجٍ: وأخبرني الأعرجُ، عن مجاهدٍ مثلَ ذلك، وزادَ فيه: فإذا قبِل الديةَ فإنَّ عليه أن يتَّبعَ بالمعروفِ، وعلى الذي عُفِيَ عنه أن يؤدِّيَ بإحسانٍ.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو عَقيلٍ، قال: قال الحسنُ: أخذُ الديةِ عفوٌ حسنٌ
(3)
.
حدثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . قال: أنت أيها المعفوُّ عنه
(3)
.
وقال آخرون: معنى قولِه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} : فمَن فضَل له فضْلٌ، وبقِيتْ له بقيَّةٌ. وقالوا: معنى قولِه: {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} : من ديةِ أخيه شيْءٌ، أو من أَرْشِ
(4)
جراحتِه، فاتباعٌ منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بقِيَ ذلك قِبَلَه بمعروفٍ، وأداءٌ من القاتلِ أو الجارحِ إليه ما بقِي قِبَلَه له من ذلك بإحسانٍ.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 294 عقب الأثر (1579) معلقًا.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثنا الحسن".
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. وهو الدية، أن يحسن الطالب، وأداء إليه بإحسان هو أن يحسن المطلوب الأداء". وقد تقدم هذا الأثر بتمامه في ص 105.
(4)
الأرش: دية الجراحة. التاج (أ ر ش).
وهذا قولُ من زعَم أن هذه الآيةَ نزَلتْ - أعني قولَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} - في الذين تحارَبوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأُمِر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يُصلِحَ بينَهم، فَتُقاصَّ دياتُ بعضِهم من بعضٍ، ويُردَّ بعضُهم على بعضٍ بفضلٍ إن بقِيَ لهم قِبلَ الآخرين. وأحسَبُ أن قائِلي هذا القولِ وجَّهوا تأويلَ العفوِ في هذا الموضعِ إلى الكثرةِ، من قولِ اللهِ:{حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]. فكأنَّ معنى الكلامِ عندَهم: فمن كثُر له قِبلَ أخيه القاتلِ شيْءٌ
(1)
.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . يقولُ: بقِيَ له من ديةِ أخيه شيْءٌ، أو من أَرْشِ جراحتِه، فلْيتَّبعْ بمعروفٍ، ولْيؤدِّ إليه الآخرُ بإحسانٍ
(2)
.
والواجبُ على تأويلِ القولِ الذي رَوَينا عن عليٍّ والحسنِ في قولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . أنه بمعنى: مُقاصَّةِ ديةِ نفسِ الذَّكرِ مِن ديةِ نفسِ الأنثى، والعبدِ من الحرِّ، والتراجعِ بفضلِ ما بينَ ديتى أنفُسِهما - أن يكونَ معنى قولِه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} : فمَن عُفي له منَ الواجبِ لأخيه عليه من قِصاصِ ديةِ نفسِ (1) أحدِهما بديةِ نفسِ الآخرِ، إلى الرضَا بديةِ نفسِ المقتولِ، فاتباعٌ من الوليِّ بالمعروفِ، وأداءٌ من القاتلِ إليه بإحسانٍ.
وأوْلى الأقوالِ عندي بالصوابِ في قولِه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} : فمَن صُفِح له مِن الواجِبِ كان لأخيه عليه من القَوَدِ، عن شيْءٍ من الواجبِ على ديةٍ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 295 (1580) من طريق عمرو له.
يأخُذُها منه، فاتباعٌ بالمعروفِ من العافي عن الدَّمِ الراضِي بالدِّيةِ من دمِ ولِيِّه، وأداءٌ إليه من القاتلِ
(1)
بإحسانٍ. لما قد بيَّنَّا من العللِ فيما مضَى قبلُ، من أنَّ معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . إنما هو القِصاصُ من النفوسِ القاتلةِ أو الجارحةِ والشَّاجَّةِ عمدًا، فكذلك العفوُ أيضًا عن ذلك.
وأما معنَى قولِه: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . فإنه يعني: فاتباعٌ على ما أوجبَه اللهُ له من الحقِّ قِبَلَ [قاتلِ وَليِّه]
(2)
، من غيرِ أن يزدادَ عليه ما ليس له عليه في أسنانِ الفرائضِ أو غيرِ ذلك، أو يكلِّفَه ما لم يوجِبْه اللهُ له عليه.
كما حدثني بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قال: بلَغنا عن نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن زاد أو ازداد بعيرًا - يعني في إبلِ الدِّياتِ وفرائضِها - فمِن أمرِ الجاهليةِ".
وأما إحسانُ الآخرِ في الأداءِ، فهو أداءُ ما لزِمَه بقتلِه لوليِّ القتيلِ، على ما ألزمَه اللهُ وأوجَبه عليه، من غيرِ أن يبخَسَه حقًّا له قِبَلَه بسببِ ذلك، أو يُحوِجَه إلى اقتضاءٍ ومطالبةٍ.
فإن قال لنا قائل: وكيف قِيلَ: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .
ولم يقلْ: فاتباعًا بالمعروفِ وأداءً إليه بإحسانٍ. كما قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]؟
قيلَ: لو كان التنزيلُ جاءَ بالنصبِ، وكان: فاتباعًا بالمعروفِ وأداءٌ إليه بإحسانٍ. كان جائزًا في العربيةِ صحيحًا على وجهِ الأمرِ، كما يقالُ: ضربًا ضربًا،
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذلك".
(2)
في الأصل: "قاتله".
وإذا لقيتَ فلانًا فتبجيلًا وتعظيمًا. غيرَ أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصحُ في كلامِ العربِ من نصبِه. وكذلك ذلك في كلِّ ما كانَ نظيرًا له، مما يكونُ فرضًا عامًّا - في مَن قد فَعَل، وفي من لم يفعَلْ إذا فعَل - لا ندبًا وحثًّا. ورفعُه على معنى: فمَن عُفي له من أخيه شيْءٌ، فالأمرُ فيه اتباعٌ بالمعروفِ، وأداءٌ إليه بإحسانٍ. أو: فالقضاءُ والحكمُ فيه اتباعٌ بالمعروفِ.
وقال بعضُ أهلِ العربيةِ
(1)
: رفعُ ذلك على معنى: فمَن عُفي له من أخيه شيْءٌ فعلَيه اتباعٌ بالمعروفِ.
وهذا مذهبٌ
(2)
، والأولُ الذي قلناه هو وجهُ الكلامِ. وكذلك كلُّ ما كان من نظائرِ ذلك في القرآنِ، فإن رفعَه على الوجهِ الذي قلناه، وذلك مثلُ قولِه:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. وقولِه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
وأما قولُه: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} . فإن الصوابَ فيه النصبُ، وهو وجهُ الكلامِ؛ لأنه على وجهِ الحثِّ من اللهِ عبادَه على القتلِ عندَ لقاء العدوِّ، كما يقالُ: إذا لقِيتم العدوَّ فتكبيرًا وتهليلًا. على وجهِ الحضِّ على التكبيرِ، لا على وجهِ الإيجابِ والإلزامِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {ذَلِكَ} : هذا الذي حكَمتُ به وسَنَنتُه لكم، من إباحتي لكم أيتها الأمةُ العفوَ عن القصاصِ من قاتلِ قَتيلِكم، على ديةٍ تأخُذونها، فتملِكُونها مِلكَكم سائرَ أموالِكم، التي كنتُ منَعتُها من قبْلَكم من الأممِ السالفةِ، {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. يقولُ: تخفيفٌ مني لكم مما كنتُ ثَقَّلتُه على
(1)
هو الزجاج في معاني القرآن 1/ 234.
(2)
في م: "مذهبي".
غيرِكم، بتحريمِ ذلك عليهم، {وَرَحْمَةٌ} منى بكم.
كما حدثنا أبو كُريبٍ وأحمدُ بنُ حمادٍ الدُّولابيُّ، قالا: حدثنا سفيانُ، عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان في بني إسرائيلَ القِصاصُ، ولم تكنْ فيهم الدِّيةُ، فقال اللهُ في هذه الآيةِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} . إلى قولِه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . فالعفوُ أن يقبَلَ الديةَ في العمدِ، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. [يقولُ: خفَّفَ عنكم ما كان]
(1)
على من كان قبلَكم، أن يطلُبَ هذا بمعروفٍ، ويؤدِّيَ هذا بإحسانٍ
(2)
.
حدثنا محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسنِ بنِ شقيقٍ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن محمدِ بنِ مُسلمٍ، عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان مَن قبلَكم يقتُلون القاتلَ بالقتيلِ لَا تُقبلُ منهم الديةُ، فأنْزلَ اللهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} إلى آخرِ الآيةِ، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يقولُ: خفَّفَ عنكم ما
(3)
كان على من قبلَكم؛ أي
(4)
الديةُ، لم تكنْ تُقبلُ، فالذي يَقبَلُ الديةَ ذلك منه عَفوٌ (2).
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، قال: أخبَرنا عمرٌو بنُ دينارٍ، عن جابرِ بنِ زيدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} : مما كان على بني إسرائيلَ. يعني: من تَحريمِ الديةِ عليهم (2).
(1)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
تقدم تخريجه في ص 105.
(3)
في م: "و".
(4)
في م: "أن".
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان على بني إسرائيلَ قِصاصٌ في القتلى، ليسَ بينَهم ديةٌ في نفسٍ ولا جُرحٍ، وذلك قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الآية كلها [المائدة: 45]. وخفَّف اللهُ عن أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقبِل منهمُ الديةَ في النفسِ وفي الجراحةِ، وذلك قولُه:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} بينَكم
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} : وإنما هي رحمةٌ رحِمَ اللهُ بها هذه الأمةَ، أَطْعَمهم الديةَ، وأحلَّها لهم، ولم تحِلَّ لأحدٍ قبلَهم، وكان أهلُ التوراةِ إنما هو قِصاصٌ أو عفوٌ، ليس بينَهم
(2)
أرْشٌ، وكان أهلُ الإنجيلِ إنما هو عفوٌ أُمِروا به، وجعَلَ اللهُ لهذه الأمةِ القوَدَ والعفوَ، والديةَ إن شاءوا، أحلَّها لهم، ولم تكنْ لأمةٍ قبلَهم
(3)
.
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ بمثلِه سواءً، غيرَ أنه قال: ليس بينَهما شيْءٌ
(4)
.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} . قال: لم تكنْ لمن قبلَنا ديةٌ، إنما
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 67، وفي مصنفه (18450)، والنحاس في ناسخه ص 86، 87، والطبراني في الكبير (11155)، والدارقطني 3/ 86 من طريق ابن أبي نجيح به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بينهما".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 296 (1586) من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 173 إلى الزجاجي في أماليه.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 296 عقب الأثر (1586) من طريق ابن أبي جعفر به.
هو القتلُ أو العفوُ إلى أهلِه، فنزَلتْ هذه الآيةُ في قومٍ كانوا أكثرَ من غيرِهم
(1)
.
حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: وأخبَرني عَمرُو بنُ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن بني إسرائيلَ كان كُتِب عليهمُ القِصاصُ، وخُفِّف عن هذه الأمةِ. وتلا عمرُو بنُ دينارٍ:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
(2)
.
وأما على قولِ من قال: القِصاصُ في هذه الآيةِ معناه قِصاصُ الدِّياتِ بعضِها من بعضٍ. على ما قاله السُّديُّ، فإنه ينبغي أن يكونَ تأويلُه: هذا الذي فعَلتُ بكم أيها المؤمنون من قصاصِ دياتِ قتلَى بعضِكم بدياتِ بعضٍ، وتَركِ إيجابِ القَودِ من
(3)
الباقين منكم بقتيلِه الذي قتلَه أو
(4)
أخذِه بديتِه، تخفيفٌ منِّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكم من حكمي عليكم بالقوَدِ أو الديةِ، ورحمةٌ منِّي لكم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} .
يعني بقولِه: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} : فمن تَجاوز ما جعَله اللهُ له بعدَ أخذِه الديةَ، اعتداءً وظلمًا، إلى ما لم يَجْعلِ اللهُ له من قتلِ قاتلِ وليِّه وسفكِ دمِه، فله بفعلِه ذلك، [وتقدُّمِه على]
(5)
ما قد حرمتُه عليه، عذابٌ أليمٌ.
وقد بَيَّنتُ معنى الاعتداءِ فيما مضَى بما أغنَى عن إعادَتِه
(6)
.
(1)
تقدم مطولا في ص 96، 97.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 293، 296 (1573، 1585) من طريق عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 173 إلى أبي الشيخ.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"على".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(5)
في م: "وتعديه إلى".
(6)
ينظر ما تقدم في 2/ 209.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} : فقتَل، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: [{فَمَنِ اعْتَدَى} : بعد أخذِ الديةِ {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه]
(2)
: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يقولُ: فمن اعتدَى بعد أخذِه الديةَ فقَتَلَ، فله عذابٌ أليمٌ. قال: وقد ذُكِر لنا أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "لا أُعافي رجلًا قتَل بعدَ أخذِه الديةَ"
(3)
.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 219.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 173 إلى المصنف وابن المنذر. والمرفوع أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 67، 68، وفي مصنفه (18200) عن معمر، عن قتادة. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 301: وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أعافي. . . .". ورُوي من وجه آخر مرفوعا. أخرجه أحمد 23/ 182 (14911) من طريق حماد، عن مطر، عن رجل - أحسبه الحسن - عن جابر. وأخرجه البيهقي 8/ 54 من طريق ابن أبي عروبة، عن مطر، عن الحسن، مرسلا. وينظر ضعفاء العقيلي 4/ 219، ومسند الطيالسي (1872).
قتادةَ في قولَه: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} . قال: هو القتلُ بعدَ أخذِ الديةِ. يقولُ: مَن قتَل بعدَ أن يأخُذَ الديةَ فعليه القتلُ، لَا تُقبَلُ منه الديةُ
(1)
.
حُدِّثت عن عمارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يقولُ: فمن اعتدَى بعد أخذِه الديةَ، فله عذابٌ أليمٌ
(2)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدثنا أبي، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ، قال: كان الرجلُ إذا قتلَ قتيلًا في الجاهليةِ فرَّ إلى قومِه، فيجئُ قومُه فيصالحون عنه بالديةِ. قال: فيخرُجُ الفارُّ وقد أمِنَ على نفسِه. قال: فيقتَلُ ثم يُرْمَى إليه بالديةِ، فذلك الاعتداءُ
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا مُسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا أبو عَقيلٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ في هذه الآيةِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . قال: القاتلُ إذا طُلِب فلم يُقدَرْ عليه، وأُخِذ من أوليائِه الديةُ، ثم أَمِن، فأُخِذ فقُتِل. قال الحسنُ: ما أكَل عُدوانٌ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا هارونُ بنُ سلمانَ
(4)
، قال: قلت لعكرمةَ: مَن قتَل بعد أخذِه الديةَ؟ قال: إذن يُقتلَ، أما سمِعتَ اللهَ يقولُ:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(5)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 67.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 297 عقب الأثر (1590) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 173 إلى المصنف ووكيع وعبد بن حميد.
(4)
في النسخ: "سليمان". والمثبت من تهذيب الكمال 30/ 92.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 461 وابن حزم في المحلى 2/ 265 من طريق القاسم به.
حدَّثني موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} : بعد ما يأخُذُ الديةَ، فيَقْتُلُ {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} . يقولُ: فمن اعتدى بعدَ أخذِه الديةَ، فله عذابٌ أليمٌ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: أخَذَ العقلَ، ثم قتَل بعدَ أن أخَذ العقلَ قاتلَ قتيلِه، فله عذابٌ أليمٌ.
واخْتَلفوا في معنى "العذاب الأليم" الذي جعَله اللهُ لمن اعْتَدى بعد أخذِه الديةَ من قاتلِ وليِّه؛ فقال بعضُهم: ذلك العذابُ هو القتلُ، بمَن
(3)
قتَله بعدَ أخذِه الديةَ منه وعفوِه عن القِصاصِ منه بدمِ وليِّه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ الدَّوْرَقيُّ، قال: حدثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضحَّاكِ في قولِه:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: يُقتلُ، وهو العذابُ الأليمُ. يقولُ: العذابُ المُوجِعُ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدثني هشيمٌ، قال: حدثنا أبو إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 297 عقب الأثر (1590) من طريق عمرو به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 297 (1590) من طريق مجاهد، عن ابن عباس.
(3)
في الأصل: "فمن".
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 297 عقب الأثر (1592) معلقًا.
جُبيرٍ أنه قال ذلك
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا القاسمُ، قال: حدثنا هارونُ بنُ سلمانَ
(2)
، عن عكرمةَ:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: القتلُ
(3)
.
وقال بعضُهم: ذلك العذابُ عقوبةٌ يعاقبُه بها السلطانُ على قدرِ ما يرى من عقوبتِه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: أخبرني إسماعيلُ بنُ أميةَ، عن الثَّبَتِ
(4)
- غيرَ أنه لم ينسِبْه، وقال: ثقةٌ - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْجب بقَسَمٍ أو غيرِه ألا يُعفَى عن رجلٍ عفا عن الدَّمِ، وأخذَ الديةَ، ثم عدَا فقتَل.
قال ابنُ جُريجٍ: وأخبرني عبدُ العزيزِ بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، قال: في كتابٍ لعمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "والاعتداءُ الذي ذكَر اللهُ أن الرجلَ يأخُذُ العقلَ، أو يقتصُّ، أو يقضي السلطانُ فيما بينَ الجرحِ، ثم يعتدي بعضُهم من بعدِ أن يستوعبَ حقَّه، فمن فعَل ذلك فقد اعتدَى، والحكمُ فيه إلى السلطانِ بالذي يرَى فيه من العقوبةِ. قال: ولو عفَا عنه لم يكنْ لأحدٍ من طلبةِ الحقِّ أن يَعْفُوَ
(5)
،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 297 (1592) من طريق عطاء بن دينار، عن سعيد.
(2)
في النسخ: "سليمان".
(3)
تقدم تخريجه في ص 116.
(4)
في م، ت 1:"الليث".
(5)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:"يقتل".
إنَّ
(1)
هذا من الأمرِ الذي أنزَل اللهُ فيه قولَه: فإن اختَلَفتم
(2)
في شيْءٍ فردُّوه إلى اللهِ وإلى
(3)
الرسولِ وإلى أُولي الأمرِ منكم".
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدثنا عبدُ الواحدِ بنُ زيادٍ، عن يونسَ، عن الحسنِ، في رجلٍ قَتَل فأُخِذتْ منه الديةُ، ثم إن وَليَّه قتلَ به القاتلَ؟ قال الحسنُ: تُؤخذُ منه الديةُ التي أخَذ ولا يُقتلُ به
(4)
.
وأولى التأويلين بقولِه: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . تأويلُ مَن قال: فمن اعتدَى بعدَ أخذِه الديةَ، فقتَل قاتلَ وليِّه، فله عذابٌ أليمٌ في عاجلِ الدنيا، وهو القتلُ؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه جعَل لوليِّ كلِّ قتيلٍ ظُلمًا السلطانَ على قاتلِ وَليِّه، فقال:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهلِ العلمِ مُجمعين على أن مَن قتَل قاتلَ وليِّه بعدَ عفوِه عنه، وأخذِه منه ديةَ قتيلِه، أنه بقتلِه إيَّاه له ظالمٌ في قتلِه - كان بيِّنًا أن
(5)
يُولَّى من قتَله ظلمًا كذلك السلطانَ عليه في القصاصِ والعفوِ وأخذِ الديةِ، أيَّ ذلك شاء. وإذا كان ذلك كذلك كان معلومًا أن ذلك عذابُه، لأن من أُقيم عليه حدُّه في الدنيا كان ذلك عقوبتَه مِن ذنبِه، ولم يكنْ به مُتَّبعًا في الآخرةِ، على ما قد ثبَت به الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
في م: "لأن".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تنازعتم".
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 462، وابن حزم في المحلى 12/ 265 من طريق يونس به نحوه.
(5)
بعده في م: "لا".
(6)
أخرجه البخاري (3892)، ومسلم (1709)، وغيرها من حديث عبادة. وينظر مسند الطيالسي (580).
وأما ما قاله ابنُ جُريجٍ، من أن حكمَ من قتَل قاتلَ وَليِّه بعدَ عفوِه عنه، وأخذِه ديةَ وليِّه المقتولِ، إلى الإمامِ دونَ أولياءِ المقتولِ - فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتابِ اللهِ، وأَجْمع عليه علماءُ الأمةِ، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه جعَل لوليِّ كُلِّ مقتولٍ ظلمًا السلطانَ دونَ غيرِه، مِن غيرِ أن يخصَّ من ذلك قتيلًا دونَ قتيلٍ، فسواءٌ كان ذلكَ قتيلَ وليِّ مَن قتَله أو غيرَه، ومن خصَّ من ذلك شيئًا سُئِل البرهانَ عليه من أصلٍ أو نظيرٍ، وعُكِس عليه القولُ فيه، ثم لن يقولَ في شيْءٍ من ذلك قولًا إلَّا أُلزِم في الآخَرِ مثلَه. ثم في إجماعِ الحجةِ على خلافِ ما قال في ذلك مُكتفًى من
(1)
الاستشهادِ على فسادِه بغيرِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} .
يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} : ولكم يا أُولي العقولِ فيما فرَضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضِكم على بعضٍ، من القِصاصِ في النفوسِ والجراحِ والشِّجاجِ، ما مَنع
(2)
بعضَكم مِن قتلِ بعضٍ، [ووزَع]
(3)
بعضَكم عن بعضٍ، فحَيِيتم بذلك، فكان لكم في حكمِي بينَكم بذلك حياةٌ.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك، فقال بعضُهم في ذلك نحوَ الذي قلنا فيه. ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا
(1)
في م: "في"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"على".
(2)
بعده في م، ت 3:"به".
(3)
في م: "قدع"، وفي ت 1، ت 3:"ويدع"، وفي ت 2:"وفدع". ووزع وقدع بمعنى: كف.
عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} . قال: نَكالٌ، تَناهٍ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن ورقاءَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . قال: نَكالٌ، تَناهٍ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} : جعَل اللهُ هذا القِصاصَ حياةً ونكالًا وعظةً لأهل السَّفهِ والجهلِ من الناسِ، وكم من رجلٍ قد همَّ بداهيةٍ لولَا مخافةُ القِصاصِ لوقَع بها، ولكنَّ اللهَ حجَز بالقِصاصِ بعضَهم عن بعضٍ، وما أمَر اللهُ بأمرٍ قطُّ إلَّا وهو أمرُ صلاحٍ في الدنيا والآخرةِ، ولا نهَى اللهُ عن أمرٍ إلَّا وهو أمرُ فسادٍ في الدنيا والدِّينِ، واللهُ كان أعلمَ بالذي يُصلِحُ خلْقَه
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرَّزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . قال: جعَل اللهُ في القِصاصِ حياةً، إذا ذكَره الظالمُ المعتدي
(3)
كفَّ عن القتلِ
(4)
.
حُدِّثت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية. يقولُ: جعَل اللهُ هذا القِصاصَ حياةً
(1)
تفسير مجاهد ص 220.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 173 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المتعدي".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 68.
وعبرةً لكم، كم من رجلٍ قد همَّ بداهيةٍ فمنَعه مخافةُ القصاصِ أن يقعَ بها، وإنَّ اللهَ قد حجَز عبادَه بعضَهم عن بعضٍ بالقِصاصِ
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . قال: نكالٌ، تَناهٍ. قال ابنُ جُريجٍ: حياةٌ، مَنعةٌ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . قال: حياةٌ، تَقيَّةٌ
(2)
، إذا خافَ هذا أن يُقتلَ بي، كَفَّ عنِّي، لعله يكونُ عدوًّا لي يريدُ قتلِي، فيتذكرُ أنه يُقتلُ بالقصاصِ، فخشِي أنْ يُقتَلَ بِي، وكفَّ بالقِصاصِ الذي خاف أن يُقتلَ، لولا ذلك قتَل هذا.
حُدِّثت عن يعلَى بنِ عُبيدٍ، قال: حدثنا إسماعيلُ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . قال: بقاءٌ
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاصِ من القاتِل بقاءٌ لغيرِه؛ لأنه لا يُقتلُ بالمقتولِ غيرُ قاتلِه في حكمِ اللهِ، وكانوا في الجاهليةِ يقتُلون بالأنثى الذكورَ
(4)
، وبالعبدِ الحرَّ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: حدثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدثنا أسباطُ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 297 عقب الأثر (1594) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
في م: "بقية".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 298 (1595) من طريق يعلى به.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذكر".
السُّدِّيِّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . يقولُ: بقاءٌ، لا يُقتلُ إلا القاتلُ بجنايتِه
(1)
.
وأما تأويلُ قوله: {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} . فإنه: يا أولي العقولِ. والألبابُ جمعُ اللُّبِّ، واللبُّ العقلُ. وخصَّ اللهُ جلَّ ثناؤُه بالخطابِ أهلَ العقولِ؛ لأنهم هم الذين يعقِلون عن اللهِ أمرَه ونهيَه، ويتدبَّرون آياته وحُججَه دونَ غيرِهم.
وتأويلُ قولِه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . أي: تتقون القِصاصَ فتنتهون عن القتلِ.
كما حدثني به يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال: لعلك تتَّقي أن تقتُلَه فتُقتلَ به
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} .
يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} : فُرِض عليكم أيها المؤمنون الوصيةُ، {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} والخيرُ المالُ، {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الذين لا يرِثونه، {بِالْمَعْرُوفِ} ، وهو ما أذِن اللهُ فيه وأجازه في الوصيةِ، مما لم يجاوزِ الثلثَ، ولم يتعمَّدِ الموصِي ظلمَ ورَثتِه {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني بذلك: فَرَض عليكم هذا وأوجَبه، وجعَله حقًّا واجِبًّا على من اتقى اللهَ فأطاعَه أن يعمَلَ به.
فإن قال قائلٌ: أَوَ فرضٌ على الرجلِ ذِي المالِ أن يوصِيَ لوالديه وأقربيه الذين لا يرِثونه؟ قيل: نعم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 298 عقب الأثر (1595) من طريق عمرو بن حمادٍ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور ص 40 (مخطوط) إلى المصنف.
فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوصِ لهم، أيكونُ مُضيِّعًا فرضًا يَحرَجُ بتضييعه؟ قيل: نعَم.
فإن قال: وما الدلالةُ على ذلك؟
قيل: قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . فأَعْلَمنا أنه قد كتَبه علينا وفرَضه، كما قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} . فلا خلافَ بين الجميعِ أن تاركَ الصيامِ وهو عليه قادرٌ، مُضيِّعٌ بتركِه فرضًا للهِ عليه، فكذلك هو بتركِ الوصيةِ لوالديه وأقربيه وله ما يُوصى لهم فيه، مُضيِّعًا فرضًا للهِ.
فإن قال قائلٌ
(1)
: قد علِمتَ أن جماعةً من أهلِ العلمِ قالوا: الوَصِيَّةُ للوالِدَين والأقربين منسوخةٌ بآيةِ الميراثِ؟
قيل له: وخالَفهم جماعةٌ غيرُهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ. وإذْ كان في نسخِ ذلك تنازعٌ بيَنَ أهلِ العلمِ، لم يَكُنْ لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحُجَّةٍ يَجِبُ التسليمُ لها؛ إذ كان غيرَ مستحيلٍ اجتماعُ حكمِ هذه الآيةِ وحكمِ آيةِ المواريثِ في حالٍ واحدةٍ على صحة، بغيرِ مدافعةِ حكمِ إحداهما حكمَ الأخرى - وكان الناسخُ والمنسوخُ هما المعنيَانِ اللَّذان لا يجوزُ اجتماعُ حكمِهما على صحةٍ في حالٍ واحدةٍ، لنفْي أحدِهما صاحبَه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعةٌ من المتقدِّمين والمتأخِّرين.
(1)
في م: "فإنك".
ذِكرُ بعضِ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا هُشيمٌ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ أنه كان يقولُ: من مات ولم يُوصِ لذي
(1)
قرابتِه، فقد ختَم عملَه بمعصيةٍ
(2)
.
حدَّثني سَلْمُ بنُ جُنادةَ السُّوائيُّ، قال: حدثنا أبو معاويةَ، عن الأعمش، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، أنه حضَر رجلًا يُوصِي
(3)
بأشياءَ لا تنبَغي، فقال له مسروقٌ: إن اللهَ قد قسَم بينكم فأحسنَ القَسْمَ، وإنه مَن يرغَبْ برأيِه عن رأي اللهِ يَضِلّ
(4)
، أوصِ لذي قرابتِك ممن لا يرِثُك، ثم دَعِ المالَ على ما قسَمه اللهُ عليه
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا أبو تُميلةَ يحيى بنُ واضِحٍ، قال: حدثنا عُبيدٌ، عن الضحاكِ، قال: لا تجوزُ وصيةٌ لوارثٍ، ولا يُوصِي إلُّا لذِي قرابةٍ، فإن أوصَى لغير ذِي قرابةٍ فقد عمِل بمعصيةٍ، إلَّا أن لا يكونَ قرابةٌ، فيوصِيَ لفقراءِ المسلمين.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، قال: العجَبُ لأبي العاليةِ؛ أَعْتقتْه امرأةٌ من بني رِياحٍ، وأوصَى بماله لبني هاشمٍ
(6)
!
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن رجلٍ، عن الشَّعبيِّ، قال: لم يكنْ
(1)
في م: "لذوي".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (356) عن هشيم به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فوصى".
(4)
في م: "يضله".
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (361)، وابن حزم في المحلى 10/ 422 من طريق أبي معاوية به. وأخرجه سعيد بن منصور (360، 362) من طريق الأعمش به.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 198 عن جرير به نحوه.
له ذاك
(1)
؛ ولا كرامةَ
(2)
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: أخبرنا أيوبُ، عن محمدٍ، قال: قال [عبيدُ اللهِ بنُ عبيدِ اللهِ]
(3)
بنِ معمرٍ في الوصيةِ: من سمَّى جعَلناها حيث سَمَّى، ومن قال: حيثُ أمَر اللهُ. جعَلناها في قرابتِه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى الصَّنعانيُّ، قال: حدثنا المعتمرُ، قال: حدثنا عِمرانُ بنُ حُديرٍ
(5)
، قال: قلت لأبي مجْلَزٍ: الوصيةُ على كلِّ مسلمٍ
(6)
؟ قال: على من ترَك خيرًا
(7)
.
حدَّثنا سَوّارُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: حدثنا عبدُ الملكِ بنُ الصَّبَّاحِ، قال: حدثنا عِمرانُ بنُ حُديرٍ (5)، قال: قلتُ للاحِقِ بنِ حُميدٍ: الوصيةُ
(8)
على كلِّ مسلمٍ؟ قال: هي حقٌّ على من ترَك خيرًا.
واخْتَلف أهلُ العلمِ في حكمِ هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: لم ينسخِ اللهُ شيئًا من حكمِها، وإنما هي آيةٌ ظاهرُها ظاهرُ عمومٍ في كلِّ والدٍ ووالدةٍ وقريبٍ، والمرادُ بها في الحكمِ البعضُ منهم دونَ الجميعِ، وهو مَن لا يرثُ منهم الميتَ دونَ من يرثُ.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حال".
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 2/ 264.
(3)
في م: "عبد الله". وينظر التاريخ الكبير 5/ 398، 399، وتعجيل المنفعة 1/ 846.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 163، ووكيع في أخبار القضاة 1/ 303 من طريق ابن علية به. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (16430) من طريق أيوب به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (354)، ووكيع من طريق ابن سيرين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى عبد بن حميد.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جرير". وينظر تهذيب الكمال 22/ 314.
(6)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"واجبة".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى عبد بن حميد.
(8)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حق".
وذلك قولُ من ذكَرتُ قولَه، وقولُ جماعةٍ أُخَرَ غيرِهم معهم.
ذِكرُ قولِ من لم نذكُرْ قولَه منهم في ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: حدثني أبي، عن قتادةَ، عن جابرِ بنِ زيدٍ، في رجلٍ أوصَى لغيرِ ذِي قرابةٍ، وله قرابةٌ محتاجون، قال: يُرَدُّ ثُلثَا
(1)
الثُّلثِ عليهم، وثلثُ
(2)
الثلثِ لمن أوصَى له به.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدثنا معاذٌ، قال: حدثنا أبي، عن قتادةَ، عن الحسنِ وجابرِ بن زيدٍ وعبدِ الملكِ بنِ يعلى، أنهم قالوا في الرجلِ يُوصِي لغير ذِي قرابتِه، وله قرابةٌ ممن لا يرثُه، قال: كانوا يجعَلون ثلثي الثلثِ لذوي القرابةِ، وثلثَ الثلثِ لمن أوصَى له به
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا حُميدٌ، عن الحسنِ أنه كان يقولُ: إذا أوصَى الرجلُ لغير ذِي قرابتِه بثلثِه، فلهم ثلثُ الثُّلثِ، وثُلثَا الثلثِ لقرابتِه
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قال: من أوصَى لقومٍ وسمَّاهم وترَك ذوِي قرابتِه مُحتاجينَ،
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"ثلث". وينظر الأثر الآتي، والمغني 8/ 395.
(2)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"ثلثا".
(3)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 20 من طريق معاذ به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (355)، (254 - تفسير)، والبيهقي 6/ 265 من طريق هشيم به، وأخرجه سعيد بن منصور (254 - تفسير، وابن أبي شيبة 11/ 165 من طريق حميد به. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (16433) عن معمر، عن قتادة، عن الحسن.
انتُزِعتْ منهم ورُدَّت إلى ذَوِي قرابتِه
(1)
وقال آخرون: بل هي آيةٌ قد كان الحكمُ بها وجَب، وعُمِل به بُرهةً، ثم نسَخ اللهُ منها بآيةِ المواريثِ الوصيةَ لوَالدَي الموُصِي وأقربائهِ الذين يرِثُونه، وأقرَّ فرضَ الوصيةِ لمن كان منهم لا يرِثُه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : فجُعلت الوصيةُ للوالدين والأقربين، ثم نُسِخ ذلك بعدَ ذلك، فجُعِل لهما نصيبٌ مفروضٌ، فصارت الوصيةُ لذوي القرابةِ الذين لا يَرِثون، وجُعِل للوالدين نصيبٌ معلومٌ، فلا تجوزُ وصيةٌ لوارِثٍ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: نُسِخ الوالدان منها، وتُرِك الأقربون ممن لا يرِثُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} .
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (16426) عن معمر به. وأخرجه عبد الرزاق (16427)، وابن أبي شيبة 11/ 166 من طريق ابن جريج، عن ابن طاوس به.
(2)
أخرجه ابن الجوزي في ناسخه ص 165 من طريق سعيد به، وأخرجه الدارمي 2/ 419، وابن الجوزي ص 164 من طريق همام، عن قتادة نحوه.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 68.
قال: نسَخ من يرثُ، ولم ينسَخِ الأقربين الذين لا يرثون
(1)
.
حدَّثنا بحرُ
(2)
بنُ نصرٍ، قال: حدثنا يحيى بنُ حسانَ، قال: حدثنا سفيانُ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قال: كانت الوصيةُ قبلَ الميراثِ للوالدَين والأقربين، فلما نزَل الميراثُ، نسَخَ الميراثُ مَن يَرِثُ، وبَقِيَ مَن لا يرثُ، فمن أوصى [لذي قرابتِه لم تجُزْ وصيتُه]
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: حدثنا ابنُ المباركِ، عن إسماعيلَ المكِّيِّ، عن الحسنِ في قولِه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: نسَخ الوالدَين، وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون ولا يرثون
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن المباركِ بنِ فَضَالةَ، عن الحسنِ في هذه الآيةِ:{الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: للوالدَينِ منسوخةٌ، والوصيةُ للقرابةِ وإن كانوا أغنياءَ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباس قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : فكان لا يرِثُ مع الوالدَين غيرُهم، إلا وصيةً، إن كان، للأقربين، فأَنْزل اللهُ بعدَ هذا: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 175 إلى المصنف. وينظر نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 164.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"يحيى". وسيأتي على الصواب في ص 516، وينظر تهذيب الكمال 4/ 16.
(3)
في المصادر: لغير ذي قرابة، لم تجز وصيته، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجوز لوارث وصية". وينظر نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 163. والأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه (358)، (253 - تفسير) - ومن طريقه البيهقي 6/ 265 - عن سفيان به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (378)، (247 - تفسير) - ومن طريقه البيهقي 5/ 265 - وابن الجوزي في ناسخه ص 164 من طريقين عن الحسن نحوه.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11]. فبيَّنَ اللهُ سبحانَه ميراثَ الوالدَين، وأقرَّ وصيةَ الأقربين في ثلثِ مالِ الميتِ
(1)
.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . فنسَخ من الوصيةِ الوالدَين، فجعَل لهما الميراثَ، وأثبتَ الوصيةَ للأقربينَ الذين لا يرِثون.
وحُدِّثت عن عمارٍ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: كان هذا من قبلِ أن تَنْزِلَ سورةُ "النساء"، فلمَّا نزَلتْ آيةُ الميراثِ نسَخ شأنَ الوالدين، فألْحَقهما بأهلِ الميراثِ، وصارت الوصيةُ لأهلِ القرابةِ الذين لا يرِثون
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ بنُ المنِهالِ، قال: حدثنا حمادُ بنُ سلَمةَ، قال: أخبَرنا عطاءُ بنُ أبي ميمونةَ، قال: سألتُ مُسلمَ بنَ يسارٍ والعلاءَ بنَ زيادٍ عن قولِ اللهِ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قالَا: في القرابةِ
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا الحجاجُ، قال: حدثنا حمادٌ، عن إياسِ بنِ معاويةَ، قال: في القرابةِ
(4)
.
وقال آخرون: بل نُسِخ ذلك كلُّه بآيةِ الفرائضِ والمواريثِ، فلَا وصيةَ تجبُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174، 175 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 300 عقب الأثر (1605) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 166، وابن الجوزي في ناسخه ص 163، 164 من طريق حماد به.
(4)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة 1/ 333 من طريق حجاج به.
لأحدٍ على أحدٍ قريبٍ ولا بعيدٍ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال: ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية. قال: فنسَخ اللهُ ذلك كلَّه، وفرَض الفرائضَ.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا ابنُ عُلَيةَ، عن يونسَ، عن ابنِ سيرينَ، عن ابنِ عباسٍ أنه قام فخطَب الناسَ ههُنا، فقرأ عليهم سورةَ "البقرةِ" يبيِّنُ لهم منها، فأتى على هذه الآيةِ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . فقال: نُسِخت هذه
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبي، قال: حدثنى عمى، قال: حدثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : نسَخت الفرائضُ التى للوالدين والأقربين الوصيةَ
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، قال: حدثنا سفيانُ، عن جَهْضَمٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ بدرٍ، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقولُ في قولِه: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: نسَختها آيةُ
(1)
أخرجه البيهقى 7/ 427، 428 من طريق يعقوب به. وأخرجه الحاكم 2/ 273، والبيهقى 6/ 265 من طريق ابن علية به. وأخرجه سعيد ابن منصور فى سننه (252 - تفسير) عن هشيم عن يونس به. وأخرجه عبد بن حميد، كما في الدر المنثور 1/ 174 - ومن طريقه ابن الجوزى في ناسخه ص 161 - من طريق ابن عون عن ابن سيرين به. وعزاه السيوطي إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن سيرين لم يسمع من ابن عباس. وينظر الفتح 9/ 545، 546.
(2)
أخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 159، 160 من طريق محمد بن سعد به.
الميراثِ
(1)
. قال ابنُ بشارٍ: قال عبدُ الرحمنِ: فسألتُ جَهْضمًا عنه فلم يحفَظْه.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: حدثنا الحسينُ بن واقدٍ، عن يزيدَ النحويِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصرىِّ، قالا:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : فكانت الوصية كذلك حتى نسَختها آيةُ الميراثِ
(2)
.
حدَّثنى أحمدُ بنُ المقدامِ، قال: حدثنا المعتمرُ، قال: سمعتُ أبى، قال: زعَم قتادةُ عن شُريحٍ في هذه الآيةِ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: كان الرجلُ يوصِي بمالِه كلِّه حتى نزَلتْ آياتُ المواريثِ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ المقدامِ، قال: حدثنا المعتمرُ، قال: سمعت أبى، قال: زعَم قتادةُ أنه نَسَختْ آيتا المواريثِ في سورةِ "النساءِ" الآيةَ في سورةِ "البقرةِ" في شأنِ الوصيةِ
(4)
.
حدَّثنى محمدُ بن عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: كان الميراثُ للولدِ، والوصيةُ للوالدين والأقربين، وهى منسوخةٌ
(5)
.
(1)
أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 175 - ومن طريقه ابن أبي شيبة 11/ 209، والبيهقي 6/ 265 عن سفيان به. وأخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 162 من طريق جهضم به. وعزاه السيوطى إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 162 من طريق أشعث، عن الحسن.
وأخرجه أبو داود (2869)، والبيهقى 6/ 265، وابن الجوزى ص 161 من طريق الحسين بن واقد عن يزيد النحوى عن عكرمة عن ابن عباس.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 175 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 عقب الأثر (1604) معلقًا.
(5)
تفسير مجاهد ص 220، ومن طريقه ابن الجوزى في ناسخه ص 162، 163، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 175 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان الميراثُ للولدِ، والوصيةُ للوالدينِ والأقربين، وهى منسوخةٌ، نسَختها آيةٌ في سورةِ "النساءِ":{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} : أما "الوالدين والأقربين" فيومَ نزَلتْ هذه الآيةُ كان الناسُ ليس لهم ميراثٌ معلومٌ، إنما يُوصِى الرجلُ لوالدِه ولأهلِه فيُقْسَمُ بينَهم، حتى نسَخَتْها "النساءُ"، فقال:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}
(1)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: حدثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: أخبرنا أيوبُ، عن نافعٍ، أن ابنَ عُمرَ لم يُوصِ، وقال: أمَّا مالى، فاللهُ أعلمُ ما كنتُ أصنَعُ فيه في الحياةِ، وأمَّا رِباعِى
(2)
، فما أُحبُّ أن يَشْرَكَ ولدى فيها أحدٌ.
حدَّثنا محمدُ بنُ خلفٍ العَسْقلانيُّ، قال: حدثنا محمدُ بنُ يوسفَ، قال سفيانُ: عن نُسيرِ
(3)
بنِ ذُعْلوقٍ، قال: قال عَزْرةُ
(4)
-يعنى ابنَ ثابتٍ- لربيعِ بنِ خُثَيمٍ
(5)
: أوْصِ لي بمصحفِك. قال: فنظَر إلى ابنِه
(6)
فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(7)
[الأنفال: 75، الأحزاب: 6].
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 عقب الأثر (1604) من طريق عمرو به.
(2)
الرباع، جمع الربع: الدار بعينها حيث كانت. التاج (ر ب ع).
(3)
في الأصل: "يسير"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"بشر". وينظر تهذيب الكمال 29/ 339.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عروة". وينظر تهذيب الكمال 20/ 49.
(5)
في م: "خيثم".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبيه".
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 228 عن ابن مهدى عن سفيان به.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: حدثنا زيدٌ
(1)
، عن سفيانَ، عن الحسنِ بنِ [عبيدِ اللهِ]
(2)
، عن إبراهيمَ، قال: ذكَرنا له أن زبيرًا
(3)
وطلحةَ كانا يُشدِّدان في الوصيةِ، فقال: ما كان عليهما أن لا
(4)
يفعَلا، مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ، وأوصى أبو بكرٍ، أىَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا الثورىُّ، عن الحسنِ
(5)
بنِ [عُبيدِ اللهِ](2) عن إبراهيمَ، قال: ذُكِر عنده طلحةُ وزبيرٌ (3). فذكَر مثلَه
(6)
.
وأما "الخيرُ" الذى إذا ترَكه التاركُ وجَبت عليه الوصيةُ فيه لوالديه، أقربيه الذين لا يرِثونه، فهو المالُ.
كما حدثنى المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، عن معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} : يعنى مالًا
(7)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} : مالًا
(8)
.
(1)
في م: "يزيد". وينظر تهذيب الكمال 10/ 70.
(2)
في م، ت 1، ت 3:"عبد الله". وينظر تهذيب الكمال 6/ 199.
(3)
في م: "زيد".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 3.
(5)
في الأصل: "الحسين".
(6)
تفسير عبد الرزاق 1/ 68، 69.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 (1600) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى ابن المنذر.
(8)
تفسير مجاهد ص 220.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا [أبو حذيفةَ]
(1)
، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . كان يقولُ: الخيرُ في القرآنِ كلِّه مالٌ؛ {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. الخيرُ المالُ. و {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] المالُ، {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. المالُ، و {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}: مالًا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} . أى: مالًا
(3)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عَمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} : أما {خَيْرًا} فالمالُ
(4)
.
حُدِّتْت عن عمارٍ، قال: حدثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . قال: إن ترَك مالًا
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . قال: الخيرُ المالُ
(6)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سويدٌ، قال: أخبرنى ابنُ المباركِ، عن الحسنِ بنِ يحيى، عن الضحاكِ في قولِه:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} . قال: المالُ، ألا ترى أنه
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبو جعفر".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى المصنف.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 عقب الأثر (1600) معلقًا.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 عقب الأثر (1600) عن أبي زرعة، عن عمرو بن حماد به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 عقب الأثر (1600) من طريق ابن أبي جعفر به.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى المصنف.
يقولُ: قال شعيبٌ لقومِه: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود:84]. يعنى: الغِنى
(1)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرنى محمدُ بنُ عَمرٍو اليافِعيُّ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . قال عطاءٌ: الخيرُ فيما يُرى
(2)
المالُ (1).
ثم اخْتَلفوا في مبلغِ المالِ الذى إذا ترَكه الرجلُ كان ممن لزِمه حكمُ هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: ذلك ألفُ درهمٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: حدثنا همامُ بنُ يحيى، عن قتادةَ في هذه الآيةِ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} . قال: الخيرُ ألفٌ فما فوقَه
(3)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا الحجاجُ، قال: حدثنا حمادٌ، قال: أخبرنا هشامُ ابنُ عروةَ، عن عروةَ، أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ دخَل على ابنِ عمٍّ له يعودُه، فقال: إنى أريدُ أن أُوصِىَ؟ فقال عليٌّ: لا توصِ؛ فإنك لم تترُكْ خيرًا فتوصِىَ. قال: وكان ترَك مِن السَّبعِمائة إلى التسعِمائة
(4)
.
حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: حدثنى عثمانُ بنُ الحكمِ الجُذامىُّ
(5)
وابنُ أبي الزِّنادِ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن علىِّ بنِ أبي
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 عقب الأثر (1600) معلقًا.
(2)
في الأصل: "ترى".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 299 (1603) من طريق همام به.
وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 208 من طريق خثيم، عن قتادة.
(4)
أخرجه الدارمى 2/ 405 من طريق حماد به. وعروة لم يسمع من على.
(5)
في م: "الحزامى"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"الحزمى". وينظر تهذيب الكمال 19/ 352.
طالبٍ، أنه دخَل على رجلٍ مريضٍ، فذكَر له الوصيةَ؟ فقال: لا توصِ، إنما قال اللهُ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . وأنت لم تترُكْ شيئًا
(1)
. قال ابنُ أبى الزِّنادِ فيه: فدعْ مالَك لبنيك
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدثنا سفيانُ، عن منصورِ ابنِ صفيَّةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ [عتبةَ أو غَنيَّةَ]
(3)
-الشكُّ منى- أن رجلًا أرادَ أن يُوصِىَ وله ولدٌ كثيرٌ، وترَك أربَعَمائةِ دينارٍ، فقالتْ عائشةُ: ما أرَى فيه فضلًا
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، قال: دخل علىٌّ على مولًى لَهم في الموتِ، وله سبعُمائةِ درهمٍ أو ستُّمائةِ درهمٍ، فقال: ألَا أُوصِى؟ فقال: لَا، إنما قال اللهُ:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . وليس لك كثيرُ مالٍ
(5)
.
وقال بعضُهم: ذلك ما بينَ الخَمسِمائة الدرهمِ إلى الألفِ.
(1)
في م: "خيرًا".
(2)
أخرجه سفيان في تفسيره ص 55، 56، وعبد الرزاق في مصنفه (16352)، وابن أبى شيبة 11/ 208، وسعيد بن منصور في سننه (251 - تفسير) والدارمى 2/ 405، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 298 (1599)، والحاكم 2/ 273، 274، والبيهقى 6/ 270 من طرق عن هشام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 174 إلى الفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبى بقوله: فيه انقطاع.
(3)
في م، ت 3:"عيينة أو عتبة"، وفى ت 1:"عتيبة أو عتبة"، وفى ت 2:"عتبة أو عتبة".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (16354) عن الثورى، عن منصور، عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة، وخالف ابنُ جريج الثورىَّ فرواه عن منصور، عن أمه، عن عائشة، أخرجه عبد الرزاق (16355) عن ابن جريج به. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (248 - تفسير) وابن أبى شيبة 11/ 208، والبيهقى 6/ 270 من طريق أبى معاوية، عن محمد بن شريك، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 68، ومصنفه (16351).
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، [عن أبانٍ، عن إبراهيمَ النَّخَعىِّ]
(1)
في قولِه: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . قال: ألفُ درهمٍ إلى خَمسِمائة درهمٍ
(2)
.
وقال بعضُهم: الوصيةُ واجبةٌ من قليلِ المالِ وكثيرِه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزُّهرىِّ، قال: جعَل اللهُ الوصيةَ حقًّا، مما قلَّ منه وممَّا كثُر
(3)
.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ قولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} . ما قال الزُّهرىُّ؛ لأنَّ قليلَ المالِ وكثيرَه يقعُ عليه اسمُ
(4)
"خيرٍ"، ولم يحُدَّ اللهُ ذلك بحدٍّ، ولا خصَّ شيئًا فيجوزَ أن يُحالَ ظاهرٌ إلى باطنٍ، فكلُّ مَن حضَرتْه منيَّتُه وعندَه مالٌ، قلَّ أو كثُرَ، فواجبٌ عليه أن يُوصِىَ منه لمن لا يرِثُه من آبائِه وأمهاتِه وأقربائِه الذين لا يرِثونَه، بالمعروفِ، كما قال اللهُ جلَّ ثناؤُه وأمَرَ به.
القولُ في تأويلِ قولِهِ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} .
(1)
في م: "عن قتادة عن أبان بن إبراهيم النخعى".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 69. وأبان هو ابن أبى عياش، متروك.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 68.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
يقولُ جلَّ ثناؤُه: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِى من وصيَّتِه بالمعروفِ لوالديه أو أقربيهِ الذين لا يَرثونه بعدَ ما سمِع الوصيةَ، فإنما إثمُ التبديلِ على من بدَّلَ وصيَّتَه.
فإن قال لنا قائلٌ: وعلامَ عادت الهاءُ التى في قولِه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} ؟
قيل: على محذوفٍ من الكلامِ يدلُّ عليه الظاهرُ، وذلك هو أمرُ الميتِ وإيصاؤُه مَن أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.
ومعنى الكلامِ: كُتِب عليكم إذا حضَر أحدَكم الموتُ إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقْرَبين بالمعروفِ حقًّا على المتَّقين، فأوْصُوا لهم، فمن بدَّل ما أَوْصيتُم به لهم بعدَ ما سَمِعكم توصونَ لهم، فإنما إثمُ ما فعَل من ذلك عليه دُونَكم.
وإنما قلنا: إن الهاءَ في قولِه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} عائدةٌ على محذوفٍ من الكلامِ يدلُّ عليه الظاهرُ؛ لأن قولَه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} من قولِ اللهِ، وإنّ تبديلَ المبُدِّلِ إنما يكونُ لوصيةِ الموصِى، فأما أمرُ اللهِ بالوصيةِ فلَا يقدِرُ هو ولا غيرُه أن يُبدِّلَه فيجوزَ أن تكونَ الهاءُ في قولِه:{فَمَنْ بَدَّلَهُ} عائدةً على الوصيةِ.
وأما الهاءُ في قولِه: {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} فعائدةٌ على الهاءِ الأُولى في قولِه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} . وأما الهاءُ التى في قولِه: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} فإنها مَكنىُّ "التبديل"، كأنه قال: فإنما إثمُ ما بدَّلَ من ذلك على الذين يُبدِّلونَه.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى
نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} . قال: الوصيةُ
(1)
.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حدثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قوله:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} : وقد وقَع أجرُ الميِّتِ
(2)
على اللهِ وبرِئَ من إثْمِه، وإن كان أوصَى في ضِرارٍ لم تجُزْ وصيَّتُه، كما قال:{غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} . قال: من بدّلَ الوصيةَ بعدَ ما سمِعها فإثمُ ما بدَّلَ عليه
(4)
.
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} : فمن بدّلَ الوصيةَ التى أوْصَى بها وكانت بمعروفٍ، فإنما إثمُهَا على من بدَّلَها؛ أنه قد ظلَم.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا حجاجُ بنُ مِنهالٍ، قال: ثنا حمادٌ، عن قتادةَ، أن عطاءَ بنَ أبى رباحٍ قال في قولِه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
(1)
تفسير مجاهد ص 220.
(2)
في م، ت 1:"الموصى"، وفى ت 2، ت 3:"الوصى".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 300 (1609) من طريق أبى صالح به مختصرًا. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 175 إلى ابن المنذر.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 69، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 300 (1608) عن الحسن بن يحيى به.
يُبَدِّلُونَهُ}. قال: تُمْضَى
(1)
كما قال.
حدَّثنى سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدثنى أبى، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} . قال: مَن بدَّل وصيَّةً بعدَ ما سمِعها
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حجَّاجٌ، قال: ثنا يزيدُ بنُ إبراهيمَ، عن الحسنِ في هذه الآيةِ:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} . قال: هذا في الوصيةِ، مَن بدَّلها مِن بعدِ ما سمِعها، فإنما إثمُه على مَن بدَّل.
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ وابنُ المُثَنَّى، قالَا: ثنا مُعاذُ بنُ هشامٍ، قال: حدثنى أبى، عن قتادةَ، عن عطاءٍ وسالمِ بنِ عبدِ اللهِ وسليمانَ بنِ يسارٍ، أنهم قالوا: تُمْضَى الوصيَّةُ لمن أوْصَى لَه به. إلى ههنا انتهى حديثُ ابنِ المُثَنَّى، وزادَ ابنُ بشَّارٍ في حديثِه: قال قتادةُ: وقال [عبيدُ اللهِ بنُ عبيدِ اللهِ]
(3)
بنِ مَعْمَرٍ: أعجبُ إلىَّ لو أوْصَى لذوِى القرابةِ، وما يُعْجِبُنى أنْ أنْزِعَه مِمن أوْصَى له به. قال قتادةُ: وأعجبُه إلىَّ لمن أوْصَى له به، قال اللهُ:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: إن اللهَ سميعٌ لوَصيَّتِكم التى أمَرتُكم أن تُوصوا لآبائِكم وأمهاتِكم وأقربائِكم حينَ تُوصُون لهم بها؛ أَتَعْدِلون فيها على ما أذِنتُ لكم مِن فعلِ ذلك بالمعروفِ، أم تَحِيفون فتَمِيلونَ عن الحقِّ وتَجُورون عن القصدِ، عليمٌ بما تُخْفِيه صدورُكم مِن الميلِ إلى الحقِّ والعدلِ، أم إلى الجَوْرِ والحَيْفِ.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يمضى".
(2)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 300 عقب الأثر (1608) معلقا.
(3)
في م: "عبد الله". وتقدم الكلام عليه في ص 126.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: تأويلُها: فمَن حضَر مريضًا وهو يُوصِى عندَ إشرافِه على الموتِ، فخاف أن يُخْطِئَ في وصيَّتِه فيَفْعَلَ ما ليس له، أو أن يَعْمَدَ جورًا فيها، فيَأْمُرَ بما ليس له الأمرُ به، فلا حرجَ على مَن حضَره فسمِع ذلك منه أن يُصْلِحَ بينَه وبينَ ورثتِه، بأن يَأْمُرَه بالعدلِ في وصيَّتِه، وأنْ يَنْهاهم عن منعِه ممَّا أذِن اللهُ له فيه وأباحه له.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: هذا حينَ يُحْضَرُ الرجلُ وهو يموتُ، فإذا أسْرَف أمَروه بالعدلِ، وإذا قصَّر قالوا: افْعَلْ كذا، أعطِ فلانًا كذا
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: هذا حينَ يُحْضَرُ الرجلُ وهو في الموتِ، فإذا أشرفَ على الموتِ أمَروه بالعدلِ، وإذا قصَّر عن حقٍّ قالوا: افْعَلْ كذا، أعطِ فلانًا كذَا.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: فمَن خاف -مِن أوصياءِ ميتٍ، أو والِى أمرِ المسلمين- مِن موصٍ جنفًا في وصيَّتِه التى أوْصَى بها الميتُ، فأصْلَحَ بينَ ورثتِه وبينَ
(1)
تفسير مجاهد ص 220، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 175 إلى عبد بن حميد.
الموصَى لهم بما أوْصَى لهم به، فردَّ الوصيةَ إلى العدلِ والحقِّ، فلا حرَج عليه
(1)
ولا إثمَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: حدثنا أبو صالحٍ كاتبُ الليثِ، قال: حدثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} : يعنى إثمًا، يقولُ: إذا أخطَأ الميتُ في وصيَّتِه، أو حاف فيها، فليس على الأولياءِ حرجٌ أن يرُدُّوا خطأَه إلى الصوابِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: هو الرجلُ يُوصِى فيَجْنَفُ
(3)
في وصيَّتِه، فيَرُدُّها الوالى إلى الحقِّ والعدلِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . وكان قتادةُ يقولُ: مَن أوْصَى بجوْرٍ أو جَنَفٍ
(5)
في وصيَّتِه، فردَّها ولىُّ المتوفَّى إلى كتابِ اللهِ وإلى العدلِ فذاكَ له، أو إمامٌ من أئمةِ المسلمين
(6)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بن سعدٍ وابنُ أبى جعفرٍ، عن أبى جعفرٍ، عن الربيعِ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} فمَن
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 301، 303 (1611، 1619) من طريق أبى صالح به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يحيف".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 69.
(5)
في م، ت 1:"حيف".
(6)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 175 إلى عبد بن حميد.
أوْصَى بوصيَّةٍ بجوْرٍ فردَّه الوصيُّ إلى الحقِّ بعدَ موتِه {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال عبدُ الرحمنِ في حديثهِ: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} . يقولُ: ردَّه الوصىُّ إلى الحقِّ بعدَ موتِه فلا إثمَ عليه
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا قَبيصةُ، عن سفيانَ، عن أبيه، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} . قال: ردَّه إلى الحقِّ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سعيدِ بنِ مسروقٍ، عن إبراهيمَ، قال: سألتُه عن رجلٍ أوْصَى بأكثرَ مِن الثلثِ، قال: ارْدُدْها
(3)
. ثم قرَأ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} .
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا خالدُ بنُ يزيدَ صاحبُ اللؤْلؤِ، قال: ثنا أبو جعفرٍ الرازىُّ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: رَدَّه الوصىُّ إلى الحقِّ بعدَ موتِه فلا إثمَ على الوصيِّ.
وقال بعضُهم: بل معنى ذلك: فمَن خاف من موصٍ جنَفًا أو إثمًا في عطيتِه عندَ حضورِ أجلِه بعضَ ورثتِه دونَ بعضٍ، فلا إثمَ على مَن أصْلَح بينَهم، يعنى: بينَ الورثةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ،
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 303 (1620) من طريق عبد الرحمن بن سعد به.
(2)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 303 عقب الأثر (1619) معلقًا.
(3)
في الأصل: "أردها".
قال: قلتُ لعطاءٍ: قولَه: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: ذاك الرجلُ يَجْنَفُ
(1)
أو يَأْثَمُ عندَ موتِه، فيُعْطِى ورثتَه بعضَهم دونَ بعضٍ، يقولُ اللهُ: فلا إثمَ على المصلحِ بينَهم. فقلتُ لعطاءٍ: أله أن يُعْطِىَ وارثَه عندَ الموتِ، إنما هى وصيةٌ، ولا وصيةَ لوارثٍ؟ قال: ذلك فيما يَقْسِمُ بينَهم.
وقال آخَرون: معنى ذلك: فمَن خافَ مِن موصٍ جنفًا أو إثمًا في وصيَّتِه لمن لا يَرِثُه بما يَرْجِعُ نفعُه على مَن يَرِثُه، فأصْلَح بينَ ورثتِه فلا إثمَ عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: أخبرَنى ابنُ طاوسٍ، عن أبيه أنه كان يقولُ: جنفُه: [تَوْليجُه، وتَوْليجُه]
(2)
: أن يُوصِىَ الرجلُ لبنى ابنِه؛ ليكونَ المالُ إلى أبيهم، وتُوصِىَ المرأةُ لزوجِ ابنتِها؛ ليكونَ المالُ لابنتِها، وذو الوارثِ الكثيرِ والمالُ قليلٌ، فيُوصِى بثلثِ مالِه كلِّه، فيُصْلِحُ بينَهم الوصىُّ
(3)
أو الأميرُ. قلتُ: أفى حياتِه أم بعدَ موتِه؟ قال: ما سمِعْنا أحدًا يقولُ إلا بعدَ موتِه، وإنه ليُوعَظُ عندَ ذلك.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه في قوله:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: هو الرجلُ يُوصِى لولدِ ابنتِه
(4)
.
(1)
في م، ت 1، ت 3:"يحيف".
(2)
في م: "وإثمه".
(3)
في م: "الموصى إليه".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 69، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (257 - تفسير)، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 301 (1613) عن سفيان به.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: فمَن خاف مِن موصٍ لآبائِه وأقربائِه جَنَفًا على بعضِهم لبعضٍ، فأصْلَح بينَ الآباءِ والأقرباءِ، فلا إثمَ عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : أما {جَنَفًا} : فخَطأً في وصيَّتِه؛ وأما {إِثْمًا} : فعمدًا؛ يعْمِدُ في وصيتِه الظلمَ، فإن هذا أعظمُ لأجرِه ألا يُنْفِذَها، ولكن يُصْلِحُ بينهم على ما يَرَى أنه الحقُّ، يَنْقُصُ بعضًا ويَزِيدُ بعضًا. قال: ونزَلت هذه الآيةُ في الوالدينِ والأقربينَ
(1)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولهِ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: الجنَفُ أن يَجْنَفَ
(2)
لبعضِهم على بعضٍ في الوصيةِ، والإثمُ أن يكونَ قد أثِم في أَثَرَتِه
(3)
بعضَهم على بعضٍ، {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} الموُصَى إليه بينَ الوالدين وبينَ
(4)
الابنِ، والبنون هم الأقربون، فلا إثمَ عليه. فهذا الوصيُّ
(5)
الذى أوصِى إليه بذلك، وجُعِل إليه، فرأى هذا قد جنِف
(6)
لهذا على هذا، فأصْلَح بينَهم، فلا إثمَ عليه، فعجَز الموصِى أن يوصِىَ كما أمَره اللهُ، وعجَز الموصَى إليه أن يُصْلِحَ، فانْتَزع اللهُ ذلك منه
(7)
ففرَض الفرائضَ.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 302 عقب الأئر (1615، 1617) من طريق عمرو بن حماد به ببعضه.
(2)
في م: "يحيف".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبويه".
(4)
في م: "الأقربين".
(5)
في م: "الموصَى".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أجنف".
(7)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منهم".
وأوْلى الأقوالِ بتأويل هذه الآيةِ أن يكونَ تأويلُها: فمَن خاف مِن موصٍ [حضَرته الوفاةُ]
(1)
جنفًا أو إثمًا، وهو أن يَمِيلَ إلى غيرِ الحقِّ خطأً منه، أو يَتَعَمَّدَ إثمًا في وصيَّتِه بأنْ يُوصِىَ لوالدَيْه وأقربيه الذين لا يَرِثُونه بأكثرَ مما يَجُوزُ له أن يُوصِىَ لهم به مِن مالِه، وغيرِ ما أذِن اللهُ له به مما جاوَز الثلثَ، أو بالثلثِ كلِّه، وفى المالِ قِلَّةٌ، أو
(2)
في الورثةِ كثرةٌ، فلا بأسَ على مَن حضَره أن يُصْلِحَ بينَ الذين يُوصَى لهم وبينَ ورثةِ الميتِ وبينَ الميتِ، بأن يَأْمُرَ الميِّتَ في ذلك بالمعروفِ، ويُعَرِّفَه ما أباح اللهُ له في ذلك، فأذِن له فيه مِن الوصيةِ في مالِه، وينهاه أن يُجَاوِزَ في وصيتِه المعروفَ الذى قاله جلَّ ثناؤُه في كتابه:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} . وذلك هو الإصلاحُ الذى قال جل ثناؤه: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . وكذلك إن كان في المالِ فضلٌ وكثرةٌ وفى الورثةِ قلَّةٌ فأراد أن يَقْصِرَ في وصيَّتِه لوالدَيْهِ وأقربيه عن ثلثِه، فأصْلَح مَن حضَره بينَه وبينَ ورثتِه، وبينَ والديه وأقربيه الذين يُرِيدُ أن يُوصِىَ لهم، بأن يَأْمُرَ المريضَ أن يَزِيدَ في وصيَّتِه لهم، ويَبْلُغَ بها ما رخَّص اللهُ فيه مِن الثلثِ، فذلك أيضًا هو مِن الإصلاحِ بينَهم بالمعروفِ.
وإنما اختَرْنا هذا القولَ، لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه قال:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . يعنى بذلك: فمَن خاف مِن موصٍ أن يَجْنَفَ أو يَأْثَمَ، فخوفُ الجنفِ والإثمِ مِن الموُصِى إنما هو كائنٌ منه قبلَ وقوعِ الجنفِ والإثمِ، فأمّا بعدَ وجودِه منه فلا وجهَ للخوفِ منه بأن يَجْنَفَ أو يَأْثَمَ، بل تلك حالُ مَن قد جنِف أو أثِم، ولو كان ذلك معناه لقيلَ: فمَن تبيَّن مِن موصٍ جنفًا أو إثْمًا، أو أيْقَن أو علِم،
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"و".
ولم يَقُلْ: فمَن خاف منه جَنفًا.
فإن أشْكَل ما قلنا مِن ذلك على بعضِ الناسِ فقال: فما وجهُ الإصلاحِ حينئذٍ، والإصلاحُ إنما يكونُ بين المختلفين في الشيءِ؟
قيل: إن ذلك -وإن كان مِن معانى الإصلاحِ- فمِن الإصلاحِ بينَ فريقين
(1)
فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلافِ بينَهم فيه بما يُؤْمَنُ معه حدوثُ الاختلافِ؛ لأن الإصلاحَ إنما هو الفعلُ الذى يكونُ معَه صلاحُ ذاتِ البَيْنِ، فسواءٌ كان ذلك الفعلُ الذى يكونُ معه صلاحُ ذاتِ البينِ قبلَ وقوعِ الاختلافِ أو بعدَ وقوعِه.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} . ولم يَجْرِ للورثةِ ولا للمختلفين أو الخوفِ اختلافُهم ذكرٌ؟
قيل: بل قد جرَى ذكرُ الذين أمَر جلَّ ثناؤُه بالوصيَّةِ لهم، وهم والدَا المُوصِى وأقرَبُوه، والذين أُمِروا بالوصيَّةِ في قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} . ثم قال جلَّ ذكرُه: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} . لمن أمَرته بالوصيَّةِ له - {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} وبيْنَ مَن أَمرتُه بالوصيةِ له {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . والإصلاحُ بينَه وبينَهم هو إصلاحٌ بينَهم وبينَ ورثةِ المُوصِى.
وقد قُرِئ قولُه: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} بالتخفيفِ في الصادِ والتسكين في الواوِ
(2)
، و
(3)
بتحريكِ الواوِ وتشديدِ الصادِ
(4)
.
(1)
في م: "الفريقين".
(2)
هى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وحفص. حجة القراءات ص 124.
(3)
سقط من: م.
(4)
قراءة حمزة والكسائى وأبى بكر. المصدر السابق.
فمَن قرَأ ذلكَ بتخفيفِ الصادِ وتسكين الواوِ فإنما قرَأه بلغةِ مَن قال: أوْصَيتُ فلانًا بكذا. ومَن قرَأ بتحريكِ الواوِ وتشديدِ الصادِ قرَأه بلغةِ مَن يقول: وصَّيتُ فلانًا بكذا. وهما لغتان للعربِ مشهورتان: وصَّيتُك. و: أَوْصَيتُك.
وأما الجَنَفُ فهو الجَوْرُ والعدولُ عن الحقِّ، في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعر
(1)
:
همُ المَوْلى
(2)
وقَدْ
(3)
جنِفوا علينا
…
وَإنَّا مِن لقائِهمُ لَزُورُ
(4)
يقالُ منه: جنِف الرجلُ على صاحبِه يَجْنَفُ، إذا مال عليه وجارَ، جَنفًا.
فمعنى الكلامِ: فمَن خاف من موصٍ جنفًا له بموضعِ الوصيةِ، ومَثلًا عن الصوابِ فيها، وجورًا عن القصدِ و
(5)
إثْمًا، بتعمدِه ذلك على علمٍ منه بخطأِ ما يأتى مِن ذلك، فأصْلَح بينَهم - فلا إثمَ عليه.
وبمثلِ الذى قلنا في معنى الجنَفِ والإثمِ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمى، قال: حدثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} : يعنى بالجنفِ الخطأَ
(6)
.
(1)
البيت لعامر الخصفى، وهو في مجاز القرآن 1/ 66، 67، وتأويل شكل القرآن 219.
(2)
المولى: بنو العم. اللسان (و ل ى).
(3)
في م: "إن".
(4)
الزُّور، جمع أزور، وهو المائل عن الشئ. ينظر اللسان (ز و ر)
(5)
في م، ت 1، ت 3:"أو".
(6)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 302 (1615) عن محمد بن سعد به.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} . قال: مَيْلًا
(1)
.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه.
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ ويزيدُ بنُ هارونَ، قالا: ثنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضحَّاكِ، قال: الجنفُ الخطأُ، والإثمُ العمدُ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازىُّ، قال: ثنا أبو أحمد الزُّبَيْريُّ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحاكِ
(3)
مثلَه.
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} : أمَّا {جَنَفًا} : فخطأً في وصيتِه؛ وأمّا {إِثْمًا} : فعَمْدًا؛ يَعْمِدُ في وصيتِه الظلمَ
(4)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} . قال: حَيْفًا {أَوْ إِثْمًا}
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 302 (1614) من طريق عبد الملك به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (256 - تفسير) عن هشيم به.
(3)
في م: "عطاءٍ".
(4)
تقدم تخريجه في ص 146.
(5)
تفسير مجاهد ص 220.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ وابنُ أبي جعفرٍ عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: الجنَفُ الخطأُ، والإثمُ العمدُ
(1)
.
حدَّثنا عَمْرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا خالدُ بنُ يزيدَ صاحبُ اللؤلؤِ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا قَبيصةُ، عن سفيانَ، عن أبيه، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} . قال: الجنفُ الخطأُ، والإثمُ العمدُ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا فُضيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} . قال: خطأً، أو إثمًا: مُتعمَّدًا.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزَّاقِ، عن ابنِ عُيَيْنةَ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} . قال: مَيْلًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {جَنَفًا} . [قال: ميلًا]
(2)
، والإثمُ: ميلُه لبعضِهم على بعضٍ، وكلُّه يَصِيرُ إلى واحدٍ، كما يكونُ عفوًّا غفورًا، وغفورًا رحيمًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الجنفُ الخطأُ، والإثمُ العمدُ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 302 عقب الأثر (1615، 1617) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حيفا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر 1/ 175 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حُدِّثت عن الحسينِ
(1)
بنِ الفرجِ، قال: ثنا الفضلُ بنُ خالدٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحَّاكِ، قال: الجنفُ الخطأُ، والإثمُ العمدُ.
وأمَّا قولُه {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإنه يعنى: واللهُ غفورٌ للموصِى فيما كان حدَّث به نفسَه من الجنفِ والإثمِ، إذا ترَك أن يَجْنَفَ ويَأْثَمَ في وصيَّتِه، فتجاوز له عما كان حدَّثَ به نفسَه من الجوْرِ؛ إذْ
(2)
لم يُمْضِ ذلك فيَفْعَلَ، أنْ يُؤَاخِذَه به، رحيمٌ بالمُصْلِحِ بينَ الموصِى وبينَ مَن أراد أن يَجْنَفَ
(3)
عليه لغيرِه أو يَأْثَمَ فيه له.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: يا أيها الذين آمَنوا باللهِ ورسولِه، وصدَّقوا بهما وأقرُّوا.
ويعنى بقولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} : فُرِض عليكم الصيامُ.
والصيامُ مصدرٌ من قولِ القائلِ: صمتُ عن كذا وكذا -يعنى: كفَفْتُ عنه- أصومُ عنه صومًا وصيامًا. ومعنى الصيامِ الكفُّ عما أَمَر اللهُ بالكفِّ عنه. ومن ذلك قيل: صامت الخيلُ. إذا كفَّتْ عن السيرِ، ومنه قولُ نابغةِ بنى ذُبيانَ
(4)
:
خَيْلٌ صِيامٌ وخَيْلٌ غيرُ صَائمَةٍ
…
تحتَ العَجاجِ
(5)
وأخْرَى
(6)
تَعْلُكُ اللُّجُما
(7)
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسن".
(2)
في الأصل: "إذا".
(3)
في م، ت 1:"يحيف".
(4)
ديوانه ص 112.
(5)
العجاج: الغبار. اللسان (ع ج ج).
(6)
في الديوان: "خيل".
(7)
علَكت الدابةُ اللجامَ: لاكته وحركته في فيها. اللسان (ع ل ك).
ومنه قول اللهِ: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]. يعنى: صَمْتًا عن الكلامِ.
وقولُه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فإنه يعنى به: فُرِض ذلك عليكم مثلَ الذى فُرِض على الذين مِن قبلِكم.
ثم اختلفَ أهلُ التأويلِ في الذين عنَى اللهُ بقولِه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وفى المعنى الذى وقَع فيه التشبيهُ بينَ فَرضِ صومِنا وصومِ الذين مِن قبلِنا؛ فقال بعضُهم: الذين أخبرَنا اللهُ عن الصومِ الذى فرَضه علينا أنه علينا مثلَ الذى كان عليهم، هم النصارَى. وقالوا: التشبيهُ الذى شُبِّه من أجلِه أحدُهما بصاحبِه هو اتفاقُهما في الوقتِ والمقدارِ الذى هو لازمٌ لنا اليومَ فَرْضُه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن يحيى بنِ زيادٍ، عن محمدِ بنِ أبانٍ، عن أبي أُميةَ الطَّنافِسيِّ، عن الشَّعبيِّ أنه قال: لو صمْتُ السَّنَةَ كلَّها لأفطرْتُ اليومَ الذى يُشَكُّ فيه فيقالُ: مِن شعبانَ. ويقالُ: من رمضانَ. وذلك أن النصارَى فُرِض عليهم شهرُ رمضانَ كما فُرِض علينا فحوَّلوه إلى الفصلِ، وذلك أنهم كانوا رُبّما صامُوه في القيظِ يعدُّون ثلاثين يومًا، ثم جاء بعدَهم قرنٌ منهم فأخَذوا بالثِّقةِ في
(1)
أنفسِهم فصامُوا قبلَ الثلاثينَ يومًا وبعدَها يومًا، ثم لم يزَلِ الآخِرُ يَسْتَنُّ سُنةَ القرنِ الذى قبلَه، حتى صارتْ إلى خمسينَ، فذلك قولُه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(2)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(2)
معاني القرآن للفراء 1/ 111، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 176 إلى المصنف مختصرًا، ومحمد=
وقال آخرون: بل التشبيهُ إنما هو من أجلِ أنّ صومَهم كان من العشاءِ الآخِرةِ إلى العشاءِ الآخِرةِ، وذلك كان فرضَ اللهِ على المؤمنين في أوَّلِ ما افترضَ عليهم الصومَ. ووافقَ قائلُو هذا القولِ القائلى القولِ الأولِ في أن الذين عنَى اللهُ بقولِه:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . النصارَى.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : أما الذين مِن قَبلِنا: فالنصارَى، كُتِب عليهم رمضانُ، وكُتِب عليهم ألا يأكُلوا ولا يشرَبوا بعدَ النومِ، ولا يَنكِحوا النساءَ شهرَ رمضانَ، فاشتدَّ على النصارَى صيامُ رمضانَ، وجعَل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاءِ والصيفِ، فلمَّا رأوْا ذلك اجتمعُوا فجعَلوا صيامًا في الفصلِ بينَ الشتاءِ والصيفِ، وقالوا: نَزيدُ عشرينَ يومًا نُكفِّرُ بها ما صنَعْنا. فجعَلوا صيامَهم خمسينَ يومًا، فلم يَزَلِ المسلمونَ على ذلك يصنَعونَ كما تصنعُ النصارَى، حتى كان من أمرِ أبي قَيسِ بنِ صِرمَةَ وعُمرَ بنِ الخطابِ ما كان، فأحلّ اللهُ لهم الأكلَ والشربَ والجماعَ إلى طلوعِ الفجرِ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . قال: كُتِب عليهم الصومُ مِن العتَمةِ إلى العتمَةِ
(2)
.
= ابن أبان القرشي ضعيف، وقد أخرج ابن أبي شيبة 3/ 71، 72 من طرق عن الشعبي كراهيته لصوم يوم الشك.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 176 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 305 عقب الأثر (1627) من طريق ابن أبي جعفر به.
وقال آخرون: الذين عنَى اللهُ بقولِه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : أهلَ الكتابِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : أهلُ الكتابِ
(1)
.
وقال بعضُهم: بل ذلك كان على الناسِ كلِّهم.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . قال: كُتِب شهرُ رمضانَ على الناسِ كما كُتِب على الذين مِن قبلِهم. قال: وقد كتَب اللهُ على الناسِ قبلَ أن يُنزِلَ رمضانَ صومَ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : رمضانَ كتَبه اللهُ على مَن كان قبلَهم.
وأوْلى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى الآيةِ: يا أيها الذين آمنوا فُرِض عليكم الصيامُ كما فُرِض على الذين مِن قبلِكم مِن أهلِ الكتابِ أيَّامًا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 176 إلى المصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 69، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 177 بنحوه إلى عبد بن حميد.
معدوداتٍ، وهى شهرُ رمضانَ كلُّه؛ لأنّ مَن بعدَ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه كان مأمورًا باتباعِ إبراهيمَ، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه كان جعَله للناسِ إمامًا، وقد أخبرنا اللهُ أن دينَه كان الحنَيفيَّةَ المسلمةَ، وأُمِرَ نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم [مِن اتِّباعِه]
(1)
بمثلِ الذى أُمِرَ به مَنْ قبلَه مِن الأنبياءِ.
وأمَّا التشبيهُ فإنما وقَع على الوقتِ، وذلك أنَّ مَنْ كان قَبْلَنا إنما كان فُرِض عليهم صومُ شهرِ رمضانَ، مثلَ الذى فُرِض علينا سواءً.
وأما تأويلُ قولِه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإنه يعنى به: لِتتقُوا أكلَ الطعامِ وشربَ الشرابِ وجِماعَ النساءِ فيه. يقولُ: فرَضتُ عليكم الصومَ والكفَّ عما تكونون بتركِ الكَفِّ عنه مُفطرِين؛ لتتَّقُوا ما يُفْطِرُكُم في وقتِ صومِكم.
وبمثلِ الذى قُلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ: أما قولُه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . يقولُ: فتتقونَ مِن الطعامِ والشّرابِ والنساءِ مثلَ ما اتقَوْا. يعنى: مثلَ الذى اتقى النصارَى قَبلَكم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} .
يعنى تعالى ذكرُه: كُتِب عليكم أيها الذين آمنوا الصيامُ أيامًا معدوداتٍ.
ونصَب {أَيَّامًا} بمضمرٍ من الفعلِ، كأنه قيلَ: كُتِب عليكم الصيامُ كما
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 305 (1629) من طريق عمرو بن حماد به.
كُتب على الذين مِن قبلِكم، أن تصومُوا أيامًا معدوداتٍ. كما يقالُ: أعجبَنى الضربُ زيدًا.
وقولُه: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من صلةِ
(1)
الصيامِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الذى هو مثلُ الذى كُتِب على الذين مِن قبلِكم أن تصوموا أيامًا معدوداتٍ.
ثم اختلفَ أهلُ التأويلِ فيما عنَى اللهُ جلَّ ثناؤُه بقولِه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ؛ فقال بعضُهم: الأيامُ المعدوداتُ صومُ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ. قال: وكان ذلك الذى فُرِض على الناسِ من الصيامِ قبلَ أن يُفرضَ عليهم شهرُ رمضانَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ، قال: كان عليهم الصيامُ ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ -ولم يُسَمَّ الشهرُ- أيامًا معدوداتٍ. قال: وكان هذا صيامَ الناسِ قبلَ ذلك، ثم فرَض اللهُ عز وجل على الناسِ شهرَ رمضانَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمى، عن أبيه،
عن جدِّه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : وكان ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، ثم نُسِخ ذلك بالذى أَنزلَ اللهُ من صيامِ رمضانَ، فهذا الصومُ الأولُ من
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 305، 306 (1630) من طريق أبي حذيفة به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (261 - تفسير)، والبخاري في الكبير 4/ 168 من طريق آخر عن عطاء مختصرًا.
العتَمَةِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا يونسُ
(2)
بنُ بُكيرٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، عن عَمرِو بنِ مُرَّةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى، عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، قال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فصام يومَ عاشوراءَ وثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، ثم أنزَل اللهُ جلَّ وعزَّ فَرضَ شهرِ رمضانَ، فأنزَل اللهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} . حتى بلَغ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
(3)
}
(4)
.
حدّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: قد كتَب اللهُ تعالى ذكرُه على الناسِ قبلَ أن يُنزِلَ رمضانَ، صومَ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ
(5)
.
وقال آخرون: بلِ الأيامُ الثلاثةُ التى كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصومُها قبلَ أن يُفْرَضَ شهرُ رمضانَ، كان تطوُّعًا صوْمُهُنَّ، وإنما عنَى اللهُ جلَّ وعزَّ بقولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} - {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 304 (1623) عن محمد بن سعد به، دون قوله: فهذا الصوم الأول من العتمة.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر".
(3)
في الأصل: "مساكين". وكذا فيما يأتى من مواضع، وهى قراءة نافع وابن عامر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 176.
(4)
إسناده منقطع؛ ابن أبى ليلى لم يدرك معاذا. وأخرجه أحمد 5/ 246 (الميمنية)، وأبو داود (507)، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 304 (1622)، والحاكم 2/ 274، والبيهقى 4/ 200 من طريق عبد الرحمن المسعودى به، مطولًا في أحوال الصلاة والصيام، والحديث في مسند الطيالسى (567)، وينظر الإرواء 4/ 20، 21، وتقدم طرف منه في 2/ 621، وسيأتى في ص 161.
(5)
تقدم في ص 155.
أيامَ شهرِ رمضانَ، لا الأيامَ التى كان يصومُهنَّ قبلَ وجوبِ فرضِ صيامِ شهرِ رمضانَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن عَمرِو بنِ مُرَّةَ، قال: حدثنا أصحابُنا، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما قدِمَ عليهم، أمَرهم بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ تطوُّعًا لا فريضةً، قال: ثم أُنْزِلَ صيامُ رمضانَ
(1)
.
قال أبو موسى
(2)
: قولُه: قال عَمرُو بنُ مُرَّةَ: حدثنا أصحابُنا. يريدُ ابنَ أبى ليلَى، كأنَّ ابنَ أبى ليلَى القائلُ: حدَّثنا أصحابُنا.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: حدثنا أبو داودَ، قال: حدثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ عمرَو بنَ مُرةَ، قال: سمعتُ ابنَ أبى ليلَى. فذكَر نحوَه.
وقد ذكَرنا قولَ من قال: عنَى بقولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} شهرَ رمضانَ.
وأوْلَى ذلك بالصوابِ عندِى قولُ من قال: عنَى اللهُ جلَّ ثناؤُه بقولِه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أيامَ شهرِ رمضانَ، وذلك أنه لم يأتِ خبرٌ تقومُ به حجةٌ بأن صومًا فُرِض على أهلِ الإسلامِ غيرَ صومِ شهرِ رمضانَ، ثم نُسِخ بصومِ شهرِ رمضانَ، وبأن اللهَ تعالى قد بيَّنَ في سياقِ الآيةِ أن الصيامَ الذى أوجَبه علينا، هو صيامُ شهرِ رمضانَ دونَ غيرِه من الأوقاتِ، بإبانتِه عن الأيامِ التى أخبَرنا أنه كتَب علينا صوْمَها بقولِه:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . فمن ادّعى أن صومًا كان قد
(1)
أخرجه أبو داود (506)، وابن خزيمة (383)، والبيهقى 4/ 201 من طريق شعبة به.
(2)
هو محمد بن المثنى شيخ المصنف، كما سيأتي في ص 162، وتقدمت ترجمته في المقدمة.
لزِم المسلمينَ فَرضُه غيرَ صومِ شهرِ رمضانَ الذى هم على وجوبِ فرضِ صومِه مُجْمِعون، ثم نُسِخ ذلك - سُئِل البرهانَ على ذلك من خبرٍ تقومُ به حجةٌ، إذْ كان ذلك لا يُعْلَمُ إلا بخبرٍ يَقْطَعُ العذرَ.
وإذا كان الأمرُ في ذلك على ما وصفْنا للذى بيَّنَّا، فتأويلُ الآيةِ: كُتِب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم، لعلكُم تتقونَ، أيامًا معدوداتٍ، هن شهرُ رمضانَ.
وجائزٌ أيضا أن يكونَ معناهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} : كُتِب عليكم شهرُ رمضانَ.
وأما "المعدوداتُ" فهى التى تُعدُّ مبالِغُها وساعاتُ أوقاتِها.
ويعنى بقولِه {مَعْدُودَاتٍ} : مُحصَيَاتٍ.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} ممن كُلِّف صومَه، أو
(1)
كان صحيحًا غيرَ مريضٍ و
(2)
كان على سفرٍ، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يقولُ: فعليه صومُ عدَّةِ الأيامِ التى أفطرَها في مرضِه أو في سفرِه {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يعنى: من أيامٍ أُخرَ غيرِ أيامِ مرضِه أو سفرِه [إن هو أفطر في مرضِه أو سفرِه]
(3)
.
والرفعُ في قولِه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} نظيرُ الرفعِ في قولِه: {فَاتِّبَاعٌ
(1)
في الأصل: "لو".
(2)
في الأصل: "أو".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت.2، ت 3.
بِالْمَعْرُوفِ}. وقد مضَى بيانُ ذلك هنالك بما أغنَى عن إعادتِه
(1)
.
وأما قولُه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فإن قراءةَ كَافَّةِ المسلمين {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وعلى ذلك خطوطُ مصاحفِهم، وهى القراءةُ التى لا يجوزُ لأحدٍ من أهلِ الإسلامِ خلافُها، لنقلِ جميعِهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرنٍ، وكان ابنُ عباسٍ يقرؤُها فيما رُوِى عنه:(وعَلى الذين يُطَوَّقونه).
ثم اختلَف قرأةُ ذلك: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} في معناه، فقال: بعضُهم: كان ذلك في أوَّلِ ما فُرِض الصومُ، وكان مَن أطاقَه من المقيمين صامَه إن شاءَ، وإن شاءَ أفطرَه وافْتدَى، فأطعمَ لكلِّ يومٍ أفطرَه مسكينًا حتى نُسِخ ذلك.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا يونسُ بنُ بكيرٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، عن عَمرِو بني مُرةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبى ليلى، عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، قال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ، فصامَ يومَ عاشوراءَ وثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، ثم إنَّ اللهَ فرَض شهرَ رمضانَ، فأنزلَ اللهُ جلَّ ثناؤه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} . حتى بلَغ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاءَ صامَ، ومن شاءَ أفطَر وأطعَم مسكينًا، ثم إن اللهَ أوْجَبَ الصيامَ على الصحيحِ المقيمِ، وثبَت الإطعامُ للكبيرِ الذى لا يستطيعُ الصومَ، فأنزَل اللهُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى آخرِ الآيةِ
(2)
.
(1)
سيذكر المصنف الأسانيد بذلك في ص 172 وما بعدها.
(2)
تقدم تخريجه في ص 158.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن عمرِو ابنِ مُرَّةَ، قال: حدثنا أصحابُنا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما قدِمَ عليهم أمَرَهم بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ تطوعًا غيرَ فريضةٍ. قال: ثم نزَل صيامُ رمضانَ. قال: وكانوا قومًا لم يتعوَّدُوا الصيامَ. قال: وكان يشتدُّ عليهم الصومُ. قال: فكان مَن لم يَصُمْ أطعَم مِسكينًا، ثم نزَلت هذه الآيةُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فكأنما الرخصةُ للمريضِ والمسافرِ، وأُمِرنا بالصيامِ
(1)
.
قال محمدُ بنُ المثنَّى: قولُه: قال عَمرٌو: حدثنا أصحابُنا. يريدُ ابنَ أبى ليلى، كأن ابنَ أبى ليلى القائلُ: حدثنا أصحابُنا.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: حدثنا أبو داودَ، قال: حدثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ عمرَو بنَ مُرَّةَ، قال: سمِعتُ ابنَ أبي ليلى. فذكَر نحوَه.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: كان من شاءَ صامَ، ومن شاءَ أفطرَ وأطعمَ نصفَ صاعٍ مسكينًا، فنسَخها {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلى قولِه:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ بنحوِه، وزادَ فيه قال: فنَسختْها هذه الآيةُ، وصارت الآيةُ الأولى للشيخِ الذى لا يستطيعُ الصومَ، يتصدَّقُ مكانَ كلِّ يومٍ على مسكينٍ نصفَ صاعٍ.
(1)
تقدم تخريجه في ص 159.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7578)، وأبو عبيد في ناسخه ص 49 من طريق منصور به مختصرًا.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا يحيى بنُ واضحٍ أبو تُمَيْلةَ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ النحوىِّ، عن عِكرمةَ والحسنِ البصرىِّ قولَه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} : فكان مَن شاءَ منهم أن يصومَ صامَ، ومن شاء منهم أن يفتدِىَ بطعامِ مسكينٍ افتدَى وتمَّ له صومُه، ثم قال:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . ثم استثنَى من ذلك فقال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعىُّ، قال: حدثنا ابنُ إدريسَ، قال: سألتُ الأعمشَ عن قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فحدثنا عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، قال: نَسخَتْها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(1)
.
حدَّثنا محمدُ
(2)
بنُ المثنى، قال: حدثنا عبدُ الوهاب، قال: حدثنا عبيدُ
(3)
اللهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ، قال: نسَختْ هذه الآيةَ، يَعْنى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} التى بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ الأعمشَ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: نَسختْها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 19، وابن الجوزى في ناسخه ص 172 من طريق ابن إدريس به.
(2)
في م، ت 1:"عمر"، وفى ت 2، ت 3:"عمرو".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 19 - ومن طريقه البيهقى 4/ 200 - عن عبد الوهاب الثقفى به.
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (270 - تفسير)، والبخارى (4506) من طريق عبيد الله به، مختصرًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 178 إلى وكيع وابن المنذر.
حدثنا الوليدُ بنُ شجاعٍ أبو همامٍ، قال: حدثنا علىُّ بنُ مُسهِرٍ، عن عاصمٍ، عن الشعبىِّ، قال: نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان الرجلُ يُفطِرُ فيتصدَّقُ عن كلِّ يومٍ على مسكينٍ طعامًا، ثم نزَلتْ هذه الآيةُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فلم تَنْزِلِ الرخصةُ إلَّا للمريضِ والمسافِرِ
(1)
.
حدَّثنا هنادُ بنُ السَّرِىِّ، قال: حدثنا علىُّ بنُ مُسهِرٍ، عن عاصمٍ، عن الشعبىِّ، قال: نزَلتْ هذه الآيةُ للناس عامة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . وكان الرجلُ يُفْطِرُ ويتصدَّقُ بطعامِه على مسكينٍ، ثم نزلتْ هذه الآيةُ:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال: فلم تَنْزِلِ الرخصةُ إلَّا للمريضِ والمسافرِ.
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن ابنِ أبي ليلى، قال: دخلتُ على عطاءٍ وهو يأكُلُ في شهرِ رمضانَ فقال: إنى شيخٌ كبيرٌ، إن الصومَ نزَل، فكان مَن شاءَ صامَ، ومَن شاءَ أفطَر وأطعَم مسكينًا، حتى نزَلتْ هذه الآيةُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فوجَب الصومُ على كلِّ أحدٍ إلا مريضٍ أو مسافرٍ أو شيخٍ كبيرٍ مثلى يَقْتدِى
(2)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنى الليثُ، قال: أخبرني يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، قال: قال اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
(1)
أخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 173 من طريق ابن شبرمة، عن الشعبى نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 178 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 178 إلى عبد بن حميد ووكيع.
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. قال ابنُ شهابٍ: كتَب اللهُ الصيامَ علينا، فكان من شاءَ افتدَى ممن يُطيقُ الصيامَ من صحيحٍ أو مريضٍ أو مسافرٍ، ولم يكنْ عليه غيرُ ذلك، فلما أوجَب اللهُ على من شهِد الشهرَ الصيامَ، فمن كان صحيحًا يُطيقُه وضَع عنه الفديةَ، وكان مَن كان على سفرٍ أو كان مريضًا فعدةٌ من أيامٍ أخرَ. قال: وبقِيت الفديةُ التى كانت تُقبلُ قبلَ ذلك للكبيرِ الذى لا يُطيقُ الصيامَ، والذى يَعرِضُ له العطشُ أو العِلَّةُ التى لا يستطيعُ معها الصيامَ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمى، قال: حدثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: جعَل اللهُ في الصومِ الأولِ فديةً طعامَ مِسكينٍ
(2)
، فمن شاءَ مِن مُسافرٍ أو كل مقيمٍ أن يُطعِمَ مسكينًا ويُفْطِرَ، كان ذلك رخصةً له، فأنزل اللهُ في الصومِ الآخرِ:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يذكرِ اللهُ في الصومِ الآخرِ فديةً طعامَ مسكينٍ
(2)
، فنُسِخَتْ الفديةُ، وثبَت في الصومِ الآخرِ، {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهو الإفطارُ في السفرِ، وجعْلُه عدةً من أيامٍ أُخَر
(3)
.
حدَّثنى أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ وهبٍ، قال: أخبَرنى عمى عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ، قال: أخبَرنى عَمرُو بنُ الحارثِ، [عن بُكَيرِ]
(4)
بنِ عبدِ اللهِ، عن يزيدَ مولى سَلَمةَ بنِ الأكوعِ، عن سلمةَ بنِ الأكوعِ أنه قال: كنا في عهدِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَن شاءَ صامَ، ومن شاءَ أفطَر وافتدى بطعامِ مسكينٍ
(5)
، حتى أُنزلتِ الآيةُ: {فَمَنْ شَهِد
(1)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 50، 51 عن أبى صالح به مختصرًا.
(2)
في الأصل: "مساكين".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 304 (1623) عن محمد بن سعد به.
(4)
في م: "قال بكر". وينظر تهذيب الكمال 4/ 242.
(5)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(1)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن الشعبىِّ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: كانت للناسِ كلِّهم، فلمَّا نزلتْ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أُمِروا بالصومِ والقضاءِ، فقال:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}
(2)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا عليُّ بنُ مُسهِرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: نسَخَتْها الآيةُ التى بعدها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن محمدِ بنِ سُلَيمٍ
(3)
، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قال: نَسخَتْها الآيةُ التى تَليها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ
(5)
بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: حدثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحَّاكِ قولَه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية: فُرِض الصومُ مِن العَتَمةِ إلى مِثلِها مِن القابلةِ؛ فإذا صلَّى الرجلُ العَتَمةَ حرُمَ عليه الطعامُ والجماعُ إلى مثلها من القابلَةِ، ثم نزَل الصومُ الآخِرُ بإحلالِ الطَّعامِ والجِماعِ بالليلِ
(1)
أخرجه ابن خزيمة (1903) عن أحمد بن عبد الرحمن به. وأخرجه مسلم (1145) من طريق ابن وهب به. وأخرجه البخارى (4507)، ومسلم (1145)، وأبو داود (2315)، والترمذى (798)، والنسائى (2315) من طريق عمرو بن الحارث به.
(2)
تقدم تخريجه في ص 164.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"سليمان"، وفى ت 1:"سلمان". وينظر تهذيب الكمال 25/ 292.
(4)
أخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 172، 173 من طريق وكيع به.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"الحسن".
كلِّه، وهو قولُه:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} إلى قولِه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . وأحَلَّ الجِماعَ أيضًا فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . وكان في الصومِ الأولِ الفديةُ، فمن شاءَ مِن مسافرٍ أو مقيمٍ أن يُطعِمَ مسكينًا ويُفطِرَ، فعَل ذلك، ولم يذكرِ اللهُ في الصومِ الآخِرِ الفديةَ، وقال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فنسَخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ.
وقال آخرون: بل كان قولُه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} حُكمًا خاصًّا للشيخِ الكبيرِ والعجوزِ اللَّذَيْن يُطيقان الصومَ، كان مرخَّصًا لهما أن يَفْدِيا صومَهما بإطعامِ مسكينٍ ويُفْطِرَا، ثم نُسِخ ذلك بقولِه:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . فلزِمهما من الصومِ مثلُ الذى لزِم الشابَّ، إلَّا أن يَعْجِزَا عن الصومِ فيكونَ ذلك الحكمُ الذى كان لهما قبلَ النسخِ ثابتًا لهما حينَئذٍ بحالِه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: حدثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن عَزْرَةَ
(1)
، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان الشيخُ الكبيرُ والعجوزُ الكبيرةُ وهما يُطيقان الصومَ رُخِّص لهما أن يُفطرَا إن شاءَا ويُطعِما لكلِّ يومٍ مسكينًا، ثم نسَخ ذلك بعدَ ذلك:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . وثبَت للشيخِ الكبيرِ والعجوزِ الكبيرةِ إذا كانا لا يطيقان الصومَ، وللحُبْلَى والمُرضِعِ إذا خافَتَا
(2)
.
(1)
في النسخ: "عروة"، والصواب ما أثبت، كما سيأتى في الأثر الثانى عن الأصل. وينظر تهذيب الكمال 20/ 51.
(2)
أخرجه أبو داود (2318)، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 307 (1635)، والبيهقى 4/ 230 من طريق سعيد به، وأخرجه البخارى (4505) من طريق، عطاء، عن ابن عباس بمعناه. وعزاه السيوطي في الدر=
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن عَزْرَةَ
(1)
، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: الشيخُ الكبيرُ والعجوزُ الكبيرةُ. ثم ذكَر مثلَ حديثِ بشرٍ، عن يزيدَ.
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: حدثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: حدثنى أبى، عن قتادةَ، عن عكرمةَ، قال: كان الشيخُ والعجوزُ لهما الرخصةُ أن يُفْطِرا ويُطعِما بقولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قال: فكانت لهم الرخصةُ، ثم نُسِخت بهذه
(2)
الآيةِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . فنسِخت الرخصةُ عن الشيخِ والعجوزِ إذا كانا يطيقان الصومَ، وبقِيت الحاملُ والمرُضِعُ أنْ تُفْطِرَا وتُطعِمَا
(3)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا حجاجُ بن المنهالِ، قال: حدثنا همَّامُ بنُ يحيى، قال: سمِعتُ قتادةَ يقولُ في قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قال: كان فيها رخصةٌ للشيخِ الكبيرِ والعجوزِ الكبيرةِ، وهما يُطيقانِ الصومَ، أن يُطعِما مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا ويُفْطِرَا، ثم نُسِخ ذلك في الآيةِ التى بعدَها فقال:{شَهْرُ رَمَضَانَ} إلى قولِه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} نسَختْها هذه الآيةُ. فكان أهل العلمِ يرَون ويَرجُون الرُّخصةَ ثبتت
(4)
للشيخِ الكبيرِ والعجوزِ الكبيرةِ، إذا لم يُطيقا الصومَ أن يُفْطِرَا ويُطعِما عن كلِّ يومٍ مسكينًا، وللحُبلَى إذا
= المنثور 1/ 177 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر ما سيأتى في ص 171.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عروة".
(2)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"هذه".
(3)
ذكره ابن الجوزى في ناسخه ص 176 معلقا عن قتادة به مختصرًا.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تثبت".
خشِيتْ على ما في بطنها، وللمُرضعِ إذا ما خشِيتْ على ولدِها
(1)
.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} : فكان الشيخُ والعجوزُ يُطيقانِ صومَ رمضانَ، فأحلَّ اللهُ لهما أن يُفْطِراه إنْ أرادا ذلك، وعليهما الفديةُ لكلِّ يومٍ [يُفطران فيه]
(2)
؛ طعامُ مسكينٍ، فأنزَل اللهُ جلَّ ثناؤُه بعدَ ذلك فقال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . إلى قولِه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وقال آخرون ممن قرَأ ذلك: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} : لم يُنسخْ ذلك ولا شيءٌ منه، وهو حُكمٌ مُثبَتٌ من لَدُنْ نزَلتْ هذه الآيةُ إلى قيام الساعةِ. وقالوا: إنما تأويلُ ذلك: [وعلى الذين كانوا يُطيقونه في حالِ شبابِهم]
(3)
وحداثَتِهم، وفى حالِ صحتِهم وقوتِهم، إذا مرِضوا أو
(4)
كَبِروا فعجَزوا من الكِبَرِ عن الصومِ - فديةٌ طعامُ مسكينٍ، لا أن القومَ كان رُخِّص لهم في الإفطارِ وهم على الصومِ قادرون إذا افْتدَوا.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قال: أما {الَّذِينَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 69، ومصنفه (7584)، عن معمر، عن قتادة.
(2)
في م: "يفطرانه".
(3)
في م: "على الذين يطيقونه وفى حال شبابهم"، في ت 1، ت 2، ت 3:"وعلى الذين يطيقونه في حال شبابهم".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
يُطِيقُونَهُ} فالرجلُ كان يُطيقُه وقد صام قبلَ ذلك، ثم يَعْرِضُ له الوَجَعُ أو العَطَشُ أو المرضُ الطويلُ، أو المرأةُ المرضِعُ لا تستطيعُ أن تصومَ، فإن أولئك عليهم مكانَ كلِّ يومٍ إطعامُ مسكينٍ، فإنْ أطعم مسكينيْن
(1)
فهو خيرٌ له، ومَن تكلَّف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له.
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدَّثنا عبدةُ، عن سعيدِ بنِ أبى عَروبةَ، عن قتادةَ، عن عَزْرَةَ
(2)
، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا خافت الحاملُ على نفسِها والمرضِعُ على ولدِها في رمضانَ، قال: تُفْطِران وتُطْعِمان مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا، ولا تقضيان صومًا
(3)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا عبدةُ، [عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن عَزْرةَ]
(4)
، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، أنه رأى أمَّ ولدٍ له حاملًا أو مُرضِعًا، فقال: أنتِ بمنزلةِ الذى لا يُطيقُه، عليك أن تُطْعِمى مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا ولا قضاءَ عليك.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا عبدةُ، عن سعيدٍ، عن [علىِّ بنِ ثابتٍ، عن نافعٍ]
(5)
، عن ابنِ عمرَ مثلَ قولِ ابنِ عباسٍ في الحاملِ والمرضِعِ
(6)
.
(1)
فى م: "مسكينا"، وفى ت 1، ت 3:"مسكين". وينظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 95، وتفسير ابن كثير 1/ 308.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عروة".
(3)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 81، والدارقطنى 2/ 206 من طريق سعيد به. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7567)، والدارقطنى 2/ 207 من طريق قتادة به. وينظر ما تقدم في ص 167.
(4)
سقط من: م.
(5)
في م: "نافع عن على بن ثابت".
(6)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 307 (1636) من طريق سعيد به. وأخرجه الدارقطنى 2/ 207 من طريقين عن نافع به نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 179 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكِر لنا أن ابنَ عباسٍ قال لأمِّ ولدٍ له حُبْلَى أو مُرضِعٍ: أنتِ بمنزلةِ الذين لا يُطِيقونه، عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسِها.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى عمى، قال: حدثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} : هو الشيخُ الكبيرُ كان يُطِيقُ صومَ شهرِ رمضانَ وهو شابٌّ، فكبِر وهو لا يَسْتَطِيعُ صومَه، فَلْيَتَصَدَّقْ على مسكينٍ واحدٍ لكلِّ يومٍ أفْطَره، حينَ يُفْطِرُ وحين يَتَسَحَّرُ
(1)
.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: حدثنا عَبيدةُ
(2)
، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ نحوَه، غيرَ أنه لم يَقُلْ: حين يُفْطِرُ وحين يَتَسَحَّرُ.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا حاتمُ بنُ إسماعيلَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ حَرْمَلَةَ، عن سعيدِ بنِ المسُيَّبِ أنه قال في قولِ اللهِ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: هو الكبيرُ الذى كان يصومُ فكبِر وعجَز عنه، وهى الحاملُ التى ليس عليها الصيامُ، فعلى كلِّ واحدٍ منهما طعامُ مسكينٍ، مُدٌّ مِن حِنْطَةٍ لكلِّ يومٍ حتى يَنْقَضِىَ رمضانُ
(3)
.
وقرَأ ذلك آخَرون: (وعلى الذين يُطَوَّقُونه
(4)
فديةٌ طعامُ مسكينٍ) وقالوا: إنه
(1)
أخرجه ابن الجوزى في ناسخه ص 175 من طريق محمد بن سعد به.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"عبدة". وينظر تهذيب الكمال 19/ 257.
(3)
أخرجه سفيان في تفسيره ص 56، وسعيد بن منصور في سننه (263 - تفسير)، وابن حزم في المحلى 6/ 402، والبيهقى 4/ 271، 272، وابن الجوزى في ناسخه ص 176، 177 من طرق عن عبد الرحمن ابن حرملة به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7585) من طريق آخر عن سعيد.
(4)
وهى قراءة ابن عباس بخلاف، وعائشة، وسعيد بن المسيب، وطاوس بخلاف، وسعيد بن جبير، =
الشيخُ الكبيرُ والمرأةُ العجوزُ اللذان قد كبِرا عن الصومِ، فهما يُكَلَّفانِ الصومَ ولا يُطِيقانِه، فلهما أن يُفْطِرا ويُطْعِما مكانَ كلِّ يومٍ أفْطَراه مسكينًا. وقالوا: الآيةُ ثابتةُ الحكمِ منذُ أُنْزِلت لم تُنْسَخْ. وأنْكَروا قولَ مَن قال: إنها منسوخةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا ابنُ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يَقْرَؤُها:(يُطَوَّقُونَه)
(1)
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: حدثنا علىُّ بنُ مُسْهِرٍ، عن عاصمٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يَقْرَأُ:(وعلى الذين يُطَوَّقُونَه فِدْيَةٌ طعامُ مسكينٍ). قال: فكان يقولُ: هى للناسِ اليومَ قائمةٌ.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يقرؤها:(وعلى الذين يُطَوَّقُونه فديةٌ طَعامُ مسكينٍ). [هو الشيخُ الكبيرُ يُفطِرُ ويُطعِمُ]
(2)
.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا قَبيصَةُ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يَقْرأُ:(وعلى الذين يُطَوَّقُونه) ويقولُ: هو الشيخُ
= ومجاهد بخلاف، وعكرمة، وأيوب السختيانى، وعطاء، وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة:(يَطّوّقونه)، وعنهم أيضا:(يَطَّيَّقونه)، وعن ابن عباس أيضا:(يُطَيَّقونه). المحتسب 1/ 118، وينظر تفسير القرطبى 2/ 286، 287، والبحر المحيط 2/ 35، وستأتى الآثار بعد ذلك ليس فيها إشارة إلى ضبط هذه القراءات فضبطنا المشهور وتركنا الباقى بلا ضبط.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7575) عن ابن جريج به.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"قال: وكان يقول: هى للناس اليوم قائمة".
والأثر في تفسير سفيان ص 56، ومن طريقه أبو عبيد في ناسخه ص 53، وفى فضائل القرآن ص 163، وعبد الرزاق في مصنفه (7574) والدارقطنى 2/ 207، وابن الجوزى في ناسخه ص 176.
الكبيرُ [يُفطِرُ و]
(1)
يُطْعمُ عنه.
[حدثنا محمدُ بن بَشَّارٍ، قال: حدثنا عبدُ الوهابِ، قال: حدثنا أيوبُ، عن عِكْرِمَةَ أنه قال في هذه الآيةِ: (وعلى الذين يُطَوَّقُونه) -وكذلك كان يَقْرَؤُها-: إنها ليست منسوخةً، كُلِّف الشيخُ الكبيرُ أن يُفْطِرَ ويُطْعِمَ مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا]
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدثنا شعبةُ، عن أبى بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ أنه قرَأ:(وعلى الذين يُطَوَّقُونه)
(3)
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن عمرانَ بنِ حُديرٍ، عن عكرمةَ، قال:{الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} : يصومُونَه، ولكن (الذين يُطوَّقونه) يعجِزون عنه
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرَّزَّاقِ، قال: أخبرنا ابنُ جُريجٍ، قال: حدثنى محمدُ بنُ عبادِ بنِ جعفرٍ، عن أبى عَمرٍو مولى عائشةَ، أن عائشةَ كانت تَقْرَأُ:(يُطَّوَّقُونَه)
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ أنه كان، يَقْرَؤُها:(يُطَّوّقُونَه). قال ابنُ جُريجٍ: وكان مجاهدٌ يَقْرَؤُها
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
سقط من: الأصل.
والأثر أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 51، 52 عن عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (7573) عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس.
(3)
أخرجه ابن أبى داود فى المصاحف ص 89 عن ابن بشار به، وأخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 52 من طريق آخر عن سعيد.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (265، 266 - تفسير) من طريق عمران به، نحوه، وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 163 من طريق أيوب، عن عكرمة به. وينظر ما سيأتى فى ص 177.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 70، وأخرجه مصنفه (7576)، وأخرجه البيهقى 4/ 272 من طريق ابن جريج به.
كذلك
(1)
.
حدَّثنا حميدُ بنُ مسعدةَ، قال: حدثنا بشرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا خالدٌ، عن عكرمةَ (وعلى الذين يطيقُونَه) قال: قال ابنُ عباسٍ: هو الشيخُ الكبيرُ.
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ موسَى السُّدِّىُّ، قال: أخبرنا شريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدِ ابنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:(وَعلى الّذين يُطَوَّقُونَه). قال: يتجشّمونه، يَتكلّفُونَه
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدثنا ابنُ إدريسَ، عن مسلمٍ المُلائىِّ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:(وعلى الذين يَطيقونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ). قال: الشيخُ الكبيرُ الذى لا يُطيقُ فيُفْطِرُ ويُطعِمُ كلَّ يومٍ مسكينًا
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ (وعلى الذين يَطيقونه) قال: يُكلَّفونه، (فديةٌ طعامُ مسكينٍ) واحدٍ، قال: فهذه [ليست بمنسوخةٍ]
(4)
لا يرخّصُ فيها إلا للكبيرِ الذى لا يُطيقُ الصيامَ، أو مريضٍ يعلمُ أنه لَا يُشْفَى. [هذا عن مجاهدٍ]
(5)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال:(الذين يَطيقُونه) يتكلَّفونه
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 70.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 178 إلى المصنف وابن الأنبارى.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 308 (1641) من طريق مسلم به بنحوه.
(4)
فى م: "آية منسوخة".
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه الدارقطنى 2/ 205 من طريق شبل، عن ابن أبى نجيح به، وهو فى تفسير مجاهد ص 220، ومن طريقه البيهقى 4/ 271 عن عطاء -وحده- عن ابن عباس، وسيأتى باقى هذا الأثر فى ص 183.
(فديةٌ طعامُ مسكينٍ) واحدٍ، ولم يُرخَّصْ هذا إلا للشيخ الكبيرِ
(1)
الذى لا يُطِيقُ الصومَ، أو المريضِ الذى يعلمُ أنه لا يُشْفَى
(2)
. هذا عن مجاهدٍ
(3)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يقولُ، ليستْ بمنسوخةٍ.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو صالحٍ، قال: حدثنى معاويةُ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:(وعلى الذين يَطيقُونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ) يقولُ: من لم يُطقِ الصومَ إلَّا على جَهدٍ فله أن يُفطِرَ ويُطعِمَ كلَّ يومٍ مسكينًا، والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذى به سقمٌ دائمٌ
(4)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا عَبيدةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِ اللهِ تعالى ذِكرُه:(وعلى الذين يَطيقُونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ) قال: هو الشيخُ الكبيرُ [أو المرأةُ]
(5)
الذى كان يصومُ فى شبابِه، فلما كَبِر ضعُف
(6)
عن الصومِ قبلَ أن يموتَ، فهو يُطعِمُ كلَّ يومٍ مسكينًا. قال هنادٌ: قال عَبيدةُ: فقلتُ
(7)
لمنصورٍ: الذى يُطعَمُ كلَّ يومٍ نصفُ صاعٍ؟ قال: نعم.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه الطبرانى (11388)، والدارقطنى 2/ 205، والحاكم 1/ 440 من طريق ابن أبى نجيح به، وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (7577)، والبخارى (4505)، والنسائى (2316)، والدارقطنى 2/ 205، والبيهقى 4/ 271، وابن الجوزى فى ناسخه ص 175 من طرق عن عمرو، وسيأتى باقى هذا الأثر فى ص 184.
(3)
كذا فى النسخ، وليس فى هذا الإسناد ذكر لمجاهد.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 178 إلى المصنف.
(5)
فى م: "والمرء".
(6)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"عجز".
(7)
فى م: "قيل".
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا مروانُ بنُ معاويةَ، عن عثمانَ بنِ الأسودِ، قال: سألتُ مجاهدًا عن امرأةٍ لى وافقَ تاسِعُها شهرَ رمضانَ، ووافق حرًّا شديدًا، فأمرنى أن تُفْطِرَ وتُطعِمَ. قال: وقال مجاهدٌ: وتلك الرخصةُ أيضًا في المسافرِ والمريضِ، فإن اللهَ يقولُ:(وعلى الذين يَطيقُونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ)
(1)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن عاصمٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ الذى لا يَسْتَطيعُ الصومَ يُفْطِرون فى رمضانَ، ويُطْعِمون عن كلِّ يومٍ مسكينًا. ثم قرَأ: (وعَلى الَّذينَ يُطوَّقُونَهُ
(2)
فدْيَةٌ طَعامُ مِسْكينٍ"
(3)
.
حدَّثنا علىُّ بنُ سعيدٍ
(4)
الكِندىُّ، قال: حدثنا حفصٌ، عن حجاجٍ، عن أبى إسحاقَ، عن الحارثِ، عن علىٍّ في قولِه:(وعلى الذين يَطيقُونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ) قال: الشيخُ الكبيرُ الذى لا يستطيعُ الصومَ يُفْطِرُ ويُطْعِمُ مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا
(5)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال:(وعلى الذين يَطيقُونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ) قال: هم الذين يَتكلّفونَه
(6)
ولا يُطيقونه، الشيخُ والشيخةُ
(7)
.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن الحجاجِ، عن أبى
(1)
أخرجه أبو عبيد فى ناسخه ص 79 من طريق عثمان به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 179 إلى عبد بن حميد.
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يطيقونه".
(3)
تقدم تخريجه في ص 170.
(4)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعد". ينظر تهذيب الكمال 20/ 450.
(5)
عزاه السيوطى في الدر 1/ 178 إلى المصنف، وينظر المحلى 6/ 402.
(6)
فى الأصل: "يستكلفونه".
(7)
أخرجه ابن الجوزى فى ناسخه ص 176 من طريق حماد بن سلمة به.
إسحاقَ، عن الحارثِ، عن علىٍّ، قال: هو الشيخُ والشيخةُ.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا الحجاجُ، قال: حدثنا حمادٌ، عن عمرانَ بنِ حُديرٍ، عن عكرمةَ أنه كان يَقْرَؤُها:(وعلى الذين يطيقُونه) فأفطر
(1)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سُويدُ بنُ نَصْرٍ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن عاصمٍ، عمن حدَّثه، عن ابنِ عباسٍ، قال: هى مثبتةٌ للكبيرِ والمرضعِ والحاملِ وعلى الذين يُطيقُون الصيامَ.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال، أخبرنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: ما قولُه: (وعلى الذين يطيقُونه)؟ قال: بلَغنا أن الكبيرَ إذا لم يَسْتَطِع الصومَ يَفتدِى من كلِّ يومٍ بمسكينٍ. قلت: الكبيرُ الذى لا يَسْتَطِيعُ الصومَ، أو الذى لا يَسْتَطيعُه إلا بالجَهْدِ؟ قال: بل الكبيرُ الذى لا يَسْتَطِيعُه بجهدٍ ولا بشيءٍ، فأما من استطاع بجَهدٍ فليصُمْه ولا عذرَ له فى ترْكِه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبَرنى عبيدُ
(3)
اللهِ بنُ أبى يزيدَ: (وعلى الذين يطيقُونه) الآية. كأنه يعنى الشيخَ الكبيرَ.
قال ابنُ جُريجٍ: وأخبرنى ابنُ طاوسٍ، عن أبيه أنه كان يقولُ: نزَلت في الكبيرِ الذى لا يستطيعُ صيامَ رمضانَ، فيفتدِى من كلِّ يومٍ بطعامِ مسكينٍ. قلتُ له: كمْ
(1)
فى م: "فأفطروا".
والأثر أخرجه ابن أبى داود فى المصاحف ص 89 من طريق الحجاج به، وتقدم فى ص 173 من طريق آخر عن عمران بنحوه.
(2)
تقدم أوله فى ص 171.
(3)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد".
طعامُه؟ قال: لا أدرى، غيرَ أنه قال: طعامُ يومٍ
(1)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن الحسنِ بنِ يحيى، عن الضحاكِ في قولِه:{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: الشيخُ الكبيرُ الذى لا يُطِيقُ الصومَ يُفطِرُ ويُطعِمُ عن
(2)
كلِّ يومٍ مسكينًا.
قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} منسوخٌ بقولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؛ لأن الهاءَ التى في قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} من ذكرِ "الصيامِ". ومعناه: وعلى الذين يُطِيقونَ الصيامَ فديةٌ طعامُ مسكينٍ. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهلِ الإسلامِ مُجْمعينَ على أن مَن كان مُطِيقًا من الرجالِ الأصحَّاءِ المقيمينَ غيرِ المسافرينَ صومَ شهرِ رمضانَ، فغيرُ جائزٍ له الإفطارُ فيه والافتداءُ منه بطعامِ مسكينٍ، كان معلومًا أن الآيةَ منسوخةٌ، هذا مع ما يُؤيدُ هذا القولَ من الأخبارِ التى ذكرناها آنفًا عن معاذِ بنِ جبلٍ وابنِ عمرَ وسلَمةَ بنِ الأكوعِ، من أنهم كانوا بعدَ نزولِ هذه الآيةِ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى صومِ شهرِ رمضانَ بالخيارِ بينَ صومِه وسقوطِ الفديةِ عنهم، وبينَ الإفطارِ والافتداءِ من إفطارِه بإطعامِ مسكينٍ لكلِّ يومٍ أفطَره، وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزَلت:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأُلْزِموا فرضَ صومِه، وبطَل الخيارُ والفديةُ.
فإن قال قائلٌ: وكيفَ تدَّعى إجماعًا من أهلِ الإسلامِ على أنَّ من أطاقَ صومَه وهو بالصِّفةِ التى وصَفْتَ فغيرُ جائزٍ له إلَّا صومُه، وقد علمتَ قولَ مَن قال: للحاملِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7571) عن معمر، عن ابن طاوس به.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والمرضعِ إذا خافتا على أولادِهما لهما الإفطارُ، وإن أطاقتا الصومَ بأبدانِهما، مع الخبرِ الذى رُوِى في ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذى حدثنا به هنّادُ بنُ السَّرىِّ، قال: حدثنا قبيصةُ، عن سفيانَ، عن أيوبَ، عن أبى قِلابةَ، عن أنسٍ، قال: أتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يتغدَّى فقال: "تعَالَ أُحَدِّثْكَ؛ إن اللهَ وضَع عن المُسافِرِ والحاملِ والمُرْضِعِ الصومَ وشَطْرَ الصَّلاةِ"
(1)
.
قيل: إنّا لم ندَّعِ إجماعًا في الحاملِ والمرضعِ، وإنما ادَّعينَا في الرجالِ الذين وصفْنَا صِفَتَهم. فأما الحاملُ والمرضعُ فإنما علِمْنا أنهنَّ غيرُ مَعنياتٍ بقولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إذ
(2)
خَلَا الرجالُ أن يكونوا معنيِّينَ به؛ لأنهنَّ لو كنَّ مَعنياتٍ بذلك دونَ غيرِهنَّ من الرجالِ لقيل: وعلى اللواتِى يُطِقْنه فديةٌ طعامُ مسكينٍ؛ لأن ذلك كلامُ العربِ إذا أُفرِد الكلامُ بالخبرِ عنهن دونَ الرجالِ، فلمّا قيل:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} كان معلومًا أنَّ المعنىَّ به الرجالُ دونَ النساءِ، أو الرجالُ والنساءُ، فلمَّا صحَّ بإجماعِ الجميعِ على أنَّ من أطاقَ من الرجالِ المقيمينَ الأصِحّاءِ صومَ شهرِ رمضانَ فغيرُ مرخَّصٍ له في الإفطارِ والافتداءِ، فخرَج الرجالُ من أن يكونوا معنيِّين بالآيةِ، وعُلِمَ أن النساءَ لم يُرَدْنَ بها؛ لما وصَفْنا من أن الخبرَ عن النساءِ إذا انفَرد الكلامُ بالخبرِ عنهن: وعلى اللواتى يُطِقْنَه. والتنزيلُ بغيرِ ذلك.
وأما الخبرُ الذى رُوى عنِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان صحيحًا، فإنما معْناه أنه وُضِع عن الحاملِ والمرضعِ الصومُ ما دامتا عاجزتينِ عنه حتى تُطِيقَا فتَقْضِيَا، كما
(1)
أخرجه البخارى في الكبير 2/ 29، والفسوى في تاريخه 2/ 469، والخطيب في المتفق والمفترق 1/ 128 من طريق قبيصة به، وأخرجه البخارى في الكبير 2/ 29، والنسائى (2273)، وابن خزيمة (2043) من طريق سفيان به. وأنس هو ابن مالك الكعبى، ليس يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث. وقال الفسوى: اضطربت الرواية في هذا الحديث. وينظر علل ابن أبى حاتم (447)، والتحفة 1/ 450 - 452.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
وُضِع عن المسافرِ في سفرِه حتى يقيمَ فيقضيَه، لا أنهمَا أُمِرَتَا بالفديةِ والإفطارِ بغيرِ وجوبِ قضاءٍ، ولو كان في قولِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ وضَع عن المُسافِرِ والمُرْضِعِ والحامِلِ الصومَ". دَلالةٌ على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنَى أنَّ اللهَ تعالى ذكرُه وضَع عنهم بقولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} لوجَبَ ألا يكونَ على المسافرِ إذا أفطرَ في سفرِه قضاءٌ، وألا يَلْزَمَه بإفطارِه ذلك إلا الفديةُ؛ لأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قد جمَع بينَ حكمِه وبينَ حُكمِ الحاملِ والمرضِعِ، وذلك قولٌ إن قاله قائلٌ خلافٌ لظاهرِ كتابِ اللهِ، ولِمَا أجمَع عليه جميعُ أهلِ الإسلامِ.
وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ أنّ معْنى قولِه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} : وعلى الذين يُطيقونَ الطعامَ. وذلك تأويلٌ لتأويلِ أهلِ العلمِ مخالفٌ.
وأمّا قراءةُ مَن قرَأ ذلك: (وعلى الذين يُطَوَّقُونه). فقراءةٌ لمصاحفِ أهلِ الإسلامِ خلافٌ
(1)
، وغيرُ جائزٍ لأحدٍ من أهلِ الإسلامِ الاعتراضُ بالرأىِ على ما نقَله المسلمونَ وراثةً عن نبِّيهم صلى الله عليه وسلم نقلًا ظاهرًا قاطعًا للعذرِ؛ لأن ما جاءت به الحجَّةُ من الدينِ هو الحقُّ الذى لا شكَّ فيه أنه من عندِ اللهِ، ولا يُعْتَرَضُ على ما قد ثبَت وقامتْ به حجةٌ أنه مِن عندِ اللهِ بالآراءِ والظنونِ والأقوالِ الشاذَّةِ.
وأمّا معْنى "الفديةِ" فإنه الجزاءُ، من قولِك: فديتُ هذا بهذا. أى: جَزيتُه به، وأعطتُه بدلًا منه.
ومعْنى الكلامِ: وعلى الذين يُطيقونَ الصيامَ جزاءُ طَعامِ مسكينٍ منه؛ لكلِّ يومٍ أفطرَه من أيامِ صيامِه الذى كُتِب عليه.
وأمّا قولُه: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فإن القرأةَ مختلفةٌ في قراءتِه؛ فبعضٌ
(1)
سقط من: الأصل.
يقرأُ بإضافةِ "الفديةِ" إلى "الطعامِ"، وخفضِ "الطعامِ"، وذلك قراءةُ عُظْمِ قرأةِ أهلِ المدينةِ
(1)
، بمعْنى: وعلى الذين يُطيقونه أنْ يَفدُوه طعامَ مسكينٍ. فلمَّا جعَل مكانَ "أنْ يفديَه""الفديةَ" أُضيفَت إلى "الطعامِ"، كما يقالُ: لزِمَتْنى غرامةُ درهمٍ لك. بمعنى: لزمنى أنْ أَغرَم لك درهمًا.
وآخرون يقرَءونه بتنوينِ "الفديةِ" ورفعِ "الطعامِ"، بمعنى الإبانةِ بالطعامِ
(2)
عن معنى الفديةِ الواجبةِ على مَن أفطر في صومِه الواجبِ، كما يقالُ: لزِمَتْنى غرامةٌ درهمٌ لك. فيُبينُ بالدرهم عن معنى الغرامةِ؛ ما هى وما حدُّها. وذلك قراءةُ عُظْمِ قرأةِ أهلِ العراقِ
(3)
.
وأوْلَى القراءتين بالصوابِ قراءةُ مَن قرأ: (فِدْيَةُ طَعَامِ) بإضافةِ "الفديةِ" إلى "الطعامِ"، [وتركِ تنوينِها وخفضِ "الطعامِ"]
(4)
؛ لأن الفديةَ اسمٌ للفعلِ، وهى غيرُ الطعامِ المَفْدِىِّ به الصومُ، وذلك أن الفديةَ مصدرٌ من قولِ القائلِ: فديتُ صومَ هذا اليومِ بطعامِ مسكينٍ، أَفديه فِدْيةً. كما يقالُ: جلستُ جِلسَةً، وَمَشَيْتُ مِشيةً. [فالفديةُ "فِعلةٌ"]
(5)
، والطعامُ غيرُها.
فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ
(6)
أنَّ أصحَّ القراءتين إضافةُ الفديةِ إلى الطعامِ. وواضحٌ خطأُ قولِ مَن قال: إن تَرْكَ إضافةِ الفديةِ إلى الطعامِ أصحُّ في المعنَى، من
(1)
وهى قراءة نافع وابن عامر. حجة القراءات ص 124.
(2)
فى م: "في الطعام".
(3)
وهى قراءة ابن كثير وعاصم وأبى عمرو وحمزة والكسائى. المصدر السابق.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م، ت 1:"والفدية فعل"، وفى ت 2:"فعلى".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تبين".
أجْلِ أن الطعامَ عندَه هو الفديةُ. فيقالُ لقائلِ ذلك: قد علِمْنا أنّ الفديةَ مُقتضيةٌ مُفدِيًا ومُفْدًى به وفديةً، فإنْ كان الطعامُ هو الفديةَ، والصومُ هو المفدَى به، فأين اسمُ فعلِ المفتدِى
(1)
الذى هو فديةٌ؟ إنّ هذا القولَ بَيِّنٌ خطؤُه غيرُ مُشكلٍ.
وأما "الطعامُ" فإنه مضافٌ إلى "المسكينِ". والقرأةُ في قراءةِ ذلك مختلِفون؛ فقرَأه بعضُهم بتوحيدِ المسكينِ
(2)
، بمعنَى: وعلى الذين يُطِيقونه فديةُ طعامِ مسكينٍ واحدٍ لكلِّ يومٍ أَفْطَره.
كما حدَّثنى محمدُ بنُ يزيدَ الرفاعىُّ، قال: حدثنا حسينٌ الجُعْفىُّ، عن أبى عَمرٍو أنه قرَأ:{فِدْيَةٌ} رفعٌ منونٌ، {طَعَامُ} رفعٌ بغير تنوينٍ {مِسْكِينٍ}. وقال: عن كلِّ يومٍ مسكينٌ.
وعلى ذلك عُظْمُ قرأةِ أهلِ العراقِ.
وقرَأه آخرون بجمعِ المساكينِ: (فديةُ طعام مساكينَ)
(3)
. بمعنى: وعلى الذين يُطيقونه فديةُ طعامِ مساكينَ عنِ الشهرِ إذا أفطرَ الشهرَ كلَّه.
كما حدَّثنى أبو هشامٍ محمدُ بنُ يزيدَ الرفاعىُّ، قال: حدثنا يعقوبُ، عن بشارٍ، عن عَمرٍو، عن الحسنِ: طعامُ مساكينَ عنِ الشهرِ كلِّه.
وأَعجبُ القراءتينِ إلىَّ في ذلك قراءةُ مَن قرَأ: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} . على الواحدِ، بمعنى: وعلى الذين يُطيقونَه عن كلِّ يومٍ أفطروه فديةٌ طعامُ مسكينٍ؛ لأن في إبانةِ حكمِ المفطرِ يومًا واحدًا وُصُولًا إلى معرفةِ حُكمِ المفطرِ جميعَ الشهرِ، وليس
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2:"ومفدى".
(2)
هى قراءة ابن كثير وعاصم وأبى عمرو وحمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص 176.
(3)
هى قراءة نافع وابن عامر. المصدر السابق.
في إبانةِ حُكمِ المفطرِ جميعَ الشهرِ وصولٌ إلى إبانةِ حكمِ المفطرِ يومًا واحدًا وأيّامًا هى أقلُّ من أيامِ جميعِ الشهرِ، وأنّ كلَّ واحدٍ يُترجِمُ عن الجميعِ، وأن الجميعَ لا يُترْجَمُ به عنِ الواحدِ، فلذلك اخترْنا قراءةَ ذلك بالتوحيدِ.
واختلفَ أهلُ العلمِ في مبلغِ الطعامِ الذى كانوا يُطعِمون في ذلك إذا أَفطَروا؛ فقال بعضُهم: كان الواجبُ من طعامِ المسكينِ لإفطارِ اليومِ الواحدِ نصفَ صاعٍ من قمحٍ.
وقال بعضُهم: كان الواجبُ
(1)
مُدًّا من قمحٍ ومن سائرِ أقواتِهم.
وقال بعضُهم: كان ذلك نصفَ صاعٍ من قمحٍ أو صاعًا من تمرٍ أو زبيبٍ.
وقال بعضُهم: ما كان المفطِرُ يَتَقَوَّتُه يومَه الذى أفطَره.
وقال بعضُهم: كان ذلك سَحورًا وعَشاءً يكونُ للمسكين إفطارًا. وقد ذكَرنا بعضَ هذه المقالاتِ فيما مضَى قبلُ، فكرِهنا إعادةَ ذِكرِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} .
اختَلفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فزادَ طعامَ مسكينٍ آخرَ فهو خيرٌ له، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
(2)
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ،
(1)
بعده في م، ت 2:"من طعام المسكين لإفطار اليوم".
(2)
تقدم أوله في ص 174.
عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا هنادُ بنُ السَّرِىِّ، قال: حدثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} قال: مَن أَطْعَمَ المسكينَ صاعًا
(2)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن معمرٍ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} قال: إطعامُ مساكينَ عن كلِّ يومٍ فهو خيرٌ له
(3)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن حنظلةَ، عن طاوسٍ نحوَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} قال: طعامُ مسكينَيْنِ
(4)
.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا الحجاجُ، قال: حدثنا حمادٌ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ مثلَه.
[حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدثنا سفيانُ، عن عبدِ الكريمِ، عن عطاءٍ مثلَه]
(5)
.
(1)
تقدم أوله في ص 175.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 309 (1643) من طريق وكيع به.
(3)
بعده في م، ت 1، ت 3:"حدثنى المثنى قال حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن حنظلة عن طاوس {فمن تطوع خيرا} قال طعام مسكين". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 179 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مسكين".
(5)
سقط من: م، ت 3.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عُمرُ بنُ هارونَ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ أنه قرَأ:{فَمَنْ تَطَوَّعَ} بالتاءِ، خفيفةً
(1)
{خَيْرًا} . قال: زاد على مسكينٍ.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} . فإن أطعَم مسكينَيْنِ فهو خيرٌ له
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: أخبَرنى ابنُ طاوسٍ، عن أبيه:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} . قال: من أطعَم مسكينًا آخرَ
(3)
.
وقال آخرون: معْنى ذلك: فمن تطوَّع خيرًا فصامَ مع الفديةِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو صالحٍ، قال: حدثنى الليثُ، قال: أخبَرنى يونسُ، عن ابنِ شهابٍ:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} : يريدُ أنَّ مَن صامَ مع الفديةِ فهو خيرٌ له
(4)
.
وقال آخرون: معنَى ذلك: فمن تطوَّع خيرًا فزادَ المسكينَ على قدرِ طعامِه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ
(1)
أى مخففة الطاء.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 309 عقب الأثر (1642) من طريق عمرو به.
(3)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 309 عقب الأثر (1642) معلقًا.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 309 (1644) من طريق أبى صالح به.
جُريجٍ. قال مجاهدٌ: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} . فزاد طعامًا {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}
(1)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه عمَّ بقولِه: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فلمْ يَخْصُصْ بعضَ معانى الخيرِ دونَ بعضٍ، وجمعُ الصومِ مع الفديةِ من تطوُّعِ الخيرِ، وزيادةُ مسكينٍ على جزاءِ الفديةِ من تطوُّعِ الخيرِ، [وزيادةُ المسكينِ على قدرِ قوتِ يومِه مِن تطوُّعِ الخيرِ]
(2)
.
وجائزٌ أن يكونَ جلَّ ثناؤُه عنَى بقولِه: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أىَّ هذه المعانِى تطوَّع به المفتدِى مِن صومِه {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ؛ لأنّ كلَّ ذلك من تطوُّعِ الخيرِ ونوافلِ الفضلِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: وأن تَصوموا ما كُتِب عليكم من صومِ (1) شهرِ رمضانَ خيرٌ لكم مِن أن تُفطِروه وتَفْتدُوا.
كما حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} : ومَن تكلَّفَ الصيامَ فصامَه فهو خيرٌ له.
حدَّثنى المثنى، قال: حدثنا أبو صالحٍ، قال: حدثنى الليثُ، قال: حدثنى يونسُ، عن ابنِ شهابٍ:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أى: إن الصيامَ خيرٌ لكم مِن الفديةِ.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7582) من طريق عبد الكريم عن مجاهد.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: وأنْ تَصُومُوا هو
(1)
خَيْرٌ لكمْ
(2)
.
وأما قولُه: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فإنه يعنى: إن كنتم تعلَمون خيرَ الأمرَين لكم أيّها الذين آمنوا؛ من الإفطارِ والفديةِ أو الصومِ على ما أمرَكم اللهُ به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .
قال أبو جعفرٍ: والشهرُ فيما قيلَ مأخوذٌ
(3)
أصلُه من الشُّهرةِ، يقالُ منه: قد شَهَر فلانٌ سيفَه. إذا أخرَجه من غِمدِه فاعترَض به مَن أراد ضربَهُ، يَشْهَرُه شَهْرًا. وكذلك: شهَر الشهرُ. إذا طلَعَ هلالُه، وأشهَرْنا نحن، إذا دخَلنا في الشهرِ.
وأما "رمضانُ"، فإن بعضَ أهلِ المعرفةِ بلغةِ العربِ كان يزعُمُ أنه سُمِّى بذلك لشدةِ الحرِّ الذى كان يكونُ فيه حتى تَرمَضَ فيه الفِصالُ، كما قيل للشهرِ الذى يُحَجُّ: ذو الحِجةِ. والذى يُرتَبَعُ فيه: رَبيعٌ الأولُ وربيعٌ الآخرُ.
وأما مجاهدٌ فإنه كان يَكْرَهُ أن يقالَ: رمضانُ. ويقولُ: لعله اسمٌ من أسماءِ اللهِ.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو نُعيم، قال: ثنا سفيانُ، عن مجاهدٍ أنه كرِه أن [يقول: رمضانُ]
(4)
. لعله اسمٌ من أسماءِ اللهِ، ولكن يقولُ كما قال اللهُ:
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 309 عقب الأثر (1645) معلقًا.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "يقال: رمضان. ويقول".
{شَهْرُ رَمَضَانَ}
(1)
.
وقد بينتُ فيما مضَى
(2)
أن {شَهْرُ رَمَضَانَ} مرفوعٌ على قولِه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} هنَّ شهرُ رمضانَ. وجائزٌ أن يكونَ رفعُه بمعنى: ذلك شهرُ رمضانَ. وبمعنى: كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ.
وقد قرأه بعضُ القرأةِ: (شَهْرَ رمضانَ) نصبًا
(3)
، بمعنى: كُتِبَ عليكم الصيامُ أنْ تصوموا شهرَ رمضانَ. وقرَأه بعضُهم نصبًا بمعنى: وأنْ تصوموا شهرَ رمضانَ خيرٌ لكم إن كنتم تعلَمون. وقد يجوزُ أيضًا نصبُه على وجهِ الأمرِ بصومِه، كأنه قيل: شهرَ رمضانَ فصومُوه. وجائزٌ نصبُه على الوقتِ، كأنه قيلَ: كُتِب عليكم الصيامُ في شهرِ رمضانَ.
وأما قولُه: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . فإنه ذُكِر أنه نزَل في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدنيا، في ليلةِ القدرِ من شهرِ رمضانَ، ثم أُنزِل إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم على ما أراد اللهُ إنزالَه إليه.
كما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، عن الأعمشِ، عن حسانَ [بنِ أبى الأَشْرَسِ]
(4)
، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أُنزِلَ القرآنُ
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 310 عقب الأثر (1648) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 183 إلى المصنف ووكيع. وفى الباب حديث مرفوع بإسناد ضعيف، وقال ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 187: لم يذكر أحد في أسماء الله تعالى رمضان، ولا يجوز أن يسمى به إجماعا. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة". وينظر سنن البيهقي 4/ 202، والفتح 4/ 112.
(2)
بعده في الأصل: "من". وتقدم في ص 159.
(3)
وهى قراءة مجاهد وشهر بن حوشب وهارون الأعور عن أبي عمرو، وأبي عمارة عن حفص عن عاصم. البحر المحيط 2/ 38.
(4)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"أبي الأشرس".
جملةً مِن الذكرِ في ليلةِ أربعٍ
(1)
وعشرين من رمضانَ، فجُعِل في بيتِ العزَّةِ
(2)
. قال أبو كريبٍ: قال أبو بكرٍ: وقال ذلك السُّدِّىُّ.
حدَّثنى عيسى بنُ عثمانَ، قال: ثنا يحيى بنُ
(3)
عيسى، عن الأعمشِ، عن حسانَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: نزَل القرآنُ جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ في شهرِ رمضانَ، فجُعِل في السماءِ الدنيا
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ منصورٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ رجاءٍ، قال: ثنا عمرانُ القطانُ، عن قتادةَ، عن ابنِ أبى المليحِ، عن واثِلةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"نزَلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ، وأُنزِلتِ التوراةُ لستٍّ مضَينَ من رمضانَ، وأُنزِل الإنجيلُ لثلاثَ عشرةَ خلتْ، وأُنزل القرآنُ لأربعٍ وعشرين من رمضانَ"
(5)
.
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"أربعة".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 533، والنسائى في الكبرى (7991)، والطبرانى في الكبير (12381، 12382)، والحاكم 2/ 223 من طرق عن الأعمش به بنحوه. وأخرجه النسائي في الكبرى (11689)، وابن الضريس في فضائله (118)، والحاكم 2/ 222، 530، والبيهقى في الدلائل 7/ 131، وفي الأسماء والصفات (495) من طريق منصور، عن سعيد نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 189 إلى الفريابي ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء في المختارة.
(3)
في م: "عن".
(4)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (119) من طريق يحيى بن عيسى به.
(5)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 310 (1649)، والطبراني في الكبير 22/ 75 (185)، والأوسط (3740)، والبيهقى 9/ 188، وفي الشعب (2248)، وفى الأسماء والصفات (494) من طريق عبد الله ابن رجاء به. وأخرجه أحمد 28/ 191 (16984) من طريق عمران به. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 189 إلى محمد بن نصر والأصبهانى في الترغيب. وقد تفرد عمران بهذا الإسناد، وفيه ضعف.
ورواه عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح، عن جابر موقوقًا، عند أبي يعلى (2190)، وعبيد الله متروك.
ورواه إبراهيم بن طهمان، عن قتادة من قوله ولم يجاوز به، قاله البيهقى في الأسماء والصفات. وإبراهيم لم يلق قتادة.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} : أما {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . فإن ابنَ عباسٍ قال: شهرُ رمضانَ، والليلةُ المباركةُ: ليلةُ القدرِ، فإن ليلةَ القدرِ هى الليلةُ المباركةُ، وهى في رمضانَ، نزَل القرآنُ جملةً واحدةً من الزُّبُرِ إلى البيتِ المعمورِ، وهو موقعُ
(1)
النجومِ في السماءِ الدنيا، حيث وقَع القرآنُ، ثم نُزِّل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمرِ والنَّهىِ، وفى الحروبِ
(2)
رَسَلًا
(3)
رَسَلًا
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: أنزَل اللهُ القرآنَ إلى السماءِ الدنيا في ليلةِ القدرِ، فكان اللهُ إذا أرادَ أن يُوحِىَ منه شيئًا أوْحاهُ، فهو قولُه:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
(5)
[القدر: 1].
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا ابنُ أبي عدىٍّ، عن داودَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، فذكرَ نحوَه. وزاد فيه: فكان بين أولِه وآخرِه عشرون سنةً
(6)
.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: نزَل القرآنُ كلُّه جملَةً واحدةً في ليلةِ القدرِ، في رمضانَ إلى السماءِ الدنيا، فكان اللهُ إذا أرادَ أن يُحدِثَ في الأرضِ شيئًا أنزَله منه حتى جمعَه
(7)
.
(1)
في م: "مواقع".
(2)
بعده في الأصل: "وفى الرجال".
(3)
الرسَل واحد الأرسال: وهي الأفواج والفرق المتقطعة يتبع بعضها بعضا. ينظر النهاية 2/ 222.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 189 إلى المصنف.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 533، وأبو عبيد في الفضائل ص 222، وابن الضريس في الفضائل (116)، والنسائي في الكبرى (7990)، والحاكم 2/ 222، والبيهقى في الدلائل 7/ 131، 132، وفي الأسماء والصفات (497) من طرق عن داود به.
(6)
أخرجه النسائى في الكبرى (7989) من طريق ابن أبي عدى به.
(7)
أخرجه الحاكم 2/ 222 - وعنه البيهقى في الأسماء والصفات (498) - من طريق ابن المثنى. وأخرجه ابن الضريس (117) من طريق عبد الأعلى به.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا حُصينٌ، عن حكيمِ بنِ جُبيرٍ
(1)
، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: نزَل القرآنُ في ليلةِ القدرِ من السماءِ العُلْيا إلى السماءِ جملةً واحدةً، ثم فُرِّقَ في السنين بعدُ. قال: وتلا ابنُ عباسٍ هذه الآيةَ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] قال: نزَل مُتفرِّقًا
(2)
.
حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليّةَ، عن داودَ، عن الشعبيِّ، قال: بلَغنا أن القرآنَ نزَل جملةً واحدةً إلى السماءِ الدنيا.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قراءةً
(3)
عن
(4)
ابنِ جُريجٍ في قولِه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} قال: قال ابنُ عباسٍ: نزَل القرآنُ جملةً واحدةً على جبريلَ في ليلةِ القدرِ، فكان لا يُنزِلُ منه إلا [ما أُمِر]
(5)
. قال ابنُ جُريجٍ: كان يُنزَّلُ من القرآنِ في ليلةِ القدرِ كلُّ شيءٍ يُنزَّلُ من القرآنِ في تلك السنةِ، فيتنَزّلُ
(6)
ذلك من السماءِ السابعةِ على جبريلَ في السماءِ الدنيا، فلا يُنزِّلُ جبريلُ مِن ذلك علَى محمدٍ إلَّا ما أمَرهُ به ربُّه، ومثلُ ذلك:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . و: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}
(7)
[الدخان: 3].
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بنُ موسى، عن إسرائيلَ،
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"جبر".
(2)
في م: "مفرقا". والأثر أخرجه الحاكم 2/ 530 - وعنه البيهقى في الشعب (2250) - من طريق هشيم به.
(3)
في م: "قرأة".
(4)
سقط من النسخ.
(5)
في م: "بأمر".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فنزل".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 189 إلى المصنف.
عن السُّدىِّ، عن محمدِ بنِ أبى المجالدِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال له رجلٌ: إنه قد وقَع في قلبى الشكُّ من قولِه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقولِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . وقولِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . وقد أنزَل اللهُ في شوالٍ وذى القَعدةِ وغيرِه. قال: إنما نزَل في رمضانَ في ليلةِ القدرِ، وليلةٍ مباركةٍ جملةً واحدةً، ثم أُنزِل على مواقعِ النجومِ رَسَلًا في الشهورِ والأيامِ
(1)
.
وأما قولُه: {هُدًى لِلنَّاسِ} فإنه يعنى: رشادًا للناسِ إلى سبيلِ الحقِّ وقَصدِ المنهجِ.
وأما قولُه: {وَبَيِّنَاتٍ} فإنه يعنى: واضحاتٍ، {مِنَ الْهُدَى} يعنى: من البيانِ الدالِّ على حدودِ اللهِ وفرائضِه وحلالِه وحرامِه.
وقولُه: {وَالْفُرْقَانِ} يعنى: والفَصلِ بين الحقِّ والباطلِ.
كما حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: أما {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فبيناتٍ من الحلالِ والحرامِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
اختلف أهلُ التأويلِ في معنى شهودِ الشهرِ؛ فقال بعضُهم: هو مُقامُ المقيمِ في دارِه. قالوا: فمن دخَل عليه شهرُ رمضانَ وهو مقيمٌ في دارِه، فعليه صومُ الشهرِ
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم 1/ 310 (1650)، والبيهقى في الأسماء والصفات (501) من طريق عبيد الله به، وأخرجه الطبرانى في الكبير (12095) من طريق مقسم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 189 إلى محمد بن نصر وابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 311 (1654) من طريق عمرو به.
كلِّه، غابَ بعدُ فسافرَ أو أقام فلم يَبْرَحْ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ حُميدٍ ومحمدُ بنُ عيسى الدَّامَغانىُّ، قالا: ثنا ابنُ المباركِ، عن الحسنِ بنِ يحيى، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: هو إهلالُه بالدَّارِ. يريدُ إذا هَلَّ وهو مقيمٌ
(1)
.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا حصينٌ، عمّن حدَّثه، عن ابنِ عباسٍ أنه قال في قولِه:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} : فإذا شهِده وهو مقيمٌ فعليه الصومُ، أقامَ أو سافرَ، وإن شهِده وهو في سفرٍ، فإن شاء صامَ، وإن شاءَ أفطرَ
(2)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن عَبيدةَ في الرجل يُدركُه رمضانُ ثم يسافِرُ، قال: إذا شهِدتَ أولَه فَصُمْ آخرَه، ألا تراه يقولُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(3)
؟
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن هشامٍ القُرْدوسيِّ
(4)
، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: سألتُ عَبيدةَ عن رجلٍ أدرَك رمضانَ وهو مقيمٌ، قال: من صامَ أولَ الشهرِ فلْيصُمْ آخرَه، ألا تراه يقولُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؟
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عَمرٌو قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، أما: {فَمَنْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 190 إلى المصنف، وعبد بن حميد.
(2)
ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 312 عقب الأثر (1656) معلقًا.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7759)، وابن أبى شيبة 3/ 18 من طريق أيوب به، والأثر في تفسير سفيان ص 57 قال: قال عبيدة. . . نذكره مختصرًا.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الفردوسى".
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. فمن دخَل عليه رمضانُ وهو مقيمٌ في أهلِه فلْيصُمْه، فإن خرَج فيه فلْيَصُمْه، فإنه دخَل عليه وهو في أهلِه
(1)
.
حدَّثنى المثنى، قال: ثنا حجاجٌ قال: ثنا حمادٌ، قال: أخبرَنا قتادةُ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ السلمانيِّ، عن عليٍّ -فيما يحسَبُ حمادٌ- قال: مَن أدرَكه
(2)
رمضانُ وهو مقيمٌ لم يخرُجْ فقد لزِمه الصومُ، لأن اللهَ جلّ وعزّ يقولُ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(3)
.
حدَّثنا هنّادُ بنُ السَّرىِّ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ
(4)
، عن إسماعيلَ بنِ مُسلمٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: سألتُ عَبيدةَ السلمانيَّ عن قولِ اللهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: من كان مقيمًا فلْيصُمْه، ومن أدْرَكَه ثم سافرَ فيه فلْيصُمْهُ.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن ابنِ عونٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: من شهِد أولَ رمضانَ فليصمْ آخرَهُ.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا عَبْدَةُ، عن سعيدِ بنِ أبى عَروبةَ، عن قتادةَ، أن عليًّا كان يقولُ: إذا أدرَكه رمضانُ وهو مقيمٌ ثم سافرَ فعليه الصومُ
(5)
.
حدَّثنا هنّادٌ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ، عن عُبيدَةَ الضبيِّ، عن إبراهيمَ، قال: كان
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 312 عقب الأثر (1656) من طريق عمرو به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أدرك".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 312 (1656) من طريق حماد به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 190 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(4)
في م: "الرحمن".
(5)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 18 من طريق سعيد به، وأخرجه عبد الرزاق (7761) عن معمر، عن قتادة بمعناه، وقتادة لم يدرك عليًّا رضي الله عنه ولم يسمع منه. ينظر تحفة التحصيل ص 262، 263. وتهذيب الكمال 23 / الترجمة 4848.
يقولُ: إذا أدْرَكَك رمضانُ فلا تسافِرْ فيه، فإن صُمتَ فيه يومًا أو اثنين ثم سافرتَ فلا تُفطِرْه، صُمْهُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عَمرِو بنِ مُرّةَ، عن أبى البَخْترىِّ، قال: كنا عند عَبيدةَ فقرَأ هذه الآيةَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: مَن صام شيئًا منه في المصرِ فلْيَصُمْ بقيتَه إذا خرَج. قال: وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: إن شاءَ صامَ، وإن شاءَ أفطرَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، وحدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قالا جميعًا: ثنا أيوبُ، عن أبى يزيدَ، عن أمِّ ذَرَّةَ
(3)
، قالتْ: أتيتُ عائشةَ في رمضانَ، قالت: من أين جئتِ؟ قلتُ: من عند أخى حُنينٍ. قالت: ما شأنُه؟ قلتُ: ودَّعْتُه يريدُ يرتحِلُ. قالت: فأقرئيه السلامَ ومُرِيه فلْيُقِمْ، فلو أدرَكنى رمضانُ وأنا ببعضِ الطريقِ لأَقَمْتُ له
(4)
.
حدَّثنا هنّادٌ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ عيسى، عن أفلحَ، عن عبدِ الرحمنِ، قال: جاءَ إبراهيمُ بنُ طلحةَ إلى عائشةَ يسلِّمُ عليها
(5)
، قالت: وأين تريدُ؟ قال
(6)
: أرَدتُ العمرةَ. قالت: فجلَستَ حتى إذا دخَل عليك الشهرُ خرجتَ فيه! قال: قد خرَج
(1)
ذكره ابن حزم في المحلى 6/ 371، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 18 عن غندر به نحوه، وأخرجه البيهقى 4/ 246 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"درة".
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 19 عن عبد الوهاب به، وأخرجه عبد الرزاق (7764) عن معمر عن أيوب به بنحوه -وفى إسناده سقط-، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(5)
بعده في الأصل: "ثم".
(6)
في الأصل: "قالت".
ثَقَلِى
(1)
. قالت: اجلِسْ حتى إذا أفطرتَ فاخرُجْ. يعنى شهرَ رمضانَ
(2)
.
وقال آخرون: معنى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} : فمن شهِدَ منكم الشهرَ فليصُمْ ما شهِدَ منه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِىِّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن أبى إسحاقَ، أن أبا مَيسرةَ خرَج في رمضانَ حتى إذا بلَغ القنطرةَ دعا بماءٍ فشرِب.
حدَّثنا هنادٌ، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، قال: خرَج أبو مَيسرةَ في رمضانَ مسافرًا، فمرّ بالفُراتِ وهو صائمٌ، فأخَذ منه كفًّا فشرِبه وأفطَر
(3)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن أبى إسحاقَ، عن مَرثدٍ، أن أبا ميسرةَ سافرَ في رمضانَ فأفطرَ عند بابِ الجسرِ. هكذا قال هنادٌ: عن مَرثدٍ. وإنما هو مَزْيَدٌ
(4)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبرَنا إسرائيلُ، عن أبى إسحاقَ، عن مَزيدٍ
(5)
أنه خرَج معَ أبى مَيسرةَ في رمضانَ، فلما انتهى إلى الجسرِ أفطرَ.
حدَّثنا هنادٌ وأبو هشامٍ، قالا: ثنا وكيعٌ، عن المسعودىِّ، عن الحسنِ بنِ سعدٍ، عن أبيه، قال: كنتُ مع عليٍّ في ضَيعةٍ له على ثلاثٍ من المدينةِ، فخرَجْنا نريدُ
(1)
الثقل: المتاع. اللسان (ث ق ل).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 19 عن جرير به بنحوه.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبو مرثد".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مرثد".
المدينةَ في شهرِ رمضانَ وعلىٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ، قال: فصام. قال هنادٌ: وأفطرتُ. وقال أبو هشامٍ: وأمَرنى فأفطَرتُ
(1)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عُتْبةَ، عن الحسنِ بنِ سعدٍ، عن أبيه، قال: كنتُ مع عليِّ بنِ أبى طالبٍ، وهو جائىٌ
(2)
من أرضٍ له، فصامَ وأمَرنى فأفطرتُ، فدخَل المدينةَ ليلًا وكان راكبًا وأنا ماشٍ.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، وحدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ مهدىٍّ، قالا جميعًا: ثنا سفيانُ، عن عيسى بنِ أبى عَزَّةَ، عن الشعبيِّ أنه سافر في شهرِ رمضانَ، فأفطرَ عند بابِ الجسرِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: قال لى سفيانُ: أحَبُّ إليَّ أن تُتِمَّه.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، قال: سألتُ الحكمَ وحمادًا، وأردتُ أن أسافِرَ في رمضانَ، فقالا: اخْرُجْ. وقال حمادٌ: قال إبراهيمُ: أما إذا كان العَشْرُ فأحَبُّ إلىَّ أن يقيمَ.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا أبو الوليدِ، قال: ثنا حمادٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ وسعيدِ بنِ المسيَّبِ، قالا: من أدرَكه الصومُ وهو مقيمٌ رمضانَ ثم سافرَ، قالا: إن شاءَ أفطرَ
(4)
.
(1)
ينظر في المحلى 6/ 372.
(2)
في م: "جاءٍ"، والذى في الأصل بإثبات الياء جائز فصيح.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف 3/ 14 عن ابن نمير عن زكريا عن الشعبى أنه كان لا يصوم في السفر. وأخرج عبد الرزاق معناه في المصنف 4/ 270 (7766) من قول الشعبى.
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 19 من طريق حماد به. وأخرج عبد الرزاق في المصنف (7766) عن معمر عن الحسن معناه مطولًا.
وقال آخرون: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يعنى: فمَن شهِده عاقلًا بالغًا مكلَّفًا فلْيصُمْه.
وممن قال ذلك أبو حنيفةَ وأصحابُه، كانوا يقولُون: من دخَل عليه شهرُ رمضانَ وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صَومُه، فإن جُنَّ بعدَ دخولِه عليه، وهو بالصفةِ التى وصَفْنا، ثم أفاقَ بعدَ انقضائِه، لزِمه قضاءُ ما كان فيه مِن أيامِ الشهرِ مغلوبًا على عقلِه، لأنه كان ممَّنْ شهِده وهو مِمَّنْ عليه فُرِض.
قالوا: فكذلك لو دخَل عليه شهرُ رمضانَ وهو مجنونٌ إلا أنه ممَّنْ لو كان صحيحَ العقلِ كان عليه صومُه، [فلم يَنْقَضِ]
(1)
الشهرُ حتى صَحَّ وبرَأ و
(2)
أفاقَ قبل انقضاءِ الشهرِ بيومٍ أو أكثرَ من ذلك، فإن عليه قضاءَ صومِ الشهرِ كلِّه سوى اليومِ الذى صامَه بعد إفاقَتِه، لأنه ممّن قد شهِد الشهرَ.
وقالوا: ولو دخَل عليه شهرُ رمضانَ وهو مجنونٌ فلم يُفِقْ حتى انقضى الشهرُ كلّه ثم أفاق، لم يَلْزَمْه قضاءُ شيءٍ منه، لأنه لم يكن ممّن شهِده مكلَّفًا صومَه.
وهذا تأويلٌ لا معنى له؛ لأن الجنونَ إن كان يُسقِطُ عمّن كان به فرضَ الصومِ من أجلِ فَقْدِ صاحبِه عقلَه جميعَ الشهرِ، فقد يَجِبُ أن يكونَ ذلك سبيلَ كلِّ من فَقَد عقلَه جميعَ شهرِ الصومِ. [وقد أجمَع الجميعُ على أنّ مَن فقَد عقلَه جميعَ شهرِ الصومِ]
(3)
بإغماءٍ أو بِرسامٍ
(4)
، ثم أفاقَ بعد انقضاءِ الشهرِ، أنّ عليه قضاءَ الشهرِ كلِّه.
(1)
في م: "فلن ينقضى".
(2)
في م: "أو".
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
البِرْسام: ورم حار يعرض للحجاب الذى بين الكبد والأمعاء، ثم يتصل إلى الدماغ حتى يهذى من=
لم يخالِفْ ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأُمّةِ. وإذا كان ذلك
(1)
إجماعًا، فالواجبُ أن يكونَ سبيلُ كلِّ مَن كان زائلَ العقلِ جميعَ شهرِ الصومِ سبيل المغمَى عليه. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن تأويلَ الآيةِ غيرُ الذى تأوَّلَها به
(1)
قائلو هذه المقالةِ من أنه شُهودُ الشهرِ أو بعضِه مُكلَّفًا صومَه. فإذا بطَل ذلك فتأويلُ المتأوِّلِ الذى زعَم أن معناه: فمن شهِد أولَه مقيمًا حاضرًا فعليه صومُ جميعِه. أبْطَلُ وأفْسَدُ، لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه خرَج عامَ الفتحِ من المدينةِ في شهرِ رمضانَ بعد ما صامَ بعضَه فأفطر وأمرَ أصحابَه بالإفطارِ.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو الأحْوصِ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: سافرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في رمضانَ من المدينةِ إلى مكةَ، حتى إذا أتى عُسْفانَ
(2)
نزَل به، فدعا بإناءٍ فوضَعه على يدِه ليراهُ الناس، ثم شرِبَه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ وسفيانُ بنُ وكيعٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(4)
.
= يصاب به. التاج (برسم).
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة، وقيل: بين المسجدين، وهى من مكة على مرحلتين، وقيل: قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة وهى حد تهامة. سميت عسفان لتعسف الليل بها. معجم البلدان 3/ 673.
(3)
أخرجه الطيالسى (2766)، وأحمد 5/ 249 (3162)، والنسائى (2289)، وابن ماجة (1661)، والمصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 95، 96، والبغوى في الجعديات (820)، والطحاوى في شرح المعانى 2/ 64، 65، من طرق عن منصور به. وأخرجه النسائى (2287)، والطبرانى (11053)، وابن عبد البر في التمهيد 9/ 67، 68 من طريق الحكم، عن مجاهد، به.
(4)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 93، وأخرجه البخارى (4279)، ومسلم (1113)، والنسائى (2290)، وابن خزيمة (2036) من طريق جرير به.
حدَّثنا هنادٌ، ثنا عُبيدةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(1)
.
حدَّثنا هنادٌ وأبو كريبٍ، قالا: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا ابنُ إسحاقَ، قال: وحدثنى الزهرىُّ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: مضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لسفرِه عامَ الفتحِ لعشرٍ مَضَين من رمضانَ، فصامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصام الناسُ معَه، حتى
(2)
أتى الكَدِيدَ
(3)
، ما بين عُسفانَ وأمَجَ
(4)
، ثم
(5)
أفطَر
(6)
.
حدَّثنا هنادٌ وأبو كريبٍ، قالا: ثنا عَبدةُ
(7)
، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن الزُّهرِىِّ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ، عن ابنِ عباسٍ قال: خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعشرٍ أو لعشرينَ مضَتْ من رمضانَ عامَ الفتحِ، فصام حتى إذا كان بالكَدِيدِ أفطرَ
(8)
.
(1)
أخرجه أحمد 4/ 182، 183 (2350)، وابن خزيمة (2036) من طريق عبيدة به.
(2)
بعده في م: "إذا".
(3)
الكديد: موضع بالحجاز على اثنين وأربعين ميلا من مكة. معجم البلدان 4/ 245.
(4)
أمج: بلد من أعراض المدينة، وقيل: أمج وغُرّان واديان يأخذان من حرة بنى سليم ويفرغان في البحر. معجم البلدان 1/ 357.
(5)
سقط من: م.
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 399، 400، وأخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 101، وأخرجه البيهقى في الدلائل 5/ 19، 20 من طريق يونس بن بكير به، وأخرجه أحمد 4/ 222، 5/ 66 (2392، 2882) من طريق ابن إسحاق به، وفى الموضع الثانى: فلما نزل مَرَّ الظهران.
والحديث أخرجه مالك 1/ 294، والشافعى 1/ 468، وعبد الرزاق (4472، 7762، 9738)، والبخارى (1944، 2953، 4275، 4276)، ومسلم (1113) وغيرهم من طريق الزهرى به. وينظر مسند الطيالسى (2841).
(7)
في ت 1: "عبيدة".
(8)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 101.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا سالمُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا عُمرُ بنُ عامرٍ، عن قتادةَ، عن أبى نضرةَ، عن أبى سعيدٍ الخدرىِّ، قال: خرَجنا مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم لثمانِ عشرةَ مضَتْ من رمضانَ، فمِنَّا الصائمُ، ومنَّا المفطرُ، فلم يَعِبِ الصائمُ على المفطرِ، ولا المفطرُ على الصائمِ
(1)
.
[فإذ كان فاسدًا]
(2)
هذان التأويلان بما عليه دللنا من فسادِهما، فبَيِّنٌ
(3)
أن الصحيحَ من التأويلِ هو الثالثُ، وهو قولُ من قال: فمن شهِد منكم الشهرَ فليصُمْ جميعَ ما شهِد منه مقيمًا، ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
يعنى جلّ ثناؤه بذلك: ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فى الشهرِ فأفطَر فعليه صيامُ عدَّةِ الأيامِ التى أفطرَها من أيامٍ أُخَرَ غيرِ أيامِ شهرِ رمضانَ.
ثم اختلَف أهلُ العلمِ فى المرضِ الذى أباحَ اللهُ به الإفطارَ، وأوجَب معه عدّةً من أيامٍ أُخرَ؛ فقال بعضُهم: هو المرضُ الذى لا يُطيقُ صاحبُه معه القيامَ لصلاتِه.
(1)
أخرجه المصنف فى تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 109، وأخرجه مسلم (1116) من طريق سالم بن نوح به. وأخرجه الطيالسى (2271)، وابن أبى شيبة 3/ 17، وأحمد 17/ 286، 18/ 12، 218، 235، 375 (11191، 11413، 11684، 11705، 11870)، ومسلم (1116)، وأبو يعلى (1035)، والمصنف فى تهذيب الآثار ص 109، 110، وابن حبان (3562)، والطحاوى فى شرح المعانى 2/ 68 من طرق عن قتادة به.
وفى بعض ألفاظه "لست عشرة" وفى أخرى "لسبع عشرة"، وفى غيرهما "لثنتى عشرة"، وفى رواية:"لسبع عشرة أو ثمان عشرة". وينظر علل الدارقطنى 11/ 330 - 332.
(2)
فى م ت "فإذا كان فاسدين".
(3)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فتبين".
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا مُعاذُ بنُ شعبةَ البصرىُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، وإسماعيلَ ابنِ مُسلمٍ، عن الحسنِ، [أنهما قالا]
(1)
: إذا لم يَستطعِ المريضُ أن يُصلِّىَ قائمًا أفطَر
(2)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن مغيرةَ أو عُبيدةَ، عن إبراهيمَ فى المريضِ إذا لم يَسْتَطعِ الصلاةَ قائمًا: فلْيُفطِرْ. يعنى فى رمضانَ.
حدَّثنا هنّادٌ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، عن إسماعيلَ، قال: سألتُ الحسنَ: متى يفطِرُ الصائمُ؟ قال: إذا جَهَده الصومُ. قال: إذا لم يَستطعْ أن يصلِّىَ الفرائضَ كما أمِر
(3)
.
وقال بعضُهم: هو كلُّ مرضٍ كان الأغلَبُ من أمْرِ صاحبِه بالصومِ الزيادةَ فى علَّتِه زيادةً غيرَ المحتمَلةِ. وذلك هو قولُ محمدِ بنِ إدريسَ الشافعىِّ
(4)
، حدثنا بذلك عنه الربيعُ.
وقال آخرون: هو كُلُّ
(5)
مرضٍ يسمَّى مرضًا.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا الحسنُ بنُ خالدٍ الربعىُّ، قال: ثنا طريفُ بنُ
(1)
فى م: "أنه قال".
(2)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 190 إلى المصنف، وينظر تفسير البغوى 1/ 199، وفتح البارى 8/ 179.
(3)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"مر".
(4)
الأم 2/ 104.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
شهابٍ
(1)
العُطاردىُّ، أنه دخَل على محمدِ بنِ سيرينَ فى رمضانَ وهو يأكُلُ فلمْ يسألْه، فلمّا فرَغ قال: إنه وَجِعتْ إصبَعى هذه
(2)
.
والصوابُ من القولِ فى ذلك عندنا أن المرضَ الذى أذِنَ اللهُ عز وجل بالإفطارِ معه فى شهرِ رمضانَ، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غيرَ مُحتمَلٍ، فكلُّ من كان كذلك فله الإفطارُ، وقضاءُ عدّةٍ من أيامٍ أُخرَ، وذلك أنه إذا بلَغ ذلك الأمرَ، فإن لم يكنْ مأذونًا له فى الإفطارِ فقد كُلِّفَ عُسرًا، ومُنِعَ يُسرًا. وذلك غيرُ الذى أخبرَ اللهُ أنه أراده بخلقِه بقولِه:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وأمّا منْ كانَ الصومُ غيرَ جاهدِه، فهو بمعنى الصحيحِ الذى يُطيقُ الصومَ، فعليه أداءُ فَرْضِه.
وأما قولُه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} فإن معناها: أيامًا معدودةً سوى هذه الأيامِ.
وأما "الأُخرُ" فإنها جمعُ "أُخرَى"، كجمعِهم
(3)
"الكُبرَى" على "الكُبَرِ"، و"القُربى" على "القُرَبِ".
فإن قال قائلٌ: أو ليست "الأُخرُ" من صفةِ الأيامِ؟ قيل: بلَى.
[فإن قال: أوَليس واحدَ "الأيامِ" يومٌ وهو مذكَّرٌ؟ قيل: بلى]
(4)
.
(1)
فى النسخ: "تمام". وهو طريف بن شهاب العطاردى. ينظر الجرح والتعديل 3/ 10، وتهذيب الكمال 13/ 377 - 379.
(2)
علقه البغوى فى تفسيره 1/ 199 عن طريف به. وطريف ضعيف.
(3)
فى م: "بجمعهم".
(4)
سقط من: الأصل.
فإن قال: فكيف يكون واحدُ "الأُخر""أخْرى" وهى صفةٌ لليومِ ولم يكُنْ "آخر"؟
قيل: إنّ واحدَ "الأيامِ" وإنْ كان إذا نُعِت بواحدِ "الأُخر" فهو "آخر"، فإنّ الأيامَ فى الجمعِ تصيرُ إلى التأنيثِ، فتصيرُ نعوتُها وصفاتُها كهيئةِ صفاتِ المؤنثِ، كما يقالُ: مضَت الأيامُ جُمعُ. ولا يقالُ: أجمعاتٌ
(1)
، ولا: أيامٌ أخرات
(2)
.
فإن قال لنا قائلٌ: فإن اللهَ جلّ ثناؤه قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومعنى ذلك عندك: فعليه عدَّةٌ من أيامٍ أُخرَ. كما قد وصفتَ فيما مضَى، فإن كان ذلك تأويلَه، فما قولُك فى من كان مريضًا أو على سفرٍ فصامَ الشهرَ وهو ممن له الإفطارُ، أمُجزيه ذلك من صيامِ عدَّةٍ من أيامٍ أُخَر، أم غيرُ مُجزِيه ذلك؟ وفرضُ صومِ عدَّةٍ من أيامٍ أُخرَ ثابتٌ عليه بهيئتِه وإن صامَ الشهرَ كلَّه؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سفرٍ صيامُ شهرِ رمضانَ، أم ذلك محظورٌ عليه، وغيرُ جائزٍ له صومُه؟ والواجبُ عليه الإفطارُ فيه حتى يُقيمَ هذا ويَبرأَ هذا؟
قيل: قد اختلَفَ أهلُ العلمِ فى كلِّ ذلك، ونحن ذاكرُو اختلافِهم فى ذلك، ومخبرونَ بأَوْلاهُ بالصَّوابِ إنْ شاءَ اللهُ؛ فقال بعضُهم: الإفطارُ فى المرضِ عَزْمةٌ من اللهِ واجِبةٌ، وليس بترخيصٍ.
(1)
فى م: "أجمعون".
(2)
فى م: "آخرون".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ، وحدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، جميعًا عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن جابرِ بنِ زيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الإفطارُ فى السفرِ عزمةٌ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: أخبرَنا شعبةُ
(2)
، عن يَعْلَى، عن يوسفَ بنِ الحَكَمِ، قال: سألتُ ابنَ عمرَ -أو سُئِل- عن الصومِ فى السفرِ، فقال: أرأيت لو تصدّقتَ على رجُلٍ بصدقةٍ فردَّها عليك، ألم تغضَبْ؟ فإنها صدقةٌ مِن اللهِ تصدَّقَ بها عليكم
(3)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأودىُّ، قال: ثنا المحاربىُّ، عن عبدِ الملكِ بنِ حُمَيدٍ، قال: قال أبو جعفرٍ: كان أبى لا يصومُ فى السَّفرِ وينهى عنه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عُبَيْدٌ، عن الضَّحَّاكِ أنه كرِه الصومَ فى السفرِ
(5)
.
وقال أهلُ هذه المقالةِ: مَن صام فى السفرِ فعليه القضاءُ إذا أقام.
(1)
أخرجه المصنف فى تهذيب الآثار ص 137 (مسند ابن عباس)، والبزار (986 - كشف) من طريق ابن أبى عدى به. وأخرجه ابن أبى شيبة 3/ 14، وعبد بن حميد -كما فى الدر المنثور 1/ 191 - ومن طريقهما ابن حزم فى المحلى 6/ 388 من طريق سعيد به.
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد".
(3)
أخرجه المصنف فى تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 138، وأخرجه الدولابى فى الكنى 1/ 154، 155، وابن حزم فى المحلى 6/ 388 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه المصنف فى تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 142.
(5)
أخرجه المصنف فى تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 143.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا
(1)
نصرُ بنُ علىٍّ الجَهْضَمِىُّ
(2)
، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ربيعةُ ابنُ كُلْثومٍ، عن أبيه، عن رجلٍ، أن عمرَ أمَر الذى صام فى السفرِ أن يُعِيدَ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ أبى عَدِىٍّ، عن [شعبةَ، عن]
(4)
عمْرِو بنِ دينارٍ، عن رجلٍ مِن بنى تميمٍ، عن أبيه، قال: أمَر عُمرُ رجُلًا صام فى السفرِ أن يُعِيدَ صومَه
(5)
.
حدَّثنى أبو
(6)
حميْدٍ الحِمْصِىُّ، قال: ثنا علىُّ بنُ مَعْبَدٍ، عن عُبَيْدِ اللهِ بنِ عمْرٍو، عن عبدِ الكريمِ، عن عطاءٍ، عن المُحَرَّرِ بنِ أبى هريرةَ، قال: كنتُ معَ أبى فى سفرٍ فى رمضانَ، فكنتُ أصومُ ويُفْطِرُ، فقال لى أبى: أمَا إنَّك إذا أقمتَ قضيتَ
(7)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا سليمانُ بنُ داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصمٍ مولى قُرَيْبَةَ، قال: سمِعتُ عروةَ يَأْمُرُ رجلًا صام فى السفرِ أن يَقْضِىَ
(8)
.
(1)
بعده فى الأصل: "محمد بن".
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الخثعمى".
(3)
أخرجه ابن حزم فى المحلى 6/ 387 من طريق كلثوم به، وأخرجه عبد الرزاق 4/ 270 (7763)، وعبد بن حميد -كما فى الدر المنثور 1/ 191 - ، وابن حزم من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عمر.
(4)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد بن".
(5)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 18 من طريق شعبة به، وأخرجه عبد الرزاق 4/ 70 (7763) من طريق عمرو بن دينار عن كلثوم بن جبر، عن عمر، وكلثوم لم يدرك عمر.
(6)
فى م: "ابن".
(7)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 18، والطحاوى فى شرح المعانى 2/ 63 من طريق عبد الكريم به بنحوه، وأخرجه ابن حزم فى المحلى 6/ 389 من طريق عطاء به بنحوه، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(8)
أخرجه ابن حزم فى المحلى 6/ 389 من طريق شعبة به بنحوه.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصمٍ مولى قُريبةَ أن رجلًا صام في السفرِ فأمَره عروةُ أن يَقضىَ.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ صَبِيحٍ، قال: ثنا رَبيعةُ بنُ كُلْثومٍ، عن أبيه كلثومٍ أن قومًا قدِموا على عمرَ بنِ الخطابِ، وقد صاموا شهرَ رمضانَ في سفرٍ، فقال لهم: واللهِ، لكَأَنَّكم كنتُم تصومون. فقالوا: واللهِ يا أميرَ المؤمنين، لقد صُمْنا. قال: فأطَقْتُموه؟ قالوا: نعم. قال: فاقْضُوه، فاقضوه، فاقضوه.
وعِلَّةُ مَن قال هذه المقالةَ أن اللهَ فرَض بقولِه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} صومَ شهرِ رمضانَ على مَن شهِده مقيمًا غيرَ مسافرٍ، وجعَل على مَن كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عِدَّةٍ مِن أيامٍ أُخَرَ غيرِ أيامِ شهرِ رمضانَ بقولِه:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . قالوا: فكما غيرُ جائزٍ للمقيم إفطارُ أيامِ شهرِ رمضانَ وصومُ عِدَّةِ أيامٍ أُخَرَ مكانَها؛ لأن الذى فرَضه اللهُ عليه بشهودِه الشهرَ صومُ الشهرِ دونَ غيرِه، فكذلك غيرُ جائزٍ لمَن لم يَشْهَدْه مِن المسافرينَ مقيمًا صومُه؛ لأن الذى فرَضه اللهُ عليه عِدَّةٌ مِن أيامٍ أُخَرَ.
واعتلُّوا أيضًا مِن الخبرِ بما حدَّثنا به محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ الواسطىُّ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ محمدٍ الزُّهْرِىُّ، قال: ثنا عبدُ
(1)
اللهِ بنُ موسى، عن أسامةَ بنِ زيدٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن أبى سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصّائِمُ في السَّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَرِ"
(2)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبيد".
(2)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 123، وأخرجه البزار (1025) من طريق يعقوب بن محمد به.=
حدَّثنى محمدُ بنُ عبدِ
(1)
اللهِ بنِ سعيدٍ، قال: ثنا [زيدُ، قال: أخبرنا]
(2)
يزيدُ بنُ عِيَاضٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن أبى سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الصّائِمُ في السَّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَرِ"
(3)
.
وقال آخرون: إباحةُ الإفطارِ في السفرِ رُخْصَةٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه رخَّصها لعبادِه، والفرضُ الصومُ، فمَن صام ففَرْضَه
(4)
أدَّى، ومَن أفطَر فبرخصةِ اللهِ له أفطَر. قالوا: وإن صام في سفرِه
(5)
فلا قضاءَ عليه إذا أقام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا أيوبُ، قال: حدّث عُرْوَةُ وسالمٌ أنهما كانا عندَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ -إذ هو أميرٌ على المدينةِ- فتذاكَروا الصومَ في السفرِ، فقال سالمٌ: كان ابنُ عمرَ لا يصومُ في السفرِ. قال عروةُ: كانت عائشةُ تصومُ. فقال سالمٌ: إنما أُحَدِّثُ
(6)
عن ابنِ عمرَ. وقال عروةُ: إنما أُحَدِّثُ
(6)
عن
= وأخرجه ابن ماجة (1666)، والهيثم بن كليب في مسنده، والضياء في المختارة -كما في السلسلة الضعيفة (498) - من طريق أسامة بن زيد به، وأبو سلمة لم يسمع من أبيه. وأخرجه ابن أبى شيبة 3/ 14، والنسائى (2283، 2284) من طريق عن ابن أبى ذئب، عن الزهرى به موقوفًا. وأخرجه النسائى (2285) من طريق أبى معاوية، عن ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه موقوفًا. والموقوف أصح، وينظر علل ابن أبى حاتم 1/ 239، وعلل الدارقطنى 4/ 283، وسنن البيهقى 4/ 244، والضعيفة للألبانى 1/ 713.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبيد".
(2)
سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 124، وأخرجه ابن عدى 7/ 2720 من طريق يزيد بن هارون به. ويزيد بن عياض متروك.
(4)
في م: "فرضه".
(5)
في م: "سفر".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أخذت".
عائشةَ. حتى ارتفَعتْ أصواتُهما، فقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: اللهمَّ غَفْرًا
(1)
، إذا كان يُسْرًا فصوموا، وإذا كان عُسْرًا فأفْطِروا
(2)
.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، قال: حدَّثنى رجلٌ، قال: ذُكِر الصومُ في السفرِ عندَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابنِ بَشَّارٍ
(3)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، وحدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، ثنا ابنُ إسحاقَ، عن الزُّهْرِىِّ، عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: خرَج عمرُ بنُ الخطابِ في بعضِ أسفارِه في ليالٍ بَقِيتْ من رمضانَ، فقال: إن الشهرَ قد تَسَعْسَعَ
(4)
-قال أبو كُرَيْبٍ في حديثه: أو تَسَغْسَغَ
(5)
، ولم يَشُكَّ يعقوبُ- فلو صُمْنا! فصام وصام الناسُ مَعَه، ثم أقبَل مرةً قافلًا حتى إذا كان بالرَّوْحاءِ
(6)
أهلَّ هلالُ شهرِ رمضانَ، فقال: إن اللهَ قد قضَى السفَرَ، فلو صُمْنا ولم نَثلِمْ
(7)
شهرَنا! قال: فصام وصام الناسُ معَه
(8)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا الحَكَمُ بنُ بَشيرٍ، قال: حدَّثنى أبى، وحدَّثنى
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عفوا".
(2)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 136، وينظر المحلى 6/ 372.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 129، 130.
(4)
في م، ت 1، ت 2:"تشعشع". وبالسين والشين روايتان، وتسعسع: أدبر وفنى إلا أقله. وتشعشع: كأنه ذهب به إلى رقة الشهر وقلة ما بقى منه، كما يشعشع اللبن بالماء. ينظر النهاية 2/ 368، 481.
(5)
في م: "تسعسع". والمثبت موافق لما في تهذيب الآثار للمصنف، وله مجاز في اللغة.
(6)
بفتح أوله، وبالحاء المهملة، ممدود: قرية جامعة لمزينة، على ليلتين من المدينة، بينهما أحد وأربعون ميلا. معجم ما استعجم 2/ 681.
(7)
ثلَم الإناءَ والسيفَ ونحوه يَثلِمه ثَلْمًا، كسر حرفه، والثُّلْمةُ الموضع الذى قد انثلم. اللسان (ث ل م).
(8)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 135، 136.
محمدُ بنُ عُمارَةَ
(1)
، قال: حدثنا عُبَيْدُ اللهِ، قال: أخبرَنا بَشِيرُ بن سلمانَ، عن خَيْثَمَةَ، قال: سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ عن الصومِ في السفرِ، فقال: قد أمَرتُ غلامى أن يصومَ فأبَى، قلتُ: فأين هذه الآيةُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال: نزَلت ونحنُ يومئذٍ نَرْتَحِلُ جِياعًا ونَنْزِلُ على غيرِ شِبَعٍ، وإنَّا اليومَ نَرْتَحِلُ شِباعًا، ونَنْزِلُ على شِبعٍ
(2)
.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن بَشيرِ بنِ سلمانَ، عن خَيْثَمَةَ، عن أنسٍ نحوَه.
حدَّثنا هنَّادٌ وأبو السائبِ، قالا: ثنا أبو معاويةَ، عن عاصمٍ، عن أنسٍ أنه سُئِل عن الصومِ في السفرِ فقال: من أفطَرَ فبرخصةِ اللهِ، ومن صام فالصومُ أفضلُ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن أشعثَ بنِ عبدِ الملكِ، عن محمدِ بنِ عثمانَ بنِ أبى العاصِ، قال: الفطرُ في السفرِ رخصةٌ، والصومُ أفضلُ
(4)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدثنى عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا أبو الفَيْضِ، قال:[كان علينا أميرٌ]
(5)
بالشامِ، فنهانا عن الصومِ في السفرِ، فسألتُ أبا قِرْصَافَةَ؛
(1)
في م: "بشار"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"بشارة".
(2)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 145، 146، وأخرجه البخارى في تاريخه 3/ 216، والنسائى في الكبرى (11020) من طريق بشير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد، وخيثمة بن أبى خيثمة ضعيف.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 127 عن أبى السائب -وحده- به، وأخرجه ابن أبى شيبة 3/ 15 عن أبى معاوية ومروان به. وأخرجه الطحاوى في معانى الآثار 2/ 67، والبيهقى 4/ 245 من طرق عن عاصم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 130، وأخرجه ابن أبى شيبة 3/ 16 عن أبى أسامة به بنحوه، وأخرجه هو، والطبرانى (8389)، وفى الأوسط (1460) من طريق أشعث به، وأخرجه الطبرانى في الكبير (8390)، والبيهقى 4/ 245 من طريق ابن سيرين به.
(5)
في م: "كان علىٌّ علينا أميرًا".
رجُلًا مِن أصحابِ النبى صلى الله عليه وسلم مِن بنى ليثٍ -قال عبدُ الصمدِ: سَمِعتُ رجُلًا مِن قومِه يقولُ: إنه واثلةُ بنُ الأسْقَعِ- قال: لو صُمْتُ في السفرِ ما قضيتُ
(1)
.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن بِسْطامَ بنِ مسلمٍ، عن عطاءٍ، قال: إن صُمْتُم أجْزَأَ عنكم، وإن أفطَرتم فرُخصةٌ.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن كَهْمَسٍ، قال: سألتُ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ عن الصومِ في السفرِ، قال: إن صُمْتُم أجزَأَ عنكم، وإن أفطَرْتُم فرُخصةٌ
(2)
.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ، عن طلحةَ بنِ عمْرٍو، عن عطاءٍ، قال: مَن صام فحقٌّ أدَّاه، ومَن أفطَرَ فرُخصةٌ أخَذ بها.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن حمادٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: الفطرُ في السفرِ رُخصةٌ، والصومُ أفضلُ
(3)
.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن حَجَّاجٍ، عن عطاءٍ، قال: هو تعليمٌ، وليس بعَزْمٍ
(4)
، قولُ اللهِ جلّ وعزّ:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إن شاء صام، وإن شاء لم يَصُمْ
(5)
.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن هشامٍ، عن الحسنِ في الرجلِ يُسافِرُ في
(1)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 142، وأخرجه الحاكم 3/ 569، والبيهقى 4/ 244 من طريق شعبة به، ووقع في رواية الحاكم والبيهقى تسمية الأمير مسلمة بن عبد الملك.
(2)
أخرجه ابن أبى شيبة 3/ 16، والمصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 134، من طريق كهمس به بنحوه.
(3)
أخرجه الطحاوى في معانى الآثار 2/ 70 من طريق سفيان به.
(4)
بعده في م: "يعنى".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 4/ 269 عقب الأثر (7760) عن ابن جريج عن عطاء نحوه.
رمضانَ، قال: إن شاء صام، وإن شاء أفطَر
(1)
.
حدَّثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا سفيانُ بنُ حبيبٍ، قال: ثنا العَوَّامُ بنُ حَوْشَبٍ، قال: قلتُ لمجاهدٍ: الصومُ في السفرِ؟ قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ فيه ويُفْطِرُ، قال: قلتُ: فأيُّهما أحبُّ إليكَ؟ قال: إنما هى رُخصةٌ، وأن تصومَ رمضانَ أحبُّ إلىَّ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ
(3)
، قال: ثنا شعبةُ، عن حمَّادٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وإبراهيمَ ومجاهدٍ أنهم قالوا: الصومُ في السفرِ، إن شاء صام، وإن شاء أفطَرَ، والصومُ أحبُّ إليهم
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، [حدثنا أبو داودَ]
(5)
، قال: ثنا شعبةُ، عن أبى إسحاقَ، قال: قال لى مجاهدٌ في الصومِ في السفرِ -يعنى صومَ شهرِ رمضانَ-: واللهِ، ما منهما إلَّا حلالًا
(6)
؛ الصومُ والإفطارُ، وما أراد اللهُ بالإفطارِ إلَّا التيسيرَ لعبادِه
(7)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن [الأشعثِ ابنِ سُلَيمٍ]
(8)
، قال: صحِبْتُ أبى والأسودَ بنَ يزيدَ وعمْرَو بنَ ميمونٍ وأبا وائلٍ إلى
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 4/ 269 (7760) من طريق قتادة عن الحسن بنحوه مطولًا.
(2)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 127، وأخرجه النسائى (2291) عن حميد ابن سعدة به مختصرًا، وأخرجه ابن أبى شيبة 3/ 16 من طريق العوام به دون المرفوع، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"حفص".
(4)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 134، وأخرجه الطحاوى في معانى الآثار 2/ 70 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 191 إلى عبد بن حميد.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال حدثنا محمد بن جعفر".
(6)
كذا في النسخ، وفى م:"حلال".
(7)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 134، 135.
(8)
في ت 1، ت 2، ت 3:"الأعمش عن سليمان".
مكةَ، فكانوا
(1)
يصومون رمضانَ وغيرَه في السفرِ
(2)
.
حدَّثنى علىُّ بنُ الحسنِ الأزْدِىُّ، قال: ثنا مُعَافَى بنُ عِمرانَ، عن سفيانَ، عن حمَّادٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: الفطرُ في السفرِ رُخصةٌ، والصومُ أفضلُ
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ الواسطىُّ، قال: ثنا يعقوبُ الزُّهْرِىُّ، قال: ثنا صالحُ بنُ محمدِ بنِ صالحٍ، عن أبيه، قال: قلتُ للقاسمِ بنِ محمدٍ: إنا نُسافِرُ في الشتاءِ في رمضانَ، فإن صمتُ فيه كان أهْوَنَ علىَّ مِن أن أقْضِيَه في الحَرِّ؟ فقال: قال اللهُ: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ما كان أيسرَ عليك فافعلْ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا القولُ أوْلَى عندنا بالصوابِ؛ لإجماعِ الجميعِ على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضانَ -وهو مِمَّن له الإفطارُ لمرضِه- أن صومَه ذلك مُجْزِئٌ عنه، ولا قضاءَ عليه إذا برَأ مِن مرضِه بعدَّةٍ مِن أيامٍ أُخَرَ، فكان معلومًا بذلك أن حُكْمَ المسافرِ حكمُه في ألا قضاءَ عليه إن صامه في سفرِه؛ لأن الذى جُعِل للمسافرِ مِن الإفطارِ وأُمِر به مِن قضاءِ عِدَّةٍ مِن أيامٍ
(5)
أُخَرَ، مثلُ الذى، جُعِلَ مِن ذلك للمريضِ وأُمِر به مِن القضاءِ. ثم في دلالةِ الآيةِ كفايةٌ مُغْنِيةٌ عن استشهادِ شاهدٍ على صحةِ ذلك بغيرِها، وذلك قولُ اللهِ جلّ ثناؤه: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكانوا".
(2)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 147، وأخرجه ابن أبى شيبة 3/ 16، 17 من طريق محمد بن جعفر به، وفيه: عن أبى الشعثاء. وهو خطأ، والصواب: عن ابن أبى الشعثاء. وهو الأشعث ابن سليم.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 131.
(4)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 132.
(5)
بعده في م: "من".
الْعُسْرَ}. فلا
(1)
عُسْرَ أعظمُ مِن أن يُلْزَمَ مَن صامَه في سفرِه عِدَّةً مِن أيامٍ أُخَرَ، وقد تكلَّفَ أداءَ فرْضِه في أثقلِ الحالينِ عليه حتى قضاه وأدَّاه.
فإن ظنَّ ذو غَبَاوةٍ أن الذى صامه لَمْ يكن فَرْضَه الواجبَ، فإنَّ في قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ما يُنْبِئُ عن
(2)
أن المكتوبَ صومُه مِن الشهورِ على كلِّ مؤمنٍ هو شهرُ رمضانَ، مسافرًا كان أو مقيمًا؛ لعمومِ اللهِ جلّ وعزّ المؤمنين بذلك بقولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} {شَهْرُ رَمَضَانَ} وأن قولِه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} معناه: ومَن كَان مريضًا أو على سفرٍ فأفطرَ برُخصةِ اللهِ، فعليه صومُ عِدَّةٍ من أيامٍ أُخَرَ مكانَ الأيامِ التى أفطرَ في سفرِه أو مرضِه. ثم في
(3)
تظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولِه -إذ
(4)
سُئِل عن الصومِ في السفرِ-: "إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلالِ على صحَّةِ ما قُلْنا في ذلك بغيرِه.
حَدَّثَنَا هنَّادٌ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ ووكيعٌ وعَبْدَةُ، عن
(5)
هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، أن حمزةَ سأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الصومِ في السفرِ، وكان يَسْرُدُ الصومَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إن شِئْتَ فَصُمْ، وإن شِئْت فأفْطِرْ"
(6)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولا".
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في م: "إذا".
(5)
في م: "بن".
(6)
أخرجه مسلم (1121/ 106) من طريق عبد الرحيم، وأخرجه أحمد 6/ 207 (الميمنية) عن وكيع، وأخرجه الترمذى (711)، والنسائى (2307) من طريق عبدة، ثلاثتهم عن هشام به، وأخرجه البخاري =
حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ وعُبَيْدُ بنُ إسماعيلَ الهبَّارىُّ، قالا: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه، أن حمزةَ سأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَه
(1)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكَمِ المصريُّ، قال: ثنا أبو زُرْعَةَ [وهبُ اللهِ]
(2)
بنُ راشدٍ، قال
(3)
: أخبرَنا حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ، قال: أخبرَنا أبو الأسودِ، أنه سمِع عروةَ بنَ الزبيرِ يُحَدِّثُ عن أبي مُرَاوحٍ، عن حمزةَ الأسلميِّ صاحبِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسولَ اللهِ، إنى أَسْرُدُ الصيامَ
(4)
، فأصومُ في السفرِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّما هِىَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ للعبادِ، فمَنْ قبِلها
(5)
فَحَسَنٌ جميلٌ، ومَن تَرَكَهَا فَلا جُناحَ عليه". فكان حمزةُ يصومُ الدهرَ، فيصومُ في السفرِ والحَضَرِ، وكان عروةُ بنُ الزبيرِ يصومُ الدهرَ، فيصومُ في السفرِ والحضرِ، حتى إن كان لَيَمْرَضُ فما
(6)
يُفْطِرُ، وكان أبو مُراوحٍ يصومُ الدهرَ، فيصومُ في السفرِ والحضرِ
(7)
.
ففى هذا، مع نظائرِه مِن الأخبارِ التى يطولُ باستيعابِها الكتابُ، الدلالةُ الدالَّةُ على صِحَّة ما قُلنا مِن أن الإفطارَ رُخصةٌ لا عَزْمٌ، والبيانُ الواضحُ على صِحَّةِ ما قُلنا
= (1942، 1943) ومسلم (1121/ 103 - 105)، والنسائى (2304، 2305، 2306) من طرق أخرى عن هشام به.
(1)
أخرجه المصنّف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 118، وأخرجه أيضًا في ص 166، 167 من طريق أيوب عن هشام به، وأخرجه النسائي (2303) من طريق هشام به.
(2)
في م: "وعبد الله". ينظر الجرح والتعديل 9/ 27.
(3)
في م: "قال".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الصوم".
(5)
في م: "فعلها". ينظر شرح معانى الآثار.
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فلا".
(7)
أخرجه الطحاوى في شرح معانى الآثار 2/ 71 من طريق حيوة به، وأخرج المرفوع منه مسلم (1121/ 107) من طريق أبي الأسود به.
في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
فإن قال قائلٌ: فإن الأخبارَ بما قلتَ، وإن كانت متظاهرةً، فقد تظاهرتْ أيضًا بقولِه:"لَيْسَ مِن البِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ".
قيل: ذلك إذا كان [الصائمُ بمثلِ]
(1)
الحالِ التى جاء الأثرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك لمن قاله
(2)
له.
حَدَّثَنِي الحسينُ بنُ يزيدَ السَّبِيعيُّ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ الحسنِ، عن جابرٍ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَى رجُلًا في سفرٍ
(3)
، قد ظُلِّلَ عليه، وعليه جماعةٌ فقال: "ما
(4)
هَذَا؟ " قالوا: صائمٌ. قال: "ليس [مِن البِرِّ]
(5)
الصَّوْمُ في السَّفَرِ"
(6)
.
[قال أبو جعفر: أخشى أن يكونَ هذا الشيخُ غلِط، وبين ابن إدريسَ ومحمدِ ابنِ عبدِ الرحمنِ شعبةُ]
(7)
.
حَدَّثَنَا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن [محمدِ بنِ]
(8)
عبدِ الرحمنِ بنِ سعدِ بنِ زُرَارَةَ الأنصارىِّ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ الحسنِ بنِ عليٍّ،
(1)
في م: "الصيام في مثل".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(3)
في م: "سفره".
(4)
في م: "من".
(5)
في الأصل: "البر في".
(6)
أخرجه المصنّف في تهذيب الآثار (مسند ابن عباس) ص 156 عن الحسين بن يزيد وسَلْم بن جنادة فذكرا الإسناد على الصواب.
(7)
سقط من الأصل.
(8)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: رأى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا قد اجْتَمَع الناسُ عليه، وقد ظُلِّلَ عليه، فقالوا: هذا رجلٌ صائمٌ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ليس مِن
(1)
البِرِّ أن تَصُومُوا في السَّفرِ"
(2)
.
فمَن بلَغ منه الصومُ ما بلَغ مِن الذى قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فليس مِن البرِّ صومُه؛ لأنَّ اللهَ جلّ ثناؤه قد حرَّم على كلِّ أحدٍ تعريضَ نفْسِه لما فيه هلاكُها، وله إلى نجاتِها سَبِيلٌ، فإنما يُطْلَبُ البِرُّ بما ندَب اللهُ إليه، وحضَّ عليه مِن الأعمالِ، لا بما نهَى عنه.
وأَمَّا الأخبارُ التى رُوِيت عنه صلى الله عليه وسلم مِن قولِه: "الصَّائِمُ في السَّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَرِ". فقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ قِيل لمن بلَغ منه الصومُ ما بلَغ من هذا الذى ظُلِّل عليه، إن كان قيل
(3)
ذلك، وغيرُ جائزٍ أن يُضافَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قيلُ ذلك؛ لأنَّ الأخبارَ التى جاءت بذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم واهيةُ الأسانيدِ لا يجوزُ الاحتجاجُ بها في الدِّينِ.
وإن قال قائلٌ: وكيف عطَف على "المريضِ" -وهو اسمٌ- بقولِه: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} و"على" صفةٌ لا اسمٌ؟
قِيل: جاز أن يُنْسَقَ [بـ"على"]
(4)
على "المريضِ"؛ لأنَّها في معنى الفعلِ،
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
أخرجه أحمد 22/ 103 (14193)، ومسلم (1115)، وغيرهما من طريق محمد بن جعفر به. وأخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115)، وغيرهما من طريق شعبة به. وينظر مسند الطيالسى (1827).
(3)
في م، ت 1، ت 2:"قبل".
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"فعلا".
وتأويلُ ذلك: أو مسافرًا. كما قال جلّ ثناؤه: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] فعطَف بالقاعدِ والقائمِ على اللامِ التى في {لِجَنْبِهِ} لأنَّ معناها الفعلُ، كأنه قال: دعانا مُضْطَجِعًا أو قاعدًا أو قائمًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: يُرِيدُ اللهُ بكم أيُّها المؤمنون -بترخيصِه لكم في حالِ مرضِكم وسفرِكم في الإفطارِ، وقضاءِ عِدَّةٍ مِن أيامٍ أُخَرَ مِن الأيامِ التى أفطَرْتُموها بعدَ إقامتِكم وبعدَ بُرْئِكم مِن مرضِكم- التخفيفَ عليكم، والتسهيلَ عليكم؛ لعلمِه بمشقَّةِ ذلك عليكم في هذه الأحوالِ.
{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} يقولُ: ولا يُرِيدُ بكم الشدَّةَ والمشقَّةَ عليكم، فيُكَلِّفَكم صومَ الشهرِ في هذه الأحوالِ، مع علْمِه بشدَّةِ ذلك عليكم، وثِقَلِ حِمْلِه عليكم لو حمَّلكم صومَه.
كما حَدَّثَنِي المثُنَّي، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ ابنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال: اليُسْرُ الإفطارُ في السفرِ، والعُسْرُ الصِّيامُ في السفرِ
(1)
.
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ المُثَنَّي، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي حمزةَ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن الصومِ في السفرِ، فقال: يُسْرٌ وعُسْرٌ، فَخُذْ بيُسرِ اللهِ
(2)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المبارَكِ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 313 (1660، 1663) من طريق أبي صالح به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 14 عن محمد بن جعفر به.
شِبْلٍ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} قال: هو الإفطارُ في السفرِ، وجَعْلُ عِدَّةٍ مِن أيامٍ أُخَرَ، {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} : فأريدُوا لأنفسِكم ما
(1)
أراد اللهُ بكم
(2)
.
حَدَّثَنَا المُثَنَّي، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ عُيَيْنَةَ، عن عبدِ الكريمِ الجَزَرِيِّ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا تَعِبْ على مَن صام ولا على مَن أفطَرَ -يعنى في السفرِ في رمضانَ- {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
حُدِّثتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: ثنا الفَضْلُ
(3)
بنُ خالدٍ، قال: ثنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ فى قولِه: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} : الإفطارُ في السفرِ، {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: الصيامُ في السفرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عِدَّةَ ما أفطرْتُم، [من أيامِ شهرِ رمضانَ في سفرِكم أو مرضِكم]
(4)
، مِن أيامٍ أُخَرَ، أوْجَبْتُ عليكم قضاءَ عِدَّةٍ مِن أيامٍ أُخرَ بعدَ بُرْئِكم مِن مرضِكم، أو إقامتِكم مِن سفرِكم.
كما حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المُبَارَكِ، عن
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذى".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لكم".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الفضيل".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} قال: عِدَّةَ ما أفطرَ المريضُ والمسافرُ
(1)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} قال: إكمالُ العدةِ أن يصومَ ما أفطَرَ مِن رمضانَ في مرضٍ أو سفرٍ أن يُتِمَّه، فإذا أتمَّه فقد أكمَل العدةَ.
فإن قال لنا قائلٌ: ما الذى عليه بهذه الواوِ التى في قولِه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عُطِفَتْ؟
قيل: اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: هى عاطفةٌ على ما قبلَها، كأنه قيل: ويُرِيدُ لِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللهَ.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(2)
: هذه اللامُ التى في قولِه: {وَلِتُكْمِلُوا} لامُ "كى"، لو أُلْقِيتْ كان صوابًا. قال: والعربُ تُدْخِلُها في كلامِها على إضمارِ فعلٍ بعدَها، ولا يكونُ شرطًا للفعلِ الذى قبلَها وفيها الواوُ، ألا تَرَى أنك تقولُ: جئتُك لتُحْسِنَ إليَّ. ولا تقولُ: جئتُك وَلِتُحْسِنَ إليَّ. فإذا قلتَه فأنت تُرِيدُ: ولِتُحْسِنَ جئتُك. قال: وهذا في القرآنِ كثيرٌ، منه قولُه:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ} [الأنعام: 113]. وقولُى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]. لو لَمْ تكن فيه الواوُ كان شرطًا على قولِك: أرَيْناه ملكوتَ السماواتِ والأرضِ ليكونَ. فإذا كانت الواوُ فيها فلها فِعلٌ مُضْمَرٌ بعدَها: وليكونَ مِن المُوقِنين أرَيْناه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 194 إلى المصنّف.
(2)
هو الفراء في معانى القرآن 1/ 113.
وهذا القولُ أوْلَى بالصوابِ فى العربيةِ؛ لأن قولَه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ليس قبلَه لامٌ بمعنى اللامِ التى فى قولِه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فيعطفَ بقولِه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عليها، وأن دخولَ الواوِ معَها يُؤْذِنُ بأنها شرطٌ لفعلٍ بعدَها، إذ كانت الواوُ لو حُذِفت كانت شرطًا لما قبلَها مِن الفعلِ.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .
يعنى بذلك: ولِتُعَظِّموا اللهَ بالذكْرِ له بما أنعَمَ عليكم به مِن الهدايةِ التى خذَّل عنها غيرَكم مِن أهلِ المِلَلِ الذين كتَب عليهم مِن صومِ شهرِ رمضانَ مثلَ الذى كتَب عليكم منه
(1)
، فضلُّوا عنه بإضلالِ اللهِ إيَّاهم، وخصَّكم بكرامتِه فهداكم له، ووفَّقكم لأداءِ ما كتَب عليكم مِن صومِه، وتَشْكُروه على ذلك بالعبادةِ له. والذكرُ الذى حضَّهم اللهُ جلّ ثناؤه على تعظيمِه به
(2)
التكبيرُ يومَ الفطرِ فيما تأوَّله جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المُبَارَكِ، عن داودَ بنِ قيسٍ، قال: سمِعتُ زيدَ بنَ أسلمَ يقولُ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال: إذا رُئى
(3)
الهلالُ، فالتكبيرُ مِن حين يُرَى الهلالُ حتى يَنْصَرِفَ الإمامُ فى الطريقِ والمسجدِ، إلَّا أنه إذا حضَر الإمامُ كُفَّ فلا يُكَبَّرُ إلَّا بتكبيرِه
(4)
.
(1)
سقط من: ت 2، وفى م:"فيه".
(2)
فى ت 1، ت 2، ت 3:"له".
(3)
فى م: "رأى".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 314 (1666) من طريق ابن المبارك به بلفظ: التكبير يوم الفطر. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 198 إلى ابن المنذر والمروزى فى كتاب "العيدين".
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المبُاركِ، قال: سمِعتُ سفيانَ يقولُ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال: بلَغَنا أنه التكبيرُ يومَ الفطرِ.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: حقٌّ على المسلمين إذا نَظروا إلى هلالِ شَوَّالٍ أن يُكَبِّروا اللهَ حتى يَفْرُغوا مِن عيدِهم؛ لأن اللهَ يقولُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
(1)
.
قال ابنُ زيدٍ: يَنْبَغِى لهم إذا غَدَوْا إلى المُصَلَّى كَبَّروا، فإِذا جلَسوا كبَّروا، فإذا جاء الإمامُ صمَتوا، فإذا كبَّر الإمامُ كبَّروا، لا يُكَبِّرون إذا جاء الإمامُ إلَّا بتكبيرِه، حتى إذا فرَغ وانْقَضَتِ الصلاةُ فقد انقضى العيدُ. قال يونسُ: قال ابنُ وهبٍ: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ: والجماعةُ عندَنا على أن يَغْدُوا بالتكبيرِ إلى المُصَلَّى.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} .
يعنى جلّ ثناؤه بذلك: ولِتَشْكُروا اللهَ على ما أنعَم به عليكم مِن الهدايةِ والتوفيقِ، وتيسيرِ ما لو شاء عسَّره عليكم.
و"لعلّ" فى هذا الموضعِ بمعنى "كى"، ولذلك عُطِف به على قولِه:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: وإذا سألك يا محمدُ عبادى عنِّى أين أنا؟ فإنى قريبٌ منهم، أَسْمَعُ دعاءهم، وأُجِيبُ دعوةَ الداعى منهم.
وقد اخْتَلَفوا فيما أُنْزِلتْ فيه هذه الآيةُ؛ فقال بعضُهم: نزَلت فى سائلٍ سأل
(1)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 194 إلى المصنف.
النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، أقريبٌ ربُّنا فَنُناجِيَه، أمْ بعيدٌ فَنُنادِيَه؟ فأَنْزَل اللهُ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية.
حدَّثنا بذلك ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عَبْدَةَ السِّجِسْتانِىِّ
(1)
، عن الصُّلْبِ
(2)
بنِ حَكيمٍ، عن أبيه، عن جدِّه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: سأل أصحابُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم النبىَّ صلى الله عليه وسلم: أينَ ربُّنا؟ فأنْزَل اللهُ جلّ وعزّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية
(4)
.
وقال آخَرون: بل نزَلت جوابًا لمسألةِ قومٍ سأَلوا النبىَّ صلى الله عليه وسلم: أىُّ ساعةٍ يدعُون اللهَ فيها؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: لماَّ نزَلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال: قالوا: فى أىِّ ساعةٍ؟ قال: فنزَلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} إلى
(1)
فى الأصل: "السختيانى".
(2)
فى م، والعظمة:"الصلت". وينظر المؤتلف والمختلف 3/ 1435.
(3)
أخرجه أبو الشيخ فى العظمة ص 77 (190)، وابن مردويه -كما فى تفسير ابن كثير 1/ 313 - من طريق محمد بن حميد به، وأخرجه ابن أبى حاتم 1/ 314 (1667)، والدارقطنى فى المؤتلف 3/ 1435 من طريق جرير به، وزاد الدارقطنى بين الصلب وأبيه: عن رجل من الأنصار.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 73.
قولِه: {يَرْشُدُونَ}
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوَازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِىُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ فى قولِه:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قالوا: لو علِمْنا أىَّ ساعةٍ ندعو؟ فنزَلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية.
حدَّثنى القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: زعَم عطاءُ بنُ أبى رَبَاحٍ أنه بلَغه لمَّا نزَلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال الناسُ: لو نَعْلَمُ أىَّ ساعةٍ ندعو؟ فنزَلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .
حدّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قال: ليس مِن عبدٍ مؤمنٍ يدعُو اللهَ إلَّا اسْتَجَاب له، فإن كان الذى يَدْعو به هو له رزقٌ فى الدنيا أعطاه إياه
(2)
، وإن لم يكنْ له رزقًا فى الدنيا ذخَره له إلى يومِ القيامةِ، أو
(3)
دفَع به عنه مكروهًا
(4)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال:[حدثنا أبو المهنَّا، قال]
(5)
: ثنا الليثُ بنُ سعدٍ، عن [عبدِ اللهِ]
(5)
ابنِ صالحٍ، عمَّن حدَّثه، أنه بلَغه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "ما أُعْطِىَ أَحَدٌ الدُّعاءَ
(1)
أخرجه الطبرانى فى الدعاء (10) من طريق سفيان به. وفى (11) من طريق آخر عن ابن جريج به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 194 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".
(3)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم 1/ 314 (1668) من طريق عمرو به.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
فَمُنِعَ
(1)
الإجابَةَ؛ لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(2)
[غافر: 60].
ومعنى مُتأوِّلى هذا التأويلِ: وإذا سألك [يا محمدُ]
(3)
عبادى عنِّى؛ أىُّ ساعةٍ يدعوننى، فإنى منهم قريبٌ فى كلِّ وقتٍ أُجِيبُ دعوةَ الداعِى إذا دعانِى.
وقال آخَرون: بل نزَلت جوابًا لقولِ قومٍ قالوا -إذ قال اللهُ لهم: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} -: إلى أين نَدْعوه؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثنى حجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال مجاهدٌ:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين؟ فنزلتْ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
(4)
[البقرة: 115].
وقال آخرون: بل نزَلتْ جوابًا لقومٍ قالوا: كيف ندْعو.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكِر لنا أنه لمَّا أنْزَل اللهُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال رجالٌ: كيفَ ندعو يا نبىَّ اللهِ؟ فأنْزَل اللهُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} إلى قولِه: {يَرْشُدُونَ}
(5)
.
وأمَّا قولُه: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} . فإنه يعنى به: فَلْيَسْتَجِيبوا لى بالطاعةِ. يقالُ منه: استجبتُ له واستجبتُه. بمعنى: أجبتُه. كما قال كعبُ بنُ سعدٍ
(1)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"ومنع".
(2)
أخرجه البيهقى فى الشعب (4527) من طريق الليث به مطولا.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
تقدم فى 2/ 457.
(5)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 194 إلى المصنف.
الغَنَوىُّ
(1)
:
وَدَاعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ إلى النَّدَى
…
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عندَ ذَاكَ مُجِيبُ
يُرِيدُ: فلم يُجِبْه.
وبنحوِ ما قلنا فى ذلك قال [أهلُ التأويلِ]
(2)
؛ مجاهدٌ وجماعةٌ غيرُه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى الحَجَّاجُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال مجاهدٌ قولَه: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} قال: فَلْيُطِيعوا لى. قال: الاستجابةُ الطاعةُ
(3)
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ المباركِ عن قولِه: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} قال: طاعةُ اللهِ.
وقال بعضُهم: معنى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} : فَلْيَدْعُونى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى منصورُ بنُ هارونَ، عن أبى رجاءٍ الخُراسانىِّ، قال:{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} : فَلْيَدْعونى.
وأمَّا قولُه: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} فإنه يعنى: وَلْيُصَدِّقوا
(4)
-إذا هم استجابوا لى بالطاعة- أنى لهم مِن وراءِ طاعتِهم لى فى الثوابِ عليها وإجزالى الكرامةَ لهم عليها.
وأمَّا الذى تأوَّل قولَه: {فَلْيَسْتَجِيبُوا} بمعنى: فَلْيَدْعونى. فإنه كان يَتَأَوَّلُ
(1)
تقدم فى 1/ 335.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 315 (1670) من طريق حجاج به.
(4)
بعده فى م: "أى وليؤمنوا بى".
قولَه: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} أى: وَلْيُؤْمِنوا بى أنى أَسْتَجِيبُ لهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثنى منصورُ بنُ هارونَ، عن أبى رجاءٍ الخُراسانىِّ:{وَلْيُؤْمِنُوا بِي} يقولُ: أنى أَسْتَجِيبُ لهم.
وأمَّا قولُه: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فإنه يعنى: فَلْيَسْتَجِيبوا لى بالطاعةِ، وَلْيُؤْمِنوا بى فَيُصَدِّقوا على طاعتِهم إيَّاى بالثوابِ منِّى لهم؛ ليَهْتَدوا
(1)
بذلك مِن فعلِهم [ويَرْشُدوا]
(2)
.
كما حدَّثنى به المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بن سعدٍ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ فى قولِه:{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} يقول: لعلَّهم يَهْتَدون
(3)
.
فإن قال لنا قائلٌ: وما معنى هذا القولِ مِن اللهِ، فأنت تَرَى كثيرًا مِن البشرِ يَدْعون اللهَ فلا يُستجابُ لهم دعاءٌ، وقد قال:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ؟!
قيل: إن لذلك وجهينِ مِن المعنى؛ أحدُهما: أن يكونَ مَعْنِيًّا بالدعوةِ العملُ بما ندَب اللهُ إليه أو أمَر به، فيكونَ تأويلُ الكلامِ: وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريبٌ ممَّن أطاعنى وعمِل بما أمَرتُه به؛ أُجِيبُه بالثوابِ على طاعتِه إيَّاى إذا أطاعنى. فيكونُ معنى الدعاءِ مسألةَ العبدِ ربَّه ما وعَد أولياءَه على طاعتِهم بعمَلِه
(4)
بطاعتِه، ومعنى الإجابةِ
(1)
فى م: "وليهتدوا".
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيرشدوا".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 1/ 315 (1672) من طريق أبى جعفر به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 197 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعملهم".
مِن اللهِ التى ضمِنها له الوفاءَ له بما وعَد العاملين له بما أمَرهم به، كما رُوِى عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم مِن قولِه:"إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العِبَادَةُ".
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا جريرٌ
(1)
، عن الأعمشِ، عن ذَرٍّ، عن يُسَيْعٍ
(2)
الحَضْرَميِّ، عن النعمانِ بنِ بَشيرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العِبَادَةُ". ثُمَّ قرَأ: " {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
(3)
.
فأخْبَر صلى الله عليه وسلم أن دعاءَ اللهِ إنما هو عبادتُه ومسألتُه بالعملِ له والطاعةِ.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسنَ كان يقولُه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني منصورُ بنُ هارونَ، عن عبدِ اللهِ بنِ المباركِ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن الحسنِ أنه قال فيها:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . قال: اعْمَلُوا وأبْشِروا، فإنه حقٌّ على اللهِ أن يَسْتَجِيبَ للذينَ آمَنوا وعمِلوا الصالحاتِ ويَزِيدَهم مِن فضلِه
(4)
.
والوجهُ الآخَرُ: أن يكونَ معناه: أجِيبُ دعوةَ الداعي إذا دعانِ إن شئتُ، فيكونُ ذلك -وإن كان عامًّا مخرجُه في التلاوةِ- خاصًّا معناه (*).
(1)
في م: "جويبر".
(2)
في م: "سبيع". وينظر تهذيب الكمال 32/ 306.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 200، وأحمد 30/ 282، 297، 298، 336، 340، 380 (18436، 18352، 18386، 18391، 18432)، والترمذي (2969، 3247)، والنسائي في الكبرى (11464)، وابن ماجه (3828)، والطبراني في الدعاء (4 - 7)، وأبو نعيم 8/ 120، والبيهقي في الدعوات الكبير (4) من طرق عن الأعمش به.
(4)
أخرجه الطبراني في الدعاء (9) من طريق ابن المبارك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 356 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(*) إلى هنا ينتهى الجزء الرابع من المخطوط الأصل، ويتلوه الجزء الخامس وبأوله خرم ينتهى في أثناء ص 269=
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {أُحِلَّ لَكُمْ} : أُطْلِقَ لكم وأُبِيحَ.
ويعنى بقولِه: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} : في ليلةِ الصيامِ.
فأمَّا {الرَّفَثُ} فإنه كنايةٌ عن الجمَاعِ في هذا الموضعِ، يقال: هو الرَّفَثُ والرُّفُوثُ. وقد رُوِى أنها في قراءةِ عبدِ اللهِ: (أُحِلَّ لكم ليلةَ الصيامِ الرُّفوثُ إلى نسائِكم)
(1)
.
وبمثلِ الذى قُلْنا في تأويلِ "الرَّفَثِ" قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ المصريُّ، قال: ثنا أيوبُ بنُ سُوَيْدٍ، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن بكرِ بنِ عبدِ اللهِ المُزَنيِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفثُ الجماعُ، ولكنَّ اللهَ كريمٌ يَكْنِى
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، عن بكرٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّى، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفثُ النكاحُ.
= وستجد أرقام المخطوط ت 1، بين معقوفين حتى ينتهى هذا الخرم.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 48.
(2)
تفسير سفيان ص 63، 64، ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه (10826)، ووكيع -كما في الدر المنثور 1/ 198 - وعنه ابن أبي شيبة (القسم الأول من الجزء الرابع) ص 158. وأخرجه ابن أبي حاتم 1/ 346 (1824) من طريق عاصم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، قال: الرفثُ غِشيانُ النساءِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . قال: الجِماعُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفثُ هو النكاحُ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الكبيرِ البصريُّ، قال: ثنا الضَّحَّاكُ بنُ عثمانَ، قال: سألتُ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ عن قولِه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . قال: هو الجماعُ.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمْرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . يقولُ: الجماعُ
(3)
.
والرفثُ في غيرِ هذا الموضعِ الإفحاشُ في المنطِقِ، كما قال العَجّاجُ
(4)
:
عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 71.
(2)
تفسير مجاهد ص 221.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 315 عقب الأثر (1674) من طريق عمرو به.
(4)
ديوانه ص 296.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} .
يعني تعالى ذكرُه بذلك: نساؤُكم لباسٌ لكم، وأنتم لباسٌ لهنَّ.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكونُ نساؤُنا لباسًا لنا ونحن لهنَّ لباسًا، واللباسُ إنما هو ما لُبِسَ؟
قيل: لذلك وجهان من المعاني: أحدُهما: أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما جُعِل لصاحبِه لباسًا، لِتخرُّجِهما
(1)
عندَ النومِ واجتماعِهما في ثوبٍ واحدٍ وانضمامِ جسدِ كلِّ واحدٍ منهما لصاحبِه، بمنزلةِ ما يَلْبَسُه على جسدِه مِن ثيابِه، فقيل لكلِّ واحدٍ منهما: هو لباسٌ لصاحبِه. كما قال نابغةُ بني جَعْدَةَ
(2)
:
إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها
(3)
…
تَدَاعَتْ فَكانَتْ عَلَيْهِ لِباسَا
ويُرْوَى: تَثَنَّت. فكَنَى عن اجتماعِهما مُتَجَرِّدَينِ في فراشٍ واحدٍ باللباسِ، كما يُكْنَى بالثيابِ عن جسدِ الإنسانِ، كما قالت ليلى
(4)
وهي تَصِفُ إبِلًا ركِبها قومٌ:
رَمَوها بأثْوَابٍ خِفافٍ فلَا تَرَى
…
لَهَا شَبَهًا إلَّا النَّعامَ المنُفَّرَا
يعني: رمَوها بأنفسِهم فركِبوها. وكما قال الهُذَليُّ
(5)
:
تَبَرَّأُ مِنْ دَمِّ القَتِيلِ وبَزِّه
(6)
…
وقَدْ عَلِقَتْ دَمَّ القَتِيلِ إزَارُها
(1)
يعني به لخروجهما من ثيابهما.
(2)
شعر النابغة الجعدي 81.
(3)
في م: "عطفها".
(4)
هي ليلى الأخيليةُ والبيت في: المعاني الكبير 1/ 486، والصناعتين ص 353.
(5)
هو أبو ذؤيب، والبيت في ديوان الهذليين 1/ 26.
(6)
في م: "وتره".
يعني بـ "إزارُها" نفسَها، وبذلك كان الربيعُ يقولُ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيع:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . يقولُ: هنَّ لحافٌ لكم، وأنتم لحافٌ لهنَّ
(1)
.
والوجهُ الآخَرُ: أن يكونَ جُعِل كلُّ واحدٍ منهما لصاحبِه لباسًا؛ لأنه سكَنٌ له، كما قال جلَّ ثناؤه:{جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47]. يعني بذلك: سكنًا تسكُنون فيه. وكذلك زوجةُ الرجلِ سَكَنُه، يَسْكُنُ إليها، كما قال تعالى ذكرُه:
{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. فيكونَ كلُّ واحدٍ منهما لباسًا لصاحبِه، بمعنى سكونِه إليه. وبذلك كان مجاهدٌ وغيرُه يقولون في ذلك.
وقد يُقالُ لِما ستَر الشيْءَ وواراه عن أبصارِ الناظِرِين إليه: هو لباسُه وغشاؤُه.
فجائزٌ أن يكونَ قيلَ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . بمعنى أن كلَّ واحدٍ منكم سِتْرٌ لصاحبِه فيما يكونُ بينَكم مِن الجماعِ عن أبصارِ سائرِ الناسِ.
وكان مجاهدٌ وغيرُه يقولون في ذلك بما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} يقولُ: سَكَنٌ لهنَّ
(2)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . قال قتادةُ: هنَّ سَكَنٌ لكم، وأنتم سَكَنٌ لهنَّ
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1676)، من طريق أبي جعفر به.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 316، عقب الأثر (1675) معلقًا.
السُّدِّيِّ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} يقولُ: سَكَنٌ لكم. {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} يقولُ: سكنٌ لهنَّ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ في قولِه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قال: المُواقَعَةُ.
حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إبراهيمُ، عن يزيدَ، عن عمْرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قال: هنَّ سَكَنٌ لكم، وأنتم سَكَنٌ لهنَّ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ذكرُه: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} .
إن قال لنا قائلٌ: وما هذه الخيانةُ التي كان القومُ يَخْتانونها أنفسَهم التي تاب اللهُ منها عليهم فعفا عنهم؟
قيل: كانت خيانتُهم أنفسَهم، التي ذكَرها اللهُ، في شيئين: أحدُهما، جماعُ النساءِ. والآخَرُ، المَطْعَمُ والمشرَبُ في الوقتِ الذي كان حرامًا ذلك عليهم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، قال: ثنا ابنُ أبي ليلى، أن الرجلَ كان إذا أفطَر فنام لم يأتِها، وإذا نام لم يَطْعَمْ، حتى جاء عمرُ بنُ الخطابِ يُرِيدُ امرأتَه فقالتِ امرأتُه: قد كنتُ نمتُ. فظنَّ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 316 عقب الأثر (1675) من طريق عمرو به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 316 (1675)، والحاكم في المستدرك 2/ 275 من طريق طاوس عن ابن عباس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى الفريابي.
أنها تَعْتَلُّ فوقَع بها. قال: وجاء رجُلٌ مِن الأنصارِ فأراد أن يَطْعَمَ فقالوا: نُسَخِّنُ لك شيئًا؟ قال: ثم أُنْزِلَت هذه الآيةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا حُصَيْنُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، قال: كانوا يصومون ثلاثةَ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فلمَّا دخَل رمضانُ كانوا يصومون، فإذا لم يَأْكُلِ الرجلُ عندَ فِطْرِه حتى ينامَ، لم يَأْكُلْ إلى مثلِها، وإن نام أو نامتِ امرأتُه، لم يَكُنْ له أن يأتيَها إلى مثلِها، فجاء شيخٌ مِن الأنصارِ يقالُ له: صِرْمةُ بنُ مالكٍ
(2)
. فقال لأهلِه: أطْعِموني. فقالت: حتى أجْعَلَ لك شيئًا سُخْنًا. قال: فغلَبتْه عينُه فنام. ثم جاء عمرُ فقالت له امرأتُه: إني قد نمتُ.
فلم يَعْذِرْها، وظنَّ أنها تَعْتَلُّ فواقَعَها، فبات هذا وهذا يَتَقَلَّبان ليلتَهما ظَهْرًا وبطنًا، فأنْزَلَ اللهُ في ذلك:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . وقال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . فعفا اللهُ عن ذلك، وكانت سُنَّةً
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيْرٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ [عبدِ اللهِ ابنِ]
(4)
عُتبةَ، عن عمْرِو بنِ مُرَّةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، قال: كانوا يأكُلون ويَشْرَبون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا ترَكوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساءِ، فكان رجُلٌ مِن الأنصارِ يُدْعَى أبا صِرْمةَ يَعْمَلُ في أرضٍ له. قال: فلمَّا كان عندَ فِطْرِه نام، فأصبَح صائمًا قد جهِد، فلمَّا رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا لي أرَى بكَ
(1)
تمام الأثر المتقدم في ص 159.
(2)
اختلف في اسم الصحابي الذي نزلت فيه الآية، وقد ذكر الحافظ في الإصابة هذا الاختلاف، فلينظر هناك. الإصابة 3/ 422 - 425، 467، 5/ 478، 500.
(3)
أخرجه ابن قانع في الصحابة 2/ 24، والخطب في الأسماء المبهمة ص 467 من طريق حصين به.
(4)
في النسخ: "عبيد الله عن". وتقدم على الصواب في ص 158، ينظر تهذيب الكمال 17/ 221.
جَهْدًا؟ " فأخبَرَه بما كان مِن أمْرِه. واختان رجُلٌ نفسَه في شأنِ النساءِ، فأنزَلَ اللهُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . إلى آخرِ الآيةِ
(1)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ نحوَ حديث ابنِ أبي ليلى [الذي حدَّث به عمرُو بنُ مُرَّةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى]
(2)
، قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدُهم لم يَأْكُلْ شيئًا حتى يكونَ مِن الغدِ، فجاء رجلٌ مِن الأنصارِ، وقد عمِل في أرضٍ له، وقد أعْيا وكَلَّ، فغلَبَتْه عينُه فنام، وأصبَح مِن الغدِ مجهودًا، فنزلت هذه الآيةُ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ رجاءٍ البصريُّ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ، قال: كان أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجلُ صائمًا فنام قبلَ أن يُفْطِرَ لم يأكلْ إلى مثلِها، وإن قيسَ بنَ صِرْمةَ الأنصاريَّ كان صائمًا، وكان توجَّه ذلك اليومَ فعمِل في أرضِه، فلمَّا حضَر الإفطارُ أتَى امرأتَه، فقال: هل عندكم طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أَنْطَلِقُ فأَطْلُبُ لك. فغَلَبَتْه عينُه فنام، وجاءتِ امرأتُه قالت: قد نمتَ؟! فلم يَنْتَصِفِ النهارُ حتى غُشِىَ عليه، فذكَرت ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزَلت فيه هذه الآيةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . إلى: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} . ففرِحوا بها فرحًا شديدًا.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليَّ ابنِ أبي
(1)
تقدم تخريجه في ص 158.
(2)
سقط من: ت 1، ت 3. وفي ت 2:"عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى".
(3)
أخرجه أحمد 30/ 573، 574 (18611)، والبخاري (1915)، وأبو داود (2314)، والترمذي (2968) من طريق إسرائيل به بنحوه.
طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} : وذلك أن المسلمين كانوا في شهرِ رمضانَ إذا صلَّوُا العشاءَ حرُم عليهم النساءُ والطعامُ إلى مثلِها مِن القابلةِ، ثم إن أُناسًا مِن المسلمين أصابوا الطعامَ والنساءَ في رمضانَ بعدَ العِشاءِ، منهم عمرُ بنُ الخطابِ، فشكَوْا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللهُ:{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . يعني: انْكِحُوهنَّ، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المبُارَكِ، عن ابنِ
(2)
لَهِيعَةَ، قال: حدَّثني موسى بنُ جبيرٍ مولى بني سَلِمةَ، أنه سمِع عبدَ اللهِ بنَ كعبِ بنِ مالكٍ يُحَدِّثُ عن أبيه، قال: كان الناسُ في رمضانَ إذا صام الرجلُ فأمسى فنام، حرُم عليه الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفْطِرَ مِن الغدِ، فرجَع عمرُ بنُ الخطابِ مِن عندِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ وقد سمَر عندَه، فوجَد امرأتَه قد نامت فأرادها، فقالت: إني قد نِمْتُ. فقال: ما نمتِ. ثم وقَع بها. وصنَع كعبُ بنُ مالكٍ مثلَ ذلك، فغدا عمرُ بنُ الخطابِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخْبَره، فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه:{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحَجَّاجُ، قال: ثنا حمّادُ بنُ سلَمةَ، قال: ثَنا ثابتٌ أن عمرَ بنَ الخطابِ واقَع أهلَه ليلةً في رمضانَ، فاشتدَّ ذلك عليه، فأنزَل اللهُ: {أُحِلَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 197 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"أبي".
(3)
أخرجه أحمد 25/ 86 (15795) من طريق ابن المبارك به، وأخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 45، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 316 (1677) من طريق ابن لهيعة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 197 إلى ابن المنذر.
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} إلى: {وَعَفَا عَنْكُمْ} : كان الناسُ أوَّلَ ما
أسلَموا إذا صام أحدُهم يَصومُ يومَه، حتى إذا أمسى طعِم مِن الطعامِ فيما بينَه وبينَ العَتَمةِ، حتى إذا صُلِّيَتْ حَرُم عليهم الطعامُ حتى يُمْسِىَ مِن الليلةِ القابلةِ، وإن عمرَ بنَ الخطابِ بينما هو نائمٌ، إذ سوَّلتْ له نفسُه، فأتَى أهلَه لبعضِ حاجتِه، فلمَّا اغْتَسَل أخَذ يَبْكِي ويلومُ نفسَه، كأشدِّ ما رأيت مِن المَلامةِ، ثم أتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، إني أعْتَذِرُ إلى اللهِ وإليك مِن نفسِي هذه الخاطئةِ، فإنها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي، هل تَجِدُ لي مِن رُخصةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال:"لم تَكُنْ حَقِيقًا بذلك يا عُمَرُ". فلمَّا بلَغ بيتَه، أرسَلَ إليه فأنبأه بعُذْرِه في آيةٍ مِن القرآنِ، وأمَر اللهُ رسولَه أن يَضَعَها في المائةِ الوُسْطى مِن سورةِ "البقرةِ"، فقال:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يعني بذلك الذي فعَل عمرُ بنُ الخطابِ، فأنزَل اللهُ عَفْوَه، فقال:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} فأحَلَّ لهم المُجامعةَ والأكْلَ والشُّربَ حتى يَتَبَيَّنَ لهم الصبحُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 197 إلى المصنف.
(2)
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 316، 317، 318 (1680، 1684) آخره عن محمد بن سعد به.
كان الرجلُ مِن أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم يصومُ الصيامَ بالنهارِ، فإذا أمسَى أكَل وشرِب وجامَع النساءَ، فإذا رقَد حرُم ذلك كلُّه عليه إلى
(1)
مثلِها مِن القابلةِ، وكان منهم رجالٌ يختانون أنفسَهم في ذلك، فعفا اللهُ عنهم، وأَحَلَّ لهم
(2)
بعدَ الرُّقَادِ وقبلَه في الليلِ كلِّه
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يصومُ الصائمُ في رمضانَ، فإذا أَمْسَى. ثم ذكَر نحوَ حديثِ محمدِ بنِ عمْرٍو، وزاد فيه: وكان منهم رجالٌ يَخْتانُون أنفسَهم، وكان عمرُ بنُ الخطابِ ممَّن يَختانُ
(4)
نفسَه، فعفا اللهُ عنهم، وأَحَلَّ ذلك لهم بعدَ الرُّقادِ وقبلَه، وفي الليلِ كُلِّه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، قال: أخبَرني إسماعيلُ بنُ شَرُوسٍ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، أن رجُلًا قد سمَّاه مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن الأنصارِ جاء ليلةً وهو صائمٌ، فقالت له امرأتُه: لا تَنَمْ حتى نَصْنَعَ لك طعامًا. فنام، فجاءت فقالت: نِمْتَ واللهِ! قال: لا واللهِ.
قالت: بلى واللهِ. فلم يَأْكُلْ تلك الليلةَ وأصبَحَ صائمًا، فغُشِيَ عليه وأُنْزِلَت الرُّخصةُ فيه
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"حتى". وينظر مصدر التخريج.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3 وبعده في مصدر التخريج:"الطعام والشراب والجماع".
(3)
تفسير مجاهد ص 221، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م: "ختان".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 71. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (275 - تفسير) - ومن طريقه الخطيب في الأسماء المبهمة ص 466 - من طريق عمرو بن دينار، عن عكرمة به بمعناه.
كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}: وكان بدءَ
(1)
الصيامِ أُمِروا [بصيامِ ثلاثةِ]
(2)
أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وركعتين غُدْوَةً، وركعتينِ عشيَّةً، فأحَلَّ اللهُ لهم في صيامِهم في ثلاثةِ أيامٍ، وفي أوَّلِ ما افْتَرَض اللهُ عليهم في رمضانَ إذا أفْطَروا، وكان الطعامُ والشرابُ، وغِشيانُ النساءِ لهم حلالًا ما لم يَرْقُدوا، فإذا رقَدوا حَرُم عليهم ذلك إلى مثلِها مِن القابلةِ، وكانت خيانةُ القومِ أنهم كانوا يُصِيبون، أو يَنالون، مِن الطعامِ والشرابِ وغِشْيانِ النساءِ بعدَ الرقادِ، وكانت تلك خيانةَ القوم أنفسَهم، ثم أحَلَّ اللهُ لهم ذلك الطعامَ والشرابَ وغِشيانَ النساءِ إلى طلوعِ الفجرِ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} قال: كان الناسُ قبلَ هذه الآيةِ إذا رقَد أحدُهم مِن الليلِ رقدةً، لم يَحِلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ، ولا أن يأتيَ امرأتَه إلى الليلةِ المُقْبِلةِ، فوقَع بذلك بعضُ المسلمين؛ فمنهم مَن أكَل بعدَ هَجْعتِه
(4)
أو شرِب، ومنهم مَن وقَع على امرأتِه، فرخَّص اللهُ ذلك لهم
(5)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: كُتِبَ على النصارَى رمضانُ، وكُتِب عليهم ألا يأكُلوا ولا يشرَبوا بعد النومِ، ولا يَنكِحوا النساءَ شهرَ رمضانَ، فكُتِب على المؤمنين كما كُتِب عليهم، فلم يَزَلِ المسلمون على ذلك يَصْنَعون كما تصنعُ النصارَى، حتى أقبَلَ رجلٌ مِن
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"بدو".
(2)
في م: "بثلاثة".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"ضجعته".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 70.
الأنصارِ يُقالُ له: أبو قيسِ بنُ صِرْمةَ. وكان يعمَلُ في حِيطانِ
(1)
المدينةِ بالأجْرِ، فأتَى أهلَه بتمرٍ، فقال لامرأتِه: استَبدِلي بهذا التمرِ طَحِينًا فاجْعَلِيه سَخينةً
(2)
لعلِّي أن آكُلَه، فإن التمرَ قد أحْرَق جَوْفي. فانْطَلَقَتْ فاسْتَبْدَلتْ له، ثم صنَعتْ، فأبطأتْ عليه فنام، فأيْقَظَتْه، فكرِه أن يَعْصِيَ اللهَ ورسولَه، وأبَى أن يَأكُلَ، وأصبَح صائمًا، فرآه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالعَشِيِّ، فقال: "مَا لَكَ يا أبا قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَلِيحًا
(3)
؟ " فقصَّ عليه القصةَ، وكان عمرُ بنُ الخطابِ وقَع على جاريةٍ له في ناسٍ مِن المؤمنين لم يَمْلِكوا أنفسَهم، فلمَّا سمِع عمرُ كلامَ أبي قيسٍ رهِب أن يَنْزِلَ
(4)
في أبي قيسٍ شيْءٌ، فتذكَّر هو، فقام فاعْتَذَر إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إني أَعُوذُ باللهِ، إني وقَعْتُ على جاريتي، ولم أَمْلِكْ نفسي البارحةَ. فلمَّا تكلَّم عمرُ تكلَّم أولئك الناسُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما كُنْتَ جَدِيرًا بذلك يا بْنَ الخَطَّابِ". فنُسِخ ذلك عنهم، فقال:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يقولُ: أنكم تَقَعُون عليهنَّ خيانةً، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} يقولُ: جامِعوهنَّ. ورجَع إلى أبي قيسٍ فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ قال: قلتُ لعطاءٍ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . قال: كانوا في
(1)
الحيطان: جمع حائط، وهو البستان من النخل إذا كان عليه جدار. ينظر التاج (ح و ط).
(2)
السخينة: طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق، وهو دون العصيدة في الرقة، وفرق الحساء. التاج (س خ ن).
(3)
طلَح يطَح طُلوحا فهو طليح: إذا أعيا. ينظر النهاية 2/ 131.
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
(5)
تقدم تخريجه في ص 154.
رمضانَ لا يَمَسُّون النساءَ ولا يَطْعَمون ولا يَشْرَبون بعدَ أن يَناموا حتى الليلِ مِن القابلةِ، فإن مَسُّوهنَّ قبلَ أن يَناموا لم يَرَوْا بذلك بأسًا، فأصاب رجلٌ مِن الأنصارِ امرأتَه بعدَ أن نام، فقال: قد اخْتَنتُ نفسي. فنزَل القرآنُ، فأحَلَّ لهم النساءَ والطعامَ والشرابَ حتى يَتَبَيَّنَ لهم الخيطُ الأبيضُ مِن الخيطِ الأسودِ مِن الفجرِ.
قال: وقال مجاهدٌ: كان أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم يَصومُ الصائمُ منهم في رمضانَ، فإذا أمسَى أكَل وشرِب وجامَع النساءَ، فإذا رقَد حَرُم عليه ذلك كلُّه حتى كمثلِها مِن القابلةِ، وكان منهم رجالٌ يَخْتَانون أنفسَهم في ذلك، فعفا عنهم وأَحلَّ لهم بعدَ الرقادِ وقبلَه في الليلِ، فقال:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عكرمةَ أنه قال في هذه الآيةِ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} مثلَ قولِ مجاهدٍ، وزاد فيه أن عمرَ بنَ الخطابِ قال لامرأتِه: لا تَرْقُدِي حتى أَرْجِعَ مِن عندِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فرقَدت قبلَ أن يَرْجِعَ، فقال لها: ما أنتِ براقدةٍ. ثم أصابها حتى جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكَر ذلك له، فنزَلت هذه الآيةُ.
قال عكرمةُ: نزَلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية. في أبي قيسِ بنِ صِرْمةَ مِن بني الخَزْرَجِ أكَل بعدَ الرُّقادِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجَّاجُ، قال: ثنا حمَّادٌ، قال: أخبرَنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ يحيى بنِ حِبَّانَ أن صِرْمةَ بنَ أنسٍ أتَى أهلَه ذاتَ ليلةٍ وهو
(1)
تقدم في ص 238.
شيخٌ كبيرٌ وهو صائمٌ، فلم يُهَيِّئوا له طعامًا، فوضَع رأسَه فأَغْفَى، وجاءته امرأتُه بطعامِه، فقالت له: كُلْ. فقال: إني قد نمتُ. قالت: إنك لم تَنَمْ. فأصبَح جائعًا مجهودًا، فأنزَل اللهُ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
(1)
.
فأمَّا المبُاشرةُ في كلامِ العربِ، فإنه مُلاقاةُ بَشَرَةٍ ببَشَرَةٍ، وَبَشَرَةُ الرجلِ: جلدتُه الظاهرةُ. وإنما كنَى اللهُ بقولِه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} عن الجماعِ، يقولُ: فالآن إذ أحْلَلتُ لكم الرَّفَثَ إلى نسائِكم، فجامِعوهنَّ في ليالي شهرِ رمضانَ حتى يَطْلُعَ الفجرُ. وهو تَبَيُّنُ الخيطِ الأبيضِ مِن الخيطِ الأسودِ مِن الفجرِ.
وبالذى قُلْنا في المباشرةِ قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، وحدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ
(2)
، قال: ثنا إسحاقُ، عن سفيانَ، وحدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أيوبُ بنُ سُوَيْدٍ، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن بكرِ بنِ عبدِ اللهِ المُزَنيِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: المباشرةُ الجماعُ، ولكنَّ اللهَ كريمٌ يَكْنِى
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، عن بكرِ بنِ عبدِ اللهِ المُزَنيِّ، عن ابنِ عباسٍ نحوَه.
(1)
ذكره الحافظ في الإصابة 3/ 425 عن المصنف.
(2)
في م: "سنان"، وفي ت 1، ت 3:"تبان". وينظر تهذيب الكمال 16/ 413.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317 (1681) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى ابن المنذر.
حدَّثني
(1)
المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، ثنا معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ ابنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} : انْكِحُوهنَّ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدِ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: المباشرةُ النكاحُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: قولَه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} قال: الجماعُ، وكلُّ شيْءٍ في القرآنِ مِن ذكرِ المباشرةِ فهو الجماعُ نفسُه. وقالها عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ مثلَ قولِ عطاءٍ في الطعامِ والشرابِ والنساءِ.
حدَّثنا حُمَيْدُ
(3)
بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا شعبةُ، وحدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: المباشرةُ الجماعُ، ولكنَّ اللهَ يَكْنِى ما شاء: بما شاء
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشَيْمٌ، قال أبو بشرٍ: أُخْبِرْنا عن سعيدِ ابنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يقولُ: جامِعوهنَّ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن
(1)
بعده في ت 1، ت 3:"ابن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى المصنف.
(3)
في النسخ: "محمد". وتقدم على الصواب في 1/ 187، 195.
(4)
أخرجه البيهقي 7/ 321 من طريق سعيد بن جبير به بنحوه.
مجاهدٍ، قال: المباشرةُ الجماعُ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المبُارَكِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المُبارَكِ، عن الأَوْزاعيِّ، قال: حدَّثني عَبدَةُ بنُ أبي لُبَابةَ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ: المباشرةُ في كتابِ اللهِ: الجماعُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ البَرْقيِّ، ثنا عمرُو بنُ أبي سلَمةَ، قال: قال الأَوْزاعيُّ: ثنا مَن سمِع مجاهدًا يقولُ: المباشرةُ في كتابِ اللهِ الجماعُ.
واخْتَلَفوا في تأويلِ قولِه: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ، فقال بعضُهم: الولدُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عَبْدَةُ بنُ عبدِ اللهِ الصَّفَّارُ البصريُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ زيادٍ الكاتبُ، عن شعبةَ، عن الحَكَمِ، عن مجاهدٍ:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: الولدُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنُّى، قال: ثنا سهلُ بنُ يوسفَ وأبو داودَ، عن شعبةَ، قال: سمعتُ الحكمَ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} . قال: الولدُ
(3)
.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317، عقب الأثر (1681) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه الثوري في تفسيره ص 58 عن رجل، عن مجاهد.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (276 - تفسير)، والبغوي في الجعديات (287)، من طريق شعبة به.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا أبو تُمَيْلَةَ، قال: ثنا عُبَيْدُ اللهِ، عن عكرمةَ قولَه:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} . قال: الولدُ
(1)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، ثنا أبو مودودٍ بحرُ بنُ موسى، قال: سمِعتُ الحسنَ بنَ أبي الحسنِ يقولُ في هذه الآيةِ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} . قال: الولدُ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} : فهو الولدُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عمِّي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} : يعني الولدَ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمْرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثني عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: الولدُ، فإن لم تَلِدْ هذه فهذه
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، أخبرَنا مَعْمَرٌ، عمَّن سمِع الحسنَ في قولِه:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: هو الولدُ
(5)
.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317، عقب الأثر (1682) معلقًا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317 عقب الأثر (1683) من طريق عمرو بن حماد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317 (1682) من طريق مجاهد عن ابن عباس به.
(4)
تفسير مجاهد ص 222.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 71.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: مِن الولدِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} . قال: الجماعُ
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ
(2)
بنِ الفرجِ، قال: ثنا الفضلُ بنُ خالدٍ، قال: ثنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ
(3)
، قال، سمِعتُ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ قولَه:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: الولدُ.
وقال بعضُهم: معنى ذلك ليلةُ القدرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا مُعاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثني أبي، عن عمْرِو بنِ مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: ليلةُ القدرِ. قال أبو هشامٍ: هكذا قرَأها معاذٌ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا الحسنُ بنُ أبي جعفرٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} قال: ليلةُ القدرِ.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317، عقب الأثر (1682) معلقًا.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"الحسن".
(3)
في م: "سلمان".
(4)
أخرجه أحمد في العلل 1/ 412 (2687)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317 (1683) من طريق معاذ ابن هشام به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 198 إلى ابن المنذر.
وقال آخرون: بل معناه: ما أحلَّه اللهُ لكم ورخَّصه لكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} يقولُ: ما أحلَّه اللهُ لكم.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، قال: قال قتادةُ في ذلك: ابتغوا الرُّخصةَ التي كُتِبت لكم
(1)
.
وقرَأ ذلك بعضُهم: (اتَّبِعوا مَا كَتَبَ اللهُ لكم)
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ عُيَيْنَةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ: كيف تُقْرَأُ هذه الآيةُ: {وَابْتَغُوا} أو (واتَّبِعُوا)؟ قال: أيَّتَهما شئتَ. قال: عليك بالقراءةِ الأولى
(3)
.
والصوابُ مِن القولِ في تأويلِ ذلك عندي أن يُقالَ: إن اللهَ تعالى ذكرُه قال: {وَابْتَغُوا} بمعنى: اطْلُبوا ما كتَب اللهُ لكم. يعني الذي قضَى اللهُ تعالى لكم، وإنما يُرِيدُ اللهُ تعالى ذكرُه: اطلُبوا الذي كتَبتُ لكم في اللوحِ المحفوظِ أنه يُباحُ فَيُطْلَقُ لكم، وطلبُ الولدِ إن طلَبه الرجلُ بجماعِه المرأةَ ممَّا كتَب اللهُ له في اللوحِ المحفوظِ،
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 71.
(2)
وهي قراءة الحسن ومعاوية بن قرة ورويت عن ابن عباس، وهي قراءة شاذة. البحر المحيط 2/ 50.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 71. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 199 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وكذلك إن طلَب ليلةَ القدرِ، فهو ممَّا كتَب اللهُ له، وكذلك إن طلَب ما أحلَّ اللهُ وأباحه، فهو مِمَّا كتَبه اللهُ له في اللوحِ المحفوظِ.
وقد يَدْخُلُ في قولِه: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} جميعُ معاني الخيرِ المطلوبةِ، غيرَ أنَّ أشبَهَ المعاني بظاهرِ الآيةِ قولُ مَن قال: معناه: وابْتَغوا ما كتَب اللهُ لكم مِن الولدِ؛ لأنه عَقِيبَ قولِه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . بمعنى: جامِعوهنَّ. فلَأَنْ يكونَ قولُه: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} بمعنى: وابْتَغوا ما كتَب اللهُ في مباشرتِكم إيَّاهنَّ مِن الولدِ والنسلِ - أشبهُ بالآيةِ مِن غيرِه مِن التأويلاتِ التي ليس على صحَّتِها دلالةٌ مِن ظاهرِ التنزيلِ، ولا خبرٌ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم. القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فقال بعضُهم: يعني بقولِه: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} : ضوءَ النهارِ. وبقولِه: {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} : سوادَ الليل.
فتأويلُه على قولِ قائلي هذه المقالةِ: وكُلُوا بالليلِ في شهرِ صومِكم، واشْرَبوا، وباشِروا نساءَكم، مبتغِين ما كتَب اللهُ لكم مِن الولدِ، مِن أوَّلِ الليلِ إلى أن يَقَعَ
(1)
لكم ضوءُ النهارِ بطلوعِ الفجرِ مِن ظُلمةِ الليلِ وسوادِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ عَرَفَةَ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ عُبَادةَ، قال: ثنا أشعثُ، عن الحسنِ
(1)
كذا في النسخ، ولعلها: يَضِحَ.
في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} قال: الليلُ مِن النهارِ.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} قال: حتى يَتَبَيَّنَ لكمُ النهارُ مِن الليلِ، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} : فهما عَلَمانِ وحدَّان بيِّنان، فلا يَمْنَعْكم أذانُ مُؤَذِّنٍ مُراءٍ أو قليلِ العقلِ مِن سَحورِكم، فإنهم يُؤَذِّنون بهَجيعٍ
(1)
مِن الليلِ طويلٍ، وقد يُرَى بياضُ ما على السَّحَرِ، يقالُ له: الصبحُ الكاذبُ. كانت تُسمِّيه العربُ، فلا يَمنعْكم ذلك من سَحورِكم، فإن الصبحَ لا خفاءَ به، طريقةٌ معترِضةٌ في الأفقِ، وكُلُوا واشْرَبوا حتى يتبيَّنَ لكم الصبحُ، فإذا رأيتُم ذلك فأمْسِكوا.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} يعني: الليلُ مِن
(2)
النهارِ، فأُحِلَّ لكم المجامعةُ والأكلُ والشربُ حتى يتبيَّنَ لكم الصبحُ، فإذا تبيَّنَ الصبحُ حرُم عليهم المجامعةُ والأكلُ والشربُ حتى يُتِمُّوا الصيامَ إلى الليلِ، فأمَر بصومِ النهارِ إلى الليل، وأمَر بالإفطارِ بالليلِ
(3)
.
(1)
الهجيع: الطائفة من الليل. اللسان (هـ ج ع).
(2)
في تفسير ابن أبي حاتم: "و".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 318 (1684) عن محمد بن سعد به مختصرًا.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عيَّاشٍ، وقيل له: أرأيتَ قولَ اللهِ تعالى: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . قال: "إنك لعريضُ القَفا".
قال: "هذا ذَهابُ الليلِ ومجيءُ النهارِ". قيل له: الشَّعْبِيُّ، عن عَدِىِّ بنِ حاتمٍ؟ قال: نعم
(1)
، حدَّثنا حُصَينٌ
(2)
.
وعِلَّةُ مَن قال هذه المقالةَ، وتأوَّلَ الآيةَ هذا التأويلَ ما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِيَاثٍ، عن مجالدِ بنِ سعيدٍ، عن الشعبيِّ، عن عديِّ بنِ حاتمٍ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، قولُ اللهِ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ؟ قال: "هو بياضُ النهارِ وسوادُ الليلِ"
(3)
.
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ نميرٍ وعبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ، عن مجالدِ بنِ
(4)
سعيدٍ، عن عامرٍ، عن عديٍّ بنِ حاتمٍ، قال: أتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فعلَّمنِي الإسلامَ، ونعَت ليَ الصلواتِ كيف أصلِّى كلَّ صلاةٍ لوَقْتِها، ثم قال:"إذا جاء رمضانُ فكُلْ واشرَبْ، حتى يتبيَّنَ لك الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ، ثم أتمَّ الصيامَ إلى الليلِ". ولمْ أدْرِ ما هوَ، ففتَلْتُ خيطيْنِ من أبيضَ وأسودَ، فنظرَتُ فيهما عندَ الفجرِ، فرأيتُهما سواءً، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، كلَّ شيءٍ أوصَيْتَني قد حفِظتُ، غيرَ الخيطِ الأبيضِ من الخيطِ الأسودِ، قال:"وَمَا مَنَعَكَ يا بنَ حاتمٍ؟ " وتبسَّمَ كأنه قد علِم ما فعلتُ. قلتُ: فتَلْتُ خيطين من أبيضَ وأسودَ،
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 28، والبخاري (1916، 4509)، ومسلم (1090)، والمروزي في السنة (119) من طريق حصين به.
(3)
أخرجه أحمد 4/ 377 (الميمنية)، والترمذي (2970، 2971)، والمروزي في السنة (120) من طريق مجالد به بنحوه.
(4)
في النسخ: "عن".
فنظرَتُ فيهما من الليلِ، فوجدتُهما سواءً. فضحِك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نواجِذُه، ثم قال: "ألم أقل لك: مِن الفَجْرِ؟ إنما هُوَ ضَوْءُ النَّهارِ وَ
(1)
ظُلْمَةُ الليْلِ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا داودُ و
(3)
ابنُ عُلَيَّةَ، جميعًا عن مُطرِّفٍ، عن الشعبيِّ، عن عديِّ بنِ حاتمٍ، قال: قلتُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ما الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ، أهما خيطان أبيضُ وأسودُ؟ فقال:"إنّكَ لَعرِيضُ القفا أنْ أبْصَرْتَ الخيْطَيْن". ثم قال: "لا، ولَكِنَّهُ سَوَادُ اللَّيْلِ وبيَاضُ النَّهارِ"
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحيم البَزقيُّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: ثنا أبو غسَّانَ، قال: ثنا أبو حازمٍ، عن سهلِ بنِ سعدٍ، قال: نزَلت هذه الآيةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} . فلم ينزِلْ: {مِنَ الْفَجْر} قال: فكان رجالٌ إذا أرادُوا الصومَ ربَطَ أحدُهم في رجلَيْه الخيطَ الأسودَ والخيطَ الأبيضَ، فلا يزالُ يأكُلُ ويشربُ حتى يَتبيَّنَ له، فأنزَل اللهُ بعد ذلك:{مِنَ الْفَجْر} فعلِموا أنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ
(5)
.
وقال متأوِّلُو قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} : إنه بياضُ النهارِ وسوادُ الليلِ: صفةُ ذلك البياضِ أن يكونَ مُنتشرًا مُستفيضًا في السماءِ يملأُ بياضُه وضَوْءُه الطرقَ، فأما الضوءُ الساطعُ في السماءِ،
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 318 (1686) من طريق مجالد به.
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه البخاري (4510)، والنسائي (2168)، وابن خزيمة (1926)، من طريق مطرف به بنحوه.
(5)
أخرجه البخاري (1917، 4511)، ومسلم (1091/ 35) من طريق ابن أبي مريم به، وأخرجه البخاري (1917)، ومسلم (1091/ 34) من طريق أبي حازم به.
فإن ذلك غيرُ الذي عناه اللهُ بقولِه: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّنْعانيُّ، قال: ثنا مُعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ عِمرانَ بنَ حُدَيرٍ، عن أبي مِجْلَزٍ: الضوءُ الساطعُ في السماءِ ليس بالصبحِ، ولكنْ ذاك الصبحُ الكاذبُ، إنما الصبحُ إذا انفضَح الأفقُ
(1)
.
حدَّثني سَلْمُ بنُ جُنادةَ السُّوائيُّ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، قال: لم يكونوا يعُدُّون الفجرَ فجْرَكم هذا، كانوا يعُدُّون الفجرَ الذي يملأُ البيوتَ والطُّرُقَ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثامٌ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ: ما كانوا يرَونَ إلَّا أنَّ الفجرَ الذي يستفيضُ في السماءِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: ثنا روحُ بنُ عبادةَ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبَرني عطاءٌ أنه سمِعَ ابنَ عباسٍ يقولُ: هما فَجْرانِ؛ فأمَّا الذي يَسطَعُ في السماءِ فليس يُحِلُّ ولا يُحرِّمُ شيئًا، ولكنَّ الفجرَ الذي يستبينُ على رءوسِ الجبالِ هو الذي يُحرِّمُ الشَّرابَ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ الزِّبرقانِ النَّخعيُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن محمدِ بنِ أبي ذئبٍ
(4)
، عن الحارثِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ ثَوْبانَ، قال:
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 27 من طريق عمران بن حدير به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 27 عن أبي معاوية به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4765) عن ابن جريج به مطولاً. وأخرجه البيهقي 1/ 377 من طريق سفيان، عن ابن جريج به بمعناه.
(4)
في م: "ذؤيب".
الفجرُ فَجْران، فالذي كأنه ذَنَبُ السِّرْحانِ لا يُحرِّمُ شيئًا، وأمّا المستطيرُ الذي يأخُذُ الأفُقَ، فإنه يُحِلُّ الصلاةَ ويُحرِّمُ الطعامَ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ وإسماعيلُ بنُ صَبيحٍ وأبو أسامةَ، عن أبي هلالٍ، عن سَوَادَةَ بنِ حنظلةَ، عن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْنَعْكُمْ مِن سَحُورِكم أذَانُ بِلالٍ ولَا، الفَجْرُ المستَطِيلُ، ولكِنِ الفَجْرُ المسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ هشامٍ الأسديُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن سوادةَ، قال: سمِعتُ سَمُرةَ بنَ جُندُبٍ يذكُرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سمِعَه وهو يقولُ: "لا يَغُرَّنَّكم نِدَاءُ بِلالٍ ولا هذا البياضُ حتى يَبْدُوَ الفَجْرُ وَيَنْفَجِرَ"
(3)
.
وقال آخَرون: الخيطُ الأبيضُ هو ضَوْءُ الشمسِ، والخيطُ الأسودُ هو سوادُ الليلِ.
(1)
في النسخ: "الصوم". والمثبت كما في مصادر التخريج.
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 321 عن المصنف، وفيه: "عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 200 إلى المصنف وغيره. وأخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 200 - وعنه ابن أبي شيبة 3/ 27، والدارقطني 1/ 268، 2/ 165، والبيهقي 1/ 377، 4/ 215 من طريق ابن أبي ذئب به. مرفوعًا مرسلًا. وفي إسناد ابن أبي شيبة تصحيف.
وأخرجه الحاكم 1/ 191 - وعنه البيهقي 1/ 377 - من طريق يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث، عن ابن ثوبان، عن جابر مرفوعًا، وصحح الحاكم إسناده، وصوب البيهقي وغيره إرساله. وينظر السلسلة الصحيحة (2002).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 9، 27 عن أبي أسامة به، وأخرجه أحمد 5/ 13 (الميمنية)، والترمذي (706) من طريق وكيع به.
(3)
أخرجه الطيالسي (939)، وأحمد 5/ 7، 18 (الميمنية)، ومسلم (1094)، والنسائي (2170)، وفي الكبرى (2481) من طريق شعبة به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هنّادُ
(1)
بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا عَبيدةُ
(2)
بنُ حُميدٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ التَّيْميِّ، قال: سافَر أبي مع حُذيفةَ. قال: فسارَ، حتى إذا خشِينا أن يَفْجَأَنَا الفجرُ قال: هل منكم من أحدٍ آكلٌ أو شاربٌ؟ قال: قلتُ له: أمَّا مَن يريدُ الصومَ فلَا. قال: بلى. قال: ثم سار حتى إذا استَبْطأْنا الصلاةَ نزَل فتسحَّرَ.
حدَّثنا هنَّادٌ وأبو السائبِ، قالَا: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عن أبيه، قال: خرَجْتُ مع حُذيفةَ إلى المدائنِ في رمضانَ، فلمَّا طلَع الفجرُ، قال: هل منكم مِن أحدٍ آكلٌ أو شاربٌ؟ قلنا: أمَّا رجلٌ يريدُ أن يصومَ فلَا. قال: لكنِّي. قال: ثم سِرْنا حتى اسْتَبْطَأْنا الصلاةَ قال: هل منكم أحدٌ يريدُ أن يتسحَّرَ؟ قال: قُلْنا: أمَّا مَن يريدُ الصومَ فلَا. قال: لكنِّي. ثم نزَل فتسحَّرَ، ثم صلَّى
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، قال: ربَّما شرِبتُ بعدَ قولِ المؤذِّنِ - يعْني في رمضانَ -: قد قامتِ الصلاةُ. قال: وما رأيتُ أحدًا كان أفعلَ له مِن الأعمشِ، وذلك لِما سمِع قال: حدثنا إبراهيمُ التيميُّ، عن أبيه، قال: كنا مع حُذيفةَ نسيرُ ليلًا، فقال: هل منكم مُتسحِّرٌ الساعةَ؟ قال: ثم سارَ، ثم قال حذيفةُ: هل منكم مُتسحِّرٌ الساعةَ؟ قال: ثم سار حتى اسْتَبطأْنا الصلاةَ، قال: فنزَل فتسحَّرَ. حدَّثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الهمْدانيُّ، قال: ثنا مصعبُ بنُ المِقدامِ، قال: ثنا إسرائيلُ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن هُبيرةَ، عن عليٍّ أنه لمَّا صلَّى الفجرَ، قال: هذا
(1)
في م: "هشام".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبادة".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 11 عن أبي معاوية به.
حينُ يَتَبيَّنُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا [ابنُ الصَّلْتِ]
(2)
، قال: ثنا إسحاقُ بنُ حذيفةَ العطارُ، عن أبيه، عن البراءِ، قال: تسحَّرْتُ في شهرِ رمضانَ، ثم خرجتُ فأتيتُ ابنَ مسعودٍ، فقال: اشرَبْ. فقلت: إني قد تسحَّرْتُ. فقال: اشرَبْ. فشرِبْنا ثم خرَجْنا والناسُ في الصلاةِ.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الشيبانيِّ، عن جَبَلةَ بنِ سُحيمٍ، عن عامرِ بنِ مَطَرٍ، قال: أتيتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ في دارِه، فأخرَج فضْلًا من سَحُورِه، فأكلْنا معه، ثم أُقيمتِ الصلاةُ فخرَجْنا فصلَّيْنا
(3)
.
حدَّثنا خَلَّادُ بنُ أسلمَ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، عن أبي إسحاقَ، عن عبدِ
(4)
اللهِ بنِ معقلٍ، عن سالمٍ مولَى أبي حُذيفةَ، قال: كنتُ أنا وأبو بكرٍ الصديقُ فوق سطحٍ واحدٍ في رمضانَ، فأتيتُ ذاتَ ليلةٍ فقلتُ: ألَّا تأكُلُ يا خليفةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فأوْمأَ بيدِه أنْ كُفَّ، ثم أتيتُه مرةً أخرى، فقلتُ له: ألا تأكُلُ يا خليفةَ رسولِ اللهِ؟ فأومأَ بيدِه أنْ كُفَّ، ثم أتيتُه مرةً أخرى، فقلتُ: ألا تأكُلُ يا خليفةَ رسولِ اللهِ؟ فَنَظَرَ إلى الفجرِ ثمَّ أومَأ بيدِه أن كُفَّ، ثمَّ أتيتُه فقلتُ: ألا تأكلُ يا خليفةَ رسولِ اللهِ؟ قال: هاتِ غَداءَك. قال: فأتيتُه به فأكَلَ ثم صلَّى
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 199 إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد. وعزاه الحافظ في فتح الباري 4/ 136، 137 إلى ابن المنذر وصحح إسناده.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"أبو صلت".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 10 - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 6/ 348 - عن أبي معاوية به، وأخرجه عبد الرزاق (7619) - ومن طريقه الطبراني في الكبير (9577) - من طريق جبلة بن سحيم، عن عامر، عن أبيه.
(4)
في النسخ:"عبيد". والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 22/ 105.
ركعتين، ثم قام إلى الصلاةِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهدىٍّ، قال: ثنا شعبةُ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: الوِترُ بالليلِ والسَّحورُ بالنهارِ.
وقد رُوِيَ عن إبراهيمَ غيرُ ذلك.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، قال: السَّحورُ بليلٍ، والوِترُ بليلٍ
(2)
.
حدَّثنا حَكّامٌ، عن ابنِ
(3)
أبي جعفرٍ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال: السَّحورُ والوِترُ ما بينَ التَّثْوِيبِ والإقامةِ.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن شبيبِ بنِ غَرقدَةَ
(4)
، عن حبّانَ، قال: تسحَّرنا مع عليٍّ ثم خرجْنا وقد أقيمتِ الصلاةُ فصلَّيْنا
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن شبيبٍ، عن حبّانَ بنِ الحارثِ، قال: مرَرْتُ بعليٍّ، وهو في دَير
(6)
أبِي موسى وهو يتسحَّرُ، فلما انتهيتُ
(1)
أخرجه الطبراني (6378 - 6380) من طرق عن أبي إسحاق به مختصرًا. وينظر مجمع الزوائد 3/ 154.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 288 من طريق مغيرة، عن إبراهيم.
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
بعدها في م، ت 1، ت 3:"عن عروة".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 10، وعبد الرزاق (7609)، والبخاري في تاريخه 3/ 83، وابن حزم في المحلى 6/ 348 من طرق عن شبيب به. وفي بعض طرقه عند البخاري شبيب، عن طارق بن قرة، وحبان بن الحارث.
(6)
في م: "دار"، وينظر مصنف عبد الرزاق (7609)، ودير أبي موسى: مكان في العراق عسكر فيه أمير المؤمنين عليٌّ عندما سار لقتال الخوارج. البداية والنهاية 10/ 585.
إلى المسجدِ أقيمت الصَّلاةُ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي السَّفَرِ، قال: صلَّى عليُّ بنُ أبي طالبٍ الفجرَ، ثم قال: هذا حينُ يَتبيَّنُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ
(1)
.
وعلةُ من قال هذا القولَ أن الوقتَ إنما هو النهارُ دونَ الليلِ. قالوا: وأوَّلُ النَّهارِ طلوعُ الشمسِ، كما أن آخرَه غرُوبُها. قالوا: ولو كان أوَّلُه طلوع الفجرِ لوجبَ أن يكونَ آخِرُه غروبَ الشَّفَقِ. قالوا: وفي إجماعِ الحجَّةِ على أن آخِرَ النَّهارِ غروبُ الشمسِ دليلٌ واضحٌ على أن أوَّلَه طلوعُها. قالوا: وفي الخبرِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه تسحَّر بعد طلوعِ الفجرِ، أوضحُ الدليلِ على صحةِ قولِنا.
ذِكرُ الأخبارِ التي رُوِيَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن حذيفةَ، قال: قلتُ: تسحَّرتَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: لو أشاءُ لَأقولُ: هو النهارُ إلَّا أن الشَّمسَ لم تطلُعْ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، قال: ما كذَبَ عاصمٌ على زِرٍّ، ولا زِرٌّ على حذيفةَ، قال: قلتُ له: يا أبا عبدِ اللهِ، تسحَّرتَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، هو النهارُ إلَّا أن الشَّمسَ لم تطلُعْ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، [قال: ثنا مؤمَّلٌ]
(3)
، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن
(1)
تقدم في ص 254، 255.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1695) من طريق أبي بكر به.
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
حذيفةَ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَسَحَّرُ وأنا أرَى مواقعَ النَّبْلِ. قال: قلتُ: أبعدَ الصبحِ؟ قال: هو الصبحُ إلَّا أنه لم تطلُعِ الشَّمسُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدثنا الحكمُ [بنُ بشيرٍ]
(2)
، قال: حدثنا عمرُو بنُ قيسٍ وخلّادٌ الصفارُ، عن عاصمِ بنِ بَهدَلةَ، عن زِرِّ بنِ حُبيشٍ، قال: أصبحتُ ذاتَ يومٍ فغدوتُ إلى المسجدِ، فقلتُ: لو مررْتُ على بابِ حذيفةَ ففتَح لي، فدخلتُ فإذا هو يُسخَّن له طعامٌ، فقال: اجلسْ حتى تَطعَمَ. فقلتُ: إني أريدُ الصومَ. فقرَّبَ طعامَه فأكَل وأكلتُ معه، ثم قام إلى لِقحةٍ
(3)
في الدارِ، فأخَذ يحلُبُ من جانبٍ وأحلُب أنا من جانبٍ، فناولَني، فقلتُ؛ ألا ترى الصبحَ؟ فقال: اشربْ. فشرِبتُ، ثم جئتُ إلى باب المسجدِ فأُقيمتِ الصلاةُ، فقلتُ له: أخبرِنْي بآخِرِ سَحورٍ تسحَّرتَه مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو الصبحُ إلَّا أنه لم تطلُعِ الشَّمسُ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازيُّ!، قال: ثنا روحُ بنُ عبادةَ
(5)
، قال: ثنا حمادٌ، عن محمدِ بنِ عَمرٍو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا سَمِعَ أحَدُكم النِّدَاءَ وَالإناءُ على يَدِهِ فلا يَضَعْهُ حتَّى يَقْضِيَ حاجَتَهُ منه"
(6)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد 5/ 399 (الميمنية) من طريق مؤمل به بنحوه. وأخرجه النسائي (2151) من طريق عاصم به بنحوه.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عن بشر".
(3)
اللقحة، بالكسر، هي الناقة اللَّقوح، أي الحلوب الغزيرة اللبن. التاج (ل ق ح).
(4)
أخرجه أحمد 5/ 396 (الميمنية)، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 52، وابن حزم 6/ 345 من طريق عاصم به بنحوه.
(5)
في م: "جنادة". وينظر تهذيب الكمال 9/ 238.
(6)
أخرجه أحمد 16/ 368 (10629)، والبيهقي 4/ 218 من طريق روح بن عبادة به. وأخرجه أبو داود (2350)، والدارقطني 2/ 165، والحاكم 1/ 203 من طرق عن حماد بن سلمة به. والحديث أعله أبو حاتم بالوقف، ينظر العلل 1/ 123، 124، 256، 257.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا روحُ بنُ عبادةَ
(1)
، قال: ثنا حمادٌ، عن عمارِ ابن أبي عمارٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه، وزاد فيه: وكان المؤذِّنُ يُؤذِّنُ إذا بزَغ الفجرُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، وحدثنا محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسنِ بنِ شقيقٍ، قال: سمِعتُ أبي، قال: أخبَرنا الحسينُ بنُ واقدٍ - قالَا جميعًا: عن أبي غالبٍ، عن أبي أُمامةَ، قال: أقيمتِ الصَّلاةُ والإناءُ في يدِ عُمرَ، قال: أشربُها يا رسولَ اللهِ؟ قال: "نعم". فشرِبها
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا يونسُ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ، قال: قال بلالٌ: أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنُه بالصَّلاةِ وهو يريدُ الصومَ، فدعا بإناءٍ فشرِبَ، ثم ناوَلَني فشرِبتُ، ثم خرَج إلى الصلاةِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ أحمدَ الطُّوسيُّ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بن موسى، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن عبدِ اللهِ بنِ مَعقِلٍ
(5)
، عن بلالٍ قال: أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنُه بصلاةِ الفجرِ وهو يريدُ الصيامَ، فدعا بإناءٍ فشَرِب، ثْم ناوَلَني فشرِبتُ، ثم خرَجْنا إلى الصلاةِ
(6)
.
(1)
في م: "جنادة". وينظر تهذيب الكمال 9/ 238.
(2)
أخرجه أحمد 16/ 368 (10630)، وابن حزم 6/ 346، والبيهقي 4/ 218 من طريق روح به. وأخرجه الحاكم 1/ 203 من طريق حماد بن سلمة به. وقوله: وكان المؤذِّن يؤذن إذا بزغ الفجر. عند ابن حزم من قول عمَّار.
(3)
أخرجه أبو يعلى - كما في جامع المسانيد 13/ 229 (10485) - من طريقين عن أبي غالب به.
(4)
أخرجه الطبراني (1083) من طريق يونس به، وعبد الله بن معقل تابعي ثقة لكنَّه لم يدرك بلالًا رضي الله عنه.
(5)
في م: "مغفل".
(6)
أخرجه أحمد 6/ 12 (الميمنية)، والطبراني (1082) من طريق إسرائيل به بنحوه. وينظر مجمع الزوائد 3/ 152.
وأوْلى التأويلَيْن بالآيةِ التأويلُ الذي رُوِي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخَيْطُ الأبْيَضُ بَياضُ النَّهارِ، والخَيْطُ الأسْوَدُ سَوَادُ اللَّيْلِ". وهو المعروفُ في كلامِ العربِ، قال أبو دُؤادَ
(1)
الإياديُّ
(2)
:
فَلَمَّا أضَاءَتْ لَنا سُدْفَةٌ
(3)
…
ولاحَ مِن الصُّبحِ خَيْطٌ أنارَا
(4)
وأمَّا الأخبارُ التي رُوِيَت عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه شرِب أو تسحَّر ثم خرَج إلى الصلاةِ، فإنه غيرُ دافعٍ صحةَ ما قُلْنا في ذلك؛ لأنه غيرُ مُستنكَرٍ أن يكونَ صلى الله عليه وسلم شرِب قبلَ الفجرِ، ثم خرَج [إلى الصلاةِ، إذْ كانت الصَّلاةُ - صلاةُ الفجرِ - هي على عهدِه كانت تُصلَّى]
(5)
بعد ما يطلُعُ الفجرُ ويَتبينُ طلوعُه، ويؤذَّنُ لها قبلَ طلوعِه.
وأما الخبَرُ الذي رُوي عن حذيفةَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتسحَّرُ وأنا أرَى مواقعَ النَّبْلِ. فإنه قد اسْتُثبِت فيه، فقيل له: أبَعْدَ الصبحِ؟ فلم يُجِبْ في ذلك بأنه كان بعدَ الصبحِ، ولكنه قال: هو الصبحُ. وذلك من قولِه يَحتمِلُ أن يكونَ معناه هو الصبحَ لقُرْبِه منه، وإن لم يكنْ هو بعَيْنِه، كما تقولُ العربُ: هذا فلانٌ شبهًا. وهي تُشيرُ إلى غيرِ الذي سمَّتْه، فتقولُ: هُو هُو. تشبيهًا منها له به. فكذلك قولُ حذيفةَ: هو الصبحُ. معناه: هو الصبحُ شبهًا به وقربًا منه.
وقال ابنُ زيدٍ في معنى "الخيطِ الأبيضِ والأسودِ" ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
(1)
في ت 1، ت 2:"داود". وينظر الشعر والشعراء 1/ 237.
(2)
شعر أبي دؤاد الإيادي ص 352 (ضمن دراسات في الأدب العربي).
(3)
في ت 1، ت 2:"غدوة". والسدفة في لغة تميم: الظلمة، وفي لغة قيس: الضوء. تهذيب اللغة 12/ 367.
(4)
في ت 2: "فنارا".
(5)
سقط من: ت 1، ت 2.
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قال: الخيطُ الأبيضُ الذي يكونُ مِن تحت الليلِ يكشِفُ الليلَ، والأسودُ ما فوقَه.
وأمَّا قولُه: {مِنَ الْفَجْرِ} . فإنه تعالى ذكرُه يعْنِي: حتَّى يتبيَّنَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ الذي هو من الفجرِ، وليس ذلك هو جميعَ الفجرِ، ولكنه إذا تبيَّنَ لكم أيُّها المؤمنون
(1)
من الفجرِ ذلك الخيطُ الأبيضُ الذي يكون من تحتِ الليلِ الذي فوقَه سوادُ الليلِ، فمِن حينئذٍ فصُوموا، ثم أتمُّوا صيامَكم من ذلك إلى الليلِ.
وبمثلِ ما قلنا في ذلك كان ابنُ زيدٍ يقولُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {مِنَ الْفَجْرِ} . قال: ذلك الخيطُ الأبيضُ هو من الفجرِ نسبةً إليه، وليس الفجرَ كلَّه، فإذا جاء هذا الخيطُ وهو أوَّلُه، فقد حلَّتِ الصَّلاةُ، وحرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصائمِ.
وفي قولِه تعالى ذكرُه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . أوضحُ الدَّلالةِ على خطأَ قولِ مَن قال: حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أرادَ الصومَ، إلى طلوعِ الشمسِ. لأن الخيطَ الأبيضَ من الفجرِ يتبيَّنُ عندَ ابتداءِ طلوعِ أوائلِ الفجرِ، وقد جعَل اللهُ تعالى ذكرُه ذلك حدًّا لمن لزِمه الصومُ في الوقتِ الذي أباح إليه الأكلَ والشربَ والمباشرةَ، فمَن زعَم أن له أن يتجاوزَ ذلك الحدَّ، قيل له: أرأيتَ إن أجاز له آخَرُ ذلك ضَحوةً أو نصفَ النَّهارِ؟ فإن قال: إنَّ قائلَ ذلك مخالفٌ للأُمةِ. قيل له: وأنت لما دلَّ عليه كتابُ اللهِ ونقْلُ
(1)
في ت 1، ت 2:"الناس".
الأُمةِ مخالفٌ، فما الفرقُ بينَك وبينَه من أصلٍ أو قياسٍ؟ فإن قال: الفرقُ بيني وبينَه أن اللهَ أمرَ بصومِ النَّهارِ دونَ الليلِ، والنهارُ من طلوعِ الشمسِ. قيل له: كذلك يقولُ مُخالِفوك، والنهارُ عندهم أوَّله طلوعُ الفجرِ، وذلك هو ضوءُ الشمسِ وابتداءُ طلوعِها دونَ أن يتتامَّ طلوعُها، كما أن آخِرَ النَّهارِ ابتداءُ غروبِها دونَ أن يتتامَّ غروبُها.
ويقالُ لقائلي ذلك: إن كان النهارُ عندَكم كما وصفتُم هو ارتفاعُ الشمسِ وتكاملُ طلوعِها، وذَهابُ جميعِ سُدْفةِ الليلِ وغَبَسِ
(1)
سوادِه، فكذلك عندكم الليلُ، هو تتَامُّ غروبِ الشَّمسِ وذَهابُ ضيائِها، وتكاملُ سوادِ الليلِ وظلامِه.
فإن قالوا: ذلك كذلك. قيل لهم: فقد يجِبُ أن يكونَ الصومُ إلى مَغيبِ الشَّفَقِ، وذَهابِ ضوءِ الشمسِ وبياضِها من أُفقِ السماءِ.
فإن قالوا: ذلك كذلك. أوجَبوا الصومَ إلى مَغيبِ الشفقِ الذي هو بياضٌ، وذلك قولٌ إن قالوه مدفوعٌ بنَقلِ الحجَّةِ التي لا يجوزُ فيما نَقلَتْه مُجمِعةً عليه الخطأُ والسهوُ، [وكفى بذلك شاهدًا]
(2)
على
(3)
تخطئتِه.
وإن قالوا: بل أوَّلُ الليلِ ابتداءُ سُدْفَتِه وظلامِه، ومَغيبُ عينِ الشمسِ عنا. قيل لهم: وكذلك أوَّلُ النَّهارِ، طلوعُ أوَّلِ ضياءِ الشَّمسِ، ومَغيبُ، أوائلِ سُدْفةِ الليلِ، ثم يُعكَسُ عليه القولُ في ذلك، ويُسألُ الفرقَ بين ذلك، فلن يقولَ في أحدِهما قولًا إلَّا أُلزِمَ في الآخَرِ مثلَه.
وأما الفجرُ، فإنه مصدرٌ من قولِ القائلِ: تفجَّرَ الماءُ يتفَجَّرُ فَجْرًا. إذا انبعَثَ
(1)
في ت 1، ت 2:"عبس"، والغبس: ظلام في آخر الليل. التاج (غ ب س).
(2)
سقط من النسخ، وأثبتناه كالشيخ شاكر.
(3)
في م: "عن".
وجرَى. فقيلَ للطالعِ من تباشيرِ ضياءِ الشمسِ من مَطلَعِ الشمسِ: فَجْرٌ. لانبعاثِ ضَوئِه عليهم وتورُّدِه عليهم بطُرُقِهم ومحاجِّهم
(1)
، تفجُّرَ الماءِ المنفَجِرِ من مَنْبعِه.
وأمّا قولُه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . فإنه تعالى ذكرُه حدَّ الصومَ بأنَّ آخِرَ وقتِه إقبالُ الليلِ، كما حدَّ الإفطارَ وإباحةَ الأكلِ والشربِ والجماعِ وأوَّلَ الصومِ بمجيءِ أوَّلِ النهارِ وأوَّلِ إدبارِ آخرِ الليلِ، فدلَّ بذلك على ألا صَوْمَ بالليلِ كما لا فِطْرَ بالنهارِ في أيامِ الصومِ، وعلى أنَّ الموُاصِلَ
(2)
مُجوِّعٌ
(3)
نفسَه في غيرِ طاعةِ ربِّه.
كما حدَّثنا هَنادٌ، قال: ثنا أبو معاويةَ ووكيعٌ وعَبْدةُ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، عن عاصمِ بنِ عمرٍو، عن عمرَ، قال: قال رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ وأدْبَرَ النَّهارُ وغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائمُ"
(4)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، قال: ثنا أبو إسحاقَ الشيبانيُّ، وحدثنا هنّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو عُبيدةَ وأبو معاويةَ، [عن الشيبانيِّ]
(5)
، وحدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا أبو معاويةَ، وحدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن
(1)
المحاج جمع محجة، وهي الطريق. التاج (ح ج ج).
(2)
في ت 1: "الواصل"، وفي ت 2:"المواصلة".
(3)
في ت 2: "محوج".
(4)
أخرجه مسلم (1100)، والترمذي - كما في تحفة الأشراف (10474) - وابن خزيمة (2058)، والبزار (259)، وابن حبان (3513)، من طريق أبي معاوية به. وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 11، وأحمد 1/ 323، 445 (192، 383)، وأبو داود (2351)، والنسائي في الكبرى (3310)، وأبو يعلى (240)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 371، 372 من طريق وكيع به. وأخرجه الدارمي 2/ 7، والترمذي (698)، وابن خزيمة (2058) من طريق عبدة به. وأخرجه عبد الرزاق (7595)، والحميدي (20)، وأحمد 1/ 354، 355، 418 (231، 338)، والبخاري (1954)، وأبو داود (2351)، والترمذي - كما في التحفة - وابن الجارود (393)، والبيهقي 4/ 216، 237، 238، والبغوي (1735) من طريق هشام به.
(5)
سقط من: ت 1، ت 2. وفي م:"عن شيبان".
الشيبانيِّ، قالوا جميعًا في حديثِهم: عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوْفَى قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ وهو صائمٌ، فلمَّا غَربتِ الشمسُ قال لرجلٍ: "انْزِلْ فاجْدَح
(1)
لي". قالوا: لو أمسيتَ يا رسولَ اللهِ. فقال: "انْزِلْ فاجْدَحْ لي". فقال الرجلُ: يا رسولَ اللهِ، لو أمسيتَ. قال: "انْزِلْ فاجْدَحْ لي" قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ علينا نهارًا. فقال له الثالثةَ، فنزَل فجَدَحَ له، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ ههنا" - وضرَبَ بيدِه نحوَ المشرقِ - "فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائمُ"
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن رُفَيعٍ، قال: فرَض اللهُ الصيامَ إلى الليلِ، فإذا جاءَ الليلُ فأنت مُفطِرٌ، إن شئتَ فكُلْ، وإن شئتَ فلا تأكُلْ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا داودُ، عن أبي العاليةِ أنه سُئِلَ عن الوصالِ في الصومِ، فقال: افترَض اللهُ على هذه الأُمةِ صومَ النهارِ، فإذا جاء الليلُ فإن شاءَ أكَل وإن شاءَ لم يأكُلْ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثني ابنُ عُلَيَّةَ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، قال: قال أبو العاليةِ في الوصالِ في الصومِ، قال: قال اللهُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . فإذا جاء الليلُ فهو مُفطِرٌ، فإن شاءَ أكلَ وإن شاء لم يأكُلْ
(3)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا ابنُ دُكينٍ، عن مِسعرٍ، عن قتادةَ، قال: قالت عائشةُ: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . يعني أنها كرِهَتِ الوصالَ
(4)
.
(1)
الجدح: أن يحرك السويق بالماء ويخوض فيه حتى يستوي. النهاية 2/ 243.
(2)
أخرجه البخاري (1941، 1955، 1956، 1958، 5297)، ومسلم (1101) من طرق عن الشيباني به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 83، 84، عن إسماعيل ابن علية به بنحوه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 83 من طريق مسعر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 200 إلى عبد بن =
فإن قال قائلٌ: فما وجهُ وصالِ من واصَل، فقد علِمتَ بما حدَّثكم به أبو السائبِ، قال: ثنا حفصٌ، عن هشامِ بنِ عروةَ، قال: كان عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ يواصِلُ سبعةَ أيامٍ، فلمَّا كبِر جعَلها خمسًا، فلما كبِر جدًّا جعَلها ثلاثًا
(1)
.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا حفصٌ، عن عبدِ الملكِ، قال: كان ابنُ أبي يَعمَرَ يُفْطِرُ في كلِّ شهرٍ مرةً.
حدَّثنا ابنُ أبي بكرٍ المقدَّميُّ، قال: ثنا الفَرْويُّ، قال: سمِعتُ مالكًا يقولُ: كان عامرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ يواصلُ ليلةَ ستَّ عشْرةَ وليلةَ سبْعَ عشْرةَ من رمضانَ لا يُفطِرُ بينهما، فلَقِيتُه فقلتُ له: يا أبا الحارثِ ماذا تجِدُه يُقوِّيك في وصالِك؟ قال: السمنُ أشرَبُه أجِده يَبُلُّ عروقِي، فأمَّا الماءُ فإنه يخرُجُ من جسدِي.
وما أشبهَ ذلك ممن فعَل ذلك، ممن يطولُ بذكرِهم الكتابُ؟
قيلَ: وجهُ من فعَل ذلك إن شاء اللهُ تعالى، على طلبِ الخُموصةِ
(2)
لنفسِه والقوَّةِ، لا على طلبِ البِرِّ للهِ بفعلِه، وفِعْلُهم ذلك نظيرُ ما كان عمرُ بنُ الخطابِ يأمرُهم به بقولِه: اخْشَوْشِنوا وتمَعْدَدوا
(3)
، وانْزُوا على الخيلِ نَزْوًا، واقطعوا
= حميد. وفي إسناد ابن أبي شيبة: "قدامة" بدلا من قتادة.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 28/ 175 - 177 من طريقين عن ابن الزبير وفيه ذكر مواصلته سبعة أيام فقط دون باقي الأثر.
(2)
في ت 2: "الحموصة". قال الشيخ شاكر: الخموصة مصدر خمص بطنه خمصا، بسكون الميم وفتحها، وخماصة. ولم يذكروا الخموصة في كتب اللغة، وهو عربي عريق. وخمص بطنه: ضَمَر. التاج (خ م ص).
(3)
التمعدد: الصبر على عيش معد بن عدنان، والتشبه بهم في خشونة لباسهم وتقشفهم وغلظ معاشهم. التاج (م ع د).
الرُّكُبَ
(1)
، وامشُوا حفاةً
(2)
. يأمرُهم في ذلك بالتخشُّنِ في عَيْشِهم، لئلا يتنعَّموا فيَرْكَنوا إلى خفْضِ العيشِ، ويَميلُوا إلى الدَّعةِ فيجبُنوا ويَحتمُوا عن أعدائِهم، وقد رغِب - لمن واصل - عن الوصالِ كثيرٌ من أهلِ الفضلِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، أن ابنَ أبي نُعْمٍ
(3)
كان يواصلُ من الأيامِ حتى لا يستطيعَ أن يقومَ. فقال عمرُو بنُ ميمونٍ. لو أدرَك هذا أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم رَجَموه
(4)
.
ثم في الأخبارِ المتواترةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصالِ التي يطولُ بإحصائِها الكتابُ، ترَكْنا ذكْرَ أكثرِها استغناءً بذكْرِ بعضِها، إذ كان في ذكرِ ما ذكرنَا مُكتفًى عن الاستشهادِ - على كراهةِ الوصالِ - بغيرِه.
حدُّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن عبيدِ
(5)
اللهِ، قال: أخبرَني نافعٌ، عن ابنِ عمرَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصالِ، قالوا: إنك تواصلُ يا رسولَ اللهِ! قال: "إنِّي لَسْتُ كأحدٍ مِنْكم، إنِّي أبِيتُ أُطْعَمُ وأُسْقَى"
(6)
.
وقد رُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الإذنُ بالوِصالِ من السَّحَرِ إلى السَّحَرِ.
حدّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ المصريُّ، قال: ثنا شعيبٌ
(7)
، عن
(1)
الركب جمع ركاب، وهو من السرج كالغرز من الرحل. التاج (ر ك ب).
(2)
مسند الفاروق 1/ 216، وغريب الحديث 3/ 325. والحديث في المسند 1/ 394 (301) بمعناه.
(3)
في م: "نعيم".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 84 من طريق بكر بن عامر، عن ابن أبي نعم، وليس فيه ذكر قول عمرو بن ميمون.
(5)
في م: "عبد".
(6)
أخرجه أحمد 8/ 345 (4721)، والنسائي في الكبرى (3263) من طريق يحيى بن سعيد به نحوه، وأخرجه البخاري (1962)، ومسلم (1102)، من طريق نافع به نحوه.
(7)
في م: "أبو شعيب"، وفي ت 1:"ابن شعيب"، وفي ت 2:"أبي شعيب". وهو شعيب بن الليث بن سعد.
الليثِ، عن يزيدَ بنِ الهادِ، عن عبدِ اللهِ بنِ خَبّابٍ
(1)
، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، أنه سمِع رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"لا تُواصِلُوا، فأيُّكم أراد أن يُواصِلَ فَلْيُواصِلْ حتَّى السَّحَرِ". قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّك تواصلُ! قال:"إنِّي لَسْتُ كهَيْئَتِكُم، إني أبِيتُ لي مُطْعِمٌ يُطْعِمُني وساقٍ يَسْقِيني"
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا أبو إسرائيلَ العبسيُّ، عن أبي بكرِ ابنِ حفصٍ، عن أمِّ ولدِ حاطبِ بنِ أبي بلْتَعةَ أنها مرَّتْ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يتسَحَّرُ، فدعاها إلى الطعامِ فقالت: إني صائمةٌ. قال: "وكيف تَصومين؟ " فذكرَتْ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أينَ أنتِ من وصالِ آلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، من السَّحَرِ إلى السَّحَرِ؟ "
(3)
.
فتأويلُ الآيةِ إذن: ثم أتمُّوا الكفَّ عمَّا أمرَكم اللهُ بالكفِّ عنه، من حيِن يتبيَّنُ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ إلى الليلِ، ثم حَلَّ لكم ذلك بعده، إلى مثلِ ذلك الوقتِ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . قال: من هذه الحدودِ الأربعةِ. فقرَأ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . فقرَأ حتى بلَغ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . وكان أبي وغيرُه من مَشْيختِنا يقولون هذا ويتلونَه علينا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
(1)
في ت 2: "حباب". وينظر تهذيب الكمال 14/ 449.
(2)
أخرجه البخاري (1963) من طريق الليث به، وأخرجه أحمد 17/ 108، 109، 340 (11055، 11822)، والبخاري (1967) من طريق يزيد به.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 323 عن المصنف.
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} : لا تجامِعوا نساءَكم. وبقولِه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . يقولُ: في حالِ عُكُوفِكم في المساجدِ. وتلك حالُ حَبْسِهم أنفسَهم على عبادةِ اللهِ في مساجدِهم. و "العكوفُ" أصلُه المُقامُ وحبْسُ النفس على الشيءِ، كما قال الطِّرِمَّاحُ بنُ حَكيمٍ
(1)
:
فبات
(2)
بناتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا
…
عُكُوفَ البَواكي بينَهن صَريعُ
يعني بقولِه: عكفًا: مقيمةً. وكما قال الفرزدقُ
(3)
:
ترى حولَهنَّ المُعْتَفِينَ
(4)
كأنهم
…
على صَنمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ
وقد اختلفَ أهلُ التأويلِ في معنى "المباشرَةِ" التي نهى اللهُ عنها بقولِه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك الجماعُ دون غيرِه من معاني المباشرةِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} : في رمضانَ أو في غيرِ رمضانَ، فحرَّم اللهُ أن يَنكِحَ النساءَ ليلًا ونهارًا حتى يقضيَ اعتكافَه
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ جُريجٍ، قال:
(1)
ديوانه ص 295.
(2)
في الديوان: "فباتت".
(3)
ديوانه ص 561.
(4)
المعتفى: كل طالب فضل أو رزق. التاج (ع ف و).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 319 (1691) من طريق عبد الله بن صالح به.
قال لي عطاءٌ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال: الجماعُ
(1)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبِي، عن سفيانَ، عن عَلْقمةَ بنِ مَرْثَدٍ، عن الضحاكِ، قال: كانوا يجامِعون وهم معتكِفون حتى نزلت: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
(2)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، [عن سفيانَ]
(3)
، عن علقمةَ بنِ مَرْثَدٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال: كان الرجلُ إذا اعتكَف فخرَج من المسجدِ جامع إن شاء، فقال اللهُ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . يقولُ: لا تقربوهُنَّ ما دُمتم عاكفينَ في مسجدٍ [ولا]
(4)
غيرِه
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ نحوَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: كان أناسٌ يصيبون نساءَهم وهم عاكفونَ
(6)
، فنهاهُم اللهُ عن ذلك
(7)
.
(1)
تقدم في ص 244.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 92 عن وكيع به.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
في م: "أو".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 324 عن الضحاك.
* إلى هنا ينتهي الخرم الذي في الأصل، والمشار إلى بدايته ص 229.
(6)
بعده في م: "فيها".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 201 إلى المصنف.
وحَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال: كان الرجلُ إذا خرَج من المسجدِ وهو معتكفٌ فلقِي امرأتَه باشرَها إن شاء، فنهاهُم اللهُ عز وجل عن ذلك، وأخبرَهم أن ذلك لا يصلُحُ حتى يقضيَ اعتكافَه
(1)
.
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُ بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . . يقولُ: من اعتكَف فإنه يصومُ ولا يَحِلُّ له النساءُ ما دام معتكفًا
(2)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال: الجوارُ، فإذا خرَج أحدُكم من بيتِه إلى بيتِ اللهِ فلا يقرَبِ النساءَ
(3)
. حَدَّثَنَا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: من خرَج من بيتِه إلى بيتِ اللهِ فلا يقرَبِ النساءَ
(4)
.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال: كان الناسُ إذا اعتكَفوا يخرجُ الرجلُ فيباشرُ أهلَه ثم يرجعُ إلى المسجدِ، فنهاهم اللهُ عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 201 إلى المصنّف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 319 عقب الأثر (1691) من طريق عمرو به.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 319 عقب الأثر (1691) معلقًا.
(4)
تفسير مجاهد ص 222، ومن طريقه البَيْهَقِي 4/ 321، نحوه.
ذلك
(1)
.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: كانوا إذا اعتكَفوا فخرَج الرجلُ إلى الغائطِ جامَع امرأتَه ثم اغتسَل، ثم رجَع إلى اعتكافِه، فنُهوا عن ذلك. قال ابنُ جُريجٍ: قال مجاهدٌ: نُهوا عن جماعِ النساءِ في المساجدِ، حيثُ كانت الأنصارُ تجامِعُ، فقال:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} : قال: {عَاكِفُونَ} : الجوارُ. قال ابنُ جريجٍ: فقلتُ لعطاءٍ: الجماعُ المباشرةُ؟ قال: الجماعُ نفسُه. فقلتُ له: فالقُبلةُ في المسجدِ واللمسةُ
(2)
؟ قال: أمّا الذي حُرِّمَ فالجماعُ، وأنا أكرهُ كلَّ شيءٍ مِن ذلك في المسجدِ
(3)
.
حُدِّثتُ عن حسينِ بنِ الفرجِ المروزيِّ
(4)
، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} : يعني الجماعَ
(5)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك على جميعِ معاني المباشرةِ مِن لمسٍ وقُبلةٍ وجماعٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال مالكُ بنُ أنسٍ: لا يمَسُّ المعتكِفُ امرأتَه ولا يباشِرُها ولا يتلذَّذُ منها بشيءٍ؛ قُبلةٍ ولا غيرِها
(6)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 72.
(2)
في م: "المسة".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2082) عن ابن جريجٍ عن عطاء نحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 92 من طريق سفيان، عن عطاء نحوه.
(4)
سقط من: م.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 317 عقب الأثر (1681) معلقا.
(6)
الموطأ 1/ 318.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال: المباشرةُ الجماعُ وغيرُ الجماعِ، كلُّه محرَّمٌ عليه. قال: المباشرةُ بغيرِ جماعٍ: إلصاقُ الجلدِ بالجلدِ.
وعلةُ من قال بهذا القولِ أن اللهَ تعالى ذِكرُه عمَّ بالنَّهي عن المباشرةِ ولم يَخْصُصْ منها شيئًا دون شيءٍ، فذلك على ما عمَّه حتى تأتيَ حجةٌ يجِبُ التسليمُ لها بأنه عنَى به مباشرةً دون مباشرةٍ.
وأوْلَى التأويلين
(1)
عندي بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك الجماعُ أو ما قام مَقامَ الجماعِ، مما أوجب غُسلًا إيجابُه؛ وذلك أنه لا قولَ في ذلك إلَّا أحدُ قولين؛ إمّا مِن جعلِ حُكْمِ الآيةِ عامًّا، أو جعلِ حُكْمِها في خاصٍّ من معاني المباشرةِ. وقد تظاهرتِ الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نساءَه كُنَّ يُرَجِّلْنَه وهو معتكفٌ، فلمّا صحَّ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، عُلِم أن الذي عُنِيَ به من معاني المباشرةِ البعضُ دونَ الجميعِ.
حَدَّثَنِي عليُّ بنُ شعيبٍ، قال: ثنا مَعْنُ بنُ عيسى القَزّازُ، قال: أخبَرنا مالكٌ، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عَمْرَةَ، عن عائشةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكَف يُدْنِي إليَّ رأسَه فأُرَجِّلُه
(2)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، عن عروةَ بنِ الزُّبيرِ وعَمْرةَ، أن عائشةَ قالت: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يكنْ يَدخُلُ البيتَ إلَّا لحاجةِ الإنسانِ، وكان يُدْخِلُ عليَّ رأسَه وهو في المسجدِ
(1)
في م: "القولين".
(2)
الموطأ 1/ 312، ومن طريقه أحمد 6/ 104 (الميمنية)، ومسلم (297/ 6)، وأبو داود (2467)، وغيرهم. والصواب: عروة وعمرة، كما في الحديث الذي بعده. ينظر الأحاديث التي خولف فيها مالك للدارقطني (2)، ومسند الطيالسي (1546).
فأُرَجِّلُه
(1)
.
حَدَّثَنَا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُدْنِي إليَّ رأسَه وهو مجاورٌ في المسجدِ وأنا في حجرتِي وأنا حائضٌ، فأغسلُه وأُرَجِّلُه
(2)
.
حَدَّثَنَا سُفيانُ بن وكيعٍ، قال: ثنا ابنُ فُضَيلٍ ويعلَى بنُ عُبيدٍ، عن الأعمشِ، عن تميمِ بنِ سَلَمةَ، عن عروةَ، عن عائشةَ، قالت: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يعتكِفُ فيُخرِجُ إليَّ رأسَه مِن المسجدِ وهو عاكفٌ فأغسلُه وأنا حائضٌ
(3)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بن معمرٍ، قال: ثنا حمادُ بنُ مَسعدةَ، قال: ثنا مالكُ بن أنسٍ، عن الزهريِّ وهشامِ بنِ عروةَ، جميعًا عن عروَةَ، عن عائشةَ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُخْرِجُ رأسَه فأرجِّلُه وهو معتكفٌ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن خزيمة (2230) عن يونس (2231) عن ابن عبد الحكم، كلاهما عن ابن وهب - زاد ابن عبد الحكم: ومالك والليث - عن الزهري به. وأخرجه أحمد 6/ 81 (الميمنية)، والبخاري (2029)، ومسلم (297/ 7)، وغيرهم من طريق الزهري به.
(2)
أخرجه أحمد 6/ 204، 208 (الميمنية)، وابن ماجة (633، 1778) من طريق وكيع به. وأخرجه أحمد 6/ 50 (الميمنية)، والبخاري (296، 2028)، ومسلم (297/ 9)، وغيرهم من طريق هشام به.
(3)
أخرجه أحمد 6/ 32 (الميمنية) عن ابن فضيل به، وأخرجه أيضًا 6/ 230 (الميمنية)، والدارمي 1/ 248 عن يعلى به. وأخرجه أحمد 6/ 230 (الميمنية)، والنسائي (386) من طريق الأعمش به، وأخرجه الدارمي 1/ 247 من طريق تميم به.
(4)
أخرجه الدارقطني في الموطآت - كما في الفتح 10/ 368 - من طرق عن مالك به. وأخرجه أحمد 6/ 181 (الميمنية)، والدارمي 1/ 246، والبخاري (5925)، والنسائي في الكبرى (271) من طريق مالك عن الزهري به.
وأخرجه مالك 1/ 60، ومن طريقه الدارمي 1/ 246، والبخاري (295، 5925)، والنسائي في الكبرى (270) عن هشام به. وينظر التهذيب 22/ 136، والتحفة 12/ 79، والنكت الظراف.
فإذ
(1)
كان صحيحًا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما ذكرنَا من غَسلِ عائشةَ رأسَه وهو مُعتكفٌ، فمعلومٌ أن المرادَ بقولِه:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} غيرُ جميعِ ما لزِمه اسمُ المباشرةِ وأنه معنيٌّ به البعضُ من معاني المباشرةِ دونَ الجميعِ، فإذا كان ذلك كذلك، وكان مُجمَعًا على أنَّ الجماعَ مما عُنِي به، كان واجبًا تحريمُ الجماعِ على المعتكفِ وما أشبَههُ، وذلك كلُّ ما قامَ في الالتذاذِ مَقامَه مِن المباشرةِ.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} .
يعني تعالى ذكرُه بذلك: هذه الأشياءُ التي بَيَّنْتُها من الأكلِ والشربِ والجماعِ في شهرِ رمضانَ نهارًا في غيرِ عذرٍ، وجماعِ النساءِ في الاعتكافِ في المساجدِ.
يقولُ: هذه أشياءُ حدَّدْتُها لكُم، وأمَرْتُكُم أن تَجتنِبوها في الأوقاتِ التي أمَرْتُكم أن تَجْتنِبوها وحرَّمْتُها فيها عليكم، فلا تقْرَبوها وابعُدوا منها أن تركَبوها، فتَستحِقُّوا بها من العقوبةِ ما يستحِقُّه مَن تعدَّى حُدودِي وخالَفَ أمْرِي وركِب معاصيَّ.
وكان بعضُ أهلِ التأويلِ يقولُ: حدودُ اللهِ شُروطُه.
وذلك معنًى قريبٌ من المعنَى الذي قلْنا، غيرَ أنَّ الذي قلْنا في ذلك أشبهُ بتأويلِ الكلمةِ، وذلك أنّ حدَّ كلِّ شيءٍ ما حصَره مِن المعاني وميَّز بينَه وبينَ غيرِه، فقولُه:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} من ذلك، يعْني به: المحارمَ التي ميَّزها من الحلالِ المطلقِ، فحدَّدَها بنُعوتِها وصفاتِها وعرَّفَها عبادَه.
ذِكرُ من قال: إن ذلك بمعنى الشروطِ
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
في م: "فإذا".
السُّدِّيِّ، قال: أمّا حدودُ اللهِ فشروطُه
(1)
.
وقال بعضُهم: حدودُ اللهِ: معاصِيه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدِّثتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ المروزيِّ، قال: سمِعتُ [أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا]
(2)
عُبيدٌ، قال سمِعتُ الضحاكَ يقولُ:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} . يقولُ: معصيةُ اللهِ، يعْني: المباشرةَ في الاعتكافِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} .
يعني تعالى ذكرُه بذلك: كما بينتُ لكم أيُّها الناسُ واجِبَ فرائِضي عليكُم من الصومِ، وعرَّفْتُكم حدودَه وأوقاتَه، وما عليكم منه في الحضرِ، وما لكم فيه في السفرِ والمرضِ، وما اللازمُ لكم تجنُّبُه في حالِ اعتكافِكُم في مساجدِكم، فأوضحتُ جميعَ ذلك لكم، فكذلك أُبَيِّنُ أحْكامِي وحلَالِي وحرامِي وحدُودِي وأمْرِي ونهْيي في كتابِي وتنزيلي، وعلى لسانِ رسولي للناسِ.
ويعني بقولِه: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يقول: أُبيِّنُ ذلك لهم ليتَّقوا محارمِي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطِي وغَضبِي بتركِهم ركوبَ ما أبيِّنُ لهم في آياتِي أنِّي قد حرَّمتُه عليهم، وأمرْتُهم بهجرِه وترْكِه.
القولُ في تأويلِ قولهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 320 (1694) من طريق عمرو به.
(2)
في م: "الفضل بن خالد قال ثنا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 320 (1695) من طريق إلى معاذ به.
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: ولا يأكُلْ بعضُكم مالَ بعضٍ بالباطلِ. فجعَل تعالى ذكرُه آكِلَ مالِ أخِيه بالباطلِ كالآكلِ مالَ نفسِه بالباطلِ. ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]. وقولُه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. بمعنى: لا يَلْمِزْ بعضُكم بعضًا، ولا يقتُلْ بعضُكم بعضًا؛ لأنّ اللهَ تعالى ذكرُه جعَل المؤمنين إخوةً، فقاتلُ أخيه كقاتلِ نفسِه، ولامِزُه كلامِزِ نفسِه. وكذلك تفعلُ العربُ، تَكنى عن أنْفُسِها بإخوتِها، وعن إخوتِها بأَنْفُسِها، فتقولُ: أخي وأخوك أيُّنَا أبْطشُ. يعني: أنا وأنت نصْطَرِعُ فنَنْظُرُ أيُّنَا أشَدُّ. فيَكنى المتكلمُ عن نفْسِه بأخِيه؛ لأنّ أخَا الرجلِ عندَها كنفسِه، ومِن ذلك قولُ الشاعرِ
(1)
: أخِي وأخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْـ
…
ــرِ
(2)
لَيْسَ لَنا
(3)
مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ
(4)
فتأويلُ الكلامِ: ولا يأكلْ بعضُكُم أموالَ بعضٍ فيما بيْنَكم بالباطلِ. وأكلُه بالباطلِ: أكلُه مِن غيرِ الوجهِ الذي أباحَه اللهُ تعالى ذكرُه لآكِلِيه.
وأما قولُه: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فإنه يعني: وتُخاصِمُوا بها، يعني: بأموالِهم
(5)
{إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} . يعني: طائفةً {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
(1)
هو ثعلبة بن عمرو، والبيت في المفضليات ص 254، تأويل مشكل القرآن 1/ 114، معجم ما استعجم 4/ 1308.
(2)
النسير: تصغير نَسر موضع في بلاد العرب كان فيه يوم من أيامهم. معجم البلدان 4/ 783. وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات ص 513: غير الأصمعي: ببطى المسيب. وقال: هو واد.
(3)
في المصادر السابقة: "به".
(4)
ليس لنا عريب: ليس لنا أحد. المصدر السابق.
(5)
في م، ت 1:"بأموالكم".
ويعني بقوله: {بِالْإِثْمِ} أي: بالحرامِ الذي قد حرَّمَه اللهُ عليكم.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: وأنتُم تَعَمَّدون أكلَ ذلك بالإثمِ على قَصْدٍ منكم إلى ما حرَّم اللهُ عليكم منه، ومَعرفةٍ بأنّ فِعلَكم ذلك معصيةٌ للهِ وإثمٌ.
كما حَدَّثَنِي المُثَنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} : فهذا في الرجلِ يكونُ عليه مالٌ وليس عليه فيه بينةٌ، فيجحَدُ المالَ فيخاصِمُهم فيه إلى الحكامِ وهو يعرفُ أنَّ الحقَّ عليه، وهو يعلمُ أنه آثمٌ آكلٌ حرامًا
(1)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . قال: لا تُخاصِمْ وأنت ظالمٌ
(2)
.
حدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} : وقد كان يقالُ: من مشَى مع خَصمِه وهو له ظالمٌ فهو آثمٌ حتى يرجِعَ إلى الحقِّ. واعلمْ يا بنَ آدمَ أنّ قضاءَ القاضِي لا يُحِلُّ لك حرامًا، ولا يُحِقُّ لك باطلًا، وإنما يقضِي القاضِي بنحوِ ما يرَى ويشهَدُ به
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 321 (1704) من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 203 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 222، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (282 - تفسير) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 203 إلى عبد بن حميد.
الشهودُ، والقاضي بشرٌ يخطئُ ويصيبُ. واعلَموا أنه مَن قد قُضِي له بباطلٍ، فإنَّ خصومتَه لَمْ تنقَضِ حتى يجمَعَ اللهُ بينَهما يومَ القيامةِ، فيقضِيَ على المبطلِ للمحقِّ بأجودَ
(1)
مما قُضِيَ به للمبطِلِ على المحقِّ في الدنيا
(2)
.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . قال: لَا تُدْلِ بمالِ أخيكَ إلى الحاكمِ وأنت تعَلمُ أنك ظالمٌ، فإنّ قضاءَه لا يُحِلُّ لك شيئًا كان حرامًا عليك
(3)
.
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : أما "الباطلُ"، يقولُ: يظلِمُ الرجلُ منكم صاحبَه، ثم يُخاصِمُه ليقْطعَ مالَه وهو يعلمُ أنه ظالمٌ، فذلك قولُه:{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}
(4)
.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني خالدٌ الواسطيُّ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن عكرمةَ قولَه:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . قال: هو الرجلُ الذي يشترِي السِّلْعةَ فيردُّها ويَردُّ معها درَاهمَ
(5)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . قال: يكونُ
(1)
في م: "ويأخذ".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 326 عن قتادة، دون أوله.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 72. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 203 إلى ابن المنذر.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 325 عن السدي نحوه.
(5)
سيأتي في تفسير الآية (29) من سورة النساء من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس.
أجدَلَ منه، وأعرفَ بالحجةِ، فيخاصِمُه في مالِه بالباطلِ، ليأكلَ مالَه بالباطلِ.
وقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. قال: هذا القِمارُ الذي كان يعملُ به أهلُ الجاهليةِ
(1)
.
وأصلُ "الإدلاءِ" إرسالُ الرَّجُلِ الدَّلوَ في سببٍ
(2)
مُتعلقًا به في البئرِ. فقيل للمُحْتَجِّ لِدَعواهُ
(3)
: أدْلَى بحجةِ كَيتَ وكَيتَ. إذ كانت حُجَّتُه التي يحتجُّ بها سبَبًا له هو به مُتعلِّقٌ في خُصومَتِه، كتعلُّقِ المستقِي من بئرٍ بدَلو قد أرسلَها فيها بسبَبِها الذي الدَّلوُ به مُتعلقةٌ، يقالُ فيهما جميعًا - أعني من الاحتجاجِ، ومِن إرسالِ الدَّلوِ في البئرِ بسببٍ -: أدلَى فلانٌ بحجَّتِه فهو يُدْلي بها إدلاءً، وأدْلَى دلْوَه في البئرِ فهو يُدْليها إدلاءً.
وأما قولُه: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . فإنّ فيه وجهين من الإعرابِ؛ أحدُهما، أن يكونَ قولُه {وَتُدْلُوا} جَزْمًا عطفًا على قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
(4)
: ولَا تُدلوا بها إلى الحكَّامِ. وقد ذُكرَ أن ذلك كذلكَ في قراءةِ أُبيٍّ، بتكريرِ حرف النَّهْي:(وَلَا تُدْلوا بها إلى الحكَّامِ)
(5)
.
والآخرُ منهما، النصبُ على الصرفِ
(6)
، فيكونُ معناه حينئذٍ: لا تأكُلوا
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 325.
(2)
السبب: الحبل.
(3)
في م: "بدعواه".
(4)
بعده في م، ت 1، ت 3:"أي".
(5)
تفسير القرطبي 2/ 340، والبحر المحيط 2/ 56.
(6)
في م: "الظرف". وينظر كلام المصنّف على الصرف في 1/ 608، وفي تفسير الآية (143) من سورة آل عمران.
أموالَكم بينكم بالباطلِ وأنتم تُدلُون بها إلى الحكَّامِ، كما قال الشاعر
(1)
:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتيَ مِثْلَهُ
…
عارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
بمعنى: لا تنْهَ عن خلقٍ وأنت تأتي بمثلِه، عارٌ عليك.
وهو أنْ يكونَ في موضعِ جزمٍ - على ما ذُكرَ من
(2)
قراءةِ أُبيٍّ - أحسنُ منه أن يكونَ نصبًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
ذُكرَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن زيادةِ الأهلَّةِ ونُقصانِها، واختلافِ أحوالِها، فأَنْزَل اللهُ هذه الآيةَ جوابًا لهم فيما سألوا عنه.
ذِكرُ الأخبارِ بذلك
حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . قال قتادةُ: سألوا نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لمَ جُعِلتْ هذه الأهلةُ؟ فأنزل اللهُ فيها ما تسمَعون: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} . فجعَلها لصومِ المسلمِين ولإفطارِهم، ولمناسِكِهم وحَجِّهم، ولعِدَّةِ نسائِهم، ومحِلِّ دَينِهم، و
(3)
في أشياءَ، واللهُ أعلمُ بما يُصلحُ خلقَه
(4)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ،
(1)
تقدم في 1/ 608.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمعنى".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 203 إلى المصنّف عبد بن حميد.
قال: ذُكرَ لنا أنهم [سألوا النَّبِيَّ]
(1)
صلى الله عليه وسلم: لَمْ خُلقتِ الأهلةُ؟ فأنزل اللهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . جعلَها اللهُ مواقيتَ لصومِ المسلمِين وإفطارِهم، ولحجِّهم ومناسِكِهم، ولعدَّةِ نسائهِم، وحَلِّ ديونِهم
(2)
.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} . قال: هي مواقيتُ لهم
(3)
في حجِّهم وصوْمِهم وفطرِهم ونُسكِهم
(4)
.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حَدَّثَنِي حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال الناسُ: لِمَ [جعِلت هذه]
(5)
الأهلةُ؛ فنزَلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ؛ لصومِهم وإفطارِهم، وحجِّهم ومناسِكِهم. قال: قال ابنُ عباسٍ: ووقتِ حجِّهم، وعِدَّةِ نسائِهم، وحَلِّ ديونِهم
(6)
.
حَدَّثَنِي موسى، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} : فهي مواقيتُ للطلاقِ والحيضِ والحجِّ
(7)
.
وحدِّثتُ عن الحسيِن بنِ الفرجِ، قال: ثنا الفضلُ بنُ خالدٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يعْني:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قالوا للنبي".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 322 عقب الأثر (1708) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"للناس".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 72.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"خلقت".
(6)
في م، ت ا، ت 2، ت 3:"دينهم".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 322 عقب الأثر (1708) من طريق عمرو به.
حَلَّ دَيْنِهم، ووقتَ حجِّهم، وعِدَّةَ نسائهم
(1)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمِّي، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: سأل الناسُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الأهلةِ، فنزَلتْ هذه الآيةُ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} : يعلَمون بها حَلَّ دَيْنِهم، وعِدَّةَ نسائِهم، ووقتَ حجِّهم
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، عن شَريكٍ، عن جابرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ نجيٍّ
(3)
، عن عليٍّ أنه سُئلَ عن قولِه:{مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} . قال: هي مواقيتُ الشهرِ هكذا وهكذا وهكذا - وقبَض إبهامَه - فإذا رأيتمُوه فصوموا، وإذا رأيتموه فأَفطِرُوا، فإنْ غُمَّ عليكم فأتِمُّوا ثلاثِين
(4)
.
فتأويلُ الآيةِ - إذا كان الأمرُ على ما ذكَرناه عمَّن ذكَرنَا عنه قولَه في ذلك -: يسألُونك يا محمدُ عن الأهلةِ ومحاقِها
(5)
وسِرَارِها وتمامِها واستوائِها وتغيرِ أحوالِها بزيادةٍ ونقصانٍ ومُحاقٍ واسْتِسرارٍ، وما المعنى الذي خالفَ بينَه وبينَ الشمسِ التي هي دائمةٌ أبدًا على حالٍ واحدةٍ لا تتغيرُ بزيادةٍ ولا نقصانٍ؟ فقلْ يا محمدُ: خالفَ بينَ ذلك ربُّكم عز وجل لتصييرِه الأهلةَ - التي سألتم عن أمرِها ومخالفةِ ما بينَها وبينَ غيرِها فيما - خالف بينَها وبينَه - مواقيتَ لكم ولغيرِكم من بني آدمَ في معايشِهم، تُوَقِّتون
(6)
بزيادتِها ونقصانِها ومحاقِها واسْتسرارِها وإهلالِكم
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 322 في تفسيره عقب الأثر (1708) معلقا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 322 (1707) عن محمد بن سعد به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يحيى"، وينظر تهذيب الكمال 16/ 219.
(4)
عبد الله بن نجى لم يسمع من علي؛ بينه وبين علي أبوه.
(5)
المحِاق والمُحاق: آخر الشهر إذا امَّحق الهلال فلم ير. اللسان (م ح ق).
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ترقبون".
إيَّاها، أوقاتَ حَلِّ ديونِكم، وانقضاءِ مدةِ إجارةِ من استأجَرْتُموه [مِن أُجَرائِكم]
(1)
، وتَصرُّمِ عِدةِ نسائِكم، ووقتَ صومِكم وإفطارِكم، فجعَلَها مواقيتَ للناسِ.
وأمّا قولُه: {وَالْحَجِّ} فإنه يعني: وللحجِّ. يقولُ: وجعَلها أيضًا ميقاتًا لحجِّكم تعرِفون بها وقتَ مناسكِكم وحَجِّكم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} .
قيل: نزَلتْ هذه الآيةُ في قومٍ كانوا لا يدخُلون إذا أحْرَمُوا بُيوتَهم من قِبلِ أبوابِها.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ المثنَّي، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن أبي إسحاقَ، قال: سمِعتُ البراءَ يقولُ: كانت الأنصارُ إذا حَجُّوا فرجَعوا، لَمْ يدْخُلوا البيوتَ إلَّا من ظُهورِها. قال: فجاءَ رجلٌ من الأنصارِ فدخَل من بابِه، فقيل له في ذلك، فنزَلت هذه الآيةُ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}
(2)
.
حدَّثني سفيانُ بنُ وكيع، قال: حَدَّثَنِي أبي، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ، قال: كانوا في الجاهليةِ إذا أحرَموا أتَوا البيوتَ من ظهورِها، ولم يأتُوا من
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه مسلم (3026) من طريق محمد بن جعفر به. وأخرجه البخاري (1803)، وابن أبي حاتم 1/ 323 (1709) من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 204 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر مسند الطيالسي (752).
أبوابِها، فنزَلت:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} الآية
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ داودَ، عن قيسِ بنِ جُبَيْرٍ
(2)
أنّ الناسَ كانوا إذا أحْرَمُوا لم يدخُلوا حائطًا من بابِه ولا دارًا من بابِها أو بيتًا، فدخَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه دارًا، وكان رجلٌ من الأنصارِ يقالُ له: رفاعةُ بنُ تابوتٍ. فجاء فتسوَّرَ الحائطَ، ثمَّ دخَل على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا خرَج من بابِ الدارِ - أو قال: بابِ البيتِ - خرَج معه رِفاعةُ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما حَمَلك على ذلك"؟ قال: يا رسولَ اللهِ، رأيتُك خرَجتَ منه فخرَجتُ منه. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنِّي رَجلٌ أحْمَسُ
(3)
". فقال: إن تكنْ رجلًا أحْمسَ، فإنّ دِينَنا واحدٌ. فأنزل اللهُ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (4512)، وابن حبان (3947) من طريق إسرائيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 204 إلى وكيع.
(2)
كذا في النسخ، وأسد الغابة 2/ 244، وقال ابن الأثير عن أبي موسى: كذا قال: قيس بن جبير، بالجيم. قال: ولا أدرى هو قيس بن حبتر أم غيره. والصواب: حبتر. ينظر الإكمال 2/ 23، وتهذيب الكمال 24/ 17.
(3)
ينظر معنى الحمس في ص 511 وما بعدها.
(4)
أخرجه ابن بشكوال في المبهمات - كما في التعليق على المستفاد للعراقي 1/ 634 - من طريق محمد بن عبد الأعلى به. وأخرجه عبد بن حميد - كما في الفتح 3/ 621 - من طريق داود به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 204 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر. واختلف في من نزلت فيه هذه الآية، فقيل: قطبة بن عامر. أخرجه ابن خزيمة، وابن أبي حاتم، والحاكم عن جابر. وذكره الحافظ والخلاف في إسناده، وذكر رواية قيس بن حبتر، وقال: هذا مرسل، والذي قبله - يعني حديث جابر - أقوى إسنادًا، فيجوز أن يحمل على التعدد في القصة، إلا أن في هذا المرسل نظرا من وجه آخر؛ لأن رفاعة بن تابوت معدود في المنافقين، وهو الذي هبت الريح العظيمة لموته، كما وقع مبهما في صحيح مسلم، ومفسرا في غيره من حديث جابر، فإن لم يحمل على أنهما رجلان توافق اسمهما واسم أبويهما، وإلا فكونه =
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} . يقولُ: ليس البرُّ بأن تأتُوا البيوتَ من كَوّاتٍ
(1)
في ظهورِ البيوتِ، وأبوابٍ في جُنُوبها، تجعَلُها أهلُ الجاهليةِ، فنُهوا أن يَدْخُلوا منها، وأُمروا أنْ يدخُلوا من أبوابِها
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: كان ناسٌ من أهلِ الحجازِ إذا أحْرَمُوا لم يدخُلوا من أبوابِ بيوتِهم ودخَلوا من ظُهورِها، فنزَلت:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} الآية
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا} . قال: كان المشركون إذا أحْرمَ الرجُلُ منهم نَقَب كَوَّةً في ظهرِ بيتِه فجعَل سُلَّمًا، فجعَل يدخُلُ منها. قال: فجاء رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ ومعه رجلٌ من المشركين. قال: فأتى البابَ ليدخُلَ
(4)
منه. قال: فانطَلق الرجلُ ليدخلَ من الكَوَّةِ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما شأنُكَ؟ " قال: فقال: إني أحْمسُ. فقال
= قطبة ابن عامر أولى، ويؤيده أن في مرسل الزهري عند الطبري - سيأتي -: فدخل رجل من الأنصار من بني سلمة، وقطبة من بني سلمة بخلاف رفاعة. وينظر البداية والنهاية 5/ 14، 6/ 186، والإصابة 2/ 488.
(1)
الكَوَّة: الخرق في الحائط، والثقب في البيت ونحوه. اللسان (ك و ى).
(2)
انظر تفسير ابن كثير 1/ 327.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (283 - تفسير) عن هشيم، عن مغيرة به، مطولا.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فدخل".
رسولُ اللهِ: "وأنا أحْمَسُ"
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن الزهريِّ، قال: كان ناسٌ من الأنصارِ إذا أهلُّوا بالعمرةِ لم يَحُلْ بينَهم وبينَ السماءِ شيْءٌ، يتحرَّجُون من ذلك. وكان الرجلُ يخرُجُ مُهِلًّا بالعُمرةِ، فتبدُو له الحاجةُ بعدَ ما يخرُجُ من بيتِه، فيرجِعُ ولا يدخُلُ من بابِ الحجرةِ من أجلِ سقفِ البابِ أن يحولَ بينَه وبين السماءِ، فيفتحُ الجدارَ من ورائِه، ثم يقومُ في حجرتِه فيأمرُ بحاجَتِه، فتُخرَجُ إليه من بيتِه، حتى بلغَنا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أهلَّ زمنَ الحديْبِيةِ بالعُمرةِ، فدخَل حجرةً، فدخَل رجلٌ على أثَرِه من الأنصارِ من بني سَلِمةَ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنِّي أحْمَسُ" - قال الزهريُّ: وكانت الحُمْسُ لا يبالون ذلك - فقال الأنصاريُّ: وأنا أَحْمسُ. يقولُ: وأنا على دينِك. فأنزَل اللهُ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}
(2)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} الآية كلّها. قال قتادةُ: كان هذا الحيُّ من الأنصارِ في الجاهليةِ إذا أهلَّ أحدُهم بحجٍّ أو عمرةٍ لا يدخُلُ دارًا من بابِها إلَّا أن يتسوَّرَ حائطًا تسوُّرًا، وأسلَمُوا وهم كذلك، فأنزَل اللهُ في ذلك ما تسمَعون، ونهاهُم عن صنيعِهم ذلك، وأخبرَهم أنه ليس من البرِّ صنيعُهم ذلك، وأمَرَهُم أن يأتُوا البيوتَ من أبوابِها
(3)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
ذكره الحافظ في الفتح 3/ 622 عن مجاهد، وعزاه إلى المصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 72، 73.
(3)
عزاه الحافظ في الفتح 3/ 621 إلى عبد بن حميد.
السُّدِّيِّ قولَه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} : فإنَّ ناسًا من العربِ كانوا إذا حَجُّوا لم يدخُلوا بيوتَهم من أبوابِها، كانوا يَنْقُبونَ في أدْبارِها، فلما حجَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حجةَ الوداعِ، أقبلَ يَمشِي ومعه رجلٌ من أولئك وهو مسلمٌ، فلما بلَغ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بابَ البيتِ، احتبسَ الرجلُ خلْفَه وأبَى أنْ يَدخُلَ، قال: يا رسولَ اللهِ، إني أحْمسُ. يقولُ: إني مُحرِمٌ - وكان أولئك الذين يفعَلون ذلك يُسمَّون الحُمسَ - قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وأنا أيْضًا أحْمَسُ، فادْخُلْ". فدخَل الرجلُ، فأنزل اللهُ:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} : وإن رجالًا من أهلِ المدينةِ كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئًا أحرَم فأمِنَ، فإذا أحْرَمَ لم يَلِجْ من بابِ بيتِه، واتخذَ نَقْبًا من ظهرِ بيتِه، فلمَّا قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، كان بها رجلٌ محرمٌ كذلك. وإنَّ أهلَ المدينةِ كانوا يُسمُّون البستانَ الحُشَّ. وإنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخَل بستانًا، فدخَله من بابِه، ودخَل معه ذلك المحرِمُ، فناداه رجلٌ من ورائِه: يا فلانُ، إنك محرمٌ وقد دخلْتَ [مع الناسِ]
(2)
. فقال: أنا أحمسُ. [وقال]
(3)
: يا رسولَ اللهِ، إنْ كنتَ محرمًا فأنا محرمٌ، وإنْ كنتَ أحْمسَ فأنا أحْمسُ. فأنزَل اللهُ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} إلى آخرِ الآيةِ. فأحلَّ اللهُ للمؤمنين أن يدخُلوا من أبوابِها
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 204 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 3:"فقال"، وفي ت 1:"قال".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 323 (1711) عن محمد بن سعد به.
حدثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . قال: كان أهلُ المدينةِ وغيرُهم إذا أحرَمُوا لم يدْخُلوا البيوتَ إلَّا من ظُهورِهَا، وذلك أن يَتَسَوَّرُوها، فكان إذا أحرَم أحدُهم لا يدخُلُ البيتَ إلَّا أن يتَسوَّرَه من قِبلِ ظهرِه، وأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخَل ذاتَ يومٍ بيتًا لبعضِ الأنصارِ، فدخَل رجلٌ على أثَرِه ممّنْ قد أَحْرَمَ، فأنكَروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجلٌ فاجرٌ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لِمَ دَخَلْتَ مِنَ البابِ وَقَدْ أحْرَمْتَ؟ " قال: رأيتُكَ يا رسولَ اللهِ دخلتَ فدخلتُ على أثَرِكَ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أحْمَسُ" - وقريشٌ يومَئذٍ تُدعَى الحُمْسَ - فلمَّا أن قال ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال الأنصاريُّ: إنّ دِيني دِينُك. فأنزَل اللهُ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: قلتُ لعطاءٍ: قولُه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} .
قال: كان أهلُ الجاهليةِ يأْتونَ البيوتَ من ظهورِها ويَروْنه بِرًّا، فقال:"البرُّ"، ثم نعَت "البرَّ"، وأَمرَ أنْ يأتُوا البيوتَ من أبوابِها. قال ابنُ جُريجٍ: وأخبرني عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ أنه سمِعَ مجاهدًا يقولُ: كانت هذه الآيةُ في الأنصارِ يأتُونَ البيوتَ من ظهورِها يتبرَّرُون بذلك.
فتأويلُ الآيةِ إذن: وليس البرُّ أيُّها الناسُ بأن تأتُوا البيوتَ في حالِ إحرامِكم من ظُهورِها، ولكن البرَّ من اتقى اللهَ عز وجل فخافَه، وتجنَّبَ مَحارمَه فأطاعَهُ بأداءِ فرائضِه التي أمرَه بها. فأما إتيانُ البيوتِ من ظهورِها فلا برَّ للهِ فيه، فأْتوهَا من حيثُ
(1)
عزاه الحافظ في الفتح 3/ 621 إلى المصنف.
شئتُم مِن أبوابِها وغيرِ أبوابِها، ما لم تعتقِدوا تحريمَ إتيانِها من أبوابِها في حالٍ من الأحوالِ، فإنّ ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه؛ لأنَّه مما لم أحرِّمْه عليكم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} .
يعني بذْلك جلَّ ثناؤُه: واتقُوا اللهَ أيّها الناسُ، فاحذَرُوه وارهَبُوه، بطاعتِه فيما أمَركم به من فرائضِه، واجتنابِ ما نهاكم عنه؛ لتفلِحُوا فتُنْجِحُوا في طَلِباتِكم لديه، وتُدرِكُوا به البقاءَ في جِنانِه، والخلودَ في نَعيمِه.
وقد بينَّا معنى "الفلاحِ" فيما مضَى قَبلُ بما يدلُّ عليه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: هذه الآيةُ هي أوّلُ آيةٍ نزَلتْ في أمْرِ المسلمين بقتالِ المشركين. وقالوا: أُمِر فيها المسلمون بقتالِ مَن قاتَلَهم من المشركينَ، والكَفِّ عمَّن كفَّ عنهم منهم
(2)
، ثم نُسِخَتْ بعدُ بـ "براءةَ".
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ وابنُ أبي جعفرٍ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ في قولِه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . قال: هذه أوّلُ آيةٍ نزَلتْ في القتالِ بالمدينةِ، فلمَّا نزَلتْ كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقاتِلُ من قاتَله
(3)
، ويكفُّ
(1)
ينظر ما مضى في 1/ 256، 257.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقاتله".
عمَّن كفَّ عنه، حتى نزَلتْ "براءةُ". قال: ولم يَذكُرُ عبدُ الرحمنِ المدينةَ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: قد نُسِخَ هذا. وقرأ قولَ اللهِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وهذه الناسخةُ. وقرأ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} . حتى بلَغ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
[التوبة: 1 - 5].
وقال آخَرون: بل ذاك أمرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه المسلمين بقتالِ الكفارِ لم يُنْسَخْ، وإنما الاعتداءُ الذي نهاهُم اللهُ عنه، هو نهيُه عن قتلِ النساءِ والذَّرَارِيِّ. قالوا: والنهيُ عن قتلِهم ثابتٌ حكمُه اليومَ. قالوا. ولا شيْءَ نُسِخَ من حكمِ هذه الآيةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن صَدقةَ الدمشقيِّ، عن يحيى بنِ يحيى الغسانيِّ، قال: كتبتُ إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أسألُه عن قولِه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . قال: فكتَب إليَّ أَنَّ ذلك في النساءِ والذُّرِّيةِ، [ومن]
(3)
لمْ يَنْصِبْ لك الحربَ منهم
(4)
.
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 2/ 143، والبغوي في تفسيره 1/ 143 معلقا عن الربيع. وعزاه السيوطي في الإتقان 1/ 99، والأوائل ص 94 إلى المصنف عن أبي العالية. وأخرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره - كما في الدر المنثور 1/ 205 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 325 (1719) - عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 327 عن ابن زيد.
(3)
في الأصل، والدر المنثور 1/ 205:"من".
(4)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 205 - وعنه ابن أبي شيبة 12/ 385. وينظر الاستذكار 14/ 63، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 96.
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسَى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} : لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أُمِرُوا بقتالِ الكفارِ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . يقولُ: لا تقتُلوا النساءَ والصبْيانَ والشيخَ الكبيرَ، ولا مَنْ ألْقَى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يدَه، فإنْ فعلتُم
(2)
فقد اعتديتُم
(3)
.
حدَّثني ابنُ البرْقىِّ، قال: ثنا عَمرُو بنُ أبي سلَمةَ، عن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، قال: كتَب عُمرُ بنُ عبدِ العزيز إلى عديٍّ بنِ أرطاةَ: إنِّي وجَدتُ آيةً في كتابِ اللهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . أي: لا تقاتِلْ من لا يُقاتلُ
(4)
. يعني النساءَ والصبيانَ والرهبانَ. وأوْلَى هذين القولين بالصوابِ القولُ الذي قاله عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ؛ لأن دَعوَى المدَّعِي نَسْخَ آيةٍ مُحْتملٍ أن تكونَ غيرَ منسوخةٍ، بغيرِ دَلالةٍ على صحَّةِ دعْواه - تَحكُّمٌ، والتحَكُّمُ لَا يَعجِزُ عنه أحدٌ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 325 (1720) من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح به.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هذا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 325 (1721) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 205 إلى ابن المنذر.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقاتلك".
وقد دلَّلنَا على معنى "النسخِ"، والمعنى الذي من قِبَلِه ثبَتت صحةُ النَّسخِ، بما قد أغنَى عن إعادَتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
فتأويلُ الآيةِ - إذ كان الأمرُ على ما وصَفْنا -: وقاتلُوا أيُّها المؤمنون في سبيلِ اللهِ. وسَبيلُه: طريقُه الذي أوضحَه، ودينُه الذي شرَعَه لعبادِه، يقولُ لهم جلَّ ثناؤُه. وقاتلوا في طاعتِي، وعلى ما شرَعتُ لكم من دينِي، وادْعُوا إليه مَن وَلَّى عنه واستكبرَ، بالأيدِي والألسنِ، حتى يُنِيبُوا إلى طاعتِي، أو يُعطوكم الجزيةَ صَغارًا إنْ كانوا أهلَ كتابٍ. وأمَرهم جلَّ ثناؤُه بقتالِ مَن كان فيه قتالٌ من مُقاتِلةِ أهلِ الكفرِ، دونَ مَن لم يكنْ فيه قِتالٌ، من نسائِهم وذَراريِّهم، فإنهم أموالٌ وخَوَلٌ لهم، إذا غُلبَ المقاتلون منهم فقُهِرُوا. فذلك معنى قولِه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [لا أنه]
(2)
أباح الكفَّ عمَّنْ كفَّ فلم يقاتلْ مِن مشركِي أهلِ الأوثانِ، أو
(3)
الكافِّينَ عن قتالِ المسلمينَ مِن كفارِ أهلِ الكتابِ على غير
(4)
إعطاءِ الجزيةِ صَغارًا.
فمعنى قولِه: {وَلَا تَعْتَدُوا} : لا تقتُلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا مَن أعطاكُم الجزيةَ مِن أهلِ الكتابيْن والمجوسِ، {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، الذين يتجاوزون حدودَه، فيَسْتحلُّون ما حرَّمه عليهم من قَتلِ هؤلاءِ الذين حرَّمَ قتلَهم، من نساءِ المشركين وذَرارِيِّهم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} .
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 388 وما بعدها.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لأنه".
(3)
في م: "و".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
يعنِي بذلك جلَّ ثناؤه: واقتُلوا أيُّها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مَقاتلَهم
(1)
، وأمكَنكم قتلُهم، وذلك هو معنى قولِه:{حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} .
ومعنى الثَّقافةِ
(2)
بالأمرِ: الحِذْقُ به والبصرُ، يقالُ: إنَّه لثَقِفٌ لَقِفٌ. إذا كان جَيِّدَ الحذرِ في القتالِ، بصيرًا بمواضِعِ
(3)
القَتلِ.
وأمّا التَّثقيفُ فمعنًى غيرُ هذا، وهو التقويمُ.
فمعنى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} : اقتُلوهم في أيِّ مكانٍ تَمكَّنتُم من قتلِهم، وأبصرْتُم مَقاتلَهم.
وأما قولُه: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فإنه يعني بذلك المهاجرين الذين أُخرِجُوا من ديارِهم ومنازِلهم بمكّةَ، فقال لهم جلَّ ثناؤُه: وأَخرِجُوا هؤلاء الذين يقاتلونَكم وقد أخْرجوكم مِن ديارِكم، مِن مساكنِهم وديارِهم كما أخرَجوكم منها.
القولُ في تأويلِ قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} : والشركُ باللهِ أشدُّ مِن القتلِ.
وقد بيَّنتُ فيما مضَى أن أصلَ الفتنةِ الابتلاءُ والاختبارُ
(4)
.
فتأويلُ الكلامِ: وابتلاءُ المؤمنِ في دينِه حتى يرجِعَ عنه فيصيرَ مشركًا بالله مِن
(1)
في الأصل، ت 1، ت 3:"مقاتلتهم".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الثقفة".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمواقع".
(4)
ينظر ما تقدم في 2/ 356، 357.
بعدِ إسلامِه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتلَ مقيمًا على دينِه، مُتمسِّكًا بمِلَّتِه
(1)
محقًّا فيه.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . قال: ارتدادُ المؤمنِ إلى الوَثنِ أشدُّ عليه من [أنْ يُقْتلَ]
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . يقولُ: الشِّرْكُ أشدُّ من القتلِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادة مثلَه
(3)
.
حدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثَنَا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . يقول: الشركُ أشدُّ من القتلِ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . قال: الشركُ
(5)
.
(1)
في م: "عليه".
(2)
في م: "القتل".
والأثر في تفسير مجاهد ص 223، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 205 إلى عبد بن حميد.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 73.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 326 عقب الأثر (1726) من طريق ابن أبي جعفر به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 326 عقب الأثر (1726) معلقًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: أخبرني عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . قال: الفتنةُ الشركُ.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . قال: الشركُ أشدُّ من القتلِ. حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . قال: فتنةُ الكفرِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}
والقرأةُ مختلفةٌ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَتْه عامّةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ ومكةَ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}
(2)
. بمعنى: ولا تَبْدءوا أيُّها المؤمنون المشركينَ بالقتالِ عندَ المسجدِ الحرامِ حتى يَبدَءوكم به، فإن بَدءوكم به هنالِك عندَ المسجدِ الحرامِ في الحَرَمِ فاقتلُوهم، فإن اللهَ عز وجل جعَل ثوابَ الكافرينَ على كفرِهم وأعمالِهم السيئةِ القتلَ في الدنيا، والخزيَ الطويلَ في الآخرةِ.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يَزِيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} : كانوا لا يُقاتِلون فيه حتى يُبدَءُوا بالقتالِ، ثم نسَخَ بعدُ ذلكَ، فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يكونَ
(1)
ينظر التبيان 2/ 146.
(2)
وهي قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 179.
شركٌ {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} : أن يُقالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. عليها قاتَل نبيُّ اللهِ، وإليها دَعَا
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} : فأمَر اللهُ جلَّ ثناؤُه نبيَّه ألا يقاتلَهم عندَ المسجدِ الحرامِ، إلا أن يُبدَءُوا فيه بقتالٍ، ثم نَسَخ اللهُ ذلك بقولَه:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . فأمَر اللهُ نبيَّه إذا انقضَى الأجلُ أن يُقاتِلَهُم في الحِلِّ والحرمِ، وعند البيتِ، حتى يَشهدوا أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأن محمدًا رسولُ اللهِ
(2)
.
حدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا عبد اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه، {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}: فكانوا لا يقاتِلونَهم فيه، ثم نسَخَ ذلك بَعدُ، فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
(3)
.
وقال بعضُهم: هذه آيةٌ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن
(1)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 111 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 205 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن أبي حاتم. وهو عند ابن أبي حاتم 1/ 327، 328 عقب الأثر (1734، 1735، 1738) معلقا مفرقا ببعضه.
(2)
أخرجه ابن الجوزي في ناسخه ص 182 من طريق شيبان عن قتادة، نحوه. وأخرجه أيضا من طريق همام عن قتادة بزيادة: ثم قال: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ، ثم نُسخت الآيتان في براءة، فقال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 352، 353 من طريق سعيد عن قتادة، نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 205 إلى عبد بن حميد وأبي داود.
(3)
ذكره ابن الجوزي في ناسخه ص 182 معلقا.
مجاهدٍ: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ} : في الحرمِ، {فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} لا تقاتِلْ أحدًا فيه أبدًا، فمن عدَا عليكَ فَقاتَلكَ فقاتِلْه كما يُقاتِلُك
(1)
.
وقرَأ ذلك عُظْمُ قَرأةِ الكوفيِّينَ: (ولَا تَقْتُلُوهم عِنْدَ المسْجِدِ الحرامِ حتى يَقْتُلُوكم فيه فإنْ قَتَلُوكم
(2)
فاقْتُلُوهم)
(3)
. بمعنى: ولا تبدَءوهُم بقتلٍ حتى يبدَءوكم به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حمادٍ.
(4)
، عن حمزةَ الزياتِ، قال: قلتُ للأعمشِ: أرأيتَ قراءَتَك: (وَلَا تَقْتُلُوهم عِنْدَ المسجِدِ الحَرَامِ حتَّى يَقْتُلوكم فيه فإن قَتَلُوكم فاقْتُلُوهم كَذلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ فإِنِ انْتَهَوْا فإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إذا قتَلوهم كيف يقتُلونَهم؟ قال: إنَّ العربَ إذا قُتل منهم رجلٌ
(5)
قالوا: قُتِلنا. وإذا ضُرب منهم رجلٌ قالوا: ضُربنَا
(6)
.
وأوْلَى هاتين القراءتين بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ؛ لأن اللهَ جل ثناؤه لم يأمرْ نبيَّه وأصحابَه في حالٍ - إذا قاتلَهم المشركون - بالاستسلامِ لهم حتى يَقتُلوا منهم قتيلًا، بعدَ ما أذِن له ولهم بقتالِهم، فتكونَ القراءةُ بالإذنِ بقتلِهم بعدَ أنْ يَقتُلوا منهم، أوْلى من القراءةِ بما
(1)
ذكره النحاس في ناسخه ص 109 عن ابن أبي نجيح به.
(2)
في م: "قاتلوكم".
(3)
وهي قراءة حمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 179.
(4)
بعده في م: "عن أبي حماد".
(5)
سقط من: الأصل، ت 2، ت 3.
(6)
ذكره النحاس في ناسخه ص 113 معلقا، مختصرا. وينظر البحر المحيط 2/ 67.
اختَرنا. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه قد كان جلَّ ثناؤُه أذِن لهم بقتالِهم، إذا كان ابتداءُ القتالِ من المشركين قبلَ أن يَقتلُوا منهم قتيلًا، وبعدَ أنْ يقتُلوا
(1)
.
وقد نسَخ اللهُ هذه الآيةَ بقولِه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . وقولِه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ونحو ذلك من الآياتِ.
وقد ذكَرنا قولَ بعضِ من قال: هي منسوخةٌ. وسنذكُرُ قولَ من حضَرَنا ذكرُه ممَّن لَمْ نذكُرْه.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمَرٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} قال: نسَخها قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(2)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} . قال: حتى يبدَءوكم، كان هذا قد حُرِّم، فأحلَّ اللهُ جلَّ ثناؤُه ذلك له، فلم يزَلْ ثابتًا حتى أمَره اللهُ تبارك وتعالى بقتالِهم بعدُ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)} .
يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: فإن انتهى الكافرون الذين يُقاتلونكم عن قتالِكم وكُفرِهم باللهِ، فتَركوا ذلك وتابوا، فإن اللهَ غفورٌ لذنوبِ مَن آمَن منهم وتابَ من شِرْكِه، وأنابَ إلى اللهِ مِن معاصِيه التي سلَفتْ منه، وآثامِه
(4)
التي
(1)
بعده في م: "منهم قتيلا".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 73.
(3)
ينظر نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 182.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أيامه".
مَضتْ، رحيمٌ به في آخرتِه بتفَضُّلِه
(1)
عليه، وإعطائِه ما يُعْطِي أهلَ طاعتِه مِن الثوابِ بإنابتِه إلى محبتِه من مَعصيتِه.
كما حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِنِ انْتَهَوْا} : فإن تابوا، {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وقاتِلُوا المشركين الذين يقاتِلونكُم {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . يعني: حتى لا يكونَ شركٌ باللهِ، وحتى لا يُعبدَ دونَه أحدٌ، وتَضْمحِلَّ عبادةُ الأوثانِ والآلهةِ والأندادِ، وتكونَ العبادةُ والطاعةُ للهِ وحدَه دونَ غيرِه من الأصنامِ والأوثانِ.
كما قال قتادةُ فيما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : حتى لا يكونَ شركٌ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيَى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : حتى لا يكونَ شِركٌ
(3)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . قال: الشركُ، {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}
(4)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بفضله".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 327 (1731) من طريق أبي حذيفة.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 73.
(4)
تفسير مجاهد ص 223، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 205 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السَّدِّيِّ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . قال: أمّا الفتنةُ فالشِّركُ
(1)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حَدَّثَنِي عمِّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . يقولُ: قاتلِوا حتى لا يكونَ شِركٌ
(2)
.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . أي: شِركٌ
(3)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال: ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . قال: حتى لا يكونَ كفرٌ. وقرَأ: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}
(4)
[الفتح: 16].
حَدَّثَنِي عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ، عن ابنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . قال: شِركٌ
(5)
.
وأما "الدِّينُ" الذي ذكَره اللهُ في هذا الموضعِ، فهو العبادةُ والطاعةُ للهِ في
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 327 عقب الأثر (1734) من طريق عمرو به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 327 (1734) من طريق الضحاك، عن ابن عباس.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 327 عقب الأثر (1734) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
ينظر التبيان 2/ 146.
(5)
أخرجه البَيْهَقِي في الدلائل 2/ 582 من طريق عبد الله بن صالح به.
أمرِه ونهيِه، مِن ذلك قولُ الأعْشَى
(1)
:
هُوَ دَانَ الرِّبابَ
(2)
إذْ كَرِهُوا الدِّيـ
…
ــنَ دِرَاكًا بغزْوَةٍ وَصِيالِ
يعني بقولِه: [إذ كرِهوا الدِّينَ]
(3)
: إذ كرِهوا الطاعةَ وأبَوْها.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . يقولُ: حتى لا يُعبدَ إلَّا اللهُ، وذلك: لا إلهَ إلَّا اللهُ. عليه قاتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وإليه دعَا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا: لا إلَهَ إلَّا اللهُ. ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ، فإذَا فَعَلُوا ذلك فَقَدْ عَصَمُوا
(4)
دِماءَهم وأمْوالَهم إلَّا بِحَقِّها، وَحِسابُهم على اللهِ"
(5)
.
حَدَّثَنَا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} : أن يقالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. ذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إلَهَ إلَّا اللهُ"
(6)
. ثم ذكرَ مثلَ حديثِ الربيعِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} .
(1)
ديوانه ص 11.
(2)
الرباب: أحياء ضبَّة، وهم تيم وعدي وعُكْل، وقيل: تيم وعدي وعوف وثور وأشيب. التاج (ر ب ب).
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
بعده في م، ت 3:"منى".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 205 إلى المصنّف، بلفظ: حتى لا يعبد إلَّا الله. وينظر تفسير ابن أبي حاتم 1/ 328 عقب الأثر (1735). والمرفوع أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر.
(6)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1558) من طريق سعيد به. وتقدم أوله في ص 296.
يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: {فَإِنِ انْتَهَوْا} : فإن انتهَى الذين يقاتِلونَكم من الكفارِ عن قتالِكم، ودخَلُوا في ملّتِكم، وأقرُّوا بما أَلْزَمهم
(1)
اللهُ تعالى ذكرُه من فرائضِه، وترَكوا ما هم عليه من عبادةِ الأوثانِ، فدَعُوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجِهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدَى إلَّا على الظالمين، وهم المشركون باللهِ، الذين ترَكوا عبادةَ ربِّهم، وعبَدوا غيرَ خالقِهم.
فإن قال قائلٌ: وهل يجوزُ الاعتداءُ على الظالمِ، فيقالَ:{فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} ؟
قيل: إن المعنى في ذلك غيرُ الوجهِ الذي ذهبتَ إليه، وإنما ذلك على وجهِ المجازاةِ لما كان من المشركين من الاعتداءِ. يَقولُ: افعَلوا بهم مثلَ الذي فعلُوا بكم. كما يقالُ: إن تعاطيتَ منِّي ظلمًا تعاطيتُه منكَ: والثاني ليس بظلمٍ، كما قال عَمرُو ابنُ شأسٍ الأسديُّ
(2)
:
جَزَيْنا ذَوي العُدْوَانِ بالأمسِ قَرْضَهُمْ
…
قِصَاصًا سَوَاءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ
وإنما
(3)
ذلك نظيرُ قولِه: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79].
وقد بينَّا وجهَ ذلك ونظائرَه فيما مضَى قبلُ
(4)
. وبالذى قلنا في ذلك من التأويلِ قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ألزمكم".
(2)
التبيان 2/ 149.
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كان".
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 312 - 318.
قتادةَ قولِه: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} : والظالمُ الذي أبَى أن يقولَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ
(1)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} . قال: هم المشركون
(2)
.
حَدَّثَنِي ابنُ
(3)
المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا عثمانُ
(4)
بنُ غِياثٍ، قال: سمِعتُ عكرمةَ في هذه الآيةِ: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} . قال: هم مَن أبَى أن يقولَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ".
وقال آخرون: معنى قولِه: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} : فلا تُقاتِلْ إلَّا مَنْ قاتلَ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
(5)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} . يقولُ: لا تُقاتلُوا إلَّا مَن قاتلَكم
(6)
.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
(1)
تقدم أوله في ص 296.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 301.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في الأصل: "محمد". ينظر تهذيب الكمال 19/ 473.
(5)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1556)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 334 من طريق عثمان به.
(6)
تفسير مجاهد ص 223، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 328 (1736). وتقدم أوله في ص 291.
حدَّثنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال:{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} : فإن اللهَ لَا يحبُّ العدوانَ على الظالمين ولا على غيرِهم، ولكن يقولُ: اعتدُوا عليهم بمثلِ ما اعتدَوْا عليكم
(1)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ مِن أهلِ البصرةِ يقولُ في قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} : لا يجوزُ أن يقولَ: {فَإِنِ انْتَهَوْا} . إلَّا وقد علِمَ أنهم لا ينتَهُونَ إلَّا بعضَهم. قال: فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم فلا عدوانَ إلَّا على الظالمين منهم.
فأَضْمرَ كما قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] يريدُ: فعليه ما اسْتيسرَ. وكما تقولُ إلى مَن تقصِدُ: أقصِدُ. يعني: إليه.
وكان بعضُهم يُنكِرُ الإضمارَ في ذلك ويتأوّلُه: فإن انْتهَوْا فإنّ اللهَ غفورُ رحيمٌ لمن انتهَى، فلا عُدوانَ إلَّا على الظالمين الذين لَمْ يَنْتَهوا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} .
يعني بقولِه جَلَّ ثناؤُه؛ {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} ذا القَعدةِ، وهو الشهرُ الذي كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ فيه عمرةَ الحديبيةِ، فصدَّه مُشركو أهلِ مكةَ عن البيتِ ودخولِ مكّةَ، وكان ذلك سنةَ ستٍّ من هجرتِه، وصالَح رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنةِ على
(2)
أن يعودَ من العامِ المقبلِ، فيدخُلَ مكَّةَ ويقيمَ ثلاثًا، فلمَّا كان من العامِ المقبلِ، وذلك سنةَ سبعٍ من هجرَتِه، خرَج مُعتمرًا هو وأصحابُه في ذي القَعدةِ - وهو الشهرُ الذي كان المشركون صَدُّوه عن البيتِ فيه في سنةِ ستٍّ - وأخلَى له أهلُ مكةَ البلدَ، حتى دخَلها رسولُ اللهِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 328 (1737) من طريق عمرو به.
(2)
بعده في الأصل: "إلى".
صلى الله عليه وسلم، فقضَى حاجتَه منها، وأتمَّ عُمرتَه، وأقامَ بها ثلاثًا، ثم خرَج منها مُنصرِفًا إلى المدينةِ، فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه وللمسلمين معه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ} يعْني ذا القَعدةِ الذي أوْصلَكم اللهُ فيهِ إلى حرمِه وبيتِه على كراهةِ مُشركِي قُرَيْشٍ ذلك حتى قَضَيْتم منه وطرَكم، {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الذي صدَّكم مُشركو قُريشٍ العامَ الماضي قبلَه فيه، حتى انصرفتُم على كُرْهٍ منكم عن الحرمِ، فلم تدْخُلوه ولم تَصِلُوا إلى بيتِ اللهِ، فأقَصَّكُم اللهُ أيُّها المؤمنون مِن المشركين بإدخالِكم الحرمَ في الشهرِ الحرامِ على كُرْهٍ منهم لذلك، بما كان منهم إليكم في الشهرِ الحرامِ من الصَّدِّ والمنعِ من الوصولِ إلى البيتِ.
كما حدَّثني محمد بنُ عبدِ اللهِ بنِ بَزِيعٍ، قال: ثنا يوسفُ، يعني ابنَ خالدٍ السَّمْتيَّ
(1)
، قال: ثنا نافعُ بنُ مالكٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قال: هم المشركونَ، حَبَسُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدةِ، فرجَعة اللهُ في ذي القَعدةِ، فأَدخلَه البيتَ الحرامَ، فاقتصَّ له منهم
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} .
قال: فَخَرَت قريشٌ بردِّها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الحُديبيةِ محرِمًا في ذي القَعدةِ عن البلدِ الحرامِ، فأدخلَه اللهُ مكةَ في العامِ المقبلِ في ذي القَعدةِ، فقضَى عُمرَته، وأقَصَّه بما حِيلَ بينَه وبينَه
(3)
يومَ الحُدَيبيةِ
(4)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"السهمي".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 206 إلى المصنف نحوه. والسمتي ضعيف جدًّا. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 330.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بينها".
(4)
تفسير مجاهد ص 224، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 206 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} : أقبلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه فاعتمَرُوا في ذي القَعدةِ ومعهم الهديُ، حتى إذا كانوا بالحديبيةِ صَدَّهم المشركون، فصالحَهم نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أن يرجِعَ من عامِه ذلك، حتى يرجِعَ من العامِ المقبلِ، فيكونَ بمكةَ [ثلاثَ ليالٍ]
(1)
، ولا يَدْخُلَها إلَّا بسلاحِ راكبٍ، ولا يخرُجَ بأحدٍ من أهلِ مكةَ، فنحَروا الهديَ بالحديبيةِ، وحلَقُوا وقصَّرُوا، حتى إذا كانَ من العامِ المقبلِ، أقبلَ نبيُّ اللهِ وأصحابُه حتى دخَلوا مكّةَ، فاعتمَرُوا في ذي القَعدةِ، فأقاموا بها ثلاثَ ليالٍ.
فكان المشركون قد فَخَروا عليه حينَ ردُّوه يومَ الحديبيةِ، فأقَصَّه اللهُ منهم، فأدخلَه مكّةَ في ذلك الشهرِ الذي كانوا ردُّوه فيه؛ في ذي القَعدةِ، فقال اللهُ:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، وعن عثمانَ، عن مِقْسَمٍ في قولِه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قالا: كان هذا في سَفَرِ الحديبيةِ، صَدَّ المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عن البيتِ في الشهرِ الحرامِ، فقاضُوا المشركين يومَئذٍ قضيةً: إنَّ لكم أن تعتمِرُوا في العام المقبِلِ؛ في هذا الشهرِ الذي صدُّوهم فيه. فجعَل اللهُ تعالى ذكرُه لهم شهرًا حرامًا يعتمِرونَ فيه مكانَ شهرِهم الذي صُدُّوا، فلذلك قال:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
(3)
.
(1)
في م: "ثلاثة أيام".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 206 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 330 عن قتادة ومقسم. وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 73 عن معمر، عن رجل، عن قتادة، عن عكرمة.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قال: لما اعتمَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمرةَ الحُديبيةِ في ذي القَعدةِ سنةَ ستٍّ من مُهاجَرِه صدَّه المشركون، وأبَوْا أن يَتركوه، ثم إنهم صالحُوه في صلْحِهم على أن يُخلُّوا له مكةَ في عامِ قابلٍ ثلاثةَ أيامٍ يَخْرجُونَ ويَتركونَه فيها، فأتاهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ فتحِ خيبرَ في السنةِ السابعةِ، فَخَلَّوْا له مكةَ ثلاثةَ أيامٍ، ونكَح في عُمرتِه تلكَ مَيمونةَ بنتَ الحارثِ الهلاليةَ
(1)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} : وأَحْصَرُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدةِ عن البيتِ الحرامِ، فأدخلَه اللهُ البيتَ الحرامَ العامَ المقبلَ، واقتصَّ له منهم، فقال:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
(2)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: أقبلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، فأحْرمُوا بالعمرةِ في ذي القَعدةِ ومعهم الهديُ، حتى إذا كانوا بالحديبيةِ صَدَّهم المشركون، فصالحَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يرجِعَ ذلك العامَ حتى يرجِعَ العامَ المقبلَ، فيقيمَ بمكةَ ثلاثةَ أيامٍ، ولا يخرُجَ معه بأحدٍ من أهلِ مكةَ، فنحَرُوا الهدْيَ بالحديبيةِ، وحلَقوا وقصَّرُوا، حتى إذا كانوا من العامِ المقبلِ، أقبلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم [وأصحابُه]
(3)
حتى دخَلوا مكةَ، فاعتمَرُوا في ذي القَعدةِ وأقاموا بها ثلاثةَ أيامٍ، وكان المشركون قد فخَروا عليه حينَ ردُّوه يومَ الحديبيةِ، فقصَّ
(1)
ذكره ابن كثير 1/ 330 عن السدي.
(2)
ذكره ابن كثير 1/ 330 عن الضحاك.
(3)
سقط من: الأصل.
اللهُ له منهم، وأدخلَه مكةَ في ذلك الشهرِ الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القَعدةِ، قال اللهُ جلّ ثناؤُه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} : فهم المشركون، كانوا حبَسوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدةِ عن البيتِ، ففخَروا عليه بذلك، فرجَعه اللهُ في ذي القَعدةِ، فأدْخَله البيتَ الحرامَ، فاقتصَّ له منهم
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} حتى فرَغ من الآيةِ. قال: هذا كلُّه قد نُسِخَ، أمَره أن يجاهِدَ المشركين. وقرَأ:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وقرَأ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] العربَ، فلمّا فرَغ منهم قال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . حتى بلَغ قولَه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. قال: وهم الرومُ. قال: فوجَّه إليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ الثقفيُّ، قال: ثنا أيوبُ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في هذه الآيةِ:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قال: أمرَكم اللهُ بالقصاصِ، ويأخُذُ منكم العُدْوانَ
(3)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 330 عن الربيع، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 206 إلى المصنف وابن أبي حاتم عن أبي العالية، وهو في تفسير ابن أبي حاتم 1/ 328 عقب الأثر (1738) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(2)
أخرجه ابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 187، 188 من طريق محمد بن سعد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 329 (1739) من طريق أيوب به بنحوه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ وسألتُه عن قولِه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قال: نزَلتْ في الحديبيةِ، مُنِعوا في الشهرِ الحرامِ، فنزَلتْ {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}: عُمرةٌ في شهرٍ حرامٍ بعمرةٍ في شهرٍ حرامٍ
(1)
.
وإنما سمَّى اللهُ جلَّ ثناؤُه ذا القَعدةِ الشهرَ الحرامَ؛ لأنّ العربَ في الجاهليةِ كانت تُحرِّمُ فيه القتالَ والقتلَ، وتضَعُ فيه السلاحَ، فلا يقْتُلُ فيه أحدٌ أحدًا، ولَو لقِيَ الرجلُ قاتلَ أبيه أو ابنِه، وإنما كانُوا سمَّوْه ذا القَعدةِ، لقُعودِهم فيه عن المغازِي والحروبِ، فسمَّاه اللهُ بالاسمِ الذي كانت العربُ تُسمِّيه به.
وأما الحرماتُ فإنها جمعُ حُرمةٍ، كما الظُّلُماتُ جمعُ ظُلْمةٍ، والحجُراتُ جمعُ حُجرَةٍ.
وإنما قال تبارك وتعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فجمَع، لأنه أرادَ الشهرَ الحرامَ والبلدَ الحرامَ وحُرمةَ الإحرامِ. فقال جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه: دخولُكم الحرمَ، بإحرامِكم هذا في شهرِكم الحرامِ، قصاصٌ مما مُنِعتم مِن مثلِه عامَكم الماضي. وذلك هو الحرماتُ التي جعلَها اللهُ قصاصًا.
وقد بينَّا أن القصاصَ هو المجازاةُ من جهةِ الفعلِ أو القولِ أو البدَلِ
(2)
، وهو في هذا الوضعِ من جهةِ الفعلِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ فيما نزَل فيه قولُه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
(1)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 114 من طريق حجاج به.
(2)
في م، ت 1:"البدن"، وينظر ما تقدم في ص 93 وما بعدها.
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}؛ فقال بعضُهم بما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ ابنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} : فهذا ونحوُه نزَل بمكةَ والمسلمونَ يومَئذٍ قليلٌ، ليسَ لهم سلطانٌ يَقهَرُ المشركينَ، وكان المشركونَ يَتعاطَوْنهم بالشَّتْمِ والأذَى، فأمرَ اللهُ المسلمين مَن يُجازِي منهم أن يُجازِيَ بمثلِ ما أُتِي إليه أو يصبِرَ، أو يَعفُوَ فهو أمثلُ، فلمَّا هاجَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، وأعزَّ اللهُ سلطانَه، أمَر المسلمين أن يَنتهُوا في مظالِمهم إلى سُلطانِهم، وألا يعدوَ بعضُهم على بعضٍ كأهلِ الجاهليةِ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلَكم أيُّها المؤمنون من المشركين، فقاتِلوهم كما قاتَلوكُم. وقالوا: نزَلتِ الآيةُ علَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ وبعدَ عُمرةِ القَضِيَّةِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} : فقاتِلوهم فيه كما قاتَلوكم
(2)
.
وأشبهُ التأويليِن بما دلَّ عليه ظاهرُ الآيةِ القولُ الذي حُكِي عن مجاهدٍ؛ لأنّ الآياتِ قبلَها إنما هي أمرٌ من اللهِ للمؤمنِين بجهادِ عدوِّهم علَى صفةٍ، وذلك قولُه:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 329 (1740)، والبيهقي 8/ 61 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى المصنف.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} والآيات بعدَها، وقولُه:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} إنّما هو في سياقِ الآيات التي فيها الأمرُ بالقتالِ والجهادِ، واللهُ إنما فرَض القتالَ على المؤمنين بعدَ الهجرةِ. فمعلومٌ بذلك أن قولَه:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} مدنيٌّ لا مكيٌّ، إذْ كَان فرضُ قتالِ المشركين لم يكنْ وجَب علَى المؤمنين بمكةَ، وأنّ قولَه:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} نظيرُ قولِه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وأن معناه: فمن اعتدَى عليكم في الحرمِ فقاتَلكم فاعتَدُوا عليه بالقتالِ نحوَ اعتدائِه عليكم بقتالِه إيَّاكم؛ لأني قد جعَلتُ الحرماتِ قصاصًا، فمَن استحلَّ منكم أيُّها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمى، فاستحِلُّوا منه مثلَه فيه.
وهذه الآيةُ منسوخةٌ بإذنِ اللهِ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بقتالِ أهلِ الحرمِ ابتداءً في الحرمِ، وقولُه:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} على نحوِ ما ذكَرنا [من القولِ في ذلك عن ابنِ زيدٍ.
وأما قولُه: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فإنّ فيه وجهَين مِن التأويلِ؛ أحدُهما، ما قد ذكَرنا قبلُ]
(1)
مِن أنه بمعنَى المجازاةِ وإتباعِ لفظٍ لفظًا وإنِ اختلَف معنياهما، كما قال:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران: 54] وقال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] وما أشبهَ ذلك مما أَتْبَع لفظٌ لفظًا واختلفَ المعْنيانِ.
والآخرُ، أن يكونَ بمعْنى العَدْوِ الذي هو شدٌّ ووثوبٌ، من قولِ القائلِ: عدَا الأسدُ على فريستِه. فيكونُ معنى الكلامِ: فمَن عدَا عليكم، أيْ: فمَن
(1)
سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.
شدَّ عليكم ووثَب بظلمٍ، فاعْدُوا عليه، أيْ: فشُدُّوا عليه وثِبوا بحقٍّ
(1)
؛ قِصاصًا لما فعَل بكم لا ظلمًا. ثم تَدْخُلُ التاءُ في "عَدا"، فيقالُ: افتعَل مكانَ "فعَل"، كما يقالُ: اقترَب هذا الأمرُ. بمعنى: قرُب، واجتلَب كذا. بمعْنى: جلَب، وما أشبَهَ ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: واتّقُوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ في حُرُماتِه وحدودِه أن تعَدَّوا فيها، فتَتَجاوَزُوا فيها ما بَيَّنَه وحدَّه لكم، واعلَمُوا أنَّ اللهَ يحِبُّ المتقين الذين يَتَّقونه بأداءِ فرائضِه وتجنُّبِ محارمِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ هذه الآيةِ، ومَن عُنِي بقوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِي بذلك {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} . وسبيلُ اللهِ طريقُه الذي أمَر أن يُسْلَكَ فيه إلى عدوِّه مِن المشركِين لجهادِهم وحربِهم، {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. يقولُ: ولا تَتْرُكُوا النفقةَ في سبيلِ اللهِ، فإنَّ اللهَ يعوِّضُكم منها أجرًا، ويَرزُقُكم عاجلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ والحسنُ بنُ عرفةَ، قالا: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن شقيقٍ
(2)
، عن حذيفةَ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: يَعْني في تركِ
(1)
في م، ت 1:"نحوه".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سفيان".
النفقةِ [في سبيلِ اللهِ]
(1)
،
حدَّثني محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا شعبةُ، وحدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن شعبةَ، عن الأعمشِ، عن أبي وائلٍ، عن حذيفةَ، وحدَّثني محمدُ بنُ خلَفٍ العسقلانيُّ، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الأعمشِ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، جميعًا عن شَقيقٍ، عن حذيفةَ، قال: هو تَركُ النفقةِ في سبيلِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن أبي صالحٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ أنَّه قال في هذه الآيةِ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: تُنْفِقُ في سبيلِ اللهِ وإن لم يَكُنْ لك إلَّا مِشقَصٌ
(3)
أو سهمٌ
(4)
. شعبةُ الذي يَشُكُّ في ذلك.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن شعبةَ، عن منصورٍ، عن أبي صالحٍ الذي كان يحدِّثُ عنه الكلبيُّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن لم يَكُنْ لك إلا سهمٌ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2404) وفي (285 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 331 (1744) من طريق أبي معاوية به.
(2)
أخرجه البخاري (4516)، والبيهقي 9/ 45 من طريق شعبة به، وأخرجه سعيد بن منصور (285 - تفسير) عن سفيان بن عيينة عن الأعمش به. والأثر في تفسير سفيان ص 58 عن أبي عمر، عن أبي وائل، عن حذيفة، بلفظ: ألَّا تنفق. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى وكيع وسفيان بن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
المِشْقَص: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض، فإذا كان عريضا فهو المِعْبَلة. النهاية 2/ 490.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 330 (1742) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى وكيع وعبد بن حميد.
أو مِشْقَصٌ أنفِقْه
(1)
.
حدَّثني ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيىَ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: في النفقةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكّامٌ، عن عمرِو بنِ أبي قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ. {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. قال: ليسَ التَّهْلُكةُ أن يُقْتَلَ الرجلُ في سبيلِ اللهِ، ولكنِ الإمساكُ عن النفقةِ في سبيلِ اللهِ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن عِكْرمةَ، قال: نزَلتْ في النفقاتِ في سبيلِ اللهِ. يعْني قولَه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني أبو صَخْرٍ، عن محمدِ ابنِ كَعْبٍ القُرظيِّ أنه كان يقولُ في هذه الآيةِ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
قال: كان القومُ في سبيلِ اللهِ، فيتَزوَّدُ الرجلُ، فكان أفضلَ زادًا من الآخَرِ، أنفَق البائسُ مِن زادِه حتى لا يبقَى مِن زادِه شيْءٌ، أحبَّ أن يُواسِيَ صاحبَه، فأنْزَل اللهُ:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ خلَفٍ العَسقلانيُّ، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا شَيْبانُ، عن
(1)
في م، ت 2، ت 3:"أنفقته".
(2)
تفسير سفيان ص 59.
(3)
رواه ورقاء عن عطاء بن السائب عن سعيد بنحوه - كما في تفسير مجاهد ص 224 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى المصنف والفريابي وابن المنذر.
(4)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 38 من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 331، 332 (1746) من طريق يونس بن عبد الأعلى به.
منصورِ بنِ المُعْتَمِرِ، عن أبي صالحٍ مولى أُمِّ هانئٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: لا يَقولَنَّ أحدُكم: إنِّي لا أجِدُ شيئًا. إن لم يَجِدْ إلا مِشْقَصًا فلْيَجَّهَّزْ
(1)
به في سبيلِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعْتمِرُ، قال: سمِعتُ داودَ - يعني ابنَ أبي هندٍ - عن عامرٍ أن الأنصارَ كان احْتَبَس عليهم بعضُ الرزقِ، وكانوا قد أنفَقوا نفقاتٍ. قال: فساء ظنُّهم وأمسَكوا. قال: فأنزَل اللهُ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: وكانت التَّهْلُكةُ سوءَ ظنِّهم وإمساكَهم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: [لا تَمْنَعنَّكم]
(4)
نفقةً في حقِّ خِيفَةُ العَيْلةِ
(5)
.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: كان قتادةُ يُحَدِّثُ أنَّ
(1)
في م، ت 1، ت 3:"فليتجهز".
(2)
أخرجه البيهقي 9/ 45 من طريق آدم به.
(3)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 37 من طريق هشيم عن داود بن أبي هند به. وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2131)، والجهاد 1/ 280 (87)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 332 (1750)، وابن قانع في معجم الصحابة 2/ 33، والطبراني في الكبير 22/ 390 (970)، والأوسط (5671) من طريق حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن الضحاك بن أبي جبيرة.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تمنعكم".
(5)
تفسير مجاهد ص 224، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2405) وفي (286 - تفسير) عن سفيان ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح به، وأخرجه سفيان في تفسيره ص 59 عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد نحوه.
الحسنَ حدَّثه أنَّهم كانوا يسافِرون ويَغْزُون ولا يُنْفِقُون مِن أموالِهم. أو قال: لا يُنْفِقون في ذلك، فأمرَهم اللهُ أن يُنْفِقُوا في مغازِيهم في سبيلِ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} يَقولُ: لا تُمْسِكوا بأيدِيكم عن النفقةِ في سبيلِ اللهِ
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} . يقولُ: أنْفِقْ في سبيلِ اللهِ ولو عِقالًا، {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} تقولُ: ليس عندي شيْءٌ"
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو غَسّانَ، قال: ثنا زُهَيرٌ، قال: ثنا خُصَيفٌ، عن عِكْرِمةَ في قولِه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: لما أمَر اللهُ بالنفقةِ فكانوا أو بعضُهم يقولون: نُنْفِقُ فيَذْهَبُ مالُنا ولا يَبقَى لنا شيْءٌ
(4)
؟ قال: فقال: أنْفِقُوا ولا تُلْقُوا بأيدِيكم إلى التَّهْلُكةِ. قال: أنفِقُوا وأنا أرزُقُكم.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قال: نزَلت في النفقةِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: أخبَرَنا أبوْ
(5)
هَمّامٍ الأهوازيُّ، قال:
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (10902) من طريق ميمون، عن الحسن. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 74.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 331 عقب الأثر (1744) من طريق عمرو بن حماد به.
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابن"، وينظر تهذيب الكمال 34/ 379.
أخبَرَنا يونسُ، عن الحسنِ في التَّهْلُكةِ، قال: أمَرهم اللهُ بالنفقةِ في سبيلِ اللهِ، وأخبَرهم أنَّ تَرْكَ النفقةِ في سبيلِ اللهِ التَّهْلُكَةُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: سأَلتُ عطاءً عن قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: يقولُ: أنْفِقُوا في سبيلِ اللهِ ما قلَّ وكثُر. قال: وقال لي عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ: نزَلت في النفقةِ في سبيلِ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا يَقولَنَّ الرجلُ: لا أجِدُ شيئًا، قد هلَكتُ. فَلْيتَجَهَّزْ ولو بمِشْقَصٍ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: ثنِي عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . يقولُ: أنْفِقُوا ما كان مِن قليلٍ أو كثيرٍ، ولا تَسْتَسْلِموا ولا تُنْفِقوا شيئًا فتَهلِكوا.
حدَّثني المثُنَىَّ، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبِرٍ، عن الضحّاكِ، قال: التَّهْلُكةُ أن يُمْسِكَ الرجلُ نفسَه ومالَه عن النفقةِ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ بنُ زيادٍ، عن يونسَ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [قال: أمَر أن تُنْفِقوا في سبيلِ اللهِ، وقال: لا تُلقُوا بأيديكم إلى التهلُكةِ]
(3)
، فَتَدَعُوا النفقةَ في سبيلِ اللهِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 331 عقب الأثر (1744) معلقًا عن عطاء.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 331 عقب الأثر (1744) معلقًا عن الضحاك.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
[حدَّثنا ابنُ سِنانٍ القزَّازُ، قال: نا الحسينُ بنُ الحسنِ الأشقرُ، قال: أنا أبو حذيفةَ، عن عَطَاءٍ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. قال: ليس في القتالِ، ولكنْ حَبْسُكَ النَّفقةَ في سبيلِ اللهِ؛ لأنه عُرْضَةُ تَهْلُكةٍ]
(1)
.
[حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: نا جريرٌ، عن منصورٍ؛ عن أبي صالحٍ مَوْلَى أُمِّ هانِئٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. قال: إن لم تجِدْ شيئًا إلا مِشْقَصًا فلْتَجَّهَّزْ به في سبيلِ اللهِ، ولا تقولَنّ: لا أجِدُ شيئًا قد هلكتُ]
(2)
.
وقال آخرون ممن وجَّه
(3)
تأويلَ ذلك إلى أنه معنيةٌ به النفقةُ: معنى ذلك: وأنفِقُوا في سبيلِ اللهِ ولا تُلْقُوا بأيدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ، فتَخْرُجوا في سبيلِ اللهِ بغيرِ نفقةٍ ولا قُوَّةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زَيدٍ في قولِه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: إذا لم يَكُنْ عندَك ما تُنْفِقُ، فلا تَخْرُجْ بنفسِك بغيرِ نفقةٍ [وقوةٍ]
(4)
، فَتُلْقِيَ بيدَيك إلى التهلكةِ.
[حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني عَبْدُ اللهِ بنُ عَيّاشٍ، قال: قال زيدُ بنُ أسْلَمَ في قولِ اللهِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وذلك أنّ رجالًا كانوا يَخرُجون في بُعوثٍ يَبْعَثُها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بغيرِ](2)
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى الفريابي والمصنف وابن المنذر.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وجهوا".
(4)
في م: "ولا قوة".
[نفَقَةٍ فإمّا يُقْطَعُ بهم، وإمّا كانوا عيالًا، فأمَرهم اللهُ أن يَستَنْفِقُوا مما رزَقهم اللهُ ولا يُلْقوا بأيدِيهم إلى التَّهْلُكَةِ؛ [والتَّهْلُكَةُ]
(1)
: أن يَهْلِكَ رجالٌ مِن الجُوعِ والعَطَشِ، أو مِن المشي، وقال لمن بيدِه فضلٌ:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ]
(2)
.
وقال آخرون: بل معناه: أنْفِقوا في سبيلِ اللهِ، ولا تُلْقُوا بأيدِيكم فيما أصَبْتُم مِن الآثامِ إلى التَّهْلُكَةِ، فتَأيسُوا مِن رحمةِ اللهِ، ولكنِ ارْجُوا رحمتَه، واعمَلوا الخيراتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبيدٍ المحُاربِيُّ، قال: ثنا أبو الأحْوَصِ، عن أبي إسحاقَ، عن البرَاءِ بنِ عازِبٍ في قولِه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: هو الرجلُ يصيبُ الذنوبَ فيُلْقِي بيدِه إلى التَّهْلُكةِ، يقولُ: لا توبةَ لي
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عيّاشٍ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن البرَاءِ، قال: سأَله رجلٌ: أَحْمِلُ على المشركين وَحْدِي فيَقْتُلوني، أَكنتُ ألقَيْتُ بيَدِي إلى التَّهْلُكةِ؟ فقال: لا، إنما التَّهْلُكةُ في النفقةِ، بعَث اللهُ رسولَه، فقال:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}
(4)
[النساء: 84].
حدَّثنا الحسنُ بنُ عَرَفةَ وابنُ وَكيعٍ، قالا: ثنا وَكيعُ بنُ الجَرّاحِ، عن سفيانَ
(1)
سقط من: الأصل، والمثبت من مصدر التخريج.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. والأثر أخرجه ابن أبي حاتم 1/ 331 (1745) من طريق يونس به.
(3)
أخرجه البيهقي 9/ 45، وفي الشعب (7094) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى سفيان بن عيينة والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه أحمد 30/ 427 (18477)، وابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 332 - من طريق أبي بكر بن عياش به. وينظر الفتح 8/ 185.
الثوريِّ، عن أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ، عن البراءِ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: هو الرجلُ يُذْنِبُ الذنبَ فيقولُ: لا يَغْفِرُ اللهُ لي
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، قال: سمِعتُ البراءَ وسأَله رجلٌ فقال: يا أبا عُمارةَ، أرأيتَ قولَ اللهِ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : أهو الرجلُ يَتَقَدَّمُ فيُقاتِلُ حتى يُقْتَلَ؟ قال: لا، ولكنَّه الرجلُ يَعْمَلُ بالمعاصي، ثم يُلْقِي بيدِه ولا يَتوبُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن أبي إسحاقَ، قال: سمِعتُ البَراءَ وسأَله رجلٌ، فقال: الرجلُ يَحْمِلُ على كتيبةٍ وحدَه فيُقاتِلُ، أهو ممن ألْقَى بيدِه إلى التهلكةِ؟ قال: لا، ولكنَّ التَّهْلُكةَ أن يُذْنِبَ الذَّنْبَ فيُلْقِيَ بيدِه، فيَقولَ: لا تُقْبَلُ لي توبةٌ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكّامٌ، عن الجَرّاحِ، عن أبي إسحاقَ، قال: قلتُ للبَراءِ بنِ عازبٍ: يا أبا عُمارةَ، الرجلُ يَلْقَى ألفًا مِن العدوِّ فيَحْمِلُ عليهم وإنَّما هو وحدَه، أفيكونُ ممن قال اللهُ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ؟ فقال: لا، لِيُقَاتِلْ حتى يُقْتَلَ، قال اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} .
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا هشامٌ، وحدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن هشامٍ، عن محمدٍ، قال: سأَلتُ عَبيدةَ عن قولِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى وكيع.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 332 (1748)، والحاكم 2/ 275، والبيهقي في الشعب (7093) من طرق عن إسرائيل به، وعند ابن أبي حاتم: عن إسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق.
اللهِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية. فقال عَبيدةُ: كان الرجلُ يُذْنِبُ الذنبَ - قال: حسِبتُه قال: العظيمَ - فيُلْقِي بيدِه فيَسْتَهْلِكُ، زاد يعقوبُ في حديثِه: فنُهوا عن ذلك، فقيل:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرَنا هشامٌ، عن ابنِ سِيرينَ، قال: سأَلتُ عَبيدةَ السلمانيَّ عن ذلك، فقال: هو الرجلُ يُذْنِبُ الذنبَ فيَسْتَسْلِمُ فيُلْقِي بيدِه إلى التَّهلُكةِ، ويقولُ: لا توبةَ له. يعني قولَه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا أيوبُ، عن محمدٍ، عن عَبيدةَ في قولِه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: كان الرجلُ يُصيبُ الذنبَ فيُلْقِي بيدِه.
حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابنِ عَونٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: القُنوطُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبَرنا هُشَيمٌ، عن يونسَ وهشامٍ عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدةَ السلمانيِّ، قال: هو الرجلُ يُذْنِبُ الذنبَ فيَسْتَسْلِمُ، يقولُ: لا توبةَ لي. فيُلْقِي بيدِه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا مَعْمَرٌ، قال:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 332 عقب الأثر (1748)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى عبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى وكيع.
حدَّثني أيوبُ، عن ابنِ سِيرينَ، عن عَبيدةَ أنه قال: هي في الرجلِ يصيبُ الذنبَ العظيمَ، فيُلْقِي بيَدِه ويَرَى أنَّه قد هلَك
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنْفِقُوا في سبيلِ اللهِ ولا تَتْرُكوا الجهادَ في سبيلِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهبٍ، قال: أخبَرَني حَيْوَةُ، عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، عن أسلمَ أبي عِمرانَ، قال: غزَوْنا المدينةَ، يُرِيدُ القُسْطَنْطينيَّةَ، وعلى أهلِ مصرَ عُقْبةُ بنُ عامرٍ، وعلى الجماعةِ عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ الوليدِ. قال: فصفَفْنا صَفَّين، لم أرَ صفَّين قَطُّ أعرَضَ ولا أطوَلَ منهما، والرومُ مُلصِقون ظُهورَهم بحائطِ المدينةِ. قال: فحمَل رجلٌ منا على العدوِّ، فقال الناسُ: مَهْ! لا إلهَ إلا اللهُ، يُلْقِي بيدِه إلى التَّهْلُكَةِ. فقال أبو أيوبَ الأنصاريُّ: إنما تَأوَّلون هذه الآيةَ هكذا أنْ حمَل رجلٌ
(2)
يُقاتِلُ يَلْتَمِسُ الشهادةَ أو يُبْلِي مِن نفسِه، إنما نزَلت هذه الآيةُ فينا معشرَ الأنصارِ، إنا لماّ نصَر اللهُ نبيَّه، وأظهرَ الإسلامَ، قلنا بينَنا معشرَ الأنصارِ خَفِيًّا مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنّا قد كنّا ترَكنا أهلَنا وأموالَنا أنْ نُقيمَ فيها ونُصْلِحَها حتى نصَر اللهُ نبيَّه، هَلُمَّ نقيمُ في أموالِنا ونُصْلِحُها. فأنزَل اللهُ الخبرَ مِن السماءِ:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية. والإلقاءُ بالأيدي إلى التَّهْلُكَةِ أن نُقيمَ في أموالِنا ونُصْلِحَها، ونَدَعَ الجهادَ. قال أبو عِمرانَ: فلم يَزَلْ أبو أيوبَ يُجاهدُ في سبيلِ اللهِ حتى دُفِن بالقُسْطَنْطِينِيَّةِ
(3)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 74.
(2)
بعده في الأصل: "على رجل".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 330 من طريق يونس، عن ابن وهب، عن حيوة وابن لهيعة به. =
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسَديُّ وعبدُ اللهِ بنُ أبي زيادٍ، قالا: ثنا أبو عبدِ الرحمنِ
(1)
عبدُ الله بنُ يزيدَ، قال: أخبرَني حَيْوةُ وابنُ لَهيعةَ، قالا: ثنا يزيدُ بنُ أبي حَبيبٍ، قال: حدَّثني أسلمُ أبو عِمرانَ مولى تُجَيبَ
(2)
، قال: كنا بالقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وعلى أهلِ مصرَ عُقْبةُ بنُ عامرٍ الجُهَنيُّ صاحبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعلى أهلِ الشامِ فَضالةُ بنُ عُبَيدٍ صاحبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فخرَج مِن المدينةِ صفٌّ عظيمٌ مِن الرومِ. قال: وصفَفْنا صفًّا عظيمًا مِن المسلِمينَ، فحمَل رجلٌ مِن المسلِمينَ على صفِّ الرومِ حتى دخَل فيهم، ثم خرَج إلينا مُقبِلًا، فصاح الناسُ وقالوا: سبحانَ اللهِ، ألْقَى بيدِه إلى التَّهْلُكَةِ! فقام أبو أيوبَ الأنصاريُّ صاحبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّها الناسُ، إنكم تتَأوَّلون هذه الآيةَ على هذا التأويلِ، وإنَّما أُنْزِلَت هذه الآيةُ فينا معشرَ الأنصارِ، إنا لما أعزَّ اللهُ دينَه وكثَّر ناصرِيه، قلنا فيما بينَنا بعضُنا لبعضِ سِرًّا مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أموالَنا قد ضاعت، فلو أنَّا أَقَمْنا فيها فأصْلَحْنا ما ضاع منها. فأنزَل اللهُ في كتابِه يَرُدُّ علينا ما همَمْنا به، فقال:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
بالإقامةِ التي أرَدْنا أن نُقِيمَ في الأموالِ ونُصْلِحَها، فأمرَنا بالغزوِ. فما زال أبو أيوبَ غازيًا في سبيلِ اللهِ حتى قبَضه اللهُ
(3)
.
= وأخرجه أبو داود (2512)، والحاكم 2/ 84، والبيهقي 9/ 99 من طرق عن ابن وهب عن حيوة به، ورواية أبي داود مقرونة بابن لهيعة. وأخرجه الطيالسي (600)، والترمذي (2972)، والنسائي في الكبرى (11028، 11029)، وابن حبان (4711)، وابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 269، 270 من طرق عن حيوة به.
وأخرجه الثعلبي في تفسيره - كما في تخريج الكشاف للزيلعي 1/ 120 من طريق الليث عن يزيد به.
وعزاه الزيلعي إلى أحمد وإسحاق بن راهويه والسيوطي في الدر المنثور 1/ 207 إلى عبد بن حميد وأبي يعلى وابن المنذر وابن مردويه.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن". وينظر تهذيب الكمال 16/ 320.
(2)
في الأصل، ت 2، ت 3:"تجوب". وينظر تهذيب الكمال 2/ 528.
(3)
أخرجه الطبراني (4060) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة وابن لهيعة به. =
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندي أن يُقالَ: إن اللهَ جلَّ ثناؤُه أمَر بالإنفاقِ في سبيلِه بقولِه. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} وسبيلُه: طريقُه الذي شرَعه لعبادِه وأوضَحَه لهم.
ومعنى ذلك: [{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}]
(1)
: وأنْفِقوا في إعزازِ دينِي الذي شرَعْتُه لكم بجهادِ عدوِّكم النّاصِبينَ لكم الحربَ على الكفرِ بي. ونهاهم أن يُلْقُوا بأيدِيهم إلى التَّهْلُكةِ، فقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . وذلك مَثَلٌ، والعربُ تقولُ للمُسْتَسْلمِ للأمرِ: أعطَى فلانٌ بيَدَيْه. وكذلك يُقالُ للمُمَكِّنِ مِن نفسِه مما أُرِيد به: أعطَى بيدَيْه.
فمعنى قولِه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : ولا تَسْتَسْلِموا للهَلَكَةِ فتُعْطُوها أَزِمَّتَكم فتَهْلِكوا، والتاركُ النفقةِ في سبيلِ اللهِ عندَ وجُوبِ ذلك عليه مُسْتَسْلِمٌ للهَلَكَةِ بتركِه أداءَ فرضِ اللهِ عليه في مالِه، وذلك أنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه جعَل أحدَ سِهامِ الصدقاتِ المفروضاتِ الثمانيةِ في سبيلِه، فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} . إلى قولِه: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60].
فمن ترَك إنفاقَ ما لزِمه مِن ذلك في سبيلِ اللهِ على ما لزِمه كان للهَلَكَةِ مستسلِمًا، وبيدَيْه للتَّهْلُكةِ مُلْقِيًا، وكذلك الآيِسُ مِن رحمةِ اللهِ لِذنبٍ سلَف منه مُلْقٍ بيدَيه إلى التَّهْلُكةِ؛ لأنَّ اللهَ قد نَهى عن ذلك فقال:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وكذلك التاركُ غزوِ المشركين وجهادِهم في حالِ وُجوبِ ذلك عليه في حالِ حاجةِ المسلمين إليه، مُضَيِّعٌ فرضًا،
= وأخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 269، 270، والحاكم 2/ 275، والبيهقي 9/ 45، والواحدي في أسباب النزول ص 38 من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة - وحده - به.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
مُلْقٍ بيدِه إلى التَّهْلُكَةِ.
فإذا كانت هذه المعاني كلُّها يَحْتَمِلُها قولُه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولم يكنِ اللهُ عز وجل خصَّ منها شيئًا دون شيْءٍ، فالصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذكرُه نهى عن الإلقاءِ بأيدِينا لِما فيه هلاكُنا والاستسلامِ للهَلَكَةِ - وهي العذابُ - بتركِ ما لزِمَنا مِن فرائضِه، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ منا الدخولُ في شيْءٍ يَكْرَهُه اللهُ منا مما نَسْتَوْجِبُ بدُخولِنا فيه عذابَه، غيرَ أنَّ الأمرَ وإن كان كذلك، فإنَّ الأغلبَ مِن تأويلِ الآيةِ: وأنْفِقُوا أيها المؤمنون في سبيلِ اللهِ، ولا تَتْرُكوا النفقةَ فيها فتَهْلِكُوا باستحقاقِكم بتركِكم ذلك عذابي.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا مُعاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . قال: التَّهْلُكةُ عذابُ اللهِ
(1)
.
فيكونُ ذلك إعلامًا منه لهم، بعد أمرِه إياهم بالنفقةِ، ما لمن ترَك النفقةَ المفروضةَ عليه في سبيلِه مِن العقوبةِ في المعادِ.
فإن قال قائلٌ: وما وجهُ إدخالِ الباءِ في قولِه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} وقد علِمتَ أنَّ المعروفَ مِن كلامِ العربِ: ألقَيتُ إلى فلانٍ درهمًا. دونَ: ألقَيتُ إلى فلانٍ بدرهمٍ؟
قيل: قد قِيل: إنها زِيدت نحوَ زيادةِ القائلِ
(2)
الباءَ في قولِه: جذَبتُ الثوبَ، وجذَبتُ بالثوبِ، وتعَلَّقْتُ به، وتعلَّقتُه، و {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]. وإنما
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 332 (1749) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى ابن المنذر.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
هو: تُنبِتُ الدُّهْنَ.
وقال آخرون: الباءُ في قولِه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أصلٌ للكَلِمةِ؛ لأنَّ كلَّ فعلٍ واقعٍ
(1)
كُنِي عنه فهو مُضْطرٌّ إليها، كنحوِ قولِك في رجلٍ كلَّمتَه، فأرَدتَ الكنايةَ عن فعلِه، فإذا أرَدتَ ذلك، قلتَ: فعلتُ به. قالوا؛ فلما كانت الباءُ هي الأصلَ جاز إدخالُ الباءِ وإخراجُها في كلِّ فعلٍ سبيلُه سبيلُ كَلِمَتِه.
وأمّا التَّهْلُكةُ، فإنها التَّفْعُلةُ مِنْ الهلاكِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَأَحْسِنُوا} : أحسِنوا أيُّها المؤمنون في أداءِ ما ألزَمْتُكم مِنْ فرائضي، وتَجَنُّب ما أمَرتُكم بتَجَنُّبِه مِنْ معاصيَّ، وفي
(2)
الإنفاقِ في سبيلي، وعَوْدِ القويِّ فيكم
(3)
على الضعيفِ ذي الخَلَّةِ
(4)
، فإني أُحبُّ المحسنين في ذلك.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا زيدُ بنُ الحُبَابِ، قال: أخبَرَنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن رجلٍ مِنْ الصحابةِ في قولِ اللهِ:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال: أداءُ الفرائضِ
(5)
.
(1)
الفعل الواقع أو المجاوز، هو الفعل المتعدي؛ لأنَّ أثره لم يقتصر على الفاعل، وإنما جاوزه إلى المفعول به، فوقع مدلوله عليه. ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 16، وشرح ابن عقيل 1/ 534، والمصطلح النحوي ص 180.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منكم".
(4)
الخلة: الحاجة والفقر. اللسان (خ ل ل).
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى المصنّف.
وقال بعضُهم: معناه: أحسِنوا الظنَّ باللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: أخبَرَنا حفصُ بنُ عمرَ، عن الحَكَمِ ابنِ أبانٍ، عن عِكْرمةَ:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال: أحسِنوا الظنَّ باللهِ [يَبَرَّ بكم]
(1)
.
وقال آخرون: أحسِنوا بالعَوْدِ على المحتاجِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : عُودُوا على مَن ليس بيدِه شيْءٌ.
[حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: أخبَرَني عبدُ اللهِ بنُ عَيَّاشٍ، قال: قال زيدُ بنُ أسلمَ: قال لِمَن في يدِه فضْلٌ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}]
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: معنى ذلك: أتمُّوا الحجَّ بمناسكِه وسننِه، وأتمُّوا العمرةَ [إلى البيتِ]
(3)
بحدودِها وسننِها.
(1)
في م، ت 1:"يبركم"، وفي، 2:"بتركم"، وفي ت 3:"تبركم".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 333 (1752) من طريق حفص بن عمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: م. وتقدم الأثر بأطول من هذا في ص 318، 319.
(3)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي عبيدُ بنُ إسماعيلَ الهبَّاريُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ نُمَيرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقَمةَ في قولِه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: هي في قراءةَ عبدِ اللهِ: (وأتِمُّوا
(1)
الحجَّ والعمرةَ إلى البيتِ) قال: لا تَجاوَزوا بالعمرةِ البيتَ. قال إبراهيمُ: فذكَرتُ ذلك لسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، فقال: كذلك قال ابنُ عباسٍ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ أنه قرَأ: (وأقِيمُوا
(3)
الحَجَّ والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ)
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقَمةَ أنه قرَأ:(وأتِمُّوا (1) الحَجَّ والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ).
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} يقولُ: مَن أحرَم بحجٍّ أو بعُمرةٍ فليس له أن يَحِلَّ حتى يُتِمَّها، تمامُ الحجِّ يومُ النحرِ، إذا رمَى جمرةَ العقبةِ وزارَ البيتَ، فقد حلَّ مِن إحرامِه كلِّه، وتمامُ العُمرةِ إذا طاف بالبيتِ والصفا والمروةِ، فقد حَلَّ
(5)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أقيموا".
(2)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 163، 164، وسعيد بن منصور في سننه (287 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 133، 134، 249، 280 (القسم الأول من الجزء الرابع)، والطحاوي 2/ 250، 251، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 334، 335، 340، 341 (1759، 1766، 1776، 1787، 1794) من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري.
(3)
في الأصل: "وأتموا".
(4)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 55 من طريق عبد الرحمن به ص 56 من طريق قبيصة عن سفيان به، والقراءة شاذة.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى المصنّف وابن المنذر، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 334.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثني عيسى، وحَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: ما أُمِروا فيهما
(1)
.
حُدِّثْتُ عن عمّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: قال إبراهيمُ، عن عَلْقَمةَ بنِ قَيْسٍ، قال: الحجُّ: مناسكُ الحجِّ، والعمرةُ لا تُجاوِزْ بها البيتَ
(2)
.
حَدَّثَنَا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: تقضى مناسكَ الحجِّ؛ عرفةَ والمزدلِفَةَ ومواطنَها، والعمرةُ للبيتِ [إنما هي تَطَّوَّفُ]
(3)
بالبيتِ وبينَ الصفا والمروةِ ثم تَحِلُّ.
وقال آخرون: تمامُهما أن تُحْرِمَ بهما مفردَينِ من دُوَيرةِ أهلِك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا ابنُ المُثَنَّي، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ سلمةَ، عن عليٍّ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : أن تُحرِمَ مِن دُوَيرةِ أهلِك
(4)
.
حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ، عن عَنْبَسةَ، عن شعبةَ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 224، وتفسير سفيان ص 60، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى عبد بن حميد.
(2)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(3)
في م: "أن يطوف"، وفي، 1، ت 2، ت 3:"أما يطوف".
(4)
أخرجه البغوي في الجعديات (64)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 333 (1755)، والنحاس في ناسخه ص 126، 127، والحاكم 2/ 276، والبيهقي 5/ 30 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي شيبة، وعبد الله بن سلمة صدوق تغير حفظه.
عمرو بنِ مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ سلمةَ، قال: جاء رجلٌ إلى عليٍّ، فقال: أرأيتَ قولَ اللهِ عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: أن تُحرِمَ من دُوَيرَةَ أهلِك.
حَدَّثَنَا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن محمدِ بنِ سُوقةَ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: من تمامِ العُمرةِ أن تُحرِمَ من دُوَيرَةِ أهلِك
(1)
.
حَدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن ثَوْرِ بنِ يزيدَ، عن سليمانَ بنِ موسَي، عن طاوسٍ، قال: تمامُهما إفرادُهما مُؤْتَنَفَيْنِ
(2)
مِن أهلِك.
حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا [أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَينٍ، قال: ثنا]
(3)
سفيانُ، عن ثورٍ، عن سليمانَ بنِ موسَى، عن طاوسٍ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: تُفْرِدُهما مُؤْتَنَفَين
(4)
مِن أهلِك، فذلك تمامُهما
(5)
.
وقال آخرون: تمامُ العُمرةِ أن تُعْمَلَ في غيرِ أشهرِ الحَجِّ، وتمامُ الحجِّ أن يُؤْتَى بمناسِكِه كلِّها حتى لا يَلْزَمَ عاملَه دمٌ بسببِ قِرانٍ ولا مُتعةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: تمامُ العُمرةِ ما كان في غيرِ أشهرِ الحجِّ، وما كان في أشهرِ الحجِّ، ثم أقامَ حتى يَحُجَّ فهي مُتْعةٌ، عليه فيها الهَدْيُ إن وجَدَ، وإلا صامَ
(1)
تفسير سفيان ص 60.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مؤتنفتين". والائتناف والاستئناف بمعنى الابتداء، واستأنفت الشيء: أخذت فيه وابتدأته. المصباح المنير (أ ن ف).
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "موقتتين"، وفي ت 1:"مرتقتين".
(5)
تفسير سفيان ص 60.
ثلاثةَ أيامٍ في الحجِّ، وسبعةً إذا رجَع
(1)
.
حَدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: ما كان في غيرِ أشهرِ الحجِّ فهي عُمرةٌ تامَّةٌ، وما كان في أشهرِ الحجِّ فهي مُتْعةٌ وعليه الهَدْيُ.
حَدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن ابنِ عَونٍ، قال: سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يقولُ: إنَّ العُمرةَ في أشهرِ الحجِّ ليست بتامَّةٍ. قال: فقيل له: العُمرةُ في المُحرَّمِ؟ قال: كانوا يَرَوْنَها تامَّةً
(2)
.
وقال آخرون: إتمامُهما أن تَخْرُجَ مِن أهلِك ولا تُريدُ غيرَهما.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني رجلٌ، عن سفيانَ، قال: هو - يعني تمامَهما - أن تَخْرُجَ مِن أهلِك لا تريدُ إلا الحجَّ والعُمرةَ، وتُهِلَّ مِن الميقاتِ، ليس أن نَخْرُجَ لتجارةٍ ولا لحاجةٍ، حتى إذا كُنْتَ قريبًا مِن مكةَ قلتَ: لو حَجَجْتُ أو اعتَمَرْتُ. وذلك يُجزِئُ، ولكنَّ التَّمامَ أن تَخْرُجَ له لا تَخْرُجُ لغيرِه
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتمُّوا الحَجَّ والعُمرةَ للَّهِ إذا دخَلتم فيهما.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: ليست العُمرةُ واجبةً على أحدٍ مِن الناسِ. قال: فقلتُ له: قولُ اللَّهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 217 عن قتادة.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 46 من طريق ابن عون به مقتصرًا على آخره.
(3)
ذكره النحاس في ناسخه ص 127، والبغوي في تفسيره 1/ 217 مختصرًا.
لِلَّهِ}. قال: ليس مِن الخَلقِ أحدٌ ينبَغي له [إذا دخَلَ]
(1)
في أمرٍ إلا أن يُتِمَّه، فإذا دخَل
(2)
فيها لَمْ يَنْبَغِ له أن يُهِلَّ يومًا أو يومَين ثم يَرْجِعَ، كما لو صامَ يومًا لَمْ يَنْبَغِ له أن يُفْطِرَ في نصفِ النهارِ.
وكان الشعبيُّ يَقْرَأُ ذلك رفعًا
(3)
:
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن شعبةَ، قال: حدَّثني سعيدُ بنُ أبي بُرْدةَ، أن الشعبيَّ وأبا بُرْدةَ تذاكرَا العُمرةَ، قال: فقال الشعبيُّ: تَطوُّعٌ: (وأتموا الحَجَّ والعُمْرةُ للهِ). وقال أبو بُرْدَةَ: هي واجبةٌ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا ابنُ عَونٍ، عن الشعبيِّ أنه كان يَقْرؤُها:(وأتمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةُ لِلَّهِ)
(5)
.
وقد روِي عن الشعبيِّ خلافُ هذا القولِ، وإن كان المشهورُ عنه مِن القولِ هو هذا.
وذلك ما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المِنْهالِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن المُغيرةِ، عن الشعبيِّ، قال: العُمرةُ واجبةٌ
(6)
.
فقراءةُ مَن قال: العُمرةُ واجبةٌ. نَصْبُها بمعنى: أَقِيمُوا فرضَ الحجِّ والعُمرةِ.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في الأصل: "خرج".
(3)
أي برفع التاء في "العمرة"، وهي قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 2/ 72.
(4)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 17 من طريق شعبة به.
(5)
أخرجه أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 68، وسعيد بن منصور في سننه (288 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 220 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 335 (1765)، والبيهقي 4/ 349 من طريق ابن عون به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 209 إلى عبد بن حميد.
(6)
أخرجه ابن حزم في المحلى 7/ 14 من طريق المغيرة به.
كما حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ أبا إسحاقَ يَقُولُ: سمِعتُ مَسروقًا يقولُ: أُمِرْتم في كتابِ اللَّهِ بأربعٍ؛ بإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والحجِّ، والعمرةِ. قال: ثم تلا هذه الآيةَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97](وأتموا الحج والعمرة إلى البيت)
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعْتُ لَيْثًا يَرْوِي عن الحسنِ، عن مَسروقٍ، قال: أُمِرنا بإقامةِ أربعةٍ؛ الصلاةِ، والزكاةِ، والعمرةِ، والحجِّ، فنُزِّلَت العُمرةُ مِن الحجِّ منزلةَ الزكاةِ مِن الصلاةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ بكرٍ، قال: ثنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قال عليُّ بنُ حسينٍ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ، وسئِلا: أواجبةٌ العُمرةُ على الناسِ؟ فكلاهما قال: ما نَعْلَمُها إلا واجبةً، كما قال اللَّهُ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(3)
.
حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ العَنْبريُّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، قال: سأَل رجلٌ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ عن العُمرةِ فريضةٌ هي أم تَطَوُّعٌ؟ قال: فريضةٌ. قال: فإن الشعبيَّ يقولُ: هي تطوُّعٌ. قال: كذَب
(4)
الشعبيُّ. وقرَأ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق - كما في المحلى 7/ 13، والتمهيد 20/ 15 - عن الثوري، عن أبي إسحاق به، وأخرجه ابن عبد البر أيضًا من طريق إسرائيل وأبي الأحوص، عن أبي إسحاق به، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 222 (الجزء الأول من القسم الرابع) عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق به مختصرًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 209 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 15 من طريق أبي إسحاق، عن مسروق.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 221 (الجزء الأول من القسم الرابع) من طريق ابن جريج به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في الأمالي (129)، ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 18 - عن عبد الملك بن أبي سليمان به.
(5)
كذب هنا بمعنى أخطأ. المصباح المنير (ك ذ ب).
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، وعمّن سمِع عطاءً يَقُولُ في قولِه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . قال: هما واجبانِ؛ الحجُّ والعُمرةُ
(1)
.
فتأويلُ هؤلاءِ في قولِه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} في أنهما واجِبانِ: أمَر
(2)
اللَّهُ بإقامتِهما كما أَمر بإقامِ الصلاةِ، وأنهما فريضتان، وأوجَبَ العُمرةَ وجوبَ الحجِّ. وهم عددٌ كثيرٌ مِن الصحابةِ والتابِعين، ومَن بعدَهم مِن الخالفِين كرِهنا تطويلَ الكتابِ بذكرِهم وذكرِ الرواياتِ عنهم. وقالوا: معنى قولِه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : وأَقِيمُوا الحَجَّ والعُمرةَ.
ذكرُ بعضِ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسَى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . يقولُ: أقِيموا الحجَّ والعُمرةَ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ثُوَيرٍ، عن أبيه، عن عليٍّ:(وأقيمُوا الحجَّ والعُمْرَةَ للبيْتِ): ثم هي واجبةٌ مِثلُ الحجِّ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ثُويرٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ:(وَأَقيمُوا الحجَّ والْعُمْرَةَ إلى الْبَيْتِ). ثم قال عبدُ اللَّهِ: لولا التَّحَرُّجُ وأني لم أَسْمَعْ مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا، لقُلتُ: إن العُمرةَ واجبةٌ مثلُ الحجِّ
(5)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 74.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 334 (1757) من طريق عمرو به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 208 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(5)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 55، 56 من طريق أبي نعيم به، وأخرجه البيهقي 4/ 351 من =
وكأنهم عَنَوا بقولِهم: (وأقيموا الحجَّ والعُمرةَ): ائْتوا بهما بحدودِهما وأحكامِهما على ما فُرِضَ عليكم.
وقال آخرون ممن قرَأ قراءةَ هؤلاءِ بنصبِ العُمرةِ: العُمرةُ تطوُّعٌ. ورأوْا أنه لا دَلالةَ على وُجوبِها في نصبِهم العُمرةَ في القراءةِ، إذ كان مِن الأعمالِ ما قد يَلْزَمُ العبدَ عملُه، وإتمامُه بدخولِه فيه، ولم يَكُنِ ابتداءُ الدخولِ فيه فرضًا عليه، وذلك كالحَجِّ التطوُّعِ، لا خلافَ بين الجميعِ فيه أنه إذا أحرَم به أنَّ عليه المُضِيَّ فيه وإتمامَه، ولم يكنْ فرضًا عليه ابتداءُ الدخولِ فيه. وقالوا: فكذلك العُمرةُ غيرُ فرضٍ واجبٍ الدخولُ فيها ابتداءً، غيرَ أنَّ على مَن دخَل فيها وأوجَبها على نفسِه إتمامَها بعدَ الدخولِ فيها.
قالوا: ليس في أمرِ اللَّهِ بإتمامِ الحجِّ والعمرةِ دَلالةٌ على وجوبِ فرضِهِما
(1)
.
قالوا: وإنما أوجَبنا فَرْضَ الحَجِّ بقولِ اللَّهِ تعالى ذِكرُه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وممن قال ذلك جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعين ومَن بعدَهم مِن الخالِفين.
ذكرُ بعضِ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ أبي عَروبةَ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن إبراهيمَ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: الحجُّ فريضةٌ، والعُمرةُ تطوُّعٌ
(2)
.
= طريق إسرائيل به. وعزاه السيوطي في الدر 1/ 209 إلى عبد بن حميد. وثوير بن أبي فاختة ضعيف.
(1)
في م: "فرضها".
(2)
أخرجه عبد الرزاق - كما في التمهيد 20/ 18 - وابن أبي شيبة ص 220 (الجزء الأول من القسم =
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ أبي عَروبةَ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن النَّخَعِيِّ، عن ابنِ مسعودٍ مثلَه.
وحدَّثنا ابنُ بَشارٍ، قال: ثنا ابنُ عَثْمَةَ، قال: ثنا سعيدُ بنُ بَشيرٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: العُمرةُ ليستْ بواجبةٍ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن سماكٍ
(1)
، قال: سألتُ إبراهيمَ عن العُمرةِ فقال: سنةٌ حسنةٌ
(2)
.
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سُفيانُ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا الحَجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عَونٍ، عن الشَّعبيِّ، قال: العُمرةُ تطوُّعٌ
(3)
.
فأما الذين قرَءوا ذلك برفعِ "العُمرةِ"، فإنَّهم قالوا: لا وَجْهَ لنصبِها؛ لأنَّ العُمرةَ إنما هي زيارةُ البيتِ، ولا يكونُ مستحِقًّا اسمَ مُعْتَمِرٍ إلا وهو له زائِرٌ. قالوا: وإذا كان لا يَسْتَحِقُّ اسمَ مُعْتَمِرٍ إلا بزيارتِه - وهو متى
= الرابع) من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 209 إلى عبد بن حميد.
(1)
في الأصل: "شباك". وينظر تهذيب الكمال 12/ 115.
(2)
أخرجه عبد الرزاق - كما في التمهيد 20/ 19 من طريق الثوري عن سماك به.
(3)
تقدم تخريجه في ص 332.
بلَغه فطاف به وبالصفا والمروةِ، فلا عَملَ يبقى بعدَه يُؤمَرُ بإتمامِه بعدَ ذلك، كما يُؤمَرُ الحاجُّ بعدَ بُلوغِه والطوافِ به وبالصفا والمروةِ بإتيانِ عرفةَ والمُزدَلِفةِ، والوقوفِ بالمواضعِ التي أُمِر بالوقوفِ بها، وعَمَلِ سائِرِ أعمالِ الحجِّ الذي هو مِن تمامِه بعدَ إتيانِ البيتِ - لم يكنْ لِقولِ القائلِ للمعتمرِ: أَتِمَّ عُمرتَك. وجهٌ مفهومٌ. قالوا
(1)
: وإذا لم يَكُنْ له وَجْهٌ مفهومٌ، فالصوابُ مِن القراءةِ في "العُمرةِ" بالرفعِ على أنها
(2)
من أعمالِ البرِّ للَّهِ، فتكونُ مَرفوعةً بخبرِها الذي بعدَها، وهو قولُه:{لِلَّهِ} .
وأَوْلى القِراءَتين بالصوابِ في ذلك عندَنا قراءةُ مَن قرَأ بنصبِ "العُمرةِ" على العطفِ بها على "الحجِّ"، بمعنى الأمرِ [بإتْمامِها للَّهِ]
(3)
، ولا معنى لاعتلالِ من اعتَلَّ في رفعِها بأنَّ العمرةَ زيارةُ البيتِ، وأن
(4)
المُعْتَمِرَ متى بلَغه فلا عمَل بقِي عليه يؤمَرُ بإتمامِه؛ وذلك أنه إذا بلَغ البيتَ، فقد انْقَضَتْ زيارتُه وبقِي عليه تمامُ العمَلِ الذي أمَره اللَّهُ به في اعتمارِه وزيارتِه البيتَ، وذلك هو الطوافُ بالبيتِ، والسعيُ بينَ الصفا والمروةِ، وتَجَنُّبُ ما أمَر اللَّهُ بتَجَنُّبِه إلى إتمامِه ذلك. وذلك عمَلٌ - وإن كان مما لزِمه بإيجابِه
(5)
الزيارةَ على نفسِه - غيرُ الزيارةِ. هذا، مع إجماعِ الحجةِ على قراءةِ "العمرةِ" بالنصبِ، ومخالفةِ جمبعِ قرأةِ الأمصارِ قراءةَ مَن قرَأ ذلك بالرفعِ، ففي ذلك مُسْتَغْنًى عن الاستشهادِ على خطإِ قِراءةِ
(6)
مَن قرَأ ذلك رفعًا.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنه".
(3)
في م: "بإتمامهما له".
(4)
في م: "فإن".
(5)
في م، ت 2:"بإيجاب".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
وأما أَولى القولين اللذين ذكَرنا بالصوابِ في تأويلِ قولِه: {وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} على قراءةِ مَن قرَأ ذلك نصبًا، فقولُ عبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ ومَن قال بقولِه، من أن معنى ذلك: وأتموا الحجَّ والعمرةَ للَّهِ إلى البيتِ بعدَ إيجابِكم إياهما. لا أنَّ ذلك أمرٌ مِن اللَّهِ بابتداءِ عملِهما والدخولِ فيهما وأداءِ عملِهما بتمامِه بهذه الآيةِ؛ وذلك أن الآيةَ مُحْتَمِلةٌ المعنيين اللذين وصَفنا؛ من أن يكون أمرًا مِن اللَّهِ بإقامتِهما بتَمامِهما
(1)
ابتداءً، وإيجابًا منه على العبادِ فرضَهما. وأن يكونَ أمرًا منه بإتمامِهما بعد الدخولِ فيهما، وبعد إيجابِ موجبِهما على نفسِه. فإذا كانت الآيةُ مُحْتَمِلةً المعنيين اللذين وصَفنا، فلا حجةَ فيها لأحدِ الفريقين على الآخَرِ، إلا وللآخَرِ عليه فيها مثلُها. وإذا كان ذلك
(1)
كذلك ولم يكنْ بإيجابِ فرضِ العُمرةِ خبرٌ عن الحجةِ للعذرِ قاطعًا، وكانت الأمةُ في وجوبِها متنازعةً، لم يكنْ لقولِ قائلٍ: هي فرضٌ. بغيرِ برهانٍ دالٍّ على صحةِ قولِه - معنًى، إذ كانت الفروضُ لا تَلْزَمُ العبادَ إلا بدلالةٍ على لزومِها إياهم واضحةٍ.
فإن ظنَّ ظانٌّ أنها واجبةٌ وُجوبَ الحجِّ، وأنَّ تأويلَ مَن تأوَّل قولَه:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . بمعنى: أقِيمُوا حدودَهما وفُروضَهما. أولى مِن تأويلِنا، لما
(2)
حدَّثني به حاتمُ بنُ بكرٍ
(3)
الضبيُّ، قال: ثنا أشهلُ بنُ حاتمٍ الأرطبانيُّ
(4)
، قال: ثنا ابنُ عونٍ، عن محمدِ بنِ جُحادةَ، عن رجلٍ، عن زميلٍ له، عن أبيه - وكان أبوه يُكنَى أبا المُنْتَفِقِ - قال: أتَيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعرفةَ، فدنَوتُ منه، حتى اختلَفَت عنقُ راحِلَتي
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما".
(3)
في م، ت 2:"بكير". وينظر تهذيب الكمال 5/ 191.
(4)
في م: "الأرطبائي".
وعنقُ راحلتِه، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أنْبِئْني بعملٍ يُنْجِيني مِن عذابِ اللَّهِ ويُدْخِلُني جنتَه؟ قال:"اعْبُدِ اللَّهَ ولَا تُشْرِكْ به شيئًا، وأقمِ الصلاةَ المكتوبةَ، وأدِّ الزكاةَ المفروضةَ، وحُجَّ واعْتَمِرْ" - قال أشهلُ: وأظنُّه قال: "وصُمْ رمضانَ" - "وانْظُرْ ما تُحِبُّ مِن الناسِ أن يَأْتُوه إليك فافْعَلْه بهم، وما تَكْرَهُ مِن الناسِ أن يَأْتُوه إليك فذَرْهُم منه"
(1)
.
وما حدَّثني به يعقوبُ بنُ إبراهيمَ
(2)
، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ ومحمدُ بنُ أبي عديٍّ، عن شعبةَ، عن النعمانِ بنِ سالمٍ، عن عمرِو بنِ أوسٍ، عن أبي رَزينٍ العُقَيليِّ، رجلٍ مِن بني عامرٍ، قال: قلت يا رسولَ اللَّهِ، إن أبي شيخٌ كبيرٌ لا يَسْتَطِيعُ الحجَّ ولا العُمرةَ ولا الظَّعْنَ، وقد أدرَكَه الإسلامُ، أفأَحُجُّ عنه؟ قال:"حُجَّ عن أبيك واعْتَمِرْ"
(3)
.
وما حدَّثني به يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن أبي قِلابةَ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خطَب فقال:"اعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا بِهِ شيئًا، وأقِيمُوا الصلاةَ، وآتُوا الزكاةَ، وحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، واسْتَقِيموا يَسْتَقِم لكم"
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1696) - ومن طريقه ابن الأثير في أسد الغابة 6/ 302 والطبراني في الكبير 19/ 210 (474) - من طريق ابن عون به، وقال الطبراني: اضطرب ابن عون في إسناد هذا الحديث، ولم يضبطه عن محمد بن جحادة، وضبطه همام. ورواية همام أخرجها أحمد 6/ 383 (الميمنية) - والطبراني في الكبير 19/ 209 (473) - من طريقه عن محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه عن ابن المنتفق. وينظر الإصابة 7/ 386.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال: ثنا ابن إبراهيم". وينظر تهذيب الكمال 17/ 430، 32/ 311.
(3)
أخرجه أحمد 26/ 103، 110، 117 (16184، 16185، 16190، 16199)، وأبو داود (1810)، والترمذي (930)، والنسائي (2620، 2636)، وابن ماجه (2906). وابن خزيمة (3040) عن شعبة به. وينظر مسند الطيالسي (1187).
(4)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1031)، وعبد الرزاق في تفسيره 1/ 192 من طريق أيوب به مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 307، 308 إلى ابن المنذر.
وما أشبَهَ ذلك مِن الأخبارِ. فإنَّ هذه أخبارٌ لا يَثْبُتُ بمثلِها في الدينِ حُجَّةٌ لوَهْيِ أسانيدِها، وأنها مع وَهْيِ أسانيدِها لها مِن
(1)
الأخبارِ أشكالٌ تُنْبئُ عن أنَّ العُمرةَ تَطَوُّعٌ، لا فرضٌ واجبٌ.
وهو ما حدَّثنا به محمدُ بنُ حُمَيدٍ ومحمدُ بن عيسى الدَّامَغانيُّ، قالا: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ المُبَارَكِ، عن الحَجَّاجِ بنِ أرْطاةَ، عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن العُمرةِ أواجبةٌ هي؟، فقال:"لا، وأن تَعْتَمِروا خيرٌ لكم"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حَمْيدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، وحدَّثني يحيى بنُ طَلْحَةَ اليربوعِيُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن مُعاويةَ بنِ إسحاقَ، عن أبي صالحٍ الحنفيِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الحَجُّ جهادٌ، والعُمرةُ تَطَوُّعٌ"
(3)
.
وقد زعَم بعضُ أهلِ الغباءِ أنه قد صَحَّ عندَه أنَّ العُمرةَ واجبةٌ؛ بأنه لم يَجِدْ تَطَوُّعًا إلا وله إمامٌ مِن المكتوبةِ، فلما صَحَّ أن [للعُمْرَةِ تَطَوُّعًا]
(4)
وجَب أن يَكُونَ لها فرضٌ؛ لأن الفرضَ إمامُ التطوُّعِ في جميعِ الأعمالِ.
فيقالُ لقائلِ ذلك: قد جُعِل للاعتكافِ
(5)
تطوُّعٌ، فما الفرضُ منه
(6)
الذي هو
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(2)
أخرجه أحمد 3/ 316، 357، 22/ 290، 23/ 138 (14397، 14845)، والترمذي (931)، وابن خزيمة (3068) من طريق الحجاج به نحوه.
(3)
أخرجه الشافعي في الأم 2/ 113، وفي المسند 1/ 483 - ومن طريقه البيهقي 4/ 348، وفي المعرفة 3/ 502 - ، من طريق معاوية بن إسحاق به، وروى موصولًا من حديث طلحة بن عبيد الله وأبي هريرة، وينظر نصب الراية 3/ 149، 150.
(4)
في م، ت:"العمرة تطوع".
(5)
في م: "الاعتكاف".
(6)
سقط من: م، ت 3.
إمامُ تَطوُّعِه
(1)
؟ ثم يُسْأَلُ عن الاعتكافِ أواجبٌ هو أم غيرُ واجبٍ؟ فإن قال: واجبٌ. خرَج مِن قولِ جميعِ الأمةِ. وإن قال: تَطَوُّعٌ. قيل: فما الذي أوجَب أن يكونَ الاعتِكافُ تَطَوُّعًا والعُمرةُ فرضًا مِن الوجهِ الذي يَجِبُ التسليمُ له؟ فلن يَقُولَ في أحدِهما قَولًا
(2)
إلا أُلزِم في الآخَرِ مِثلَه.
[وبما اسْتَشْهَدْنا مِن الأدلَّةِ، فإنَّ]
(3)
أولى القراءَتين بالصوابِ في "العُمرةِ" قراءةُ مَن قرَأها نصبًا. وأن أولى التأويلين في قولِه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . تأويلُ ابنِ عباسٍ الذي ذكَرناه عنه مِن روايةِ عليِّ بنِ أبي طلحةَ عنه، مِن أنه أمْرٌ مِن اللَّهِ جلّ ثناؤُه بإتمامِ أعمالِهما بعدَ الدخولِ فيهما وإيجابِهما، على ما أَمَر به مِن حدودِهما وسُنَنِهما. وأنَّ أولى القولين في العُمرةِ بالصوابِ قولُ مِن قال: هي تَطَوُّعٌ لا فرضٌ. وأنَّ معنى الآيةِ: وأتمُّوا أيُّها المؤمنون الحجَّ والعمرةَ للَّهِ بعدَ دخولِكم فيهما وإيجابِكموهما على أنفسِكم على ما أمَركم اللَّهُ به مِن حدودِهما.
وإنما أنزَل اللَّهُ تبارك وتعالى هذه الآيةَ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم في عمرةِ الحُدَيْبِيَةِ التي صُدَّ فيها عن البيتِ، [مُعَرِّفَه والمؤمنين]
(4)
فيها ما عليهم في إحرامِهم إن خُلِّيَ بينَهم وبينَ البيتِ، ومبيِّنًا لهم فيها ما المَخرجُ لهم مِن إحرامِهم إن أُحْصِروا
(5)
فصُدُّوا عن البيتِ، وبذكرِ اللازمِ لهم مِن الأعمالِ في عُمْرَتِهم التي اعْتَمَرُوها عامَ الحُديبيةِ وما يَلْزَمُهم فيها بعدَ ذلك في عُمَرِهم وحجِّهم افتَتَح قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
(1)
في م، ت 1:"متطوعه"
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شيئًا".
(3)
في الأصل: "وإنما استشهدنا من الأدلة بأن".
(4)
في م: "معرفة المؤمنين"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"والمؤمنون".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أحرموا".
وقد دلَّلنا فيما مضى على معنى "الحجِّ" و"العمرةِ" بشواهدِ ذلك، فكرِهْنا تطويلَ الكتابِ بإعادتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في "الإحصارِ" الذي جعَل اللَّهُ على مَن ابتُلِي به في حجِّه وعُمرتِه ما اسْتَيْسَر مِن الهديِ؛ فقال بعضُهم: هو كلُّ مانعٍ و
(1)
حابسٍ منَع المحرِمَ وحبَسه عن العملِ الذي فرَضه اللَّهُ عليه في إحرامِه ووصولِه إلى البيتِ الحرامِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ أنه كان يقولُ: الحَصْرُ الحبسُ كلُّه. يقولُ: أيُّما رجلٍ اعتُرِض له في حجتِه أو عمرتِه فإنه يَبْعَثُ بهديِه مِن حيثُ يُحْبَسُ. قال: وقال مجاهدٌ في قولِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : فإن أحصِرتُم: يَمْرَضُ إنسانٌ أو يُكْسَرُ أو يَحْبِسُه أمرٌ فغَلَبَه، كائنًا ما كان، فلْيُرْسِلْ بما اسْتَيْسَرَ مِن الهَديِ، ولا يَحْلِقْ رأسَه، ولا يَحِلَّ حتى يومِ النحرِ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ
(1)
في م: "أو".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 213 إلى المصنف مقتصرًا على أوله، والشطر الأخير منه في تفسير مجاهد ص 224، 225.
جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: الإحصارُ مِن
(1)
كلِّ شيءٍ يَحْبِسُه
(2)
.
وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ أنه قال في المُحصَرِ: هو الخوفُ والمرضُ والحابسُ، إذا أصابه ذلك بَعث بهديِه، فإذا بلَغَ الهَدْيُ مَحِلَّه حَلَّ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: نا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : هذا رجلٌ أصابه خوفٌ أو مرضٌ أو حابسٌ حبَسه عن البيتِ، يَبْعَثُ بهَدْيِه، فإذا بلَغ مَحِلَّه صار حلالًا.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، قال: كلُّ شيءٍ حبَس المُحرِمَ فهو إحصارٌ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن إبراهيمَ - قال أبو جعفرٍ: أحسَبُه عن شريكٍ، عن إبراهيمَ بنِ المهاجرِ، عن إبراهيمَ:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} . قال: مرضٌ أو كَسْرٌ أو خَوْفٌ
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . يَقُولُ: مَن أحرَم بحجٍّ أو بعُمرةٍ، ثم حُبِس عن البيتِ بمرضٍ يُجْهِدُه، أو عذرٍ يَحْبِسُه، فعليه
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
أخرجه عبد بن حميد في تفسيره - كما في تغليق التعليق 3/ 122 - عن أبي نعيم به، وهو في تفسير سفيان ص 61.
(3)
سيأتي مطولا في ص 414.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 206 (الجزء الأول من القسم الرابع) عن أبي معاوية به.
(5)
تفسير سفيان ص 61 عن إبراهيم بن المهاجر به.
قضاؤُها
(1)
.
وعِلَّةُ مَن قال بهذه المقالةِ أن الإحصارَ معناه في كلامِ العربِ منعُ العِلةِ من المرضِ وأشباهِه غيرِ القهرِ والغلبةِ من قاهرٍ أو غالبٍ، إلا غلبةَ علةٍ من مرضٍ أو لدغٍ أو جِراحٍ، أو ذَهابِ نفقةٍ، أو كسرِ راحلةٍ. فأما منعُ العدوِّ، وحبسُ حابسٍ في سجنٍ، وغلبةُ غالبٍ حائلٍ بينَ المحرمِ والوصولِ إلى البيتِ من سلطانٍ أو إنسانٍ قاهرٍ مانعٍ، فإن ذلك إنما تُسَمِّيه العربُ حصْرًا لا إحصارًا.
قالوا: ومما يَدُلُّ على ذلك قولُ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]. يعني به: حاصرًا، أي: حابسًا.
قالوا: ولو كان حبسُ القاهرِ الغالبِ مِن غيرِ العللِ التي وصَفنا يُسَمَّى إحصارًا، لوجَب أن يُقالَ: قد أُحْصِرَ العدوُّ. قالوا: وفي اجتماعِ
(2)
لغاتِ العربِ على: حوصِر العدوُّ، والعدوُّ محاصَرٌ، دون: أُحْصِر العدوُّ، فهم
(3)
مُحصَرون، وأُحصِر الرجلُ بالعلةِ من المرضِ والخوفِ - أكبرُ الدَّلالةِ على أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه إنما عنَى بقولِه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : بمرضٍ أو خوفٍ أو علةٍ مانعةٍ.
قالوا: وإنما جعَلْنا حبْسَ العدوِّ ومنعَه المُحرمَ مِن الوصولِ إلى البيت بمعنى حَصْرِ المرضِ، قياسًا على ما جعَل اللَّهُ جلَّ ثناؤُه من ذلك للمريضِ الذي منعَه المرضُ من الوُصولِ إلى البيتِ، لا بدَلالةِ ظاهرِ قولِه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . إذ كان حبسُ العدوِّ والسلطانِ والقاهرِ عِلَّةً مانعةً، نظيرةَ العلةِ المانعةِ مِن المرضِ
(1)
أخرجه البيهقي في المعرفة 4/ 241، من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 212 إلى ابن المنذر.
(2)
في الأصل: "إجماع".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وهم".
والكَسْرِ.
وقال آخرون: معنى قولِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : فإن حبَسكم عدوٌّ عن الوُصولِ إلى البيتِ، أو حابسٌ قاهرٌ مِن بني آدمَ. قالوا: فأما العللُ العارضةُ في الأبدانِ؛ كالمرضِ والجراحِ وما أشبَهها، فإن ذلك غيرُ داخلٍ في قولِه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} .
ذِكرُ مَنْ قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثني عيسي، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال: الحَصْرُ حَصْرُ العدوِّ، فَيَبْعَثُ الرجلُ بهَدْيَتِه، فإن كان لا يَسْتَطِيعُ أن يَصِلَ إلى البيتِ مِن العدوِّ، فإن وجَدَ مَن يُبَلِّغُها عنه إلى مكةَ، فإنه يَبْعَثُ بها ويُحْرِمُ - قال محمدُ بنُ عمرٍو: قال أبو عاصِمٍ: لا ندري، قال: يُحْرِمُ أو يَحِلُّ - مِن يومِ يُواعِدُ فيه صاحبَ الهَدْيِ إذا اشترى، فإذا أمِن فعليه أن يَحُجَّ و
(1)
يَعْتَمِرَ، فإذا أصابه مَرَضٌ يَحْبِسُه وليس معه هَدْيٌ، فإنه يَحِلُّ حيثُ يُحْبَسُ، فإن كان معه هَدْيٌ فلا يَحِلُّ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، فإذا بعَث به فليس عليه أن يَحُجَّ قابِلًا، ولا يَعْتَمِرَ إلا أن يَشاءَ
(2)
.
حدِّثتُ عن أبي عبيدٍ القاسمِ بنِ سَلَّامٍ، قال: ثنى يحيى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا حصْرَ إلا من حبْسِ عدوٍّ
(3)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أو".
(2)
تفسير مجاهد ص 226، وأخرجه إسحاق بن راهويه في تفسيره - كما في تغليق التعليق 3/ 122 - بن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد - وحده - به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 205 (الجزء الأول من القسم الرابع) عن يحيى بن سعيد به، ووقع فيه:"عذر" بدلًا من: "عدو".
حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيعِ الرازيُّ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن ابن عباسٍ، وابنِ طاوُسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، وابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الحَصْرُ حَصْرُ العدوِّ، فأما مَن أصابه مرضٌ أو ضلالٌ أو كَسْرٌ، فلا شيءَ عليه، إنما قال اللَّهُ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . فلا يكونُ الأمنُ إلا مِن الخوفِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَ حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي عاصمٍ، إلا أنه قال: يَبْعَثُ بها ويُحْرِمُ مِن يومِ واعَد فيه صاحبَ الهَدْيَةِ إذا اشْتَرَى. ثم ذكَر سائرَ الحديثِ مثلَ حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي عاصمٍ.
وقال مالكُ بنُ أنسٍ
(1)
: بلغني أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حلَّ هو وأصحابُه بالحُدَيْبِيَةِ، فنَحَرُوا الهَدْيَ، وحلَقوا رُءوسَهم، وحلُّوا مِن كلِّ شيءٍ قبلَ أن يَطُوفُوا بالبيتِ، وقبلَ أن يَصِلَ إليه الهَدْيُ، ثم لم نَعْلَمْ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمَر أحدًا مِن أصحابِه ولا ممن كان معه أن يَقْضُوا شيئًا، ولا أن يَعُودوا لشيءٍ.
حدَّثني بذلك يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ عنه.
قال: وسئل مالكٌ عمَّن أُحصِر بعدوٍّ وحيلَ بينَه وبينَ البيتِ؟ فقال: يَحِلُّ مِن كلِّ شيءٍ، ويَنْحَرُ هَدْيَه، ويَحْلِقُ رأسَه حيثُ حُبِسَ
(2)
، وليس عليه قضاءٌ، إلا أن يَكُونَ لم يَحُجَّ قَطُّ، فعليه أن يَحُجَّ حَجَّةَ الإسلامِ. قال: والأمرُ عندَنا في من أُحْصِر بغيرِ عدوٍّ، بمرضٍ أو ما أشبَهَه، أن يَتَداوَى
(3)
بما لا بدَّ له
(4)
، ويَفْتَدِيَ، ثم
(1)
الموطأ برواية يحيى 1/ 360، وهو في رواية أبي مصعب 1/ 460.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يحبس".
(3)
في م، ت 2، ت 3:"يبدأ".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منه".
يَجْعَلَها عُمْرةً، ويحجَّ عامًا قابَلا ويُهْدِيَ
(1)
.
وعِلَّةُ مَن قال هذه المقالةَ - أَعْنِي مَن قال قولَ مالكٍ - أَنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ في حَصْرِ المشركينَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عن البيتِ، فأمَر اللَّهُ جل ثناؤُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ومَن معه بنَحْرِ هداياهم والإحلالِ. قالوا: فإنما أنزَل اللَّهُ هذه الآيةَ في حصرِ العدوِّ، فلا يَجُوزُ أن يُصْرَفَ حُكْمُها إلى غيرِ المعنى الذي نَزَلت فيه. قالوا: وأما المريضُ فإنه إذا لم يُطِقْ لمرضِه السيرَ حتى فاتَتْه عرفةُ، فإنما هو رجلٌ فاتَه الحَجُّ، عليه الخُروجُ مِن إحرامِه بما يَخْرُجُ به مَن فاته الحَجُّ، وليس مِن مَعْنى المحصَرِ الذي نزَلت هذه الآيةُ [فيه في شيءٍ]
(2)
.
وأولى التأويلين بالصوابِ في قولِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} تأويلُ مَن تأوَّلَه بمعنى: فإن أحصَرَكم خوفُ عدوٍّ أو مرضٌ أو علةٌ عن الوُصولِ إلى البيتِ، أي: صيَّرَكم خوفُكم أو مرضُكم تَحْصُرون أنَفُسَكم فتَحْبِسُونها عن النُّفوذِ لِما أوْجَبْتُموه على أنْفُسِكم مِن عملِ الحجِّ والعمرةِ؛ فلذلك قيل: {أُحْصِرْتُمْ} . لمّا أسقَط ذكرَ الخوفِ والمرضِ، يقالُ منه: أحصَرني خَوْفي مِن فلانٍ عن لقائِك، ومَرَضي عن فُلانٍ. يرادُ به: جَعَلَني أَحْبِسُ نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابسُ الرجلَ والإنسانَ، قيل: حصَرني فلانٌ عن لقائِك. بمعنى: حبَسني عنه. فلو كان معنى الآيةِ ما ظنَّه المتأوّلُ مِن قولِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : فإن حبَسكم حابسٌ مِن العدوِّ عن الوُصولِ إلى البيتِ. لوجَب أن يكونَ: فإن حصِرتم.
ومما يُبَينُ صحةَ ما قلناه مِن أن تأويلَ الآيةِ مرادٌ بها إحصارُ غيرِ العدوِّ، وأنه إنما يُرادُ بها الخوفُ مِن العدوِّ قولُه:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . والأمنُ إنما يكونُ بزَوالِ الخوفِ: وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الإحصارَ الذي عنَى اللَّهُ في هذه الآيةِ هو الخوفُ الذي يكونُ بزوالِه الأمنُ.
(1)
ينظر الموطأ 1/ 461 برواية أبي مصعب.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في شأنه".
وإذ كان ذلك كذلك، لم يَكُنْ حَبْسُ الحابسِ الذي ليس مع حَبْسِه خوفٌ على النفسِ من حَبْسِه داخلًا في حكمِ الآيةِ بظاهرِها المتلوِّ، وإن كان قد يُلحقُ حُكْمُه عندَنا بحكمِه مِن وجهِ القياسِ مِن أجلِ أن حَبْسَ مَن لا خوفَ على النفسِ مِن حَبسِه - كالسلطانِ غيرِ المَخُوفةِ عقوبتُه، والوالدِ وزوجِ المرأةِ، وإن كان منهم أو مِن بعضِهم حبسٌ، ومَنْعٌ عن الشخوصِ لعملِ الحجِّ، أو الوُصولِ إلى البيتِ بعدَ إيجابِ الممنوعِ الإحرامَ
(1)
- غيرُ داخلٍ في ظاهرِ قولِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} . لِما وصَفنا مِن أن معناه: فإن أحصَركم خوفُ عدوٍّ. بدَلالةِ قولِه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . وقد بَيَّنَ الخبرُ الذي ذكَرناه آنفًا عن ابنِ عباسٍ أنه قال: الحصرُ حصرُ العدوِّ.
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآيةِ لِما وصَفنا، وكان ذلك منعًا مِن الوُصولِ إلى البيتِ، فكلُّ مانعٍ عرَضَ للمحرمِ فصدَّه عن الوُصولِ إلى البيتِ، فهو نظيرٌ له في الحُكمِ.
ثم اختلَف أهلُ العلمِ في تأويلِ قولِه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؛ فقال بعضُهم: هو شاةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ القَنّادُ، قال: أخبَرَنا إسحاقُ الأزرقُ، عن يونسَ بنِ أبي إسحاقَ السَّبيعيِّ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ
(2)
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (311 - تفسير) - ومن طريقه البيهقي 5/ 228 - عن هشيم، عن يونس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: من الأزواج الثمانية. وأخرجه سعيد أيضًا (316 - تفسير) من طريق خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: شاة.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، وحدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرَنا إسحاقُ، قالا: ثنا سفيانُ، عن حبيب، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ شاةٌ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، [عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : شاةٌ.
حدَّثنا ابنُ المُثَنّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يزيدَ بنِ أبي زِيادٍ]
(2)
، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثني ابنُ المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن النعمانِ بنِ مالكٍ، قال: تَمَتَّعتُ فسألتُ ابنَ عباسٍ، فقال: ما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ. قال: قلتُ: شاةٌ؟ قال: شاةٌ
(3)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: أخبَرَنا إسحاقُ، عن شَريكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن النعمانِ بنِ مالكٍ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ؟ قال: مِن الأزواجِ الثمانيةِ؛ مِن الإبلِ والبقرِ والمَعْزِ والضَّأْنِ
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا هُشَيمٌ، قال: الزهريُّ أخبَرَنا - وسُئل عن قولِ اللَّهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} - قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: مِن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 336 (1770) من طريق سفيان به.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 93 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق أبي إسحاق به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 336 (1771) من طريق إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 213 إلى وكيع وعبد بن حميد.
الغنمِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ أبي إسحاقَ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ مِن الأزواجِ الثمانيةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا خالدٌ، قال: قيل للأشعثِ: ما قولُ الحسنِ فيما
(3)
اسْتَيْسر من الهديِ؟ فقال: شاةٌ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا سعيدٌ
(5)
، عن قتادةَ، قال: أعلاه بَدَنَةٌ، وأوسَطُه بقرةٌ، وأخَسُّه شاةٌ.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ مثلَه، إلا أنه قال
(6)
: كان يقالُ: أعلاه بَدَنَةٌ. ثم ذكَر سائرَ الحديثِ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادةَ، عن زُرارةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما
(7)
اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهّابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن أبي جمرةَ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(8)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن عطاءٍ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (317 - تفسير) عن هشيم به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (311 - تفسير) من طريق يونس بن أبي إسحاق به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فما".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (305 - تفسير) عن يونس ومنصور، عن الحسن به.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"شعبة"، وفي ت 1:"معبد".
(6)
سقط من: م، ت 3.
(7)
في م: "فما"
(8)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (318 - تفسير) من طريق أبي جمرة به نحوه.
مِنَ الْهَدْيِ}: شاةٌ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ يَمانٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ نُفَيعٍ
(2)
، عن عطاءٍ مثلَه.
حدَّثنا موسَى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: المُحصَرُ يَبْعثُ بشاةٍ
(3)
فما فوقَه
(4)
.
حدَّثني عبيدُ بنُ إسماعيلَ الهبَّاريُّ، قال: ثنا ابنُ نُميرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ، قال: إذا أهَلَّ الرجلُ بالحجِّ فأُحصِرَ، بعَث بما استيسَر مِن الهَدْيِ؛ شاةٍ. قال: فذكَرتُ ذلك لسعيدِ بنِ جُبيرٍ، فقال: كذلك قال ابنُ عباسٍ
(5)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ: ما استيسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ فما فوقَها.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، وحدَّثنا المثنَّى، قال: ثنا آدمُ العَسْقلانيُّ، عن شعبةَ، قال: ثنا أبو جَمْرةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما استيْسَر مِن الهَدْيِ جَزُورٌ أو بقرةٌ أو شاةٌ أو شِرْكٌ في دمٍ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: سمِعتُ يحيى بنَ سعيدٍ، قال:
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (304 - تفسير) من طريق حجاج، عن عطاء.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"نقيع"، وغير منقوطة في الأصل. وينظر الجرح والتعديل 8/ 110.
(3)
كذا في الأصل، وكتب فوقها:"بهدى"، وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"بهدى شاة".
(4)
في م: "فوقها".
(5)
تقدم أوله في ص 328.
(6)
أخرجه البخاري (1688) - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 7/ 204 - من طريق شعبة به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (319 - تفسير) من طريق أبي جمرة به.
سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يقولُ: إنّ ابنَ عباسٍ كان يَرَى أن الشاةَ ما استيْسَر مِن الهَدْيِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن مُغِيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، عن خالدٍ الحذَّاءِ، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال: ما استيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: شاةٌ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن دَلْهَمِ بنِ صالحٍ، قال: سَأَلتُ أبا جعفرٍ عن قولِه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . فقال: شاةٌ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، أن مالكَ بنَ أنسٍ حدَّثه عن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، أن عليَّ بنَ أبي طالبٍ كان يقولُ: ما استَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مُطرِّفُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: ثنا مالكُ بنُ أنسٍ، عن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن عليٍّ مثلَه
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 98 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وسعيد بن منصور في سننه (298 - تفسير) من طريق يحيى بن سعيد نحوه، وأخرجه البيهقي 5/ 24 من طريق موسى بن عقبة عن القاسم به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (306، 309 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 93 (الجزء الأول من القسم الرابع) من طريق مغيرة به.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (302 - تفسير) من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 336 عقب الأثر (1770) معلقا، ودلهم بن صالح ضعيف.
(5)
الموطأ 1/ 385، ومن طريقه البيهقي 5/ 24، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (301 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 94 (الجزء الأول من القسم الرابع)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 336 (1769) من طرق عن جعفر به. وإسناده منقطع بين محمد بن علي وعلي بن أبي طالب.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرَني مالكُ بنُ أنسٍ، أنه بلَغه أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عباسٍ كان يقولُ: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال مالكٌ: وذلك أحبُّ إليّ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ فيما
(2)
استَيسَرَ مِن الهديِ، قال: عليه - يعني المُحْصَرَ - هَدْيٌ، إن كان موسِرًا فمِن الإبلِ، وإلا فمِن البقرِ، وإلا فمِن الغنمِ
(3)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا آدمُ العسقلانيُّ، قال: أخبَرنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن شعبةَ مولى ابنِ عباسٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ، وما عَظَّمْتَ شعائرَ اللَّهِ فهو أفضلُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا أشهبُ، قال: أخبَرَني ابنُ لَهيعةَ، أن عطاءَ بنَ أبي رباحٍ حدَّثه، أنَّ ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ شاةٌ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا سهلُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا حميدٌ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبيدِ بنِ عُمَيرٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الهديُ شاةٌ. فقيل له: [لا يكونُ]
(4)
دونَ بقرةٍ. قال: فأنا أقرأُ عليكم من كتابِ اللَّهِ ما تُصدِّقون
(5)
أن الهدْيَ شاةٌ، ما في الظبيِ؟ قالوا: شاةٌ. قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
(6)
[المائدة: 95].
(1)
الموطأ 1/ 385.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"قال فما"، وفي ت 1:"فما".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 213 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أيكون".
(5)
في م، ت 1، ت 3:"تدرون به"، وفي ت 2:"تقرون به"، وفي فتح الباري:"تقوون به".
(6)
ذكره الحافظ في الفتح 3/ 535 وصحح إسناده.
وقال آخرون: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ مِن الإبلِ والبقرِ، سنٌّ دونَ سنٍّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعْتَمِرٌ، قال: سمِعتُ عُبَيدَ اللَّهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: ما اسْتَيْسَر من الهَدْيِ، البقرةُ دونَ البقرةِ، والبعيرُ دونَ البعيرِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أبي مِجْلَزٍ، قال: سأَل رجلٌ ابنَ عمرَ: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ؟ قال: أتَرْضَى شاةً؟ كأنه لا يَرْضَاه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن القاسمِ بنِ محمدٍ ونافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ ناقةٌ أو بقرةٌ. فقيل له: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ؟ قال: الناقةُ دونَ الناقةِ، والبقرةُ دونَ البقرةِ.
حدَّثني [ابنُ المُثنَّى]
(2)
، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عمرَ، أنه قال فيما
(3)
اسْتَيْسَر من الهدْيِ، قال: جَزورٌ أو بقرةٌ
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريب ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا هُشيمٌ، قال: الزهريُّ أخبَرَنا - وسُئِل عن قولِ اللَّهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} - قال: قال ابنُ عمرَ: مِن الإبلِ والبقرِ
(5)
.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 386 - ومن طريقه البيهقي 5/ 24 - عن نافع بلفظ: بدنة أو بقرة. وينظر الاستذكار 12/ 314.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المثنى".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فما".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (316 - تفسير) من طريق خصيف، عن مجاهد به.
(5)
تقدم في ص 349، 350.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: أخبَرنا أيوبُ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ في قولِه:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال: الناقةُ دونَ الناقةِ، والبقرةُ دونَ البقرةِ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن القاسمِ، عن ابنِ عمرَ في قولِه:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال: الإبلُ والبقرُ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: سمِعتُ يحيى بنَ سعيدٍ، قال: سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يقولُ: كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ وعائشةُ يَقولان: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ، مِن الإبلِ والبقرِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا الوليدُ بنُ أبي هشامٍ، عن زيادِ بنِ جُبيرٍ، عن أخيه عبدِ اللَّهِ أو عُبيدِ اللَّهِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: سأَلتُ ابنَ عمرَ عن المتعةِ عن
(2)
الهَدْيِ؟ فقال: ناقةٌ. قلت: ما تَقولُ في الشاةِ؟ قال: أكلُّكم شاةٌ؟ أكلُّكم شاةٌ
(3)
؟
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ وطاوسٍ، قالا: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ بقرةٌ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنى عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال: في قولِ ابنِ عمرَ بقرةٌ فما فوقَها.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (299 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 336 (1772) من طريق يحيى بن سعيد به. وأخرجه البيهقي 5/ 24 من طريق آخر عن القاسم، عن ابن عمر وحده. وقال الحافظ في الفتح 3/ 535: إسناد قوي.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (313، 314 - تفسير) من طرق عن ابن عمر، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 213 إلى وكيع وسفيان بن عيينة وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عمر.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى أبو مَعْشَرٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ بَدنةٌ أو بقرةٌ، فأما شاةٌ فإنما هي نُسُكٌ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا الحجَّاجُ، قال: ثنا حمَّادٌ، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيه، قال: البدنةُ دونَ البدنةِ، والبقرةُ دونَ البقرةِ، وإنما الشاةُ نُسُكٌ. وقال: تكونُ البقرةُ بأربعين وبخمسينَ
(1)
.
حدَّثنا الربيعُ، قال: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى أسامةُ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، كان يقولُ: ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ بقرةٌ.
حدَّثنا الربيعُ، قال: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى أسامةُ بنُ زيدٍ، أن سعيدَ بنَ أبي هندٍ حدَّثه قال: رأيتُ ابنَ عمرَ وأهلُ اليمنِ يَأْتُونه فيَسْأَلُونه عمَّا اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ ويقولون: [الشُّوهُ؟ الشُّوهُ]
(2)
؟، قال: فيردُّ عليهم: [الشُّوهُ! الشُّوهُ]
(3)
! [يَحْكِيهم، لأن]
(4)
الجزورَ دونَ الجزورِ، والبقرةَ دونَ البقرةِ، ولكن ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ بقرةٌ.
وأولى القولين بالصوابِ قولُ مَن قال: ما استَيْسر مِن الهَدْيِ شاةٌ؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه
(5)
أوجَب ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ، فذلك على كلِّ ما تَيَسَّر للمُهْدِي أن يُهْدِيَه، كائنًا ما كان ذلك الذي يُهْدَى، إلا أن يكونَ اللَّهُ - جلَّ وعَزَّ - خَصَّ مِن ذلك شيئًا، فيكونَ ما خَصَّ مِن ذلك خارجًا مِن جملةِ ما احتمَله ظاهرُ التنزيلِ، ويكونَ سائِرُ الأشياءِ غيرُه مُجْزِئًا إذا أهداه المُهْدِي، بعد أن يَسْتَحِقَّ اسمَ هَدْىٍ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 337 (1774) من طريق هشام به.
(2)
في م: "الشاة الشاة" والشوه جمع الشاة. ينظر اللسان (ش و هـ).
(3)
في الأصل: "الشوه"، وفي م:"الشاة الشاة".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يحضهم إلا أن".
(5)
بعده في م: "إنما".
فإن قال قائلٌ: فإنَّ الذين أبَوا أن تَكُونَ الشاةُ مما اسْتَيْسَر مِن الهديِ؛ لأنه
(1)
لا يَسْتَحِقُّ اسمَ هَدْيٍ، كما أنه لو أهدَى دجاجةً أو بيضةً لم يكن مُهْدِيًا هَدْيًا مُجْزِئًا؟
قيل: لو كان في المُهْدِي الدجاجةَ والبيضةَ مِن الاختلافِ نحوُ الذي في المُهْدِي الشاةَ، لكان سبيلُهما واحدةً، في أن كلَّ واحدٍ منهما قد أدَّى ما عليه بظاهرِ التنزيلِ، إذا لم يكنْ أحدُ المُهْدَيَيْنِ
(2)
يُخْرِجُه مِن أن يكونَ مؤدِّيًا
(3)
- بإهدائِه ما أَهْدَى مِن ذلك - ما
(4)
أوجَبَه اللَّهُ عليه [في إحصارِه]
(5)
، ولكن لمّا أَخْرَج المُهْدِي ما دونَ الجَذَعِ مِن الضأنِ، والثَّنِيِّ من المَعْزِ والإبلِ والبقرِ فصاعدًا مِن الأسنانِ، من أن يَكُونَ مُهْدِيًا ما أوجَبه اللَّهُ عليه في إحصارِه أو
(6)
مُتْعتِه - الحُجَّةُ
(7)
القاطعةُ العذرَ، نقلًا عن نبيِّها
(8)
صلى الله عليه وسلم وِراثةً، كان ذلك خارجًا مِن أن يكونَ مرادًا بقولِه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . وإن كان مما اسْتَيْسَر لنا مِن الهَدَايا. ولمّا اخْتُلِف في الجَذَعِ مِن الضأنِ، والثَّنِيِّ مِن المعْزِ، كان مُجْزِئًا ذلك عن مُهدِيه؛ لظاهرِ التنزيلِ، لأنه مما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ.
فإن قال قائلٌ: ما مَحَلُّ "ما" التي في قولِه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؟ قيل: رَفْعٌ.
(1)
في م: "بأنه"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"فإنه".
(2)
في حاشية الأصل: "المهدين".
(3)
في الأصل: "مهديا".
(4)
في م: "مما".
(5)
سقط من: الأصل، ت 3، وفي ت 1:"في حصره"، وفي ت 2:"في إحصار".
(6)
في الأصل: "و".
(7)
في م: "بالحجة".
(8)
في م: "نبينا".
فإن قال: بماذا؟ قيل: بمَتْروكٍ، وذلك: فعليه. لأن تأويلَ الكلامِ: وأتمُّوا الحَجَّ والعمرةَ للَّهِ أيُّها المؤمنون، فإنْ حبَسكم عن إتمامِ ذلك حابسٌ مِن مرضٍ أو كسرٍ أو خوفِ عدوٍّ، فعليكم لإحلالِكم إن أَرَدْتُم الإحلالَ مِن إحرامِكم - ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ.
وإنما اخْتَرْنا الرفْعَ في ذلك؛ لأن أكثرَ القرآنِ جاء برفعِ نظائرِه؛ وذلك كقولِه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} . وكقولِه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} . وما أشْبَه ذلك، مما يَطُولُ بإِحصائِه الكتابُ، تَرَكْنا ذِكْرَه استِغْناءً بما ذكَرنا عنه.
ولو قيل: موضعُ "ما" نَصْبٌ، بمعنى: فإن أحصِرتم فأَهْدُوا ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ. لكان غيرَ مُخْطئٍ قائِلُه.
وأما الهَدْيُ، فإنه جمعٌ، واحدُها هَدْيَةٌ، على تقديرِ جَدْيةِ السَّرْجِ
(1)
، والجمعُ الجَدْيُ، مخففٌ.
حُدِّثْتُ عن أبي عُبَيْدةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى، عن يونسَ، قال: كان أبو عمرِو بنُ العلاءِ يقولُ: لا أعْلَمُ في الكلامِ حرفًا يُشْبِهُه
(2)
.
وبتَخفيفِ الياءِ قرَأه القَرأَةُ في كلِّ مِصرٍ، وتسكينِ الدالِ {مِنَ الْهَدْيِ} . إلا ما ذُكِر عن الأعرجِ؛ فإن أبا هشامٍ الرفاعيَّ حدَّثنا، قال: ثنا يعقوبُ، عن بشارٍ، عن أَسِيدٍ
(3)
، عن الأعرجِ أنه قرَأ:(هَدِيًّا بالِغَ الكَعْبَةِ). بكسرِ الدالِ مُثَقَّلًا، وقرَأ:
(1)
جدية السرج: القطعة من الكساء المحشُوة تحت دفتى السرج وظلِفة الرجل. اللسان (ج د ى).
(2)
مجاز القرآن 1/ 69.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أسد". وينظر تهذيب الكمال 3/ 237.
(حتَّى يَبْلُغَ الهَدِيُّ مَحِلَّه) بكسرِ الدالِ [في "الهدِيّ"]
(1)
مثقَّلةً
(2)
.
واخْتُلِف في ذلك عن عاصمٍ، فرُوِي عنه موافقةُ الأعرجِ، ومخالفتُه إلى قراءةِ سائرِ القَرَأَةِ
(3)
.
والهَدْيُ عندَنا إنما سُمِّي هَدْيًا؛ لأنه تقرَّبَ به إلى اللَّهِ تعالى ذكرُه مُهْدِيه، بمنزلةِ الهَدِيَّةِ يُهْدِيها الرجلُ إلى غيرِه مُتَقَرِّبًا بها إليه. يُقالُ منه: أَهْدَيْتُ الهَدْيَ إلى بيتِ اللَّهِ، فأنا أُهْدِيه إهداءً. كما يُقالُ في الهدِيَّةِ يُهْدِيها الرجلُ إلى غيرِه: أَهْدَيْتُ إلى فلانٍ هَدِيَّةً، فأنا أُهْدِيها إِهْداءً
(4)
. ويُقالُ للبَدَنَةِ: هَدْيةٌ. ومنه قولُ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمَى يَذْكُرُ رجلًا أُسِر، يُشَبِّهُه في حُرْمتِه بالبَدَنَةِ التي تُهْدَى
(5)
:
فلم أرَ مَعْشَرًا أسَرُوا هَدِيًّا
…
ولم أرَ جارَ بَيْتٍ يُسْتَبَاءُ
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .
يعني بذلك جلَّ وعزَّ: فإن أُحْصِرْتم فأرَدْتُم الإحلالَ مِن إحرامِكم، فعليكم ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ، ولا تُحِلُّوا مِن إحرامِكم إذا أُحْصِرتم حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ الذي أوجَبْتُه عليكم، لإحْلالِكم مِن إحْرامِكم الذي أُحْصِرْتم فيه، قبلَ تَمامِه وانْقِضاءِ مَشاعرِه ومناسِكِه - مَحِلَّه. وذلك أنَّ حَلْقَ الرأسِ إحلالٌ مِن الإحرامِ الذي كان المحرِمُ قد أوجَبَه على نفسِه، فنهاه اللَّهُ عن الإحلالِ مِن إحرامِه بحِلاقِه حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ الذي أباح اللَّهُ له الإحلالَ - جلَّ ثناؤُه - بإهدائِه، مَحِلَّه.
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
وهي قراءة شاذة. البحر المحيط 2/ 74، 4/ 20. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 213 إلى المصنف.
(3)
الذي روى عن عاصم موافقة الأعرج هو عصمة كما في البحر المحيط 2/ 74.
(4)
سقط من: م.
(5)
شرح ديوان زهير ص 79.
ثم اختلَف أهلُ العلمِ في مَحِلِّ الهَدْيِ الذي عناه اللَّهُ، الذي متى بلَغه كان للمُحْصَرِ الإحلالُ مِن إحرامِه الذي أُحْصِر فيه؛ فقال بعضُهم: مَحِلُّ هَدْيِ المُحْصَرِ الذي يَحِلُّ به ويجوزُ له ببُلوغِه إياه حَلْقُ رأسِه، إذا كان إحصارُه مِن خوفِ عدوٍّ منَعه ذَبْحَه، إن كان مما يُذْبَحُ، أو نَحْرَه، إن كان مما يُنْحَرُ - في الحِلِّ، ذبَح أو نَحَر، أو في الحَرَمِ، وإن كان من غيرِ خوفِ عدوٍّ، فلا يَحِلُّ حتى يَطُوفَ بالبيتِ ويَسْعَى بينَ الصَّفا والمروةِ. وهذا قولُ مَن قال: الإحصارُ إحصارُ العدوِّ دونَ غيرِه
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني مالكُ بنُ أنسٍ، أنه بلَغه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حلَّ هو وأصحابُه بالحديبيةِ، فنحَروا الهَدْيَ، وحَلَقوا رُءوسَهم، وحَلُّوا مِن كلِّ شيءٍ قبلَ أن يَطُوفوا بالبيتِ، وقبلَ أن يَصِلَ إليه الهَدْيُ، ثم لم نَعْلَمْ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمَر أحدًا مِن أصحابِه، ولا ممن كان معه، أن يَقْضُوا شيئًا، ولا أن يَعُودُوا لشيءٍ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرَني مالكٌ، عن نافعٍ، أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ خرَج إلى مكةَ مُعْتَمِرًا في الفتنةِ
(3)
، فقال: إن صُدِدْتُ عن البيتِ صنَعنا كما صنَعْنَا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فأَهَلَّ بعمرةٍ مِن أجلِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان أَهَلَّ بعمرةٍ عامَ الحديبيةِ، ثم إن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ نظَر في أمرِه فقال: ما أمرُهما إلا واحدٌ. قال: فالتَفَت إلى أصحابِه فقال: ما أمرُهما إلا واحدٌ، أُشْهِدُكم أني قد أوجَبْتُ
(1)
في م: "غير".
(2)
تقدم تخريجه في ص 346.
(3)
وذلك حين حاصر الحجاج بن يوسف الثقفي عبدَ اللَّهِ بن الزبير وهو بمكة إلى أن قتله. ينظر خبر هذه الفتنة في البداية والنهاية 12/ 177 وما بعدها.
الحَجَّ مع العمرةِ. قال: ثم طاف طَوَافًا واحدًا. ورأى أن ذلك مُجْزٍ عنه وأَهْدَى
(1)
.
قال يونسُ: قال ابنُ وهبٍ: قال مالكٌ: وعلى هذا الأمرِ عندَنا في من أُحْصِر بعدوٍّ كما أُحْصِر نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، فأما مَن أحصِر بغيرِ عدوٍّ، فإنه لا يَحِلُّ دونَ البيتِ.
قال: وسُئِل مالكٌ عمَّن أُحْصِرَ بعدوٍّ وحِيل بينَه وبينَ البيتِ، فقال: يَحِلُّ مِن كلِّ شيءٍ، ويَنْحَرُ هَدْيَه، ويَحْلِقُ رأسَه حيثُ حُبِس، وليس عليه قضاءٌ، إلا أن يَكُونَ لم يَحُجَّ قَطُّ، فعليه أن يَحُجَّ حَجَّةَ الإسلامِ
(2)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني مالكٌ، قال: ثنى يحيى بنُ سعيدٍ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ ومرْوانَ بنَ الحَكَمِ وعبدَ اللَّهِ بنَ الزبيرِ أفْتَوْا ابنَ حُزابةَ المَخْزُوميَّ، وصُرِعَ في الحَجِّ ببعضِ الطريقِ، أن يتَداوَى
(3)
بما لا بدَّ له
(4)
، ويَفْتَدِيَ، ثم يَجْعَلَها عمرةً، ويحُجَّ عامًا قابلًا ويُهْدِيَ
(5)
.
قال يونسُ: قال ابنُ وهبٍ: قال مالكٌ: وذلك الأمرُ عندَنا في من أُحْصِرَ بغيرِ عدوٍّ.
قال: وقال مالكٌ: وكلُّ مَن حُبِس عن الحجِّ بعدَ ما يُحْرِمُ؛ إما بمرضٍ أو خطإٍ من
(6)
العددِ، أو خَفِي عليه الهلالُ، فهو مُحْصَرٌ، عليه ما على المحْصَرِ، يعني مِن
(1)
الموطأ 1/ 360 ومن طريقه البخاري (1806، 1813، 4183)، ومسلم (1230/ 180).
(2)
تقدم في ص 346، 347.
(3)
في م: "يبدأ".
(4)
في م: "منه".
(5)
الموطأ 1/ 362 - ومن طريقه الشافعي في الأم 2/ 164 - وأخرجه ابن أبي شيبة ص 135 (الجزء الأول من القسم الرابع) من طريق يحيى بن سعيد به.
(6)
في م: "في".
المُقامِ على إحرامِه حتى يَطُوفَ و
(1)
يَسْعَى، ثم الحجُّ مِن قابلٍ والهَدْيُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: سمِعت يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: أخبرَني أيوبُ بنُ موسى، أن داودَ بنَ أبي عاصمٍ أخبرَه أنه حَجَّ مرةً فاشْتَكَى، فرجَع إلى الطائفِ ولم يَطُفْ بينَ الصفا والمروةِ، فكتَب إلى عطاءِ بنِ أبي رباحٍ يَسْأَلُه عن ذلك، وأن عطاءً كتَب إليه: أن أَهْرِقْ دمًا.
وعلَّةُ مَن قال بقولِ مالكٍ في أن مَحِلَّ الهديِ في الإحصارِ بالعدوِّ نَحْرُه حيثُ حُبِس صاحبُه، ما حدَّثنا به أبو كريبٍ ومحمدُ بنُ عُمارةَ الأسَدِيُّ، قالا: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا موسى بنُ عُبيدَةَ، قال: أخبرَني أبو مُرَّةَ مولى أمِّ هانئٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: لما كان الهَدْيُ دونَ الجبالِ التي تَطْلُعُ على وادي الثَّنِيَّةِ، عرَض له المشركون فرَدُّوا وجهَه، قال: فنحَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الهَدْيَ حيثُ حبَسوه، وهي الحديبيةُ، وحلَق، وتأسَّى به أناسٌ، فحَلَقُوا حين رَأَوْه حَلَق، وتَرَبَّص آخرون فقالوا: لعلَّنا نَطُوفُ بالبيتِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"رحِم اللَّهُ المُحَلِّقين". قيل: والمقُصِّرين. قال: "رحِم اللَّهُ المُحَلِّقِين". قيل: والمقصرين. قال: "والمقُصِّرِين"
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ
(1)
في م: "أو".
(2)
الموطأ 1/ 458، 459 برواية أبي مصعب، وينظر رواية يحيى 1/ 362.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 452 عن عبيد الله بن موسى به، ومعناه ثابت من حديث ابن عمر أخرجه أحمد 2/ 124 (6067)، والبخاري (2701، 4252)، والدعاء للمحلقين أخرجه أحمد 2/ 16 (4657)، والبخاري (1727)، ومسلم (1301/ 319). وينظر مسند الطيالسي (1944).
ومروانَ بنِ الحَكَمِ، قالا: لما كتَب رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كتابَ القَضِيَّةِ بينَه وبين مُشركي قريشٍ، وذلك بالحديبيةِ عامَ الحديبيةِ، قال لأصحابِه:"قُومُوا فانْحَرُوا واحْلِقُوا". قال: فواللَّهِ ما قام منهم رجلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مراتٍ، فلما لم يَقُمْ منهم أحدٌ، قام فدخَل على أمِّ سَلَمةَ، فذكَر ذلك لها، فقالت أمُّ سلمةَ: يا نبيَّ اللَّهِ، اخْرُجْ، ثم لا تُكَلِّمْ أحدًا منهم بكلمةٍ حتى تَنْحَرَ بُدْنَك
(1)
، وتَدْعُوَ حَلَّاقَك فتَحْلِقَ. فقام فخرَج فلم يُكلِّمْ منهم أحدًا، حتى فعَل ذلك، فلما رَأَوْا ذلك قاموا فنَحَروا، وجعَل بعضُهم يَحْلِقُ بعضًا، حتى كاد بعضُهم يَقْتُلُ بعضًا غمًّا
(2)
.
قالوا: فنحَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هَدْيَه حين صدَّه المشركون عن البيتِ بالحديبيةِ، وحلَّ هو وأصحابُه. قالوا: والحديبيةُ ليست مِن الحرمِ. قالوا: ففي
(3)
ذلك دليلٌ واضحٌ على أن معنى قولِه: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} : حتى يَبْلُغَ بالذبحِ أو النحرِ مَحِلَّ أكلِه، والانتفاعُ به في مَحِلِّ ذَبْحِه ونحرِه، كما رُوِي عن نبيِّ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام في نظيرِه، إذ أُتِيَ بلحمٍ أهدَتْه
(4)
بَرِيرَةُ مِن صَدَقَةِ كان تُصُدِّقَ بها عليها، فقال:"قَرِّبُوهُ فقد بلَغ مَحِلَّهُ"
(5)
. يعني: فقد بلَغ مَحِلَّ طيبِه وحلالِه له بالهدِيَّةِ إليه بعد أن كانت
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"بدنتك".
(2)
جزء من حديث طويل أخرجه أحمد 4/ 331 (الميمنية) من طريق يحيى بن سعيد القطان به، وأخرجه البخاري (1694، 1695)، والنسائي في الكبرى (8840) من طريق ابن المبارك به.
(3)
بعده في م: "مثل".
(4)
في م: "أتته".
(5)
الثابت في الصحيحين في حديث بريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هو لها صدقة ولنا هدية". أو: "هو عليها صدقة وهو لنا هدية". ينظر البخاري (1493، 1495، 2577، 2578، 5097، 5284)، ومسلم (1074، 1075).
وجاء نحو اللفظ الذي ذكره المصنف من حديث أم عطية الأنصارية أنها أهدت إلى عائشة هدية لحمًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنها بلغت محلها" ينظر البخاري (1446، 1494، 2579). =
صدقةً على بَريرةَ.
وقال بعضُهم: مَحِلُّ هَدْيِ المُحْصَرِ الحَرَمُ، لا مَحِلَّ له غيرُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن الأعمشِ، عن عُمارةَ بنِ عُميرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، أن عميرَ
(1)
بنَ سعيدٍ النَّخَعيَّ أهلَّ بعمرةٍ، فلما بلَغ ذاتَ الشُّقوقِ
(2)
لُدِغ بها، فخرَج أصحابُه إلى الطريقِ يتشرَّفون
(3)
الناسَ، فإذا هم بابنِ مسعودٍ، فذكَروا ذلك له، فقال: لِيَبْعَثْ بهَدْيٍ، واجعَلوا بينَكم يومَ أمارٍ
(4)
، فإذا ذبَح الهَدْيَ فلْيُحِلَّ، وعليه قضاءُ عمرتِه
(5)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتَصِرِ، قال: أخبرنا إسحاقُ، عن شَريكٍ، عن سليمانَ بنِ مهرانَ، عن عُمارةَ بنِ عُمَيرٍ وإبراهيمَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ أنه قال: خرَجنا مُهِلِّين بعمرةٍ، فينا الأسودُ بنُ يزيدَ، حتى نَزَلنا ذاتَ الشُّقوقِ، فلُدِغ صاحبٌ لنا، فشَقَّ ذلك عليه مَشقَّةً شديدةً، فلم ندرِ كيف نَصْنَعُ به، فخرَج بعضُنا إلى الطريقِ، فإذا نحن برَكْبٍ فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ، فقلنا: يا أبا عبدِ الرحمنِ، رجلٌ منا لُدِغ، فكيف نَصْنَعُ به؟ قال: يَبْعَثُ معكم بثمنِ هَدْيٍ، فتَجْعَلونَ بينَكم وبينَه يومَ
= ومن حديث مولاة جويرية بنت الحارث أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قربيه فقد بلغت محلها". ينظر مسلم (1073).
(1)
في النسخ: "عمرو"، والمثبت مما سيأتي في شرح معاني الآثار، وينظر تهذيب الكمال 22/ 376. وينظر في 2/ 342.
(2)
ذات الشقوق: منزل بطريق مكة بعد واقصة من الكوفة. معجم البلدان 3/ 309.
(3)
التشرف: التطلع والنظر إلى الشيء. اللسان (ش ر ف).
(4)
في م: "أمارة". والأمار والأمارة: العلامة. وقيل: الأمار جمع أمارة. النهاية 1/ 67.
(5)
أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 2/ 251 من طريق الأعمش به.
أمارٍ، فإذا نُحِر الهَدْيُ فلْيُحِلَّ، وعليه عمرةٌ في قابلٍ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن عُمارةَ بنِ عُمَيرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، قال: بينَا نحن بذاتِ الشُّقوقِ، فلَبَّى رجلٌ منا بعمرةٍ، فلُدِغ، فمرَّ علينا عبدُ اللَّهِ فسألناه، فقال: اجعلوا بينَكم وبينَه يومَ أمارٍ، ويَبْعَثُ بثمنِ الهَدْيِ، فإذا نُحِرَ حلَّ، وعليه العمرةُ.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، قال: سمِعت إبراهيمَ النَّخَعيَّ يُحَدِّثُ عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، قال: أهَلَّ رجلٌ منا بعمرةٍ، فلُدِغ، فاطَّلَع رَكْبٌ فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ، فسأَلوه، فقال: ابعَثُوا
(1)
بهَدْيٍ، واجْعَلُوا بينَكم وبينَه يومَ أمارٍ، فإذا كان ذلك اليومُ فلْيُحِلَّ. وقال عُمارةُ بنُ عُمَيرٍ - وكان حَسْبُك به - عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، عن عبدِ اللَّهِ: وعليه العمرةُ مِن قابلٍ
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن عُمارةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، قال: خرَجْنا عمّارًا، فلما كنا بذاتِ الشُّقوقِ لُدِغ صاحبٌ لنا، فاعترَضْنا الطريقَ لنسأَلَ ما نَصْنَعُ به، فإذا عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ في رَكْبٍ، فقلنا له: لُدِغ صاحبٌ لنا. فقال: اجعَلُوا بينَكم وبينَ صاحبِكم يومًا، ولْيُرْسِلْ بالهَدْيِ، فإذا نُحِر الهَدْيُ، فلْيَحْلِلْ، ثم عليه العُمْرةُ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن الحجاجِ، قال: حدَّثني
(1)
في م: "يبعث".
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 2/ 251 من طريق شعبة به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 135 (الجزء الأول من القسم الرابع) عن أبي معاوية به.
عبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ، عن أبيه، عن ابنِ مسعودٍ، أنّ عميرَ
(1)
بنَ سعيدٍ
(2)
النَّخَعيَّ أهَلَّ بعمرةٍ، فلما بلَغ ذاتَ الشُّقوقِ لُدِغ بها، فخرَج أصحابُه إلى الطريقِ يَتَشَرَّفون
(3)
الناسَ، فإذا هم بابنِ مسعودٍ، فذكَروا ذلك له، فقال: لِيَبْعَثْ بهَدْيٍ، واجعَلوا بينَكم
(4)
يومَ أمارٍ، فإذا ذُبِح الهَدْيُ فلْيَحِلَّ، وعليه قضاءُ عمرتِه
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . يقولُ: مَن أحرَم بحجٍّ أو بعمرةٍ، ثم حُبِس عن البيتِ بمرَضٍ يُجْهِدُه، أو عُذْرٍ يَحْبِسُه، فعليه ذَبْحُ ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ، شاةٍ فما فوقَها يُذْبَحُ عنه، فإن كانت
(6)
حَجَّةَ الإسلامِ، فعليه قضاؤُها، وإن كانت حَجَّةً بعد حَجَّةِ الفريضةِ أو عمرةً، فلا قضاءَ عليه. ثم قال:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . فإن كان أحرَم بالحجِّ فمَحِلُّه يومَ النَّحْرِ، وإن كان أحرَم بعمرةٍ فمَحِلُّ هَدْيِه إذا أتى البيتَ
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عَمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : فهو الرجلُ مِن أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم كان يُحْبَسُ عن البيتِ فيُهْدِي إلى البيتِ ويَمْكُثُ على إحرامِه حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، فإذا بلَغ الهَدْيُ مَحِلَّه حلَق رأسَه، فأتمَّ اللَّهُ له حَجَّه. والإحصارُ أيضًا أن يُحَالَ بينَه وبينَ الحَجِّ، فعليه هَدْىٌ؛ إن كان موسِرًا مِن الإبلِ،
(1)
في النسخ: "عمرو".
(2)
في الأصل: "مسعود".
(3)
في م: "يتشوفون". وهما بمعنى.
(4)
بعده في م: "وبينه".
(5)
أخرجه البيهقي 5/ 221 من طريق أبان بن تغلب عن عبد الرحمن بن الأسود به.
(6)
في الأصل: "كان".
(7)
تقدم تخريجه في ص 344.
وإلا فمِن البقرِ، وإلا فمِن الغنَمِ، ويَجْعَلُ حَجَّه عمرةً، ويَبْعَثُ بهَدْيِه إلى البيتِ، فإذا نُحِرَ الهَدْيُ فقد حَلَّ، وعليه الحَجُّ مِن قابلٍ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا بشرُ بنُ السَّرِيِّ، عن شعبةَ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلِمةَ، قال: سئِل عليٌّ عن قولِ اللَّهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : فإذا أُحْصِرَ الحاجُّ بعَث بالهَدْيِ، فإذا نُحِرَ عنه حلَّ، ولا يحِلُّ حتى يُنْحَرَ هَدْيُه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، قال: سمِعت عطاءً يقولُ: مَن حُبِس في عمرتِه، فبعَث بهَدْيَةٍ فاعْتُرِضَ لها، فإنه يَتَصَدَّقُ بشيءٍ أو يَصومُ، ومن اعتُرض لهَدْيَتِه وهو حاجٌّ، فإن محِلَّ الهَدْيِ والإحرامِ
(2)
يومُ النَّحْرِ، وليس عليه شيءٌ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن عطاءٍ مثلَه.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} : الرجلُ يُحْرِمُ ثم يَخْرُجُ فيُحْصَرُ، إما بلَدْغٍ [وإما بمرضٍ]
(4)
، فلا يُطِيقُ السَّيْرَ، وإما تَنْكَسِرُ راحلتُه، فإنه يُقيمُ، ثم يَبْعَثُ بهَدْىٍ، شاةٍ فما فوقَها، فإن هو صحَّ فسار فأدْرَكَ، فليس عليه هَدْيٌ، وإن فاته الحجُّ، فإنها تكونُ عُمرةً، وعليه من قابلٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 212، 213 إلى المصنف.
(2)
في الأصل: "الحرام".
(3)
تفسير مجاهد ص 226، 227.
(4)
في م، ت 1:"أو مرض"، وفي ت 2:"أو بمرض".
حَجَّةٌ، فإن هو رجَع، لم يَزَلْ مُحْرِمًا حتى يُنْحَرَ عنه يومَ النَّحْرِ، فإن هو بلَغه أن صاحبَه لم يَنْحَرْ عنه، عاد مُحْرِمًا، وبعَث بهَدْيٍ آخرَ، فواعَد صاحبَه يومَ يَنْحَرُ عنه
(1)
، فنَحَرَ عنه بمكةَ، ويَحِلُّ، وعليه مِن قابلٍ حَجَّةٌ وعمرةٌ، ومِن الناسِ مَن يقولُ: عُمرتان. وإن كان أحْرَم بعمرةٍ، ثم رجَع، وبعَث بهَدْيِه، فعليه مِن قابلٍ عُمْرَتان. وأناسٌ يَقُولون: لا، بل ثلاثُ عُمَرٍ، نحوًا مما صنَعوا في الحجِّ حين صنَعوا، عليه حَجَّةٌ وعُمْرَتان.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ القَنّادُ، قال: أخبَرَنا إسحاقُ الأزرقُ، عن أبي بشرٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا أُحْصِرَ الرجلُ بعَث بهَدْيِه، إذا كان لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَصِلَ إلى البيتِ مِن العدوِّ، فإن وجَد مَن يُبْلِغُها عنه إلى مكةَ، فإنه يَبْعَثُ بها مكانَه، ويُواعِدُ صاحبَ الهَدْيِ، فإذا أمِن فعليه أن يَحُجَّ ويَعْتَمِرَ، فإن أصابَه مَرَضٌ يَحْبِسُه وليس معه هَدْيٌ، فإنه يَحِلُّ حيثُ يُحْبَسُ، وإن كان معه هَدْيٌ، فلا يَحِلُّ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه إذا بعَث به، وليس عليه أن يَحُجَّ قابِلًا ولا يَعْتَمِرَ، إلا أن يَشَاءَ
(2)
.
وعِلَّةُ مَن قال هذه المقالةَ - أن مَحِلَّ الهَدَايَا والبُدْنِ الحَرَمُ - أنَّ اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - ذكَر البُدْنَ والهَدَايَا فقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 32، 33]. فجعَل مَحِلَّها الحَرَمَ، فلا مَحِلَّ للهَدْيِ دُونَه.
قالوا: وأما ما ادَّعى المُحْتَجُّون بنَحْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هَدَاياه بالحُدَيْبيةِ حين صُدَّ عن البيتِ، فليس ذلك بالقولِ المُجْتَمَعِ عليه؛ وذلك أن الفضلَ بنَ سهلٍ حدَّثني، قال: ثنا مُخَوَّلُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن مَجْزَأةَ بنِ زاهرٍ الأسْلَمِيِّ، عن أبيه،
(1)
بعده في م: "بمكة".
(2)
تفسير مجاهد ص 226.
عن ناجِيَةَ بنِ جُنْدَبٍ الأسْلَمِيِّ، قال: أتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين صُدَّ
(1)
الهَدْيُ، فقلت: يا رسولَ اللَّهِ، ابْعَثْ معي بالهَدْيِ فلْنَنْحَرْه في الحَرَمِ. قال:"كيف تَصْنَعُ به؟ ". قلتُ: آخُذُ به أوديةً فلا يَقْدِرون عليه. فانْطَلَقْتُ به حتى نَحَرْتُه بالحَرَمِ
(2)
.
قالوا: فقد بيَّن هذا الخبرُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحَر هدَايَاه في الحرَمِ، فلا حُجَّةَ لمُحْتَجٍّ بنَحْرِه بالحُدَيْبِيةِ في غيرِ الحرَمِ.
وقال آخرون: معنى هذه الآيةِ وتأويلُها على غيرِ هذين الوَجْهَين اللذَيْن وصَفْنا، مِن قولِ الفريقين اللذَيْن ذكَرْنا اختلافَهم على ما ذكَرْنا. وقالوا: إنما معنى ذلك: فإن أُحْصِرْتم أيها المؤمنون عن حَجِّكم، فمُنِعْتُم مِن المُضِيِّ لإحرامِه؛ بعائقِ مرضٍ أو خوفِ عدوٍّ، وأداءِ اللازمِ لكم في
(3)
حَجِّكم، حتى فاتَكم الوقوفُ بعرفةَ - فإن عليكم ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ لِما فاتَكم مِن حَجِّكم، مع قضاءِ الحَجِّ الذي فاتَكم.
وقال أهلُ هذه المقالةِ: ليس للمُحْصَرِ في الحجِّ بالمرَضِ والعِلَلِ غيرِه الإحلالُ إلا بالطوافِ بالبيتِ والسعْيِ بينَ الصفا والمروةِ، إن فاتَه الحجُّ. قالوا: فأما إن أطاقَ شُهودَ المشاهدِ، فإنه غيرُ مُحْصَرٍ. قالوا: وأما العُمْرةُ، فلا إحصارَ فيها؛ لأن وقتَها موجودٌ أبدًا. قالوا: والمُعْتَمِرُ لا يَحِلُّ إلا بعملِ آخرِ ما يَلْزَمُه في إحرامِه. قالوا: ولم يَدْخُلِ المُعْتَمِرُ في هذه الآيةِ، وإنما عُنِي بها الحاجُّ.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 242، وابن منده - كما في الإصابة 6/ 400، 401 - من طريق مخول بن إبراهيم، وأخرجه النسائي في الكبرى (4135) من طريق إسرائيل به، وعنده: عن مجزأة عن ناجية - مباشرة دون ذكر أبيه، وقال ابن منده: تفرد به مخول بن إبراهيم عن إسرائيل عنه.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
ثم اختلَف أهلُ هذه المقالةِ؛ فقال بعضُهم: لا إحصارَ اليومَ بعدوٍّ، كما لا إحصارَ بمرَضٍ يَجُوزُ لمن ناله
(1)
أن يَحِلَّ مِن إحرامِه قبلَ الطوافِ بالبيتِ والسعْيِ بينَ الصفا والمروةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ [وطاوسٍ، قالا]
(2)
: قال ابنُ عباسٍ: لا إحصارَ اليومَ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: سمِعتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: أخبَرَني عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمِ، أن عائشةَ قالت: لا أعْلَمُ المُحْرِمَ يَحِلُّ بشيءٍ دونَ البيتِ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا مَعْمَرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا حصرَ إلا مَن حبَسه عدوٌّ، فيحِلُّ بعمرةٍ، وليس عليه حَجٌّ ولا عمرةٌ.
وقال [آخرون منهم]
(5)
: حِصارُ العدوِّ ثابتٌ اليومَ وبعدَ اليومِ. على نحوِ ما ذكَرْنا مِن أقوالِهم الثلاثةِ التي حكَيْنا عنهم.
(1)
في م: "فاته"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"قاله".
(2)
في م: "عن طاوس قال".
(3)
ينظر ما تقدم تخريجه في ص 345.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 220 من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة.
(5)
في الأصل: "بعضهم"، وكتب فوقها كالمثبت.
ذكرُ مَن قال ذلك، وقال: معنى هذه الآيةِ: فإن أُحْصِرْتُم عن الحَجِّ حتى فاتَكم، فعليكم ما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ لفَوْتِه إياكم
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، عن سالمٍ، قال: كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ يُنْكِرُ الاشْتِراطَ في الحَجِّ، ويقولُ: أليس حَسْبُكم
(1)
سنةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! إن حُبِس أحدُكم عن الحَجِّ، طاف بالبيتِ وبالصفا والمروةِ، ثم حلَّ مِن كلِّ شيءٍ حتى يَحُجَّ عامًا قابِلًا، ويُهْدِي أو يصومُ إن لم يجِدْ هَدْيًا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: أخبَرَنا عبيدُ اللَّهِ بنُ عمرَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: المُحْصَرُ لا يَحِلُّ من شيءٍ حتى يَبْلُغَ البيتَ، ويُقيمُ على إحرامِه كما هو، إلا أن تُصِيبَه جِراحةٌ أو جُرْحٌ، فيتَداوى بما يُصْلِحُه ويفتَدِيَ، فإذا وصَل إلى البيتِ، فإن كانت عمرةً قضاها، وإن كانت حَجَّةً فسَخها بعمرةٍ، وعليه الحجُّ مِن قابِلٍ والهَدْيُ، فمن
(3)
لم يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحَجِّ وسبعةٍ إذا رجَع.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن عُبيدِ اللَّهِ، قال: أخبَرَني نافعٌ، أن ابنَ عمرَ مرَّ على ابنِ حُزابةَ وهو بالسُّقْيا، فرَأى به كَسْرًا فاسْتَفْتَاه، فأمَرَه أن يَقِفَ
(1)
في ت 1، ت 2:"حبسكم". وفي حاشية الصحيح: رسم حسبكم في الأصل الذي بيدنا بنقطة سوداء بين الحاء والسين من تحت، ونقطة حمراء تحت الباء بعد السين، فصارت محتملة لأن تكون حبسكم وحسبكم، وكتب بهامش الأصل ما نصه: كذا صورته في اليونينية، والذي في الفرع حسبكم لا غيره.
(2)
أخرجه النسائي (2768)، والبيهقي 5/ 223 من طريق ابن وهب به، وأخرجه البخاري (1810)، والبيهقي 5/ 223 من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب به، وأخرجه أحمد 8/ 487 (4881)، والبخاري (1811)، والترمذي (942)، والنسائي (2769) من طريق الزهري به.
(3)
في م: "فإن".
كما هو، ولا يَحِلَّ مِن شيءٍ حتى يَأْتِيَ البيتَ، إلا أن يُصِيبَه أذًى فيَتَداوى، وعليه ما اسْتَيْسَر مِن الهدْيِ. وكان أهَلَّ بالحَجِّ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليْثُ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شهابٍ، قال: أخبَرَني سالمُ بنُ عبدِ اللَّهِ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ قال: مَن أُحْصِرَ بعدَ أن يُهِلَّ بحَجٍّ، فحبَسه خوفٌ أو مرَضٌ، أو ضَلَّ
(1)
له ظَهْرٌ يَحْمِلُه، أو شيءٌ مِن الأمورِ كلِّها، فإنه يَتَعَالَجُ
(2)
بحبسِه
(3)
ذلك بكلِّ شيءٍ لا بدَّ له منه، غيرَ أنه لا يَحِلُّ مِن النساءِ والطيبِ، ويَفْتَدي بالفِدْيةِ التي أمَر اللَّهُ بها؛ صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ، فإن فاتَه الحَجُّ وهو بمحبَسِه ذلك، أو فاتَه أن يَقِفَ بمواقفِ
(4)
عرفةَ قبلَ الفجرِ مِن ليلةِ المُزْدَلِفةِ، فقد فاتَه الحجُّ، وصارَت حَجَّتُه عمرةً؛ يَقْدَمُ مكةَ، ويَطُوفُ بالبيتِ وبالصفا والمَرْوَةِ، فإن كان معه هَدْيٌ نحَره بمكةَ قريبًا مِن المسجدِ الحرامِ، ثم حلَق رأسَه أو قصَّر، ثم حلَّ مِن النساءِ والطِّيبِ وغيرِ ذلك، ثم عليه أن يَحُجَّ قابلًا ويُهْدِيَ ما اسْتَيْسر مِن الهَدْيِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: حدَّثني مالكُ بنُ أنسٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عن سالمِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، أنه قال: المُحْصَرُ لا يَحِلُّ حتى يَطُوفَ بالبيتِ وبين الصفا والمروةِ، وإن اضْطُرَّ إلى شيءٍ من لُبسِ الثيابِ التي لا بُدَّ له منها أو الدواءِ، صنَع ذلك وافْتَدَى
(5)
.
فهذا ما رُوِي عن ابنِ عمرَ في الإحصارِ بالمرضِ وما أشبَهَه. وأما في الحَصْرِ
(6)
(1)
في م، ت 1، ت 2:"خلَأ".
(2)
عالج الشيء: زاوله ومارسه. التاج (ع ل ج).
(3)
في م: "لحبسه".
(4)
في م: "في مواقف".
(5)
الموطأ 1/ 361، ومن طريق مالك أخرجه البيهقي 5/ 219.
(6)
في م: "المحصر".
بالعدوِّ، فإنه كان يقولُ فيه بنحوِ القولِ الذي ذكَرْناه قبلُ عن مالكِ بنِ أنسٍ أنه كان يقولُه
(1)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المُنْتَصِرِ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نُمَيرٍ، قال: أخبَرَنا عُبيدُ اللَّهِ، عن نافعٍ، أن ابنَ عمرَ أراد الحَجَّ حين نزَل الحَجّاجُ بابنِ الزبيرِ، فكلَّمه ابناه سالمٌ وعبدُ
(2)
اللَّهِ، فقالا: لا يَضُرُّك ألا تَحُجَّ العامَ، إنا نَخافُ أن يكونَ بينَ الناسِ قِتالٌ، فيُحالَ بينَك وبينَ البيتِ. قال: إن حِيلَ بيني وبينَ البيتِ، فَعَلْتُ كما فعَلْنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حينَ حال
(3)
كفارُ قريشٍ بينَه وبينَ البيتِ، فحلَق ورجَع
(4)
.
وأما ما ذكَرْنا عنهم في العمرةِ مِن قولِهم: إنه لا إحصارَ فيها ولا حَصْرَ. فإنه حدَّثني به يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن يزيدَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ، أنه أهلَّ بعُمْرةٍ فأُحْصِر، قال: فكتَب إلى ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ، فكتَبا إليه أن يَبْعَثَ بالهَدْيِ، ثم يُقيمَ حتى يَحِلَّ مِن عُمْرتِه. قال: فأقام ستةَ أشهرٍ أو سبعةَ أشهرٍ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبَرَنا أيوبُ
(5)
، عن أبي العَلاءِ بنِ الشِّخِّيرِ، قال: خرَجتُ مُعْتَمِرًا فصُرِعتُ عن بعيرِي فكُسِرَت رِجْلي، فأَرْسَلْنا إلى ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ [من سَأَلهما]
(6)
، فقالا: إن العمرةَ ليس لها وقتٌ
(1)
تقدم في ص 361.
(2)
في م: "عبيد". وهما روايتان في البخاري، وينظر الفتح 4/ 5.
(3)
في الأصل: "حالت".
(4)
أخرجه أحمد 10/ 376 (6268)، ومسلم (1230/ 181) من طريق عبد الله بن نمير به، وأخرجه البخاري (1807، 1808، 1812، 4185)، والنسائي (2859) من طريق جويرية عن نافع مطولا.
(5)
في م: "يعقوب".
(6)
في م: "نسألهما".
كوقتِ الحجِّ، لا تَحِلَّ حتى تَطُوفَ بالبيتِ. قال: فأقَمتُ بالدثينَةِ
(1)
أو قريبًا منه سبعةَ أشهرٍ أو ثمانيةَ أشهرٍ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وَهْبٍ، قال: حدَّثني مالكٌ، عن أيوبَ بنِ أبي تَمِيمةَ السَّخْتِيانيِّ، عن رجلٍ مِن أهلِ البصرةِ كان قديمًا، أنه قال: خرَجتُ إلى مكةَ، حتى إذا كُنْتُ ببعضِ الطريق كُسِرَت فَخِذي، فأرْسَلْتُ إلى مكةَ
(3)
وبها عبدُ اللَّهِ بنُ عباسٍ وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ والناسُ، فلم يُرَخِّصْ لي أحدٌ منهم
(4)
أن أَحِلَّ، فأقَمتُ على ذلك الماءِ
(5)
سبعةَ أشهرٍ حتى أَحْلَلْتُ بعمرةٍ
(6)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبَرَنا ابنُ المباركِ، عن مَعْمَرٍ، عن ابنِ شهابٍ، في رجلٍ أصابَه كَسْرٌ وهو مُعْتَمِرٌ، قال: يَمْكُثُ على إحرامِه حتى يَأْتِيَ البيتَ فيَطُوفَ به وبالصفا والمروةِ، ويَحْلِقَ أو يُقَصِّرَ، وليس عليه شيءٌ.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ هذه الآيةِ قولُ مَن قال: إنَّ اللَّهَ عَنَى بقولِه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} كلَّ مُحْصَرٍ في كلِّ
(7)
إحرامٍ، بعمرةٍ كان إحرامُ المُحْصَرِ أو بحَجٍّ، وجعَل مَحِلَّ هَدْيِه الموضِعَ الذي أُحْصِرَ فيه، وجعَل له الإحلالَ مِن إحرامِه ببُلوغِ هَدْيِه مَحِلَّه. وتأوَّل
(1)
الدثينة؛ كجهينة أو كسفينة: موضع لبني سليم على طريق حاج البصرة بين الزجيج وقبا. التاج (د ث ن). وينظر معجم البلدان 2/ 550.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 135 (الجزء الأول من القسم الرابع) عن ابن علية به، والبيهقي 5/ 220 من طريق أيوب به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلى عبد الله بن عباس".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م: "إلى".
(6)
أخرجه مالك 1/ 361، ومن طريقه الشافعي في الأم 2/ 164، والبيهقي 5/ 219، وفي المعرفة 4/ 243.
(7)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
بالمَحِلِّ المَنْحَرَ أو المذبحَ، وذلك حين حلَّ نَحْرُه أو ذَبْحُه، في حَرَمٍ كان أو في حِلٍّ، وألزَمَه قضاءَ ما حَلَّ منه مِن إحرامِه قبلَ إتمامِه إذا وجَد إليه سبيلًا، وذلك لتَواتُرِ الأخبارِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه صُدَّ عامَ الحُدَيْبِيةِ عن البيتِ وهو مُحرِمٌ وأصحابُه بعمرةٍ، فنحَر هو وأصحابُه بأمرِه الهَدْيَ، وحَلُّوا مِن إحرامِهم قبلَ وُصولِهم إلى البيتِ، ثم قضَوا إحرامَهم الذي حلُّوا منه في العامِ الذي بعدَه، ولم يَدَّعِ أحدٌ مِن أهلِ العلمِ بالسِّيَرِ ولا غيرِهم أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا مِن أصحابِه أقام على إحرامِه انتظارًا للوُصولِ إلى البيتِ، والإحلالِ بالطَّوافِ به، والسعيِ بينَ الصفا والمروةِ، ولا على
(1)
وُصولِ هَدْيِه إلى الحَرَمِ. فأولى الأفعالِ أن يُقْتَدَى به فِعْلُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذ لم يَأْتِ بحَظْرِه خبرٌ، ولم تَقُمْ بالمنعِ منه حُجَّةٌ. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهلُ العلمِ مُخْتَلِفِين فيما اخْتَرْنا مِن القولِ في ذلك؛ فمِن متأوِّلٍ معنى الآيةِ تأويلَنا، ومِن مخالِفٍ ذلك، ثم كان ثابتًا بما قُلْنا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النقلُ - كان الذي نُقِل عنه أولى الأمورِ بتأويلِ الآيةِ، إذ كانت هذه الآيةُ لا يَتَدافعُ أهلُ العلمِ أنها يومئذٍ نزَلت، [وفي]
(2)
حكمِ صَدِّ المشركين إياه عن البيتِ أُوحِيَتْ.
وقد رُوِي بنحوِ الذي قُلْنا في ذلك خبرٌ.
حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدثني الحجاجُ بنُ أبي عثمانَ، قال: حدَّثني يحيى بنُ أبي كثيرٍ، أن عِكْرِمةَ مولى ابنِ عباسٍ حدَّثه، قال: حدَّثني الحجاجُ بنُ عمرٍو الأنصاريُّ، أنه سمِع رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"مَن كُسِر أو عَرِج فقد حَلَّ، وعليه حَجَّةٌ أُخرى". قال: فحَدَّثْتُ ابنَ عباسٍ وأبا هريرةَ بذلك فقالا: صدَق
(3)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يخفى".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(3)
أخرجه أحمد 3/ 450 (15769)، وابن ماجه (3077)، والطبراني في الكبير (3211) من طريق ابن علية به، وأخرجه أحمد 3/ 450 (15769)، والدارمي 2/ 61، وأبو داود (1862)، وابن ماجه =
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا مروانُ، قال: ثنا حجّاجٌ الصوَّافُ، وحدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا سفيانُ بنُ حَبيبٍ، عن الحجاجِ الصوَّافِ، عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، عن عِكْرِمةَ، عن الحجاجِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه، وعن ابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ
(1)
.
ومعنى هذا الخبرِ في
(2)
الأمرِ بقضاءِ الحَجَّةِ التي حَلَّ منها [النبيُّ صلى الله عليه وسلم]
(3)
، نظيرَ فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في قضائِهم عمرتَهم التي حَلُّوا منها عامَ الحُدَيبيةِ مِن القابلِ، في عامِ عُمرةِ القضيةِ.
ويُقالُ لمن زعَم أن الذي حَصَرَه عدوٌّ، إذا حَلَّ مِن إحرامِه التطوُّعِ فلا قضاءَ عليه، وأن المُحْصَرَ بالعِللِ عليه القضاءُ: ما العلةُ التي أوجَبَت على أحدِهما القضاءَ وأسْقَطَت عن الآخرِ، وكلاهما قد حلَّ مِن إحرامٍ كان عليه إتمامُه لولا العلةُ العائقةُ؟
فإن قال: لأن الآيةَ إنما نَزَلَت في الذي حصَره العدوُّ، فلا يَجُوزُ لنا نَقلُ حُكْمِها إلى غيرِ ما نزَلت فيه.
قيل له: قد دافَعك عن ذلك جماعةٌ مِن أهلِ العلم، غيرَأنا نُسَلِّمُ لك ما قُلْتَ في ذلك، فهلَّا كان حُكْمُ المنعِ بالمرضِ والإحصارِ به
(4)
حُكْمَ المنعِ بالعدوِّ، إذ هما
= (3077)، والترمذي (940)، والنسائي (2861)، والطحاوي في المشكل (615، 616)، وفي شرح المعاني 2/ 249، والطبراني (3211، 3212)، والحاكم 1/ 483، والبيهقي 5/ 220 من طرق عن حجاج بن أبي عثمان به.
(1)
أخرجه الحاكم 1/ 470 من طريق مروان به. وأخرجه النسائي (2860) من طريق حميد بن مسعدة به.
(2)
سقط من: م، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"نظير".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
مُتَّفِقان في المنعِ مِن الوُصولِ إلى البيتِ وإتمامِ عملِ إحرامِهما
(1)
، وإن اختلَفت أسبابُ منعِهما، فكان أحدُهما ممنوعًا بعلَّةٍ في بَدَنِه، والآخرُ بمنعِ مانعٍ؟ ثم يُسَأَلُ عن الفرقِ بينَ ذلك مِن أصلٍ أو قياسٍ، فلن يقولَ في أحدِهما قولًا
(2)
إلا أُلزِم في الآخرِ مِثلَه.
وأما الذين قالوا: لا إحصارَ في العمرةِ. فإنه يُقالُ لهم: قد علِمتم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما صُدَّ عن البيتِ وهو مُحرِمٌ بالعُمْرةِ، فحَلَّ مِن إحرامِه، فما بُرهانُكم على [ألا إحصارَ]
(3)
فيها؟ أوَ رأَيتم إن قال قائلٌ: لا إحصارَ في حَجٍّ، وإنما فيه فَوْتٌ، وعلى الفائتِ الحَجَّ المُقامُ على إحرامِه حتى يَطُوفَ بالبيتِ ويسعى بينَ الصفا والمروةِ؛ لأنه لم يَصِحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سَنَّ في الإحصارِ في الحجِّ سُنَّةً - فقد قال ذلك جماعةٌ مِن أئمةِ الدينِ - فأما العمرةُ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سَنَّ فيها ما سَنَّ، وأنزَل اللَّهُ في حُكْمِها ما بيَّن مِن الإحلالِ والقضاءِ الذي فعَله رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصارُ دونَ الحجِّ، هل بينَها
(4)
وبينَه فرقٌ؟ ثم يُعْكَسُ عليه القولُ في ذلك، فلن يَقولَ في أحدِهما شيئًا إلا أُلزِم في الآخرِ مثلَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: فإن أُحْصِرْتم فما اسْتَيْسر من الهدْيِ، ولا تحْلِقُوا رءُوسَكم حتى يَبْلُغَ الهدْيُ محِلَّه، إلا أنْ يُضْطَرَّ إلى حَلْقِه منكم مُضْطَرٌّ؛ إما لمرَضٍ،
(1)
في الأصل: "إحرامها".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شيئًا".
(3)
في م: "عدم الإحصار"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"ألا حصار".
(4)
في م: "بينك".
وإما لأذًى برأسِه، من هوامَّ أو غيرِها، فيَحْلِقَ هنالك للضرورةِ النازلةِ به وإن لم يَبْلُغِ الهَدْيُ مَحِلَّه
(1)
، فيَلْزَمَه بحِلاقِه رأسَه وهو كذلك فديةٌ مِن صيامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قُلْتُ لعطاءٍ: ما {أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} ؟ قال: القَمْلُ وغيرُه، الصُّداعُ
(2)
وما كان في رأسِه
(3)
.
وقال آخرون: لا يَحْلِقُ إن أراد أن يَفْتَدِيَ
(4)
بالنَّسْكِ أو الإطعامِ إلا بعدَ التكفيرِ، وإن أراد أن يَفْتَدِيَ بالصَّومِ، حلَق ثم صامَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
[حُدِّثتُ عن]
(5)
عُبيدِ اللَّهِ بنِ معاذٍ، عن أبيه، عن أشعثَ، عن الحسنِ، قال: إذا كان بالمُحرِمِ أذًى مِن رأسِه، فإنه يَحْلِقُ حينَ يَبْعَثُ بالشاةِ أو يُطْعِمُ المساكينَ، وإن كان صومٌ، حلَق ثم صامَ بعدَ ذلك
(6)
.
حدَّثني عُبيدُ بنُ إسماعيلَ الهبّارِيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نميرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، قال: إذا أهلَّ الرجلُ بالحجِّ فأُحْصِر، بعَث بما اسْتَيْسَر مِن
(1)
في م: "محلين".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"والصداع". والمثبت من الأصل موافق لما ذكره السيوطي.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 338 (1782) من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 214 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 3:"الحج".
(5)
في م، ت 1:"حدثنا"، وفي ت 2، ت 3:"حدثنا عن".
(6)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذكر من قال ذلك".
الهَدْيِ؛ شاةٍ، فإن عجّل قبلَ أن يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، فحلَق رأسَه، أو مَسَّ طِيبًا، أو تَداوَى، كان عليه فِدْيةٌ مِن صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ. قال إبراهيمُ: فذكَرتُ ذلك لسعيدِ بنِ جُبيرٍ فقال: كذلك قال ابنُ عباسٍ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال: مَن أُحْصِر بمرَضٍ أو كَسْرٍ فلْيُرْسِلْ بما اسْتَيْسَر مِن الهَدْيِ، ولا يَحْلِقْ رأسَه، ولا يَحِلَّ حتى يومِ النَّحْرِ، فمَن كان مريضًا، أو اكْتَحَل، أو ادَّهَن، أو تَداوَى، أو كان به أذًى مِن رأسِه، فحلَق، ففِدْيةٌ مِن صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} : هذا إذا كان قد بعَث بهَدْيِه، ثم احتاج إلى حَلْقِ رأسِه مِن مَرَضٍ، وإلى طِيبٍ، وإلى ثوبٍ يَلْبَسُه؛ قميصٍ أو غيرِ ذلك، فعليه الفِدْيةُ.
حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ كاتبُ الليثِ، قال: حدَّثني الليثُ، عن عُقَيلٍ، عن ابنِ شهابٍ، قال: مَن أُحْصِرَ عن الحجِّ فأصابه في حَبْسِه
(3)
ذلك مَرَضٌ أو أذًى برأسِه، فحلَق رأسَه في مَحْبَسِه ذلك، فعليه فِدْيَةٌ مِن صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ.
(1)
تقدم أوله في ص 328.
(2)
تقدم تخريجه في ص 329، وأخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 338 (1780) من طريق حجاج، عن ابن حرة - وصوابه ابن جريج - عن مجاهد.
(3)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"جسده".
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: حدَّثني عُقَيلٌ، عن ابنِ شهابٍ، قال: أخبَرَني سالمُ بنُ عبدِ اللَّهِ، أنّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ قال: مَن أُحْصِرَ بعدَ أن يُهِلَّ بالحَجِّ، فحبَسه مَرَضٌ أو خوفٌ، فإنه يَتَعالجُ في حَبْسِه ذلك بكلِّ شيءٍ لا بُدَّ له منه، غيرَ أنه لا يَحِلُّ له النساءُ والطِّيبُ، ويَفْتَدِي بالفديةِ التي أمَر اللَّهُ بها؛ صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا بشرُ بنُ السَّرِيِّ، عن شعبةَ، عن عمرِو بنِ مرةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلِمةَ، قال: سُئِل عليٌّ عن قولِ اللَّهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: هذا قبلَ أن يُنْحَرَ الهَدْيُ، إن أصابه شيءٌ فعليْه الكفارةُ.
وقال آخرون: معنَى ذلك: فمَن كان منكم مريضًا أو به أذًى مِن رأسِه، فعليه فِدْيةٌ مِن صيامٍ أو صدقَةٍ أو نُسُكٍ، قبلَ الحِلاقِ إذا أراد حِلاقَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبِي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبِي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} : فمَن اشْتَدَّ مرَضُه أو آذاه رأسُه وهو مُحْرِمٌ، فعليْه صيامٌ أو إطعامٌ أو نُسُكٌ، ولا يَحْلِقُ رأْسَه حتى يُقَدِّمَ فِدْيَتَه قبلَ ذلك
(2)
.
وعلَّةُ مَن قال هذه المقالةَ ما حدَّثنا به المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن يعقوبَ، قال: سألتُ عطاءً عن قولِه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
(1)
تقدم في ص 372.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 338 (1779) عن محمد بن سعد به نحوه دون قوله: ولا يحلق.
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. فقال: إنَّ كعبَ بنَ عُجْرةَ مرَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وبرأسِه مِن الصِّئْبانِ
(1)
والقَمْلِ كثيرٌ، فقال له النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"هل عندَك شاةٌ؟ ". فقال كعبٌ: ما أجدُها. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إن شِئْتَ فأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكينَ، وإن شِئْتَ فصُمْ ثلاثةَ أيامٍ، ثم احْلِقْ رأسَك"
(2)
.
فأما المرضُ الذي أُبِيحَ له معه العلاجُ بالطِّيبِ وحَلْقِ الرأسِ، فكلُّ مرضٍ كان صلاحُه بحَلْقِه؛ كالبِرْسامِ
(3)
الذي يكونُ من صلاحِ صاحبِه حلقُ رأسِه، وما أشبهَ ذلك، والجِراحاتِ التي تكونُ بجسَدِ الإنسانِ، التي يُحتاجُ معها إلى العلاجِ بالدواءِ الذي فيه الطِّيبُ، ونحوِ ذلك من القروحِ والعِلَلِ العارِضَةِ للأبدانِ.
وأما الأذَى الذي يكونُ - إذا كان برأسِ الإنسانِ خاصةً - له حَلْقُه، فنحوُ الصُّداعِ والشَّقيقةِ
(4)
، وما أشبهَ ذلك، وأن يكثُرَ صِئبانُ الرأسِ، وكلِّ ما كان للرأسِ مُؤذيًا، مما في حَلْقِه صلاحُه، ودفْعُ المضرَّةِ الحالَّةِ به، فيكونُ ذلك له بعمومِ قولِ اللَّهِ:{أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} . وقد تَظاهرتِ الأخبارُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنّ هذه الآيةَ نزَلَتْ عليه بسببِ كعبِ بنِ عُجْرةَ، إذْ شَكَا كثْرةَ أذًى برأسِه من صِئْبانِه، وذلك عامَ الحُدَيبيةِ.
ذِكرُ الأخبارِ التي ذُكِرت
(5)
في ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الشَّواربِ وحُميدُ بنُ مَسْعدةَ، قالا: ثنا يزيدُ
(1)
الصئبان: بيض القمل. التاج (ص أ ب).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير 19/ 157 (349) من طريق محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء به بنحوه.
(3)
تقدم تعريف البرسام في ص 198، 199.
(4)
الشقيقة: وجع يأخذ نصف الرأس والوجه. التاج (ش ق ق).
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"رويت".
ابنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا داودُ، عن الشعبيِّ، عن كعبِ بنِ عُجْرةَ، قال: مرّ بيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالحديبيَةِ، ولِي وَفْرةٌ
(1)
فيها هوامُّ، ما بينَ أصلِ كلِّ شعَرةٍ إلى فَرْعِها قَمْلٌ وصِئبَانٌ، فقال:"إن هذا لَأذًى". قلتُ: أجل يا رسولَ اللَّهِ، شديدٌ. قال:"أمعك دَمٌ؟ ". قلتُ: لا. قال: "فإنْ شِئْتَ فصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وإن شِئْتَ فتَصَدَّقْ بثَلاثَةِ آصُعٍ مِن تَمْرٍ على سِتَّةِ مَسَاكِينَ، على كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ"
(2)
.
حدَّثني إسحاقُ بنُ شاهينَ الواسِطيُّ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الطحّانُ، عن داودَ، عن عامرٍ، عن كعبِ بنِ عُجْرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عُبيدٍ المحاربيُّ، قال: ثنا أسدُ بنُ عَمرٍو، عن أشعثَ، عن عامرٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مَعقلٍ، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، قال: خرَجتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم زمنَ الحديبِيَةِ، ولِي وَفْرةٌ مِن شعَرٍ قد قَمِلتْ، وأكلَني الصِّئبانُ، فرآني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"احْلِقْ". ففعلتُ، فقال:"هل لك هَدْيٌ؟ ". قلتُ: ما أَجِدُ. فقال: "إنَّه ما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ". فقلتُ ما أجِدُ. فقال: "صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ". قال: ففيَّ نزَلتْ هذه الآيةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"وقيرة". والوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن. النهاية 5/ 210.
(2)
أخرجه أبو داود (1858) من طريق يزيد بن زريع به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 75، وأحمد 30/ 48 (18124)، وأبو داود (1858)، والطبراني 19/ 117، 118 (245 - 249) من طريق معمر وابن علية وابن أبي عدي وعبد الوهاب الثقفي وشعبة وغيرهم عن داود بن أبي هند به، وصرح الشعبي بسماعه من كعب بن عجرة عند الطبراني. وخالفهم حماد بن سلمة؛ فرواه عن داود عن الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب. أخرجه أحمد 30/ 47 (18122)، وأبو داود (1857)، والطبراني 19/ 117 (244)، والبيهقي 5/ 185. ورواه يزيد بن هارون عن داود، واختلف عليه؛ فأخرجه الدارقطني 2/ 299 من طريق أحمد بن سنان عن يزيد بن هارون عن داود عن عامر عن كعب، فوافق رواية الأكثر عن داود، وأخرجه الطبراني 19/ 117 (243) من طريق إدريس بن جعفر عن يزيد عن داود عن الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب، فوافق رواية حماد بن سلمة. وينظر تاريخ ابن معين (2561)، والتمهيد 2/ 236، والفتح 4/ 13.
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} إلى آخرِ الآيةِ
(1)
.
وهذا الخبرُ يُنْبئُ عن أنّ الصحيحَ من القولِ أنّ الفِديةَ إنما تجِبُ على الحالقِ بعدَ الحلْقِ، وفسادِ قولِ مَن قال: يَفْتَدِي ثم يَحلِقُ. لأن كعبًا يُخبِرُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَه بالفديةِ بعدَما أمرَه بالحلْقِ فحلَق.
حدَّثني محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ الأصبهانيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مَعقلٍ، عن كعبِ بنِ عُجرةَ، أنه قال: أمَرني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ، أو فَرَقٍ من طعامٍ بينَ ستَّةِ مساكينَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الأصبهانيِّ، عن عبدِ اللَّه بنِ مَعقلٍ، قال: قعَدتُ إلى كعبٍ وهو في المسجدِ، فسألتُه عن هذه الآيةِ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . فقال كعبٌ: نزَلتْ فيَّ؛ كان بي أذًى من رأسِي، فحُمِلتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثرُ علَى وجْهِي، فقال: "ما كُنْتُ أُرَى أنَّ الجَهْدَ بَلَغَ
(3)
مِنْكَ ما أرَى، أتجِدُ شاةً؟ ". فقلتُ: لَا، فنزَلتْ هذه الآيةُ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: فنزَلتْ فيَّ خاصةً، وهي لكم عامَّةً
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد 30/ 48 (18123)، والترمذي 5/ 197 عقب الحديث (2973) من طريق أشعث به. وخالف أشعث مغيرة بن مقسم فرواه عن الشعبي عن كعب أخرجه إبراهيم بن طهمان في مشيخته ص 205 (167).
(2)
أخرجه أحمد 3/ 45 (18119)، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 120 من طريق مؤمل به نحوه.
(3)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"يبلغ". وهو رواية للبخاري والنسائي.
(4)
أخرجه مسلم (1201/ 85)، والنسائي في الكبرى (4113) من طريق محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 30/ 37 - 39 (18109 - 18111)، والبخاري (1816، 4517)، وابن ماجه (3079)، والنسائي في الكبرى (11031)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 338 (1781)، والواحدي في أسباب النزول ص 39 من طريق شعبة به، وينظر الطيالسي (1158).
حدَّثني تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبرنا إسحاقُ الأزرقُ، عن شَريكٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الأصبهانيِّ، قال: سمِعتُ عبدَ اللَّهِ بنَ معقلٍ المُزَنيَّ
(1)
يقولُ: سمِعتُ كعبَ بنَ عُجرةَ يقولُ: حجَجْتُ مع نبيِّ اللَّهِ عليه السلام فقَمِلَ رأسِي ولحيَتي وشارِبي وحاجبَيَّ، فذُكِرَ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليَّ فقال:"ما كُنْتُ أُرَى أنَّ هَذَا أصَابَكَ". ثم قال: "ادْعُوا لي حَلَّاقًا". فدعَوْه، فحلَقَنِي، ثم قال:"أعنْدَكَ شيءٌ تَنْسُكُه عنك؟ ". قال: قلتُ: لَا. قال: "فَصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ طَعامٍ". قال كعبٌ: فنزَلتْ هذه الآيةُ فيَّ خاصةً: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . ثم كانت للناسِ عامَّةً
(2)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ الجَهْضَمِيُّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: حدَّثني أيوبُ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى، عن كعبِ بنِ عُجرةَ، قال: مَرَّ بيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا أُوقِدُ تحتَ قِدْرٍ، والقَمْلُ يتَناثرُ على وجْهِي، فقال:"أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رأْسِكَ؟ ". قال: قلتُ: نَعم. قال: "احْلِقْه وصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ، أو اذْبَحْ شاةً"
(3)
.
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: ثنا أيوبُ بإسنادِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه، إلّا أنه قال: والقمْلُ يَتناثرُ عليَّ. أو قال: علَى حاجِبَيَّ. وقال أيضًا. "أو
(1)
في م: "المري". وينظر تهذيب الكمال 16/ 169.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (289 - تفسير)، وأحمد 30/ 46 (18120)، ومسلم (1201/ 86)، والبغوي في الجعديات (610)، والواحدي في أسباب النزول ص 39، والطبراني في الكبير 19/ 137 (300 - 302) من طرق عن عبد الرحمن بن الأصبهاني به.
(3)
أخرجه ابن حبان (3978) من طريق نصر بن علي به، وأخرجه أحمد 30/ 54 (18131)، والبخاري (4190، 5703)، ومسلم (1201/ 80)، والطبراني في الكبير 19/ 113، 114 (232، 234، 235)، والبيهقي 5/ 242 من طريق أيوب به.
انْسُكْ نَسيكَةً
(1)
". قال أيوبُ: لا أدرِي بأيَّتِهنَّ بدَأَ
(2)
.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عَوْنٍ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى، عن كعبٍ، قال: فيَّ نزَلتْ هذه الآيةُ. قال: فقال لي: "ادْنُه". فدنَوْتُ [فقال لي: "ادْنُ". فدنوْتُ]
(3)
، فقال:"أيُؤْذيكَ هوامُّك؟ ". قال: أظُنُّه قال: نَعم. قال: [فأمَرني بصيامٍ أو صَدقةٍ، أو]
(4)
نَسْكِ ما تيسَّرَ
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن صالحٍ
(6)
أبي الخليل، عن مجاهدٍ، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أتَى عليه زمنَ الحديبيةِ وهو يُوقِدُ تحتَ قِدرٍ له، وهوامٌ رأسِه تَتَناثَرُ علَى وجهِه، فقال:"أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ". قال: نعَم. قال: "احْلِقْ رأسَكَ، وعليك فِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ، تَذبَحُ ذَبِيحَةً، أو تَصُومُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو تُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ".
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن
(7)
أبي الخليلِ، عن عبدِ الرحمن بنِ أبي ليلَى، قال: ذُكِرَ لنا أنَّ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى علَى
(1)
في الأصل: "تنسكة"، وفي ت 2، ت 3:"نسكة".
(2)
أخرجه أحمد 30/ 36 (18107)، ومسلم (1201/ 80)، والترمذي (2974)، والنسائي في الكبرى (4110)، والطبراني في الكبير 19/ 114 (234) من طريق إسماعيل بن علية به.
(3)
سقط من: م، وبعده في الأصل:"فقال: ادن، فدنوت". والمثبت موافق لرواية مسلم.
(4)
في ت 2: "احلق رأسك وعليك فدية".
(5)
أخرجه البخاري (6708)، ومسلم (1201/ 81)، والنسائي في الكبرى (11030)، والطحاوي 3/ 120، والطبراني في الكبير 19/ 112، 113 (230، 231)، وابن حبان (3982)، والواحدي في أسباب النزول ص 39.
(6)
بعده في النسخ: "ابن". وسيأتي على الصواب في الإسناد بعده، وهو صالح بن أبي مريم أبو الخليل. ينظر تهذيب الكمال 13/ 89.
(7)
بعده في م: "ابن".
كعبِ بنِ عُجرةَ زمنَ الحديبيةِ. ثم ذكرَ نحوَه
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسروقيُّ، قال: حدَّثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، قال: وأخبرَني سيفٌ، عن مُجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلي، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، قال: مرَّ بي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبيةِ، ورأسِي يتَهافَتُ قملًا، فقال:"أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ". قال: فقلتُ: نَعم. قال: "فاحْلِقْ". قال: ففيَّ نزَلتْ هذه الآيةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، قال: ثنا ابنُ عُيينةَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ وأيوبَ السَّخْتِيانيِّ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن كعبِ بنِ عُجْرةَ، قال: مرَّ بي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيةِ وأنا أُوقِدُ تحتَ قدرٍ، والقمْلُ يتهافَتُ عليَّ، فقال:"أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ". قال: قلتُ: نعم. قال: "فاحْلِقْ، وانْسُكْ نَسِيكَةً، أو صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مسَاكِينَ". قال: قال أيوبُ: "انسُكْ نسيكةً". وقال ابنُ أبي نَجيحٍ: "اذبحْ شاةً". قال سفيانُ: والفَرَقُ ثلاثةُ آصُعٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلى، عن
(1)
أخرجه الطبراني 19/ 115 (238) من طريق يزيد بن زريع به.
(2)
أخرجه أحمد 30/ 52 (18128)، والبخاري (1815)، ومسلم (1201/ 82)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 338 (1783)، والدارقطني 2/ 298، 299 من طريق سيف به.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (291 - تفسير)، والبخاري (5665)، ومسلم (1201/ 83)، والترمذي (953) من طريق سفيان بن عيينة به. والفَرَق بالتحريك: مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثنا عشر مُدًّا، أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز، فأما الفَرْق بالسكون فمائة وعشرون رطلًا، والصاع: مكيال يسع أربعة أمداد. ينظر النهاية 3/ 60، 437.
كعبِ بنِ عُجرةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رآه وقمْلُه يسقُطُ علَى وجْهِهِ، فقال:"أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ". قال: نعم. فأمَره أن يحلِقَ وهو بالحديبيةِ، [ولم]
(1)
يتبيَّنْ لهم أنهم يحِلُّون بها، وهم على طمَعٍ أن يدخُلوا مكَّةَ، فأنزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى الفديةَ، فأمَره رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُطعِمَ فَرَقًا بينَ ستةِ مساكينَ، أو يُهدِيَ شاةً، أو يصومَ ثلاثةَ أيامٍ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالحديبيةِ ونحن محرمون، وقد حَصَرَنا المشركون، قال: وكانت لي وفرةٌ، فجعَلت الهوامُّ تَساقَطُ علَى وجهِي، فمرّ بي النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رأسِكَ؟ ". قال: قلتُ: نعم. قال
(3)
: ونزَلتْ هذه الآيةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن مجاهدٍ، عن كعبِ بنِ عُجرَةَ، قال: لَفِيَّ نَزَلتْ، وإيّايَ عُني بها:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبيةِ، وهو عندَ الشجرةِ، وأنا محرِمٌ: "أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ
(5)
؟ ". قلتُ: نعم - أو كلمةً لا أحفظُها عنَى بها ذاكَ - فأنزَل اللَّهُ جلَّ ثناؤُه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لم".
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير 19/ 112 (228) من طريق أبي عاصم به.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
أخرجه الطيالسي (1161)، وسعيد بن منصور في سننه (290 - تفسير)، وأحمد 30/ 25 (18101)، والبخاري (4191)، والترمذي 5/ 197 عقب الحديث (2973) من طريق هشيم به.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هوامه".
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}: والنُّسُكُ شاةٌ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن مغيرةَ، عن مجاهدٍ، قال: قال كعبُ بنُ عُجْرَةَ: والذي نفسِي بيدِه، لَفيَّ نزَلت هذه الآيةُ، وإيايَ عُنِي بها. ثم ذكَر نحوَه. قال: وأمرَه أنْ يحلِقَ رأسَه
(1)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني مالكُ بنُ أنسٍ، عن عبدِ الكريمِ بنِ مالكٍ الجَزَرِيِّ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، أنه كان مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فآذاه القملُ في رأسِه، فأمَره رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يحلِقَ رأسَه وقال:"صُمْ ثلاثَةَ أيَّامٍ، أَوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ؛ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لكلِّ إنْسانٍ، أو انْسُكْ بشاةٍ، أيَّ ذلك فعلتَ أَجزأَ عنك"
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، أن مالكَ بنَ أنسٍ حدَّثه عن حُميدِ بنِ قيسٍ، عن مجاهدٍ، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال له:"لَعَلَّه آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ ". يعني القمْلَ. قال: قلتُ: نَعم يا رسولَ اللَّهِ. فقال رسولُ اللَّهِ: "احْلِقْ رأسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكينَ، أو انْسُكْ بِشاةٍ"
(3)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (292 - تفسير)، والترمذي (2973) من طريق هشيم به.
(2)
الموطأ (504) - رواية الشيباني - ومن طريقه أحمد 30/ 34 (18106)، والنسائي (2851)، والبيهقي 5/ 55، وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني 3/ 120، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 339 (1785) عن يونس بن عبد الأعلى به، وأخرجه ابن الجارود (450)، والبيهقي 5/ 169 من طريق ابن وهب به، وأخرجه مسلم (1201/ 83)، والترمذي (953)، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 120، والطبراني في الكبير 19/ 110، 114 (222، 236) من طرق عن عبد الكريم الجزري به.
(3)
الموطأ 1/ 417 - ومن طريقه البخاري (1814) - عن حميد بن قيس، عن مجاهد عن ابن أبي ليلي، عن كعب، وأخرجه مسلم (1201/ 83)، والترمذي (953)، والطبراني في الكبير 19/ 114 (236)، والبيهقي 5/ 55 وغيرهم من طريق سفيان بن عيينة عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن أبي ليلى به، قال ابن عبد البر في التمهيد 2/ 233: ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن عفير عن مالك عن حميد عن مجاهد =
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، أن مالكَ بنَ أنسٍ حدَّثه عن عطاءِ بنِ عبدِ اللَّهِ الخُراسانيِّ، أنه قال: أخبرني شيخٌ بسوقِ البُرَمِ بالكوفةِ، عن كعبِ بنِ عُجرةَ، أنه قال: جاءَني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا أنفُخُ تحتَ قِدْرٍ لأصحابي، وقد امتلأَ رأْسِي ولحيتي قمْلًا، فأخَذ بجبْهَتي ثم قال:"احْلِقْ هذا، وصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ". وقد كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أنه ليس عندي ما أَنسُكُ به
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرني ابنُ نافعٍ، قال: أخبَرني أسامةُ بنُ زيدٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القرظيِّ، عن كعبِ بنِ عُجْرةَ، قال كعبٌ: أمَرني النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين آذاني القملُ أن أحلِقَ رأسِي، ثم أصومَ ثلاثةَ أيامٍ، أو أطعِمَ ستةَ مساكينَ، وقد علِمَ أنه ليس عندي ما أنسُكُ منه
(2)
.
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجوهريُّ، قال: ثنا روحٌ، عن أسامةَ بنِ زيدٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، قال: سمِعتُ كعبَ بنَ عُجرةَ يقولُ: أمرَنِي - يعني رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن أحلِقَ وأَفتديَ بشاةٍ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ، عن عَنْبَسَةَ، عن الزبيرِ بنِ عديٍّ، عن أبي وائلٍ شقيقِ بنِ سلَمةَ، قال: لقِيتُ كعبَ بنَ عُجْرَةَ في هذه السوقِ، فسألتُه
= عن كعب بن عجرة، لم يذكروا ابن أبي ليلى
…
والحديث لمجاهد عن ابن أبي ليلى صحيح لا شك فيه، عند أهل العلم
…
وهو الصحيح من رواية حميد بن قيس وعبد الكريم الجزري عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة.
(1)
الموطأ 1/ 417، 418، ومن طريقه الطبراني في الكبير 19/ 120 (256).
(2)
في م: "به".
والأثر أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 3/ 120 عن يونس به، وأخرجه ابن ماجه (3080)، والطبراني في الكبير 19/ 158 (352) من طريق عبد الله بن نافع به.
(3)
أخرجه الطبراني 19/ 158 (351) من طريق روح به.
عن حلْقِ رأسِه، فقال: أحرَمْتُ فآذاني القملُ، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأتانِي وأنا أطبخُ قِدرًا لأصحابي، فحَكَّ بأُصبُعِه رأسِي فانْتَثَرَ منه القملُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"احْلِقْه، وأطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ"
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: أخْبَرنا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبرني عطاءٌ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما
(2)
كان بالحديبيةِ عامَ حُبسوا بها، وقَمِل رأسُ رجلٍ منهم
(3)
من أصحابِه، يقالُ له: كعبُ بنُ عُجْرةَ. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أتُؤْذِيكَ هذه الهَوَامُّ؟ ". قال: نعم. قال: "فاحْلِقْ وَاجْزُزْ، ثُمَّ صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ؛ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ". قال: قلتُ: أَسَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُدَّين مُدَّينِ؟ قال: نعم. كذلك بلَغنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمَّى ذلك لكعبٍ، ولم يسمِّ النسُكَ. قال: وأخبَرني أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبَر كعبًا بذلك في الحديبيةِ، قبلَ أن يؤذَنَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بالحلقِ والنحرِ، لا يدرِي عطاءٌ كمْ بينَ الحلْقِ والنَّحرِ.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ وهبٍ، قال: ثنى عَمِّي عبدُ اللَّهِ بنُ وهبٍ، قال: أخبَرني الليثُ، عن ابنِ مُسافرٍ، عن ابنِ شهابٍ، عن فضالةَ بنِ محمدٍ الأنصاريِّ، أنه أخبَره من
(4)
لا يَتَّهمُ من قومِه، أنّ كَعبَ بنَ عُجرةَ أصابَه أذًى في رأسِه، فحلَقَ قبلَ أن يبلُغَ الهديُ مَحِلَّه، فأمَره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ
(5)
.
(1)
أخرجه الطبراني 19/ 106 (213) من طريق ابن حميد به، وفيه عمرو بن أبي قيس بدلا من: عنبسة، والنسائي (2852) من طريق عمرو بن أبي قيس، عن الزبير بن عدي به.
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "عمن".
(5)
أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير 7/ 126، وابن أبي حاتم في الجرح 7/ 77، في ترجمة فضالة بن محمد.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو الأسودِ، قال: أخبرني ابنُ لَهيعةَ، عن مَخْرمَةَ، عن أبيه، قال: سمِعتُ عمرَو بنَ شُعيبٍ يقولُ: سمِعتُ شُعيبًا يحدِّثُ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لكعبِ بنِ عُجرةَ: "أَيُؤْذِيكَ دَوَابُّ رأسِكَ؟ ". قال: نَعم. قال: "فاحْلِقْهُ، وَافْتَدِ؛ إمَّا بصَوْمِ
(1)
ثَلاثَةِ أيَّامٍ، وإمَّا أنْ تُطْعِمَ سِتَّةَ مَساكِينَ، أوْ نَسْكِ شاةٍ". ففعَلَ
(2)
.
وقد بيَّنا قبلُ معنى "الفديةِ"، وأنها بمعنى الجزاءِ والبدلِ
(3)
.
واختلَف أهلُ العلمِ في مبلغِ الصيامِ والطعامِ اللَّذَين أوجَبهما اللَّهُ على من حلَق شعرَه من المحْرِمِين في حالِ مرضِه، أو مِن أذًى برأسِه؛ فقال بعضُهم: الواجبُ عليه من الصيامِ ثلاثةُ أيامٍ، ومن الطعامِ ثلاثةُ آصُعٍ بينَ ستةِ مساكينَ؛ لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ. واعتلُّوا بالأخبارِ التي ذكرْناها قبلُ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: الصيامُ ثلاثةُ أيامٍ، والطعامُ إطعامُ ستةِ مساكينَ، والنُّسكُ شاةٌ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، عن عطاءٍ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ يمانٍ، عن عثمانَ بنِ الأسودِ، عن مجاهدٍ مثلَه.
(1)
في الأصل، ت 1، ت 3:"صوم".
(2)
أخرجه الطبراني 19/ 104، 105 (211) من طريق مخرمة به.
(3)
ينظر ما تقدم في ص 180.
(4)
ينظر المحلى 7/ 317.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبرإهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ ومجاهدٍ، أنهما قالا في قولِه:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قالا: الصيامُ ثلاثةُ أيامٍ، والطعامُ إطعامُ ستةِ مساكينَ، والنُّسكُ شاةٌ فصاعدًا
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن أشعثَ، عن الشَّعبيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مَعْقِلٍ، عن كعبِ بنِ عُجْرةَ، أنه قال في قولِه:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: الصيامُ ثلاثةُ أيامٍ، والطعامُ إطعامُ ستةِ مساكينَ، والنُّسكُ شاةٌ فصاعدًا. إلَّا أنه قال في إطعامِ المساكينِ: ثلاثةُ آصُعٍ مِن تَمرٍ بين ستةِ مساكينَ
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} : إن صنَع واحدًا فعليه فديةٌ، وإن صنَع ثنتين فعليه فديتان، وهو مخيَّرٌ أن يصنَعَ أيَّ الثلاثةِ شاءَ؛ أما الصيامُ فثلاثةُ أيامٍ، وأما الصدَقةُ فستةُ مساكينَ؛ لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ، وأما النسُكُ فشاةٌ فما فوقَها، أُنزِلتْ هذه الآيةُ في كعبِ بنِ عُجْرةَ الأنصاريِّ، كان أُحصِرَ، فقمِلَ رأسُه فحلَقه.
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ: عن مجاهدٍ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} : أو اكتحَلَ، أو ادَّهنَ، أو تداوَى {أَوْ} كان {بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} مِن قملٍ فحلَقَ، {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} ثلاثةِ أيامٍ، {أَوْ صَدَقَةٍ} فَرَقٍ بينَ ستةِ مساكينَ، {أَوْ نُسُكٍ} والنسكُ شاةٌ
(3)
.
حدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (294 - تفسير) عن هشيم به.
(2)
أخرجه أحمد 30/ 48 (18123) عن هشيم به مرفوعًا.
(3)
تفسير مجاهد ص 225، 226. وينظر ما تقدم في ص 379.
{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . قال: فإن عجّلَ من
(1)
قبلِ أن يبلُغَ الهديُ محلَّه، فحلَق، ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ. قال: فالصيامُ ثلاثةُ أيامٍ، والصدقةُ طعَامُ ستةِ مساكينَ؛ بينَ كلِّ مسكينيْنِ
(2)
صاعٌ، والنسُكُ شاةٌ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبسةَ، عن عبدِ الكريمِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: يصومُ صاحبُ الفديةِ مكانَ كلِّ مُدَّينِ يومًا. قال: مُدًّا لطعامِه، ومُدًّا لإدَامِه
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عنبسةَ بإسنادِه مثلَه.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا بشرُ بنُ السَّريِّ، عن شعبةَ، عن عَمرِو بنِ مُرةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلِمةَ، قال: سُئِلَ عليٌّ عن قولِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: الصيامُ ثلاثةُ أيام، والصدقةُ ثلاثةُ آصُعٍ على ستةِ مساكينَ، والنُّسكُ شاةٌ
(4)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى يزيدُ بنُ أبي حبيبٍ، عن حربِ بنِ قيسٍ مَولَى يحيى بنِ
(5)
طلحةَ، أنه سمِعَ محمدَ بنَ كعبٍ وهو يذكرُ الرجلَ الذي أُنزِلَتْ فيه:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} . قال: فأَفتاهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أمَّا الصيامُ فثلاثةُ أيامٍ، وأما المساكينُ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"مسكين".
(3)
المُدُّ في الأصل: ربع الصاع، وهو رطل وثلث بالعراقي عند الشافعي وأهل الحجاز، ورطلان عند أبي حنيفة. ينظر النهاية 4/ 308.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 214 إلى المصنف.
(5)
بعده في م: "أبي". وينظر ثقات ابن حبان 6/ 230.
فستةٌ، وأمّا النُّسُكُ فشاةٌ".
حدَّثني عبيدُ بنُ إسماعيلَ الهبّارِيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نُميرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، قال: إذا أهَلَّ الرجلُ بالحجِّ فأُحصِرَ، بعَث بما استيسرَ من الهدْيِ؛ شاةٍ، فإنْ عجَّلَ قبلَ أن يبلُغَ الهدْيُ مَحِلَّه؛ حلَقَ رأسَه، أو مَسّ طيبًا، أو تَداوَى، كان عليه فديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ، والصيامُ ثلاثةُ أيامٍ، والصدقةُ ثلاثةُ آصُعٍ على ستةِ مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ، والنُّسكُ شاةٌ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ ومجاهدٍ قولَه:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قالا: الصيامُ ثلاثةُ أيامٍ، والصدقةُ ثلاثةُ آصُعٍ على ستةِ مساكينَ، والنُّسكُ شاةٌ
(2)
.
وقال آخرون: الواجبُ عليه إذا حلَقَ رأسَهُ من أذًى، أو تَطيَّبَ لعلةٍ من مرضٍ، أو فعَل ما لم يكنْ له فعلُه في حالِ صحتِه، وهو محرمٌ، من الصومِ؛ صيامُ عشرةِ أيامٍ، ومن الصدقةِ؛ إطعامُ عشرةِ مساكينَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ أبي عمرانَ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ بنُ معاذٍ، عن أبيه، عن أشعثَ، عن الحسنِ في قولِه:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: إذا كان بالمحْرِمِ أذًى مِن رأسِه، حلَقَ وافتدَى بأيِّ هذه الثلاثةِ شاءَ؛ فالصيامُ عشَرةُ أيامٍ، والصدقةُ على عشَرةِ مساكينَ؛ كلَّ مسكينٍ مكُّوكَين
(3)
؛ مكُّوكًا من تمرٍ، ومكوكًا مِن بُرٍّ،
(1)
تقدم أوله في ص 328.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 249 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق جرير به.
(3)
في الأصل: "مكوكان". والمكوك: مكيال لأهل العراق. اللسان (م ك ك).
والنُّسكُ شاةٌ
(1)
.
حدَّثني عبدُ الملكِ بنُ محمدٍ الرَّقاشِيُّ، قال: ثنا بشرٌ بنُ عمرَ
(2)
، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن الحسنِ وعِكرمةَ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: إطعامُ عشَرةِ مساكينَ
(3)
.
وقاسَ قائلُو هذا القولِ كلَّ صيامٍ وجَبَ على مُحْرِمٍ أو صدقةِ جزاءٍ، مِن نقصٍ دخَلَ في إحرامِه، أو فِعلِ ما لمْ يكنْ له فعلُه، بدَلًا من دَمٍ، على ما أوجبَ اللَّهُ تبارك وتعالى على المتمتعِ من الصومِ إذا لم يجدِ الهدْيَ. وقالوا: جعَلَ اللَّهُ على المُتمتعِ صيامَ عشَرَةِ أيامٍ مكانَ الهدْيِ إذا لمْ يَجدْه. قالوا: فكلُّ صومٍ وجَبَ مكانَ دمٍ فمثلُه. قالوا: وإذا لم يصُمْ فأرادَ الإطعامَ، فإن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه أقامَ إطعامَ مسكينٍ مكانَ صومِ يومٍ لمن عجَزَ عن الصومِ في رمضانَ. قالوا: فكلُّ مَن جُعِلَ الإطعامُ له مكانَ صومٍ لَزِمَه، فهو نَظيرُه. فلذلك أوجَبوا إطعامَ عشَرةِ مساكينَ في فديةِ الحلْقِ.
وقال آخرون: بل الواجبُ على الحالقِ النُّسكُ، شاةٌ إن كانتْ عندَه، فإن لم تكنْ عندَه، قُوِّمتِ الشاةُ دراهمَ، والدراهمُ طعامًا، فتصدَّق به، وإلَّا صامَ لكلِّ نصفِ صاعٍ يومًا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عيَّاشٍ، قال: ذَكَر الأعمشُ قال: سألَ إبراهيمُ سعيدَ بنَ جُبيرٍ عن هذه الآيةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (295 - تفسير) من طريق منصور عن الحسن بنحوه، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 338.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عمرو". وينظر تهذيب الكمال 4/ 138.
(3)
أخرجه ابن حزم في المحلى 7/ 317 من طريق بشر بن عمر به بنحوه.
فأجابَه: يقولُ
(1)
: يُحكَمُ عليه طعامٌ، فإن كان عندَه اشترَى شاةً، فإن لم يكنْ، قُوِّمتِ الشاةُ دراهِمَ، فجُعِلَ مكانَه طعامٌ فتَصدّقَ به، وإلَّا صامَ لكلِّ نصفِ صاعٍ يومًا. فقال إبراهيمُ: كذلك سمِعتُ علقمةَ يَذكُرُ. قال: لما قامَ قال لي سعيدُ بنُ جبيرٍ: مَن
(2)
هذا؟ ما أظرفَه! قال: قلتُ: هذا إبراهيمُ. فقال: ما أظرفَه، كان يُجالِسُنَا. قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيمَ. قال: فلمَّا قلتُ: يُجالسُنا. انْتفضَ منها
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عَنْبَسةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: يُحكَمُ علَى الرجلِ في الصيدِ، فإن لم يجِدْ جزاءَه قُوِّمَ طعامًا، فإن لم يكنْ طعامٌ، صامَ مكانَ كلِّ مُدَّينِ يومًا، وكذلِك الفديةُ
(4)
.
وقال آخرون: بل هو مخيَّرٌ بينَ الخِلالِ الثلاثِ يَفتدِي بأيِّها شاءَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثَنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سيفِ بنِ سليمانَ، عن مجاهدٍ، قال: كلُّ شيءٍ في القرآنِ: "أوْ، أوْ". فهو بالخيارِ، مثلُ الجرابِ فيه الخيطُ الأبيضُ والأسودُ، فأيُّهما خرَجَ أخذْتَه
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن
(1)
في م: "بقوله".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 338 عن المصنف.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1208 (6813، 6815) من طريق ابن أبي نجيح به بنحوه.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 339 عقب الأثر (1786) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 214 إلى عبد بن حميد.
ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: كلُّ شيءٍ في القرآنِ: "أوْ، أوْ". فصاحبُه بالخيارِ، يأخُذُ [الأوَّلَ فالأوَّلَ]
(1)
.
حدَّثنا أبو كريب، قال: تنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ ليْثًا، عن مجاهدٍ، قال: كلُّ ما كان في القرآنِ: "كذا، فمن لم يجِدْ فكذَا". فالأوَّلَ الأوَّلَ، [وما]
(2)
كان في القرآنِ: "أوْ كذا، أو كذا". فهو فيه بالخيارِ.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْدِيُّ، قال: ثنا المحارِبيُّ، عن يحيى بنِ أبي أُنيسةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وسُئِلَ عن قولِه:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . فقال مجاهدٌ: إذا قال اللَّهُ تبارك وتعالى لشيءٍ: "أو، أو". فإن شِئتَ فخُذْ بالأوَّلِ، وإن شئْتَ فخُذْ بالآخرِ.
حدّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، قال: قال لي عطاءٌ و
(3)
عَمرُو بن دينارٍ في قولِه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قالا: له أيَّتُهُنَّ شاءَ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبَرنا ابن جُريجٍ، قال: قال لي عطاءٌ: كلُّ شيءٍ في القرآنِ "أو، أو". فلصاحبِه أن يختارَ أيَّه شاءَ. قال: قال ابنُ جُريجٍ: وقال لي عَمرُو بن دينارٍ: كلُّ شيءٍ في القرآنِ: "أو، أو". فلصاحبِه أن يأخُذَ بما شاءَ
(4)
.
(1)
في م: "الأولى فالأولى".
(2)
في الأصل: "فما"، وفي م:"وكل ما".
(3)
في ت 2، ت 3:"أو".
(4)
أخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره - كما في الفتح 11/ 594 - والشافعي في الأم 2/ 188، والبيهقي 5/ 185، وفي المعرفة 4/ 192، 193 عن ابن جريج به، قال الحافظ: وسنده صحيح.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا ليثٌ، عن عطاءٍ ومجاهدٍ، أنهما قالا: ما كانَ في القرآنِ: "أو كذا، أو كذا". فصاحبُه بالخيارِ، أيَّ ذلك شاءَ فعَلَ.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدٌ
(1)
، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن
(2)
مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كلُّ شيءٍ في القرآنِ: "أو، أو". فهو مُخَيَّرٌ فيه، فإن كان:"فمَن، فمَن". فالأولَ فالأولَ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا أسباطُ بنُ محمدٍ القرشيُّ، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، قال: كلُّ شيءٍ في القرآنِ: "أو، أو". فلْيتخَيَّرْ أيَّ الكفاراتِ شاءَ، فإذا كان:"فمَن لم يجِدْ". فالأولَ فالأولَ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو النعمانِ عارمٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، قال: نُبِّئْتُ عن عطاءٍ، قال: كلُّ شيء في القرآنِ: "أو، أو". فهو خيارٌ.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا ما ثبَتَ به الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وتظاهرَتْ به عنه الروايةُ، أنه أَمَر كعبَ بنَ عُجرَةَ بحلْقِ رأسِه من الأذَى الذي كان برأسِه، ويفْتدِي إن شاءَ؛ بنسكٍ شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ، أو إطعامِ فَرَقٍ من طعامٍ
(5)
ستةَ مساكينَ؛ كلَّ مسكينٍ نصفَ صاعٍ. وللمفتدِي الخيارُ بين أيِّ ذلك شاءَ؛ لأنَّ
(1)
في م، ت 1:"يزيد".
(2)
في م: "و".
(3)
تفسير سفيان ص 61 - ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه (8192) - وأخرجه ابن أبي شيبة ص 45 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 339 (1786)، والبيهقي 10/ 60 من طريق ليث به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 214 إلى ابن المندر وأبي الشيخ.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 45 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن أسباط به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 214، 2/ 330 إلى ابن المنذر.
(5)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بين".
اللَّهَ لمْ يحصُرْه على واحدةٍ منهن بعينِها فلا يجوزَ له أن يعدُوَها إلى غيرِها، بل جعَلَ إليه فعْلَ أيِّ الثلاثِ شاءَ.
ومَن أبَى ما قُلنا في
(1)
ذلك، قيلَ له: ما قلتَ في المكفِّرِ عن يمينِه، أمخيَّرٌ إذا كان موسِرًا في أن يكفِّرَ بأيِّ الكفاراتِ الثلاثِ شاءَ؟ فإن قال: لَا. خرَج من قولِ جميعِ الأُمةِ. وإن قال: بلَى. سُئلَ الفَرْقَ بينَه وبينَ المفتدِي مِن حلْقِ رأسِه وهو مُحْرِمٌ من أذًى به، ثم لن يقولَ في أحدِهما شيئًا إلَّا أُلزِمَ في الآخرِ مثلَه. على أن ما قلنا في ذلك إجماعٌ من الحُجَّةِ، ففي ذلك مُستَغنًى عن الاستشهادِ على صحتِه بغيرِه.
وأمَّا الزاعمون أن كفارةَ الحلْقِ قبلَ الحلْقِ، فإنه يقالُ لهم: أخبِرونا عن الكفارةِ للمُتَمتِّع، قبلَ التَّمتعِ أو بعدَه؟ فإن زَعَموا أنها قبلَه، قيل لهم: وكذلك الكفارةُ عن اليميِن قَبلَ اليمينِ. فَإن زعَموا أن ذلك كذلك، خرَجُوا من قولِ الأُمةِ. وإن قالوا: ذلك غيرُ جائز. قيل لهم: وما الوجهُ الذي من قِبَلِه وجَب أن تكونَ كفارةُ الحلْقِ قبلَ الحلْقِ وهدْيُ المتعةِ قبلَ التَّمتُّعِ، ولم يَجِبْ أن تكونَ كفارةُ اليمينِ قبلَ اليمينِ، وهل بينَكم وبينَ مَن عكَس عليكم الأمرَ في ذلك، فأوجَبَ كفارةَ اليمينِ قبلَ اليمينِ، وأبطلَ أن تكونَ كفارةُ الحلْقِ كفارةً له إلَّا بعدَ الحلقِ - [فرقٌ من أصلٍ أو نظيرٍ]
(2)
؟ فلن يقولوا
(3)
في أحدِهما شيئًا إلَّا أُلزِموا
(4)
في الآخرِ مثلَه.
فإن اعتَلَّ في كفارةِ اليمينِ قبلَ اليمينِ أنها غيرُ مجزئةٍ قبلَ الحلف بإجماعِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(2)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
(4)
في م: "ألزم"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"لزم".
الأمةِ، قيل له: فَرُدَّ الأخرى قياسًا عليها إذ
(1)
كان فيها اختلافٌ.
وأما القائلونَ: إن الواجب على الحالقِ رأسَه من أذًى؛ من الصيامِ عشَرةُ أيامٍ، ومن الإطعامِ عشَرةُ مساكينَ. فمخالفون نصَّ الخبرِ الثابتِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فيقالُ لهم: أرأيتم مَن أصاب صيدًا فاختارَ الإطعامَ أو الصيامَ، أتسوُّون بينَ جميعِ [ما يجِبُ عليه]
(2)
بقتْلِه الصيدَ صغيرَه وكبيرَه من الإطعامِ والصومِ، أم تفرِّقون بين ذلك على قدرِ افتراقِ المقتولِ من الصيدِ في الصِّغرِ والكِبرِ؟ فإنْ زعَمُوا أنهم يسوُّون بينَ جميعِ ذلك، سوَّوا بين ما يجِبُ على مَن قتَلَ بقرةً وحشِيَّةً وبين ما يجِبُ على مَن قتَلَ وَلدَ ظَبيةٍ، من الإطعامِ والصيامِ. وذلك قولٌ - إن قالوه - لقولِ الأُمةِ مخالفٌ.
فإن قالوا: بل نُخالِفُ
(3)
بينَ ذلك، فنوجِبُ ذلك عليه على قدرِ قيمةِ المصابِ من الطعامِ والصيامِ.
قيل لهم: فكيف ردَدتُم الواجبَ على الحالقِ رأسَه مِن أذًى من الكفارةِ، على الواجبِ على المتَمتِّعِ من الصومِ، وقد علِمتم أنَّ المتمتِّعَ غيرُ مُخَيَّرٍ بينَ الصيامِ والإطعامِ والهدْيِ، ولا هو مُتلِفٌ شيئًا وجبَت عليه منه كفارةٌ، وإنما هو تاركٌ عملًا من الأعمالِ، وترَكتم رَدَّ الواجبِ عليه وهو مُتلِفٌ، بحلْقِه رأسَه، ما كان ممنوعًا من إتلافِه، ومُخيَّرٌ بين الكفاراتِ الثلاثِ، نظيرَ المصيبِ الصيدَ، الذي هو بإصابتِه إياه له متلِفٌ ومخيَّرٌ في تكفيرِه بين الكفاراتِ الثلاثِ، وهل بينَكم وبينَ مَن خالفَكم في ذلك، وجعَل الحالقَ قياسًا لمُصيبِ الصيدِ، وجمَع بينَ حُكميْهِما
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إن".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفي م:"ذلك".
(3)
في الأصل: "يخالف"، وفي ت 2:"مخالف".
لاتفاقِهما في المعاني التي وصَفْنا، وخالَفَ بينَ حكمه وحكمِ المتمتعِ في ذلك لاختلافِ أمرِهما فيما وصَفْنا - فرقٌ من أصلٍ أو نظيرٍ؟ فلن يقولوا في ذلك قولًا إلَّا أُلزِمُوا في الآخَرِ مثلَه، مع أن في اتفاقِ الحجةِ على تخطئةِ قائلِ هذا القولِ في قولِه هذا، كفايةً عن الاستشهادِ على فسادِه بغيرِه، فكيف وهو مع ذلك خلافٌ لما جاءتْ به الآثارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والقياسُ عليه بالفسادِ شاهدٌ.
واختلف أهلُ العلمِ في الموضعِ الذي أمرَ اللَّهُ تبارك وتعالى أن يَنسُكَ نُسُكَ الحلْقِ، ويُطعِمَ فديتَه؛ فقال بعضُهم: النُّسُكُ والإطعامُ بمكةَ، لا يُجزِئُ بغيرِها من البلدانِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليربوعيُّ، قال: ثنا فُضيلُ بنُ عياضٍ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، قال: ما كان من دمٍ أو صدقةٍ فبمكةَ، وما سوَى ذلكَ حيثُ شاءَ.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ، قال: ثنا فُضيلٌ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، قال: كلُّ شيءٍ من الحجِّ فبمكةَ، إلَّا الصومَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبَرنا ابنُ جُريجٍ، قال: سألتُ عطاءً عن النُّسُكِ، قال: النُّسُكُ بمكةَ لا بُدَّ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عَنبسَةَ، عن ابنِ أبي نَجيح، عن عطاءٍ، قال: الصدقةُ والنُّسكُ في الفديةِ بمكةَ، والصومُ حيثُ شئتَ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: ثنا ليثٌ، عن طاوسٍ، أنه كان يقولُ:
(1)
ذكره ابن حزم في المحلى 7/ 319.
ما كان مِن دمٍ أو طعامٍ فبمكةَ، وما كان مِن صيامٍ فحيثُ شاءَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا
(2)
عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: النسكُ بمكةَ أو بمنًى
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: النُّسكُ بمكةَ أو بمنًى، والطعامُ بمكةَ.
وقال آخرون: النُّسكُ في الحلْقِ والإطعامُ والصومُ حيثُ شاءَ المفْتدِي.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن يعقوبَ بنِ خالدٍ، قال: أخبَرني أبو أسماءَ مَولَى ابنِ جعفرٍ، قال: حَجَّ عثمانُ بنُ عفانَ ومعه عليٌّ والحسينُ بنُ عليٍّ، فارتَحلَ عثمانُ - قال أبو أسماءَ: وكنتُ معَ ابنِ جعفرٍ - قال: فإذا نحن برجلٍ نائمٍ وناقتُه عندَ رأسِه. قال: فقلنا له: أيُّها النَّئُومُ
(4)
. فاسْتيقَظَ، فإذا الحسينُ بنُ عليٍّ. قال: فحمَلَه ابنُ جعفرٍ حتى أتَى به السُّقيَا. قال: فأرسَل إلى عليٍّ، فجاء ومعه أسماءُ بِنتُ عُميسٍ. قال: فمرَّضْناه نحوًا من عشرينَ ليلةً. قال: فقال عليٌّ للحسينِ: ما الذي تجِدُ؟ قال: فأَومَأَ إلى رأسِه. قال: فأَمَرَ به عليٌّ فحُلِق رأسُه، ثم دعَا ببدَنةٍ فنحَرَها
(5)
.
(1)
ذكره ابن حزم في المحلى 7/ 319.
(2)
بعده في م: "شبل عن".
(3)
تفسير مجاهد ص 226.
(4)
في م: "النائم".
(5)
أخرجه مالك 1/ 388، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 242، 243، والبيهقي 5/ 218، وفي المعرفة 4/ 244، 245 من طريق يحيى بن سعيد به. وعند الطحاوي:"الحسن" بدل "الحسين".
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى
(1)
، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن يعقوبَ بنِ خالدِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ المسيَّبِ المخزوميِّ، أخبرَه أنه سمِعَ أبا أسماءَ مَولَى عبدِ اللَّهِ بنِ جعفرٍ يحدِّثُ أنه خرَج مع عبدِ اللَّهِ بنِ جعفرٍ يريدُ مكةَ مع عثمانَ، حتى إذا كنا بينَ السُّقيا والعَرْجِ
(2)
اشتكَى الحسينُ بنُ عليٍّ، فأصبَح في مَقيلِه الذي قالَ فيه بالأمسِ. قال أبو أسماءَ: فصحِبتُه أنا وعبدُ اللَّهِ بنُ جعفرٍ، وإذا راحلةُ حسينٍ قائمةٌ وحسينٌ مُضطجعٌ، فقال عبدُ اللَّهِ بنُ جعفرٍ: إنّ هذه لراحِلَةُ حُسينٍ. فلمَّا دنا منه قال له: أيها النَّئُومُ. وهو يظُنُّ أنه نائمٌ، فلمَّا دَنا منه وجَده يَشْتكِي، فحمَله إلى السُّقيا، ثم كتَب إلى عليٍّ، فقدِم إليه إلى السقيا، فمرَّضَه قريبًا من أربعين ليلةً، ثم إن عليًّا قيل له: هذا حسينٌ يشيرُ إلى رأسِه. فدعا عليٌّ بجزورٍ فنحَرها [في الماءِ]
(3)
، ثم حلَق رأسَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبَرني يحيى بنُ سعيدٍ، قال: أقبلَ حُسينُ بنُ عليٍّ مع عثمانَ حرامًا، حسِبتُ أنه اشْتكَى بالسُّقيا، فذُكِرَ ذلك لعليٍّ، فجاء هو وأسماءُ بنتُ عميسٍ، فمرَّضوه عشرينَ ليلةً، وأشارَ حُسينٌ إلى رأسِه، فحلَقه ونحَر عنه جَزُورًا. قلتُ: فرجَع به؟ قال: لا أَدْرِي.
وهذا الخبرُ يحتَمِلُ أن يكونَ ما ذُكِر فيه مِن نحرِ عليٍّ عن الحسينِ الناقةَ قبلَ حلْقِه رأسَه، ثم حلْقِه رأسَه بعدَ النحرِ - إن كان على ما رواه مجاهدٌ، عن يزيدَ - كان على وجْهِ الإحلالِ من الحسينِ من إحرامِه للإحصارِ عن الحجِّ بالمرضِ الذي أصابه. وإن كان على ما رواه يعقوبُ، عن هُشيمٍ من نحرِ عليٍّ عنه الناقةَ بعدَ حلْقِه رأسَه، أن يكونَ على وجهِ الافتداءِ من الحلْقِ، وأن يكونَ كان يرَى أنَّ نُسُكَ
(1)
في م: "يونس".
(2)
العرج: قرية جامعة في واد من نواحي الطائف. معجم البلدان 3/ 937.
(3)
سقط من: م.
الفديةِ يُجزِئُ نحرُه دونَ مكةَ والحرَمِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: الفديةُ حيثُ شئتَ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا حجاجٌ، عن الحَكمِ، عن إبراهيمَ في الفديةِ؛ في الصدقةِ والصومِ والدمِ: حيثُ شاءَ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عَبِيدةُ، عن إبراهيمَ، أنه كان يقولُ. فذكَر مثلَه.
وقال آخرون: ما كان من دمِ نُسكٍ فبمكةَ، وما كان من إطعامٍ وصيامٍ فحيثُ شاءَ المفْتَدِي.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا حجاجٌ وعبدُ الملكِ وغيرُهما، عن عطاءٍ، أنه كان يقولُ: ما كان من دمٍ فبمكةَ، وما كان من طعامٍ وصيامٍ فحيثُ شاءَ.
وعلةُ مَن قال: الدمُ والإطعامُ بمكةَ. القياسُ على هَدْيِ جزاءِ الصّيدِ، وذلك أن اللَّهَ تبارك وتعالى شَرَط في هدْيِه بلوغَ الكعبةِ فقال:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. قالوا: فكلُّ هَدْيٍ وجَبَ مِن جزاءٍ أو فديةٍ في إحرامٍ، فسبيلُه سبيلُ جزاءِ الصيدِ في وجوبِ بُلوغِه الكعبةَ. قالوا: وإذا كان ذلكَ حكمَ
(1)
أخرجه ابن حزم في المحلى 7/ 320 من طريق منصور به.
(2)
ذكره ابن حزم في المحلى 7/ 319.
الهدْيِ، كان حُكمُ الصدقةِ مثلَه؛ لأنها واجبةٌ لمن وجَب عليه
(1)
الهدْيُ، وذلك أن الإطعامَ فديةٌ وجزاءٌ كالدَّمِ، فحكمُهما واحدٌ.
وأمَّا عِلَّةُ مَن زعَمَ أن للمُفْتدِي أن يَنسُكَ حيثُ شاءَ ويتصدَّقَ ويصومَ، أن اللَّهَ تبارك وتعالى لم يشترِطْ على الحالِقِ رأسَه من أذًى هَدْيًا، وإنما أوجَب عليه نُسُكًا أو إطعامًا أو صيامًا، وحيثما نَسَكَ أو أطعَم أو صام فهو ناسِكٌ ومُطْعِمٌ وصائمٌ. وإذا دخَلَ في عدادِ من يستحِقُّ ذلك الاسمَ، كان مؤدِّيًا ما كلَّفه اللَّهُ عز وجل؛ لأنَّ اللَّهَ جلّ ثناؤُه لو أراد من إلزامِ الحالقِ رأسَه في نُسكِه بلوغَ الكعبةِ لشرَطَ ذلك عليه كما شرَط في جزاءِ الصيدِ، وفي تركِ اشتراطِ ذلك عليه دليلٌ واضحٌ أنه حيثُ نَسَكَ أو أطعَم أجزأَ.
وأما عِلّةُ مَن قال: النُّسُكُ بمكَّةَ، والصيامُ والإطعامُ حيثُ شاءَ. [فإنّ النُّسُكَ]
(2)
دمٌ كدمِ الهَدْيِ، فسبيلُه سبيلُ هدْيِ قاتلِ الصَّيدِ. وأما الإطعامُ، فلم يَشترطِ اللَّهُ تعالى ذكرُه في
(3)
أن يُصرفَ إلى أهلِ مسكنةِ مكانٍ دونَ مكانٍ، كما شرَطَ في هدْيِ الجزاءِ بلوغَ الكعبةِ، فليس لأحدٍ أن يدَّعِيَ أن ذلك لأهلِ مكانٍ دونَ مكانٍ، إذا لم يكنِ اللَّهُ تعالى ذكرُه شرَطَ ذلكَ لأهلِ مكانٍ بعينِه، كما ليس لأحدٍ أن يدَّعِيَ أن ما جعَله اللَّهُ مِن الهَدْيِ لساكنِي الحرمِ لغيرِهم، إذ كان اللَّهُ تبارك وتعالى قد خَصَّ بأنّ ذلك لمن به مِن أهلِ المسكنةِ.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - أوجَبَ على حالقِ رأسِه من أذًى من المحرِمين فِديةً مِن صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ، ولم يشترِطْ أنّ عليه ذلك بمكانٍ دونَ
(1)
في الأصل: "له".
(2)
في م: "فالنسك".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه".
مكانٍ، بل أَبْهمَ ذلك وأطلَقَه، ففي أيِّ مكانٍ نَسَكَ أو أَطْعَم أو صام فيُجْزِئُ عن المفتدِي؛ وذلك لقيامِ الحُجَّةِ على أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه إذ حرَّم أمهاتِ نسائِنا فلم يَحصُرْهُنَّ علَى أنهنَّ أمهاتُ النساءِ المدخولِ بهنَّ، لم يجِبْ أن يكُنَّ مَردُوداتِ الأحكامِ على الربائبِ المحصوراتِ على أن المحرَّمةَ منهن المدخولُ بأمِّها. فكذلك كلُّ مُبهَمةٍ في القرآنِ، غيرُ جائزٍ ردُّ حُكمِها على المفسَّرةِ قياسًا. ولكنَّ الواجبَ أن يُحكَمَ لكلِّ واحدةٍ منهما بما احتمَلَه ظاهرُ التنزيلِ، إلَّا أن يأتيَ في بعضِ ذلك خبرٌ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم بإحالةِ حكمِ ظاهرِه إلى باطنِه، فيجِبَ التسليمُ حينئذٍ لحكمِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، إذ كان هو المبيِّنَ عن مرادِ
(1)
اللَّهِ تعالى ذكرُه.
وأجمَعوا على أنَّ الصيامَ مُجْزِئٌ عن الحالقِ رأسَه من أذًى، حيث صام من البلادِ.
واختلَفوا فيما يجِبُ أن يُفعلَ بنُسُكِ الفديةِ من الحلْقِ، وهل يجوزُ للمفتدِي الأكلُ منه أم لا؟ فقال بعضُهم: ليس للمفتدِي أن يأكُلَ منه، ولكن عليه أن يتصدَّقَ بجميعِه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ عبدَ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: ثلاثةٌ لَا يؤكلُ منهنَّ؛ جزاءُ الصيدِ، وجزاءُ النُّسُكِ، ونَذْرُ المساكينِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ وهارونُ، عن عَنْبسةَ، عن سالمٍ، عن عطاءٍ، قال: لا تأكُلْ مِن فديةٍ، ولا من جزاءٍ، ولا من نَذْرٍ، وكُلْ مِن المتعةِ، ومن الهدْيِ التَّطَوُّعِ.
(1)
في ت 2: "أمر".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 153 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن إدريس به.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا
(1)
هارونُ، عن عَنْبسةَ، عن سالمٍ، عن مجاهدٍ، قال: جزاءُ الصيدِ والفديةُ والنَّذرُ لا يأكُلُ منها صاحبُها، ويأكُلُ من التطوُّعِ والتَّمتُّعِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عَمرٍو، عن الحجاجِ، عن عطاءٍ، قال: لا تأكُلْ مِن جزاءٍ، ولا من فديةٍ، وتَتَصدَّقُ به.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا ابنُ جُريجٍ، قال: قال عطاءٌ: لا يأكلُ مِن بدَنتِه الذي يُصيبُ أهلَه حرامًا، والكفاراتُ كذلك
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبدُ الملكِ والحجاجُ وغيرُهما، عن عطاءٍ، أنه كان يقولُ: لا يؤكلُ مِن جزاءِ الصيدِ، ولا مِن النَّذرِ، ولا مِن الفديةِ، ويُؤكلُ مما سوَى ذلك
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ليثٍ، عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ، أنهم قالوا: لا يؤكلُ من الفديةِ - وقال مرّةً: من هدْيِ الكفارةِ - ولا من جزاءِ الصيدِ
(4)
.
وقال بعضُهم: له أن يأكُلَ منه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا يحيى، عن عُبيدِ اللَّهِ، قال: أخبَرني نافعٌ، عن ابنِ
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حكام و".
(2)
ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 12/ 284 عن عبد الرزاق عن ابن جريج به نحوه مطولا. وينظر التغليق 3/ 94، والفتح 3/ 558.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور - كما في التغليق 3/ 94 - عن هشيم، عن عبد الملك وحجاج عن عطاءٍ.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 153 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن علية به. وينظر الاستذكار 12/ 284.
عُمرَ، قال: لا يُؤكَلُ من جزاءِ الصيدِ والنذْرِ، ويؤكَلُ مما سوَى ذلك
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عَنبسةَ، عن ابنِ أبي ليلى، قال: كلْ
(2)
من الفديةِ وجزاءِ الصيدِ والنذْرِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن حمادٍ، قال: الشاةُ بينَ ستةِ مساكينَ، يأكُلُ منه إن شاءَ، ويتصدَّقُ على ستةِ مساكينَ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرني عبدُ الملكِ، قال: ثنى مَن سمِعَ الحسنَ يقولُ: كُلْ مِن ذلكَ كلِّه. يعني: من جزاءِ الصيدِ والنذْرِ والفديةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا الأشعثُ، عن الحسنِ، أنه كان لا يرَى بأسًا بالأكلِ من جزاءِ الصيدِ ونذْرِ المساكينِ.
وعلةُ مَن حظَرَ على المفتدِي الأكلَ مِن فديةِ حِلَاقِه، وفديةِ ما لزِمَتْه منه الفديةُ، أن اللَّهَ تبارك وتعالى أوجَبَ على الحالقِ والمتطيِّبِ ومَن كان بمثلِ حالِهم، فديةً من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ، فلن يخلُوَ ذلكَ الذي أوجَبه اللَّهُ عليه من الإطعامِ والنُّسُكِ من أحدِ أمرَيْن؛ إمَّا أن يكونَ أوجَبه عليه لنفسِه أو لغيرِه، أو له ولغيرِه؛ فإن كان أوجَبه لغيرِه، فغيرُ جائزٍ له أن يأكُلَ منه؛ لأنَّ ما لَزِمه لغيرِه فلا يُجزِئُه فيه إلا الخروجُ منه إلى مَن وجَب له. أو يكونَ له وحدَه، وما وجَبَ له فليسَ عليه؛ لأنه غيرُ مفهومٍ في لغةٍ أن يقالَ: وجَبَ على فلانٍ لنفسِه دينارٌ أو درهمٌ أو شاةٌ. وإنما يجِبُ له على غيرِه، فأمَّا على نفسِه فغيرُ مفهومٍ وجوبُه. أو يكونَ وجَبَ عليه له ولغيرِه، فنصيبُه الذي وجَبَ من ذلكَ غيرُ جائزٍ أن يكونَ عليه؛ لما وصَفْنا. وإذا كانَ ذلك
(1)
ذكره ابن حزم في المحلى 7/ 426 عن يحيى القطان به. وأخرجه ابن أبي شيبة ص 153 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن نمير، عن عبيد الله به بمعناه. وينظر التغليق 3/ 93، والفتح 3/ 558.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
كذلكَ، كان الواجبُ عليه ما هو لغيرِه، وما هو لغيرِه بعضُ النُّسكِ، وإذا كان ذلك كذلك، فإنما وجَبَ عليه بعضُ النُّسُكِ لا النُّسكُ كلُّه.
قالوا: وفي إلزامِ اللَّهِ جلَّ ثناؤه إيَّاه النسكَ تامًّا ما يَبِينُ
(1)
عن فسادِ هذا القولِ.
وعلةُ من قال: له أن يأكُلَ من ذلك. أن اللَّهَ تبارك وتعالى أوجَبَ على المفْتدِي نُسكًا، والنُّسكُ في معاني الأضاحِي، وذلك هو ذَبْحُ ما يُجزِئُ في الأضاحِي من الأزواجِ الثمانيةِ. قالوا: ولم يأمُرْه اللَّهُ تبارك وتعالى بدفعِه إلى المساكينِ. قالوا: فإذا ذبَح فقد نَسَك، وفعَل ما أمَرَه اللَّهُ جل ثناؤُه، وله حينئذٍ الأكلُ منه، والصدقةُ منه بما شاءَ، وإطعامُ ما أحَبَّ منه مَن أحبَّ، كما له ذلك في أُضْحِيَتِه.
والذي نقولُ به في ذلك أن اللَّهَ جل ثناؤُه أوجَبَ على المفتدِي النُّسُكَ إن اختارَ التكْفيرَ بالنُّسكِ، ولن يَخلوَ الواجبُ عليه في ذلك مِن أن يكونَ ذَبْحَه دونَ غيرِه، أو ذبْحَه والصدقةَ
(2)
به؛ فإن كان الواجبُ عليه في ذلك ذبْحَه، فالواجبُ أن يكونَ إذا ذبَح نُسكًا فقد أدَّى ما عليه وإنْ أكَل جميعَه ولم يُطعِمْ مِسكينًا منه شيئًا، وذلك ما لا نعلَمُ أحدًا من أهلِ العلمِ قاله. أو يكونَ الواجبُ عليه ذَبْحَه والصدقةَ به؛ فإنْ كان ذلك عليه، فغيرُ جائزٍ له أكْلُ ما عليه أن يتصدَّقَ به، كما لو لَزِمتْه زكاةٌ في مالِه، لم يكنْ له أن يأكُلَ منها، بل كانَ عليه أن يُعطيَها أهلَها الذين جعلَها اللَّهُ لهم، ففي إجماعِهم على أن ما ألزمَه اللَّهُ من ذلك، فإنَّما ألزَمه لغيرِه - دَلالةٌ واضحةٌ على حكمِ ما اختلَفوا فيه من غيرِه.
ومعنى النُّسكِ الذَّبحُ للَّهِ تبارك وتعالى في لغةِ العربِ، يقالُ: نسَكَ فلانٌ للَّهِ
(1)
في ت 1، ت 2:"ينبئ".
(2)
في م: "التصدق".
نَسيكةً - بمعنَى: ذبَح للَّهِ ذبيحةً - ينسُكها نَسْكًا.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: النُّسكُ أن يذبَحَ
(1)
شاةً
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: فإذا برَأْتُم من مرَضِكم الذي أحْصَرَكم عن حجِّكم أو عُمرتِكم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عُبيدُ بنُ إسماعيلَ الهَبَّارِيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نميرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علْقمةَ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} : فإذا برَأْتُم
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه في قولِه:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . يقولُ: إذا أَمِنتَ حينَ تُحصَرُ، إذا أَمِنْتَ مِن كسرِك ومِن وجَعِكَ، فعليك أنْ تأتيَ البيتَ فتكونَ لك متعةٌ، فلا تَحِلَّ حتى تأتيَ البيتَ
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنْتُم من
(5)
خوفِكم.
(1)
في الأصل: "تذبح".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 214 إلى المصنف.
(3)
تقدم أوله في ص 328.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 75، 76.
(5)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وجع".
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} : لِتعلَموا أنّ القومَ كانوا خائفين يومئذٍ
(1)
.
حدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . قال: إذا أمِنَ من خوفِه، وبَرَأَ من مَرضِه.
وهذا القولُ أشبهُ بتأويلِ الآيةِ؛ لأنَّ الأمنَ هو خلافُ الخوفِ، لا خلافُ المرضِ، إلَّا أن يكونَ مرضًا مَخُوفًا منه الهلاكُ، فيقالَ: فإذا أمِنتم الهلاكَ من خوفِ المرضِ وشِدَّتِه. وذلك معنًى بعيدٌ.
وإنما قلنا: إن معناه الخوفُ من العدوِّ؛ لأنّ هذه الآياتِ نزَلتْ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أيامَ الحديبيةِ، وأصحابُه من العدوِّ خائفونَ، فعرَّفَهم اللَّهُ تبارك وتعالى بها ما عليهم إذا أحْصَرَهم خوفُ عدوِّهم عن الحجِّ، وما الذي عليهم إذا هم أَمِنوا من ذلك، فزالَ منهم
(2)
خَوْفُهم.
القولُ في تأويلِ قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
يعني بذلك جَلَّ ثناؤُه: فإن أُحصِرْتُم أيُّها المؤمنون، فما استيسَرَ مِن الهدْيِ، فإذا أمِنتُم فزالَ عنكم خوفُكم من عَدُوِّكم، أو هلاكِكم من مَرضِكم، فتمتَّعتُم بعُمرتِكم إلى حجِّكم، فعليكم ما استيسَرَ من الهَدْيِ.
ثم اختلفَ أهلُ التأويلِ في صفةِ التَّمتُّعِ الذي عنَى اللَّهُ جل ثناؤُه بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: هو أن يَحصُرَه خَوفُ العدوِّ وهو مُحْرمٌ بالحجِّ، أو مرضٌ، أو عائقٌ من
(1)
ينظر المحرر الوجيز 1/ 546، وتفسير القرطبي 2/ 386، وتفسير ابن كثير 1/ 335.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عنهم".
العِلَلِ، حتى يفوتَه الحجُّ، فيَقدَمَ مكةَ، فيخرُجَ من إحرامِه بعملِ عمرتِه
(1)
، ثم يحِلَّ فيستمتِعَ بإحلالِه من إحرامِه ذلكَ إلى السنةِ المسْتقبلةِ، ثم يَحُجَّ ويُهْدِيَ، فيكونَ متمتِّعًا بالإحلالِ من لَدُنْ يحِلُّ من إحرامِه الأوَّلِ إلى إحرامِه الثاني من القابِلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى البصريُّ، قال: ثنا عبدُ الوارث بنُ سعيدٍ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ سُويدٍ، قال: سمِعتُ ابنَ الزُّورِ وهو يخطُبُ، وهو يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، واللَّهِ ما التمتُّعُ بالعمرةِ إلى الحجِّ كما تصنَعون، إنما التمتُّعُ أنْ يُهِلَّ الرجلُ بالحجِّ فَيحصُرَه عدوٌّ أو مرضٌ أو كَسْرٌ، أو يحبِسَهُ أمرٌ، حتى تذهبَ أيامُ الحجِّ، فيقدَمَ فيجعلَها عمرةً، فيتمتَّعَ بحِلِّه إلى العامِ المقبلِ، ثم يحُجَّ ويُهدِيَ هدْيًا، فهذا التمتعُ بالعمرةِ إلى الحجِّ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ، قال: كان ابنُ الزبيرِ يقولُ: المتعةُ لمَن أُحصِرَ. قال: وقال ابنُ عباسٍ: هي لمَن أُحصِرَ و
(3)
خُلِّيتْ
(4)
سبيلُه
(5)
.
حدَّثني ابنُ البرقيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: أخبَرنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: أخبرَني ابنُ جُريجٍ، قال: قال عطاءٌ: كان ابنُ الزبيرِ يقولُ: إنما المتعةُ للمُحْصَرِ،
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عمرة".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 134، 206 (القسم الأول من الجزء الرابع)، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 156 من طريق إسحاق به. وينظر التمهيد 8/ 359، 360، والاستذكار 11/ 211، والمحلى 7/ 218، 219.
(3)
بعده في م: "من".
(4)
في الأصل: "خليته".
(5)
أخرجه ابن حزم في المحلى 7/ 219 من طريق عبد الرزاق به، دون ذكر ابن عباس، وينظر ما سيأتي في ص 415.
وليست لمن خُلِّيَ سبيلُه
(1)
.
وقال آخرون
(2)
: معنى ذلك: فإن أُحصِرتُم في حَجِّكُم، فما استيسَرَ من الهدْيِ، فإذا أمِنتم وقد حلَلْتُم مِن إحرامِكُم، ولم تَقضُوا عمرةً تخرُجون بها من إحرامِكم لحجِّكم
(3)
، ولكن حلَلْتُم حينَ أُحصِرْتُم بالهدْيِ، وأَخَّرْتُم العمرةَ إلى السنةِ القابلةِ، فاعتمَرتُم في أشهرِ الحجِّ، ثم حلَلْتُم فاستمتعتُم بإحلَالِكم إلى حجِّكم، فعلَيكم ما استيسرَ مِن الهدْيِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبيدُ بنُ إسماعيلَ الهبّاريُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نُميرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن
(4)
علقمةَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} . قال: إذا أهلَّ الرجلُ بالحجِّ فأُحصِرَ. قال: يبعَثُ بما استيسرَ من الهدْيِ؛ شاةٍ، فإن عَجَّلَ قبلَ أن يبلُغَ الهدْيُ محلُّه؛ حلَقَ
(5)
رأسَه، أو مسَّ طِيبًا، أو تداوَى، كان عليه فديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ، {فَإِذَا أَمِنْتُمْ}: فإذا بَرَأَ فمضَى من وجهِه ذلك حتى أتى البيتَ، حَلَّ من حجِّه بعمرةٍ، وكان عليه الحجُّ من قابِلٍ، وإنْ هو رجعَ ولم يُتِمَّ إلى البيتِ مِن وجْههِ ذلك، فإنَّ عليه حَجَّةً وعمرةً، ودمًا لتأخيرِه العمرةَ، فإن هو رجَعَ مُتمتِّعًا في أشهرِ الحجِّ، فإنّ عليه ما استيسرَ من الهدْيِ شاةً، فإن
(6)
لم يجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رجَع. قال إبراهيمُ: فذكَرتُ ذلك لسعيدِ بنِ جُبيرٍ فقال: كذلك قال
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 341 (1795) من طريق ابن جريج به، وذكر قول ابن عباس.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بل".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بحجكم".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بن".
(5)
في م: "وحلق".
(6)
في م: "فمن".
ابنُ عباسٍ في ذلك كلِّه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : هذا رجلٌ أصابه خوفٌ، أو مرضٌ، أو
(2)
حابسٌ حبَسه
(3)
، يبعثُ بهدْيِه، فإذا بلَغتْ محِلَّها صارَ حلالًا، فإنْ أمِنَ أو بَرَأَ ووصَلَ إلى البيتِ، فهي له عمرةٌ، وأحَلَّ، وعليه الحجُّ عالمًا قابلًا، فإن هو لم يصِلْ إلى البيتِ حتى يرجِعَ إلى أهلِه، فعليه عُمرةٌ وحَجةٌ وهَدْيٌ. قال قتادةُ: والمتعةُ التي لا يتعاجَمُ
(4)
النَّاسُ فيها أن أصلَها كانَ هكذا
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} إلى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قال: هذا المحصَرُ إذا أمِنَ فعليه المتعةُ [والحجُّ]
(6)
، وهدْيُ المتمتِّعِ، فإن لم يجِدْ فالصيامُ، فإن عَجَّلَ العمرةَ قبلَ أشهرِ الحجِّ، فعليه فيها هَدْيٌ
(7)
.
حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا بشرُ بنُ السَّرِيِّ، عن شعبةَ، عن عَمرِو بنِ مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلِمةَ، عن عليٍّ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} : فإن أخّرَ العمرةَ حتى يجمَعَها مع الحجِّ فعليه الهدْيُ
(8)
.
(1)
تقدم أوله ص 328.
(2)
زيادة من: م.
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حتى".
(4)
لا يتعاجم: لا يشك ولا يتمارى.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 75 عن معمر عن قتادة. وينظر ما تقدم في ص 343.
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في الحج".
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 125 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق مغيرة به. وينظر المحلى 7/ 221.
(8)
ينظر البحر المحيط 2/ 77.
وقال آخرون: عنَى بذلكَ المحصَرَ وغيرَ المحصَرِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني ابنُ البرقيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي مَرْيمَ، قال: أخبَرنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: أخبرني ابنُ جُريجٍ، قال: أخبَرني عطاءٌ أن ابنَ عباسٍ كان يقولُ: المتعةُ لمن أُحصِرَ، ولمن خُلِّيت
(1)
سبيلُه. فكان
(2)
ابنُ عباسٍ يقولُ: أصابتْ هذه الآيةُ المحصرَ ومن خُلِّيتْ سبيلُه
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فَسَخ حجَّه بعمرةٍ، فجعَلَه عمرةً، واستَمتعَ بعمرتِه إلى حَجِّه، فعليه ما استيسَرَ من الهدْيِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : أما المتعةُ، فالرجلُ يُحرِمُ بحَجَّةٍ، ثم يَهدِمُها بعمرةٍ، وقد خرَجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين حاجًّا، حتى إذا أتوْا مكةَ، قال لهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"من أحَبَّ منكم أن يَحِلَّ فَلْيَحِلَّ". قالوا: فما لك يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "أنَا مَعِي الهدْيُ".
وقال آخرون: بل ذلك الرجلُ يقدَمُ مُعتمرًا من أُفقٍ من الآفاقِ في أشهرِ الحجِّ، فإذا قضَى عُمرتَه، أقامَ حلالًا بمكةَ حتى يُنشئَ منها الحجَّ، فيحُجَّ من عامِه ذلك، فيكونَ مُسْتمتِعًا بالإحلالِ إلى إحرامِه بالحجِّ.
(1)
في م: "خلى".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكان".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 340 (1789) من طريق ابن جريج به.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} : مِن يومِ الفطرِ إلى يومِ عرفةَ، فعليه ما استيسرَ من الهدْيِ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، وحدَّثني يعقوبُ ابنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبَرَنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: قدِمَ ابنُ عُمرَ مرَّةً في شوالٍ، فأقمنا حتى حجَجْنا، فقال: إنكم قد استمتَعتُم إلى حجِّكم بعمرةٍ، فمَن وجَد منكم أن يُهدِيَ فلْيُهدِ، ومَن لا، فليَصُمْ ثلاثةَ أيامٍ، وسبعةً إذا رجَعَ إلى أهلِه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ وعبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ [السُّكَّريُّ، قالا: حدَّثنا]
(3)
يزيدُ، قال: أخبَرني يحيى بنُ سعيدٍ، عن نافعٍ، أنه أخبَره أنه خرَجَ مع ابنِ عمرَ مُعْتمرَيْن في شوالٍ، فأدْرَكَهُما الحجُّ وهما بمكَّةَ، فقال ابنُ عمرَ: مَن اعتمرَ معنا في شوالٍ ثم حجَّ فهو متمتعٌ، عليه ما استيسَر من الهدْيِ، فمن لم يجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رجَعَ
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 227.
(2)
أخرجه مالك 1/ 344 عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحوه. وينظر المحلى 7/ 221.
(3)
في م: "قال ابن بشار: حدثنا، وقال عبد الحميد: أخبرنا"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"قالا: حدثنا ابن بشار، قال عبد الحميد: أخبرنا".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 124 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق يحيى به. وينظر التمهيد 8/ 346، والمحلى 7/ 220.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عَنْبَسةَ، عن ليثٍ، عن عطاءٍ في رجلٍ اعتمرَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ، فساق هديًا تطوُّعًا، فقدِمَ مكةَ في أشهرِ الحجِّ، قال: إن لم يكُنْ يريدُ الحجَّ، فلْيَنحَرْ هدْيَه، ثم ليرْجِعْ إن شاءَ، فإنْ هو نحَر الهديَ وحَلَّ، ثم بدَا له أن يُقيمَ حتى يحُجَّ، فلينْحَرْ هدْيًا آخرَ لمُتعتِه
(1)
، فإن لَمْ يجِدْ فلْيصُمْ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عنبسةَ، عن ابنِ أبي ليلَى مثلَ ذلك.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا يحيَى بنُ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ أنه كان يقولُ: مَن اعتمرَ في شوّالٍ أو في ذي القَعدةِ، ثم أقامَ بمكةَ حتى يحُجَّ، فهو مُتمتعٌ، عليه ما علَى المتمتعِ
(3)
.
[حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ مثلَه]
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن حجاجٍ، عن عطاءٍ مثلَ ذلك.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال: مَن أحرَم بالعمرةِ في أشهرِ الحجِّ، فما استيسرَ من الهدْيِ
(5)
.
(1)
في م: "لتمتعه".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 125 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق ليث به. وينظر التمهيد 8/ 246، والمحلى 7/ 220.
(3)
أخرجه مالك 1/ 345، وابن أبي شيبة ص 124، 125 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق يحيى به. وينظر المحلى 7/ 220.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر ذكره ابن عبد البر في التمهيد 8/ 346 والاستذكار 11/ 220 عن هشيم به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 340 (1790) من طريق عبد الله بن صالح به.
حدَّثنا ابنُ البرقيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: أخبَرنا نافعٌ، قال: أخبَرني ابنُ جُريجٍ، قال: كان عطاءٌ يقولُ: المتعةُ لخلقِ اللَّهِ أجمعينَ؛ الرجلِ والمرأةِ، والحرِّ والعبدِ، هي لكلِّ إنسانٍ اعتمرَ في أشهرِ الحجِّ ثم أقامَ ولم يبرَحْ حتى يحُجَّ، ساقَ
(1)
هديًا مقلَّدًا أو لم يَسُقْ، وإنما سُمِّيتِ المتعةَ مِن أجلِ أنه اعتمرَ في شهورِ الحجِّ، فتمَتَّعَ بعمرةٍ إلى الحجِّ، ولم تُسَمَّ المتعةَ من أجلِ أنه يَحِلُّ بتمتُّعِ النِّساءِ
(2)
.
وأوْلى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: عنَى بها: فإن أُحْصِرتُم أيها المؤمنون في حَجِّكم، فما استيسرَ من الهديِ، فإذا أمِنتُم، فمن تمتَّعَ ممن حَلَّ من إحرامِه بالحجِّ - بسببِ الإحْصارِ بعمرةٍ اعتمرَها، لفَوْتِه الحجَّ في السنةِ القابلةِ في أشهرِ الحجِّ - إلى قضاءِ الحَجَّةِ التي فاتَتْه حينَ أُحْصِرَ عنها، ثم [حَلَّ مِن]
(3)
عُمرتِه فاستمتعَ بإحلَالِه من عُمرتِه إلى أن يحُجَّ، فعليه ما استيسرَ من الهدْيِ. وإن كان قد يكونُ متمتِّعًا مَن أنشأَ عمرةً في أشهرِ الحجِّ وقضاها، ثم حَلَّ من عُمرتِه وأقامَ حلَالًا بمكةَ
(4)
حتى حجَّ من عامِه. غيرَ أن الذي هو أولَى بالذي ذكَره اللَّهُ في قولِه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} هو ما وصَفنا، من أجلِ أنَّ اللَّهَ تعالى ذكرُه أخبَر عما على المحصَرِ عن الحجِّ والعمرةِ من الأحكامِ في إحصارِه، فكان مما أخبَر جل جلاله أنه عليه - إذا أمِنَ مِن إحصارِه، [إن تمتَّع]
(5)
بالعمرةِ إلى الحجِّ - ما استيسرَ من الهدْيِ، فإن لم يجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ. فكان معلومًا بذلك أنه معنِيٌّ به اللازمُ له - عندَ أمْنِه من
(1)
في الأصل: "وساق".
(2)
ينظر المحلى 7/ 220، 222.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"دخل في".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م: "فتمتع".
إحصارِه - من العملِ بسببِ الإحلالِ الذي كان منه من
(1)
حجِّه الذي أُحصِر فيه، دونَ المتمتِّعِ الذي لَمْ يتَقدَّمْ عُمرتَه ولا حجَّه إحصارُ مرضٍ ولا خوفٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} .
يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: [فعليه ما]
(2)
استيسرَ من الهدْيِ، يُهْدِيه جزاءً لاستمتاعِه بإحلالِه من إحرامِه الذي حَلَّ منه حينَ عادَ لقضاءِ حَجَّتِه التي أُحصِر فيها، وعمرتِه التي كانت لزِمته بفوتِ حجَّتِه. فإن لم يجِدْ هَدْيًا، فعليه صيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ في حَجِّه، وسبعةِ أيامٍ
(3)
إذا رجَعَ إلى أهلِه.
ثم اختلَفَ أهلُ التأويلِ في الثلاثةِ الأيامِ التي أوجَبَ اللَّهُ عليه صومَهنَّ في الحجِّ؛ أىُّ أيامِ الحجِّ هُنَّ؟ فقال بعضُهم: هُنَّ ثلاثةُ أيامٍ مِن أيامِ حَجِّه
(4)
، أيَّ أيامٍ شاءَ، بعدَ ألا يُجاوِزَ بآخرِهن يومَ عَرفةَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني الحسينُ بنُ محمدٍ الذّارعُ، قال: ثنا حُميدُ بنُ الأسودِ، قال: ثنا جعفرُ بنُ محمدٍ، عن أبيه، عن عليٍّ:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} قال: قبلَ التَّرويةِ يومًا، ويومَ التَّرْويةِ، ويومَ عرفةَ
(5)
.
(1)
في م: "في".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فما".
(3)
سقط من: م.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 1، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 342 (1800)، والبيهقي 5/ 25 من طريق جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 215 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد. وستأتي بقيته في ص 424.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ إسماعيلَ بنِ نصرٍ، عن ابنِ أبي حبيبةَ، عن داودَ بنِ حُصينٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ أنه قال: الصيامُ للمتمتِّعِ ما بينَ إحرامِه إلى يومِ عرفَةَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سَلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ في قولِه:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: يومٌ قبلَ الترويةِ، ويومُ الترويةِ، ويومُ عرفةَ، وإذا فاتَه صيامُها
(2)
صامَها أيامَ مِنًى
(3)
.
حدَّثني الحسينُ بنُ محمدٍ الذارعُ، قال: ثنا حُميدُ بنُ الأسودِ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن عروةَ، قال: المتمتعُ يصومُ قبلَ الترويةِ يومًا، ويومَ الترويةِ، ويومَ عرفةَ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} قال: آخِرُهنَّ يومُ عرفةَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، قال: سألتُ الحكمَ عن صومِ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ، قال: يصومُ قبلَ الترويةِ يومًا، ويومَ الترويةِ، ويومَ عرفةَ
(4)
.
حدَّثني عُبيدُ بنُ إسماعيلَ الهَبّارِيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نميرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} . أنه قال: آخِرُها يومُ عرفةَ
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 215 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 3 من طرق عن ابن عمر بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 215 إلى وكيع وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 342 عقب الأثر (1800) معلقًا.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 3 من طريق الأعمش به، وتقدم أوله في ص 328.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هشيمٌ
(1)
، قال: أخبَرنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنه قال في المتمتعِ إذا لم يجدِ الهدْيَ: صامَ يومًا قبلَ
(2)
الترويةِ، ويومَ الترويةِ، ويومَ عرفَةَ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامُ بنُ سَلْمٍ وهارونُ، عن عَنبسَةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ، قال: يصومُ المتمتعُ الثلاثةَ الأيامِ لمتعتِه في العشرِ إلى يومِ عرفَةَ. قال: وسمِعتُ مجاهدًا وطاوسًا يقولان: إذا صامَهنَّ في أشهرِ الحجِّ أجزأهُ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ وهارونُ، عن عَنبسةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: صومُ ثلاثةِ أيامٍ للمتمتِّعِ إذا لم يجِدْ ما يُهدِي، يصومُ في العشرِ إلى يومِ عرفةَ، متى ما
(5)
صامَ أجزأهُ، فإن صامَ الرجلُ في شوّالٍ أو ذي القَعدَةِ أجزأَه
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا بشرُ بنُ بكرٍ، عن الأوزاعيِّ، قال: ثنى يعقوبُ بنُ عطاءٍ، أن عطاءَ بنَ أبي رباحٍ كان يقولُ: مَن استطاعَ أن يصُومَهُنّ فيما بينَ أوَّلِ يومٍ من ذي الحِجَّةِ إلى يومِ عرفةَ فلْيصُمْ.
(1)
في م: "بشير".
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يوم".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (321 - تفسير) عن هشيم به نحوه، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 2 من طريق حبيب، عن سعيد.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (تفسير - 322)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 343 (1804) من طريق سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وطاوس بنحوه، وقول عطاء ذكره ابن عبد البر في التمهيد 8/ 349.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 120 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق ابن أبي نجيح به بنحوه، وزاد: وقال طاوس وعطاء: لا يصوم المتمتع إلا في العشر.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، عن يونُسَ، عن الحسنِ في قولِه:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: آخرُها يومُ عرفَةَ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، عن داودَ، وحدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ في هذه الآيةِ:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: قبلَ
(2)
الترويةِ يومًا، ويومَ الترويةِ، ويومَ عرفةَ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} : آخرُهنَّ يومُ عرفةَ مِن ذِي الحِجَّةِ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} : كان يقالُ: عرفةُ وما قبلَها يومين من العشْرِ.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: آخِرُها يومُ عرفةَ
(5)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: آخرُها يومُ عرفةَ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 3 عن ابن علية به.
(2)
بعده في م: "يوم".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 2 من طريق داود به.
(4)
تفسير مجاهد ص 227.
(5)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 339.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا فِطْرٌ، عن عطاءٍ:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: آخرُها يومُ عرفةَ
(1)
.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: عرفةُ وما قبلَها من العشرِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ وإبراهيمَ، قالَا: صيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ
(2)
، آخِرُهنَّ عرفةُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يزيدَ بنِ خُمَيرٍ
(4)
، قال: سألتُ طاوسًا عن صيامِ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ، قال: آخرُهنَّ يومُ عرفةَ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} إلى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} : وهذا على المتمتِّعِ بالعمرةِ إذا لَمْ يجِدْ هدْيًا، فعليه صيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ قبلَ يومِ عَرفَةَ، فإنْ كان يومُ عرفةَ الثالثَ، فقد تمَّ صومُه، وسبعةٍ إذا رجَعَ إلى أهلِه
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 1 من طريق حجاج، عن عطاء.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في العشر".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 1 عن جرير وابن فضيل وعياض، عن منصور به، وأخرجه 4/ 2 من طريق القاسم بن نافع، عن مجاهد وحده.
(4)
في م: "خير"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"حمير". وينظر تهذيب الكمال 32/ 116.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 3 من طريق إبراهيم بن ميسرة وابن طاوس، عن طاوس.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 339.
حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا زيادُ بنُ المنذرِ، عن أبى جعفرٍ:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: آخِرُها يومُ عرفةَ
(1)
.
وقال آخرون: بل آخِرُهُنَّ انقضاءُ أيامِ
(2)
مِنًى.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ الرَّمْلِيُّ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، أن عليًّا كان يقولُ: مَن فاتَه صيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ، صامَهنَّ أيامَ التشريقِ
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ ابنُ أخِي ابنِ وهبٍ، قال: ثنى عَمِّي عبدُ اللَّهِ بنُ وهبٍ، قال: ثنى يونسُ، عن الزهريِّ، عن عروةَ بنِ الزبيرِ، قال: قالت عائشةُ: يصُومُ المتمتِّعُ الذي يَفُوتُه الصيامُ أيامَ مِنًى
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: قال ابنُ عمرَ: مَن فاتَه صيامُ الثلاثةِ الأيامِ في الحجِّ، فليَصُمْ أيامَ التشريقِ، فإنَّهنَّ مِن الحجِّ
(5)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرني ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنا عُمرُ بنُ محمدٍ، أن نافعًا حدَّثه، أن عبدَ اللَّهِ بنَ عُمرَ قال: من اعتمرَ في أشهرِ الحجِّ فلم يكنْ معه هدْيٌ، ولم يَصُمِ الثلاثةَ الأيامِ قبلَ أيامِ التشريقِ، فلْيصُمْ أيامَ مِنًى.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/ 1 من طريق حجاج، عن أبي جعفر.
(2)
في م: "يوم".
(3)
تقدم أوله في ص 419. وينظر معرفة السنن والآثار 3/ 527.
(4)
أخرجه مالك 1/ 426 - ومن طريقه البخاري (1999)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 342 (1801)، والبيهقي 5/ 24 - عن الزهري به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 122 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن علية به.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عيسى بنِ أبي ليلى يُحدِّث عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ، وعن سالمٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ، أنهما قالا: لم يُرخَّصْ في أيامِ التشريقِ أن يصُومَ إلَّا لمن لم
(1)
يجِدْ هدْيًا
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا هشامٌ، عن عُبيدِ اللَّهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: إذا لَمْ يَصُمِ الثلاثةَ الأيامِ قبلَ النحرِ صام أيامَ التشريقِ، فإنها من أيامِ الحجِّ. وذكَره
(3)
هشامُ [بنُ عروةَ، عن أبيه]
(4)
، عن عائشةَ
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه في هذه الآيةِ:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: هي أيامُ التشريقِ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن يونسَ [بنِ أبي]
(7)
إسحاقَ، عن وَبَرةَ، عن ابنِ عمرَ، قال: يصومُ يومًا قبلَ الترويةِ، ويومَ الترويةِ، ويومَ عرفةَ. قال: وقال عُبيدُ بنُ عُميرٍ: يصومُ أيامَ التشريقِ
(8)
.
وعلةُ من قال: آخرُ الثلاثةِ الأيامِ التي أوجبَ اللَّهُ صومَهنَّ
(9)
على من لم يجِدِ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 123، والبخاري (1997، 1998)، والبيهقي 5/ 25 من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه الدارقطني 2/ 185 من طريق شعبة به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وذكر".
(4)
في الأصل: "أيضًا".
(5)
بعده في م: "قال". وقول ابن عمر أخرجه البيهقي 5/ 25 من طريق عبيد الله به بنحوه.
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 342 عقب الأثر (1803) معلقًا.
(7)
في الأصل: "بن"، وفي م:"عن أبي". وينظر تهذيب الكمال 32/ 488.
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 4 عن وكيع به.
(9)
بعده في م: "في الحج".
الهدْيَ من المتمتِّعينَ، يومُ عرفةَ. أن اللَّهَ تبارك وتعالى أوجبَ صومَهنَّ في الحجِّ بقولِه:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قالوا: وإذا انقضَى يومُ عرفةَ فقد انقضَى الحجُّ؛ لأنَّ يومَ النحرِ يومُ إحلالٍ من الإحرامِ. قالوا: وقد أجمَع الجميعُ أنه غيرُ جائزٍ له صومُ يومِ النحرِ. قالوا: فإنْ يكنْ إجماعُهم على أن ذلك له غيرُ جائزٍ من أجلِ أنه ليس من أيامِ الحجِّ، فأيامُ التشريقِ بعدَه أحْرَى ألا تكونَ من أيامِ الحجِّ؛ لأن أيامَ الحجِّ متى انقضَتْ من سنةٍ، فلن تعودَ إلى سنةٍ أُخرَى بعدَها، أو يكونَ إجماعُهم على أن ذلكَ له غيرُ جائزٍ من أجلِ أنه يومُ عيدٍ، فأيامُ التشريقِ التي بعدَه في معناه؛ لأنها أَيامُ عيدٍ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نهَى عن صومِهنَّ
(1)
، كالذي
(2)
نهَى عن صومِ يومِ النَّحرِ. قالوا: وإذا كان يفُوتُ صومُهنّ بمضيِّ يومِ عرفَةَ، لم يكنْ إلى صيامِهنَّ في الحجِّ سبيلٌ؛ لأنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤُه شرَطَ صومَهنَّ في الحجِّ، [فلن يُجْزِئَ]
(3)
عنه إلا الهدْيُ الذي فوضَه اللَّهُ عليه لتمتُّعِه
(4)
.
وعلَّةُ مَن قال: آخرُ الأيامِ الثلاثةِ التي ذكَرها اللَّهُ في كتابِه انقضاءُ آخرِ أيامِ منًى. أن اللَّهَ تبارك وتعالى أوجَبَ على المتمتعِ ما استَيسَر من الهدْيِ، ثم الصيامَ إن لم يجِدْ إلى الهدْيِ سبيلًا. قالوا: وإنما يجِبُ عليه نحْرُ هدْيِ المتعةِ يومَ النحرِ ولو كان له واجدًا قبلَ ذلك. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، فإنما رُخِّصَ له في الصومِ يومَ يلزَمُه نحرُ الهدْيِ فلا يجِدُ إليه سبيلًا. قالوا: والوقتُ الذي يلزَمُه فيه نحْرُ الهديِ يومُ النحرِ، والأيامُ التي بعدَه من أيامِ النحرِ، فأما قبلَ ذلك فلم [يكنْ عليه نحرٌ]
(5)
. قالوا:
(1)
ينظر ما سيأتي في ص 555، 556.
(2)
في م: "كما".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فلم يجز".
(4)
في م: "لمتعته".
(5)
في م: "يمكن نحره".
فإذا كان النحرُ لم يكنْ له لازمًا قبلَ ذلك، وإنما لزِمَه يومَ النحرِ، فإنما لَزِمَه الصومُ يومَ النحرِ، وذلك حينَ عَدِمَ الهدْيَ فلم يجِدْه، فوجَب عليه الصومُ. قالوا: وإذا كان
(1)
كذلك، فالصومُ إنما يلزَمُه أولُه في اليومِ الذي يلي يومَ النحرِ، وذلك أن النحرَ إنما كان لزِمَه من بعدِ طلوعِ الفجرِ، ومن ذلك الوقتِ إذا لم يجِدْه يكونُ له الصومُ. قالوا: وإذا طلَعَ فجرُ يومٍ ولم يلزَمْه صومُه قبلَ ذلك - إذ كان الصومُ لا يكونُ في بعضِ نهارِ يومٍ في واجبٍ - عُلِمَ أن الواجبَ عليه من
(2)
الصومِ، من اليومِ الذي يَليه إلى انقضاءِ الأيامِ الثلاثةِ بعدَ يومِ النحرِ من أيامِ التشريقِ. قالوا: ولا معنى لقولِ القائلِ: إنَّ أيامَ مِنًى ليستْ من أيامِ الحجِّ؛ لأنهنّ يُنسَكُ فيهنَّ بالرميِ والعكوفِ على عَملِ الحجِّ، كما يُنسَكُ غيرُ ذلك من أعمالِ الحجِّ في الأيامِ قبلَها.
قالوا: وهذا مع شهادةِ الخبرِ الذي حدَّثني به محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الحكمِ المصريُّ، قال: ثنا يحيى بنُ سلَّامٍ، أن شعبةَ حدَّثه عن ابنِ أبي ليلَى، عن الزهريِّ، عن سالمِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، عن أبيه، قال: رَخَّصَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم للمتمتِّع إذا لم يجِدِ الهدْيَ ولم يَصُمْ حتى فاتَته أيامُ العشرِ، أن يَصومَ أيامَ التشريقِ مكانَها
(3)
. بصحةِ ما قلنا في ذلك من القولِ، وخطإِ قولِ مَن خالفَ قولَنا فيه.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا هُشيمٌ، عن سفيانَ بنِ حُسينٍ، عن الزهريِّ، قال: بعَث رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّهِ بنَ حُذافةَ بنِ قيسٍ، فنادَى في أيامِ التشريقِ، فقال: "إنَّ هذه أيامُ أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكرِ اللَّهِ، إلَّا مَن كان عليه صومٌ من
(1)
بعده في م: "ذلك".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 2/ 243، والدارقطني 2/ 186، والبيهقي 5/ 25 من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم به. وقال الدارقطني: يحيى بن سلام ليس بالقوي.
هدْيٍ"
(1)
.
واختلَف أهلُ العلمِ في أولِ الوقتِ الذي يجِبُ على المتمتِّعِ الابتداءُ في صومِ الأيامِ الثلاثةِ التي قال اللَّهُ تبارك وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} والوقتِ الذي يجوزُ له فيه صومُهنَّ، وإن لم يكنْ واجبًا عليه فيه صومُهنَّ؛ فقال بعضُهم: له أن يصومَهنَّ من أولِ أشهرِ الحجِّ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ وهارونُ، عن عَنْبَسةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ وطاوسٍ أنهما كانا يقولان: إذا صامَهنَّ في أشهرِ الحجِّ أجزأه. قال: وقال مجاهدٌ: إذا لم يجِدِ المتَمتعُ ما يُهدِي، فإنه يصومُ في العشْرِ إلى يومِ عَرفةَ، متى ما صامَ أجزَأَه، فإن صامَ الرجلُ في شوّالٍ أو ذِي القَعدَةِ أجْزأَه
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ المغيرةِ أبو المغيرةِ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ، قال: ثنا محمدُ بنُ مسلمٍ الطائفيُّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: مَن صام يومًا في شوَّالٍ، ويومًا في ذي القَعدةِ، ويومًا في ذي الحِجةِ، أجزأَه عنه مِن صومِ التَّمتُّعِ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: إن شاء صام أوّلَ يومٍ من شوّالٍ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . قال: إن شاء صامها في العشرِ، وإن شاء في ذِي القَعدةِ، وإن شاء في شوّالٍ
(2)
.
(1)
أخرجه الدارقطني 2/ 187 من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن حذافة بنحوه.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 421.
وقال آخرون: يصومُهنَّ في عَشْرِ ذي الحِجَّةِ دونَ غيرِها.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ وهارونُ، عن عَنْبَسةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ، قال: يصومُ المُتمتِّعُ
(1)
الثلاثةَ الأيامِ لمتعتِه في العشرِ إلى يومِ عرفةَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا بشرُ بنُ بكرٍ، عن الأوزاعيِّ، قال: حدَّثني يعقوبُ [بنُ عطاءٍ]
(3)
، أن عطاءَ بنَ أبي رباحٍ كان يقولُ: مَن استطاعَ أن يصومَهنّ فيما بينَ أوَّلِ يومٍ من ذي الحِجةِ إلى يومِ عرفةَ فليصُمْ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ، قال: لا بأْسَ أن يَصومَ المتمتِّعُ في العشْرِ وهو حَلالٌ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا أبو شهابٍ، عن الحجاجِ، عن أبي جَعفرٍ، قال: لا يُصامُ إلَّا في العشْرِ.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا الربيعُ، عن عطاءٍ أنه كان يقولُ في صيامِ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ، قال: في تسعٍ من ذي الحِجةِ، أيَّها شئتَ، فمن صام قبلَ ذلك في شوّالٍ وفي ذي القَعدةِ، فهو بمنزلةِ مَن لَمْ يَصُمْ.
وقال آخرون: له أن يَصومَهنَّ قبلَ الإحرامِ بالحجِّ.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 421.
(3)
سقط من: م. وينظر تهذيب الكمال 32/ 353.
(4)
تفسير سفيان ص 62.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، قال: أخبرنا أيوبُ، عن عكرمةَ، قال: إذا خَشِي أَلا يُدْرِكَ الصومَ بمكةَ، صام بالطريقِ يومًا أو يوميْن
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ، قال: لا بأسَ أن تَصُومَ الثلاثةَ الأيامِ في المتعةِ وأنت حَلالٌ.
وقال آخرون: لا يجوزُ له أن يَصومَهنَّ إلَّا بعدَ ما يُحرِمُ بالحجِّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ، قال: لا يَصومُهُنَّ إلَّا وهو حَرامٌ
(2)
.
وحدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ إسماعيلَ بنِ نصرٍ، عن ابنِ أبي حَبِيبةَ، عن داودَ بنِ حُصينٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال: الصيامُ للمتمتِّعِ ما بينَ إحرامِه إلى يومِ عرفةَ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ، قال: لا يُجزئُه صومُ ثلاثةِ أيامٍ وهو مُتمتعٌ إلَّا أنْ يُحرِمَ. وقال مجاهدٌ: يُجزِئُه إذا صام في ذي القَعدةِ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 121 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن علية به.
(2)
أخرجه البيهقي 5/ 25 من طريق سفيان به.
(3)
تقدم تخريجه في ص 420.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 121 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 215 إلى عبد الرزاق وابن المنذر، وليس في هذه المصادر قول مجاهد.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندي أن للمتمتِّعِ أن يصومَ الأيامَ الثلاثةَ التي أوجَبَ اللَّهُ عليه صومَهنَّ لمتعتِه إذا لم يَجِدْ ما استيسرَ من الهدْيِ، من أولِ إحرامِه بالحجِّ بعدَ قضاءِ عمرتِه واستمتاعِه بالإحلالِ إلى حجِّه، إلى انقضاءِ آخرِ عملِ حجِّه، وذلك
(1)
انقضاءُ أيامِ مِنًى سوَى يومِ النحرِ، فإنه غيرُ جائزٍ له صومُه، ابتدَأَ صومَهُنَّ قبلَه، أو ترَكَ صومَهنَّ فأخَّره
(2)
حتى انقضاءِ يومِ عرفةَ.
وإنما قلنا: له صومُ أيامِ التشريقِ؛ لما ذكَرنا من العلَّةِ لقائلي
(3)
ذلك قبلُ
(4)
. فإن صامَهنّ قبلَ إحرامِه بالحجِّ، فإنه غيرُ مُجزِئٍ صومُه ذلك من الواجبِ عليه، من الصومِ الذي فرَضه اللَّهُ عليه لمتعتِه، وذلك أنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤُه إنما أوجَبَ الصومَ على من لم يجِدْ هدْيًا، ممن استمتَعَ بعمرتِه إلى حجِّه، فالمعتمرُ قبلَ إحلالِه من عُمرتِه وقبلَ دخولِه في حَجِّه غيرُ مُستحقٍّ اسمَ متمتعٍ بعمرتِه
(5)
إلى حجِّه، وإنما يُقالُ له قبلَ إحرامِه: معتمِرٌ. حتى يدخُلَ بعدَ إحلالِه في الحجِّ قبلَ شُخوصِه عن مكةَ، فإذا دخَل في الحجِّ محرِمًا به بعدَ قضاءِ عُمرتِه في أشهرِ الحجِّ ومُقامِه بمكةَ بعدَ قضاءِ عُمرتِه حَلالًا حتى يَحُجَّ
(6)
من عامِه، سُمِّي مُتمتِّعًا، فإذا استحَق اسمَ مُتمتِّعٍ لزِمه الهدْيُ، وحينئذٍ يكونُ له الصومُ بِعدَمِه الهدْيَ إن عدِمَه فلم يجِدْه. فأمَّا إن صامه قبلَ دخولِه في الحجِّ، وإن كان من نيتِه الحجُّ، فإنما هو رجلٌ صام صومًا ينوي به قضاءً عما عسَى أن
(1)
بعده في م: "بعد".
(2)
في الأصل: "وأخَّر".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لقائل".
(4)
في م: "قيل".
(5)
في الأصل: "بعمرة".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حج".
يلزمَه أو لا يلزمَه، فسبيلُه سبيلُ رجلٍ مُعسرٍ صام ثلاثةَ أيامٍ ينوِي بصومِهنَّ كفارةً
(1)
ليمينٍ يريدُ أن يَحلِفَ بها ويَحنَثَ فيها، وذلك ما لا خلافَ بينَ الجميعِ أنه غيرُ مُجزِئٍ من كفارةِ يمينٍ
(2)
، إن حلَفَ بها بعدَ الصومِ فحنِثَ.
فإن ظَنَّ ظانٌّ أنّ صومَ المعتمرِ بعدَ إحلالِه من عُمرتِه، أو قبلَه وقبلَ دخولِه في الحجِّ - مُجزِئٌ عنه من الصومِ الذي أوجَبه اللَّهُ عليه، إن تمتعَ
(3)
بعمرتِه إلى الحجِّ، نظيرَ ما أجزَأ الحالفَ بيمينٍ إذا كفَّرَ عنها قبلَ حِنثِه فيها بعدَ حَلِفِه بها، فقد ظَنَّ خطأً؛ لأنَّ اللَّهَ جَلَّ ثناؤُه جعَلَ لليمينِ تحليلًا هو غيرُ تكفيرٍ، فالفاعلُ فيها قبلَ الحِنْثِ فيها ما يفعَلُه المُكَفِّرُ بعدَ حِنْثِه فيها، مُحلِّلٌ غيرُ مُكفِّرٍ، والمتمتعُ إذا صام قبلَ تمتُّعِه، صائمٌ تكفيرًا لما يَظُنُّ أنه يلزَمُه ولَمَّا يلزمْه، فهو كالمكفِّرِ عن قتلِ صيدٍ يريدُ قتْلَه وهو مُحرمٌ قبلَ قتلِه، وعن تَطيُّبٍ قبلَ تَطيُّبِه.
ومَن أبَى ما قلنا في ذلك، ممن زعَمَ أن للمعتمرِ الصومَ قبلَ إحرامِه بالحجِّ، قيلَ له: ما قلتَ في مَن كفَّرَ مِن المحرِمينَ عن الواجبِ علَى مَن ترَكَ رمْيَ الجمراتِ أيامَ مِنًى يومَ عرفةَ، وهو ينوِي تركَ رَمْيِ
(4)
الجمراتِ، ثم أقامَ بمنًى أيامَ مِنًى حتى انقضَتْ تاركًا رَمْيَ الجمراتِ، هل يُجزِئُه تكفيرُه ذلكَ عن الواجبِ عليه في تركِه ما ترَك من ذلك؟ فإن زعَمَ أن ذلك يُجزِئُه، سُئلَ عن مثلِ ذلكَ في جميع مناسِكِ الحجِّ التي
(5)
أوجَبَ اللَّهُ في تضييعِها
(6)
على المحْرِمِ أو في فعلِه كفارةً، فإن سوَّى بين جميعِ ذلك
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يمين".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل: "يتمتع".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في الأصل: "الذي".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تضييعه".
قادَ
(1)
قولُه، وسُئِلَ عن نظيرِ ذلك في العازمِ على أن يُجامِعَ في شهرِ رمضانَ وهو مقيمٌ صحيحٌ، إذا كفَّرَ قبلَ دخولِ الشهرِ، ثم
(2)
دخَلَ الشهرُ ففعَلَ ما كان عازمًا عليه، هل تُجزئُه كفارَتُه التي كفَّرَ عن الواجبِ مِن وَطْئِه ذلك؟ وكذلك يُسئلُ عمن أرادَ أنْ يُظاهِرَ من امرأتِه، فإنْ قاد (1) قولُه في ذلك، خرَجَ من قولِ جميعِ الأمَّة. وإن أبَى شيئًا من ذلك، سُئِلَ الفرْقَ بينَه وبينَ الصائمِ لمتعتِه قبلَ تمتعِه وقَبلَ إحرامِه بالحجِّ، ثم عُكِسَ عليه القولُ في ذلك، فلن يقولَ في أحدِهما قولًا
(3)
إلَّا أُلزِمَ في الآخرِ مثلَه.
القولُ في تأويل قولِه: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} .
يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: فمَن لم يجِدْ ما استَيْسرَ من الهدْيِ، فعليه صيامُ ثلاثةِ أيامٍ في حَجِّه، وصيامُ سبعةِ أيامٍ إذا رجَعَ إلى أهلِه ومِصْرِه.
فإن قال لنا قائلٌ: أوَ ما يجِبُ عليه صومُ السبعةِ الأيامِ بعدَ الأيامِ الثلاثةِ التي يَصومُهنَّ في الحجِّ إلَّا بعدَ رُجوعِه إلى مِصرِه وأهلِه؟
قيلَ: بلى
(4)
، قد وجَب
(5)
عليه صومُ الأيامِ العشرةِ بعدَمِ ما اسْتَيْسرَ من الهدْيِ لمتعتِه، ولكنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى رأفةً منه بعبادِه رخَّص لمن أوجَبَ ذلك عليه [أن يُؤَخِّرَ صَوْمَ الأيامِ السبعةِ إلى رُجوعِه إلى منزلِه؛ تَيْسِيرًا منه عليه]
(6)
، كما رخَّصَ للمسافرِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فاد". يقال: تقاود المكان: استوى. أساس البلاغة (ق و د).
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(3)
في م: "شيئًا".
(4)
في م: "بل".
(5)
في م: "أوجب الله".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والمريضِ في شهرِ رمضانَ الإفطارَ وقضاءَ عدَّةِ ما أفطرَ من الأيامِ من أيامٍ أُخَرَ، ولو تحمَّلَ المتمتعُ فصامَ الأيامَ السبعةَ في سفَرِه قبلَ رُجوعِه إلى وطَنِه، أو صامَهنَّ بمكةَ، كان مؤدِّيًا ما عليه من فرضِ الصومِ في ذلك، وكان بمنزلةِ الصائمِ شهرَ رمضانَ في سفَرِه أو مرَضِه، مختارًا للعسرِ على اليسرِ.
وبالذي قلنا في ذلك قالت علماءُ الأمةِ.
ذِكرُ بعضِ
(1)
من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال: هي رُخْصَةٌ، إن شاءَ صامها في الطريقِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال: هي رُخصةٌ، إن شاءَ صامَها في الطريقِ، وإن شاءَ صامَها بعدَ ما يرجِعُ إلى أهلِه.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال: إن شاءَ صامَها في الطريقِ، وإنما هي رُخصةٌ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن منصورٍ،
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 343 (1808) من طريق سفيان به، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 123 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق منصور وليث، عن مجاهد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 16 إلى وكيع وعبد بن حميد.
عن مجاهدٍ، قال: إن شئتَ صُمْتَ
(1)
السبعةَ في الطريقِ، وإن شئتَ إذا رجَعتَ إلى أهلِك.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن فِطرٍ، عن عطاءٍ، قال: يصومُ السبعةَ إذا رجَعَ إلى أهلِه أَحَبُّ إليَّ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال: إن شِئتَ في الطريقِ، وإن شِئتَ بعدَ ما تَقدَمُ
(3)
.
فإن قال قائلٌ
(4)
: وما برهانُك على أن معنى قولِه: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} : إذا رجَعتم إلى أهلِيكم وأمصارِكم. دونَ أن يكونَ معناه: إذا رجَعتم من مِنًى إلى مكةَ؟
قيل: إجماعُ جميعِ أهلِ العلمِ على أن معناه ما قلنا دونَ غيرِه.
ذِكرُ بعضِ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال: إذا رجَعْتَ إلى أهلِك.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} : إذا رجَعتُم إلى أمْصارِكُم
(5)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(6)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"صم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 216 إلى وكيع.
(3)
بعده في م: "إلى أهلك".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 216 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 343 عقب الأثر (1805) من طريق ابن أبي جعفر به.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . قال: إلى أهلِك
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {كَامِلَةٌ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فصيامُ الثلاثةِ الأيامِ في الحجِّ، والسبعةِ الأيامِ بعد ما يرجِعُ إلى أهلِه، عشَرةٌ كاملةٌ من الهدْيِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن عَبّادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} . قال: كاملةٌ من الهدْيِ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن عبّادٍ، عن الحسنِ مثلَه.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك: كَمَّلَتْ لكم أجرَ مَن أقام على إحرامِه، فلم يَحِلَّ ولم يتمتَّعْ تَمتُّعَكُم بالعمرَةِ إلى الحجِّ.
وقال آخرون: معنَى ذلك الأمرُ وإن كان مُخرجُه مُخرجَ الخبرِ، وإنما عنَى بقولِه:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} : تلك عشَرةُ أيامٍ فأَكْمِلُوا صومَها لا تُقصِّرُوا عنها؛ لأنه فرضٌ عليكم صومُها.
وقال آخرون: بل قولُه: {كَامِلَةٌ} . توكيدٌ للكلامِ، كما يقولُ القائلُ:
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 123 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق قتادة، عن سعيد بنحوه.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 343 (1809) من طريق هشيم به.
سَمِعتُه بأُذُنِي، ورأيتُه بعينِي. وكما قال:{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. ولا يكونُ الخَرُّ إلَّا من فوقٍ، فأمّا مِن موضعٍ آخرَ، فإنما يجوزُ على سَعَةِ الكلامِ.
وقال آخرون: إنما قال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} . وقد ذكَرَ سبعةً وثلاثةً؛ لأنه إنما أخبَر أنها مُجزِئةٌ وليس يُخبرُ عن عدَّتِها. وقالوا: ألا ترَى أن قولَه: {كَامِلَةٌ} إنما هو: وافيةٌ.
وأوْلى هذه الأقوالِ عندي بالصوابِ
(1)
قولُ من قال: معنَى ذلك: تِلكَ عشَرةٌ كاملةٌ عليكم فَرْضُ
(2)
إكمالِها. وذلك أنه جلّ ثناؤُه قال: فمن لم يجِدِ الهدْيَ فعليه صيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ، وسبعةٍ إذا رجَعْتُم
(3)
. ثم قال: تلك عَشَرةُ أيامٍ عليكم إكمالُ صومِها لتَمتُّعِكم بالعمرةِ إلى الحجِّ. فأخرَجَ ذلك مُخرَجَ الخبرِ، ومعناه الأمرُ بها.
القولُ في تأويلِ قولِه: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .
يعني جلّ ثناؤُه بقولِه: {ذَلِكَ}
(4)
: التمتُّعُ بالعمرةِ إلى الحجِّ لمن لم يكنْ أهلُه حاضرِي المسجدِ الحرامِ.
كما حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . يعني: المتعةَ أنها لأهلِ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1:"فرضنا"، وفي ت 2، ت 3:"فرضا".
(3)
في م: "رجع".
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أي".
الآفاقِ، ولا تصلُحُ لأهلِ مكةَ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: إنما
(2)
هذا لأهلِ الأمصارِ؛ ليكونَ عليهم أيْسرَ من أنْ يَحُجَّ أحدُهم مرةً ويعتمِرَ أخرَى، فيَجْمَعَ حَجَّتَه وعمرتَه في سنةٍ واحدةٍ.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في من عنَى بقولِه: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . بعد إجماع جميعِهم على أن أهلَ الحرَمِ معنيُّونَ به، وأنه لَا مُتعةَ لهم؛ فقال بعضُهم: عنَى بذلك أهلَ الحرمِ خاصةً دونَ غيرِهم.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، قال: قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ: هم
(3)
أهلُ الحرَمِ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن عبدِ الكريمِ، عن مجاهدٍ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: أهلُ الحرَمِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن سفيانَ، قال: بلَغنا عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: هم أهلُ الحرمِ والجماعةُ عليه
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 344 عقب الأثر (1811) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
في م: "أن".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 341 عن المصنف، وقول ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 217 إلى المصنف وابن المنذر، وسيأتي تخريج قول مجاهد.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 341 عن ابن المبارك به.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال قتادةُ: ذُكِرَ لنا أن
(1)
ابنَ عباسٍ كان يقولُ: يا أهلَ مكةَ، إنه لا متعةَ لكم، أُحِلَّت لأهلِ الآفاقِ وحُرِّمت عليكم، إنما يقطعُ أحدُكم واديًا - أو قال: يجعَلُ بينَه وبينَ الحرمِ واديًا - ثم يُهلُّ بعمرةٍ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، أن أهلَ مكَّةَ كانوا يَغزُون ويَتَّجِرونَ، فيقدَمون في أشهرِ الحجِّ ثم يَحُجُّون، ولا يكونُ عليهم الهدْيُ ولا الصيامُ، أرْخصَ لهم في ذلك؛ لقولِ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ -:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: أهلُ الحرمِ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قال: المتعةُ للناس، إلا لأهلِ مكةَ ممن
(5)
لم يكنْ أهلُه من الحرَمِ، وذلك قولُ اللَّهِ تبارك وتعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: وبلَغني عن ابنِ عباسٍ مثلُ قولِ طاوسٍ
(6)
.
(1)
في الأصل: "بأن".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 76 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 217 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ينظر ما علقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 344 عقب الأثر (1814).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 344 (1814) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 217 إلى وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد.
(5)
في الأصل: "من".
(6)
تفسير عبد الرزاق 1/ 76.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك أهلَ الحرمِ ومَن كان منزلُه دونَ المواقيتِ إلى مكةَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ، عن مكحولٍ [في قولِه]
(1)
: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: مَن كان دونَ المواقيتِ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ بإسنادِه مثلَه، إلَّا أنه قال: ما كانَ دونَ المواقيتِ إلى مكةَ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيَى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن رجلٍ، عن عطاءٍ، قال: من كان أهلُه مِن دونِ المواقيتِ، فهو كأهلِ مكةَ لا يتمتَّعُ.
وقال بعضُهم: بل عنَى بذلك أهلَ الحرمِ ومَن قَرُب منزِلُه منه
(3)
.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن ابنِ جريجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: عرَفةُ
(4)
، وعُرَنةُ
(5)
، والرجيعُ
(6)
، وضَجَنانُ
(7)
، ونخلتانِ
(8)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 341 عن ابن المبارك به.
(3)
سقط من الأصل.
(4)
بعده في م: "مر". وستأتي في الأثر بعده.
(5)
عرنة: واد بحذاء عرفات. معجم البلدان 3/ 657.
(6)
الرجيع: ماء لهذيل قرب الهَدْءة بين مكة والطائف. معجم البلدان 2/ 756.
(7)
ضجنان: جبل بناحية تهامة. معجم البلدان 3/ 465.
(8)
نخلتان: تثنية نخلة وهي عن يمين بستان ابن عامر وشماله، يقال لهما: النخلة اليمانية والنخلة الشامية. =
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفَاريُّ والمثنَّى، قالا: ثنا أبو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جريجٍ، عن عطاءٍ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: عرفةُ، ومَرٌّ
(1)
، وعُرَنَةُ، وضَجَنانُ، والرجيعُ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن مَعمرٍ، عن الزهريِّ في هذه الآيةِ، قال: اليومَ واليومين
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمَرٌ، قال: سمِعتُ الزهريَّ يقولُ: مَن كان أهلُه على يومٍ أو نحوِه تمتَّعَ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ جريجٍ، عن عطاءٍ، أنه جعَل أهلَ عرفةَ من أهلِ مكةَ في قولِه:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: أهلُ مكةَ وفَجٍّ
(4)
وذي طُوًى
(5)
، وما يلي ذلك فهو مِن مكةَ.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصحةِ عندَنا قولُ من قال: إن حاضِري المسجدِ
= معجم البلدان 4/ 768.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 344 (1813) من طريق وكيع به.
(1)
مر: بينها وبين مكة خمسة أميال. معجم البلدان 4/ 493.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 341 عن الزهري.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 76.
(4)
فج: هو فج الروحاء، وهو بين مكة والمدينة، كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وإلى مكة عام الفتح وعام الحج. معجم البلدان 3/ 851.
(5)
ذو طُوى: بالضم موضع عند مكة. معجم البلدان 3/ 553.
الحرامِ مَن هو حولَه ممن بينَه وبينَه من المسافةِ ما لا تُقْصَرُ إليه الصلاةُ؛ لأن الحاضِرَ الشيءِ في كلامِ العربِ هو الشاهدُ له بنفْسِه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يَستحِقُّ أن يُسمَّى غائبًا إلَّا مَن كان مسافرًا شاخصًا عن وطنِه، وكان المسافرُ لا يكونُ مسافرًا إلَّا بشخوصِه عن وطنِه إلى ما تُقصَرُ في مثلِه الصلاةُ، وكان مَن لم يكنْ كذلكَ لا يَستحِقُّ اسمَ غائبٍ عن وطنِه ومنزِلِه، كان كذلك مَن لم يكنْ من المسجدِ الحرامِ على ما تُقصَرُ إليه الصلاةُ غيرَ مُستحِقٍّ أن يقالَ: هو من غيرِ حاضرِيه. إذ كان الغائبُ عنه هو مَن وصَفْنا صِفتَه.
وإنما لم تكنِ المتعةُ لمن كان من حاضرِي المسجدِ الحرامِ، من أجلِ أن التَّمتعَ إنما هو الاستمتاعُ بالإحلالِ من الإحرامِ بالعمرةِ إلى الحجِّ، مرتفِقًا في ترْكِ العودِ إلى المنزلِ والوطنِ، بالمقامِ بالحرَمِ حتى يُنشِئَ منه الإحرامَ بالحجِّ، وكان المعتمرُ متى قضَى عُمرتَه في أشهرِ الحجِّ، ثم انصرَفَ إلى وطنِه، أو شَخَص عن الحرمِ إلى ما تُقصَرُ فيه الصلاةُ، ثم حَجَّ من عامِه ذلك، بطَل أن يكونَ مُسْتَمْتِعًا؛ لأنه لم يَسْتَمْتِعْ بالمِرْفَقِ الذي جُعِل للمُستمتِعِ؛ مِن ترْكِ العَوْدِ إلى الميقاتِ، والرجوعِ إلى الوطنِ، بالمُقامِ في الحرَمِ، وكان المكِّيُّ [ومَن هو]
(1)
من حاضرِي المسجدِ الحرامِ لا [مَرْفِقَ له في ذلك]
(2)
من أجلِ أنه متى قضَى عُمْرَتَه أقام في وطنِه بالحرمِ، فهو غيرُ مُرْتَفِقٍ بشيءٍ مما يَرْتَفِقُ به مَن لَم يكنْ أهلُه من حاضِرِي المسجدِ الحرامِ، فيكونَ [مُسْتَمْتِعًا به بإحلالِه]
(3)
من عمرتِه إلى حجِّه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} .
(1)
سقط من: م، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"وهو".
(2)
في م: "يرتفق بذلك".
(3)
في م: "متمتعًا بالإحلال"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"مستمتعا بالإحلال".
يعني بذلك جل ثناؤُه: واتقُوا اللَّهَ بطاعتِه فيما أَلزَمَكم من
(1)
فرائضِه وحدودِه، واحْذَرُوا أن تَعْدُوا
(2)
ذلك، [وأن]
(3)
تَتجاوزوا ما
(4)
بَيَّن لكم في
(5)
مناسكِكم، فتَسْتَحِلُّوا ما حَرَّم فيها عليكم، واعلَموا فتيقَّنوا
(6)
أنه تعالى ذِكْرُه شديدٌ عقابُه لمَن عاقَبه على ما انتَهك مِن محارمِه، ورَكِب مِن معاصِيه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: وقتُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ. فـ "الأشهرُ" مرفوعاتٌ بـ "الحَجِّ"، وإن كنَّ
(7)
له وقتًا لا صفةً ونعتًا، إذ
(8)
لم تكنْ محصوراتٍ بتعريفٍ، بإضافةٍ إلى معرفةٍ أو معهودٍ، فصار الرفعُ فيهن كالرفعِ في قولِ العربِ في نظيرِ ذلك من المَحِلِّ: المسلمون جانبٌ، والكفارُ جانبٌ. برفعِ الجانبِ إذ
(9)
لم يكنْ محصورًا على حدٍّ معروفٍ. ولو قيل: جانبَ أرضِهم أو بلادِهم. لكان النصبُ هو الكلامَ.
ثم اختلَفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ؛ فقال بعضُهم: يعني بالأشهرِ المعلوماتِ، شوَّالًا، وذا القَعدةِ، وعشرَ
(10)
ذي الحِجةِ.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(2)
في م، ت 2:"تعتدوا في"، وفي ت 1، ت 3:"تعدوا في".
(3)
في م: "و"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"أو".
(4)
في م: "فيما".
(5)
في م: "من".
(6)
في م: "تيقنوا".
(7)
في م: "كان".
(8)
في الأصل: "إذا".
(9)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذي".
(10)
في م: "عشرا من".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّه قولَه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ ذي الحجةِ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ وشَرِيكٌ، عن خُصيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن خُصَيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ إسماعيلَ بنِ نصرٍ السُّلَميُّ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ إسماعيلَ بنِ أبي حبيبةَ، عن داودَ بنِ حُصَينٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال: أشهرُ الحجِّ، شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ
(4)
ذي الحِجةِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} : وهنَّ شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ
(4)
ذي الحِجةِ، جعَلَهُنَّ اللَّهُ سبحانه للحجِّ، وسائرَ الشهورِ
(1)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 218 - وعنه ابن أبي شيبة ص 218 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (328 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 345 (1817)، والدارقطني 2/ 226، والبيهقي 4/ 342 من طريق شريك به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 218 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 218 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق سفيان به.
(3)
تفسير سفيان ص 62، ومن طريقه الدارقطني 2/ 226، والبيهقي 4/ 342.
(4)
في م: "عشر من".
للعُمْرَةِ، فلا يَصلُحُ أن يُحْرِمَ أحدٌ بالحَجِّ إلا في أشهرِ الحَجِّ، والعمرةُ يُحرَمُ بها في كلِّ شهرٍ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثني الحِمَّانيُّ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرٌ من
(1)
ذي الحِجةِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ وأبو عامرٍ، قالا: حدَّثنا سفيانُ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدَّثنا أبو عَوَانةَ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ والشعبيِّ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال:[حدَّثنا أبو أحمدَ، قال]
(5)
: حدَّثنا إسرائيلُ، عن جابرٍ، عن عامرٍ مثلَه.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ وإسرائيلُ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السديِّ مثلَه
(6)
.
(1)
زيادة من: م.
(2)
أخرجه الدارقطني 2/ 226 من طريق شريك به.
(3)
تفسير سفيان ص 63، ومن طريقه ابن أبي شيبة ص 219 (القسم الأول من الجزء الرابع)، والأثر في تفسير مجاهد ص 228، من طريق مغيرة به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (332 - تفسير) عن أبي عوانة وهشيم به.
(5)
سقط من: م.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 345 عقب الأثر (1817) من طريق عمرو به.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثني القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا الحجاجُ، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال
(2)
، وأخبرَنا مغيرةُ، عن إبراهيمَ والشعبيِّ، وأخبرَنا يونسُ، عن الحسنِ، وأخبرَنا جويبرٌ، عن الضحاكِ، وأخبرَنا حجاجٌ، عن عطاءٍ ومجاهدٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو الوليدِ، قال: حدَّثنا حمادٌ، عن عبيدِ اللَّهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ ذي الحِجةِ. في:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعَيمٍ، قال: حدَّثنا ورقاءُ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ، قال:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ ذي الحِجةِ
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 228.
(2)
سقط من: م.
(3)
قول إبراهيم والشعبي تقدم تخريجه من طريق مغيرة في الصفحة السابقة. وأما قول الحسن فأخرجه سعيد بن منصور في سننه (333 - تفسير) عن هشيم به.
(4)
أخرجه الحاكم 2/ 276، والبيهقي 4/ 342، وابن حجر في تغليق التعليق 3/ 58، 59 من طريق عبيد الله به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (331 - تفسير) من طريق نافع به.
(5)
أخرجه الدارقطني 2/ 226، ومن طريقه البيهقي 4/ 342، من طريق ورقاء به، وأخرجه مالك 1/ 344 (62) عن عبد الله بن دينار به بمعناه. وأخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 218 - ومن طريقه ابن أبي شيبة ص 219 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وأخرجه الدارقطني 2/ 226 من طريق أبي شيخ الهنائي، عن ابن عمر بنحوه. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعَيمٍ، قال: حدَّثنا حسينُ بنُ عُقَيلٍ
(1)
عن الضحاكِ، قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ ذي الحِجةِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا حسينُ بنُ عُقَيلٍ الخُراسانيُّ، قال: سمِعتُ الضحاكَ بنَ مُزاحِمٍ يقولُ. فذكَر مثلَه.
وقال آخرون: بل يعني بذلك شوَّالًا وذا القَعدةِ، وذا الحِجةِ كلَّه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: حدَّثنا ابنُ جريجٍ، قال: قلت لنافعٍ: أكان عبدُ اللَّهِ يُسمَّى أشهرَ الحجِّ؟ قال: نعم؛ شوالٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجةِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ بكرٍ، قال: حدَّثنا ابنُ جريجٍ، قال: قلت لنافعٍ: أسمِعتَ ابنَ عمرَ يُسمِّي أشهرَ الحجِّ؟ قال: نعم، كان يُسمِّي شوالًا، وذا القَعدةِ، وذا الحِجةِ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن إبراهيمَ بنِ مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجةِ
(4)
.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"نفيل". وينظر المؤتلف والمختلف 3/ 1585.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 219 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق حسين بن عقيل به.
(3)
أخرجه الشافعي في مسنده 1/ 491 (749)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 345 (1816) من طريق ابن جريج به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (329 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 218 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق شريك به.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ بكرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} : قال عطاءٌ: فهي شوالٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجةِ
(1)
.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} : أشهرُ الحجِّ شوالٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجةِ. وربما قال: وعشرٌ من
(2)
ذي الحِجةِ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . قال: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجةِ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه مثلَه
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني الليثُ، قال: حدَّثني عُقَيْلٌ، عن ابنِ شهابٍ، قال: أشهرُ الحجِّ شوالٌ، وذو القَعدةِ، وذو الحِجةِ
(6)
.
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجهُ قولِ
(7)
قائلي هذه المقالةِ، وقد علِمتَ أن عملَ الحجِّ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في (القسم الأول من الجزء الرابع) ص 218 من طريق ابن جريجٍ به.
(2)
سقط من: م.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 345 عقب الأثر (1817) معلقًا باللفظ الثاني.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 77.
(5)
أخرجه الشافعي في الأم 2/ 155 من طريق ابن جريج، عن طاوس.
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 345 عقب الأثر (1816) معلقًا.
(7)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
لا يُعمَلُ بعدَ تقضِّي أيامِ مِنًى؟
قيل: إن معنى قولِهم ذلك غيرُ الذي توهَّمتَه، وإنما عَنَوا بِقيلِهم: الحجُّ ثلاثةُ أشهرٍ كواملَ. أنهُنَّ أشهرُ الحجِّ لا أشهرُ العمرةِ، وأن أشهرَ العمرةِ سِواهنَّ من شهورِ السنةِ.
ومما يدُلُّ على أنَّ ذلك معناهم في قِيلِهم ذلك ما حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عليةَ، قال: أخبرَنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: قال عمرُ
(1)
: أن تفصِلوا بينَ
(2)
الحجِّ والعمرةِ، فتجعَلوا العمرةَ في غيرِ أشهرِ الحجِّ، [أتمُّ لحجِّ]
(3)
أحدِكم، وأتمُّ لعمرتِهِ
(4)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ الجَهْضَمِيُّ، قال: أخبرَني أبي، قال: حدَّثنا شعبةُ، قال: ما لَقِيني أيوبُ - أو قال: ما لقِيتُ أيوبَ - إلا سألني عن حديثِ قيس بنِ مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، قال: قلتُ لعبدِ اللَّهِ: امرأةٌ منا قد حجَّت، و
(5)
هي تريدُ أن تحُجَّ، أفتجعلُ مع حجِّها عمرةً؟ فقال: ما أُرى هؤلاء الأشهرَ
(6)
إلا هي
(6)
أشهرَ الحجِّ. قال: فيقولُ لي أيوبُ: ومن عندَه مثلُ هذا الحديثِ، حدَّثك قيسُ بنُ مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، أنه سأل عبدَ اللَّهِ
(7)
!
(1)
في م: "ابن عمر".
(2)
بعده في م: "أشهر".
(3)
سقط من: ت 3، وفي م:"أتم الحج"، وفي ت 1:"لا أشهر العمرة سواء عند"، وفي ت 2:"سواهن".
(4)
أخرجه مالك 1/ 347 عن نافع به، وزاد في آخره: أن يعتمر في غير أشهر الحج. وأخرجه ابن أبي شيبة ص 129 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق نافع به بنحوه مختصرًا.
(5)
في م: "أو".
(6)
سقط من: م.
(7)
أخرجه البيهقي 5/ 23 من طريق قيس بن مسلم به بنحوه، وسيأتي في ص 450، 451 مختصرًا.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن ابنِ عونٍ، قال: سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يقولُ: إن العمرةَ في أشهرِ الحجِّ ليست بتامةٍ. قال: فقيل له: العمرةُ في المحرَّمِ؟ فقال: كانوا يَرَونها تامَّةً
(1)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيَانٍ، قال: أخبرَنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، عن ابنِ عونٍ، قال: سألتُ القاسمَ بنَ محمدٍ عن العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، قال: كانوا لا يَرَونها تامَّةً.
حدَّثنا ابنُ بَيَانٍ الواسطيُّ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن ابنِ عونٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ أنه كان يَسْتحبُّ العمرةَ في المحرَّمِ، قال: تكونُ في [غيرِ أشهرِ الحجِّ]
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بَيَانٍ الواسطيُّ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن ابنِ عونٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: قال ابنُ عمرَ للحكمِ بنِ الأعوجِ أو غيرِه: إن أطعتَني انتظَرْتَ حتى إذا أهلَلْتَ
(3)
المحرَّمَ خرَجتَ إلى ذاتِ عِرْقٍ
(4)
فأهلَلْتَ منها بعمرةٍ.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن أبي يَعْفُورٍ
(5)
، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقولُ: لَأنْ أعتمِرَ في عشرِ ذي الحِجةِ أحبُّ إليَّ من أن أعتمِرَ في العشرين.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن قيسِ بنِ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 129 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق ابن عون به.
(2)
في م: "أشهر الحج، قال: كانوا لا يرونها تامة".
(3)
في م: "أهل".
(4)
ذات عرق: مهل أهل العراق، وهو الحد بين نجد وتهامة، وقيل: عرق جبل بطريق مكة. معجم البلدان 3/ 651.
(5)
في م: "يعقوب"، وفي ت 2:"أيوب". وينظر الجرح والتعديل 9/ 460.
مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، قال: سألتُ ابنَ مسعودٍ عن امرأةٍ منا أرادت أن تجمَعَ مع حَجِّها عمرةً، فقال: أسمَعُ اللَّهَ يقولُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . ما أراها إلا أشهرَ الحَجِّ
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ المِقْدامِ، قال: ثنا حَزْمٌ
(2)
القُطَعِيُّ، قال: سمِعتُ محمدَ بنَ سيرينَ يقولُ: ما أحدٌ من أهلِ العلمِ شكَّ
(3)
أن عمرةً في غيرِ أشهرِ الحجِّ أفضلُ من عمرةٍ في أشهرِ الحجِّ
(4)
.
ونظائرُ ذلك مما يطولُ باستيعابِ ذكرِه الكتابُ، مما يدُلُّ على أن معنى قِيلِ مَن قال: وقتُ الحجِّ ثلاثةُ أشهرٍ كواملَ. أنهنَّ من غيرِ شهورِ العمرةِ، وأنهنّ شهورٌ لعملِ الحجِّ دونَ عملِ العمرةِ، وإن كان عملُ الحجِّ إنما يُعمَلُ في بعضِهنَّ لا في جميعِهنَّ.
وأمَّا الذين قالوا: تأويلُ ذلك: شوالٌ، وذو القَعدةِ، وعشرُ ذي الحِجةِ. فإنهم قالوا: إنما قصَد اللَّهُ جل ثناؤُه بقولِه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . إلى تعريفِ خلقِه ميقاتَ حجِّهم، لا الخبرَ عن وقتِ العمرةِ.
قالوا: فأما العمرةُ، فإن السَّنةَ كلَّها وقتٌ لها؛ لتَظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه اعتمَرَ في بعضِ شهورِ الحجِّ، ثم لم يصِحَّ عنه بخلافِ ذلك خبرٌ.
قالوا: فإذ كان ذلك كذلك، وكان عملُ الحجِّ ينقضي وقتُه بانقضاءِ العاشرِ مِن أيامِ ذي الحِجةِ، عُلِم أن معنى قولِه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . إنما هو: ميقاتُ الحجِّ شهران وبعضُ الثالثِ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 129 (القسم الأول من الجزء الرابع).
(2)
في م: "حزام".
(3)
في الأصل: "يشك".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 129 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق آخر عن ابن سيرين بنحوه.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا قولُ من قال: إن معنى ذلك: الحجُّ شهران وعشرٌ من الثالثِ. لأن ذلك من اللَّهِ خبرٌ عن ميقاتِ الحَجِّ، ولا عملَ للحَجِّ يُعملُ بعد انقضاءِ أيامِ مِنًى، فمعلومٌ أنه لم يَعْنِ بذلك جميعَ الشهرِ الثالثِ. وإذا لم يكنْ معنيًّا به جميعُه، صحَّ قولُ من قال: وعشرُ ذي الحجةِ.
فإن قال قائلٌ: فكيف قيل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . وهو شهران وبعضُ الثالثِ؟
قيل: إن العربَ لا تمتنِعُ - خاصةً في الأوقاتِ - من استعمالِ مثلِ ذلك، فتقولُ: له اليومَ يومان منذ لم أرَه. وإنما يَعني بذلك يومًا وبعضَ آخرَ، وكما قال جل ثناؤُه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وإنما يَتَعجَّلُ في يومٍ ونصفٍ. وقد يفعلُ الفاعلُ منهم الفعلَ في الساعةِ، ثم يُخْرِجُه عامًّا على
(1)
السَّنةِ والشهرِ، فيقولُ: زرتُه العامَ وأتيتُه اليومَ. وهو لا يريدُ بذلك أنَّ فعلَه أخَذ من أولِ الوقتِ الذي ذكَره إلى آخرِه، ولكنه يعني أنه فعَله إذ ذاك، وفي ذلك الحينِ، [فلذلك قيل]
(2)
: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} والمرادُ منه: الحجُّ. شهران وبعضُ آخرَ.
فمعنى الآيةِ إذن ميقاتُ حَجِّكم أيُّها الناسُ شهران وبعضُ الثالثِ، وهنَّ
(3)
شوالٌ وذو القَعدةِ وعشرُ ذي الحِجةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} .
(1)
بعده في الأصل: "فاعل".
(2)
في م: "فكذلك".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".
يعني جل ثناؤُه بقولِه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} : فمن أوجَب الحجَّ على نفسِه، وألزَمها إياه فيهنَّ، يعني في الأشهرِ المعلوماتِ التي بيَّنَّاها
(1)
. وإيجابُه إياه على نفسِه العزْمُ على عملِ جميعِ ما أوجَب اللَّهُ على الحاجِّ عَمَلَه، وتَرْكِ جميعِ ما أمَره اللَّهُ بتركِه.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي يكونُ به الرجلُ فارضًا الحَجَّ، بعدَ إجماعِ جميعِهم على أن معنى الفرضِ الإيجابُ والإلزامُ؛ فقال بعضُهم: فرْضُ الحجِّ الإهلالُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا ورقاءُ المدائنيُّ
(2)
، عن عبدِ اللَّهِ
(3)
بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ قولَه:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . قال: من أهَلَّ بحَجٍّ
(4)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، [عن سفيانَ]
(5)
، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن العلاءِ بنِ المسيَّبِ، عن عطاءٍ، قال: التَّلْبيةُ
(6)
.
(1)
في م: "بينها".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
بعده في م: "المدني"، وبعده في ت 1، ت 2، ت 3:"المدائني".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 (1820)، والدارقطني 2/ 227، والبيهقي 4/ 343 من طريق ورقاء به بنحوه.
(5)
سقط من: م.
(6)
تفسير سفيان ص 63، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (تفسير - 335)، وابن أبي شيبة ص 219 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق العلاء به.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، وحدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: حدَّثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ الثوريِّ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . قال: فالفريضةُ الإحرامُ، والإحرامُ التَّلْبيةُ
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال:[حدَّثنا أبو نُعَيْمٍ، قال]
(2)
: حدَّثنا ورقاءُ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قال: أهَلَّ
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: الفرضُ التلبيةُ، ويَرجِعُ إن شاء ما لم يُحرِمْ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثني الحِمَّانيُّ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ، عن إبراهيمَ - يعني ابنَ مهاجرٍ - عن مجاهدٍ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . قال: الفريضةُ التلبيةُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . قال: الفرضُ الإهلالُ
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . قال: التلبيةُ
(6)
.
حدَّثني إبراهيمُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: حدَّثنا أبو عمرَ
(7)
الضريرُ، قال: أخبرَنا حمادُ
(1)
ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 11/ 94.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تقدم في ص 453.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 218 إلى ابن أبي شيبة.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 77.
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1821) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 218 إلى ابن أبي شيبة.
(7)
في م: "عمرو".
ابنُ سَلَمةَ، عن جَبْرِ بنِ حبيبٍ، قال: سألتُ القاسمَ بنَ محمدٍ عمن فرَض فيهنَّ الحجَّ، قال: إذا اغتسَلتَ ولبِستَ ثَوبَيْكَ
(1)
ولبَّيْتَ، فقد فرَضتَ الحَجَّ
(2)
.
وقال آخرون: فرضُ الحَجِّ [الإحرامُ به]
(3)
.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثَني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} : يقولُ: من أحرَم بحَجٍّ أو عمرةٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، وحدَّثني المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قالوا جميعًا: حدَّثنا سفيانُ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} : فمن أحرَم
(5)
. واللفظُ لحديثِ ابنِ بشارٍ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا شَرِيكٌ والحسنُ بنُ صالحٍ، عن ليثٍ، عن عطاءٍ، قال: الفرضُ الإحرامُ
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا هشيمٌ، قال: حدَّثنا الحجاجُ، عن عطاءٍ، وبعضُ أشياخِنا، عن الحسنِ في قولِه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
(1)
في م: "ثوبك".
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1821) معلقًا.
(3)
في م: "إحرامه".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 344 عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 218 إلى المصنف.
(5)
تفسير سفيان ص 63.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 344 عن عطاء.
الْحَجَّ}. قالا: فرضُ الحجِّ الإحرامُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} : فهذا عندَ الإحرامِ.
حدَّثنا أحمدُ بن حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا حُسَينُ بنُ عُقَيلٍ، عق الضحاكِ
(1)
، قال: الفرضُ الإحرامُ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا حسينُ بنُ عُقَيلٍ الخراسانيُّ، قال: سمِعتُ الضحاكَ بنَ مزاحمٍ يقولُ. فذكَر مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، قال: أخبرَني المغيرةُ، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . قال: من أحرَم.
وهذا القولُ الثاني يحتمِلُ أن يكونَ بمعنى ما قلنا من أن يكونَ الإحرامُ كان عندَ قائلِه الإيجابَ بالعزمِ ويحتملُ أن يكونَ كان [عندَ الإيجابِ]
(3)
بالعزمِ والتلبيةِ، كما قال القائلو القولِ الأولِ.
وإنما قلنا: إن فرْضَ الحَجِّ الإحرامُ؛ لإجماعِ الجميعِ على ذلك. وقلنا: إن الإحرامَ هو إيجابُ الرجلِ ما يَلْزَمُ المحرمَ أن يوجِبَه على نفسِه، على ما وصَفنا آنفًا؛ لأنه لا يخلو القولُ في ذلك من أحدِ أمورٍ ثلاثةٍ:
إما أن يكونَ الرجلُ غيرَ حرمٍ إلا بالتلبيةِ، وفعلِ جميعٍ ما يجِبُ على المُوجِبِ الإحرامَ على نفسِه فعلُه، فإن يكنْ ذلك كذلك، فقد يجِبُ ألا يكونَ محرِمًا إلا
(1)
بعده في م: "عن ابن عباس".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 219 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق حسين بن عقيل به.
(3)
في م: "عنده".
بالتجرُّدِ للإحرامِ، وأن يكونَ من لم يكنْ له متجرِّدًا فغيرُ محرمٍ. وفي إجماعِ الجميعِ على أنه قد يكونُ محرِمًا، وإن لم يكنْ متجرِّدًا من ثيابِه، بإيجابِه الإحرامَ، ما يدلُّ على أنه قد يكونُ محرِمًا وإن لم يُلَبِّ، إذ كانت التلبيةُ بعضَ مشاعرِ الإحرامِ، كما التجرُّدُ له بعضُ مشاعرِه. وفي إجماعِهم على أنه قد يكونُ محرِمًا بترْكِ بعضِ مشاعرِ حَجِّه، ما يدلُّ على أن حكمَ غيرِه من مشاعرِه حكمُه.
أو يكونَ - إذ فسَد هذا القولُ - قد يكونُ محرِمًا وإن لم يُلَبِّ ولم يتجرَّدْ ولم يَعزِمِ العزمَ الذي وصَفنا. وفي إجماعِ الجميعِ على أنه لا يكونُ محرِمًا من لم يعزِمْ على الإحرامِ ويوجِبْه على نفسِه، إذا كان من أهلِ التكليفِ، ما يُنْبِئُ عن فسادِ هذا القولِ.
وإذ فسَد هذان الوجهان، فبيِّنَةٌ صحةُ الوجهِ الثالثِ، وهو أن الرجلَ قد يكونُ محرمًا بإيجابِه الإحرامَ بعزمِه، على سبيلِ ما بيَّنَّا، وإن لم يظهَرْ ذلك بالتجرُّدِ والتلبيةِ وصُنْعِ
(1)
بعضِ ما عليه عملُه من مناسكِه. وإذا صحَّ ذلك، صحَّ ما قلنا من أن فرضَ الحَجِّ هو ما [وصَفْنا من]
(2)
إيجابِه بالعزمِ على نحوِ ما قد
(3)
بيَّنَّا قبلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَلَا رَفَثَ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى "الرَّفَثِ" في هذا الموضعِ، فقال بعضُهم: هو الإفحاشُ للمرأةِ في الكلامِ، وذلك [نحو أن]
(4)
يقولَ: إذا أحلَلْنا فعلتُ بكِ كذا
(5)
. ولا يَكْنى عنه، وما أشبَهَ ذلك.
(1)
في م: "صنيع".
(2)
في م، ت 2، ت 3:"مر"، وفي ت 1:"أمر".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "بأن".
(5)
بعده في م، ت 1، ت 2:"وكذا".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني أحمدُ بنُ حمادٍ الدُّولابيُّ ويونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قالا: حدَّثنا سفيانُ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن الرَّفَثِ في قولِ اللَّهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} . قال: هو التعريضُ بذكرِ الجماعِ، وهي العَرابةُ
(1)
في
(2)
كلامِ العربِ، وهو أدنى الرَّفَثِ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن رَوْحِ بنِ القاسمِ، عن ابنِ طاوسٍ، [عن أبيه]
(4)
، في قولِه:{فَلَا رَفَثَ} . قال: الرَّفَثُ العَرابةُ؛ التعريضُ
(5)
للنساءِ بالجماعِ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ بشارِ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن عوفٍ
(7)
، قال: حدَّثني زيادُ بنُ حُصَينٍ، قال: حدَّثني أبي حصينُ بنُ قيسٍ، قال: أصْعَدتُ
(8)
مع ابنِ عباسٍ في الحاجِّ، وكنتُ خليلًا له، فلما كان بعد ما أحرَمنا، قام
(9)
ابنُ عباسٍ فأخَذ بذَنَبِ
(1)
العرابة بفتح العين وكسرها: ما قبح من الكلام. التاج (ع ر ب).
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(3)
أخرجه سفيان بن عيينة - كما في الدر المنثور 2/ 219 - ومن طريقه سعيد بن منصور في سننه (338 - تفسير)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 (1823) عن يونس بن عبد الأعلى وأحمد بن شيبان الرملي، عن سفيان به، وأخرجه البيهقي 5/ 67 من طريق ابن طاوس به نحوه، وعزاه السيوطي إلى عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد، وسيأتي في ص 461، وأخرجه الطبراني في الكبير (10914) من طريق روح بن القاسم، عن ابن طاوس به مرفوعًا، ولا يصح رفعه.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
سقط من: ت 2، وفي م:"والتعريض".
(6)
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 226.
(7)
في م: "عون". وينظر تهذيب الكمال 9/ 456.
(8)
أصعد في الأرض: ذهب. التاج (ص ع د).
(9)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
بعيرِه، فجعَل يَلويه، وهو يرتجزُ ويقولُ
(1)
:
وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَا
(2)
إن تَصْدُقِ الطيرُ نَنِكْ لَمِيسَا
(3)
قال: فقلت: أترفُثُ وأنت مُحرِمٌ؟! قال: إنما الرفثُ ما قيل عند النساءِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن رجلٍ، عن أبي العاليةِ الرِّياحِيِّ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يحْدُو وهو محرمٌ، ويقولُ:
وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَا
إن تَصْدُقِ الطيرُ نَنِكْ لَمِيسَا
قال: قلتُ: تكلَّمُ بالرَّفَثِ وأنت مُحرِمٌ؟! قال: إنما الرَّفَثُ ما قيل عند النساءِ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني يونسُ، أن نافعًا أخبرَه أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ كان يقولُ: الرَّفَثُ إتيانُ النساءِ، والتكلُّمُ بذلك للرجالِ والنساءِ، إذا ذكَروا ذلك بأفواهِهم
(6)
.
(1)
الرجز بلا نسبة في المحرر الوجيز 1/ 555، والبحر المحيط 2/ 27، وتفسير البغوي 1/ 266.
(2)
الهميسُ: هو صوت نقل أخفاف الإبل. اللسان (هـ م س). وينظر كلام المصنف في تفسير الآية 108 من سورة طه.
(3)
اللَّمِيس: المرأة الناعمة الملمس، وعلم للنساء. التاج (ل م س). وينظر تعريف المصنف للَّميس في تفسير الآية 43 من سورة النساء.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (345 - تفسير)، ومن طريقه البيهقي 5/ 67 - والبخاري في الكبير 3/ 3 من طريق عوف به، ولم يذكر البخاري متنه.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 344 عن المصنف.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 (1822) عن يونس بن عبد الأعلى به. وذكره ابن كثير في =
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني أبو صخرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرَنا ابنُ جريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: أيحِلُّ للمحرمِ أن يقولَ لامرأتِه: إذا حللتُ أصبتُكِ؟ قال: لا، ذلك الرفَثُ. قال: وقال عطاءٌ: الرفَثُ ما دونَ الجماعِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ بكرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: الرفَثُ الجماعُ، وما دونَه من قولِ الفحشِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: قولُ الرجلِ لامرأتِه: إذا حللتُ أصبتُكِ. قال: ذلك الرفَثُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن زيادِ بنِ حُصَينٍ، عن أبي العاليةِ، قال: كنتُ أمشي مع ابنِ عباسٍ وهو مُحرِمٌ، وهو يرتجزُ ويقولُ:
وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسا
إنْ تَصْدُقِ الطَّيرُ نَنِكْ لَمِيسا
قال: قلتُ: أترفُثُ يا ابنَ
(4)
عباسٍ وأنت محرمٌ؟! فقال: إنما الرفثُ ما روجِع به النساءُ
(5)
.
= تفسيره 1/ 344.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 344 عن ابن وهب به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 345، وعلق ابن أبي حاتم أوله في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1824).
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 226.
(4)
في الأصل: "أبا".
(5)
أخرجه الحاكم 2/ 276 - ومن طريقه البيهقي 5/ 67 - من طريق جرير به، وأخرجه ابن أبي شيبة =
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا سفيانُ ويحيى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبرَني أبو
(1)
الزبيرِ إيايَّ
(2)
، وعطاءٌ، أنه سمِع طاوسًا قال: سمِعتُ ابنَ الزبيرِ يقولُ: لا يحِلُّ للمُحرِمِ الإعرابةُ. فذكَرْتُه لابنِ عباسٍ، فقال: صدَق. فقلت لابنِ عباسٍ: وما الإعرابُ؟ قال: التعريضُ
(3)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: أخبرَنا ابنُ جريجٍ، قال: أخبرَنا الحسنُ بنُ مسلمٍ، عن طاوسٍ أنه كان يقولُ: لا يحِلُّ للمحرمِ الإعرابةُ. قال طاوسٌ: والإعرابةُ أن يقولَ وهو محرمٌ: إذا حللتُ أصبتُكِ
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا فِطْرٌ، عن زيادِ بنِ حصينٍ، بن أبي العاليةِ، قال: لا يكونُ رفَثٌ إلا ما واجَهتَ به النساءَ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن علقمةَ بنِ مرثدٍ، عن عطاءٍ، قال: كانوا يكرَهون الإعرابةَ - يعني التعريضَ بذكرِ الجماعِ - وهو محرمٌ
(5)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن ابنِ جريجٍ، عن ابنِ طاوسٍ أنه سمِع أباه أنه كان يقولُ: لا تحِلُّ الإعرابةُ. والإعرابةُ التعريضُ.
= ص 343 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق الأعمش به، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 19/ 54 من طريق فطر، عن زياد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 219 إلى ابن المنذر.
(1)
في م: "ابن".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"السبائي".
(3)
أخرجه البيهقي 5/ 67 من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن طاوس، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 343 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن عطاء، عن طاوس.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 343 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن يحيى بن سعيد به.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 345 عن عطاء.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا سُفيانُ بنُ عيينةَ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن قولِ اللَّهِ: {فَلَا رَفَثَ} . قال
(1)
: الرفَثُ الذي ذُكِر ههنا ليس بالرفَثِ الذي ذكِر في
(2)
: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. ومن الرفَثِ التعريضُ بذكرِ الجماعِ، وهي الإعرابةُ [في كلامِ]
(3)
العربِ
(4)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو معاويةَ، قال: حدَّثنا ابنُ جريجٍ، عن عطاءٍ أنه كرِه التعريبَ للمحرمِ
(5)
.
حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أبو عاصم، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبرَني ابنُ طاوسٍ أن أباه كان يقولُ: الرفثُ الإعرابةُ [فما وَرّاه]
(6)
من شأنِ النساءِ، والإعرابةُ الإفصاحُ
(7)
بالجماعِ.
حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن ابنِ جريجٍ، قال: حدَّثنا الحسنُ بنُ مسلمٍ أنه سمِع طاوسًا يقولُ: لا يحِلُّ للمحرمِ الإعرابةُ.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَلَا رَفَثَ} . قال: الرفَثُ غشيانُ النساءِ،
(1)
بعده في الأصل: "إن".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفي الأصل:"ههنا".
(3)
في م: "بكلام".
(4)
تقدم تخريجه في ص 458.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 343 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن أبي معاوية به.
(6)
في م: "مما رواه".
(7)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإيضاح".
والقُبَلُ، والغَمْزُ، وأن يعرِّضَ لها بالفُحْشِ من الكلامِ، ونحوُ ذلك
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان ابنُ عمرَ يقولُ للحادِي: لا تعرِّضْ بذكرِ النساءِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ وابنُ جريجٍ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفَثُ في الصيامِ الجماعُ، والرفَثُ في الحَجِّ الإعرابةُ. وكان يقولُ: الدخولُ والمسيسُ [والجماعُ]
(3)
.
وقال آخرون: الرفَثُ في هذا الموضعِ الجماعُ نفسُه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، [عن ابنِ عباسٍ]
(4)
، قال: الرفَثُ الجماعُ
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 219 إلى المصنف وابن المنذر، وذكره البغوي في تفسيره 1/ 226، وابن كثير في تفسيره 1/ 345 عن علي بن أبي طلحة به.
(2)
أخرجه البيهقي 5/ 67 من طريق الثوري به.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الجماع".
(4)
سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه سفيان بن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 219 - ومن طريقه سعيد بن منصور في سننه (339 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 157 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وأبو يعلى (382)، وعزاه السيوطي إلى وكيع والفريابي وعبد بن حميد.
(6)
أخرجه البيهقي 5/ 67 من طريق الثوري به.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفَثُ إتيانُ النساءِ.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن التَّميميِّ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن الرفَثِ، فقال: الجماعُ.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: حدَّثنا إسحاقُ، عن سفيانَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن بكرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفَثُ هو الجماعُ، ولكنّ اللَّهَ كريمٌ يَكْنِي عما شاء
(1)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن الأعمشِ، عن زيادِ بنِ حُصَينٍ، عن أبي العاليةِ، قال: سمِعتُ ابنَ عباسٍ يرتجِزُ وهو محرمٌ، يقولُ:
خرَجْنَ يَسْرينَ بنا هَمِيسا
إنْ تَصْدُقِ الطَّيرُ
(2)
- قال شريكٌ: ألا إنه لم يَكْنِ عن الجماعِ - لَمِيسا.
فقلتُ: أليس هذا الرفثَ؟ قال: لا، إنما الرفثُ إتيانُ النساءِ والمجامعةُ.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن عوفٍ
(3)
، عن زيادِ بنِ حصينٍ، عن أبي العاليةِ، عن ابنِ عباسٍ بنحوِه، إلَّا أن عوفًا
(4)
صرَّح به.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن بكرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفثُ الجماعُ.
(1)
تقدم في ص 229.
(2)
بعده في م: "ننك لميسا".
(3)
في م: "عون".
(4)
في م: "عونا".
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: حدَّثنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ قولَه:{فَلَا رَفَثَ} قال: الرفَثُ إتيانُ النساءِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا حمادُ بن مَسْعَدةَ، قال: حدَّثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{فَلَا رَفَثَ} . قال: الرفَثُ غِشْيانُ النساءِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ بكرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ جريجٍ، قال: قال عمرُو بنُ دينارٍ: الرفَثُ الجماعُ فما دونَه من شأنِ النساءِ
(3)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن ابنِ جريجٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ بنحوِه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا ابن أبي زائدةَ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، عن عطاءٍ في قولِه:{فَلَا رَفَثَ} قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيعٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَا رَفَثَ} . قال: الرفَثُ الجماعُ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيةَ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فَلَا رَفَثَ} . قال: كان قتادةُ يقولُ: الرفَثُ غِشْيانُ النساءِ.
حدَّثنا بشرٌ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ مثلَه.
حدَّثنا أحمدُ بن إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: أخبرَنا إسرائيلُ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 220 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1824) معلقًا.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 226، وابن كثير في تفسيره 1/ 345.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 159 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق عبد العزيز به.
أبي إسحاقَ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: أخبرَنا إسرائيلُ، عن الحسنِ بنِ عبيدِ اللَّهِ، عن أبي الضُّحَى، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: الرفَثُ المجامعةُ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{فَلَا رَفَثَ} : فلا جماعَ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَلَا رَفَثَ} . قال: الرفَثُ الجماعُ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَا رَفَثَ} . قال: جِماعُ النساءِ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَلَا رَفَثَ} قال: الرفَثُ الجماعُ.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1824) معلقًا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1824) من طريق عمرو به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 346 عقب الأثر (1824) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
تفسير مجاهد ص 229، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 159 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق شبل، عن ابن أبي نجيح به.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المِنْهالِ، قال: حدَّثنا حمَّادٌ، عن الحجاجِ، عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: الرفَثُ الجماعُ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن يحيى بنِ بشرٍ، عن عكرمةَ قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: حدَّثني أبي، عن النضرِ بنِ عربيٍّ، عن عكرمةَ، قال: الرفَثُ الجماعُ
(2)
.
حدَّثني ابنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن حسينِ بنِ عُقَيلٍ، وحدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نعيمٍ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قالا
(3)
: أخبَرنا حسينُ بنُ عُقَيلٍ، عن الضحاكِ، قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حجاجٌ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه. قال: وأخبَرنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا يونسُ، عن الحسنِ. وأخبَرنا مغيرةُ، عن إبراهيمَ، قالا مثلَ ذلك
(5)
.
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 276 - ومن طريقه البيهقي 5/ 67 - من طريق محمد بن إسحاق به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 157 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن وكيع به.
(3)
في الأصل: "قال".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (340، 341 - تفسير) عن هشيم به، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 158 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق عبد الملك، عن عطاء، وليس فيه تفسير الرفث.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (342، 343 - تفسير) عن هشيم به، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 157، 158 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق يونس ومغيرة به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ
(1)
، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: الرفَثُ النكاحُ
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعَيمٍ، قال: حدَّثنا إسرائيلُ، قال: حدَّثني ثُوَيرٌ
(3)
، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقولُ: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الرفَثُ غِشْيانُ النساءِ. قال معمرٌ: وقال مثلَ ذلك الزهريُّ [وقتادةُ]
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: الرفَثُ إتيانُ النساءِ. وقرَأ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} .
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَلَا رَفَثَ} . قال: الرفَثُ الجماعُ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ مثلَه.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندي أن اللَّهَ جل ثناؤُه نهَى مَن فرَض الحجَّ في أشهرِ الحجِّ عن الرفَثِ، فقال:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} . والرفَثُ في
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وأخبرنا مغيرة".
(2)
تقدم في ص 237.
(3)
في ت 2: "جوبير"، وفي ت 3:"يونس".
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفي م:"عن قتادة"، والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 77.
كلامِ العربِ أصلُه الإفحاشُ في المنطقِ، على ما قد بيَّنَّا فيما مضَى
(1)
، ثم تستعْمِلُه في الكنايةِ عن الجماعِ. فإذ
(2)
كالن ذلك كذلك، وكان أهلُ العلمِ مختلفِين في تأويلِه، وفي هل
(3)
النهْيُ من اللَّهِ عن بعض معاني الرفَثِ، أم عن جميعِ معانيه؟ وجَب أن يكونَ على جميعِ معانيه؛ إذ لم يأتِ خبرٌ بخصوصِ الرفَثِ الذي هو بالمنطقِ عندَ النساءِ، من سائرِ معاني الرفَثِ يجِبُ التسليمُ له، إذ كان غيرَ جائزٍ نقْلُ حكمِ ظاهرِ آيةٍ إلى تأويلٍ باطنٍ إلا بحجةٍ ثابتةٍ.
فإن قال قائلٌ: فإن حكمَها من عمومِ ظاهرِها إلى الباطنِ من تأويلِها منقولٌ بإجماعٍ، وذلك أن الجميعَ لا خلافَ بينَهم في أن الرفثَ عند غيرِ النساءِ غيرُ محظورٍ على مُحْرِمٍ، فكان معلومًا بذلك أن الآيةَ معنيٌّ بها بعضُ الرفثِ دونَ بعضٍ، وإذا كان ذلك كذلك، وجَب ألا يَحرُمَ من معاني الرفثِ على المُحرِمِ شيءٌ، إلا ما أُجمِع على تحريمِه عليه، أو قامت بتحريمِه حجةٌ يجبُ التسليمُ لها؟
قيل: إن ما خُصَّ من الآيةِ فأُبِيح خارجٌ من التحريمِ، والحظرُ ثابتٌ لجميعِ ما لم تَخْصُصْه الحُجَّةُ من معنى الرفثِ بالآيةِ، كالذي كان عليه حكمُه لو لَمْ يُخَصَّ منه شيءٌ؛ لأنَّ ما خُصَّ من ذلك فأخرِج من عصومِه إنما لزِمَنا إخراجُ حكمِه من الحظرِ بأمرِ من لا يجوزُ خلافُ أمرِه، فكان حكمُ ما شمِله معنى الآيةِ - بعدَ الذي خُصَّ منها - على الحكمِ الذي كان يَلْزَمُ العبادَ فرضُه بها، لو لَمْ يُخْصَصْ منها شيءٌ؛ لأن العلةَ فيما لم يُخْصَصْ منها بعدَ الذي خُصَّ منها، نظيرُ العلةِ فيه قبل أن يُخَصَّ منها شيءٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا فُسُوقَ} .
(1)
ينظر ما تقدم في ص 237، 238.
(2)
في م: "فإن".
(3)
في م: "هذا".
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى "الفسوقِ" التي نهَى اللَّهُ عنها في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: هي المعاصي كلُّها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الفسوقُ المعاصي
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، عن عطاءٍ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفُسوقُ المعاصي.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ بكرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: الفسوقُ المعاصي كلُّها، قال اللَّهُ:{وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282].
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: حدَّثنا إسحاقُ، عن ابنِ جريجٍ، عن عطاءٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ مَسْعدةَ، قال: حدَّثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ المعاصي
(2)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قال: الفسوقُ المعصيةُ
(2)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: ثنا إسحاقُ، عن أبي بشرٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الفسوقُ المعاصي كلُّها.
(1)
تقدم أوله في ص 463، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 (1827)، والبيهقي 5/ 67 من طريق الثوري، عن خصيف به.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 عقب الأثر (1827) معلقًا، وتقدم تخريجه في ص 467 عند سعيد بن منصور.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ
(1)
، عن روحِ بنِ القاسمِ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ المعاصي.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: أخبَرني أبو صخرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ المعاصي كلُّها.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، وحدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، جميعًا عن سعيدِ بنِ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ المعاصي
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: المعاصي
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: الفسوقُ المعاصي. قال: وقال مجاهدٌ مثلَ قولِ سعيدٍ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: الفسوقُ المعاصي
(4)
.
(1)
في م: "عيينة". وينظر تهذيب الكمال 3/ 23.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 عقب الأثر (1827) معلقًا، وينظر تفسير البغوي 1/ 226.
(3)
تفسير مجاهد ص 229.
(4)
تفسير سفيان ص 63 بلفظ: الفسوق السباب.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ عصيانُ اللَّهِ.
حدَّثني ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ المعاصي
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المِنْهالِ، قال: ثنا حمَّادٌ، عن الحجاجِ، عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، قال: الفسوقُ المعاصي.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن الزهريِّ، وقتادةَ، وابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا الحجاجُ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: المعاصي. قال: وأخبَرنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه
(3)
.
حدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن النضرِ بنِ عَرَبِيٍّ، عن عكرمةَ مثلَه
(5)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن يحيى بنِ بشرٍ، عن عكرمةَ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ معصيةُ اللَّهِ، لا صغيرَ من معصيةِ اللَّهِ.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (343 - تفسير) من طريق المغيرة به.
(2)
تقدم أوله في ص 468.
(3)
تقدم أوله في ص 467.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 عقب الأثر (1827) من طريق ابن أبي جعفر به.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 عقب الأثر (1827) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 220 إلى ابن أبي شيبة.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ معاصي اللَّهِ كلُّها
(1)
.
حدَّثني الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، وعن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الفسوقُ المعاصي. وقال مثلَ ذلك الزهريُّ وقتادةُ
(2)
.
وقال آخرون: بل الفسوقُ في هذا الموضعِ ما عُصِي اللَّهُ به في الإحرامِ مما نهَى عنه فيه من قتْلِ صيدٍ، وأخْذِ شعَرٍ، وقَلْمِ ظُفُرٍ، وما أشبَهَ ذلك مما خصَّ اللَّهُ به الإحرامَ، وأمَر بالتَّجنُّبِ منه في حالِ
(3)
الإحرامِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني يونسُ أن نافعًا أخبَره أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ كان يقولُ: الفسوقُ إتيانُ معاصي اللَّهِ في الحرَمِ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: الفسوقُ ما أصيبَ من معاصي اللَّهِ به؛ صيدٍ أو غيرِه
(5)
.
وقال آخرون: بل الفسوقُ في هذا الموضعِ السِّبابُ.
(1)
تقدم تخريجه في ص 462.
(2)
تقدم تخريجه في ص 468 دون قول طاوس.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"خلال".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 (1826) عن يونس بن عبد الأعلى به.
(5)
تقدم أوله في ص 467.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن إبراهيمَ بنِ مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: الفسوقُ السِّبابُ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الفسوقُ السِّبابُ.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، قال: ثنا ثُوَيرٌ، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقولُ: الفسوقُ السِّبابُ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيعٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ السِّبابُ
(2)
.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: أمَّا الفسوقُ فهو السِّبابُ
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا المُعلَّى بنُ أسدٍ، قال: ثنا خالدٌ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال: الفسوقُ السِّبابُ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مُعَلّى، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، عن موسى بنِ عقبةَ، قال: سمعتُ عطاءَ بنَ يسارٍ يحدِّثُ نحوَه
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 159 (القسم الأول من الجزء الرابع)، والطبراني في الأوسط (7060) من طريق شريك به، وعند الطبراني زيادة مرفوعة في أوله.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 159 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق عبد العزيز به ولفظه: المعاصي.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 عقب الأثر (1827) من طريق عمرو به.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 157 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق موسى به، ولفظه: الفسوق المعاصي.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا يونسُ، عن الحسنِ
(1)
. وأخبَرنا مغيرةُ، عن إبراهيمَ، قالا: الفسوقُ السِّبابُ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الفسوقُ السِّبابُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ السِّبابُ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ مثلَه.
وقال آخرون: الفسوقُ الذَّبحُ للأصنامِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ
(4)
: الفسوقُ الذَّبحُ للأنصابِ. وقرَأ: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. فقُطِع ذلك أيضًا. يعني
(5)
: قُطِع الذَّبحُ للأنصابِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ حجَّ البيتَ
(6)
فعَلَّم أمَّتَه المناسكَ
(7)
.
(1)
بعده في م: "قال".
(2)
تقدم تخريجه في ص 467، ولفظه عند سعيد: الفسوق المعاصي.
(3)
أخرجه البيهقي 5/ 67 من طريق الثوري به، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 عقب الأثر (1827) عن الثوري به.
(4)
تفسير سفيان ص 63 عن ليث، عن مجاهد.
(5)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 345 مختصرًا.
وقال آخرون: الفسوقُ التَّنابُزُ بالألقابِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن حسينِ بنِ عُقَيلٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَلَا فُسُوقَ} . قال: الفسوقُ التنابزُ بالألقابِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا حسينُ بنُ عُقَيلٍ، قال: سمِعتُ الضحاكَ بنَ مُزاحمٍ يقولُ. فذكَر مثلَه.
وأولى الأقوالِ التي ذكَرنا بتأويلِ الآيةِ في ذلك قولُ من قال: معنى قولِه: {وَلَا فُسُوقَ} : النهيُ عن معصيةِ اللَّهِ في إصابةِ الصيدِ، وفعلِ ما نهَى اللَّهُ المُحرِمَ عن فعلِه في حالِ إحرامِه؛ وذلك أن اللَّهَ قال:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} . يعني بذلك: فلا يَرفُثْ، ولا يَفْسُقْ، أي: لا يفعلْ ما نهاه اللَّهُ عنه
(2)
، ولا يخرجْ عن طاعةِ اللَّهِ في إحرامِه. وقد علِمنا أن اللَّهَ قد حرَّم معاصيَه على كلِّ أحدٍ، مُحْرِمًا كان أو غيرَ مُحْرِمٍ، وكذلك حرَّم التنابُزَ بالألقابِ في حالِ الإحرامِ وغيرِها بقولِه:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]. وحرَّم على المسلمِ سِبابَ أخيه في كلِّ حالٍ، فرَضَ الحجَّ أو لم يفرِضْه.
فإذ كان ذلك كذلك، فلا شكَّ أن الذي نهَى اللَّهُ عنه العبدَ من الفسوقِ في حالِ إحرامِه وفَرْضِه الحجَّ، هو ما لم يكنْ فسوقًا في حالِ إحلالِه، وقبلَ إحرامِه بحجِّه، كما أن الرفَثَ الذي نهاه عنه في حالِ فَرْضِه الحجَّ، هو الذي كان له مطلقًا
(1)
سقط من: م.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 347 (1828) من طريق وكيع به.
(2)
في م: "عن فعله في حال إحرامه".
قبلَ إحرامِه؛ لأنه لا معنى لأن يقالَ - فيما قد حرَّم اللَّهُ على خلقِه في كلِّ الأحوالِ -: لا يفعَلنَّ أحدُكم في حالِ الإحرامِ ما هو حرامٌ عليه فعلُه في كلِّ حالٍ. لأنَّ خصوصَ حالِ الإحرامِ به لا وجهَ له، وقد عُمَّ به جميعُ الأحوالِ من الإحلالِ والإحرامِ.
فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الذي نُهِي عنه المُحرِمُ من الفسوقِ - فخُصَّ به حالَ إحرامِه، وقيل له: إذا فرَضتَ الحجَّ فلا تفعَلْه - هو الذي كان له مطلقًا قبلَ حالِ فَرْضِه الحجَّ، وذلك هو ما وصَفنا وذكَرنا، أن اللَّهَ خَصَّ بالنهيِ عنه المُحرِمَ في حالِ إحرامِه، مما نهاه عنه؛ من الطِّيبِ واللباسِ والحلقِ وقصِّ الأظفارِ وقَتلِ الصيدِ، وسائرِ ما خصَّ اللَّهُ بالنهيِ عنه المُحرِمَ في حالِ إحرامِه.
فتأويلُ الآيةِ إذن: فمن فرَض الحجَّ في أشهرِ الحَجِّ فأحرَمَ فيهن، فلا يرفُثْ عند النساءِ، فيُصرِّحَ لهن بجماعِهن، ولا يجامِعْهن
(1)
، ولا يفسُقْ
(2)
بإتيانِ ما نهاه اللَّهُ عنه
(3)
في حالِ إحرامِه لحجِّه
(4)
؛ من قتلِ صيدٍ، وأخْذِ شعَرٍ، وقَلْمِ ظُفُرٍ، وغيرِ ذلك مما حرَّم اللَّهُ عليه فعلَه وهو محرِمٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك النهيُ عن أن يجادِلَ المحرِمُ أحدًا.
ثم اختلَف قائلو هذا القولِ؛ فقال بعضُهم: نُهِي عن أن يجادِلَ صاحبَه
(1)
في الأصل: "يجامعنهن".
(2)
في الأصل: "يفسقن".
(3)
سقص من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بحجه".
حتى يُغضِبَه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأَحْوَصِ، عن عبدِ اللَّهِ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: أن تمارِيَ صاحبَك حتى تُغضِبَه
(1)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: ثنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن الجدالِ، فقال: المِراءُ
(2)
؛ تمارِي صاحبَك حتى تُغضِبَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَينةَ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الجدالُ أن تمارِيَ صاحبَك حتى تُغضِبَه
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، عن عطاءٍ، قال: الجدالُ أن يمارِيَ الرجلُ أخاه حتى يُغضِبَه
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنبسةَ، عن سالمٍ الأفطسِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: أن تَمْحَكَ
(6)
صاحبَك حتى تُغضِبَه
(7)
.
(1)
تقدم أوله في ص 464، وهذا اللفظ ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن المصنف.
(2)
في م: "أن"، وفي ت 1:"إمراء".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن المصنف.
(4)
تقدم تخريجه في ص 463، وينظر ما سيأتي في ص 469.
(5)
تقدم أوله في ص 467، 472.
(6)
المَحْك: المشارَّة والمنازعة في الكلام. اللسان (م ح ك).
(7)
ينظر تفسير البغوي 1/ 227، وتفسير ابن كثير 1/ 346.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عمرٍو، عن
(1)
شعيبِ بنِ خالدٍ، عن سَلَمةَ بنِ كُهَيلٍ، قال: سألتُ مجاهدًا عن قولِه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: أن تمارِيَ صاحبَك حتى تُغضِبَه
(2)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: الجدالُ هو أن تمارِيَ صاحبَك حتى تُغضِبَه
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا حمادُ بنُ مَسعدةَ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ، قال: الجدالُ المراءُ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الجدالُ أن تجادِلَ صاحبَك حتى تغضِبَه.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: الجدالُ أن تَصْخَبَ على
(5)
صاحبِك.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: المراءُ
(6)
.
(1)
في الأصل: "بن". وينظر تهذيب الكمال 12/ 521.
(2)
تفسير سفيان ص 63 عن ليث، عن مجاهد.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 348 عقب الأثر (1831) معلقًا.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (342 - تفسير) من طريق يونس، عن الحسن، وتقدم أوله في ص 467، 475.
(5)
زيادة يستقيم بها المعنى؛ لأن الفعل صخب لازم.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 159 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، وحدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قالا
(1)
: ثنا حسينُ بنُ عُقَيلٍ، عن الضحاكِ، قال: الجدالُ أن تمارِيَ صاحبَك حتى تُغضِبَه
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا واقدٌ الخُلْقَانِيُّ، عن عطاءٍ، قال: أما الجدالُ فتُمارِي صاحبَك حتى تُغضِبَه.
حدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: الجدالُ المِراءُ؛ أن تمارِيَ صاحبَك حتى تُغضِبَه
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا المُعَلَّى بنُ أسدٍ، قال: ثنا خالدٌ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال
(4)
: الجدالُ المراءُ (3).
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا المُعَلَّى، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، عن موسى بنِ عُقبةَ، قال: سمِعتُ عطاءَ بنَ يسارٍ يحدِّثُ نحوَه
(5)
.
حدَّثني ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ
(6)
جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ بمثلِه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ بنُ المِنْهالِ، قال: ثنا حمادٌ، عن الحجاجِ، عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، قال: الجدالُ أن يمارِيَ بعضُهم بعضًا حتى يَغْضَبوا
(7)
.
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(2)
تقدم أوله في ص 467.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 348 عقب الأثر (1831) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
بعده في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(5)
تقدم تخريجه في ص 474 ولفظه عند ابن أبي شيبة: والجدال السباب.
(6)
بعده في م: "أبي".
(7)
تقدم أوله في ص 467.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن يحيى بنِ بِشرٍ، عن عكرمةَ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} : الجدالُ الغضبُ؛ أن تُغضِبَ عليك مسلمًا، إلا أن تستعتبَ مملوكًا فتَعِظَه من غيرِ أن تَضرِبَه
(1)
، [فلا بأسَ]
(2)
عليك في ذلك إن شاء اللَّهُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن النضرِ بنِ عربيٍّ، عن عِكرمةَ، قال: والجدالُ أن تمارِيَ صاحبَك حتى يُغضِبَك أو تُغضِبَه
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمرٌ، عن الزهريِّ وقتادةَ، قالا: الجدالُ هو الصَّخَبُ والمِراءُ وأنت مُحرِمٌ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثني محمدُ بن بكرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قال عطاءٌ: الجدالُ ما أغضَبْتَ
(6)
صاحبَك من الجدالِ.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: الجدالُ المِراءُ والملاحاةُ حتى تُغضِبَ أخاك وصاحبَك، فنهَى اللَّهُ عن ذلك
(7)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الجدالُ أن تمارِيَ صاحبَك حتى
(1)
في م: "تغضبه".
(2)
في م: "ولا أمر"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"ولا تأمر".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 347 عن ابن المبارك به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 348 عقب الأثر (1831) معلقًا.
(5)
تقدم تخريجه في ص 468.
(6)
في م: "أغصُب".
(7)
تقدم تخريجه في ص 462، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 347 عن علي بن أبي طلحة به.
تُغضِبَه
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: الجدالُ المراءُ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمرٌ، عن الزهريِّ وقتادةَ قالا: هو الصَّخَبُ والمِراءُ وأنت مُحرِمٌ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} : كانوا يكرَهون الجدالَ
(4)
.
وقال آخرون منهم: الجدالُ في هذا الموضعِ معناه السِّبابُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهبٍ، قال: أخبَرني يونسُ، أن نافعًا أخبَره، أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ كان يقولُ: الجدالُ في الحجِّ السِّبابُ والمراءُ والخصوماتُ
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: الجدالُ السِّبابُ والمنازعةُ
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 348 (1831)، والبيهقي 5/ 67 من طريق الثوري به، وينظر ما تقدم في ص 478.
(2)
تفسير سفيان ص 63.
(3)
تقدم تخريجه في ص 468.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 347.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 348 (1831) من طريق يونس بن عبد الأعلى به.
(6)
تقدم أوله في ص 467.
أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: الجدالُ السِّبابُ.
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، جميعًا عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قال: الجدالُ السِّبابُ
(1)
.
وقال آخرون منهم: بل عُنِي بذلك خاصٌّ من الجدالِ والمِراءِ، وإنما عُنِي به
(2)
الاختلافُ في من هو أتمُّ حَجًّا من الحجَّاجِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: أخبَرني أبو صَخرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ، قال: الجدالُ؛ كانت قريشٌ إذا اجتَمعت بمِنًى قال هؤلاء: حَجُّنا أتمُّ مِن حَجِّكم. وقال هؤلاء: حَجُّنا أتمُّ مِن حَجِّكم
(3)
.
وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلافٌ كان يكونُ بينَهم في اليومِ الذي فيه الحَجُّ، فنُهُوا عن ذلك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا الحجاجُ بنُ المِنهالِ، قال: حدَّثنا حمادٌ، عن جَبْرِ بنِ حبيبٍ، عن القاسمِ بنِ محمدٍ أنه قال: الجدالُ في الحَجِّ أن يقولَ بعضُهم: الحجُّ اليومَ. ويقولَ بعضُهم: الحَجُّ غدًا
(4)
.
(1)
ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 1/ 555، 556.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن ابن وهب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 220 إلى المصنف.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 349 (1836) من طريق حجاج به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن حماد به.
وقال آخرون: بل ذلك اختلافُهم في
(1)
مَواقفِ الحَجِّ أيُّهم المصيبُ مَوْقفَ إبراهيمَ عليه السلام.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: كانوا يَقِفون مواقفَ مختلفةً يتجادَلون، كلُّهم يدَّعي أن موقفَه مَوْقفُ إبراهيمَ، فقطَعه اللَّهُ حينَ أعلَم نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمناسكِهم
(2)
.
وقال آخرون: بل قولُه جل ثناؤُه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . خبرٌ من اللَّهِ تعالى عن استقامةِ وقتِ الحَجِّ على ميقاتٍ واحدٍ لا يَتقدَّمُه ولا يتأخرُه، وبُطولِ فعْلِ النَّسيءِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيعٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: قد استقام الحجُّ فلا جدالَ فيه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: لا شهرَ يُنسَأُ، ولا شكَّ في الحَجِّ، قد بُيِّنَ. كانوا يُسقِطون المُحرَّمَ ثم يقولون: صَفَرانِ. لصفرٍ وشهرِ ربيعٍ
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمر".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن ابن وهب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 220 إلى المصنف.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 158 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن ابن مهدي به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن سفيان به.
الأولِ. ثم يقولون: شَهْرا ربيعٍ. لشهرِ ربيعٍ الآخرِ وجُمادى الأُولى. ثم يقولون: جُماديانِ. لجُمادى الآخرةِ ولرجبٍ. ثم يقولون لشعبانَ: رجبٌ. ثم يقولون لرمضانَ: شعبانُ. ثم يقولون لشوّالٍ: رمضانُ. ويقولون لذي القَعدةِ: شوَّالٌ. ثم يقولون لذي الحِجةِ: ذو القَعدةِ. ثم يقولون للمُحرَّمِ: ذو الحِجةِ. فيحُجُّون في المحرَّمِ، ثم يأتَنِفون، فيَحسُبُون على ذلك عِدَّةً مُستقبَلَةً على وجهِ ما ابتَدءُوا، فيقولون: المحرَّمُ، وصفرٌ، وشهرا ربيعٍ. فيحُجُّون في المحرَّمِ ليحجُّوا في كلِّ سنةٍ مرَّتَين، [ثم يُسقِطون]
(1)
شهرًا آخرَ، فيَعُدُّون على العِدَّةِ الأُولى، فيقولون: صَفرانِ وشَهْرا ربيعٍ. نحوَ عِدَّتِهم في أولِ ما أسقَطوا
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: صاحبُ النَّسيءِ
(3)
الذي يَنسأُ لهم أبو ثمامةَ
(4)
، رجلٌ من بني كِنانةَ
(5)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ
(6)
، عن أبي بشرٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: لا شبهةَ في الحَجِّ، قد بَيَّنَ اللَّهُ أمرَ الحَجِّ.
(1)
في م: "فيسقطون".
(2)
تفسير مجاهد ص 229، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 348 (1832)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 220 إلى عبد بن حميد، وهو في تفسير مجاهد مختصر.
(3)
في الأصل: "السنين".
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"تمامة".
(5)
ينظر ما سيأتي تخريجه في 11/ 453.
(6)
في م: "ابن إسحاق". وينظر تهذيب الكمال 2/ 496، 16/ 413.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: قد استقام أمرُ الحجِّ فلا تجادِلوا فيه
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: لا شهرَ يُنسَأُ، ولا شكَّ في الحجِّ، قد بُيِّنَ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن العلاءِ بنِ عبدِ الكريمِ، عن مجاهدٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: قد عُلِم وقتُ الحَجِّ فلا جدالَ فيه، ولا شكَّ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ العزيزِ والعلاءِ، عن مجاهدٍ، قال: هو شهرٌ معلومٌ لا ينازَعُ
(4)
فيه.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: لا شكَّ في الحَجِّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا حَجاجٌ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: المِراءُ [في الحَجِّ]
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} : قد تبيَّنَ
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 346.
(2)
أخرجه ابن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 220 - ومن طريقه ابن أبي شيبة ص 157 (القسم الأول من الجزء الرابع) - عن ابن أبي نجيح به نحوه.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 349 (1835) من طريق العلاء به.
(4)
في م: "تنازع".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالحج". والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 346 عن هشيم به.
الحَجُّ. قال: كانوا يحجُّون في
(1)
ذي الحِجةِ عامين، وفي المحرَّمِ عامين، ثم حجُّوا في صَفرٍ عامين، وكانوا يحجُّون في كلِّ سنةٍ في كلِّ شهرٍ عامين، حتى
(2)
وافَقتْ حَجَّةُ أبي بكرٍ من العامَين في ذي القَعدةِ قبلَ حَجةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بسَنةٍ، ثم حجَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن قابلٍ في ذي الحِجَّةِ، فذلك حينَ يقولُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إن الزَّمانَ قد استَدارَ كهَيئَتِه يومَ خلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ"
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: بيَّن اللَّهُ أمرَ الحَجِّ ومعالِمَه، فليس فيه كلامٌ.
وأولى هذه الأقوالِ في قولِه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: قد بطَل الجدالُ في الحَجِّ ووقتِه، واستقام أمرُه ووقتُه على وقتٍ واحدٍ، ومناسكَ مُتفِقةٍ غيرِ مختلِفةٍ، فلا
(4)
تنازُعَ فيه ولا مِراءَ. وذلك أن اللَّهَ أخبَر أن وقتَ الحَجِّ أشهُرٌ معلوماتٌ، ثم نفَى عن وقتِه الاختلافَ الذي كانتِ الجاهليةُ في شِرْكِها تختلِفُ فيه.
وإنما اخترنا هذا التأويلَ في ذلك ورأيناه أولى بالصوابِ مما خالَفه؛ لِما قد قدَّمنا من البيانِ آنفًا في تأويلِ قولِه: {وَلَا فُسُوقَ} . مِن
(5)
أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ اللَّهُ خصَّ بالنهيِ [عنه عن معنى حالِ الإحرامِ وحالِ فرضِ الحاجِّ الحجَّ، إلا وذلك الذي خَصَّ بالنهيِ]
(6)
عنه في تلك الحالِ مُطْلقٌ مباحٌ، في الحالِ التي يخالفُها، وهي حالُ
(1)
في م: "وفي".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ثم".
(3)
سيأتي تخريجه في 11/ 455.
(4)
في م: "ولا".
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
الإحلالِ، وذلك أن حكمَ ما خُصَّ به مِن ذلك
(1)
حالَ الإحرامِ، إن كان سواءً فيه حالُ الإحرامِ وحالُ الإحلالِ، فلا وجهَ لخصوصِه به حالًا دونَ حالٍ وقد عمَّ به جميعَ الأحوالِ.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقولِ القائلِ في تأويلِ قولِه:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . أن تأويلَه: لا تُمارِ صاحبَك حتى تُغضِبَه. إلا أحدَ معنيَين: إما أن يكونَ أراد: لا تُمارِه بباطلٍ حتى تُغضِبَه. فذلك ما لا وجهَ له؛ لأن اللهَ عز وجل قد نهَى عن المِراءِ بالباطلِ في كلِّ حالٍ؛ محرِمًا كان المُمارى أو مُحِلًّا، فلا وجهَ لخصوصِ حال الإحرامِ بالنهيِ عنه؛ لاستواءِ حالِ الإحرامِ والإحلالِ في نهيِ اللَّهِ عنه. أو أن يكونَ أراد: لا تمارِه بحقٍّ. وذلك أيضًا ما لا وجهَ له؛ لأن المحرمَ لو رأى رجلًا يرومُ فاحشةً، كان الواجبُ عليه مِراءَهُ في دفعِه عنها، أو رآه يُحاولُ ظلمَه والذهابَ منه بحقٍّ له قد غصَبه عليه، كان عليه مِراؤُه فيه وجدالُه حتى يَتخلَّصَه منه.
والجدالُ والمراءُ لا يكونُ بينَ الناس إلا من أحدِ وجهين: إما من قِبَلِ ظلمٍ، وإما من قِبَل حقٍّ. فإذا كان من أحدِ وجهَيْه غيرَ جائزٍ فعلُه بحالٍ، ومن الوجهِ الآخرِ غيرَ جائزٍ تركُه بحالٍ، فأيُّ وجوهِه التي خُصَّ بالنهيِ عنه حالَ الإحرامِ؟ وكذلك لا وجهَ لقولِ مَن تأوَّل ذلك أنه بمعنى السِّبابِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى ذكرُه قد نهَى المؤمنين بعضَهم عن سِبابِ بعضٍ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في كلِّ حالٍ، فقال صلى الله عليه وسلم:"سِبابُ المسلمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفْرٌ"
(2)
. فإذ كان المسلمُ عن سبِّ المسلمِ مَنْهِيًّا في كلِّ حالٍ من أحوالِه، مُحْرِمًا كان أو غيرَ مُحْرِمٍ، فلا وجهَ لأنْ يقالَ له: لا تَسُبَّه في حالِ الإحرامِ إذا أحرَمتَ.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"حكم".
(2)
أخرجه البخاري (6044، 7076)، ومسلم (64) من حديث ابن مسعود، وينظر تخريجه في مسند الطيالسي (245، 256، 304).
وفيما رُوِي عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الخبرِ الذي حدَّثنا به محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سَيَّارٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، رَجَع
(1)
مثلَ يومِ وَلدَتْه أُمُّه"
(2)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ الرَّمْلِيُّ، قال: ثنا حجّاجٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن سَيَّارٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، خرَج مِن ذنُوبِه كيومِ وَلَدتْه أُمُّه".
حدَّثنا أحمدُ بنُ الوليدِ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سيارٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وذكَر
(3)
مثلَ حديثِ ابنِ المثنى، عن وهبِ بنِ جريرٍ
(4)
.
حدَّثني ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه أيضًا
(5)
.
حدَّثني ابنُ المثنَّى، قال: ثنا أبو الوليدِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخبَرني منصورٌ، قال: سمِعتُ أبا حازمٍ يُحدِّثُ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه.
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: أخبرَنا محمدُ بنُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"خرج".
(2)
أخرجه الطيالسي (2641)، وابن راهويه (224)، والبخاري (1521)، والبغوي في الجعديات (900، 1757، 1758)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 316، والخطيب 13/ 15، والبغوي (1841) من طريق شعبة به.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه أحمد 15/ 179 (9312) عن محمد بن جعفر به.
(5)
أخرجه مسلم (1350) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 15/ 179 (9311) عن محمد بن جعفر به، وأخرجه الطيالسي (2641) - ومن طريقه البغوي في الجعديات (1758)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 316، وأخرجه الدارمي (1803)، والبخاري (1819)، ومسلم (1350)، والبغوي في الجعديات (900، 1757)، والبيهقي 5/ 261، 262 من طريق شعبة به.
عبيدِ اللَّهِ، عن الأعمشِ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، خرَج مِن ذنونِه كما ولدَتْه أمُّه"
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ وأبو أسامةَ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر مثلَه، إلا أنه قال:"رجَع كما ولَدتْه أُمُّه"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن شعبةَ، عن سَيّارٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ [أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال]
(3)
. فذكَر نحوَه، إلا أنه قال:"رجَع إلى أهلِه مثلَ يومِ ولَدتْه أُمُّه".
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي بُكَيرٍ
(4)
، عن إبراهيمَ بنِ طهمانَ، عن منصورٍ، عن هلالِ بنِ يِسَافٍ
(5)
، عن أبي حازمٍ
(6)
، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حَجَّ هذا البيتَ - يعني الكعبةَ - فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، رجَع كيومِ ولَدتْه أمُّه"
(7)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 284 من طريق الأعمش به نحوه.
(2)
أخرجه إسحاق بن راهويه (195)، وأحمد 16/ 192 (10274)، ومسلم (1350)، وابن ماجه (2889)، وابن حبان (3694) من طريق وكيع به، وأخرجه البخاري (1820)، والبيهقي 5/ 261 من طريق سفيان به، وأخرجه عبد الرزاق (8800) عن الثوري، عن منصور، عن جابر، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وأخرجه الحميدي (1004)، وابن راهويه (194)، وأحمد 12/ 336 (7381)، والترمذي (811)، والنسائي (2626)، وأبو يعلى (6198)، وابن خزيمة (2514)، وأبو نعيم في الحلية 7/ 264، 8/ 126 من طريق منصور به.
(3)
في م: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4)
في م: "كثير". وينظر تهذيب الكمال 2/ 108.
(5)
في م: "يسار" وينظر تهذيب الكمال 30/ 353.
(6)
بعده في م: "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر نحوه، إلا أنه قال: "رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه". حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يسار، عن أبي حازم.
(7)
أخرجه البيهقي 5/ 262 من طريق يحيى بن أبي بكير به.
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصَّبَّاحِ، قال: ثنا هُشيمُ بنُ بَشيرٍ، عن سَيَّارٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حجَّ للَّهِ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، رجَع كهيئةِ يومِ
(1)
ولَدتْه أمُّه"
(2)
.
دلالةٌ واضحةٌ
(3)
على أن قولَه: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . بمعنى النَّفْيِ عن الحَجِّ أن يكونَ [فيه و]
(4)
في وقتِه جدالٌ ومِراءٌ، دونَ النهيِ عن جدالِ الناسِ بينَهم فيما يَعْنِيهم من الأمورِ أو لا يَعْنِيهم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن
(5)
مَن حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُق، استحقَّ مِن اللَّهِ مِن
(6)
الكرامةِ ما وصَف أنه استحقَّه بحجِّه، تاركًا للرفثِ والفسوقِ اللَّذَينِ نهَى اللَّهُ الحاجَّ عنهما في حجِّه مِن غيرِ أن يَضُمَّ إليهما الجدالَ. فلو كان الجدالُ الذي ذكَره اللَّهُ في قولِه:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . مما نهاه اللَّهُ عنه بهذه الآيةِ على نحوِ الذي تأوَّل ذلك مَن تأوَّله مِن أنه المِراءُ والخصوماتُ، أو السِّبابُ وما أشبَه ذلك، لمَا كان صلى الله عليه وسلم لِيخُصَّ باستحقاقِ الكرامةِ التي ذُكِر أنه يستحقُّها الحاجُّ الذي وصَف أمرَه باجتنابِ خَلَّتَين مما نهاه اللَّهُ عنه في حجِّهِ دونَ الثالثةِ التي هي مقرونةٌ بهما.
ولكن لما كان معنى الثالثةِ مخالفًا معنى صاحبتَيها في أنها خبرٌ على المعنى الذي
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه أحمد 12/ 38 (7136)، ومسلم (1350)، والبغوي في الجعديات (1757) من طريق هشيم به.
(3)
قوله: "دلالة واضحة
…
" خبر لقوله المتقدم في ص 489: "وفيما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنه".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
وصَفنا، وأن الأُخريَين بمعنى النهيِ
(1)
، أخبَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن مُجْتَنِبَهما في حجِّه مستوجبٌ ما وصَف من إكرامِ اللَّهِ إياه بما
(2)
أخبَر أنه مُكْرِمُه به، إذ كانتا بمعنى النهْيِ، وكان المُنتهِي عنهما للَّهِ مُطِيعًا بانتهائِه عنهما، وترَك ذِكْرَ الثالثةِ معهما
(3)
، إذ لم تكنْ في معناهما، وكانت مخالِفةً سبيلُها سبيلَهما.
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءةِ من القراءاتِ، المخالَفَةُ بينَ إعرابِ "الجدالِ"، وإعرابِ "الرَّفَثِ" و"الفسوقِ"؛ ليعلمَ سامعُ ذلك - إذا كان من أهلِ الفهمِ باللغاتِ - أن الذي من أجلِه خُولِف بينَ إعرابَيهما اختلافُ مَعْنَيَيْهما، وإن كان صوابًا قراءةُ جميعِ ذلك باتفاقِ إعرابِه على اختلافِ معانِيه، إذ كانت العربُ قد تُتْبِعُ بعضَ الكلامِ بعضًا بإعرابٍ، مع اختلافِ المعانِي، وخاصّةً في هذا النوعِ من الكلامِ.
فأعجَبُ القراءاتِ في ذلك عندي - إذ كان الأمرُ على ما وصَفتُ - قراءةُ من قرَأ: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالَ في الحجِّ). برفعِ "الرَّفَثِ" و"الفسوقِ" وتنوينِهما، وفتحِ الجدالِ بغيرِ تنوينٍ، وذلك هو قراءةُ جماعةِ البصريين، وكثيرٍ من أهلِ مكةَ؛ منهم عبدُ اللَّهِ بنُ كثيرٍ، وأبو عمرِو بنُ العلاءِ
(4)
.
وأما قولُ من قال: معناه النهيُ عن اختلافِ المختلِفين في أتَمِّهم حجًّا. والقائلين: معناه النهيُ عن قولِ القائلِ: غدًا الحَجُّ. مخالِفًا به قولَ الآخرِ: اليومَ الحجُّ. فقولٌ في حكايتهِ الكفايةُ عن الاستشهادِ على وَهائِه وضعفِه، وذلك أنَّه قولٌ
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذي".
(2)
في م: "مما".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
بصرى وقرأ على ابن كثير المكي. ينظر سير أعلام النبلاء 6/ 207، وحجة القراءات ص 128.
لا تُدْرَكُ صحَّتُه إلا بخبرٍ مستفيضٍ، أو
(1)
خبرٍ صادقٍ يوجِبُ العلمَ أن ذلك كان كذلك، فنزلت الآيةُ بالنهيِ عنه، أو أن معنى ذلك في بعضِ معاني الجدالِ دون بعضٍ، ولا خبرَ بذلك بالصفةِ التي وصَفنا.
وأما دَلالتُنا على ما قلنا - من أنه نَفْيٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه عن شهورِ الحَجِّ - الاختلافُ الذي كانت الجاهليةُ تختلفُ فيها
(2)
بينَها قبلُ كما وصَفنا.
وأما دَلالتُنا على أن الجاهليةَ كانت تفعلُ ذلك، فالخبرُ المستفيضُ في أهلِ الأخبارِ أن الجاهليةَ كانت تفعلُ ذلك، مع دَلالةِ قولِ اللَّه تعالى ذكرُه:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الآية [التوبة: 37].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} .
يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: افعَلوا أيُّها المؤمنون ما أمَرتُكم به في حَجِّكم من إتمامِ مناسكِكم فيه، وأداءِ فرْضِكم الواجبِ عليكم في إحرامِكم، وتجنُّبِ ما أمرتُكم بتجنُّبِه من الرفَثِ والفسوقِ في حجِّكم؛ لتَستوجِبوا به الثوابَ الجزيلَ منِّي
(3)
، فإنكم مهما تفعَلوا من ذلك وغيرِه من خيرٍ وعملٍ صالحٍ، ابتغاءَ مرضاتي وطلبَ ثوابي، فإنِّي به عالمٌ، ولجميعِه مُحْصٍ حتى أوفِّيَكم أجرَه، وأجازِيَكم عليه، فإني لا تخفَى عليَّ خافيةٌ، ولا يَنكتِمُ عني ما أردتُم بأعمالِكم؛ لأني مُطَّلِعٌ على سرائرِكم، وعالمٌ بضمائرِ نفوسِكم.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
في الأصل: "فيه".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
ذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت في قومٍ كانوا يحُجُّون بغيرِ زادٍ، وكان بعضُهم إذا أحرَم رمَى بما معه من الزادِ، واستأنَف غيرَه من الأَزْوِدَةِ، فأمَر اللَّهُ مَن لم يكنْ يتزوَّدُ منهم بالتزوُّدِ لسفرِه، ومَن كان منهم ذا زادٍ أن يَتحفَّظَ بزادِه ولا يَرميَ به.
ذكرُ الأخبارِ التي رُوِيَت بذلك
حدَّثني الحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدائيُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ عبدِ الغفارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ سُوقةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: كانوا إذا أحرَموا ومعهم أَزْوِدَةٌ رمَوا بها، واستأنَفوا زادًا آخرَ، فأنزَل اللَّهُ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، فنُهوا عن ذلك وأمِروا أن يتزوَّدوا الكعكَ والدقيقَ والسَّوِيقَ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُخَرِّمِيُّ
(2)
، قال: ثنا شَبابةُ بنُ سَوّارٍ، قال: ثنا ورقاءُ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانوا يحُجُّون ولا يتزوَّدُون، فنزَلت:{اوَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(3)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ سُوقةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 348 عن المصنف وابن مردويه، وليس فيه: محمد بن سوقة.
(2)
في م: "المخزومي". وينظر تهذيب الكمال 25/ 534.
(3)
أخرجه أبو داود (1730)، وابن حبان (2691) من طريق محمد بن عبد الله به، وأخرجه عبد بن حميد - كما في تفسير ابن كثير 1/ 348 - والبخاري (1523)، والبيهقي 4/ 332 من طريق شبابة به. وأخرجه النسائي في تفسيره (53)، وابن حجر في تغليق التعليق 3/ 45 من طريق سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو به، وأخرجه الحاكم في تاريخه - كما في الفتح 3/ 384 - من طريق الثوري، عن ورقاء به، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 350 عقب الأثر (1839) عن ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 220 إلى ابن المنذر، وسيأتي من طرق عن ابن عيينة بدون ذكر ابن عباس.
قولِه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: الكعكُ والزيتُ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ عُيَينةَ، عن ابنِ سُوقةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: هو الكعكُ والسَّويقُ
(2)
.
حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن عِكْرمةَ، قال: كان أناسٌ يحُجُّون ولا يتزوَّدون، فأنزَل اللَّهُ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(3)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَينةَ، قال: ثنا عبدُ الملكِ بنُ عطاءٍ، كُوفيٌّ
(4)
، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ عُيَينةَ، عن عبدِ الملكِ بنِ عطاءٍ، عن الشعبيِّ في قولِه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: التمرُ والسَّويقُ
(5)
.
حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا حنظلةُ، قال: سُئل سالمٌ عن زادِ الحاجِّ، فقال: الخبزُ واللحمُ والتمرُ. قال عمرٌو: وسمِعتُ أبا عاصمٍ
(6)
مرةً يقولُ: ثنا حنظلةُ، سُئل سالمٌ عن زادِ الحاجِّ، فقال: الخبزُ والتمرُ
(7)
.
(1)
أخرجه سفيان بن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 221 - ومن طريقه سعيد بن منصور في سننه (349 - تفسير).
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 78.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 77، وسعيد بن منصور في سننه (347 - تفسير) عن سفيان ابن عيينة به.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لنا".
(5)
أخرجه سفيان بن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 221 - وعنه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 78، وسعيد بن منصور في سننه (348 - تفسير)، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، ولفظ سعيد: الكعك والسويق.
(6)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عمرو".
(7)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 350 عقب الأثر (1840) معلقًا، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 348.
حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن هُشيمٍ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال: كان ناسٌ من الأعرابِ يحُجُّون بغيرِ زادٍ ويقولون: نتوكَّلُ على اللَّهِ. فأنزَل اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(1)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن عمرَ بنِ ذَرٍّ، عن مجاهدٍ، قال: كان الحاجُّ منهم لا يتزوَّدُ، فأنزَل اللَّهُ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يحيى، عن عمرَ بنِ ذرٍّ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا عمرُ بنُ ذرٍّ، عن مجاهدٍ، قال: كانوا يسافِرون ولا يتزوَّدون، فنزَلت:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . وقال الحسنُ بنُ يحيى في حديثِه: كانوا يحُجُّون ولا يتزوَّدون
(2)
.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْديُّ، قال: ثنا المُحاربيُّ، عن عمرَ بنِ ذرٍّ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا عمرُ بنُ ذرٍّ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يحدِّثُ. فذكَر نحوَه.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن أبي بِشرٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان أهلُ الآفاقِ يخرُجون إلى الحَجِّ يَتوصَّلون بالناسِ بغيرِ زادٍ، يقولون: نحن مُتوَكِّلون. فأنزَل اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في (346 - تفسير) عن هشيم به.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 77. وأخرجه ابن أبي شيبة ص 248 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن وكيع، عن عمرو - كذا فيه - بن ذر به بنحوه، وهو في تفسير سفيان ص 64 عن عمرو، عن مجاهد بنحوه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَتَزَوَّدُوا} . قال: كان أهلُ الآفاقِ يخرُجون إلى
(1)
الحجِّ يتوصَّلون بالناسِ بغيرِ زادٍ، فأُمِروا أن يتزوَّدُوا
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: كان أهلُ اليمنِ [يقولون: لا
(3)
نتَزوَّدُ. فيتوكَّلونَ]
(4)
، يتوصَّلون بالناسِ، فأُمِروا أن يتزوَّدوا، ولا يستَغنِموا
(5)
. قال: وخيرُ الزادِ التقوى.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا حكَّامٌ، عن عَنبسةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: كانوا لا يتزوَّدون، فأُمِروا بالزادِ، وخيرُ الزادِ التقوى.
حدَّثنا بِشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . فكان الحسنُ يقولُ: إن ناسًا مِن أهلِ اليمنِ كانوا يحُجُّون ويسافِرون ولا يتزوَّدُون، فأمَرهم اللَّهُ بالزادِ والنفقةِ في سبيلِ اللَّهِ، ثم أنبَأَهم أن خيرَ الزادِ التقوى
(6)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن سعيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ في
(1)
في الأصل: "في".
(2)
تفسير مجاهد ص 229،
(3)
سقط من النسخ.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يستمتعوا". والغُنم: الفوز بالشيء دون مشقة. اللسان (غ ن م).
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 350 عقب الأثر (1839) معلقًا.
قولِه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: قال قتادةُ: كان ناسٌ من أهلِ اليمنِ يحُجُّون ولا يتزوَّدون. ثم ذكَر نحوَ حديثِ بِشرٍ، عن يزيدَ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: كان ناسٌ من أهلِ اليمنِ يخرُجون بغيرِ زادٍ إلى مكةَ، فأمَرهم اللَّهُ أن يتزوَّدوا، وأخبرَهم أن خيرَ الزادِ التقوى
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: كان أناسٌ يخرُجون من أهلِيهم ليست معهم أزْوِدَةٌ، يقُولون: نَحُجُّ بيتَ اللَّهِ ولا يُطْعِمُنا؟ فقال اللَّهُ: تَزوَّدوا ما يكُفُّ وجوهَكم عن الناسِ
(2)
.
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: أخبرنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} : فكان ناسٌ باليمنِ يحُجُّون ولا يتزوَّدون، فأمَرهم اللَّهُ أن يتزوَّدوا، وأنبَأ أن خيرَ الزادِ التقوى
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن محمدِ بنِ سُوقةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{وَتَزَوَّدُوا} قال: السَّويقُ والدقيقُ والكعكُ
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن محمدِ بنِ سُوقةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال:
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 77، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 221 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 349 (1838) عن محمد بن سعد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 350 عقب الأثر (1839) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
تفسير سفيان ص 64، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 350 (1840) من طريق أبي نعيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 221 إلى عبد بن حميد.
الخُشْكَنَانجُ
(1)
والسَّويقُ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن عبدِ الملكِ بنِ عطاءٍ البَكّائِيِّ
(3)
، قال: سمعتُ الشعبيَّ يقولُ في قولِه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: هو الطعامُ، وكان يومَئذٍ الطعامُ قليلًا. قال: قلتُ: وما الطعامُ؟ قال: التمرُ والسَّويقُ
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ قولَه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} : وخيرُ زادِ الدنيا المنفعةُ من [الحَمولةِ و]
(5)
اللباسِ والطعامِ والشرابِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: كان ناسٌ يتزوَّدون إلى عقبةٍ، فإذا انتَهَوا إلى تلك العقبةِ، توكَّلوا ولم يتزوَّدوا [طعامًا، فأُمِروا أن يَتَزَوَّدوا]
(6)
.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْدِيُّ، قال: ثنا المُحاربيُّ، قال: قال سفيانُ في قولِه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: أُمِروا بالسَّويقِ والكعْكِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَني أبي، أنه سمِع
(1)
الخشكنانج هو الخشكنان: وهو خبزة تصنع من خالص دقيق الحنطة وتملأ بالسكر واللوز أو الفستق وتقلى (فارسي). الوسيط (خ ش ك)، وينظر صبح الأعشى 3/ 510.
(2)
أخرجه وكيع في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 1/ 348 - وعنه ابن أبي شيبة ص 248 (القسم الأول من الجزء الرابع).
(3)
في النسخ: "البكالي". والمثبت من التاريخ الكبير 5/ 426.
(4)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 221 - وعنه ابن أبي شيبة ص 247 (القسم الأول من الجزء الرابع).
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
سقط من: م.
عكرمةَ يقولُ في قولِه: {وَتَزَوَّدُوا} . قال: هو السَّويقُ والدقيقُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: كانت قبائلُ مِن العربِ يُحَرِّمون الزادَ إذا خرَجوا حُجَّاجًا وعُمَّارًا؛ [إلا أن]
(2)
يَتضيَّفوا الناسَ، فقال اللَّهُ لهم:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(3)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الآمُليُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن عِكرمةَ، قال: كان الناسُ يقدَمون مكةَ بغيرِ زادٍ، فأنزَل اللَّهُ:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(4)
.
فتأويلُ الآيةِ إذن: فمَن فرَض في أشهرِ الحَجِّ الحَجَّ فأحرَم فيهن، فلا يَرْفُثَنَّ ولا يَفْسُقَنَّ، فإنَّ أمْرَ الحَجِّ قد استقام لكم، وعرَّفكم ربُّكم ميقاتَه وحدودَه، فاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمَركم به ونَهاكم عنه من أمرِ حَجِّكم ومناسكِكم، فإنكم مهما تفعَلوا من خيرٍ أمَركم به، أو ندَبكم إليه يعلَمْه، وتزوَّدوا من أقواتِكم ما فيه بلاغُكم إلى أداءِ فرضِ ربِّكم عليكم في حَجِّكم ومناسكِكم؛ فإنَّه لا بِرَّ للهِ في تركِكم التزوُّدَ لأنفسِكم ومسألتِكم الناسَ، ولا في تَضْييعِ أقواتِكم وإفسادِها، ولكنَّ البرَّ في تقوى ربِّكم باجتنابِ ما نهاكم عنه في سفرِكم لحَجِّكم، وفعلِ ما أمَركم فيه
(5)
، فإنه خيرُ الزادِ، فمنه تزوَّدُوا.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 77.
(2)
في م: "لأن"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"لا".
(3)
ينظر المحرر الوجيز 1/ 557.
(4)
أخرجه سفيان بن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 221 - ومن طريقه ابن أبي شيبة ص 247 (القسم الأول من الجزء الرابع).
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك رُوِي الخبرُ عن الضحاكِ بنِ مُزاحمٍ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . قال: والتقوى عملٌ بطاعةِ اللَّهِ.
وقد بيَّنا معنى "التقوى" فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: اتقونِ يا أهلَ العقولِ والأفهامِ، بأداءِ فرائضِي عليكم التي أوجبتُها عليكم في حَجِّكم ومناسكِكم، وغيرِ ذلك من دِيني الذي شرَعتُه لكم، وخافُوا عقابي باجتنابِ محارمي التي حرَّمتُها عليكم - تَنْجُوا بذلك مما تخافُون من غضبي عليكم وعقابي، وتُدركوا [به ما تَأمُلُون وتَرجُون مِن رِضايَ عنكم وجزيلِ ثوابي لكم، وتُدرِكوا]
(2)
ما تطلُبون من الفوزِ بجنَّاتي.
وخَصَّ جلَّ ذِكرُه بالخطابِ بذلك أُولي الألبابِ؛ لأنهم أهلُ التمييزِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وأهلُ الفكرِ الصحيحِ والمعرفةِ بحقائقِ الأشياءِ التي بالعقولِ تُدْرَكُ، وبالألبابِ تُفْهَمُ، ولم يَجعلْ لغيرِهم من أهلِ الجهلِ في الخطابِ بذلك حظًّا، إذ كانوا أشباحًا كالأنعامِ، وصُوَرًا كالبهائمِ، بل هم منها أضلُّ سبيلًا.
والألبابُ: جمعُ لُبٍّ، وهو العقلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: ليس عليكم أيُّها المؤمنون جُناحٌ. والجُنَاحُ الحَرَجُ.
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 237 - 240.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
كما حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ، قال: حدثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} : وهو لا حَرَجَ عليكم في الشراءِ والبيعِ قبلَ الإحرامِ وبعدَه
(1)
.
وقولُه: {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} يعني: أن تَلْتَمِسوا فضلًا من عندِ ربِّكم. يقالُ منه: ابْتَغَيْتُ فضلًا من اللَّهِ، ومن فضلِ اللَّهِ، أبتَغِيه ابتغاءً، إذا طلبتَه والتمستَه، وبَغَيتُه أبغِيه بُغَاءً
(2)
. كما قال عبدُ بني الحَسْحاسِ
(3)
:
بَغاكَ وما تَبْغيه حتى
(4)
وَجَدْتَه
…
كأنَّك قد وَاعَدْتَه أمسِ مَوْعِدا
يعني: طَلَبَك والتمسَكَ.
وقيل: إن معنى ابتغاءِ الفضلِ من اللَّهِ، التماسُ رزقِ اللَّهِ بالتجارةِ، وإن هذه الآيةَ نزَلت في قومٍ كانوا لا يَرَوْن أن يَتَّجِروا إذا أَحرَموا، يَلْتَمِسون البِرَّ بذلك، فأَعلَمهم جلَّ ثناؤُه إلا بِرَّ في ذلك، وأنَّ لهم التماسَ فضلِه بالبيعِ والشراءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْدِيُّ، قال: ثنا المُحارِبيُّ، عن عمرَ بنِ ذَرٍّ، عن مجاهدٍ، قال: كانوا يَحُجُّون ولا يتَّجِرون، فأنزَل اللَّهُ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: في المواسمِ
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرَنا عمرُ بنُ ذَرٍّ، قال:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 351 (1847) من طريق عبد الله بن صالح به.
(2)
في م: "بغيا".
(3)
ديوانه ص 41.
(4)
رواية الديوان: "إلا". و"حتى" هنا بمعنى "إلا". ينظر مغني اللبيب ص 111.
(5)
في م، ت 1، ت 3:"الموسم".
سمعتُ مجاهدًا يُحدِّثُ، قال: كان ناسٌ لا يتَّجِرون أيامَ الحَجِّ، فنزَلت فيهم: {[لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ]
(1)
أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرَنا أبو ليلي، عن بُرَيدةَ
(3)
في قولِ اللَّهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: إذا كنتم مُحْرِمِين أن تَبِيعوا وتَشْتَروا.
حدَّثني طَلِيقُ بنُ محمدٍ الواسِطيُّ، قال: أخبرَنا أسباطُ، قال: أخبرَنا الحسنُ
(4)
بن عمرٍو، عن أبي أُمَامةَ التيْميِّ، قال: قلتُ لابنِ عمرَ: إنّا قومٌ نُكْرِي
(5)
، فهل لنا حَجٌّ؟ قال: أليس تَطوفون بالبيتِ، وتأتون المُعَرَّفَ
(6)
، وتَرْمون الجِمارَ، وتحلِقُون رُءوسَكم؟ فقلنا: بلى. قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتَني عنه، فلم يَدْرِ ما يقولُ له، حتى نزَل جبريلُ عليه السلام بهذه الآيةِ. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} إلى آخرِ الآيةِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أنتم حُجَّاجٌ"
(7)
.
(1)
في النسخ: "لا جناح عليكم". والمثبت صواب التلاوة، والذي في النسخ قراءة ابن عباس وابن الزبير وعطاء. ينظر المصاحف لابن أبي داود ص 55، 74، 82.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 177 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق عمر بن ذر به بلفظ بنحوه، وينظر ما سيأتي في ص 493، 494.
(3)
في الأصل: "مزيده".
(4)
في الأصل: "الحسين". وينظر تهذيب الكمال 33/ 52.
(5)
أي نكري دوابنا للحجاج ونكون معهم في جميع الشاهد، ينظر الفتح الرباني 18/ 84.
(6)
في م: "المعروف"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"المغرب".
والمعرف يراد به الوقوف بعرفة، وهو التعريف أيضًا. والمعرف في الأصل: موضع التعريف، ويكون بمعنى المعروف. النهاية 3/ 218. وينظر ما تقدم في 2/ 711 حاشية (4).
(7)
أخرجه أحمد 1/ 473 (6434)، وابن خزيمة (3052)، والدارقطني 2/ 293 من طريق أسباط به. =
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الوهابِ، قال: أخبرَنا أيوبُ، عن عكرمةَ، قال: كانت تُقرَأُ هذه الآيةُ: (ليس عليكم جُناحٌ أن تَبْتَغُوا فَضْلًا من ربِّكم في مواسمِ الحَجِّ)
(1)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن منصورِ بنِ المُعْتمرِ في قولِه:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: هو التجارةُ في البيعِ والشراءِ، والبيعُ والاشتراءُ لا بأسَ به
(2)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن طلحةَ بنِ عمرٍو، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يقرَؤُها:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من ربِّكم في مواسمِ الحجِّ)
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن عليِّ بنِ مُسْهِرٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان مَتْجَرَ الناسِ في الجاهليةِ عُكاظٌ وذو المَجازِ
(4)
، فلمَّا جاء الإسلامُ كأنهم كرِهوا ذلك، حتى أنزَل اللَّهُ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: حدَّثنا شَبابةُ بنُ سَوَّارٍ، قال: حدثنا شعبةُ، عن
= وينظر ما سيأتي في ص 509.
(1)
أخرجه أبو عبيد في فضائله ص 164، وابن أبي شيبة ص 177 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن عبد الوهاب به، قال أبو حيان: والأولى جعل هذا تفسيرا؛ لأنه مخالف لسواد المصحف. البحر المحيط 2/ 94.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 349.
(3)
أخرجه وكيع - كما في تفسير ابن كثير 1/ 349 - وابن أبي داود في المصاحف ص 74 من طريق طلحة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
عكاظ: اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية، تجتمع فيه القبائل كل سنة، وذو المجاز: موضع سوق بعرفة على ناحية كبكب، على فرسخ من عرفة. ينظر معجم البلدان 3/ 704، 4/ 216.
(5)
أخرجه البخاري (1770) من طريق ابن جريج به.
أبي أُمَيمةَ، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ، وسُئِل عن الرجلِ يَحُجُّ ومعه تحارةٌ، فقرَأ ابنُ عمرَ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا هُشيمٌ، وحدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: حدثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا يزيدُ بنُ أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانوا لا يَتَّجِرون في أيامِ الحَجِّ، فنزَلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا حجاجٌ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال:(ليس عليكم جُناحٌ أن تَبْتَغُوا فضلًا من ربِّكم في مواسمِ الحَجِّ)
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: حدَّثنا طلحةُ بنُ عمرٍو الحَضْرَميُّ، عن عطاءٍ قولَه:(ليس عليكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسمِ الحَجِّ). هكذا قرَأها ابنُ عباسٍ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: حدَّثنا ليثٌ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: التجارةُ في الدنيا، والأجرُ في الآخرةِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 349 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 177 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق شعبة، عن أبي ميمونة، عن ابن عمر بنحوه.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (351 - تفسير)، وأبو داود (1731) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن أبي شيبة.
(3)
أخرجه أبو عبيد في فضائله ص 164، وابن أبي داود في المصاحف ص 74 من طريق هشيم به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 349 عن المصنف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى المصنف وابن عيينة.
رَبِّكُمْ}. قال: التجارةُ في المواسمِ، أُحِلَّت لهم في المواسمِ. قال: فكانوا لا يَبِيعون أو يَبْتَاعون في الجاهليةِ بعرفةَ [ولا بمنًى]
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: كان هذا الحيُّ من العربِ لا يُعَرِّجون على كسيرٍ ولا على ضالَّةٍ [ليلةَ النَّفْرِ]
(2)
، وكانوا يُسمُّونها ليلةَ الصَّدَرِ
(3)
، ولا يطلُبون فيها تجارةً ولا بيعًا، فأحلَّ اللَّهُ ذلك كلَّه للمؤمنين، أن يُعَرِّجوا على حوائجِهم، ويَبْتَغوا من فضلِ ربِّهم
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ عُيَينةَ، عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ أبي يزيدَ، قال: سمِعتُ ابنَ الزبيرِ يقولُ: (ليس عليكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكم في مواسمِ الحَجِّ)
(5)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر في تفسير مجاهد ص 230 بنحوه، وينظر ما تقدم في ص 502، 503.
(2)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3. ويقال: يوم النفر وليلة النفر. لليوم الذي ينفر الناس فيه من منى. ينظر اللسان (ن ف ر).
(3)
الصدر: اليوم الرابع من أيام النحر، لأن الناس يصدرون فيه عن مكة إلى أماكنهم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى عبد بن حميد.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 78، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 177 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وابن أبي داود في المصاحف ص 82 من طريق سفيان بن عيينة به، وأخرجه عبد بن حميد - كما في تفسير ابن كثير 1/ 349 - وابن أبي داود في المصاحف ص 82، وابن خزيمة (3055) من طرق عن عبيد الله بن أبي يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى ابن المنذر، وهو في تفسير عبد الرزاق والدر المنثور عن أبي الزبير.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ عُيَينةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: كانت ذو المَجازِ وعُكاظٌ مَتْجَرًا للناسِ في الجاهليةِ، فلما جاء الإسلامُ ترَكوا ذلك حتى نزَلت:(ليس عليكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكم في مواسمِ الحَجِّ)
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ والمثنى بنُ إبراهيمَ، قالا: حدَّثنا أبو نُعَيمٍ، قال: حدثنا سفيانُ، عن محمدِ بنِ سُوقةَ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ يقولُ: كان بعضُ
(2)
الحَاجِّ يُسَمَّوْن الدَّاجَّ
(3)
، فكانوا ينزِلون في الشِّقِّ الأيسرِ من مِنًى، وكان الحَاجُّ ينزِلون عندَ مسجدِ مِنًى، فكانوا لا يتَّجِرون، حتى نزَلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فحَجُّوا.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا عمرُ بنُ ذَرٍّ، عن مجاهدٍ، قال: كان الناسُ يَحُجُّون ولا يَتَّجِرون، حتى نزَلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فرُخِّص لهم في المَتْجَرِ والرُّكوبِ والزادِ
(4)
.
(1)
أخرجه سفيان - كما في الدر المنثور 1/ 222 - ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 78، وسعيد بن منصور في سننه (350 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 177 (القسم الأول من الجزء الرابع)، والبخاري (2050، 2098، 4519)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 351 (1846)، والطبراني (11213)، والبيهقي 4/ 333. وأخرجه أبو داود (1734)، وابن أبي داود في المصاحف ص 74، والحاكم 1/ 449، 481، 2/ 276، وابن خزيمة (3054)، والبيهقي 4/ 334 من طريق عبيد بن عمير، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(2)
زيادة من: م.
(3)
الداج: الذين مع الحاج من الأجراء والمكارين والأعوان ونحوهم؛ لأنهم يدجون على الأرض، أي: يدبون ويسعون في السفر. اللسان (د ج ج).
(4)
تقدم تخريجه في ص 503.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} : هي التجارةُ، يقولُ: اتَّجِرُوا في الموْسمِ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: كان الناسُ إذا أحرَموا لم يَتبايَعوا حتى يَقضُوا حَجَّهم، فأحَلَّه اللَّهُ لهم
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: حدثنا أبو نُعَيمٍ، قال: حدثنا سفيانُ، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانوا يَتَّقُون البيوعَ والتجارةَ أيامَ المَوسمِ، يقولون: أيامُ ذِكْرٍ. فأنزَل اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . فحَجُّوا
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن طلحةَ بنِ عمرٍو، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يقرَؤُها:(ليس عليكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُم في مواسمِ الحَجِّ)
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: حدثنا الحِمَّانيُّ، قال: حدثنا شَرِيكٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: لا بأسَ بالتجارةِ في الحَجِّ. ثم قرَأ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (1).
حُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 349.
(2)
تقدم تخريجه في ص 505.
(3)
تقدم تخريجه في ص 504.
أنسٍ قولَه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: كان هذا الحيُّ من العربِ لا يُعَرِّجون على كسيرٍ، ولا على ضالَّةٍ، ولا ينتظِرون لحاجةٍ، وكانوا يسمُّونها ليلةَ الصَّدَرِ، ولا يطْلُبون فيها تجارةً، فأحلَّ اللَّهُ ذلك كلَّه أن يُعرِّجوا على حاجتِهم
(1)
، وأن يَبْتَغُوا
(2)
فضلًا مِن ربِّهم
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا مَنْدَلٌ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ المُهاجِرِ، عن أبي صالحٍ مولى عمرَ، قال: قلتُ لعمرَ: يا أميرَ المؤمنين، كنتم تَتَّجِرون في الحَجِّ؟ قال: وهل كانت معايِشُهم إلا في الحَجِّ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن العلاءِ بنِ المُسيَّبِ، عن رجلٍ من بني تَيمِ اللَّهِ، قال: جاء رجلٌ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، فقال: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إنَّا قومٌ نُكْرِي، فيزعُمون أنَّه ليس لنا حَجٌّ! قال: ألسْتم تُحرِمُون كما يُحرِمُون، وتَطوفون كما يَطوفون، وتَرْمون كما يَرْمون؟ قال: بلى. قال: فأنتم
(5)
حاجٌّ؛ جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتَ عنه، فنزَلت هذه الآيةُ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
(6)
.
(1)
في الأصل: "صاحبهم".
(2)
في م: "يطلبوا".
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 349.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 350 عن المصنف.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنت".
(6)
أخرجه عبد الرزاق - كما في تفسير ابن كثير 1/ 350 - ومن طريقه عبد بن حميد - كما في تفسير ابن كثير - وأحمد 10/ 474 (6435)، والدارقطني 2/ 292، 293، وابن بشران في الأمالي (435) من طريق سفيان به. وأخرجه الطيالسي (2021)، وسعيد بن منصور في سننه (352 - تفسير)، وابن أبي شيبة ص 444 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وأبو داود (1733)، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 351 (1845)، والدارقطني 2/ 292، والحاكم 1/ 449، والبيهقي 4/ 333، وابن خزيمة (3051) من طريق العلاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى ابن المنذر. وينظر ما تقدم في ص 503.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: كانوا إذا أفاضوا من عرفاتٍ لم يَتَّجِروا بتجارةٍ، ولم يُعَرِّجوا على كَسيرٍ، ولا على ضالَّةٍ، فأحلَّ اللَّهُ ذلك، فقال:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . إلى آخرِ الآيةِ
(1)
.
حدَّثني سعيدُ بنُ الربيعِ الرازيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت عُكاظٌ ومَجَنَّةُ
(2)
وذو المَجازِ أسواقًا في الجاهليةِ، فكانوا يَتَّجِرون فيها، فلمَّا كان الإسلامُ كأنهم تأثَّمُوا منها، فسألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللَّهُ:(ليس عليكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكم في مواسمِ الحَجِّ)
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولهِ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} : فإذا رجَعتم من حيثُ بدَأتُم. ولذلك قيل للذي يضرِبُ القِداحَ بينَ الأَيْسارِ
(4)
: مُفِيضٌ. لجمعِه القداحَ، ثم إفاضتِه إياها بينَ الياسِرين
(5)
. ومنه قولُ بشرِ بنِ أبي خازمٍ
(6)
الأسديِّ
(7)
:
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 78.
(2)
مَجَنَّةُ: اسم سوق للعرب في الجاهلية بمر الظهران قرب جبل يقال له: الأصفر وهو بأسفل مكة. معجم البلدان 4/ 431.
(3)
تقدم تخريجه في ص 502، 505.
(4)
الأيسار: جمع ياسر، وهم الضاربون بالقداح والمتقامرون على الجزور وهو الذي يلي قسمة جزور الميسر. تاج العروس (ي س ر).
(5)
في النسخ: "المياسرين". وينظر تهذيب اللغة 13/ 59.
(6)
في الأصل، ت 1، ت 2:"حازم".
(7)
ديوانه ص 107.
فَقُلتُ لها رُدِّي إليه
(1)
حَياتَه
(2)
…
فَرَدَّتْ كما رَدّ المَنِيحَ
(3)
مُفِيضُ
ثم اختلَف أهلُ العربيةِ في "عرفاتٍ"، والعلةِ التي من أجلِها صُرِفت وهي مَعْرِفةٌ، وهل هي اسمٌ لبقعةٍ واحدةٍ، أم هي لجماعةِ بِقاعٍ؟ فقال بعضُ نحويِّي البصريين
(4)
: هي اسمٌ كان لجماعةٍ مثل مُسلماتٍ ومُؤمناتٍ، سُمِّيَت به بُقعةٌ واحدةٌ، فَصُرِفت لمَّا سُمِّيَت به البقعةُ الواحدةُ، إذ كان مصروفًا قبلَ أن تسمَّى به البقعةُ، ترْكًا منهم له على أصلِه؛ لأن التاءَ فيه صارت بمنزلةِ الياءِ والواوِ في "مسلمين ومسلمون"؛ لأنه تذكيرُه، فصار التنوينُ بمنزلةِ النونِ، فلمَّا سُمِّي به تُرِك على حالِه، كما يُترَكُ "مسلمون" إذا سُمِّي به على حالِه.
قال: ومِن العربِ مَن لا يصرِفُه إذا سمَّى به، ويشبِّهُ "التاءَ" بهاءِ التأنيثِ، وذلك قبيحٌ ضعيفٌ. واستَشهد بقولِ الشاعرِ
(5)
:
تَنَوَّرْتُها مِن أذْرِعاتٍ
(6)
وأهْلُها
…
بيَثربَ أدْنى دارِها نَظَرٌ عَالِ
قال: ومنهم مَن لا يُنوِّنُ "أذرِعات"، وكذلك "عانات"
(7)
، وهو مكانٌ.
وقال بعضُ نحويِّي الكوفيين: إنما انصرَفت عرفاتٌ؛ لأنهن على جماعٍ مؤنثٍ بـ "التاءِ".
(1)
في الديوان: "عليه".
(2)
في م: "جنانه".
(3)
المنيح: سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له، إلا أن يمنح صاحبه شيئا. الصحاح (م ن ح).
(4)
ينظر الكتاب 3/ 233.
(5)
هو امرؤ القيس، والبيت في ديوانه ص 31.
(6)
أذرعات: بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان. معجم البلدان 1/ 175.
(7)
عانات: موضع من أرياف العراق، قال الخليل: مما يلي ناحية الجزيرة. معجم ما استعجم 3/ 914.
قال: وكذلك ما كان على
(1)
جماعٍ مؤنثٍ بـ "التاءِ"، ثم سَمَّيتَ به رجلًا أو مكانًا أو أرضًا أو امرأةً، انصرَفتْ.
قال: ولا تكادُ العربُ تُسمِّي شيئًا من الجماعِ إلا جِماعًا، ثم تجعلُه بعدَ ذلك واحدًا.
وقال آخرُ
(2)
منهم: ليست عرفاتٌ حكايةً، ولا هي اسمٌ منقولٌ، ولكنَّ الموضعَ سُمِّي هو وجوانبُه بعرفاتٍ، ثم سُمِّيت بها البُقْعةُ، فهي
(3)
اسمٌ للموضعِ، لا ينفردُ واحدُها. قال: وإنما يجوزُ هذا في الأماكنِ والمواضعِ، ولا يجوزُ ذلك في غيرِها من الأشياءِ. قال: ولذلك نَصَبتِ العربُ "التاءَ" في ذلك؛ لأنه موضعٌ، ولو كان مَحْكِيًّا لم يكنْ ذلك فيه جائزًا؛ لأنَّ مَن سَمَّى رجلًا بـ "مسلماتٍ" أو "مسلمين" لم يَنقُلْه في الإعرابِ عمَّا كان عليه في الأصلِ، فلذلك خالَف "عاناتٍ" و"أذرِعاتٍ" ما سُمِّي به من الأسماءِ على وجْهِ الحكايةِ.
واختلَف أهلُ العلمِ في المعنى الذي مِن أجلِه قيل لعرفاتٍ: عرفاتٌ؛ فقال بعضُهم: قِيل لها ذلك مِن أجلِ أنَّ إبراهيمَ خليلَ الرحمنِ لمَّا رآها عرَفها بنعتِها الذي كان لها عندَه، فقال: قد عَرَفتُ. فسُمِّيت عرفاتٍ بذلك.
وهذا القولُ مِن قائلِه يدلُّ على أنَّ عرفاتٍ اسمٌ للبُقْعةِ، وإنما سمِّيتْ بذلك لنفسِها وما حولَها، كما يقالُ: ثوبٌ أخلاقٌ، وأرضٌ سَباسبُ
(4)
. فتُجمَعُ بما حولَها.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(2)
في م، ت 2:"آخرون".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
السباسب: الجدبة، والأرض القفار. اللسان (سبسب).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لما أذَّن إبراهيمُ في الناسِ بالحَجِّ، فأجابُوه بالتلبيةِ، وأتاه مَن أتاه، أمَره اللَّهُ أن يخرُجَ إلى عرفاتٍ، ونعَتَها، فخرَج، فلما بلَغ الشجرةَ عندَ العقبةِ، استقبَله الشيطانُ يرُدُّه، فرماه بسبعِ حَصَياتٍ، يُكبِّرُ مع كلِّ حصاةٍ، فطار فوقَع على الجمرةِ الثانيةِ، فصدَّه أيضًا، فرَماه وكبَّر، فطار فوقَع على الجمرةِ الثالثةِ، فرماه وكبَّر، فلما رأى أنَّه لا يطيعُه، فلم يدْرِ إبراهيمُ أين يذهَبُ، فانطلَق حتى أتَى ذا المَجازِ، فلمَّا نظَر إليه فلم يعرِفْه، جاز، فلذلك سُمِّي ذا المَجازِ، ثم انطلَق حتى وقَع بعرفاتٍ، فلما نظَر إليها عَرَف النَّعتَ، قال: قد عَرَفتُ. فسُمِّي عرفاتٍ. فوقَف إبراهيمُ بعرفاتٍ، حتى إذا أمسَى ازدَلف إلى جَمْعٍ، فسمِّيَت المُزْدَلِفةَ، فوقَف بجمعٍ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن سليمانَ التَّيميِّ، عن نُعَيمِ بنِ أبِي هندٍ، قال: لما وقَف جبريلُ بإبراهيمَ عليهما السلام بعرفاتٍ، قال: عَرَفتُ. فسُمِّيت عَرفاتٍ لذلك
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا ابنُ جريجٍ، قال: قال ابنُ المُسَيَّبِ: قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: بعَث اللَّهُ جبريلَ إلى إبراهيمَ فحَجَّ به، حتى إذا أتَى عرفةَ، قال: قد عَرَفتُ. وكان قد أتاها مرَّةً قبلَ ذلك، ولذلك
(1)
تقدم تخريجه في 2/ 568، وفيه:"لا يطيقه، ولم". مكان: "لا يطيعه، فلم".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 79.
سُمِّيت عَرَفةَ
(1)
.
وقال آخرون: بل سُمِّيت بذلك بنفسِها، وببقاعٍ أُخَرَ سواها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ قال: ثنا وَكيعٌ، [عن الربيعِ]
(2)
بنِ مسلمٍ القُرَشيِّ، عن ابنِ
(3)
طِهْفةَ، عن أبي الطُّفَيلِ، عن ابنِ عباسٍ قال: إنما سُمِّيت عرفاتٍ؛ لأن جبريلَ كان يقولُ لإبراهيمَ: هذا موضعُ كذا، وهذا موضعُ كذا. فيقولُ: قد عَرَفتُ، [قد عرَفتُ]
(4)
. فلذلك سُمِّيت عَرفاتٍ
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، عن عطاءٍ، قال: إنما سُمِّيت عَرفةَ أن جبريلَ كان يُرِي إبراهيمَ المناسكَ، فيقولُ: عَرَفتُ، عَرَفتُ. فسُمِّي عَرفاتٍ
(6)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن زكريا، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: أصلُ الجبلِ الذي يلي عُرَنَة
(7)
وما وراءَه موقفٌ، حتى يأتيَ الجبلَ جبلَ عَرفةَ
(8)
.
(1)
مصنف عبد الرزاق 5/ 96 مطولًا.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. وينظر تهذيب الكمال 9/ 102.
(3)
في م، ت 1:"أبي". وينظر تهذيب الكمال 9/ 102.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 222 إلى المصنف ووكيع وابن المنذر.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 291 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق عبد الملك به.
(7)
في الأصل: "عرفة".
(8)
أخرجه الأزرقي في أخبار مكة 1/ 418 من طريق ابن أبي نجيح به.
وقال ابنُ أبي نجيحٍ: عرفاتٌ: [النَّبْعَةُ والنُّبَيْعَةُ]
(1)
، وذاتُ النابتِ، وذلك قولُ اللَّهِ:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} . وهو الشِّعْبُ الأوسطُ.
وقال زكريا: ما سال مِن الجبلِ الذي يقِفُ عليه الإمامُ إلى عَرَفةَ، فهو مِن عَرَفةَ، وما دَبَرَ ذلك الجبلِ فليس من عَرفةَ.
وهذا القولُ يدلُّ على أنها سمِّيت بذلك نظيرَ ما يُسمَّى الواحدُ باسمِ الجماعةِ المختلفةِ الأشخاصِ.
وأولى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك عندي أن يقالَ: هو اسمٌ لواحدٍ سُمِّي بجماعٍ، فإذا صُرِف ذُهِب به مَذْهبَ الجِماعِ الذي كان له في الأصلِ، وإذا تُرِك صَرْفُه ذُهِب به إلى أنه اسمٌ لبقعةٍ واحدةٍ معروفةٍ، فتُرِك صَرْفُه كما يُترَكُ صرفُ أسماءِ الأمصارِ والقرَى المعارفِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .
يعني جلَّ ثناؤه بذلك: فإذا أفضْتُم فَكَرَرْتُم راجِعين مِن عَرفةَ إلى حيثُ بدأتُم الشخوصَ إليها منه {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} . يعني بذلك الصلاةَ والدعاءَ عندَ المَشْعرِ الحرامِ.
وقد بيَّنا قبلُ أن المشاعرَ هي المعالمُ، من قولِ القائلِ: شَعَرتُ بهذا الأمرِ. أي: علِمتُ
(2)
.
والمَشْعَرُ هو المَعْلمُ، سُمِّي بذلك لأن الصلاةَ عندَه والمُقَامَ والمَبِيتَ والدُّعاءَ مِن معالمِ الحَجِّ وفروضِه التي أمَر اللَّهُ تعالى ذكرُه بها عبادَه، وقد
(1)
في الأصل: "التبعة والتبيعة". وينظر معجم البلدان 4/ 741.
(2)
ينظر ما تقدم في 2/ 710.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن زكريا، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، قال: يُستحبُّ للحاجِّ أن يُصلِّيَ في منزلِه بالمُزْدلفةِ إن استطاع، وذلك أن اللَّهَ قال:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} .
فأما المَشْعَرُ، فإنه هو ما بينَ جَبلي
(1)
المُزْدلفةِ من [حدِّها إلى مُفْضَى]
(2)
مَأْزِمَيْ
(3)
عَرفةَ إلى مُحَسِّرٍ، وليس مَأْزِمَا عَرفةَ من المشعرِ.
وبالذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، قال: حدثنا إسرائيلُ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: رأى ابنُ عمرَ الناسَ يزدَحِمون على الجُبيلِ بجَمْعٍ، فقال: أيُّها الناسُ، إن جَمْعًا كلَّها مَشْعَرٌ
(4)
.
حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرَنا حجاجٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ أنه سُئِل عن قولِه:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . قال: هو الجبلُ وما حولَه
(5)
.
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، قال: أخبرَنا إسرائيلُ، عن
(1)
في الأصل: "جبل".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. وينظر أخبار مكة 2/ 96.
(3)
المأزمان تثنية المأزِم: وهو شعب بين جبلين يفضي آخره إلى بطن عرنة. معجم البلدان 4/ 391.
(4)
سيأتي تخريجه في ص 519.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (353 - تفسير)، والبيهقي 5/ 123 من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 224 إلى ابن المنذر.
حكيمِ بنِ جُبَيرٍ، [عن سعيدِ بنِ جبيرٍ]
(1)
، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما بينَ الجبلَين اللذيْن بجَمْعٍ مَشْعَرٌ
(2)
.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن السُّدِّيِّ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، وحدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّدِّيِّ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: سألتُه عن المشعرِ الحرامِ، فقال: ما بينَ جبلي المُزْدَلفةِ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمرٌ، عن الزهريِّ، عن سالمٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: المَشعرُ الحرامُ المُزْدَلفةُ كلُّها
(5)
. قال مَعْمرٌ: وقاله قتادةُ
(6)
.
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: عن سفيانَ، عن السُّدِّيِّ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . قال: ما بينَ جَبلي المُزْدَلفةِ هو المشعرُ الحرامُ
(7)
.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، قال: أخبرَنا [أبي، عن]
(8)
أبي إسحاقَ،
(1)
سقط من: م.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 234 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
تفسير سفيان ص 64.
(4)
أخرجه البيهقي 2/ 123 من طريق سفيان به.
(5)
أخرجه عبد الرزاق - كما في تفسير ابن كثير 1/ 352 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 353 (1856)، والحاكم 2/ 277، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 224 إلى عبد بن حميد.
(6)
تفسير عبد الرزاق 1/ 78 بنحوه.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 389 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن وكيع به.
(8)
في الأصل: "ابن". وينظر تهذيب الكمال 22/ 103.
عن عمرِو بنِ ميمونٍ، قال: سألتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمروٍ
(1)
عن المشعرِ الحرامِ، فقال: إنِ انطلقتَ معي أعلمْتُكَه. قال: فانطلقتُ معه، فوقَفنا، حتى إذا أفاض الإمامُ سار وسِرْنا معه، حتى إذا هبَطَت أيدي الرِّكابِ وكُنا في أقصى الجبالِ مما يلي عرفاتٍ قال: أين السائل عن المشعرِ الحرامِ؟ أخذتَ فيه؟ قلتُ: ما أخذتُ فيه. قال: كلُّها مَشاعِرُ إلى أقصى الحَرَمِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا إسرائيلُ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ الأوْدِيِّ، قال: سألتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو عن المشعرِ الحرامِ، قال: إن تَلْزَمْني أُرِكَه قال: فلما أفاضَ الناسُ من عَرفةَ، تَهَبَّطَتْ
(2)
أيدي الرِّكابِ في أدنى الجبالِ، قال: أين السائلُ عن المشعرِ الحرامِ؟ قال: قلتُ: ها أنا ذا
(3)
. قال: أخذتَ فيه؟ قلتُ: ما أخذتُ فيه. قال: حينَ تَهَبَّطَتْ (2) أيدي الركابِ في أدنى الجبالِ، فهو مَشْعَرٌ إلى مكةَ
(4)
.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا وكيعٌ، عن عُمارةَ بنِ زاذانَ، عن مكحولٍ الأزْدِيِّ، قال: سألتُ ابنَ عمرَ يومَ عرفةَ عن المَشْعَرِ الحرامِ؟ فقال: الْزَمْنِي. فلما كان من
(1)
في م، ت 1:"عمر". وقال البيهقي بعد إيراده الأثر: كذا قال: عبد الله بن عمروٍ. وقيل: عبد الله بن عمر.
(2)
في م: "هبطت". وتهبَّطت: تحدَّرت. النهاية 5/ 239.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذاك".
(4)
أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 224 - ومن طريقه ابن أبي شيبة ص 389 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 353 (1855) عن إسرائيل به، وأخرجه الأزرقي في أخبار مكة 1/ 415، والبيهقي 5/ 123 من طريق أبي إسحاق به، وعزاه السيوطي إلى سفيان وعبد بن حميد، ولفظه في هذه المصادر قريب من لفظ الأثر قبله.
الغدِ وأتَينا المُزْدَلفةَ، قال: أين السائلُ عن المشعَرِ الحرامِ؟ هذا المشعَرُ الحرامُ.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال ثنا ابن أبِي زائدةَ، قال: أخبَرَنا داودُ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: المشعرُ الحرامُ المزْدَلفةُ كلُّها.
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، قال: أخبَرنا
(1)
ابنُ جُرَيجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: أين المُزْدَلفةُ؟ قال: إذا أفَضتَ من مَأْزِمَي عَرفةَ، فذلك إلى مُحَسِّرٍ. قال: وليس المَأْزِمان مَأْزِما عَرفةَ مِن المُزْدَلفةِ، ولكن مُفْضَاهما
(2)
. قال: فقِفْ بينَهما
(3)
إنْ شئتَ، وأحبُّ إليَّ أنْ تَقِفَ دونَ قُزَحَ
(4)
، هلُمَّ إلينا من أجلِ طريقِ الناسِ
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: رَآهم ابنُ عمرَ يزدَحمون على قُزَحَ، فقال: علامَ يزدَحِمُ هؤلاء؟ كلُّ
(6)
ما ههنا مَشْعَرٌ
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: المشعَرُ الحرامُ المُزْدَلفةُ كلُّها.
(1)
بعده في م: "داود عن".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"مفاضاهما".
(3)
في أخبار مكة: "بأيهما".
(4)
قزح: موقف قريش في الجاهلية، وهو القرن الذي يقف الإمام عنده بالمزدلفة عن يمين الإمام. معجم البلدان 4/ 84.
(5)
أخرجه الأزرقي في أخبار مكة 1/ 416 من طريق ابن جريج به مطولًا، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 353 عن ابن جريج به كما هنا.
(6)
في الأصل: "وكل".
(7)
أخرجه عبد الرزاق - كما في تفسير ابن كثير 1/ 353 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 224 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} : وذلك ليلةُ جَمْعٍ. قال قتادةُ: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: ما بينَ الجبلَين مَشْعَرٌ.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: المشعَرُ الحرامُ هو ما بينَ جبالِ المزدَلفةِ، ويقالُ: هو قَرْنُ قُزَحَ.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} : وهي المُزْدَلفةُ، وهي جَمْعٌ.
وذُكِر عن عبدِ الرحمن بنِ الأسودِ ما حدَّثنا به هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا وكيعٌ، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الأسودِ، قال: لم أجِدْ أحدًا يُخبِرُني عن المشعَرِ الحرامِ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال. ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّدِّيِّ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ يقولُ: المَشْعَرُ الحرامُ ما بينَ جبلي المُزْدَلفةِ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا قيسٌ، عن حكيمِ بنِ جُبَيرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: سألتُ ابنَ عمرَ عن المشعَرِ الحرامِ؟ فقال: ما أدري. وسألتُ ابنَ عباسٍ، فقال: ما بينَ الجبلَين.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 389 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن وكيع به.
(2)
تقدم تخريجه في ص 517.
إسحاقَ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ عباسٍ قال: الجبيلُ وما حولَه مشاعِرُ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ثُوَيرٍ، قال: وقَفتُ مع مجاهدٍ على الجُبَيلِ، فقال: هذا المشعَرُ الحرامُ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا حسنُ بنُ عطيةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبِي إسحاقَ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: الجُبَيلُ وما حولَه مشاعِرُ.
قال أبو جعفر: وإنما جعَلْنا أوَّلَ حدِّ المشعَرِ مما يلي مِنًى مُنْقطعَ وادي مُحَسِّرٍ مما يلي المُزْدَلفةَ؛ لأن المثنى حدَّثني، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن سفيانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"عَرَفةُ كُلُّها مَوْقِفٌ إلا عُرَنَةَ، وجَمْعٌ كُلُّها مَوْقِفٌ إلا مُحَسِّرًا"
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنى هُشَيمٌ، عن حَجَّاجٍ، عن ابن أبي مُلَيكَةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ الزبيرِ أنه قال: كلُّ مُزْدَلفةَ مَوقِفٌ إلا واديَ مُحَسِّرٍ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن حَجاجٍ، قال: أخبرَني مَن سمِع عُرْوةَ بنَ الزبيرِ يقولُ مثلَ ذلك.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن سفيانَ، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ، قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ في خطبتِه: تَعَلَّمُنَّ أن عرفةَ كلَّها مَوْقِفٌ إلا بطنَ عُرَنَةَ، تَعَلَّمُنَّ أن المُزْدَلفةَ كلَّها مَوقِفٌ إلا بطنَ مُحَسِّرٍ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 224 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 353 عن ابن المبارك به، وقال: هذا حديث مرسل. وهو في الموطأ 1/ 388 بلاغا، وينظر التمهيد 24/ 417.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 79 من طريق أيوب، عن ابن أبي مليكة نحوه.
(4)
أخرجه مالك 1/ 388 عن هشام بن عروة به، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 251، 252 (القسم الأول =
غيرَ أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختارُ للحَاجِّ أنْ يجعَلَ وقوفَه لذكْرِ اللَّهِ من المشعَرِ الحرامِ على قُزَحَ وما حولَه؛ لأن أبا كريبٍ حدَّثنا، قال: ثنا عُبَيدُ اللَّهِ بنُ موسى، عن إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ بنِ مُجَمِّعٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ المخزوميِّ، عن زيدِ بنِ عليٍّ، [عن أبيه]
(1)
، عن عُبَيدِ اللَّهِ بنِ أبي رافعٍ
(2)
، عن عليٍّ، قال: لما أصبَح رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالمُزْدَلفةِ، غدا فوقَف على قُزَحَ، وأردَف الفضلَ
(3)
، ثم قال:"هذا الموقِفُ، وكلُّ مُزْدَلفةَ مَوقِفٌ"
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، قال: أخبَرنا إبراهيمُ بنُ إسماعيلَ بنِ مُجَمِّعٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ، عن زيدِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ، عن عُبَيدِ اللَّهِ بنِ أبي رافعٍ، عن أبي رافعٍ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنا هَنَّادٌ وأحمدُ بنُ حَمّادٍ الدُّولابيُّ، قالا: ثنا سفيانُ، عن ابنِ المُنْكَدِرِ، عن سعيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ يَرْبوعٍ، عن ابنِ
(5)
الحويرثِ، قال: رأيتُ أبا بكرٍ واقِفًا على قُزَحَ وهو يقولُ: أيُّها الناسُ، أصْبِحوا، أيُّها الناسُ، أصْبِحوا. ثم دفَع
(6)
.
= من الجزء الرابع) عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن ابن الزبير.
(1)
سقط من النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.
(2)
بعده في الأصل: "عن أبي رافع".
(3)
بعده في الأصل: "قال".
(4)
أخرجه أحمد 2/ 5، 454 (562، 1348)، وأبو داود (1935)، والترمذي (885)، وعبد الله في زوائد المسند 2/ 8، 50 (564، 613)، وأبو يعلى (312، 544)، والطحاوي في شرح المشكل (1196)، والبيهقي 5/ 122 من طريق عبد الرحمن بن الحارث به.
(5)
في الأصل: "أبي".
(6)
أخرجه الشافعي 2/ 213، وابن سعد 5/ 5، وابن أبي شيبة ص 252 (القسم الأول من الجزء الرابع)، والبيهقي 5/ 125 من طريق سفيان به، وقال ابن سعد: هكذا قال سفيان بن عيينة: سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، وهذا وهم وغلط في نسبه، إنما هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عثمانَ، عن يوسفَ بنِ مَاهَكَ، قال: حَجَجْتُ مع ابنِ عمرَ، فلما أصبَح بجَمْعٍ صلَّى الصُّبْحَ، ثم غدَا وغدَونا معه حتى وقَف مع الإمامِ على قُزَحَ، ثم دفَع الإمامُ، فدفَع بدَفْعتِه.
وأمَّا قولُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو
(1)
حينَ صار بالمُزْدَلفةِ: هذا كلُّه مشاعِرُ إلى مكةَ. فإن معناه أنها معالِمُ من معالِمِ الحَجِّ، يُنْسَكُ في كلِّ بقعةٍ منها بعضُ مناسكِ الحَجِّ، لا أن كلَّ ذلك المشعَرُ الحرامُ الذي يكونُ الواقفُ حيثُ وقَف منه إلى بطنِ مكةَ قاضِيًا ما عليه من الوقوفِ بالمشعَرِ الحرامِ من جَمْعٍ.
وأما قولُ عبدِ الرحمنِ بنِ الأسودِ: لم أجِدْ أحدًا يُخبِرُني عن المشعَرِ الحرامِ. فإنه يَحتملُ أن يكونَ أراد: لم أجِدْ أحدًا يُخبِرُني عن حدِّ أوّلِه ومُنْتَهَى آخِرِه على حقِّه وصِدْقِه؛ لأن حدودَ ذلك على صحتِها حتى لا يكونَ فيها زيادةٌ ولا نقصانٌ لا يحيطُ بها إلا القليلُ من أهلِ المعرفةِ بها، غيرَ أن ذلك وإن لم يقِفْ على حَدِّ أوّلِه ومُنْتَهَى آخرِه وقوفًا لا زيادةَ فيه ولا نقصانَ إلا مَن ذكرتُ، فموضِعُ الحاجةِ للوقوفِ لا خفاءَ به على كبيرِ
(2)
أحدٍ من سكانِ تلك الناحيةِ وكثيرٍ مِن غيرِهم، وكذلك سائرُ مشاعرِ الحَجِّ والأماكنِ التي فرَض اللَّهُ على عبادِه أن يَنْسُكوا عندَها كعرفاتٍ ومِنًى والحَرَمِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: واذكُروا اللَّهَ أيُّها المؤمنون عندَ المشعرِ الحرامِ بالثناءِ عليه، والشكرِ له على أياديه عندَكم، وليكنْ ذكرُكم إياه بالخضوعِ لأمرِه، والطاعةِ
(1)
في م: "عمر". وينظر ما تقدم في ص 518.
(2)
سقط من: م
له، والشكرِ له على ما أنعَم عليكم من التوفيقِ، لِما وفَّقكم له من سننِ إبراهيمَ خليلِه، بعدَ الذي كنتم
(1)
فيه مِن الشركِ والحَيْرةِ والعمَى عن طريقِ الحقِّ، وبعدَ الضلالةِ، كذكرِه إيَّاكم بالهدَى، حتى اسْتَنْقَذَكم من النارِ به، بعدَ أن كنتم على شفا حُفرةٍ منها، فنَجَّاكم منها، وذلك هو معنى قولِه:{كَمَا هَدَاكُمْ} .
وأما قولُه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} . فإن من أهلِ العربيةِ مَن يوجِّهُ تأويلَ "إن" إلى
(2)
"ما"، وتأويلَ اللامِ التي في {لَمِنَ الضَّالِّينَ} إلى "إلا".
فتأويلُ الكلامِ على هذا المعنى: وما كنتم من قبلِ هدايةِ اللَّهِ إيَّاكم لِما هداكم له من ملةِ خليلِه إبراهيمَ التي اصطفاها لمَنْ رضِي عنه من خلْقِه إلا من الضالين.
ومنهم مَن يوجِّهُ تأويلَ "إن" إلى "قد"، فمعناه على قولِ قائلي
(3)
هذه المقالةِ: واذكُروا اللَّهَ أيُّها المؤمنون كما ذكَركم بالهدَى، فهداكم لِما رضِيَه من الأديانِ والمِلَلِ، وقد كنتم من قبلِ ذلك مِن الضالين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك، ومَن المَعْنِيُّ بالأمرِ بالإفاضةِ من حيثُ أفاض الناسُ؟ ومَن الناسُ الذين أُمِروا بالإفاضةِ مِن مَوْضعِ إفاضتِهم؟ فقال بعضُهم: المَعْنِيُّ بقولِه: {ثُمَّ أَفِيضُوا} : قريشٌ ومَن ولَدَته قريشٌ، الذين كانوا يُسَمَّون في
(1)
بعده في: م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيما كنتم".
(2)
بعده في م: "تأويل".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قائل".
الجاهليةِ الحُمْسَ، أُمِروا في الإسلامِ أن يُفيضوا من عرفاتٍ، وهي البقعةُ
(1)
التي أفاض منها سائرُ الناسِ غيرَ الحُمْسِ، وذلك أن قريشًا ومَن ولَدَته قريشٌ، كانوا يقولون: لا نخرُجُ من الحرَمِ. فكانوا لا يشهَدون مَوقِفَ الناسِ بعَرفةَ معهم، فأمرَهم اللَّهُ بالوقوفِ معهم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصنعانيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الطُّفاويُّ، قال: ثنا هشامُ بنُ عُرْوةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: كانت قريشٌ ومَن كان على دينِها، وهم الحُمْسُ، يقِفون بالمُزْدَلفةِ، يقولون: نحن قَطِينُ اللَّهِ
(2)
. وكان مَن سِواهم يقِفُون بعَرفةَ، فأنزَل اللَّهُ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
(3)
.
حدَّثنا عبدُ الوارثِ بنُ عبدِ الصمدِ بنِ عبدِ الوارثِ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا أبانٌ، قال: ثنا هشامُ بنُ عُرْوةَ، عن عُرْوةَ أنه كتَب إلى عبدِ الملكِ بنِ مروانَ: كتبتَ إليَّ في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ من الأنصارِ: "إني أحْمَسُ". وإني لا أدري أقالها النبيُّ أم لا؟ غيرَ أني سمِعتُها تُحدَّثُ عنه. والحُمْسُ ملةُ قريشٍ، وهم مشركون، ومَن
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أي: سكان حرم الله. عارضة الأحوذي 4/ 92.
(3)
أخرجه الترمذي (884) عن محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه الطيالسي (1574)، والبخاري (1665، 4520)، ومسلم (1219)، وأبو داود (1910)، والنسائي (3012)، وفي التفسير (54)، وابن ماجه (3018)، وابن خزيمة (3058)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 354 (1860)، وابن حبان (3856)، وأبو نعيم في الحلية 7/ 138، والبيهقي 5/ 113، والبغوي (1925) من طرق عن هشام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 226 إلى ابن المنذر وأبي نعيم في الدلائل، وعند الطيالسي وابن حبان أنهم كانوا يقفون بمنى.
ولَدَت قريشٌ من
(1)
خُزاعةَ، وبنو
(2)
كِنانةَ، كانوا لا يدفَعون من عَرفةَ، إنما كانوا يدفَعون من المُزْدَلفةِ، وهو المشعَرُ الحرامُ، وكانت بنو عامرٍ حُمْسًا، وذلك أن قريشًا ولَدَتهم، ولهم قيل:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . وأن العربَ كلَّها كانت تُفِيضُ من عَرفةَ إلا
(3)
الحُمْسَ، وكانوا يدفَعون إذا أصبَحوا من المُزْدَلفةِ
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطُّوسِيُّ، قال: ثنا أبو تَوْبةَ، قال: ثنا أبو إسحاقَ الفَزاريُّ، عن سفيانَ، عن حسينِ بنِ عُبيدِ اللَّهِ، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت العربُ تَقِفُ بعَرفةَ، وكانت قريشٌ تقفُ دون ذلك بالمزدَلفةِ، فأنزَل اللَّهُ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . فرفَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم الموقفَ إلى مَوْقِفِ العربِ بعَرفةَ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال. ثنا حَكَّامٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . [قال: كان جماعةُ الناسِ يُفيضون من عرفاتٍ، ويقولُ أهلُ الحرمِ: إنا حُمْسٌ. فكانوا يُفيضون من جمعٍ، فقال اللَّهُ عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}]
(6)
: من حيثُ يُفِيضُ جماعةُ الناسِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا الحَكَمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ،
(1)
في م: "في".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بني".
(3)
في م: "إلى".
(4)
ينظر في المرفوع منه ما تقدم تخريجه في ص 284 وما بعدها.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 227 إلى المصنف.
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
عن [عبدِ اللَّهِ بنِ أبي المُجالِدِ]
(1)
، عن مجاهدٍ، قال: إذا كان يومُ عَرفةَ، هَبَط اللَّهُ إلى السماءِ الدنيا في الملائكةِ، فيقولُ: هلمَّ إليَّ عبادي، آمَنوا بوَعدي، وصدَّقوا رسلي. فيقولُ: ما جزاؤُهم؟ فيقالُ: أن تغفِرَ لهم. فذلك قولُه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . قال: عَرفةُ. قال: كانت قريشٌ تقولُ: نحن الحُمْسُ أهلُ الحرمِ، ولا نخلِفُ
(3)
الحرمَ
(4)
المزدلفةَ. فأُمِروا أن يبلغُوا عَرفةَ
(5)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . قال قتادةُ: وكانت قريشٌ وكلُّ حَليفٍ لهم وبَني أختٍ لهم لا يُفِيضون من عرفاتٍ، إنما يُفِيضون من المُغَمَّسِ
(6)
، ويقولون: إنما نحن أهلُ اللَّهِ فلا نخرُجُ من حَرمِه. فأمَرهم اللَّهُ أن يُفِيضوا من حيثُ أفاض الناسُ من عرفاتٍ، وأخبَرهم أن
(7)
سُنَّةَ إبراهيمَ وإسماعيلَ هكذا الإفاضةُ من عرفاتٍ
(8)
.
(1)
في الأصل: "عبد الملك بن أبي المجالد"، وكتب فوق "الملك":"الله"، وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد الله بن أبي طلحة". وينظر تهذيب الكمال 16/ 27.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 227 إلى المصنف.
(3)
في م، ت 1، ت 3:"تحلف"، وفي ت 2:"تختلف".
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ونفيض من".
(5)
تفسير مجاهد ص 230، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 227 إلى عبد بن حميد.
(6)
المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف. معجم البلدان 4/ 583.
(7)
في الأصل: "أنه".
(8)
عزاه في الدر المنثور 1/ 227 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . قال: كانت العربُ تَقِفُ بعرفاتٍ، فتُعظِمُ قريشٌ أن تَقِفَ معهم، فتَقِفُ قريشٌ بالمزدلفةِ، فأمَرهم اللَّهُ أن يُفِيضوا مع الناسِ من عرفاتٍ.
حدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . قال: كانت قريشٌ وكلُّ ابنِ أختٍ وحليفٍ لهم لا يُفِيضون مع الناسِ من عرفاتٍ، يَقِفون في الحرَمِ ولا يخرُجون منه، يقولون: إنما نحن أهلُ حرَمِ اللَّهِ، فلا نخرُجُ من حرَمِه. فأمَرهم اللَّهُ أن يُفِيضوا من حيثُ أفاض الناسُ، وكانت سنةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ الإفاضةَ من عرفاتٍ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي نجيحٍ، قال: كانت قريشٌ - لا أدري قبلَ الفيلِ أم بعدَه - ابتَدعَت أمْرَ الحُمْسِ رأيًا رأوه بينَهم، قالوا: نحن بنو إبراهيمَ، وأهلُ الحَرَمِ
(1)
، وولاةُ البيتِ، وقاطِنو مكةَ وساكِنوها، فليس لأحدٍ من العربِ مثلُ حقِّنا، ولا مثلُ مَنْزِلتِنا
(2)
، ولا تعرِفُ له العربُ مثلَ ما تَعرِفُ لنا، فلا تُعَظِّموا شيئًا من الحِلِّ كما تُعَظِّمون الحرَمَ، فإنكم إن فعلْتُم ذلك استَخفَّت العربُ بحُرمِكم، وقالوا: قد عظَّموا من الحِلِّ مثلَ ما عظَّموا من الحَرَمِ. فتَرَكوا الوقوفَ على عَرفةَ والإفاضةَ منها، وهم يعرِفون ويُقِرُّون أنها من المشاعِرِ والحَجِّ ودينِ إبراهيمَ، ويَرون لسائرِ العرب
(3)
أن يَقِفوا عليها وأن يُفِيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهلُ الحرَمِ، فليس ينبغي لنا أن نخرُجَ من الحُرْمةِ،
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحرمة".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منزلنا".
(3)
في م: "الناس".
ولا نُعظِّمَ غيرَها كما نُعظِّمُها نحن الحُمْسَ - والحُمْسُ أهلُ الحرَمِ - ثم جعَلوا لمَن ولَدوا من العربِ من ساكِني الحِلِّ مثلَ الذي لهم بولادتِهم إياهم، فيَحِلُّ لهم ما يَحِلُّ لهم، ويَحْرُمُ عليهم ما يَحْرُمُ عليهم، وكانت كِنانةُ وخُزاعةُ قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتَدعوا في ذلك أمورًا لم تكنْ، حتى قالوا: لا ينبغي للحُمْسِ أن يَأْتَقِطُوا
(1)
الأقِطَ، ولا يَسلَئُوا السَّمْنَ وهم حُرُمٌ، ولا يَدخُلوا بيتًا من شَعَرٍ، ولا يستَظِلُّوا إن استظلُّوا إلا في بيوتِ الأدَمِ ما كانوا حُرُمًا
(2)
. ثم رفَعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهلِ الحِلِّ أن يأكُلوا من طعامٍ جاءوا به معهم من الحِلِّ في الحَرَمِ، إذا جاءوا حُجَّاجًا أو عُمَّارًا، ولا يطوفوا بالبيتِ إذا قدِموا أوَّلَ طوافِهم إلا في ثيابِ الحُمْسِ، فإن لم يَجِدوا منها شيئًا طافوا بالبيتِ عُراةً. فحمَلوا على ذلك العربَ فدانَت به، وأخَذوا بما شرَعوا لهم من ذلك، فكانوا على ذلك حتى بعَث اللَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللَّهُ حينَ أحكَم له دينَه، وشرَع له حَجَّتَه:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . يعني قريشًا، والناسُ العربُ، فرفَعهم في سُنَّةِ الحَجِّ إلى عرفاتٍ والوقوفِ عليها والإفاضةِ منها، فوضَع اللَّهُ أمرَ الحُمْسِ، وما كانت قريشٌ ابتَدعَت منه عن الناسِ بالإسلامِ حينَ بعَث اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
حدَّثنا بحرُ بنُ نصرٍ الخَوْلانيُّ
(4)
، قال: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَنا أبنُ أبي الزنادِ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشة [أنها قالت]
(5)
: كانت قريشٌ تَقِفُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يأقطوا". وائْتقطتُ: اتخذت الأقط. الصحاح (أ ق ط).
(2)
في م: "حراما".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 199، 202، 203.
(4)
ليس في: م، ت 1، ت 2، ت 3، وغير منقوطة في الأصل. ينظر تهذيب الكمال 4/ 16.
(5)
في م: "قال".
بقُزَحَ، وكان الناسُ يَقِفون بعَرفةَ. قالت: فأنزَل اللَّهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
(1)
.
وقال آخرون: المخاطبون بقولِه: {ثُمَّ أَفِيضُوا} المسلمون كلُّهم، والمَعْنِيُّ بقولِه:{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} مِن جَمْعٍ، وبالناسِ إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ عليه السلام.
ذكرُ منَ قال ذلك
حُدِّثتُ عن القاسمِ بنِ سلَّامٍ، قال: ثنا مروانُ
(2)
بنُ معاويةَ الفَزاريُّ، عن أبي بِسْطامَ، عن الضَّحاكِ، قال: هو إبراهيمُ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: والذي نراه صَوابًا في تأويلِ هذه الآيةِ [التأويلُ الذي رُوِي عن عائشةَ وابنِ عباسٍ]
(4)
، أنه عُنِي بهذه الآيةِ قريشٌ ومَن كان مُتَحَمِّسًا معها من سائرِ العربِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من أهلِ التأويلِ على أن ذلك تأويلُه.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الآيةِ: فمَن فرَض فيهن الحَجَّ فلا رَفَثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالَ في الحَجِّ، ثم أفِيضوا من حيثُ أفاض الناسُ، واستغفِروا اللَّهَ إن اللَّهَ غفورٌ رحيمٌ، وما تَفعَلوا من خيرٍ يعلَمْه اللَّهُ.
وهذا إذ كان ما وصَفْنا تأويلَه، فهو مِن المُقدَّمِ الذي معناه التأخيرُ، والمؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ، على نحوِ ما تقدَّم بيانُناه في مثلِه، ولولا إجماعُ مَن
(5)
وصَفتُ
(1)
تقدم تخريجه في ص 525.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هارون". وينظر تهذيب الكمال 27/ 403.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 354 (1861) من طريق مروان به.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في الأصل: "ما".
إجماعَه على أن ذلك تأويلُه، لقلتُ: أولى التأويلَين بتأويلِ الآيةِ ما قاله الضَّحاكُ، من أن اللَّهَ عنَى بقولِه:{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} : من حيثُ أفاض إبراهيمُ؛ لأن الإفاضةَ من عرفاتٍ لا شَكَّ أنها قبلَ الإفاضةِ من جَمْعٍ، وقبلَ وجوبِ الذِّكْرِ عندَ المشعرِ الحرامِ. وإذ كان ذلك لا شكَّ كذلك، وكان اللَّهُ عز وجل إنما أمَر بالإفاضةِ من الموضعِ الذي أفاض منه الناسُ بعدَ انقضاءِ ذِكْرِ الإفاضةِ من عرفاتٍ، وبعدَ أمْرِه بذكرِه عندَ المشعرِ الحرامِ [بقولِه:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ]
(1)
. ثم قال بعدَ ذلك: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} - كان معلومًا بذلك أنه لم يأمُرْ بالإفاضةِ إلا من الموضعِ الذي لم يُفِيضوا منه دونَ الموضعِ الذي قد أفاضوا منه، إذ
(2)
كان الموضعُ الذي قد أفاضوا منه، فانقضَى وقتُ الإفاضةِ منه، لا وجهَ لأنْ يقالَ: أفِضْ منه. فإذ كان لا وجهَ لذلك، وكان غيرُ جائزٍ أن يأمُرَ اللَّهُ - جل وعز - بأمرٍ لا معنى له، كانت بيِّنةً صحةُ ما قاله من التأويلِ في ذلك، وفسادُ ما خالَفه، لولا الإجماعُ الذي وصَفناه، وتظاهرُ الأخبارِ بالذي ذكَرنا عمن حكَينا قولَه من أهلِ التأويلِ.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، والناسُ جماعةٌ، وإبراهيمُ واحدٌ، واللَّهُ تعالى ذكرُ يقولُ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ؟
قيل: إن العربَ تفعَلُ ذلك كثيرًا، فَتدُلُّ بذكرِ الجماعةِ على الواحدِ [وبذكرِ الواحدِ على الجماعةِ]
(3)
، ومن ذلك قولُ اللَّهِ عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(3)
سقط من: م، وفي ت 1:"وبذكر الواحد"، وفي ت 3:"وبذكر الواحد على الواحد".
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]. والذي قال ذلك واحدٌ، وهو - فيما تظاهَرَت به الروايةُ من أهلِ السِّيَرِ - نُعَيمُ بنُ مسعودٍ الأشجعيُّ. ومنه قولُ اللَّهِ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]. قيل: عُنِي بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ونظائرُ ذلك في كلامِ العربِ أكثرُ مِن أن تُحْصَى.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} .
يعني جل ثناؤه بذلك: فإذا أفَضْتُم من عَرَفاتٍ مُنصرِفِين إلى مِنًى، فاذْكُروا اللهَ عندَ المشْعَرِ الحرامِ، وادعوه واعبُدوه عندَه، كما ذكَركم بهدايتِه، فوفَّقكم لِما ارتَضَى لخليلِه إبراهيمَ، فهَداه له من شريعةِ دينهِ بعدَ أن كنتم ضُلَّالًا عنه.
وفي {ثُمَّ} في قولِه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} من التأويلِ وجهان: أحدُهما: ما قاله الضحاكُ من أن معناه: ثم أفيضوا فانصرِفوا راجِعين إلى مِنًى من حيثُ أفاض إبراهيمُ خليلي من المشعَرِ الحرامِ، وسَلوني المغفرةَ لذنوبِكم؛ فإني لها غفورٌ، وبكم رحيمٌ.
كما حدَّثني إسماعيلُ بنُ سيفٍ العجليُّ، قال: ثنا عبدُ القاهرِ بنُ السِّرِيِّ السُّلَمِيُّ، قال: حدَّثني ابنٌ لكِنانةَ
(1)
- ويُكْنَى أبا كِنانةَ - عن أبيه، عن العباسِ بنِ مِرْداسٍ السُّلَمِيِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دعَوتُ اللَّهَ يومَ عَرَفةَ أن يَغْفِرَ لأمَّتي ذنوبَها، فأجابَني: إني
(2)
قد غَفَرتُ، إلا ذنوبَها بينَها وبينَ خَلْقي. فأعَدتُ الدعاءَ يومَئذٍ، فلم أُجَبْ بشيءٍ، فلما كان غداةَ المُزْدَلفةِ قلتُ: يا ربِّ، إنك قادرٌ أن تُعَوِّضَ هذا المظلومَ مِن ظُلامتِه، وتَغْفِرَ لهذا الظَّالمِ. فأجابني: إني
(2)
قد غفرتُ".
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كنانة".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن".
قال: فضحِك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قال: فقلنا: يا رسولَ اللَّهِ، رأيناك تضحَكُ في يومٍ لم تَكُنْ تضحَكُ فيه. قال: "ضحِكتُ مِن عدوِّ اللَّهِ إبليسَ لمَّا سمِع بما سمِع، أهوى
(1)
يَدْعُو بالوَيلِ والثُّبورِ، ويَضَعُ الترابَ على رأسِه"
(2)
.
حدَّثني مسلمُ بنُ حاتمٍ الأنصاريُّ، قال: ثنا بَشَّارُ بنُ بُكَيرٍ الحنفيُّ، قال
(3)
: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ أبي رَوَّادٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: خطَبَنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشيَّةَ عَرفةَ، فقال:"أيُّها الناسُ، إن اللَّهَ تَطَوَّلَ عليكم في مَقامِكم هذا، فقَبِل مِن مُحْسِنِكم، وأعطَى مُحْسِنَكم ما سأل، ووَهَب مُسِيئَكم لمُحْسِنِكم إلا التَّبِعاتِ فيما بينَكم، أفِيضوا على اسمِ اللَّهِ". فلما كان غداةَ جَمْعٍ قال: "أيُّها الناسُ، إن اللَّهَ قد تَطَوَّلَ عليكم في مَقامِكم هذا، فقبِل من مُحسِنِكم، ووَهَب مُسِيئَكم لمُحْسِنِكم، والتَّبِعاتُ بينَكم عَوَّضها من عندِه، أفِيضوا على اسمِ اللَّهِ". فقال أصحابُه: يا رسولَ اللَّهِ، أفَضتَ بنا بالأمسِ كئيبًا حزينًا، وأفَضتَ بنا اليومَ فَرِحًا مسرورًا. قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إني سألتُ ربِّي بالأمسِ شيئًا لم يَجُدْ لي به؛ سألتُه التَّبِعاتِ فأبَى عليَّ، فلمَّا كان اليومُ أتاني جبريلُ، وقال: إن ربَّك [يَقْرأُ عليك]
(4)
السلامَ، ويقولُ:
(1)
في م: "إذا هو".
(2)
إسناده ضعيف، أخرجه البخاري في تاريخه 7/ 2، وأبو داود (5234)، وابن ماجه (3013)، والفسوي في المعرفة 1/ 295، وابن أبي عاصم (1390، 1391)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند 26/ 136 (16207)، وأبو يعلى (1578)، والعقيلي 4/ 10، وابن عدي 6/ 2094، والبيهقي 5/ 118، وفي الشعب (346)، والمزي في تهذيب الكمال 14/ 251 من طرق عن عبد القاهر بن السري به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 230 إلى الحكيم الترمذي والطبراني والضياء المقدسي في المختارة.
(3)
في م: "قالا".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقرئك".
التَّبِعاتُ ضَمِنتُ عِوَضَها من عندي"
(1)
.
فقد بيَّن هذان الخبران أن غفرانَ اللَّهِ التَّبِعاتِ التي بينَ خلقِه فيما بينَهم، إنما هو غداةَ جَمْعٍ، وذلك في الوقتِ الذي قال جل ثناؤه:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} . لذنوبِكم؛ فإنه غفورٌ لها حينَئذٍ، تَفَضُّلًا منه عليكم، رحيمٌ بكم.
والآخرُ منهما: ثم أفِيضوا من عَرفةَ إلى المشعَرِ الحرامِ، فإذا أفَضْتم إليه منها، فاذكُروا اللَّهَ عندَه كما هداكم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} .
يعني جل ثناؤه بقولِه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} : فإذا فرَغتم من حَجِّكم، فذبَحتم نَسائِكَكم فاذْكُروا اللهَ.
يقالُ منه: نَسَك الرجلُ يَنْسُكُ نُسْكًا ونُسُكًا ونَسِيكةً ومَنْسَكًا. إذا ذبَح نُسُكَه. والمَنْسِكُ اسمٌ مثلُ المشرقِ والمغربِ.
فأما النُّسْكُ في الدِّينِ، فإنه يقالُ منه: ما كان الرجلُ نَاسِكًا، ولقد نَسَك ونَسُك نَسْكًا ونِسْكًا ونَساكةً. وذلك إذا تَقَرَّأ
(2)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 199 - ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 213 - من طريق مسلم بن حاتم به، وأخرجه ابن الجوزي من طريق عبد الرحيم بن هارون، عن عبد العزيز بن أبي رواد به. قال ابن الجوزي: تفرد به عبد العزيز بن أبي رواد، ولم يتابع عليه
…
وقد رواه عنه اثنان؛ عبد الرحيم بن هارون، قال الدارقطني: متروك الحديث يكذب. والثاني بشار بن بكير، وهو مجهول.
(2)
أي: تنسك وتفقه. الوسيط (ق ر أ).
وبمثلِ الذي قلنا في معنى المناسكِ في هذا الموضعِ قال مجاهدٌ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثني أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} . قال: إِهْراقَةُ الدِّماءِ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وأما قولُه: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . فإن أهلَ التأويلِ اختَلفوا في صفةِ ذكْرِ القومِ آباءَهم الذين أَمَرهم اللَّهُ أن يجعَلوا ذكْرَهم إياه كذكرِهم إياهم
(2)
أو أشدَّ ذكرًا؛ فقال بعضُهم: كان القومُ في جاهليتِهم بعدَ فراغِهم من حَجِّهم ومناسكِهم يجتَمعون فيتَفاخَرون بمآثرِ آبائِهم، فأمَرهم اللَّهُ في الإسلامِ أن يكونَ ذكْرُهم بالثناءِ والشكرِ والتعظيمِ لربِّهم دونَ غيرِه، وأن يُلْزِموا أنفسَهم من الإكثارِ من ذكرِه نظيرَ ما كانوا ألزَموا أنفسَهم في جاهليتِهم من ذكرِ آبائِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا تميمُ بنُ المُنْتصِرِ، قال: أخبرنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، عن القاسمِ بنِ عثمانَ، عن أنسٍ في هذه الآيةِ، قال: كانوا يذكُرون آباءَهم في الحَجِّ، فيقولُ بعضُهم: كان أبي يُطْعِمُ الطعامَ. ويقولُ بعضُهم: كان أبي يَضرِبُ بالسيفِ. ويقولُ بعضهم: كان أبي جَزَّ نواصِيَ بني فلانٍ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 355 (1867) من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 232 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"آباءهم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 232 إلى الفاكهي.
وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ العزيزِ، عن مجاهدٍ، قال: كانوا يقولون: كان آباؤُنا ينحَرون الجُزُرَ، ويفعَلون كذا. قال: فنزَلت هذه الآيةُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} .
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . قال: كان أهلُ الجاهليةِ يذكُرون فَعَالَ آبائِهم
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: سمِعتُ أبا بكرِ بنَ عَيَّاشٍ، قال: كان أهلُ الجاهليةِ إذا فرَغوا من الحَجِّ قاموا عندَ البيتِ، فيذكُرون آباءَهم وأيامَهم: كان أبي يُطْعِمُ الطعامَ، وكان أبي يفعَلُ. فذلك قولُه:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال أبو كُرَيبٍ: قلتُ ليحيى بنِ آدمَ: عمَّن هو؟ قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عيَّاشٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَني حجاجٌ، عمَّن حدَّثه، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكَهم وقَفوا عندَ الجَمرةِ، فذكَروا آباءَهم، وذكَروا أيامَهم في الجاهليةِ وفَعالَ آبائِهم. قال: فنزَلت هذه الآيةُ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن عبدِ الملكِ، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال: كانوا إذا قَضَوا
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 356 عقب الأثر (1870) معلقًا، وينظر تفسير القرطبي 2/ 432.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 232 إلى المصنف وابن المنذر.
مناسكَهم وقَفوا عندَ الجمرةِ، وذكَروا أيامَهم في الجاهليةِ وفَعالَ آبائِهم. قال: فنزلت هذه الآيةُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال: تفَاخَرَت العربُ بينَها بفعلِ آبائِها يومَ النحرِ حينَ فرَغوا، فأُمرُوا بذكْرِ اللَّهِ مكانَ ذلك
(1)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال قتادةُ: كان أهلُ الجاهليةِ إذا قَضَوا مناسكَهم بمِنًى قعَدوا حِلَقًا، فذكَروا صنيعَ آبائِهم في الجاهليةِ وفَعالَهم، به يخطُبُ خطيبُهم، ويُحدِّثُ محدِّثُهم، فأمَر اللَّهُ عز وجل المسلمين أن يذكُروا اللَّهَ كذكرِ أهلِ الجاهليةِ آباءَهم أو أشدَّ ذكرًا.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكَهم اجتمَعوا فافتَخروا وذكَروا آباءَهم وأيامَها، فأُمِروا أن يجعَلوا مكانَ ذلك ذكْرَ اللَّهِ، يذكُرونه كذكرِهم آباءَهم أو أشدَّ ذكرًا
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن خُصيفٍ، عن سعيدِ بنِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 232 إلى المصنف وعبد بن حميد، من تمام الأثر المتقدم في ص 535.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 79.
جُبيرٍ وعِكْرمةَ، قالا: كانوا يذكُرون فعلَ آبائِهم في الجاهليةِ إذا وقَفوا بعَرفةَ، فنزلَت هذه الآيةُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، [قال: ثنا الحسينُ]
(2)
، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: أخبرَني عبدُ اللَّهِ بنُ كثيرٍ أنه سمِع مجاهدًا يقولُ: ذلك يومَ النحرِ حينَ ينحَرون. قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال: كانت العربُ يومَ النحرِ حينَ يفرُغون يَتفاخَرونَ بفَعَالِ آبائِها، فأُمِروا بذكرِ اللَّهِ عز وجل مكانَ ذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكُروا اللَّهَ كذكرِ الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عثمانَ بنِ أبي رَوَّادٍ، عن عطاءٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . قال: هو قولُ الصبيِّ: [يا أباه]
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو
(4)
زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} : يعني بالذِّكْرِ ذكرَ الأبناءِ الآباءَ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 232 إلى المصنف ووكيع.
(2)
سقط من: م.
(3)
في الأصل: "يأ باباه".
(4)
سقط من: م. وينظر تهذيب الكمال 17/ 418.
(5)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 355.
قال لي عطاءٌ: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} : أبَهْ أُمَّهْ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا صالحُ بنُ عمرَ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: كالصبيِّ يَلْهَجُ [بأبيه وأمِّه]
(2)
.
حدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . يقولُ: كذكرِ الأبناءِ الآباءَ أو أشدَّ ذِكْرًا
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . يقولُ: كما يذكُرُ الأبناءُ الآباءَ
(4)
.
حدِّثتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرَنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} : يعني ذكْرَ الأبناءِ الآباءَ.
وقال آخرون: بل قيل لهم: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} . لأنهم كانوا إذا قَضَوا مناسكَهم فدَعَوا ربَّهم، لم يذكُروا غيرَ آبائِهم، فأُمِروا من ذكرِ اللَّهِ نظيرَ ذكْرِ آبائِهم.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 355 عن ابن جريج به.
(2)
في الأصل، ت 3:"بأبيه بأمه".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 356 (1871) من طريق عبد الملك به
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 36 عقب الأثر (1870) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 355 عن المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . قال: كانت العربُ إذا قضَت مناسكَها وأقاموا بمِنًى، يقومُ الرجلُ فيسألُ اللَّهَ ويقولُ: اللهمَّ إن أبي كان عظيمَ الجَفْنةِ، عظيمَ القُبَّةِ، كثيرَ المالِ، فأعطِني مثلَ ما أعطيتَ أبي. ليس يذكُرُ اللَّهَ، إنما يذكُرُ آباءَه، ويسألُ أن يُعْطَى في الدنيا
(1)
.
والصوابُ من القولِ عندي في تأويلِ ذلك أن يقالَ: إن اللَّهَ جل ثناؤه أمَر عبادَه المؤمنين بذكرِه بالطاعةِ له و
(2)
الخضوعِ لأمرِه والعبادةِ له بعدَ قضاءِ مناسكِهم، وذلك الذكرُ جائزٌ أن يكونَ هو التكبيرَ الذي أمَر به جل ثناؤه بقولِه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . الذي أوجَبه على مَن قضَى نُسُكَه بعدَ قضائِه نُسُكَه، فألزَمه حينَئذٍ مِن ذكْرِه ما لم يكنْ له لازمًا قبلَ ذلك، وحَثَّ على المحافظةِ عليه محافظةَ الأبناءِ على ذكرِ الآباءِ في الإكثارِ منه، بالاستكانةِ له، والتَّضَرُّعِ إليه بالرغبةِ منهم إليه في حوائجِهم، تَضَرُّعَ الولدِ لوالدَيه، والصبيِّ لأمِّه وأبيه، أو أشدَّ من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائِهم مِن نعمةٍ فمنه، وهو وَلِيُّه.
وإنما قلنا: الذِّكْرُ الذي أمَر اللَّهُ جل ثناؤه به الحاجَّ بعدَ قضاءِ مناسكِه بقولِه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . جائزٌ أن يكونَ هو التكبيرَ الذي وصَفنا؛ من أجلِ أنه لا ذكرَ للَّهِ أمَر
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 356 عقب الأثر (1870) من طريق عمرو به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
العبادَ به بعدَ قَضاءِ مناسكِهم لم يكنْ عليهم من فرضِه قبلَ قضائِهم مناسكَهم، سوى التكبيرِ الذي خصَّ اللَّهُ به أيامَ مِنًى.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجَب على خلقِه بعدَ قضائِهم مناسكَهم من ذكرِه ما لم يكنْ واجبًا عليهم قبلَ ذلك، وكان لا شيءَ من ذكرِه خَصَّ به ذلك الوقتَ سوى التكبيرِ الذي ذكَرناه، كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا في تأويلِ ذلك على ما وصَفنا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)} .
يعني جل ثناؤه بذلك: فإذا قَضَيتُم مناسِكَكم أيها المؤمنون، فاذْكُروا اللهَ كذِكْرِكم آباءَكم أو أشدَّ ذكرًا، وارغَبوا إليه فيما لديه من خيراتِ الدنيا والآخرةِ بابتهالٍ وَتَمَسْكُنٍ، واجعَلوا أعمالَكم لوجهِه خالصًا ولطلبِ مرضاتِه، وقولوا: ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ. ولا تكونوا كمَن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرةِ، فكانت أعمالُهم للدنيا وزينتِها، فلا يسألون ربَّهم إلا متاعًا
(1)
، ولا حظَّ لهم في ثوابِ اللَّهِ، ولا نصيبَ لهم في جِنانِه وكريمِ ما أعدَّ لأوليائِه. كما قال في ذلك أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} :
(1)
في م: "متاعها".
هَبْ لنا غَنَمًا، هَبْ لنا إبلًا، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، قال: كانوا في الجاهليةِ يقولون: هَبْ لنا غَنَمًا
(2)
. ثم ذكَر مثلَه.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: سمِعتُ أبا بكرِ بنَ عياشٍ يقولُ
(3)
في قولِه: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال: كانوا - يعني أهلَ الجاهليةِ - يقِفُون - يعني بعدَ قضاءِ مناسكِهم - فيقولون: اللهمَّ ارزقْنا إبلًا، اللهمَّ ارزقْنا غَنمًا. فأنزَل اللَّهُ هذه الآيةَ:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال أبو كُرَيبٍ: قلتُ ليحيى بنِ آدمَ: عمَّن هو؟ قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ
(4)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المُنْتصِرِ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن القاسمِ بنِ عثمانَ، عن أنسٍ:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال: كانوا يطوفون بالبيتِ عُراةً فيَدْعُون فيقولون: اللهمَّ اسقِنا المطرَ، وأعطِنا على عدوِّنا الظَّفَرَ، ورُدَّنا صالحِين إلى صالحِين
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حَدَّثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 357 عقب الأثر (1874) معلقًا.
(2)
في م: "إبلا".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 232 إلى المصنف.
الدُّنْيَا}: نصرًا ورزقًا، ولا يَسألون لآخرتِهم شيئًا
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِ اللَّهِ:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} : فهذا عبدٌ نوَى الدنيا؛ لها عمِل ولها نَصِب
(2)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قولِه:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . قال: كانت العربُ إذا قَضَت مناسكَها وأقامت بمِنًى، لا يذكُرُ اللَّهَ الرجلُ منهم، إنما يذكُرُ أباه، ويسألُ أن يُعْطَى في الدنيا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . قال: كانوا أصنافًا ثلاثةً في تلك المواطنِ يومَئذٍ؛ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الكفرِ، وأهلُ النفاقِ، فمِن الناسِ مَن يقولُ:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} . إنما حَجُّوا للدنيا والمسألةِ، لا يريدون الآخرةَ ولا يؤمنون بها، ومنهم مَن يقولُ:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية. قال: والصنفُ الثالثُ وهو: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 230، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 233 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سيأتي بتمامه في ص 548.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 357 عقب الأثر (1874) من طريق عمرو به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 233 إلى المصنف.
وأما معنى "الخَلَاقِ" فقد بيَّناه في غيرِ هذا الموضعِ، وذكَرنا اختلافَ المختلِفين في تأويلِه، والصحيحَ لَدينا من معناه بالشواهدِ من الأدلةِ، وأنه النصيبُ، بما فيه الكفايةُ عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} .
اختلف أهلُ التأويلِ في معنى "الحسنةِ" التي ذكَر اللَّهُ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: يعني بذلك: ومِن الناسِ مَن يقولُ: ربَّنا أَعْطِنا عافيةً في الدنيا، وعافيةً في الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} . قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرةِ عافيةً. قال قتادةُ: وقال رجلٌ: اللهمَّ ما كنتَ مُعاقِبِي به في الآخرةِ فعجِّلْه لي في الدنيا. فمَرِض مرضًا شديدًا
(2)
، حتى أَضْنَى على فراشِه، فذُكِر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم شأنُه، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّه لا طاقةَ لأحدٍ بعُقُوبةِ اللَّهِ، ولكن قُلْ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ". قال
(2)
: فقالها، فما لَبِث إلا أيامًا أو يسيرًا حتى بَرَأ
(3)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 365 وما بعدها.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 80.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا سعيدُ بنُ الحكمِ، قال: أخبرَنا يحيى بنُ أيوبَ، قال: ثنى حُميدٌ، قال: سمِعتُ أنسَ بنَ مالكٍ يقولُ: عاد رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا قد صار مثلَ الفَرْخِ المَنْتوفِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هل كنتَ تَدعُو اللَّهَ بشيءٍ، أو تَسألُ اللَّهَ شيئًا؟ ". قال: قلتُ: اللهمَّ ما كنتَ مُعاقِبي به في الآخرةِ فعاقِبْني به في الدنيا. قال: "سبحانَ اللَّهِ! هل يَستطيعُ ذلك أحدٌ أو يُطيقُه، فهَلَّا قُلْتَ: اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ؟ "
(1)
.
وقال آخرون: بل عَنَى اللَّهُ بالحسنةِ في هذا الموضعِ؛ في الدنيا العلمَ والعبادةَ، وفي الآخرةِ الجنةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عَبّادٌ، عن هشامِ بنِ حسانَ، عن الحسنِ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} . قال: الحسنةُ في الدنيا العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرةِ الجنةُ
(2)
.
(1)
أخرجه عبد بن حميد (1397)، والبخاري في الأدب المفرد (728)، وأبو يعلى (3759، 3802، 3837) من طرق عن حميد، عن أنس، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (973)، وابن أبي شيبة 10/ 261، وأحمد 19/ 105 (12049)، ومسلم (2688)، والترمذي (3487)، والنسائي في الكبرى (7506)، والطحاوي في شرح المشكل (2048)، وابن حبان (936، 941)، وأبو نعيم في الحلية 2/ 329، والبغوي (1383)، وفي التفسير 1/ 177، والبيهقي في الشعب (10147) من طرق عن حميد، عن ثابت، عن أنس، وأخرجه أحمد 21/ 454 (14067)، ومسلم (2688)، والطحاوي في شرح المشكل (2049)، وأبو يعلى (3511) من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 529، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 358، 359 (1879، 1884) من طريق عباد به، وأخرجه الترمذي (3488)، والبيهقي في الشعب (1887) من طريق هشام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 234 إلى عبد بن حميد والمرهبي في فضل العلم.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبرنا هُشَيمٌ، عن سفيانَ بنِ حسينٍ، عن الحسنِ في قولِه:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . قال: العبادةُ في الدنيا، والجنةُ في الآخرةِ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ واقدٍ العطّارُ، قال: ثنا عبّادُ بنُ العوَّامِ، عن هشامٍ، عن الحسنِ في قولِه:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} . قال: الحسنةُ في الدنيا الفهمُ في كتابِ اللَّهِ والعلمُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: سمِعتُ سفيانَ الثوريَّ يقولُ في
(1)
هذه الآيةِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} . قال: الحسنةُ في الدنيا العلمُ والرزقُ الطيّبُ، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}: الجنةُ
(2)
.
وقال آخرون: الحسنةُ في الدنيا المالُ، وفي الآخرةِ الجنةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . قال: فهؤلاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون
(3)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} :
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
عزاه الحافظ في الفتح 11/ 192 إلى ابن المنذر، وهو في تفسير سفيان ص 65، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 358 (1880) عن رجل، عن الحسن به.
(3)
تقدم تخريجه ص 543.
هؤلاء المؤمنون، أما حسنةُ الدنيا فالمالُ، وأما حسنةُ الآخرةِ فالجنةُ
(1)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندي أن يقالَ: إن اللَّهَ جل ثناؤُه أخبَر عن قومٍ من أهلِ الإيمانِ به وبرسولِه، ممن حجَّ بيتَه، أنهم
(2)
يَسألُون ربَّهم الحسنةَ في الدنيا، والحسنةَ في الآخرةِ، وأن يَقِيَهم عذابَ النارِ. وقد تَجْمَعُ الحسنةُ من اللَّهِ عز وجل العافيةَ في الجسمِ والمعاشِ والرزقِ، وغيرِ ذلك، والعلمَ والعبادةَ. وأما في الآخرةِ فلا شكَّ أنها الجنةُ؛ لأن مَن لم يَنَلْها يومَئذٍ، فقد حُرِم جميعَ الحسناتِ، وفارَقَ جميعَ معانِي العافيةِ.
وإنما قلْنا: إن ذلك أَوْلَى التأويلاتِ بالآيةِ؛ لأن اللَّهَ عز وجل لم يَخْصُصْ بقولِه مُخْبِرًا عن قائلِ ذلك من معاني الحسنةِ شيئًا، ولا نَصَب على خصُوصِه دَلالةً دالَّةً على أن المرادَ من ذلك بعضٌ دونَ بعضٍ، فالواجبُ من القولِ فيه ما قلنا، من أنه لا يجوزُ أن يُخَصَّ من معاني ذلك شيءٌ، وأن يُحْكَمَ له
(3)
بعمومِه على ما عمَّه اللَّهُ.
وأما قولُه: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . فإنه يَعني بذلك: اصْرِفْ عنّا عذابَ النارِ. يقالُ منه: وَقَيْتُه كذا أَقِيه وِقايةً ووَقايةً
(4)
، ووِقاءً ممدودًا. ورُبَّما قالوا: وقَاك اللَّهُ وَقْيًا. إذا دافعتَ عنه أذًى أو مكروهًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 234 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "واقية".
يعني جل ثناؤُه بقولِه: {أُولَئِكَ} . الذين يقولون بعدَ قضاءِ مَناسِكِهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . رغبةً منهم إلى اللَّهِ جل ثناؤُه فيما عندَه، وعِلمًا منهم بأن الخيرَ كلَّه من عندِه، وأن الفضلَ بيدِه يُؤْتِيه مَن يشاءُ. فأَعْلَمَ جل ثناؤُه أن لهم نصيبًا وحظًّا من حَجِّهم ومناسِكِهم، وثوابًا جزيلًا على عملِهم الذي كسَبوه وباشَرُوا معاناتِه بأموالِهم
(1)
وأنفسِهم، خاصًّا ذلك لهم دونَ الفريقِ الآخرِ الذين عانَوْا ما عانَوْا من نَصَبِ أعمالِهم وتَعَبِها، وتكَلَّفوا ما تَكَلَّفوا من أسفارِهم بغيرِ
(2)
رغبةٍ منهم فيما عندَ ربِّهم من الأجرِ والثوابِ، ولكن رجاءَ خَسِيسٍ من عَرَضِ الدنيا، وابتغاءَ عاجلِ حُطامِها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} : فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عَمِلَ ولها نَصِب. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}. أي: حظٌّ من أعمالِهم
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} : إنما حَجُّوا للدنيا والمسألةِ، لا يُريدُون الآخرةَ ولا يُؤمِنون بها. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. قال:
(1)
في الأصل، ت 1، ت 3:"بأبدانهم".
(2)
في الأصل، ت 1، ت 3:"لغير".
(3)
أخرج أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 357، 358 (1875، 1883)، من طريق شيبان، عن قتادة بنحوه، وعلق آخره في 2/ 360 عقب الأثر (1889)، وتقدم أوله في ص 543.
فهؤلاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمِنون. {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} : لهؤلاء الأجرُ بما عَمِلوا في الدنيا.
وأما قولُه: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . فإنه يَعني جل ثناؤُه أنه مُحيطٌ بعملِ الفريقَيْن كلَيْهما اللذَيْن مِن مسألةِ أحدِهما: ربَّنا آتِنا في الدنيا. ومن مسألةِ الآخَرِ: ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ. فمُحْصٍ له بأسرعِ الحسابِ، ثم إنه مُجازٍ كلا الفريقَيْن على عملِه.
وإنما وصَف جل ثناؤُه نفسَه بسرعةِ الحسابِ؛ لأنه جل ذكرُه يُحْصِي ما يُحْصِي من أعمالِ عبادِه بغيرِ عقدِ أصابعَ ولا فكرٍ ولا رَوِيّةٍ، فِعْلَ العَجَزةِ الضَّعَفةِ من الخلقِ، ولكنه لا يَخْفَى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا يَعْزُبُ عنه مثقالُ ذَرَّةٍ فيهما، ثم هو مُجازٍ عبادَه على كلِّ ذلك، فلذلك امْتَدَح بسرعةِ الحسابِ، وأخْبَرَ خَلْقَه أنه ليس لهم بمثلٍ فيَحتاجَ في حسابِه إلى عقدِ كفٍّ أو وَعْيِ صَدْرٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .
يعني جل ثناؤُه: اذكُرُوا اللَّهَ بالتوحيدِ والتعظيمِ في أيامٍ مَحْصِيّاتٍ، وهُنَّ أيامُ رَمْيِ الجِمارِ، أمَر عبادَه يومئذٍ بالتكبيرِ أدبارَ الصلَواتِ، وعندَ الرَّمْيِ مع كلِّ حصاةٍ من حَصَى الجِمارِ يُرْمى بها جَمْرةٌ من الجِمارِ.
وبمثلِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . قال: أيامُ
التشريقِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ نافعٍ البصريُّ، قال: أخبرنا غُنْدَرٌ، قال: أخبرنا شعبةُ، عن هُشَيمٍ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} : يعني بالأيامِ المعدوداتِ أيامَ التشريقِ، وهي ثلاثةُ أيامٍ بعدَ النَّحْرِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال ثنى مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} : يعني أيامَ التَّشْريقِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مَخْلَدٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عباسٍ سمِعه يومَ الصَّدَرِ بعدَما صدَر يُكَبِّرُ في المسجدِ، ويَتَأَوَّلُ:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}
(4)
.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن
(1)
أخرجه البيهقي 5/ 228، وفي الشعب (3770) من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 234 إلى الفريابي وعبد بن حميد والمروزي في العيدين وابن مردويه.
(2)
أخرجه الضياء في المختارة (70) من طريق غندر به.
(3)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط 4/ 298، والبيهقي في المعرفة (3276) من طريق محمد بن جعفر به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 360 (1892)، والبيهقي 5/ 228، من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 234 إلى المروزي.
عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} : يعني أيامَ التَّشْريقِ.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ السُّكَّريُّ، قال: أخْبَرَنا إسحاقُ، عن شَريكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ في قولِ اللَّهِ:{أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . قال: هي أيامُ التَّشْريقِ
(1)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن طَلْحةَ بنِ عمرٍو، عن عطاءٍ، مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . قال: أيامُ التشريقِ بمنًى.
حدَّثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن ليثٍ، عن مُجاهِدٍ وعطاءٍ، قالا: هي أيامُ التشريقِ.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مَنْصورٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن
(1)
ذكره ابن المنذر في الأوسط 4/ 297، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361 عقب الأثر (1895) معلقًا.
(2)
تفسير سفيان ص 56، ومن طريقه البيهقي 5/ 228، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 234 إلى ابن أبي الدنيا والمحاملي في أماليه.
إبراهيمَ، قال: الأيامُ المعْدوداتُ أيامُ التَّشْريقِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: أخبرنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخْبَرَنا يونُسُ، عن الحسنِ، قال: الأيامُ المعدوداتُ الأيامُ بعدَ النَّحْرِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سأَلْتُ إسماعيلَ بنَ أبي خالدٍ عن الأيامِ المعدوداتِ، فقال: أيامُ التَّشْريقِ.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} : كنا نُحَدَّثُ أنها أيامُ التَّشْريقِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . قال: هي أيامُ التشريقِ
(3)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما الأيامُ المعدوداتُ فهي أيامُ التشريقِ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(5)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، عن مالكٍ، قال: الأيامُ المعدوداتُ
(1)
تفسير سفيان ص 66.
(2)
ذكره ابن المنذر في الأوسط 4/ 297، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361 عقب الأثر (1895) معلقًا.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 81.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361 عقب الأثر (1895) من طريق عمرو بن حماد به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361 عقب الأثر (1895) من طريق ابن أبي جعفر به.
ثلاثةُ أيامٍ بعدَ يومِ النحرِ
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: أخْبَرَنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضَّحَّاكَ يقولُ في قولِه: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . قال: أيامُ التشريقِ الثلاثةُ
(2)
.
حدَّثني ابنُ البَرْقيِّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبي سلَمةَ، قال: سألتُ ابنَ زيدٍ عن الأيامِ المعدوداتِ والأيامِ المعلوماتِ، فقال: الأيامُ المعدوداتُ أيامُ التَّشْريقِ، والأيامُ المعلوماتُ يومُ عرَفةَ، ويومُ النحرِ، وأيامُ التَّشْريقِ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وإنما قلْنا: إن الأيامَ المعدوداتِ هي أيامُ مِنًى، وأيامُ رَمْيِ الجِمارِ؛ لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولُ فيها: إنها أيامُ ذِكْرِ اللَّهِ.
ذكرُ بعضِ الأخبارِ التي رُوِيَتْ بذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ وخَلّادُ بن أَسلمَ، قالا
(4)
: ثنا هُشَيمٌ، عن عمرَ بنِ أبي سلَمةَ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أيامُ التَّشْريقِ أيامُ طُعْمٍ وذِكْرٍ"
(5)
.
(1)
الموطأ 1/ 404.
(2)
ذكره ابن المنذر في الأوسط 4/ 297، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361 عقب الأثر (1895) معلقًا.
(3)
ينظر تفسير القرطبي 3/ 3.
(4)
في م، ت 1:"قال".
(5)
أخرجه ابن حبان (3602) من طريق يعقوب - وحده - به. وأخرجه أحمد 12/ 35 (7134)، وأبو يعلى (6024)، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 245 من طريق هشيم به، وأخرجه أحمد 15/ 7 (9020) من طريق عمر به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 21، وابن ماجه (1719)، وأبو يعلى (5913)، وابن حبان (3601) من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به.
حدَّثنا خَلَّادٌ، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا صالحٌ، قال: ثنى ابنُ شِهابٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعَث عبدَ اللَّهِ بنَ حُذافةَ يطوفُ في مِنًى:"لا تَصُومُوا هذه الأيامَ؛ فإنَّها أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكْرٍ للَّهِ"
(1)
.
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضَّلِ، وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيّةَ، قالا
(2)
جميعًا: ثنا خالدٌ، عن أبي قِلابةَ، عن أبي المَلِيحِ، عن نُبَيْشةَ
(3)
، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ هذه الأيامَ أيّامُ أكْلٍ وشُربٍ وذِكْرِ اللَّهِ"
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيم، عن ابنِ أبي ليلَى، عن عطاءٍ، عن عائشةَ، قالت: نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن صومِ أيّامِ التشريقِ، وقال:"هي أيّامُ أكلٍ وشُربٍ وذكرِ اللَّهِ"
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 16/ 389، 534 (10664، 10917)، والنسائي في الكبرى (2883)، وابن المنذر في الأوسط 4/ 298، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 244، من طريق روح به. وقال النسائي: صالح هذا هو ابن أبي الأخضر وحديثه هذا خطأ، وهو كثير الخطأ عن الزهري، وروح بن عبادة ليس بالقوى، وأخرجه مالك 1/ 376 - ومن طريقه النسائي في الكبرى (2884) - عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.
(2)
في م: "قال".
(3)
في م: "عائشة". وينظر تهذيب الكمال 29/ 315.
(4)
أخرجه النسائي (4243)، وفي الكبرى (4182) من طريق يعقوب به، وأخرجه أبو داود (2830)، والنسائي (4240) من طريق بشر بن المفضل به، وأخرجه أحمد 5/ 75 (الميمنية)، ومسلم (1141)، والبيهقي في المعرفة (2599) من طرق عن ابن علية به، وأخرجه أحمد 5/ 76 (الميمنية)، ومسلم (1141)، وأبو داود (2813)، والدارمي (1964)، والنسائي (4241، 4242)، وابن ماجه (3160، 3167)، والطحاوي 2/ 245، والبيهقي 9/ 292، وفي المعرفة (2598)، وابن عبد البر في التمهيد 3/ 217 من طرق عن خالد به.
(5)
أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 2/ 244 من طريق هشيم به.
حدثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن عبدِ الملكِ بنِ أبي سليمانَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعَث بشرَ بنَ سُحَيْمٍ، فنادَى في أيامِ التشريقِ، فقال:"إنَّ هذه الأيامَ أيامُ أكلٍ وَشُربٍ وذكرِ اللَّهِ"
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن سفيانَ بنِ حسينٍ، عن الزُّهْرِيِّ، قال: بعث رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عبدَ اللَّهِ بنَ حُذافةَ بنِ قيسٍ، فنادَى في أيامِ التشريقِ، فقال:"إنّ هذه الأيامَ أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكْرٍ للَّهِ، إلّا مَن كان عليه صَوْمٌ مِنْ هَدْيٍ"
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيّةَ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن حَكيمِ بنِ حَكيمٍ، عن مسعودِ بنِ الحكمِ الزُّرَقِيِّ، عن أمِّه، قالت: لَكأنِّي أَنظُرُ إلى عليٍّ، على بغلةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البيضاءِ حينَ وقَف على شِعْبِ الأنصارِ وهو يقولُ:"أيُّها الناسُ، إنَّها ليستْ بأيامِ صيامٍ، إنَّما هي أيامُ أكْلٍ وشُربٍ وذِكْرٍ"
(3)
.
فإن قال قائلٌ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذ قال في أيامِ مِنًى: "إنها أيامُ أكْلٍ وشُربٍ وذِكْرِ اللَّهِ". لم يُخْبِرْ أُمّتَه أنها الأيامُ المعدوداتُ التي ذكَرها اللَّهُ في كتابِه، فما تُنْكِرُ أن
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى (2898) من طريق داود بن عمرو به، وأخرجه أحمد 4/ 335 (الميمنية)، والدارمي (1773)، والنسائي (5009)، وفي الكبرى (2895)، وابن أبي عاصم (997)، وابن خزيمة (2960)، وابن قانع 1/ 79، والطبراني (1213 - 1215) من طرق عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن بشر به، وينظر مسند الطيالسي (1395).
(2)
تقدم تخريجه في ص 427، 428.
(3)
أخرجه ابن سعد 2/ 187 من طريق ابن علية به. وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 19، والنسائي في الكبرى (2886)، وأبو يعلى (461)، وابن خزيمة (2147)، والطحاوي في شرح المعاني 2/ 246، والحاكم 1/ 434، 435 من طرق عن محمد بن إسحاق به.
وأخرجه أحمد 2/ 116 (708)، والنسائي في الكبرى (2887، 2888) من طرق عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن مسعود بن الحكم به.
يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنَى بقولِه: "وذكرِ اللَّهِ"
(1)
. الأيامَ المعلوماتِ؟
قيل: غيرُ جائزٍ أن يكونَ عَنَى اللَّهُ ذلك؛ لأن اللَّهَ لم يكنْ يُوجبُ في الأيامِ المعلوماتِ مِن ذِكْرِه فيها ما أَوْجب في الأيامِ المعدوداتِ، وإنما وصَف المعلوماتِ جل ذكرُه بأنها أيامٌ يُذْكَرُ فيها اسمُ اللَّهِ على بهائمِ الأنعامِ، فقال:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. فلم يُوجب في الأيامِ المعلوماتِ مِن ذِكْرِه كالذي أَوْجَبه في الأيامِ المعدوداتِ مِن ذِكْرِه، بل أَخبَر أنها أيامُ ذكرِه على بهائمِ الأنعامِ، فكان معلومًا - إذ قال صلى الله عليه وسلم لأيامِ التشريقِ:"إنَّها أيامُ أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ". فَأَخرَج قولَه: "وذكرِ اللَّهِ". مُطْلَقًا بغيرِ شرطٍ ولا إضافةٍ إلى أنه الذكرُ على بهائمِ الأنعامِ - أنه عَنَى بذلك الذكرَ الذي ذكَره اللَّهُ في كتابِه، فأَوْجَبه على عبادِه مُطْلَقًا بغيرِ شرطٍ، ولا إضافةٍ إلى معنًى في الأيامِ المعدوداتِ، وأنه لو كان أرادَ بذلك صلى الله عليه وسلم وَصْفَ الأيامِ المعلوماتِ به، لوَصَل قولَه:"وذكرٍ". إلى أنه ذِكْرُ اسمِ
(2)
اللَّهِ على ما رزَقنا من بهائمِ الأنعامِ، كالذي وصَفَ اللَّهُ به ذلك، ولكنه أَطلَقَ ذلك باسمِ الذكْرِ من غيرِ وَصْلِه بشيءٍ، كالذي أَطْلَقه تبارك وتعالى باسمِ الذكرِ، فقال:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . فكان ذلك من أوضحِ الدليلِ على أنه عَنَى بذلك ما ذكَره اللَّهُ في كتابِه وأَوْجَبه في الأيامِ المعدوداتِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} .
(1)
بعده في الأصل: "في".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: فمن تَعَجَّلَ في يومَيْن من أيام التَّشْريقِ، فَنَفَر في اليومِ الثاني، فلا إِثْمَ عليه في نَفْرِه وتَعَجُّلِه في النَّفْرِ، ومن تأخَّر عن النَّفْرِ في اليومِ الثاني مِن أيامِ التَّشْريقِ إلى اليومِ الثالثِ حتى يَنْفِرَ في اليومِ الثالثِ، فلا إثْمَ عليه في تأخُّرِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيرِيُّ، قال: ثنا هُشَيمٌ
(1)
، عن عطاءٍ، قال: لا إثمَ عليه في تعجيلِه، ولا إثمَ عليه في تأخيرِه
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن عوفٍ، عن الحسنِ مثلَه
(3)
.
حدثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن مُغيرةَ، عن عكرمةَ مثلَه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} : يوم النَّفْرِ {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : لا حرَجَ عليه {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}
(5)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
بعده في الأصل: "عن الحجاج". وينظر تهذيب الكمال 20/ 88، 30/ 273.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 362 عقب الأثر (1901) معلقًا.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (356 - تفسير) عن هشيم به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 60 من طريق أشعث بن عبد الله، عن الحسن.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 362 عقب الأثر (1901) معلقًا.
(5)
تفسير مجاهد ص 230.
السدِّيِّ: أمّا {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ} . يقولُ: مَن نَفَر في يومَيْن فلا جُناحَ عليه، ومَن تأخَّر فنَفَر في الثالثِ فلا جُناحَ عليه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} . أي: من أيامِ التشريقِ فلا إثمَ عليه، ومَن أَدركَه الليلُ بمِنًى من اليومِ الثاني من قبلِ أن يَنْفِرَ، فلا نَفْرَ له حتى تزولَ الشمسُ من الغدِ، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. يقولُ: مَن تأخَّر إلى اليومِ الثالثِ من أيامِ التَّشْريقِ فلا إثمَ عليه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: رخَّص اللَّهُ في أن يَنْفِرُوا في يومَيْن منها إن شاءوا، ومَن تأخَّر في اليومِ الثالثِ فلا إثمَ عليه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ أنه قال في هذه الآيةِ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: في تَعْجِيلِه
(3)
.
حدَّثنا هَنّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: لا إثمَ
(4)
على مَن تَعَجَّل، ولا إثمَ على مَن تأخَّر.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: هذا في التعجيلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 362 عقب الأثر (1901) من طريق عمرو به.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 81.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (357 - تفسير) عن أبي عوانة، عن منصور به.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليه لا إثم".
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ وإسرائيلُ، عن زيدِ بنِ جبيرٍ، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقولُ: حلَّ النَّفْرُ في يومَيْن لمن اتَّقَى
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن ابنِ أبي ليلَى، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : في تعجيلِه
(2)
، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}: في تأخيرِه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ جريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: أَلِلْمَكِّيِّ أن يَنْفِرَ في النَّفْرِ الأولِ؟ قال: نعم، قال اللَّهُ عز وجل:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} . فهي للناسِ أجمعين
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: ليس عليه إثمٌ.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} : بعدَ يومِ النَّحْرِ، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. يقولُ: مَن نفَر مِن مِنًى في يومَيْن بعدَ النَّحْرِ فلا إثمَ عليه، ومَن تأخَّر
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى المصنف والفريابي.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تعجله".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تأخره".
والأثر أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 236 - ومن طريقه ابن أبي شيبة 4/ 59، 60، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 362 (1902)، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 3/ 13 عن عطاء.
(1)
: فلا حرَجَ عليه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . في تَعَجُّلِه، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}: في تأخُّرِه.
وقال آخرون: بل معناه: فمَن تَعَجَّل في يومَيْن فهو مغفورٌ له لا إثمَ عليه، ومَن تأخَّر فكذلك
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بن إسحاقَ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ثُوَيرٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: ليس عليه إثمٌ.
حدَّثنا ابنُ بشّارٍ
(4)
، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حَمّادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللَّهِ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: غُفِر له، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. قال: غُفِر له
(5)
.
(1)
بعده في م: "في تأخيره".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361، 362 (1896، 1904) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى وكيع وابن المنذر.
(3)
في م: "كذلك".
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يسار".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 59، والطبراني (9028) من طريق سفيان به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361، 362 (1898، 1903) من طريق حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى وكيع والفريابي.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغفاريُّ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن حَمّادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللَّهِ نحوَه.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا المُحاربيُّ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، جميعًا عن سفيانَ، عن حَمّادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللَّهِ في قولِه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: قد غُفِر له.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن سفيانَ، عن حَمّادٍ، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : قد غُفِر له
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن حَمّادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللَّهِ، قال في هذه الآيةِ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: بَرِئَ من الإثمِ.
حدَّثنا ابنُ بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سَلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن الحسنِ، عن ابنِ عمرَ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: رجَع مغفورًا له
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابنُ عُلَيّةَ، عن لَيثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال:
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361، 362 عقب الأثر (1898، 1903) معلقًا.
(2)
سقط من: الأصل.
والأثر أخرجه البيهقي 5/ 152 من طريق حماد بن سلمة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
قد غُفِر له
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن جابرٍ، عن أبي عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: قد غُفِر له، إنهم يَتأوَّلُونها على غيرِ تأويلِها، إن العُمرةَ لَتُكَفِّرُ ما معها من الذنوبِ، فكيف بالحجِّ
(2)
؟
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي حَصينٍ، عن إبراهيمَ وعامرٍ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قالا: غُفِر له
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: ثنى مَن أصدِّقُه، عن ابنِ مسعودٍ قولَه:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: خرَج من الإثْمِ كلِّه. {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: بَرِئَ من الإثمِ كلِّه، وذلك في الصَّدَرِ عن الحجِّ. قال ابنُ جريجٍ: وسَمِعْتُ رجلًا يُحدِّثُ
(4)
عطاءَ بنَ أبي رَباحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أنه قال:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: غُفِر له {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : غُفِر له
(5)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا [أسودُ بنُ سَوادةَ]
(6)
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (358 - تفسير) من طريق يزيد بن أبي مريم عن مجاهد به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى المصنف.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361، 362 عقب الأثر (1898، 1903) معلقًا.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(5)
قول ابن مسعود عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى المصنف وسفيان بن عيينة وعبد بن حميد، وقول عليٍّ عزاه إلى المصنف.
(6)
كذا في النسخ، والصواب:"سوادة بن أبي الأسود". ينظر تهذيب الكمال 12/ 231 ومصدر التخريج.
القَطّانُ، قال: سمِعتُ معاويةَ بنَ قُرَّةَ قال: خرَج مِن ذنوبِه
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمَن تَعَجَّلَ في يومَيْن فلا إثمَ عليه، ومَن تأخَّر فلا إثمَ عليه فيما بينه وبين السَّنةِ التي بعدَها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسحاقُ
(2)
بنُ يحيى بنِ طلحةَ، قال: سألتُ مجاهدًا عن قولِ اللَّهِ عز وجل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: لمَن في الحجِّ، ليس عليه إثمٌ حتى الحجِّ من عامِ قابلٍ
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: فلا إثمَ عليه إن اتَّقَى اللَّهَ فيما بَقِيَ من عُمُرِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةِ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: ذهَب إثمُه كلُّه إن اتَّقَى فيما بَقِيَ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبي
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 60 من طريق سوادة بن أبي الأسود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى وكيع وابن المنذر.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:" أبو إسحاق". وينظر تهذيب الكمال 2/ 489.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 60، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 361، 362 (1899، 1905) من طريق إسحاق بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى وكيع.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 363 (1908) من طريق أبي جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 237 إلى عبد بن حميد.
العاليةِ مثلَه.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال: لمن اتَّقَى، بشرطٍ.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : لا جُناحَ عليه، ومَن تأخَّر إلى اليومِ الثالثِ فلا جُناحَ عليه لمن اتَّقَى. وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: وَدِدْتُ أنِّي من هؤلاء ممن يُصيبُه اسمُ التَّقْوَى.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: هي في مصحفِ عبدِ اللَّهِ: (لمَن اتَّقَى اللهَ)
(1)
.
حدثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : فلا حرَجَ عليه. يقولُ: لمن
(2)
اتَّقَى معاصيَ اللَّهِ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمَن تَعَجَّل في يومَيْن من أيامِ التَّشْريقِ فلا إثمَ عليه. أي: فلا حَرَجَ عليه في تعجيلِه النَّفْرَ إن هو اتَّقَى قتلَ الصيدِ حتى يَنْقَضِيَ اليومُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى المصنف وابن المنذر. والقراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 363 (1906) من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح به.
الثالثُ، ومَن تأخَّر إلى اليومِ الثالثِ فلم يَنْفِرْ، فلا حرَجَ عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرَنا محمدُ بنُ أبي صالحٍ: لمن اتَّقَى أن يُصِيبَ شيئًا من الصيدِ حتى يَمْضِيَ اليومُ الثالثُ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : ولا يحِلُّ له أن يَقْتُلَ صيدًا حتى تَخْلُوَ أيامُ التَّشْريقِ.
وقال آخرون: بل معناه: فمَن تَعَجَّلَ في يومَيْن من أيامِ التشريقِ فنفَر فلا إثمَ عليه، أي: مغفورٌ له، ومَن تأخَّر فنفَر في اليومِ الثالثِ فلا إثمَ عليه، أي: مغفورٌ له، إن اتَّقَى على حَجِّه أن يُصيبَ فيه شيئًا نهاه اللَّهُ عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِمَنِ اتَّقَى} . قال: يقولُ: لمن اتَّقَى على حَجِّه. قال قتادةُ: ذُكِر لنا أن ابنَ مسعودٍ كان يقولُ: مَن اتَّقَى في حَجِّه غُفِر له ما تَقَدَّم من ذنبِه، أو ما سلَف من ذنبِه
(1)
.
وأَوْلَى هذه الأقوالِ بالصحةِ قولُ من قال: تأويلُ ذلك: فمن تَعَجَّل في يومَيْن من أيامِ مِنًى الثلاثةِ، فنفَر في اليومِ الثاني، فلا إثمَ عليه لِحَطِّ اللَّهِ ذنوبَه، إن كان قد اتَّقَى اللَّهَ في حجِّه، فاجتنَب فيه ما أمَره اللَّهُ باجتنابِه، وفعَل فيه ما أمَره اللَّهُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 236 إلى المصنف.
بفعلِه، وأطاعَه بأدائِه على ما كَلَّفه من حدودِه. ومَن تأخَّر إلى اليومِ الثالثِ منهن، فلم يَنْفِرْ إلى النَّفْرِ الثاني حتى نفَر من غدٍ النَّفْرَ الأولَ، فلا إثمَ عليه لتكفيرِ اللَّهِ له ما سلَف من آثامِه وأجرامِه، إن كان اتَّقَى اللَّهَ في حجِّه بأدائِه بحدودِه.
وإنما قلْنا: إن ذلك أَوْلَى تأويلاتِه به؛ لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ، خَرَجَ مِن ذُنُوبِه كيومِ وَلَدَتْه أُمُّه"
(1)
.
وأنه قال صلى الله عليه وسلم: "تابِعُوا بينَ الحَجِّ والعُمرَةِ، فإنهما يَنْفِيان الذُّنُوبَ كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفِضَّةِ".
حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، عن عاصمٍ، عن شَقيقٍ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تابِعُوا بينَ الحَجِّ والعُمرةِ، فإنَّهما يَنْفِيان الفَقرَ وَالذُّنُوبَ كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفِضَّةِ، وليس للحَجَّةِ المَبْرُورةِ ثوابٌ دُونَ الجَنَّةِ"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا الحكَمُ بنُ بَشيرٍ، عن عمرِو بنِ قيسٍ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن عبدِ اللَّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصّبّاح، قال: ثنا ابنُ عُيينةَ، عن عاصمِ بنِ عُبيدِ اللَّهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ، عن أبيه، عن عمرَ يَبْلُغُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "تابعُوا بينَ
(1)
ينظر ما تقدم تخريجه في ص 489 وما بعدها.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 74، وأحمد 16/ 185 (3669)، والترمذي (810)، والنسائي (2630)، وفي الكبرى (3610)، وأبو يعلى (4976، 5236)، وابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، والطبراني (10406)، وأبو نعيم في الحلية 4/ 110، والبغوي (1843) من طرق عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان به. وينظر السلسلة الصحيحة (1200).
الحَجِّ والعُمرةِ، فإنَّ [المتابعةَ بينهمَا]
(1)
ينفيان
(2)
الفَقْرَ والذُّنوبَ كما يَنفِي الكِيرُ الخَبثَ، أوْ خبثَ الحديدِ"
(3)
.
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سعدُ بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا ابنُ أبي الزِّنادِ، عن موسى بنِ عُقبةَ، عن صالحٍ مولى التَّوْأمةِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا قَضَيْتَ حَجَّكَ فأنتَ مِثْلُ ما وَلَدَتْكَ أُمُّكَ".
وما أَشبهَ ذلك من الأخبارِ التي يطولُ بذكرِ جميعِها الكتابُ، مما يُنْبِئُ عن أنَّ مَن حجَّ فقضاه بحدودِه على ما أمَره اللَّهُ، فهو خارجٌ مِن ذنوبِه، كما قال جل ثناؤه:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}
(4)
في حجِّه، فكان في ذلك من قولِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما يُوَضِّحُ عن أن معنَى قولِه - جل وعز -:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أنه خارجٌ من ذنوبِه، محطوطةٌ عنه آثامُه، مغفورةٌ له أَجرامُه. و [أنه لا]
(5)
معنى لقولِ مَن تأوَّل قولَه: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : فلا حرَج عليه في نَفْرِه في اليومِ الثاني، ولا حرَجَ عليه في مُقامِه إلى اليومِ الثالثِ؛ لأن الحرَجَ إنما يُوضَعُ عن العاملِ فيما كان عليه تَركُ عملِه، فيُرَخَّصُ له في عملِه بوضعِ الحَرَجِ عنه في عملِه، أو فيما كان عليه عملُه، فيُرَخَّصُ له في تركِه بوضعِ الحرجِ عنه
(6)
. فأما ما كان على العاملِ عملُه، فلا
(1)
في م: "متابعة ما بينهما".
(2)
في م، ت 2:"ينفي".
(3)
أخرجه ابن ماجه (2887)، والحميدي (17)، وأبو يعلى في (198) من طريق سفيان بن عيينة به، وأخرجه ابن ماجه (2887) من طريق عبيد الله بن عمر، عن عاصم به، وأخرجه أحمد 1/ 303 (167) عن سفيان به، ولم يذكر في الإسناد عامر بن ربيعة.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".
(5)
في الأصل: "ألا"، وفي ت 2، ت 3:"أن لا".
(6)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في تركه".
وَجْهَ لوضعِ الحرَجِ عنه فيه إن هو عَمِله، وفرضُه عملُه؛ لأنه محالٌ أن يكونَ المؤدِّي فرضًا عليه حَرِجًا بأدائِه، فيجوزَ أن يقالَ: قد وضَعْنا عنك فيه الحَرجَ.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان الحاجُّ لا يخلُو عندَ مَن تأوَّلَ قولَه:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : فلا حَرَجَ عليه، أو فلا جُناحَ عليه؛ من أن يكونَ فرضُه النَّفْرَ في اليومِ الثاني من أيامِ التشريقِ، فوُضِع عنه الحرَجُ في المُقامِ، أو أن يكونَ فرضُه المُقامَ إلى اليومِ الثالثِ منها، فوُضِع عنه الحَرجُ في نفرِه في اليومِ الثاني، فإن يَكُنْ فرضُه في اليومِ الثاني من أيامِ التشريقِ المُقامَ إلى اليومِ الثالثِ منها، فوُضِع عنه الحَرجُ في نَفْرِه في اليومِ الثاني منها، وذلكَ هو التَّعَجُّلُ الذي قيل:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . فلا معنى لقولِه على تأويلِ مَن تأوَّلَ ذلك: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : فلا جُناحَ عليه، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ؛ لأن المتأخِّرَ إلى اليومِ الثالثِ إنما هو متأخِّرٌ عن
(1)
أداءِ فرضٍ عليه، تاركٌ قَبولَ رخصةِ النَّفْرِ، فلا وجهَ لِأَنْ يُقالَ: لا حرَجَ عليك في مُقامِك على أداءِ الواجبِ عليك. لما وصَفْنا قبلُ، أو يكونَ فرضُه في اليومِ الثاني النَّفْرَ، فرُخِّص له في المُقامِ إلى اليومِ الثالثِ، فلا معنى أن يُقالَ: لا حرَجَ عليك في تَعَجُّلِكَ النَّفْرَ الذي هو فَرَضُك وعليك فعلُه. للذي قَدَّمْنا من العِلّةِ.
وكذلك لا معنى لقولِ مَن قال: معناه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : فلا حرَجَ عليه في نَفْرِه ذلك، إن اتَّقَى قتلَ الصيدِ إلى انقضاءِ اليومِ الثالثِ؛ لأن ذلك لو كان تأويلًا مسلَّمًا لقائلِه، لكان في قولِه:{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . ما يُبْطِلُ دَعْواه؛ لأنه لا خلافَ بينَ الأُمّةِ في أن الصيدَ للحاجِّ بعدَ نَفْرِه من مِنًى في اليومِ الثالثِ حلالٌ، فما الذي من أجلِه وُضِع عنه الحرَجُ بقولِه:
(1)
في الأصل: "على".
{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . إذا هو تأخَّر إلى اليومِ الثالثِ ثم نَفَر، هذا معَ إجماعِ الحُجَّةِ على أن المُحْرمَ إذا رمَى وذبَح وحلَق وطاف بالبيتِ فقد حَلَّ له كلُّ شيءٍ، وتَصْريحُ الروايةِ المرويَّةِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِ ذلك، التي حدَّثنا بها هَنّادُ بنُ السَّريِّ الحَنْظَلِيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ، عن حَجّاجٍ، عن أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ، عن عَمرةَ، قالت: سألتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين، متى يُحِلُّ المُحْرِمُ؟ فقالت: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا رَمَيْتُمْ، وذَبَحْتُم وحَلَقْتُم حَلَّ لكم كُلُّ شيءٍ إلا النساءَ"
(1)
. قال: وذكَر الزُّهْرِيُّ، عن عَمرةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(2)
.
وأما الذي تأوَّل ذلك أنه بمعنى: فلا إثمَ عليه إلى عامِ قابلٍ. فلا وجهَ لتحديدِ ذلك بوقتٍ، وإسقاطِه الإثمَ عن الحاجِّ سنةً مستقبَلَةً، دونَ آثامِه السالفةِ؛ لأنَّ اللَّهَ جل ثناؤُه لم يَحْصُرْ ذلك على نَفْيِ إثمِ وقتٍ مستقبَلٍ بظاهرِ التنزيلِ، ولا على لسانِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام، بل دَلالةُ ظاهرِ التنزيلِ تُبِينُ عن أنَّ المتعجِّلَ في اليومَيْن والمتأخِّرَ لا إثمَ على كلِّ واحدٍ منهما في حالِه التي هو بها دونَ غيرِها من الأَحوالِ، والخبرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُصرِّحُ بأنه بانقضاءِ حجِّه على ما أُمِر به خارجٌ من ذنوبِه كيومِ ولَدَتْه أمُّه. ففي ذلك من دلالةِ ظاهرِ التنزيلِ، وصريحِ قولِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم دلالةٌ واضحةٌ على فسادِ قولِ من قال: معنى قولِه: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : فلا إثمَ عليه من وقتِ انقضاءِ حجِّه إلى عامِ قابلٍ.
(1)
أخرجه الدارقطني 2/ 276 من طريق عبد الرحيم بن سليمان به، وأخرجه الدارقطني 2/ 276، والبيهقي 5/ 136 من طرق عن الحجاج بن أرطاة به.
(2)
أخرجه أبو داود (1978) من طريق الزهري به، وقال أبو داود: هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه.
فإن قال لنا قائلٌ: ما الجالبُ للَّامِ في قولِه: {لِمَنِ اتَّقَى} وما معناها؟
قيل: الجالبُ لها معنى قولِه: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ؛ لأن في قولِه: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} معنى: حطَطْنا ذُنوبَه وكفَّرْنا آثامَه، فكان في ذلك معنى: جعَلْنا تكفيرَ الذنوبِ لمن اتَّقَى اللَّهَ في حجِّه. فتُرك ذِكْرُ: جعَلْنا تكفيرَ الذنوبِ. اكتفاءً بدَلالةِ قولِه: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} .
وقد زعَم بعضُ نحويِّي البصرةِ أنه كأنه إذا ذكَر هذه الرخصةَ فقد أخبَر عن أمرٍ، فقال:{لِمَنِ اتَّقَى} أي: هذا لمن اتَّقَى.
وأنكَرَ بعضُهم ذلك من قولِه، وزعَم أن الصفةَ
(1)
لا بدَّ لها من شيءٍ تَتَعلَّقُ به؛ لأنها لا تقومُ بنفسِها، ولكنها فيما زعَم من صلةِ قولٍ متروكٍ، فكان معنى الكلامِ عنده
(2)
: قلْنا: مَن تأخَّر فلا إثمَ عليه لمن اتَّقَى. وقام قولُه: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} مَقامَ القولِ.
وزعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أن موضعَ طَرْحِ الإثمِ في المتعجِّلِ، فجُعِل في المتأخِّرِ - وهو الذي أَدَّى ولم يُقَصِّرْ - مثلُ ما جُعِل على المقصِّرِ، كما يقالُ في الكلامِ: إن تصدَّقْتَ سرًّا فحَسَنٌ، وإن أظْهرْتَ فحَسَنٌ. وهما مختلِفان؛ لأن المتصدِّقَ علانيةً إذا لم يَقْصِدِ الرياءَ فحَسَنٌ، وإن كان الإسرارُ أحسنَ، وليس في وصفِ حالتَيِ المتصدِّقَيْن بالحُسْنِ وصفُ إحداهما بالإثمِ، وقد أخبرَ اللَّهُ عز وجل عن النافرَيْن بنفيِ الإثمِ عنهما، ومُحالٌ أن يَنْفِيَ عنهما إلا ما كان في تَرْكِه الإثمُ، على ما تأوَّله قائلو هذه المقالةِ. وفي إجماعِ الجميعِ على أنهما جميعًا لو تَرَكا النَّفْرَ، وأقاما بمِنًى لم يكونا
(1)
يعني بالصفة: حرف الجر.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".
آثمَيْن، ما يدُلُّ على فسادِ التأويلِ الذي تأوَّلَه مَن حَكَيْنا عنه هذا القولَ.
وقال أيضًا: وفيه وجهٌ آخرُ، وهو معنى نَهْيِ الفريقَيْن عن أن يُؤثِّمَ أحدُ الفريقَيْن الآخرَ، كأنه أراد بقولِه:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} : لا يَقُلِ المتعجِّلُ للمتأخِّرِ: أنتَ آثمٌ. ولا المتأخِّرُ للمتعجِّلِ: أنتَ آثمٌ. بمعنى: فلا يُؤَثِّمَنّ أحدُهما الآخرَ.
وهذا أيضًا تأويلٌ لقولِ جميعِ أهلِ التأويلِ مخالِفٌ، وكَفَى بذلك شاهدًا على خَطَئِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} .
يعني بذلك جل ثناؤُه: واتقوا اللَّهَ أيها المؤمنون فيما فرَض عليكم مِن فرائضِه، فخافُوه في تَضْيِيعِها والتفريطِ فيها، وفيما نهاكم عنه في حَجِّكم ومَناسِكِكم أن تَرْتَكِبُوه أو تَأْتُوه، وفيما كَلَّفكم في إحرامِكم لحجِّكم أن تُقَصِّرُوا في أدائِه والقيامِ به، واعلَموا أنكم إليه تُحشَرون، فمُجازِيكم هو بأعمالِكم؛ المحسنَ منكم بإحسانِه، والمُسِيءَ بإساءتِه، ومُوَفٍّ كلَّ نفسٍ منكم ما عَمِلتْ وأنتم لا تُظْلَمون.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} .
وهذا نعتٌ من اللَّهِ تعالى ذكرُه للمنافقِين، يقولُ جلَّ ثناؤُه: ومن الناسِ مَن يُعجِبُك يا محمدُ ظاهرُ قولِه وعلانيتُه، ويَستشهِدُ اللَّهَ على ما في قلبِه، وهو ألدُّ الخصامِ، جَدِلٌ بالباطلِ.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في مَن نزَلت فيه هذه الآيةُ؛ فقال بعضُهم: نزَلتْ في الأَخْنَسِ بنِ شَرِيقٍ، قَدِم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فزعَم أنه يريدُ الإسلامَ، وحلَف أنه ما قَدِم
إلا لذلك، ثم خرَج فأفسدَ أموالًا من أموالِ المسلمين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} قال: نزَلتْ في الأخنسِ بنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، وهو حليفٌ لبني زُهْرةَ، وأقبَلَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ، فأظهَر له الإسلامَ، فأعجَب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئتُ أريدُ الإسلامَ، واللَّهُ يعلَمُ أني صادقٌ. وذلك قولُه:{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . ثم خرَج من عندِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمرَّ بزَرْعٍ لقومٍ من المسلمين وحُمُرٍ، فأَحرَقَ الزرعَ، وعقَر الحُمُرَ، فأنزلَ اللَّهُ:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} . وأما {أَلَدُّ الْخِصَامِ} : فأعْوَجُ
(1)
الخِصامِ، وفيه نزَل:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]. ونزَلتْ فيه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} إلى
(2)
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}
(3)
[القلم: 10 - 13].
وقال آخرون: بل نزَل ذلك في قومٍ من أهلِ النفاقِ، تكلَّموا في السَّرِيّةِ التي أُصِيبتْ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالرَّجِيعِ.
(1)
في الأصل: "فاعوجاج".
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 364 - 367 (1913، 1917، 1923) وعقب (1930) من طريق عمرو به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 238 إلى ابن المنذر دون الآيات في آخره، وقد عزاها السيوطي في الدر المنثور 6/ 250، 392 إلى ابن أبي حاتم.
ذكر مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو
(1)
عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما أُصِيبت هذه السَّرِيةُ، أصحابُ خُبَيْبٍ، بالرَّجيعِ بينَ مكةَ والمدينةِ، قال
(2)
رجالٌ من المنافقِين: يا ويحَ هؤلاء المقتولِين الذين هَلَكوا هكذا، لا هم قعَدوا في بيوتِهم، ولا هم أدَّوْا رسالةَ صاحبِهم. فأَنزل اللَّهُ في ذلك من قولِ المنافقِين، وما أصاب أولئك النَّفَرَ من الشهادةِ والخيرِ من اللَّهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أي: بما
(3)
يُظهِرُ بلسانِه من الإسلام، {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أي: من النفاقِ، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي: ذو جدالٍ إذا كلَّمَك وراجَعَك، {وَإِذَا تَوَلَّى} أي: خرَج من عندِك، {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي: لا يُحِبُّ عملَه ولا يرضاه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . الذين شَرَوْا أنفسَم للَّهِ بالجهادِ في سبيلِه، والقيامِ بحقِّه حتى هلَكوا على ذلك؛ يعني هذه السَّرِيةَ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي محمدٍ مولى زيدِ بنِ ثابتٍ، عن عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، أو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما أُصيبتِ السَّريةُ التي كان فيها عاصمٌ ومَرثدٌ
(1)
في الأصل: "و".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فقال".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".
بالرَّجيعِ، قال رجالٌ من المنافقِين. ثم ذكَر نحوَ حديثِ أبي كُريبٍ
(1)
.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك جميعَ المنافقِين، وعَنَى بقولِه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . اختلافَ سَريرتِه وعَلانيتِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ أبي مَعْشَرٍ، قال: أخبرَني أبي أبو مَعْشَرٍ نَجيحٌ، قال: سَمِعْتُ سعيدًا المَقْبُرِيَّ يُذاكرُ محمدَ بنَ كعبٍ، فقال سعيدٌ: إن في بعضِ الكتبِ أن للَّهِ عبادًا ألسنتُهم أحلى من العسلِ، وقُلوبُهم أمرُّ من الصَّبِرِ، لَبِسوا لِباسَ
(2)
مُسُوكِ
(3)
الضَّأنِ من اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدنيا بالدينِ، قال اللَّهُ: أعليَّ يَجْتَرِئُون، وبي يَغْتَرُّون؟ وعِزَّتي لأَبْعَثَنَّ عليهم فتنةً تترُكُ الحليمَ منهم حيرانَ. فقال محمدُ بنُ كعبٍ: هذا في كتابِ اللَّهِ. فقال سعيدٌ: وأين هو من كتابِ اللَّهِ؟ قال: قولُ اللَّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} . فقال سعيدٌ: قد عرَفْتُ في مَن أُنزِلتْ هذه الآيةُ. فقال محمدُ بنُ كعبٍ: إن الآيةَ تَنزِلُ في الرجلِ، ثم تكونُ بعدَه عامّةً
(4)
.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 174، 175، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 363 - 369، (1910، 1914، 1918، 1924، 1935، 1941) من طريق سلمة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 238 إلى ابن المنذر.
(2)
في م: "للناس".
(3)
المسوك، جمع المَسْك، وهو الجلد. اللسان (م س ك).
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (361 - تفسير) - ومن طريقه البيهقي في الشعب (6956) - =
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرَني الليثُ بنُ سعدٍ، عن خالدِ بنِ يزيدَ، عن سعيدِ بنِ أبي هلالٍ، عن القُرَظِيِّ، عن نَوْفٍ، وكان يقرأُ الكتبَ، قال: إني لأَجِدُ صفةَ ناسٍ من هذه الأُمّةِ في كتابِ اللَّهِ المنزَّلِ، قومٌ يحتالون الدنيا بالدينِ، ألسنتُهم أحلى من العسلِ، وقلوبُهم أمرُّ من الصَّبِرِ، يَلْبَسون
(1)
لباسَ مُسُوكِ الضّأنِ، وقلوبُهم قلوبُ الذئابِ، فعليَّ يَجْتَرِئون، وبي يَغْتَرُّون؟ حلَفْتُ بنفسي لأَبْعَثَنَّ عليهم فتنةً تترُكُ الحليمَ فيها
(2)
حيرانَ. قال القُرَظِيُّ: تَدَبَّرْتُها في القرآنِ فإذا هم المنافقون، فوجَدْتُها:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}
(3)
[الحج: 11].
حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . قال: هو المنافقُ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} . قال: علانيتُه في الدنيا، {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} في الخصومةِ أنما يريدُ الحقَّ
(5)
.
= عن أبي معشر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 364 (1912) من طريق حمزة بن جميل الربذي، عن أبي معشر به مرفوعًا.
(1)
بعده في م: "للناس".
(2)
في م: "فيهم".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 359 عن المصنف.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 81، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 364 (1916) عن الحسن به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 364 (1915) من طريق ابن أبي نجيح به.
حُدِّثْتُ عن عمّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . قال: هذا عبدٌ كان حسنَ القولِ سيِّئَ العملِ، كان
(1)
يَأْتِي رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيُحسِنُ له القولَ، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . قال: يقولُ قولًا، في قلبِه غيرُه، واللَّهُ يعلَمُ ذلك.
قال أبو جعفرٍ: وفي قولِه: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} وجهان مِن القراءةِ؛ فقرأته عامةُ القرأةِ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . بمعنى أن المنافقَ الذي يُعْجِبُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قولُه، يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبِه أن قولَه موافقٌ اعتقادَه، وأنه مؤمنٌ باللَّهِ ورسولِه، وهو كاذبٌ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} إلى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} : كان رجلٌ
(3)
يَأتِي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيقولُ: أَيْ رسولَ اللَّهِ، أَشهدُ أنك جئتَ بالحقِّ والصدقِ من عندِ اللَّهِ. قال: حتى يُعْجَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولِه، ثم يقولُ: أما واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ، إن اللَّهَ ليَعلمُ أن ما في قلبي مثلُ ما نطَق به لساني. فذلك قولُه:{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . قال: هؤلاء المنافقون. وقرَأ قولَ اللَّهِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} . حتى بلَغ:
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 363 (1911) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(3)
سقط من: الأصل، ت 2، ت 3.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. بما يَشْهَدُون أنك رسولي
(1)
.
وقال السديُّ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . يقولُ: اللَّهُ يَعلَمُ أني صادقٌ، أني أريدُ الإسلامَ.
حدَّثني بذلك موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عنه
(2)
.
وقال مجاهدٌ: ويُشهِدُ اللَّهَ في الخصومةِ أنما يريدُ الحقَّ.
حدَّثني بذلك محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عنه
(3)
.
وقرأ ذلك آخرون: (وَيَشْهَدُ اللَّهُ على ما في قلبه). بمعنى: واللَّهُ يَشْهَدُ على الذي في قلبِه من النفاقِ، وأنه مُضْمِرٌ في قلبِه غيرَ الذي يُبدِيه بلسانِه، وعلى كذبِه في قيلِه
(4)
. وهو قراءةُ ابنِ مُحَيْصِنٍ
(5)
. وعلى ذلك المعنى تأوَّله ابنُ عباسٍ، وقد ذكَرْنا الروايةَ عنه بذلك فيما مضى في حديثِ أبي كُريبٍ، عن يونسَ بنِ بُكَيرٍ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ الذي ذكَرْناه آنفًا.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 359.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 364 (1917) من طريق عمرو به. وينظر ما تقدم في ص 572.
(3)
تقدم تخريجه في ص 575.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قلبه".
(5)
قرأ بها أيضًا الحسن، ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 94، وابن محيصن هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي، مقرئ أهل مكة مع ابن كثير. مات سنة ثلاث وعشرين ومائة بمكة، وقال القصاع وسبط الخياط: سنة اثنتين وعشرين. ينظر غاية النهاية 2/ 167.
والذي نختارُ في ذلك من القراءةِ
(1)
قراءةُ مَن قرَأ: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . بمعنى: يَسْتشهِدُ اللَّهَ على ما في قلبِه؛ لإجماعِ الحجةِ مِن القرأةِ عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} .
والأَلَدُّ من الرجالِ: الشديدُ الخصومةِ، يقالُ في "فعَلْتَ" منه: قد لَدِدْتَ يا هذا ولم تكنْ أَلَدَّ، فأنت تَلَدُّ لَدَدًا ولَدادةً. فأما إذا غلَب مَن خاصمَه، فإنما يقالُ فيه: لدَدْتَ يا فلانُ فلانًا فأنتَ تلُدُّه لَدًّا، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
ثُمَّ [ارْدِ بي وبهما]
(3)
مَنْ تُرْدِي
نَلُدُّ
(4)
أَقْرانَ الخُصُومِ اللُّدِّ
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويلُه أنه ذو جِدالٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ بنُ أبي محمدٍ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . أي: ذو جدالٍ إذا كلَّمَك وراجعَك
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . يقولُ: شديدُ القسوةِ في معصيةِ اللَّهِ، جَدِلٌ بالباطلِ، إذا شِئْتَ رأيتَه
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قول القرأة".
(2)
معاني القرآن للفراء 1/ 123 بتقديم الثاني على الأول، غير منسوبين، والبيت الثاني في اللسان (ل د د).
(3)
في م، ت 1:"أردى وبهم"، وفي ت 2، ت 3:"أردى وبهما".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تلد"، وفي معاني القرآن:"اللد"، وفي اللسان:"ألد".
(5)
تقدم مطولًا في ص 573.
عالمَ اللسانِ، جاهلَ العملِ، يتكلَّمُ بالحكمةِ، ويعملُ بالخطيئةِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . قال: جَدِلٌ بالباطلِ
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه غيرُ مستقيمِ الخصومةِ ولكنه مُعْوَجُّها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . قال: ظالمٌ لا يَستقيمُ
(3)
.
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبرَني عبدُ اللَّهِ بنُ كَثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال:"الأَلَدُّ الخصامِ": الذي لا يستقيمُ على خصومةٍ
(4)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَلَدُّ الْخِصَامِ} : أَعْوَجُ الخصامِ
(5)
.
قال أبو جعفرٍ: وكلا هذين القولين متقارِبُ المعنى؛ لأنَّ الاعوجاجَ في الخصومةِ من الجدالِ واللَّدَدِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 365 (1922) من طريق شيبان، عن قتادة بنحوه.
(2)
تفسير عبد الرزاق ص 81.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 365 (1921) من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 239 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط ص 114 بنحوه.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 365 (1923) من طريق عمرو به.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذبٌ في قولِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا وكيعٌ، عن بعضِ أصحابِه، عن الحسنِ، قال:"الأَلَدُّ الخِصامِ": الكاذبُ القولِ
(1)
.
وهذا القولُ يَحتمِلُ أن يكونَ معناه معنى القولَيْن الأَوَّلَيْن، إن كان أراد به قائلُه أنه يُخاصِمُ بالباطلِ من القولِ والكذبِ منه؛ جدَلًا واعْوِجاجًا عن الحقِّ.
وأما الخِصامُ، فهو مصدرٌ من قولِ القائلِ: خاصَمْتُ فلانًا خِصامًا ومُخاصمةً. وهذا خبرٌ من اللَّهِ تبارك وتعالى عن المنافقِ الذي أخبَر نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يُعجِبُه - إذا تكلَّمَ - قيلُه ومَنْطِقُه، ويَسْتشهِدُ اللَّهَ على أنه مُحِقٌّ في قيلِه ذلك؛ بشدةِ خصمومتِه وجدلِه بالباطلِ والزُّورِ من القولِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى} : وإذا أَدْبَر هذا المنافقُ من عندِك يا محمدُ مُنْصَرِفًا عنك.
كما حدَّثنا به ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ بنُ أبي محمدٍ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أو عكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا تَوَلَّى} . قال: يعني: وإذا خرَج من عندِك سَعَى
(2)
.
وقال بعضُهم: معناه: وإذا غَضِب.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 365 (1920) من طريق عاصم، عن الحسن به.
(2)
تقدم تخريجه في ص 574.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجّاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ في قولِه: {وَإِذَا تَوَلَّى} . قال: إذا غَضِب.
فمعنى الآيةِ: وإذا خرَج هذا المنافقُ من عندِك يا محمدُ غَضْبانَ، عَمِل في الأرضِ بما حرَّم اللَّهُ عليه، وحاول فيها معصيةَ اللَّهِ، وقَطْعَ الطريقِ، وإفسادَ السُّبلِ على عبادِ اللَّهِ، كما قد ذكَرْنا آنفًا من فعلِ الأخنسِ بنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، الذي ذكَر السدِّيُّ أن فيه نزلَتْ هذه الآيةُ؛ من إحراقِه زُروعَ المسلمِين وقَتْلِه حُمُرَهم.
والسَّعْيُ في كلامِ العربِ: العملُ، يقالُ منه: فلانٌ يَسْعَى على أهلِه. يعني به: يعْمَلُ فيما يعودُ عليهم نفعُه. ومنه قولُ الأعشى
(1)
:
وسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غيرِ مُوَاكِلٍ
…
قَيْسٌ فضَرَّ عَدُوَّها وبَنَى لهَا
يعني بذلك: عَمِل لها في المكارمِ.
وكالذي قلْنا في ذلك كان مجاهدٌ يقولُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} . قال: عَمِل
(2)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الإفسادِ الذي أضافَه اللَّهُ إلى هذا المنافقِ؛ فقال بعضُهم: تأويلُه ما قلْنا فيه من قَطْعِه الطريقَ وإخافتِه السبيلَ، على ما قد ذكَرْنا
(1)
ديوانه ص 31.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 366 (1926) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 239 إلى عبد بن حميد مطولًا.
قبلُ من فعلِ الأخنسِ بنِ شَرِيقٍ.
وقال بعضُهم: بل معنى ذلك: قَطْعُ الرَّحِمِ وسَفْكُ دماءِ المسلمين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابنِ جريجٍ في قولِه:{سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} : قَطَعَ الرَّحِمَ، وسَفَكَ الدماءَ؛ دماءَ المسلمين، فإذا قيل: لِمَ تَفعلُ كذا وكذا؟ قال: أَتقرَّبُ به إلى اللَّهِ.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقالَ: إن اللَّهَ وصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولَّى مُدبِرًا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرضِ اللَّهِ بالفسادِ، وقد يَدخُلُ في الإفسادِ جميعُ المعاصي، وذلك أن العملَ بالمعاصي إفسادٌ في الأرضِ، ولم يَخْصُصِ اللَّهُ وصْفَه ببعضِ معاني الإفسادِ دونَ بعضٍ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك الإفسادُ منه كان بمعنى قَطْعِ الطريقِ، [وجائزٌ أن يكونَ كان يقطَعُ الرحمَ ويسفِكُ الدماءَ]
(1)
، وجائزٌ أن يكونَ كان غيرَ ذلك، وأيُّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرضِ؛ لأن ذلك كان منه للَّهِ معصيةٌ، غيرَ أن الأَشبهَ بظاهرِ التنزيلِ أن يكونَ كان يقطعُ الطريقَ، ويُخِيفُ السبيلَ؛ لأن اللَّهَ وصَفَه في سياقِ الآيةِ بأنه يسعَى في الأرضِ ليُفسِدَ فيها، ويُهلِكَ الحرثَ والنَّسْلَ، وذلك بفعلِ مُخيفي السُّبُلِ، أشبهُ منه بفعلِ قُطّاعِ الرَّحِمِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في وجهِ إهلاكِ هذا المنافقِ - الذي وصَفَه اللَّهُ بما وصَفَه به
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
من صفتِه
(1)
- الحرثَ والنسلَ؛ فقال بعضُهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرعِ قومٍ من المسلمين، وعَقْرًا لحُمُرِهم.
حدَّثني بذلك موسى، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ
(2)
.
وقال آخرون بما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عَثّامٌ، قال: ثنا النَّضْرُ بنُ عَرَبيٍّ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} الآية. قال: إذا ولَّى
(3)
سعى بالعَدَاءِ
(4)
والظلمِ، فيَحبِسُ اللَّهُ بذلك القطرَ، فيُهْلِكُ الحرثَ والنسلَ، واللَّهُ لا يحبُّ الفسادَ. قال: ثم قرأ مجاهدٌ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. قال: ثم قال: أَمْ
(5)
واللَّهِ ما هو بَحْرَكم هذا، ولكنْ كلُّ قريةٍ على ماءٍ جارٍ فهو بَحْرٌ
(6)
.
والذي قاله مجاهدٌ وإن كان مذهبًا من التأويلِ تَحتمِلُه الآيةُ، فإن الذي هو أشبهُ بظاهرِ التنزيلِ من التأويلِ ما ذكَرْنا عن السدِّيِّ، فلذلك اخترْناه.
وأما الحرثُ فإنه الزرعُ، والنسلُ: العَقِبُ والولَدُ، وإهلاكُه الزرعَ: إحراقُه. وقد يجوزُ أن يكونَ كما قال مجاهدٌ باحتباسِ القطرِ من أجلِ معصيتهِ ربَّه، وسَعْيِه بالإفسادِ في الأرضِ. وقد يحتمِلُ أن يكونَ كان بقَتْلِه القُوَّامَ به والمتعاهدِين له، حتى
(1)
في م: "صفة إهلاك".
(2)
تقدم تخريجه في ص 572.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تولى". وهما بمعنى.
(4)
في م: "في الأرض بالعدوان".
(5)
في م، ت:"أما". و"أم" هنا حرف افتتاح للتنبيه بمنزلة "ألَا" و"أما". ينظر خزانة الأدب 11/ 64.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 (1931) من طريق النضر بن عربي به مختصرًا، وسيأتي مرة أخرى في تفسير الآية (41) من سورة الروم.
فسَد فهلَك. وكذلك جائزٌ في معنى إهلاكِه النسلَ أن يكونَ كان بقَتْلِه أُمّهاتِه أو آباءَه التي منها يكونُ النسلُ، فيكونُ في قتلِه الآباءَ والأمهاتِ انقطاعُ نسلِهما. وجائزٌ أن يكونَ كما قال مجاهدٌ، غيرَ أن ذلك وإن كان محتمِلتُه الآيةُ، فالذي هو أَوْلَى بظاهرِها ما قاله السديُّ، غيرَ أن السديَّ ذكَر أن الذي نزلتْ فيه هذه الآيةُ إنما نزَلتْ فيه
(1)
في قتلِه حُمُرًا لقومٍ مسلمين، وإحراقِه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكونَ كذلك، فغيرُ فاسدٍ أن تكونَ الآيةُ نزَلتْ فيه والمرادُ بها كلُّ مَن سلَك سبيلَه في قَتْلِ كلِّ ما قَتَل من الحيوانِ الذي لا يَحِلُّ قتلُه بحالٍ، والذي يحِلُّ قتلُه في بعضِ الأحوالِ، إذا قتَله بغيرِ حقٍّ، بل ذلك كذلك عندي؛ لأن اللَّهَ لم يَخْصُصْ من ذلك شيئًا دونَ شيءٍ، بل عَمَّه.
وبالذي قلْنا في عمومِ ذلك قالتْه جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بَشّارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن التَّميمِيِّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} . قال: [الحرثُ الحرثُ، والنسلُ]
(2)
نَسْلُ كلِّ دابّةٍ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ عطيةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، أنه سأل ابنَ عباسٍ، قال: قلتُ: أرأيتَ قولَه: {الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} ؟ قال: الحرثُ حرثُكم، والنسلُ نسلُ كلِّ دابّةٍ
(3)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 (1930، 1933) من طريق إسرائيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 239 إلى وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن الحرثِ والنسلِ، فقال: الحرثُ مما تَحرُثُون، والنسلُ نسلُ كلِّ دابّةٍ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عمرٍو، عن مُطرِّفٍ، عن أبي إسحاقَ، عن رجلٍ من تميمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} : أمَّا النسلُ، فنَسْلُ كلِّ دابّةٍ، والناسِ أيضًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنى عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} . قال: نباتَ الأرضِ، {وَالنَّسْلَ}: مِن كلِّ شيءٍ
(2)
من الحيوانِ، من الناسِ والدوابِّ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} قال: [الحرثُ الحرثُ]
(4)
، والنّسلُ نسلُ كلِّ شيءٍ
(5)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاكِ، قال: الحرثُ النباتُ، والنسلُ نسلُ كلِّ دابّةٍ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 (1934) عن محمد بن سعد به.
(2)
في م: "دابة تمشي"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"دابة شيء".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 239 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"نبات الأرض".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 81.
حدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} . قال: الحرثُ الذي يَحْرُثُه الناسُ؛ نباتُ الأرضِ، {وَالنَّسْلَ}: نسلُ كلِّ دابّةٍ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} . قال: الحرثُ الزرعُ، والنَّسلُ من الناسِ والأنعامِ. قال: يَقتُلُ نسلَ الناسِ والأنعامِ
(2)
. قال: وقال مجاهدٌ: يَبْتَغِي في الأرضِ هلاكَ الحرثِ؛ نباتِ الأرضِ، والنسلِ مِن كلِّ شيءٍ من الحيوانِ
(3)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبرَنا يزيدُ، قال: أخبرَنا جويبرٍ، عن الضّحّاكِ في قولِه:{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} . قال: الحرثُ الأصل، والنسلُ نسلُ
(4)
كلِّ دابّةٍ، والناسُ منهم
(5)
.
حدَّثني ابنُ عبدِ الرحيمِ البَرْقيُّ، قال: ثنا عمرُو
(6)
بنُ أبي سلَمةَ، قال: سُئل سعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ عن فسادِ الحرثِ والنسلِ، وما هما، و
(7)
أيُّ حرثٍ وأيُّ نسلٍ؟ قال سعيدٌ: قال مكحولٌ: الحرثُ ما تحرُثون، وأما النسلُ فنسلُ كلِّ دابةٍ
(8)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 عقب الأثر (1933) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 366 (1927) من طريق حجاج به مختصرًا.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 عقب الأثر (1934) معلقًا.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 (1932) من طريق علي بن الحكم، عن الضحاك مختصرًا.
(6)
في م: "عمر".
(7)
سقط من: م.
(8)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شيء".
والأثر ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 367 عقب الأثر (1930، 1933) معلقًا.
وقد قرأ بعضُ القرأةِ: (ويُهْلِكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ)
(1)
برفعِ "يُهْلِكُ" بمعنى: ومن النَّاسِ مَنْ يُعجِبُك قولُه فِي الحياةِ الدُّنيا، ويُشهِدُ اللَّهَ على ما فِي قلبِه وهو ألَدُّ الخصامِ، ويُهْلِكُ الحرثَ والنَّسلَ، وإذا تولَّى سعَى في الأرضِ ليُفسِدَ فِيها، واللَّهُ لا يُحِبُّ الفسادَ. فيَرُدُّ "وَيُهْلِكُ" على {وَيُشْهِدُ} عطفًا به عليه.
وذلك قراءةٌ عندي غيرُ جائزةٍ وإن كان لها مَخرجٌ في العربيةِ؛ لمخالفتِها ما عليه الحجةُ مُجمِعةٌ من القراءةِ في ذلك
(2)
، وأن ذلك في قراءةِ أُبيِّ بنِ كعبٍ ومُصْحفِه فيما [ذُكِر لنا]
(3)
: (ليُفْسِدَ فيها ولِيُهْلِكَ الحرثَ والنسلَ)
(4)
. وذلك من أدلِّ الدليلِ على تصحيحِ قراءةِ من قرَأ ذلك: {وَيُهْلِكَ} بالنصبِ عطفًا به على {لِيُفْسِدَ فِيهَا} .
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: واللَّهُ لا يحبُّ المعاصيَ، وقطعَ السبلِ، وإخافةَ الطرقِ، [والفسادَ]
(5)
.
والفسادُ: مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: فسَد الشيءُ يفسُدُ. نظيرُ قولِهم: ذهَب يَذهَبُ ذَهابًا. ومن العربِ مَن يجعَلُ مصدرَ "فسَد" فُسُودًا، ومصدرَ "ذَهَب يَذهَبُ" ذُهوبًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ
(1)
البحر المحيط 2/ 116.
(2)
بعده في م: "قراءة ويهلك الحرث والنسل"، وبعده في ت 1، ت 2، ت 3:"ويهلك الحرث والنسل".
(3)
في م: "ذكرنا".
(4)
القراءة غير متواترة، ينظر إعراب القرآن للنحاس 1/ 250، والبحر المحيط 2/ 116.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}.
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: وإذا قيل لهذا المنافقِ الذي نَعَت نعتَه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأخبرَه أنه يُعجِبُه قولُه في الحياةِ الدنيا: اتَّقِ اللَّهَ، وخَفْه في إفسادِك في أرضِ اللَّهِ، وسَعْيِك فيها بما حرَّم اللَّهُ عليك من معاصِيه، وإهلاكِك حُروثَ المسلمين ونسلَهم. اسْتَكْبرَ ودخلَتْه عِزَّةٌ وحَمِيّةٌ بما حرَّم اللَّهُ عليه، فتمادَى في غَيِّه وضلالِه. قال اللَّهُ جل ثناؤُه: فكفاه عقوبةً من غَيِّه وضلالِه صِلِيُّ نارِ جهنمَ، وبئسَ المِهادُ هي لصالِيها.
واختلَف أهلُ التأويلِ في مَن عَنَى بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عَنَى بها كلَّ فاسقٍ
(1)
منافقٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ بَزِيعٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا بِسْطامُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا أبو رَجاءٍ العُطارِديُّ، قال: سمِعتُ عليًّا في هذه الآيةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . قال عليٌّ: اقْتَتَلا وربِّ الكعبةِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} إلى قولِه: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . قال: كان عمرُ بنُ الخطابِ إذا صلّى السُّبْحَةَ
(3)
وفرَغ، دخَل
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
أخرجه الخطيب 11/ 135 من طريق جعفر بن سليمان به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 368 (1937) من طريق أبي رجاء العطاردي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى وكيع وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه.
(3)
السبحة: صلاة النافلة. اللسان (س ب ح).
مِرْبَدًا
(1)
له، فأَرْسَل إلى فتيانٍ قد قرَءوا القرآنَ، منهم ابنُ عباسٍ وابنُ أخي عُيَيْنَةَ. قال: فيَأْتُون فيَقْرَءون القرآنَ وَيَتدارَسونه، فإذا كانت القائلةُ انْصَرف. قال: فمرُّوا بهذه الآيةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} ، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. قال ابنُ زيدٍ: وهؤلاء المجاهدون في سبيلِ اللَّهِ. فقال ابنُ عباسٍ لبعضِ مَن كان إلى جنبِه: اقْتَتَل الرجلان. فسمِع عمرُ ما قال، فقال: وأيَّ شيءٍ قلتَ؟ قال: لا شيءَ يا أميرَ المؤمنين. قال: ماذا قلتَ: اقْتَتل الرجلان؟ قال: فلمَّا رأَى ذلك ابنُ عباس قال: أَرَى ههنا مَن إذا أُمِر بتقوى اللَّهِ أخَذتْه العِزَّةُ بالإثمِ، وأَرَى مَن يَشْرِي نفسَه ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ، يَقومُ هذا فَيأْمُرُ هذا بتقوى اللَّهِ، فإذا لم يَقْبَلْ وأخَذتْه العزَّةُ بالإثمِ، قال هذا: وأنا أَشْرِي نفسي. فقاتَلَه، فاقْتَتَل الرجلان. فقال عمرُ: للَّهِ تِلادُك
(2)
يابنَ عباسٍ
(3)
.
وقال آخَرون: بل عنَى بها الأخنسَ بنَ شَرِيقٍ، وقد ذكَرْنا مَن قال ذلك فيما مضَى.
وأمَّا قولُه: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، فإنه يعني به: لبِئسَ الفِراشُ والوِطاءُ جهنَمُّ التي أَوْعَدها جلَّ ثناؤُه هذا المنافقَ، ووطَّأها لنفسِه بنفاقِه وفجورِه وتمرُّدِه على ربِّه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: ومِن الناسِ مَن يبيعُ نفسَه بما وعَد اللَّهُ المجاهدين في
(1)
المربد: كالحجرة في الدار. اللسان (ر ب د).
(2)
في ت 2: "بلادك".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى المصنف.
سبيلِه، وابتاع به أنفسَهم بقولِه:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]
وقد دلَّلْنا على أن معنى "شرَى": "باع"، في غيرِ هذا الموضعِ بما أغنَى عن إعادتِه
(1)
.
وأمَّا قولُه: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . فإنه يعني أن هذا الشاريَ يَشْرِي إذا شرَى، طلَبَ مرضاةِ اللَّهِ. ونُصِب قولُه:{ابْتِغَاءَ} بقولِه: {يَشْرِي} . كأنه قال: ومِن الناسِ مَن يَشْرِي مِن أجلِ ابتغاءِ مرضاةِ اللَّهِ. ثم ترَك "من أجلِ" وعمِل فيه الفعلُ.
وقد زَعم بعضُ أهلِ العربيةِ أنه نصَب ذلك على الفعلِ
(2)
على {يَشْرِي} . كأنه قال: لابتغاءِ مرضاةِ اللَّهِ. فلمَّا نزَع اللامَ عمِل الفعلُ. قال: ومثلُه: {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19]. قال: وقال الشاعرُ وهو حاتمٌ
(3)
:
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ
…
وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ اللَّئِيمِ تَكَرُّما
وقال: لمَّا أذْهَب اللامَ أعْمَل فيه الفعلَ.
وقال بعضُهم: [إنما ذلك]
(4)
مصدرٌ وُضِع موضعَ الشرطِ وموضعَ "أن"، فيَحْسُنُ فيها الباءُ واللامُ، فيقولُ: أتيتُك مِن خوفِ الشرِّ، ولخوفِ الشرِّ، وبأن خِفتُ الشرَّ. فالصفةُ غيرُ معلومةٍ، فحُذِفت وأقِيمَ المصدرُ مُقامَها. قال: ولو كانت الصفةُ حرفًا واحدًا بعينِه لم يَجُزْ حذفُها، كما غيرُ جائزٍ لمَن قال: فعلتُ هذا لك
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 246، 247.
(2)
أي: على أنه مفعول لأجله.
(3)
ديوانه ص 81.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أيما".
ولفلانٍ. أن يُسْقِطَ اللامَ.
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في مَن نزَلت هذه الآيةُ فيه ومَن عُنِي بها؛ فقال بعضُهم: نزَلت في المهاجرين والأنصارِ، وعُنِي بها المجاهدون في سبيلِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . قال: هم المهاجرون والأنصارُ
(1)
.
وقال بعضُهم: بل نزَلت في رجالٍ مِن المهاجرين بأعيانِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْحٍ، عن عكرمةَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . قال: أُنْزِلت في صُهَيْبِ بنِ سِنَانٍ وأبي ذرٍّ الغفاريِّ جُنْدُبِ بن السَّكَنِ، أخَذ أهلُ أبي ذَرٍّ أبا ذَرٍّ، فانْفَلت منهم، فقدِم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا رجَع مُهاجِرًا عرَضُوا له، وكانوا بِمَرِّ الظَّهرانِ، فانفلَت أيضًا حتى قَدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمَّا صُهَيْبٌ فأخَذه أهلُه، فافْتَدى منهم بمالِه، ثم خرَج مهاجرًا فأدركَه قُنفذُ
(2)
بنُ عُمَيرِ بنِ جُدْعَانَ، فخرَج له ممّا بقِي من مالِه، وخلَّى سبيلَه
(3)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق ص 81، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 369 (1942) عن الحسن بن يحيى به.
(2)
في م: "منقذ".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 240 إلى المصنف والطبراني عن عكرمة. وأخرجه الطبراني (7289) - ومن طريقه ابن عساكر 24/ 229 - من طريق محمد بن ثور، عن ابن جريج به ليس فيه =
حُدِّثتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية. قال: كان رجلٌ مِن أهلِ مكةَ أسْلَمَ، فأراد أن يأتيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويُهَاجرَ إلى المدينةِ، فمنَعوه وحبَسوه، فقال لهم: أُعْطِيكم داري ومالي وما كان لي من شيءٍ فخَلُّوا عنِّي، فأَلْحَقَ بهذا الرجلِ. فأبَوْا، ثم إن بعضَهم قال لهم: خُذوا منه ما كان له مِن شيءٍ، وخَلَّوا عنه. ففعَلوا، فأعطاهم دارَه ومالَه، ثم خرَج فأنْزَل اللَّهُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية. فلمَّا دنا مِن المدينةِ تلقَّاه عُمرُ في رجالٍ، فقال له عُمرُ: ربِح البيعُ. قال: وبيعُك فلا يَخْسَرُ، وما ذاك؟ قال: أنْزَل اللَّهُ فيك كذا وكذا
(1)
.
وقال آخَرون: بل عُنِي بذلك كلُّ شارٍ نفسَه في طاعةِ اللَّهِ وجهادٍ في سبيلِه، أو أمرٍ بمعروفٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: حدثني حسينُ بنُ الحسنِ أبو عبدِ اللَّهِ، قال: ثنا ابنُ عَوْنٍ، عن محمدٍ، قال: حمَل هشامُ بنُ عامرٍ على الصفِّ حتى خرَقه، فقالوا: أَلْقَى بيدِه. فقال أبو هريرةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مُصْعَبُ بنُ المِقْدَامِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن
= عكرمة. وأخرجه الطبراني أيضًا (7290) - ومن طريقه ابن عساكر 24/ 229 - من طريق محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن عكرمة بقصة صهيب وحده مختصرًا.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 368، 369 عقب الأثر (1939) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 240 إلى المصنف وعبد بن حميد.
طارقِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ، عن المغيرةِ، قال: بعَث عمرُ جيشًا فحاصَروا أهلَ حصنٍ، فتقدَّم رجلٌ مِن بَجيلةَ فقَاتَلَ، فقُتِل، فأكثَرَ الناسُ فيه؛ يقولون: أَلْقَى بيدِه إلى التهلُكةِ. قال: فبلَغ ذلك عمرَ بنَ الخطابِ، فقال: كذَبوا، أليس اللَّهُ يقولُ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}
(1)
؟.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا هشامٌ، عن قتادةَ، قال: حمَل هشامُ بنُ عامرٍ على الصفِّ حتى شقَّه، فقال أبو هريرةَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} .
حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّه العَنْبَرِيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيِّ، قال: ثنا حزمُ
(2)
بنُ أبي حزمٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ قرَأ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . أَتدرون فيمَ أُنْزِلت؟ أنْزِلت في أن المسلمَ لقِي الكافرَ فقال له: قلْ: لا إلهَ إلا اللَّهُ، فإذا قلتَها عصَمتَ دمَك ومالَك إلَّا بحقِّهما. فأبَى أن يقولَها، فقال المسلمُ: واللَّهِ، لَأشْرِيَنَّ نفسي للَّهِ. فتقدَّم فقاتَل حتى قُتِل
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا زيادُ بنُ أبي مسلمٍ، عن أبي الخليلِ، قال: سمِع عمرُ إنسانًا قرَأ هذه الآيةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . قال: اسْترجَعَ عمرُ فقال: إنا للَّهِ وإنَّا إليه
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 369 (1940) من طريق إسرائيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 240 إلى وكيع والفريابي وعبد بن حميد.
(2)
في م: "حزام".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى المصنف وابن المنذر.
راجعون، قام رجلٌ يأمُرُ بالمعروفِ ويَنْهَى عن المنكرِ فقُتِل
(1)
.
والذي هو أولى بظاهر هذه الآيةِ مِن التأويلِ ما رُوِي عن عمرَ بنِ الخطابِ وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ وابنِ عباسِ، رحمةُ اللَّهِ عليهم، مِن أن يكونَ عُنِي بها الآمِرُ بالمعروفِ، والناهي عن المنكرِ، وذلك أن اللَّهَ وصَف صفةَ فريقين؛ أحدُهما منافقٌ يقولُ بلسانِه خلافَ ما في نفسِه، وإذا اقْتَدَر على معصيةِ اللَّهِ ركِبها، وإذا لم يَقْتَدِرْ رامَها، وإذا نُهِي أخَذتْه العزةُ
(2)
بما هو به آثمٌ، والآخرُ منهما بائعٌ نفسَه طلبَ رضا اللَّهِ. فكان الظاهرُ مِن التأويلِ أن الفريقَ الموصوفَ بأنه شرَى نفسَه للَّهِ، وطلَب رضاه، إنما شراها للوثوبِ بالفريقِ الفاجرِ طلبَ رضا اللَّهِ، فهذا هو الأغلبُ الأظهرُ مِن تأويلِ الآيةِ.
وأمَّا ما رُوِي مِن نزولِ الآيةِ في أمرِ صُهَيْبٍ، فإن ذلك غيرُ مُسْتَنْكَرٍ، إذ كان غيرَ مدفوعٍ جوازُ نزولِ آيةٍ من عندِ اللَّهِ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بسببٍ مِن الأسبابِ، والمعنيُّ بها كلُّ مَن شمِله ظاهرُها.
فالصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إن اللَّهَ وصَف شاريًا نفسَه ابتغاءَ مرضاتِه، فكلُّ مَن باع نفسَه في طاعتِه حتى قُتل فيها، أو
(3)
اسْتَقْتَل وإن لم يُقْتَلْ، فمَعْنيٌّ بقولِه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . في جهادِ عدوِّ المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكرٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى المصنف ووكيع وعبد بن حميد.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالإثم".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
قد دلَّلْنا فيما مضَى على معنى الرأفةِ بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ، وأنها رِقَّةُ الرحمةِ
(1)
. فمعنى ذلك: واللَّهُ ذو رحمةٍ واسعةٍ بعبدِه الذي شرَى نفسَه له في جهادِ مَن حادَّه في أمرِه، مِن أهلِ الشركِ والفسوقِ، وبغيرِه مِن عبادِه المؤمنين في عاجلِهم وآجلِ مَعَادِهم، فمُجزلٌ لهم الثوابَ على ما أبْلَوْا في طاعتِه في الدنيا، ومُسْكِنُهم جِنانَه على ما عمِلوا فيها مِن مرضاتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى السِّلْمِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: معناه: الإسلامُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: ادْخُلوا في الإسلامِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: ادْخُلوا في الإسلام
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 654.
(2)
تفسير مجاهد ص 231.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82.
أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . قال: السِّلْمُ الإسلامُ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . يقولُ: في الإسلامِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن النَّضْرِ بنِ عَرَبيٍّ، عن مجاهدٍ: ادْخُلُوا في الإسلامِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . قال: السِّلمُ الإسلامُ
(3)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: ثنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} : في الإسلامِ
(4)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: ادْخُلوا في الطاعةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . يقولُ: ادْخُلوا في الطاعةِ
(5)
.
وقد اختَلَفت القَرأةُ في قراءةِ ذلك، فقرَأته عامَّةُ قرأةِ أهلِ الحجازِ: (ادْخُلُوا فِي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 (1947) عن محمد بن سعد به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 عقب الأثر (1947) من طريق عمرو به.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 361.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 عقب الأثر (1947) معلقًا.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 عقب الأثر (1946) من طريق ابن أبي جعفر به.
السَّلْمِ) بفتحِ السينِ. وقرَأته عامَّةُ قَرَأَةِ الكوفيين بكسرِ السينِ
(1)
. فأمَّا الذين فتَحوا السينَ مِن "السَّلْمِ"، فإنهم وجَّهوا تأويلَها إلى المسالمةِ، بمعنى: ادْخُلوا في الصلحِ والمسالمةِ
(2)
وترْكِ الحربِ بإعطاءِ الجزيةِ. وأما الذين قرَءوا ذلك بالكسرِ مِن السينِ فإنهم مختلِفون في تأويلِه؛ فمنهم مَن يُوَجِّهُه إلى الإسلامِ، بمعنى: ادْخُلوا في الإسلامِ كافَّة. ومنهم مَن يُوَجِّهُه إلى الصلحِ، بمعنى: ادخلوا في الصلحِ. ويَسْتَشْهِدُ على أن السينَ تُكْسَرُ وهي بمعنى الصلحِ، بقولِ زُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمَى
(3)
:
وَقَدْ قُلْتُما إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا
…
بِمَالٍ وَمَعْروفٍ مِنَ الأَمْرِ نَسْلَمِ
وأَوْلَى التأويلاتِ بقولِه: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . قولُ مَن قال: معناه: ادْخُلوا في الإسلامِ كافَّةً.
وأمَّا الذي هو أَوْلَى القراءتينِ بالصوابِ
(4)
في قراءةِ ذلك، فقراءةُ مَن قرَأ بكسرِ السينِ؛ لأن ذلك إذا قُرِئ كذلك وإن كان قد يَحْتَمِلُ معنى الصلحِ، فإن معنى الإسلامِ ودوامِ الأمر الصالحِ عندَ العربِ عليه أغلبُ مِن الصلحِ والمسالمةِ، ويُنْشَدُ بيتُ أخي كِنْدَةَ
(5)
:
دَعَوْتُ عَشِيرَتي للسِّلْمِ لمَّا
…
رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينا
(1)
بفتح السين قرأ ابن كثير ونافع والكسائي، وبكسر السين قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو وابن عامر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 180.
(2)
في م: "المساومة".
(3)
ديوانه ص 16.
(4)
القراءتان صواب، مقروء بهما.
(5)
هو امرؤ القيس بن عابس الكندي، المؤتلف والمختلف للآمدي ص 5، والوحشيات ص 59 وفيه ابن عامر الكندي.
بكسرِ السينِ، بمعنى: دعوتُهم للإسلامِ لمَّا ارتدُّوا. وكان ذلك حينَ ارتدَّت كندةُ مَع الأشعثِ بعدَ وفاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أبو عَمرِو بنُ العلاءِ يقرأُ سائرَ ما في القرآنِ مِن ذكْرِ "السلمِ" بالفتحِ، سوى هذه التي في سورةِ "البقرةِ"، فإنه كان يَخُصُّها بكسرِ سينِها، توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلامِ دونَ ما سواها.
وإنما اختَرْنا مما اخْتَرنا مِن التأويلِ في قولِه: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . وصرَفْنا معناه إلى الإسلامِ؛ لأن الآيةَ مخاطَبٌ بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطابُ - إذ كان خطابًا للمؤمنين - مِن أحدِ أمرينِ؛ إمَّا أن يكونَ خطابًا للمؤمنين بمحمدٍ المُصَدِّقين به وبما جاء به، فإن يكنْ كذلك، فلا معنى لأن يقالَ لهم وهم أهلُ إيمانٍ: ادْخُلوا في صلحِ المؤمنين ومُسالمتِهم. لأن المسالمةَ والمصالحةَ إنما يُؤْمَرُ بها مَن كان حَرْبًا بتركِ الحربِ. فأمَّا الوليُّ فلا يجوزُ أن يقالَ له: صالِحْ فلانًا. ولا حربَ بينَهما ولا عداوةَ. أو يكونَ خطابًا لأهلِ الإيمانِ بمَن قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن الأنبياءِ، المصدِّقين بهم وبما جاءوا به مِن عندِ اللَّهِ، المنكرين محمدًا صلى الله عليه وسلم ونُبُوَّتَه، فقيل لهم:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . يعني به الإسلامَ لا الصلحَ؛ لأن اللَّهَ إنما أمَر عبادَه بالإيمانِ به وبنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى ذلك دعاهم دونَ المسالمةِ والمصالحةِ، بل نهَى نبيَّه صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأحوالِ عن دعاءِ أهلِ الكفرِ إلى السَّلْمِ
(1)
، فقال:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35]. وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأحوالِ إذا دعَوْه إلى الصلحِ ابتداءً المصالحةَ، فقال له - جلَّ وعزَّ -:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]. فأمَّا دعاؤُهم إلى الصلحِ ابتداءً فغيرُ موجودٍ في القرآنِ، فيجوزَ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإسلام".
توجيهُ قولِه: (ادْخُلُوا في السَّلْمِ) إلى ذلك.
فإن قال قائلٌ: فأيَّ هذين الفريقينِ دعَا إلى الإسلامِ كافَّةً؟
قيل: قد اخْتُلِف في
(1)
ذلك؛ فقال بعضُهم: دُعِي إليه المؤمنون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
وقال آخَرون: قيل: بل دُعِى إليه المؤمنون بمَن قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن الأنبياءِ، المُكَذِّبون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
فإن قال: فما وجهُ دعاءِ المؤمنين
(2)
بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلى الإسلامِ؟
قيل: وجهُ دعائِه إلى ذلك الأمرُ له بالعملِ بجميعِ شرائعِه، وإقامةِ جميعِ أحكامِه وحدودِه، دونَ تضييعِ بعضِه والعملِ ببعضِه، وإذا كان ذلك معناه، كان قولُه:{كَافَّةً} مِن صفةِ السِّلْمِ، ويكونُ تأويلُه: ادْخُلوا في العملِ بجميعِ معاني السلمِ، ولا تُضَيِّعوا شيئًا منه يا أهلَ الإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
وبنحوِ هذا المعنى كان يقولُ عكرمةُ في تأويلِ ذلك.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عكرمةَ قولَه:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: نزَلت في ثَعْلَبَةَ وعبدِ اللَّه بنِ سَلَامٍ وابنِ يَامِينَ وأسدِ وأُسَيْدِ ابْنَيْ كعبٍ وسَمْيَةَ
(3)
بنِ عمرٍو
(4)
وقيسِ بنِ زيدٍ،
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تأويل".
(2)
في م: "المؤمن".
(3)
في الأصل، م، ت 1، ت 2، ت 3:"شعبة"، وفي الدر المنثور:"سعيد". وينظر فهارس سيرة ابن هشام، ونصب الراية 3/ 400.
(4)
في الأصل: "عمر".
كلُّهم مِن يهودَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، يومُ السبتِ يومٌ كنَّا نُعَظِّمُه، فدَعْنا فَلْنَسْبِتْ فيه، وإن التوراةَ كتابُ اللَّهِ، فدَعْنا فَلْنَقُمْ بها بالليلِ. فنزَلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}
(1)
.
فقد صرَّح عكرمةُ بمعنى ما قلنا في ذلك مِن أن تأويلَ ذلك دعاءٌ للمؤمنين إلى رفضِ جميعِ المعاني التي ليست مِن حكمِ الإسلامِ، والعملِ بجميعِ شرائعِ الإسلامِ، والنهيِ عن تضييعِ شيءٍ مِن حدودِه.
وقال آخَرون: بل الفريقُ الذي دعَا إلى السِّلْمِ فقيل لهم: ادْخُلوا فيه. بهذه الآيةِ، هم أهلُ الكتابِ، أُمِروا بالدخولِ في الإسلامِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ في قولِه: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . يعني: أهلَ الكتابِ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: أخبرَنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: يعني أهلَ الكتابِ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندي أن يقالَ: إن اللَّهَ جل ثناؤُه أمَر الذين
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى المصنف. وقال ابن كثير في تفسيره 1/ 362: وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذ بعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى المصنف. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 369 (1944) من طريق عكرمة، عن ابن عباس: مطولًا، وفيه أنه قرأها بالنصب.
آمَنوا بالدخولِ في العملِ بشرائعِ الإسلامِ كلِّها، وقد يَدْخُلُ في الذين آمَنوا المُصَدِّقون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، والمصدِّقون بمَن قبلَه مِن الأنبياءِ والرسلِ وما جاءوا به، وقد دعا اللَّهُ كلا الفريقينِ إلى العملِ بشرائعِ الإسلامِ وحدودِه، والمحافظةِ على فرائضِه التي فرَضها، ونهاهم عن تضييعِ شيءٍ من ذلك، فالآيةُ عامةٌ
(1)
لكلِّ مَن شمِله اسمُ الإيمانِ، فلا وجهَ لخصوصِ بعضٍ بها دونَ بعضٍ.
وبمثلِ التأويلِ الذي قلنا في ذلك كان مجاهدٌ يقولُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: ادْخُلوا في الإسلامِ كافَّةً، ادْخُلوا في الأعمالِ كافَّةً
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {كَافَّةً} .
يعني جل ثناؤُه بقولِه: {كَافَّةً} : عامَّةً جميعًا.
كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ قولَه:{فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: جميعًا
(3)
.
حدَّثنا موسى بنُ هارون، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: جميعًا
(4)
.
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"عام".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 370 (1948) من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح به بلفظ:"في أنواع البر كلها".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 عقب الأثر (1950) من طريق عمرو به.
وحُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: جميعًا
(1)
. وعن أبيه، عن قتادةَ مثلَه.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيعُ بنُ الجَرَّاحِ، عن النَّضْرِ، عن مجاهدٍ: ادخلوا في الإسلامِ {كَافَّةً} : جميعًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال ابنُ عباسٍ: {كَافَّةً} : جميعًا
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {كَافَّةً} : جميعًا. وقرَأ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} : جميعًا.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ الفضلَ يقولُ: أخبرَنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . قال: جميعًا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} .
يعني جل ثناؤُه بذلك: اعمَلُوا أيُّها المؤمنون بشرائعِ الإسلامِ كلِّها، وادْخُلوا في التصديقِ به قولًا وعملًا، ودَعُوا طريقَ الشيطانِ وآثارَه أن تَتَّبِعوها، فإنه لكم عدوٌّ مُبِينٌ لكم عداوتَه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 عقب الأثر (1950) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى المصنف.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 370 عقب الأثر (1950) معلقًا.
وطريقُ الشيطانِ الذي نهاهم أن يَتَّبعوه هو ما خالَف حكمَ الإسلامِ وشرائعَه، ومنه تسبيتُ السبتِ وسائرُ سُنَنِ أهلِ المِلَلِ التي تُخَالِفُ ملَّةَ الإسلامِ، وقد بيَّنْتُ معنى الخطواتِ بالأدلَّةِ الشاهدةِ على صحَّتِه فيما مضَى، فكرِهْتُ إعادتَه في هذا المَوضِعِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} .
يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: فإن أخْطَأتم الحَقَّ، فضَلَلْتُم عنه، وخالَفتم الإسلامَ وشرائعَه، مِن بعدِ ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنَاتُ هدايَ، واتَّضَحت لكم صحةُ أمرِ الإسلامِ بالأدلةِ التي قطَعت عذرَكم أيُّها المؤمنون، فاعْلَموا أن اللَّهَ ذو عزَّةٍ، لا يمنعُه مِن الانتقامِ منكم مانعٌ، ولا يَدْفَعُه عن عُقوبتِكم على مخالفتِكم أمرَه ومعصيتِكم إيَّاه دافعٌ، حكيمٌ فيما يفعلُ بكم مِن عقوبةٍ، على معصيتِكم إيَّاه بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليكم، وفي غيرِه مِن أمورِه.
وقد قال عددٌ مِن أهلِ التأويلِ: إن البيناتِ هي محمدٌ صلى الله عليه وسلم والقرآنُ. وذلك قريبٌ مِن الذي قلنا في تأويلِ ذلك؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآنَ مِن حُجَجِ اللَّهِ على الذين خُوطِبوا [بهذه الآيةِ]
(2)
، غيرَ أن الذي قلناه في تأويلِ ذلك أَوْلَى بالحقِّ؛ لأن اللَّهَ قد احتجَّ على مَن خالَف الإسلامَ مِن أحبارِ أهلِ الكتابِ، بما عهِد إليهم في التوراةِ والإنجيلِ، وتقدَّمَ إليهم على ألسُنِ أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه مِن حُجَجِ اللَّهِ عليهم مع ما لزِمهم مِن الحُجَّةِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبالقرآنِ، فلذلك اختَرنا ما اختَرنا مِن
(1)
ينظر ما تقدم في 36 - 38.
(2)
في م: "بهاتين الآيتين".
التأويلِ في ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ أقوالِ القائلين في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ}
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قولِه:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} . يقولُ: فإن ضلَلتُم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} . قال: والزللُ الشركُ
(2)
.
ذكرُ أقوالِ القائلين في تأويلِ قولِه: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} .
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} . يقولُ: مِن بعدِ ما جاءكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} . قال: الإسلامُ والقرآنُ
(3)
.
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . يقول: عزيزٌ في نِقْمتِه، حكيمٌ في أمرِه
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 371 (1955) من طريق عمرو به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 371 (1954) عن محمد بن سعد به نحوه.
(3)
أخرجه أبو عبيد في فضائله ص 24، 25 من طريق حجاج به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 371 عقب الأثر (1956) من طريق ابن أبي جعفر به.
القولُ في تأويلِ قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} .
يعني جل ثناؤُه بذلك: هل يَنْظُرُ المكذِّبون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُلَلٍ من الغمامِ والملائكةُ.
ثم اخْتَلَفت القَرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأ بعضُهم: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} بالرفعِ؛ عطفًا بالملائكةِ على اسمِ اللَّهِ
(1)
، على معنى: هل ينظُرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ يوسفَ، عن أبي عُبَيْدٍ القاسمِ بنِ سَلَّامٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ الرازيُّ، عن أبيه، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةِ، قال: في قراءةِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ: (هل ينظُرون إلَّا أن يأتيهم اللَّهُ والمَلَائِكَةُ في ظُلَلٍ من الغمامِ). قال: يأتي الملائكةُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ، ويأتي اللَّهُ فيما شاء
(3)
.
وقد حُدِّثْتُ هذا الحديثَ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الآية. وقال أبو جعفرٍ الرازيُّ: وهي في بعضِ القراءةِ: (هل ينظُرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ). كقولِه: {وَيَوْمَ
(1)
بالرفع قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف، وبالخفض قرأ أبو جعفر. ينظر النشر 2/ 171.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذكر من قال ذلك".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 373 (1963)، والبيهقي في الأسماء والصفات (943) من طريق أبي جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى ابن المنذر.
تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25].
وقرَأ ذلك آخَرون: (هل ينظُرون إلا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظللٍ من الغمامِ والملائكةِ) بالخفضِ؛ عطفًا بالملائكةِ على الظُّللِ، بمعنى: هل ينظرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ وفي الملائكةِ.
وكذلك اختلَفت القَرأةُ في قراءةِ {ظُلَلٍ} ؛ فقرَأها بعضُهم: {فِي ظُلَلٍ} . وبعضُهم: (في ظلالٍ)
(1)
.
فمَن قرَأها: {فِي ظُلَلٍ} . فإنه وجَّهها إلى أنها جمعُ
(2)
ظُلَّةٍ، والظُّلَّةُ تُجْمَعُ ظُلَل وظلال، كما تُجْمَعُ [الحُلةُ حُلل]
(3)
، [والجُلة جِلال]
(4)
وأمَّا الذي قرَأها: (في ظِلالٍ). فإنه جعَلها جمعَ ظُلَّةٍ، كما ذكَرْنا مِن جمعِهم [الجُلة جِلالًا]
(5)
.
وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ قارئُه كذلك وجَّهه إلى أن ذلك جمعُ ظِلٍّ؛ لأن الظُّلَّةَ والظِّلَ قد يُجْمعانِ جميعًا: ظِلال.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندي: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . لخبرٍ رُوِي عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مِن الغمامِ طاقاتٍ يأتي اللَّهُ فيها محفوفًا"
(6)
. فدَلَّ بقولِه: "طاقاتٍ". على أنها ظُلَلٌ لا ظِلالٌ؛ لأن
(1)
هذه قراءة قتادة، وهي شاذة. ينظر المحتسب 1/ 122.
(2)
في الأصل: "جميع".
(3)
في م: "الخلة خلل وخلال". وفي ت 2: "الخلة خلل".
(4)
في م: "الجلة جلل وجلال".
(5)
في م: "الخلة خلال".
(6)
أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (797) من حديث ابن عباس.
واحدَ الظُّلَلِ
(1)
ظُلَّةٌ، وهي الطاقُ، واتِّباعًا لخطِّ المصحفِ، وكذلك الواجبُ في كلِّ ما اتَّفَقت معانيه واخْتَلَفت في قراءتِه القَرأةُ، ولم يكنْ على إحدى القراءتينِ دلالةٌ تَنفَصِلُ بها مِن الأخرى غيرَ اختلافِ خطِّ المصحفِ، فالذي ينبغي أن تُؤْثَرَ قراءتُه منها
(2)
ما وافقَ رسمَ المصحفِ.
وأمَّا الذي هو أَوْلَى القراءتينِ في: {وَالْمَلَائِكَةُ} [بالصوابِ، فالرفعُ]
(3)
، عطفًا بها على اسمِ اللَّهِ، على معنى: هل ينظُرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُلَلٍ من الغمامِ، وإلَّا أن تأتيَهم الملائكةُ. على ما رُوِي عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ؛ لأن اللَّهَ جل ثناؤُه قد أخبَر في غيرِ موضعٍ مِن كتابِه أن الملائكةَ تأتيهم، فقال جل ثناؤُه:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]. وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]. فإن أشْكَل على امرئٍ قولُ اللَّهِ جل ثناؤه: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . فظنَّ أنه مخالفٌ معناه معنى قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} . إذ كان قولُه: {وَالْمَلَائِكَةُ} في هذه الآيةِ بلفظِ جمعٍ، وفي الأخرى بلفظِ الواحدِ، فإن ذلك خطأٌ مِن الظَّنِّ
(4)
، وذلك أن الملَكَ في قولِه:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} بمعنى الجميعِ ومعنى الملائكةِ، والعربُ تَذْكُرُ الواحدَ بمعنى الجميعِ، فتقولُ: فلانٌ كثيرُ الدرهمِ والدينارِ. يُرادُ به الدراهمُ والدنانيرُ. و: هلَك البعيرُ والشاةُ. بمعنى جماعةِ الإبلِ والشاءِ. فكذلك قولُه: {وَالْمَلَكُ} بمعنى الملائكةِ.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"الظل".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فالصواب بالرفع".
(4)
في م: "الظان".
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في قولِه: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . وهل هو مِن صلةِ فعلِ اللَّهِ جل ثناؤه، أوْ مِن صلةِ فعلِ الملائكةِ، ومَن الذي يَأتي فيها؟ فقال بعضُهم: هو مِن صلةِ فعلِ اللَّهِ، ومعناه: هل يَنْظُرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُلَلٍ من الغمامِ وأن يأتيَهم الملائكةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . قال: هو غيرُ السَّحابِ، لم يكنْ إلَّا لبني إسرائيلَ في تِيهِهم حينَ تاهوا، وهو الذي يأتي اللَّهُ فيه يومَ القيامةِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . قال: يأتيهم اللَّهُ وتأتيهم الملائكةُ عندَ الموتِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال عكرمةُ في قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . قال: طاقاتٌ مِن الغمامِ، والملائكةُ حولَه. قال ابنُ جُرَيْجٍ: وقال غيرُه: والملائكةُ بالموتِ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 372 (1961) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 241 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 373 (1965) عن الحسن بن يحيى به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 373 (1964) من طريق حجاج به.
وقولُ عكرمةَ هذا وإن كان موافقًا قولَ مَن قال: إن قولَه: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . مِن صلةِ فعلِ الربِّ تبارك وتعالى الذي قد تقدَّم ذكْرُناه، فإنه له مخالِفٌ في صفةِ الملائكةِ، وذلك أن الواجبَ مِن القراءةِ على تأويلِ قولِ عكرمةَ هذا في الملائكةِ الخفضُ؛ لأنه تأوَّلَ الآيةَ: هل يَنْظُرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ وفي الملائكةِ. لأنه زعَم أن اللَّهَ تعالى يأتي في ظُلَلٍ مِن الغمامِ والملائكةُ حولَه. هذا إن كان وجَّهَ قولَه: والملائكةُ حولَه. إلى أنهم حولَ الغمامِ، وجعَل الهاءَ في "حولَه" مِن ذكرِ الغمامِ. وإن كان وجَّه قولَه: والملائكةُ حولَه. إلى أنهم حولَ الربِّ تبارك وتعالى، وجعَل الهاءَ في قولِه
(1)
مِن ذكرِ الربِّ عز وجل، فقولُه نظيرُ قولِ الآخَرين الذين قد ذكَرْنا قولَهم، غيرُ مخالفِهم في ذلك.
وقال آخَرون: بل قولُه: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . من صلةِ فعلِ الملائكةِ، وإنما تأتي الملائكةُ فيها، فأمَّا الربُ تعالى ذكرُه فإنه يأتي فيما شاء.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الآية. قال: ذلك يومَ القيامةِ، تأتيهم الملائكةُ في ظُلَلٍ من الغمامِ. قال: الملائكةُ يجيئون في ظللٍ مِن الغمامِ، والربُّ تبارك وتعالى يجيءُ فيما شاء.
وأوْلى التأويلينِ بالصوابِ في ذلك تأويلُ مَن وجَّه قولَه: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} . إلى أنه مِن صلةِ فعلِ الربِّ، وأن معناه: هل يَنْظُرون إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُللٍ مِن الغمامِ وتأتيَهم الملائكةُ؛ لِما حدَّثنا به محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرازيُّ، قال: ثنا
(1)
في م: "حوله".
إبراهيمُ بنُ المختارِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن زَمْعَةَ بنِ صالحٍ، عن سلَمةَ بنِ وَهْرَامَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن مِن الغَمامِ طاقاتٍ يأتي اللَّهُ فيها محفوفًا". وذلك قولُه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ}
(1)
.
وأمَّا معنى قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ} فإنه: ما يَنْظُرون. وقد بيَّنَّا ذلك بعِلَلِه فيما مضَى مِن كتابِنا هذا قبلُ.
ثم اخْتُلِف في صفةِ إتيانِ الربِّ تبارك وتعالى الذي ذكَره في قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} . فقال بعضُهم: لا صفةَ لذلك غيرُ الذي وصَف به نفسَه عز وجل مِن المجيءِ والإتيانِ والنزولِ، وغيرُ جائزٍ، تكلُّفُ القولِ في ذلك لأحدٍ إلَّا بخبرٍ مِن اللَّهِ جل جلاله، أو مِن رسولٍ مُرسلٍ. فأمَّا القولُ في صفاتِ اللَّهِ وأسمائِه، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ مِن جهةِ الاستخراجِ إلَّا بما ذكَرْنا.
وقال آخَرون: إتيانُه جلَّ ذكرُه نظيرُ ما يُعْرَفُ مِن مجيءِ الجائي مِن موضعٍ إلى موضعٍ، وانتقالِه مِن مكانٍ إلى مكانٍ.
وقال آخَرون: معنى قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} . يعني به: هل يَنْظُرونَ إلَّا أن يأتيَهم أمرُ اللَّهِ، كما يقالُ: قد خشِينا أن تأتيَنا بنو أميَّةَ. يُرادُ به: حُكْمُهم.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: هل يَنْظُرون إلا أن يأتيَهم ثوابُه وحسابُه وعذابُه، كما قال عز وجل:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]. وكما يقالُ: قطَع الوالي اللِّصَّ أو ضرَبه. وإنما قطَعه أعوانُه.
(1)
تقدم تخريجه في ص 606.
وقد بيَّنَّا معنى "الغمامِ" فيما مضَى مِن كتابِنا هذا قبلُ، فأغْنَى ذلك عن تكريرِه؛ لأن معناه ههنا هو معناه هنالك
(1)
.
فمعنى الكلام إِذن: هل ينتظِرُ التاركون الدخولَ في السِّلْمِ كافَّةً، والمُتَّبِعون خُطواتِ الشيطانِ، إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظللٍ من الغمامِ، فيَقْضِيَ في أمرِهم ما هو قاضٍ.
كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المُحاربيُّ، عن إسماعيلَ بنِ رافعٍ المَدَنيِّ، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عن رجلٍ من الأنصارِ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُوقَفون مَوْقِفًا واحدًا يومَ القيامةِ مقدارَ سبعين عامًا، لا يُنْظَرُ إليكم، وَلا يُقْضَى بينكم، قد حُصِر عليكم، فتَبْكون حتى يَنْقَطِعَ الدمعُ، ثم تدمَعون دمًا، وتبكون حتى يبلُغَ ذلك منكم الأذقانَ، أو يُلْجِمَكم فتَضِجُّون
(2)
، ثم تقولون: مَن يَشْفَعُ لنا إلى ربِّنا فيَقضِيَ بيننا؟ فيقولون: مَن أحقُّ بذلك مِن أبيكم آدمَ؛ جبَل اللَّهُ تربتَه
(3)
، وخلَقه بيدِه، ونفَخ فيه مِن رُوحِه، وكلَّمه قِبَلًا. فيُؤْتَى آدمُ، فيُطْلَبُ ذلك إليه، فيَأْبَي، ثم يَسْتَقْرِئون الأنبياءَ نبيًّا نبيًّا، كلَّما جاءوا نبيًّا أبَى". قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"حتى يأتوني، فإذا جاءوني خرَجتُ حتى آتِيَ الفَحْصَ". قال أبو هريرةَ: يا رسولَ اللَّهِ، وما الفَحْصُ؟ قال: "قُدَّامُ العرشِ، فأَخِرَّ ساجدًا، فلا أزالُ ساجدًا حتى يبعثَ اللَّهُ إليَّ مَلَكًا، فيأخُذَ بعَضُدِي فيَرْفَعَني، ثم يقولُ اللَّهُ لي: يا
(4)
محمدُ. فأقولُ: نعم -
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 698 وما بعدها.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تصيحون"، وهي رواية الطبراني.
(3)
جبل التربة: خلقها. اللسان (ج ب ل).
(4)
سقط من: الأصل.
وهو أعلمُ - فيقولُ: ما شأنُك؟ فأقولُ: يا ربِّ، وعَدتَني الشفاعةَ، فشَفِّعْنِي
(1)
في خلقِك فاقضِ بينهم. فيقولُ: قد شفَّعْتُك، أنا آتيكم فأقْضِي بينَكم". قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فأَنْصَرِفُ حتى أَقِفَ معَ الناسِ، فبَيْنما
(2)
نحنُ وُقُوفٌ سمِعْنا حسًّا مِن السماءِ شديدًا، فهَالَنا، فنزَل أهلُ السماءِ الدنيا بمِثْلَيْ مَن في الأرضِ مِن الجنِّ والإنسِ، حتى إذا دَنَوْا مِن الأرضِ أشْرَقتِ الأرضُ بنورِهم
(3)
، وأخَذوا مصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالوا: لا، وهو آتٍ. ثم نزلَ أهلُ السماءِ الثانيةِ بمِثْلَيْ مَن نزَل مِن الملائكةِ، وبمِثْلَيْ مَن فيها مِن الجنِّ والإنسِ، حتى إذا دَنَوا مِن الأرْضِ أشْرَقت الأرضُ بنورِهم
(3)
، وأخَذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالُوا: لا، وهو آتٍ. ثم نزَل أهلُ السماءِ الثالثةِ بمِثْلَيْ مَن نزَل مِن الملائكةِ، وبمِثْلَيْ مَن في الأرضِ مِن الجنِّ والإنسِ، حتى إذا دَنَوْا مِن الأرْضِ أشْرَقت الأرضُ بنورِهم، وأخَذوا مَصافَّهم، وقلنا لهم: أَفيكم رُّبنا؟ قالوا: لا، وهو آتٍ. ثم نزَل أهلُ السماواتِ على قدرِ
(4)
ذلك مِن التضعيفِ، حتى نزَل الجبَّارُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ والملائكةُ ولهم زَجَلٌ مِن تسبيحِهم، يقولون: سبحانَ ذي المُلْكِ و
(5)
الملكوتِ، سبحانَ ربِّ العرشِ ذي الجبروتِ، سبحان الحيِّ الذي لا يموتُ، سبحانَ الذي يُمِيتُ الخلائقَ ولا يموتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكةِ والرُّوحِ، قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سبحانَ ربِّنا الأعلى، سبحانَ ذي السلطانِ والعظمةِ، سبحانَه أبدًا أبدًا. فيَنْزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى يَحْمِلُ عرشَه يومئذٍ ثمانيةٌ، وهم اليومَ أربعةٌ؛ أقدامُهم على تُخُومِ الأرضِ
(1)
في الأصل، ت 3:"تشفعني".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فينا".
(3)
في الأصل: "لنورهم". وفي الطبراني: "بنور ربهم".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عدد".
(5)
في الأصل: "ذي".
السفلَى، والسماواتُ إلى حُجَزِهم، والعرشُ على مناكبِهم، فوضَع اللَّهُ تبارك وتعالى عرشَه حيثُ شاء مِن الأرضِ، ثم يُنادِي مُنادٍ نداءً يُسْمِعُ الخلائقَ، فيقولُ: يا معشرَ الجنِّ والإنسِ، إني قد أنْصَتُّ منذُ يومِ خلَقتُكم إلى يومِكم هذا، أسمَعُ كلامَكم، وأُبْصِرُ أعمالَكُم، فأَنْصِتوا إليَّ، فإنما هي صُحُفُكم وأعمالُكم تُقْرَأُ عليكم، فمَن وجَد خيرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، ومَن وجَد غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ
(1)
إلَّا نفسَه. فيَقْضِي اللَّهُ تبارك وتعالى بينَ خلقِه الجنِّ والإنسِ والبهائمِ، فإنه لَيُقِيدُ
(2)
يومئذٍ للجمَّاءِ مِن ذَاتِ القَرْنِ"
(3)
.
وهذا الخبرُ يَدُلُّ على خطإِ قولِ قتادةَ في تأويلِه قولَه: {وَالْمَلَائِكَةُ} . أنه معنيٌّ به: و
(4)
الملائكةُ تأتيهم عندَ الموتِ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكَر أنهم يأتونهم بعدَ قيامِ الساعةِ في موقفِ الحسابِ حينَ تَشَقَّقُ السماءُ.
وبمثلِ ذلك رُوِي الخبرُ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ والتابعين، كرِهنا إطلالةَ الكتابِ بذكرِهم وذكرِ ما قالوا في ذلك.
(1)
في الأصل: "يلوم".
(2)
في م: "ليقتص".
(3)
إسناده ضعيف، لضعف إسماعيل بن رافع، والحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال (55)، وإسحاق بن راهويه - كما في المطالب العالية 7/ 555 (3309)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2928 - 2931 (16621)، (16627 - 16629)، وأبو يعلى - كما في البداية والنهاية 19/ 310 - والطبراني في الأحاديث الطوال (36)، وأبو موسى المديني - كما في البداية والنهاية - والبيهقي في البعث والنشور (669)، وأبو الشيخ في العظمة (388، 389) من طرق عن إسماعيل بن رافع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 339 إلى عبد بن حميد وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان وأبي الحسن القطان في المطولات وابن المنذر. وقد اختلف فيه كثيرًا على إسماعيل بن رافع. ينظر الكامل 1/ 278، والفتح 11/ 368، والبداية والنهاية 19/ 310 - 323.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
ويُوَضِّحُ أيضًا صحَّةَ ما اخترْنا [مِن القراءةِ في]
(1)
قولِه: {وَالْمَلَائِكَةُ} بالرفعِ على معنى: وتأتيهم الملائكةُ.
ويُنبِئُ
(2)
عن خطإِ قراءةِ مَن قرَأ ذلك بالخفضِ؛ لأنه أخْبَر صلى الله عليه وسلم أن الملائكةَ تأتي أهلَ القيامةِ في موقفِهم حينَ تَفَطَّرُ السماءُ قبلَ أن يأتيَهم ربُّهم في ظُلَلٍ مِن الغمامِ، إلَّا أن يكونَ قارئُ ذلك ذهَب إلى أنه تعالى ذكرُه عنَى بقولِه ذلك: إلَّا أن يأتيَهم اللَّهُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ. وفي الملائكةِ الذين يأتون أهلَ الموقفِ حينَ يأتيهم اللَّهُ في ظُلَلٍ مِن الغمامِ. فيكونُ ذلك وجهًا مِن التأويلِ وإن كان بعيدًا مِن قولِ أهلِ العلمِ ودلالةِ الكتاب وآثارِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثابتةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} .
يعني جل ثناؤه بذلك: وفُصِل القضاءُ بالعدلِ بينَ الخلقِ، على ما قد ذكَرْنا قبلُ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أخذِ الحقِّ لكلِّ مظلومٍ مِن كلِّ ظالمٍ، حتَّى القصاصِ للجمَّاءِ مِن القرناءِ مِن البهائمِ.
وأمَّا قولُه: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} . فإنه يعني: وإلى اللَّهِ يئولُ القضاءُ بينَ خلقِه يومَ القيامةِ والحكمُ بينهم في أمورِهم التي جرَت بينهم في الدنيا، مِن ظلمِ بعضِهم بعضًا، واعتداءِ المعتدِي منهم حدودَ اللَّهِ، وخلافِ أمرِه، وإحسانِ المحسنِ منهم، وطاعتِه إيَّاه فيما أمَره [ونهاه]
(3)
، فيفصلُ بينَ المتظالمين، ويُجازِي أهلَ الإحسانِ بالإحسانِ، وأهلَ الإساءةِ بما رأى، أو
(4)
يتَفَضَّلُ على مَن لم يكنْ منهم
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في قراءة".
(2)
في م: "يبين".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
كافرًا به فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} . وإن كانت أمورُ الدنيا كلُّها والآخرةِ مِن عندِه مَبْدَؤُها وإليه مصيرُها، إذ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون، ويَلِي النظرَ بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقِه، والحكمَ
(1)
بينهم بعضُ عبيدِه، فيَجورُ بعضٌ، ويَعْدِلُ بعضٌ، ويُصِيبُ واحدٌ، ويُخْطِئُ آخرُ، ويُمْكِنُ
(2)
تنفيذُ الحكمِ على بعضٍ، ويَتَعذَّرُ ذلك على بعضٍ لمَنَعَةِ جانبِه وغَلَبتِه بالقوةِ.
فأعْلَم عبادَه تعالى ذكرُه أن مرجعَ ذلك كلِّه إليه في موقفِ القيامةِ، فيُنْصِفُ كُلًّا من كلٍّ، ويُجَازِي حقَّ الجزاءِ كلًّا، حيثُ لا ظُلمَ ولا مُمْتَنَعَ مِن نفوذِ حكمِه عليه، وحيثُ يَسْتوِي الضعيفُ والقويُّ، والفقيرُ والغنيُّ، ويَضْمحِلُّ الظلمُ، ويَنزِلُ سلطانُ العدلِ.
وإنما أدْخَل - جل وعز - الألفَ واللامَ في "الأمورِ"؛ لأنه جل ثناؤُه عنَى بها جميعَ الأمورِ، ولم يَعْنِ بها بعضًا دونَ بعضٍ، فكان ذلك بمعنى قولِ القائلِ: يُعْجِبُني العسلُ. و: البغلُ أقوى مِن الحمارِ. فيُدْخِلُ فيه الألفَ واللامَ؛ لأنه لم يَقْصِدْ به قَصْدَ بعضٍ دونَ بعضٍ، وإنما يُرادُ به العمومُ والجمعُ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} .
يعني جل ثناؤُه بذلك: سل يا محمدُ بني إسرائيلَ الذين لا يَنْتظِرون بالإنابةِ إلى طاعتِي والتوبةِ إليَّ بالإقرارِ بنبوتِك وتصديقِك فيما جِئتَهم به مِن عندِي، إلا أن آتيَهم في ظُللٍ مِن الغمامِ وملائكتِي، فأفْصِلَ القضاءَ بينَك وبينَ مَن آمَن بك وصدَّقك بما أنزَلتُ إليك مِن كُتبِي، وفرضْتُ عليك وعليهم مِن شرائعِ دينِي،
(1)
في م: "فيحكم".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
وبينَهم - كم جِئتُهم به مِن قبلِك مِن آيةٍ وعلامةٍ على ما فرَضتُ عليهم مِن فرائضِي، وأمَرتُهم به مِن طاعتِي، وتابعتُ عليهم مِن حُجَجِي على أيدي أنبيائي ورسلي مِن قبلِك، مؤيِّدةً
(1)
لهم على صدقِهم، بيِّنةً أنها مِن عندِي، واضحةً أنها مِن أدلتِي على صدقِ نُذرِي ورسلي فيما افترَضتُ عليهم مِن تصديقِهم وتصديقِك، فكفروا حُججِي، وكذَّبوا رسلي، وغَيَّروا نِعَمِي قبلَهم، وبدَّلوا عهدِي ووصيتي إليهم.
وأما الآيةُ فقد بيَّنتُ تأويلَها فيما مضَى مِن كتابِنا بما فيه الكفايةُ
(2)
، وهي ههنا ما حدَّثنا به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} : ما ذكَر اللَّهُ في القرآنِ وما لم يذكُرْ، وهم يهودُ
(3)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} . يقولُ: آتاهم اللَّهُ آياتٍ بيناتٍ؛ عصا موسى، ويدَه، وأقْطَعَهم البحرَ، وأغرَق عدوَّهم وهم ينظُرون، وظلَّلَ عليهم الغَمامَ، وأنزَل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى
(4)
.
وذلك مِن آياتِ اللَّهِ التي آتَى بني إسرائيلَ في آياتٍ كثيرةٍ غيرِها، خالَفوا معها أمرَ اللَّهِ، وقتَلوا أنبياءَه ورسلَه، وبدَّلوا عهدَه ووصيتَه إليهم، قال اللَّهُ: {وَمَنْ يُبَدِّلْ
(1)
في م: "مريدة".
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 594 وما بعدها.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"اليهود".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 373، 374 (1968، 1970) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 374 عقب الأثر (1969) من طريق ابن أبي جعفر به، وأخرجه في (1969) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وإنما سلَّى
(1)
اللَّهُ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذه الآيةِ
(2)
، فأمَره بالصبرِ على مَن كذَّبه واسْتَكبَر على ربِّه، وأخبَره أن ذلك فِعلُ مَن قبلَه مِن سُلَّافِ الأممِ قبلَهم بأنبيائِهم، مع مُظاهرتِه عليهم الحُجَجَ، وأن مَن هو بينَ أظهُرِهم مِن اليهودِ إنما هم مِن بقايا مَن جَرَت عاداتُهم مِمن
(3)
قصَّ عليه قصصَهم مِن بني إسرائيلَ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} .
يعني جل ثناؤُه بالنعمةِ
(4)
: الإسلامَ وما فرَض مِن شرائعِ دينِه، ويعني بقولِه:{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} : ومَن يُغيِّرْ ما عهِد
(5)
اللَّهُ في نعمتِه التي هي الإسلامُ مِن العمل به
(6)
والدخولِ فيه فيَكْفرْ به، فإنه معاقبُه بما أوعَد على الكفرِ به مِن العقوبةِ، واللَّهُ شديدٌ عقابُه، أليمٌ عذابُه.
فتأويلُ الآيةِ إذن: يا أيها الذين آمنوا بالتوراةِ فصدَّقوا بها، ادْخُلوا في الإسلامِ جميعًا ودَعُوا الكفرَ، وما دعاكم إليه الشيطانُ مِن ضَلالتِه، وقد جاءتكم البيناتُ مِن عندِي بمحمدٍ، وما أظْهَرتُ على يديه لكم من الحُججِ والعِبَرِ، ولا تُبدِّلوا عهدِي إليكم فيه، وفيما جاءكم به مِن عندِي في كتابِكم بأنه نبيِّي ورسولي، فإنه مَن يبدِّلْ ذلك منكم فيُغيِّرْه، فإني له مُعاقبٌ بالأليمِ من العقُوبةِ.
(1)
في م: "ينبئ".
(2)
في م: "الآيات".
(3)
في الأصل: "ثم".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالنعم".
(5)
في م: "عاهد".
(6)
سقط من: م.
وبمثلِ الذي قُلنا في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} . قال
(1)
أهلُ التأويلِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} . قال: يَكْفرْ بها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مِثلَه.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} . قال: يقولُ: مَن يُبَدِّلْها كُفرًا
(3)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} . يقولُ: ومَن يَكْفُرْ نعمتَه مِن بعدِ ما جاءته
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
يعني جل ثناؤُه بذلك: زُيِّنَ للذين كفروا حبُّ الحياةِ [العاجلةِ في الدارِ الدنيا]
(5)
،
(1)
بعده في م: "جماعة من".
(2)
تفسير مجاهد ص 231. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 374 عقب الأثر (1971) من طريق عمرو به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 374 عقب الأثر (1971) من طريق ابن أبي جعفر به.
(5)
في م: "الدنيا العاجلة في الذنب".
فهم يَبْتَغون فيها المُكاثرةَ والمُفاخرةَ، ويَطْلُبون فيها الرياساتِ والمُباهاةَ، ويَسْتكبِرون عن اتِّباعِك يا محمدُ والإقْرارِ بما جئْتَهم
(1)
به مِن عندِي؛ تَعظُّمًا منهم على مَن صدَّقك واتَّبعك، ويَسْخرون ممن يَتَّبِعُك مِن أهلِ الإيمانِ والتصديقِ بك، في تركِهم المُكاثرةَ والمُفاخرةَ بالدنيا وزينتِها مِن الرِّياشِ والأموالِ وطلبِ الرياساتِ، وإقبالِهم على طلبِهم ما عندِي برفضِ الدنيا وتَرْكِ زينتِها. والذين عَمِلوا لي وأقْبَلوا على طاعتِي، ورفَضوا لذَّاتِ الدنيا وشهواتِها، اتِّباعًا لك وطلبًا لما عندِي، واتِّقاءً منهم لي بأداءِ فرائضِي وتَجنُّبِ معاصيَّ - فوقَ الذين كفروا يومَ القيامةِ، بإدخالِي المتقين الجنةَ، وإدخالِي الذين كفروا النارَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك مِن التأويلِ قال جماعةٌ [من أهلِ التأويلِ]
(2)
.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ قولَه:{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} . قال: الكفارُ يَبْتغون الدنيا ويَطْلُبونها، {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} في طلبِهم الآخرةَ. قال ابنُ جريجٍ: و
(3)
لا أحسبُه إلا عن عِكرمةَ، قال: قالوا: لو كان محمدٌ نبيًّا كما يقولُ، لاتَّبَعه أشرافُنا وساداتُنا، واللَّهِ ما اتَّبعَه إلا أهلُ الحاجةِ مِثلُ ابنِ مسعودٍ
(4)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"جئت".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منهم".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 374، 375 (1973، 1975) من طريق ابن ثور، عن ابن جريج، وليس فيه التصريح بذكر عكرمة بل قال: وقال آخرون، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ} . قال: فوقَهم في الجنةِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)} .
يعني جلَّ ثناؤه بذلك: واللَّهُ يُعْطِي الذين اتقَوا يومَ القيامةِ مِن نعمِه وكراماتِه وجزيلِ عطاياه، بغيرِ محاسبةٍ منه له
(2)
على ما منَّ به عليه
(3)
مِن كرامتِه.
فإن قال لنا قائلٌ: وما في قولِه: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} من المَدْحِ؟
قيل: المعنى الذي فيه مِن المدحِ، الخبرُ عن أنه غيرُ خائفٍ نَفادَ خَزائنِه، فيحتاجَ إلى حسابِ ما يَخرجُ منها، إذ كان الحسابُ مِن المُعْطِي إنما يكونُ ليَعْلمَ قَدْرَ العطاءِ الذي يَخْرجُ مِن مِلْكِه إلى غيرِه، لئلا يَتجاوزَ في عطاياه إلى ما يُجْحِفُ به، فرَبُّنا تعالى ذكرُه غيرُ خائفٍ نَفادَ خزائنِه، ولا انتقاصَ شيءٍ مِن مِلكِه بعطائِه ما يُعطِي عبادَه، فيحتاجُ إلى حسابِ ما يُعطِي، وإحصاءِ ما يُبقِي، فذلك المعنى الذي في قولِه:{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [من المدحِ]
(4)
.
القولُ في تأويل قولِه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} .
اختلفَ أهلُ التأويلِ في معنى الأمةِ في هذا الموضعِ، وفي الناسِ الذين وصَفهم
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 375 (1976) عن الحسن به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لهم".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليهم".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
اللَّهُ بأنهم كانوا أمَّةً واحدةً؛ فقال بعضُهم: هم الذين كانوا بينَ آدمَ ونوحٍ، وهم عَشَرةُ قرونٍ، كلُّهم كانوا على شريعةٍ مِن الحقِّ، فاختلَفوا بعدَ ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا همامٌ، [عن قتادةَ]
(1)
، عن عِكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان بينَ نوحٍ وآدمَ عشَرةُ قرونٍ، كلُّهم على شريعةٍ مِن الحقِّ، فاخْتَلَفوا، فبعَث اللَّهُ النَّبِيينَ مُبَشِّرِين ومُنْذِرين. قال: وكذلك هي في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (كان الناسُ أُمةً واحدةً فاختَلفوا)
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: كانوا على الهُدَى جميعًا، فاخْتَلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} . فكان أولَ نبيٍّ بُعِثَ نوحٌ
(3)
.
فتأويلُ الأُمةِ على هذا القولِ الذي ذَكرناه عن ابنِ عباسٍ، الدِّينُ، كما قال النابغةُ الذُّبْيانيُّ
(4)
:
حَلَفْتُ فَلَمْ أتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً
…
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طائِعُ
(1)
في م، ت 2:"بن منبه".
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 546 من طريق محمد بن بشار به، وأخرجه البزار (2190 - كشف)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 376 (1983) من طريق همام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى ابن المنذر.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82، وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 376 (1985) عن الحسن بن يحيى به، وأخرجه أيضًا (1987) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
(4)
ديوانه ص 51.
يعني ذا الدينِ. فكان تأويلُ الآيةِ على معنى قولِ هؤلاء: كان الناسُ أُمَّةً واحدةً مُجْتمِعةً على مِلةٍ واحدةٍ
(1)
ودينٍ واحدٍ، فاخْتَلَفوا، فبعَث اللَّهُ النَّبِيين مُبشِّرين ومُنْذِرين.
وأصلُ الأُمَّةِ الجماعةُ تَجْتمِعُ على دينٍ واحدٍ، ثم يُكْتفَى بالخبرِ عن الأمةِ مِن الخبرِ عن
(2)
الدينِ؛ لدَلالتِها عليه، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]. يُرادُ به أهلُ دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدةٍ. فوجَّه ابنُ عباسٍ في تَأويلِه قولَه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى أن الناسَ كانوا أهلَ دينٍ واحدٍ حتى اختلَفوا.
وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: كان آدمُ على الحقِّ إمامًا لذُرِّيتِه، فبعَث اللَّهُ النَّبِيين في ولدِه. ووَجَّهوا معنى الأُمةِ إلى الطاعةِ للَّهِ والدُّعاءِ إلى توحيدِه واتباعِ أمرِه، من قولِ اللَّهِ عز وجل:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]. يعني بقولِه: {أُمَّةً} : إمامًا في الخيرِ يُقْتدَى به، ويُتَّبعُ عليه.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: آدمُ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(4)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
تفسير مجاهد ص 231.
(4)
تفسير سفيان ص 66، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 375 (1981)، وعزاه السيوطي في =
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: آدمُ. قال: كان بينَ آدمَ ونوحٍ عشَرةُ أنبياءَ، فبعَث اللَّهُ النَّبِيين مُبشِّرِين ومُنذرِين، [يقالُ: فنشَر من آدمَ الناسَ، فبعَث فيهم النَّبِيِّينَ مُبشِّرِين ومنذرِين]
(1)
. قال مجاهدٌ: آدمُ أُمةٌ واحدةٌ.
وكأن مَن قال هذا القولَ اسْتَجاز تَسْمِيةَ
(2)
الواحدِ باسمِ الجماعةِ، لاجْتماعِ خِلالِ
(3)
الخيرِ التي
(4)
تكونُ في الجماعةِ المتفرقةِ في من سمَّاه بالأُمَّةِ. كما يقالُ: فلانٌ أمةٌ [وحدَه. بمعنى أنه]
(5)
يَقومُ مَقامَ الأُمةِ. وقد يَجوزُ أن يكونَ سمَّاه بذلك؛ لأنه سَببٌ لاجْتماعِ الأشتاتِ
(6)
مِن الناسِ على ما دعاهم إليه من خِلالِ (3) الخيرِ، فلما كان آدمُ صلى اللَّهُ عليه سببًا لاجتماعِ مَن اجْتَمع على دينِه مِن ولدِه إلى حالِ اخْتِلافِهم، سمَّاه بذلك أُمةً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كان الناسُ أُمةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، يومَ اسْتخرجَ ذُرِّيةَ آدمَ مِن صلبِه، فعرَضهم على آدمَ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه: {كَانَ
= الدر المنثور 1/ 242 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بتسمية".
(3)
في م: "أخلاق"، وفي ت 2:"خلاف".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذي".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"واحدة"
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأسباب".
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}. وعن أبيه، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، عن أبيِّ بنِ كعبٍ، قال: كانوا أمةً واحدةً، حيثُ عُرِضُوا على آدمَ، ففَطَرهم
(1)
اللَّهُ
(2)
يومَئذٍ على الإسلامِ، وأقرُّوا له بالعُبودةِ، وكانوا أُمةً واحدةً مُسْلمِين كلَّهم ثم اخْتلَفوا مِن بعدِ آدمَ، فكان أُبيٌّ يقرَأُ:(كان الناسُ أمةً واحدةً فاختلَفوا فبعَث اللَّهُ النبيين مبشرين ومنذرين) إلى (فيما اختلفوا فيه) وأنّ اللَّهَ إنما بعَث الرسلَ، وأنزَل الكتبَ عندَ الاختلافِ
(3)
.
حدّثني يونُسُ، قالَ: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: حينَ أخْرَجهم مِن ظهرِ آدمَ، لم يكونوا أُمَّةً واحدةً قَطُّ غيرَ ذلك اليومِ، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ}. قال: هذا حين تَفرَّقتِ الأُممُ
(4)
.
وتأويلُ الآيةِ على هذا القولِ نظيرُ تأويلِ
(5)
مَن قال بقولِ ابنِ عباسٍ، أن الناسَ كانوا على دينٍ واحدٍ فيما بينَ آدمَ ونوحٍ. وقد بيَّنا معناه هنالك، إلا أن الوقتَ الذي كان الناسُ فيه أُمةً واحدةً مُخالفٌ الوقتَ الذي وَقَّتَه ابنُ عباسٍ.
وقال آخرون بخلافِ ذلك كلِّه، وقالوا: إنما معنى قولِه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} : [كان الناسُ أُمةً واحدةً على الكفرِ باللَّهِ]
(6)
، فبَعث اللَّهُ النَّبِيين.
(1)
في الأصل: "فطرهم".
(2)
زيادة من تفسير ابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 376 (1982، 1984) من طريق أبي جعفر به.
(4)
ينظر تفسير القرطبي 3/ 30، والبحر المحيط 2/ 135.
(5)
بعده في م: "قول".
(6)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفي م:"على دين واحد".
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبِي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبِي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . يقولُ: [كانوا كفارًا]
(1)
، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}
(2)
.
وأوْلَى التأويلاتِ في هذه الآيةِ بالصوابِ أن يُقالَ: إن اللَّهَ عز وجل أخْبرَ عبادَه أن الناسَ كانوا أُمةً واحدةً على دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدةٍ.
كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً} . يقولُ: دينًا واحدًا؛ على دينِ آدمَ، فاخْتَلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} .
وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحقِّ، كما قال أُبيُّ بنُ كعبٍ.
وكما حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: هي في قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (اخْتلَفوا [عنه): عن]
(3)
الإسلامِ
(4)
.
قال أبو جعفر: فاختلَفوا في دينِهم، فبعَث اللَّهُ عندَ اختلافِهم في دينِهم النَّبِيينَ مُبشرينَ ومُنذرين، وأنزَل معهم الكتابَ ليحكُمَ بينَ الناسِ فيما اختلَفوا فيه، رحمةً منه جل ذِكْرُه بخلقِه واعتذارًا منه إليهم.
(1)
في م: "كان دينا واحدا".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 365 عن العوفي، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى المصنف وابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، وهو في تفسير ابن أبي حاتم 2/ 376 (1983) من طريق عكرمة، عن ابن عباس.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه على".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 243 إلى المصنف، وابن المنذر.
وقد يجوزُ أن يكونَ ذلك الوقتُ الذي كانوا فيه أمةً واحدةً، مِن عهدِ آدمَ إلى عهدِ نوحٍ عليهما السلام، كما روَى
(1)
عِكرمةُ، عن ابنِ عباسٍ، وكما قاله قتادةُ. [وجائزٌ أن يكونَ عنَى اللَّهُ بالأمةِ آدمَ]
(2)
. وجائزٌ أن يكونَ كان ذلك حينَ عرَض على آدمَ خلقَه. وجائزٌ أن يكونَ كان ذلك في وقتٍ غيرِ ذلك، ولا دَلالةَ من كتاب اللَّهِ ولا خبرَ تَثْبُتُ به الحجةُ على أيِّ هذه الأوقاتِ كان ذلك. فغيرُ جائزٍ أن نقولَ
(3)
فيه إلا ما قال اللَّهُ عز وجل فيه مِن أن الناسَ كانوا أُمةً واحدةً، فبعَث اللَّهُ فيهم - لمَّا اخْتلَفوا - الأنبياءَ والرسلَ. ولا يَضرُّنا الجهلُ بوقتِ ذلك، كما لا يَنفعُنا العلمُ به؛ إذ لم يَكُنِ العلمُ به للَّهِ طاعةً، غيرَ أنه أيُّ ذلك كان، فإن دليلَ القرآنِ واضحٌ على أن الذين أخْبَر اللَّهُ عنهم أنهم كانوا أُمةً واحدةً، إنما كانوا أُمةً واحدةً على الإيمانِ ودينِ الحقِّ دونَ الكفرِ باللَّهِ والشركِ به، وذلك أن اللَّهَ - جلّ وعزّ - قال في السورةِ التي يُذْكَرُ فيها "يُونسُ":{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]. فتَوعَّد جل ذكرُه على الاختلافِ لا على الاجتماعِ، ولا على كونِهم أمةً واحدةً، ولو كان اجتماعُهم قبلَ الاختلافِ كان على الكفرِ، ثم كان الاختلافُ
(4)
بعدَ ذلك، لم يَكُنْ إلا بانتقالِ بعضِهم إلى الإيمانِ، ولو كان ذلك كذلك، لكان الوَعدُ أوْلَى بحكمتِه جل ثناؤه في ذلك الحالِ مِن الوَعيدِ؛ لأنها حالُ إنابةِ بعضِهم إلى طاعتِه، ومُحالٌ أن يَتوعَّدَ في حالِ التوبةِ والإنابةِ، ويَتركَ ذلك في حالِ اجتماعِ الجميعِ على الكفرِ والشِّركِ.
(1)
بعده في الأصل: "عن".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
(4)
في الأصل: "اختلاف".
وأما قولُه: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ} . فإنه يعني أنه أرسَل رسلًا يُبشِّرون مَن أطاع اللَّهَ بجزيلِ الثوابِ وكريمِ المآبِ.
ويعني بقولِه: {وَمُنْذِرِينَ} : ينذرون مَن عصَى اللَّهَ فكفَر به بشدةِ العقابِ، وسوءِ الحسابِ، والخُلودِ في النارِ، {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. يعني بذلك: ليَحْكُمَ الكتابُ وهو التوراةُ بينَ الناسِ فيما اخْتلَف المُختلِفون فيه. فأضاف جل ثناؤُه الحُكْمَ إلى الكتابِ، وأنه الذي يَحكُمُ بينَ الناسِ دونَ النَّبِيين والمُرسلين، إذ كان مَن حكَم مِن النَّبِيين والمُرسلين بحُكمٍ
(1)
، إنما يَحكُمُ بما دلَّهم عليه الكتابُ الذي أنزَله اللَّهُ تبارك وتعالى، فكان الكتابُ بدَلالتهِ على ما دلَّ
(2)
على صِحَّتِه من الحُكْمِ، حاكمًا بينَ الناسِ، وإن كان الذي يَفْصِلُ القضاءَ بينَهم به
(3)
غيرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} .
يعني جل ثناؤُه بقولِه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} : وما اخْتَلَف في الكتابِ الذي أنزَله وهو التوراةُ، {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} ، يعني بذلك اليهودَ مِن بني إسرائيلَ، وهم الذين أوتوا التوراةَ والعلمَ بها. والهاءُ في قولِه:{فِيهِ}
(4)
. عائدةٌ على الكتابِ الذي أنزلَه اللَّهُ، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}. يعني بذلك: مِن بعدِ ما جاءتهم حججُ اللَّهِ وأدلتُه أن الكتابَ الذي اخْتلَفوا فيه وفي أحكامِه مِن عندِ اللَّهِ، وأنه الحقُّ
(1)
في الأصل: "يحكم".
(2)
بعده في م: "وصفه".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "أوتوه".
الذي لا يَسَعُهم الاختلافُ فيه، ولا العملُ بخلافِ ما فيه. فأخبر تعالى ذِكْرُه عن اليهودِ مِن بني إسرائيلَ أنهم خالَفوا حكمَ
(1)
التوراةِ، واخْتلَفوا فيه على علمٍ منهم بخطإٍ
(2)
ما يَأتُون، مُتَعمدِين الخلافَ على اللَّهِ فيما خالَفوه فيه مِن أمرِه و
(3)
حكمِ كتابِه.
ثم أخْبَر جل ثناؤُه أن تَعمُّدَهم الخطيئةَ التي أتَوها
(4)
، ورُكوبَهم المعصيةَ التي رَكِبُوها مِن خِلافِهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينَهم.
والبغيُ مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: بَغَى فلانٌ على فلانٍ بغيًا. إذا طَغَى واعتدَى عليه فجاوز حدَّه، ومِن ذلك قيلَ للجُرحِ إذا [اشتدَّ وتورَّم: بغَى يبغِي بَغْيًا]
(5)
، وللبحرِ إذا كَثُرَ ماؤُه ففاضَ، وللسحابِ إذا وقَع بأرضٍ فأخْصَبت: بغَى. كلُّ ذلك بمعنًى واحدٍ، وهي زيادتُه وتجاوُزُه حدَّه. فمعنَى قولِه جل ثناؤُه:{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . مِن ذلك، يقولُ: لم يَكُنِ اختلافُ هؤلاءِ المُختلِفين مِن اليهودِ مِن بني إسرائيلَ في كتابي الذي أنزَلتُه مع نبيٍّ عن جهلٍ منهم به، بل كان اختلافُهم فيه وخلافُ حُكمِه مِن بعدِ ما ثَبَت حجتُه عليهم بغيًا بينهم، طَلَبَ الرياسةِ مِن بعضِهم على بعضٍ، واستذلالًا مِن بعضِهم لبعضٍ.
كما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن
(1)
في م: "الكتاب".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في م، ت 1، ت 3:"أنزلها".
(5)
في م: "أمد".
الربيعِ، قال: ثم رجَع إلى بني إسرائيلَ في قولِه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} . يقولُ: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلمَ، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. يقولُ: بغيًا على الدنيا، وطَلَبَ مُلْكِها وزُخْرفِها وزينتِها، أيُّهم يكونُ له الملكُ والمَهابةُ في الناسِ، فبغَى بعضُهم على بعضٍ، [وضرَب]
(1)
بعضُهم رقابَ بعضٍ
(2)
.
ثم اخْتلَف أهلُ العربيةِ في {مِنْ} التي في قولِه: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ما حكمُها ومعناها؟ وما المعنى [المستثْنى من]
(3)
قولِه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ؟ فقال بعضُهم: المستثنى
(4)
مِن ذلك الذين
(5)
أوتوا الكتابَ، وما بعدَه صلةٌ له. غيرَ أنه زعَم أن معنى الكلامِ: وما اخْتَلف فيه إلا الذين أُوتوه بغيًا بينهم مِن بعدِ ما جاءتهم البيناتُ.
وقد أنكَر ذلك بعضُهم فقال: لا مَعْنَى لما قال هذا القائلُ، ولا لتَقْديمِ البَغْيِ قبلَ {مِنْ} ؛ لأن {مِنْ} إن
(6)
كان الجالِبُ لها البَغْيَ، فخطأٌ أن يتقدَّمَه
(7)
؛ لأن البغيَ مَصْدرٌ، ولا تَتقدَّمُ صلةُ المَصدرِ عليه. وزعَم منكِرُ ذلك أن {الَّذِينَ} مُسْتَثْنًى،
(1)
في الأصل: "يضرب".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 377 (1990، 1991) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب.
(3)
في م: "المنتسق في".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م: "للذين".
(6)
في م: "إذا".
(7)
في م: "تتقدمه".
وأن {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . مُسْتَثنًى، [وأن {بَغْيًا} مستثنًى، وأن كلَّ حرفٍ من ذلك مستثنًى باستثناءٍ غيرِ الاستثناءِ الآخرِ]
(1)
، وأن تأويلَ الكلامِ: وما اخْتَلَف فيه إلَّا الذين أُوتُوه، ما اخْتلَفوا فيه إلا بغيًا، ما اختلفوا فيه
(2)
إلا مِن بعدِ ما جاءتهم البيناتُ. فكأنه كرَّر الكلامَ توكيدًا.
وهذا القولُ الثاني أشبهُ بتأويلِ الآيةِ؛ لأن القومَ لم يَخْتلِفوا إلا مِن بعدِ قيامِ الحجةِ عليهم ومجيءِ البيناتِ مِن عندِ اللَّهِ، وكذلك لم يختلِفوا إلا بغيًا. فذلك أشْبَهُ بتأويلِ الآيةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} .
يعني جل ثناؤُه بقولِه: {فَهَدَى اللَّهُ} : فوفَّق اللَّهُ الذين آمنُوا - وهم أهلُ الإيمانِ باللَّهِ وبرسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم المُصدِّقين به وبما جاء به أنه مِن عندِ اللَّهِ - لما اخْتَلَف الذين أوتوا الكتابَ فيه. وكان اختِلافُهم الذي خذَلهم اللَّهُ فيه، وهدَى له الذين آمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فوفَّقهم لإصابتهِ، الجُمُعةَ؛ ضَلُّوا عنها وقد فُرضَتْ عليهم كالذي فُرضَ علينا، فجعَلوها السبتَ، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخِرُون السَّابِقون، بَيْدَ أنَّهم أُوتُوا الكتابَ مِن قبلِنا، وأُوتِيناه مِن بعدِهم، وهذا
(3)
اليومُ الذي اخْتَلَفوا فيه، فهدانا اللَّهُ له، فلليهودِ غدًا، وللنصارَى بعدَ غدٍ".
حدَّثنا بذلك [ابنُ حُميدٍ]
(4)
، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن عياضِ بنِ
(1)
سقط من ت 1، ت 2، ت 3، وفي م:"باستثناء آخر".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".
(4)
في م: "أحمد بن حميد"، وفي ت 1:"حمد بن حميد".
دينارٍ الليثىِّ، قال: سمِعتُ أبا هريرةَ يقولُ: قال أبو القاسمِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر الحديثَ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا مَعْمرٌ، عن الأعْمَشِ، عن أبى صالحٍ، عن أبى هريرةَ:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} . قال: قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخِرون الأوَّلون يومَ القيامةِ، نحن أولُ الناسِ دُخولًا الجنةَ، بَيْدَ أنهم أُوتُوا الكتابَ مِن قبلِنا، وأُوتيناه مِن بعدِهم، فهدانا اللهُ لما اخْتَلَفوا فيه مِن الحقِّ بإذنِه، فهذا اليومُ الذى هدانا اللهُ له، والناسُ لنا فيه تَبَعٌ، غدًا لليهودِ، وبعدَ غدٍ للنصارى"
(2)
.
وكان مما اخْتلَفوا فيه أيضًا ما قاله ابنُ زيدٍ، وهو ما حدَّثنى به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . للإسلامِ، واختلفوا في الصلاةِ، فمنهم مَن يُصَلِّى إلى المشرقِ، ومنهم مَن يُصلِّى إلى بيتِ المقدسِ، فهدانا اللهُ للقِبْلةِ. واخْتلَفوا في الصيامِ، فمنهم مَن يَصومُ بعضَ يومٍ، وبعضُهم بعضَ ليلةٍ، وهدانا اللهُ له. واخْتلَفوا في يومِ الجُمعةِ، فأخَذت اليهودُ السبتَ وأخَذت النصارَى الأحدَ، فهدانا اللَّهُ له. واخْتلَفوا في إبراهيمَ، فقالت اليهودُ: كان يهوديًّا. وقالت النصارى: كان نصرانيًّا.
(1)
أخرجه الحميدى (954، 955)، وأحمد 12/ 260، 361 (7310، 7399)، والبخارى (238، 876، 2956، 6887، 7495)، ومسلم (855)، وأبو يعلى (7269)، والنسائى (1366)، وابن خزيمة (1720)، والبيهقى 3/ 170، 171 من طريق الأعرج وطاوس، عن أبى هريرة.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 82، ومن طريقه أحمد 13/ 135 (7706)، ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 377 (1992)، وأخرجه أحمد 12/ 363 (7401)، ومسلم (855) من طرق عن الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 242 إلى ابن المنذر.
فبَرَّأه اللهُ مِن ذلك، وجعَله حنيفًا مسلمًا، [فهدَى اللهُ أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم للحقِّ من ذلك، وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا]
(1)
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] الذين يدَّعونه مِن أهلِ الشركِ. واخْتَلفوا في عيسى، فجعَلته اليهودُ لفِريةٍ، وجعلَته النصارى ربًّا، فهدانا اللهُ للحقِّ فيه. فهذا الذى قال اللهُ:{فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}
(2)
.
قَال
(3)
: فكانت هدايةُ اللهِ جل ثناؤُه الذين آمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به لِما اخْتَلف هؤلاء الأحزابُ مِن بني إسرائيلَ الذين أوتُوا الكتابَ فيه مِن الحقِّ بإِذنِه، أن وَفَّقهم لإصابةِ ما كان عليه مِن الحقِّ مَن كان قبلَ المُختلِفين الذين وصَف اللهُ صِفتَهم في هذه الآيةِ إذ كانوا أُمَّةً واحدةً، وذلك هو دينُ إبراهيمَ الحَنيفِ المسلمِ خليلِ الرحمنِ، فصاروا بذلك أُمةً واحدةً
(4)
وسطًا، كما وصفَهم به ربُّهم، ليكونوا شهداءَ على الناسِ.
كما حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} : فهداهم اللهُ عندَ الاختلافِ، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسلُ قبلَ الاختلافِ، أقاموا على الإخلاصِ لِلَّهِ وحدَه وعبادتِه لا شريكَ له، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، فأقاموا على الأمرِ الأولِ الذى كان قبلَ الاختلافِ، واعْتَزلوا الاختلافَ وكانوا شهداءَ على الناسِ يومَ القيامةِ؛ كانوا شهداءَ على قومِ نوحٍ، وقومِ هودٍ، وقومِ صالحٍ،
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 378 (1994) من طريق يونس، عن ابن وهب عن ابن زيد، عن أبيه.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
وقومِ شعيبٍ، وآلِ فرعونَ، أن رُسُلَهم قد بَلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلَهم
(1)
. وهى في
(2)
قراءةِ أُبَىِّ بنِ كعبٍ: [وليكونوا]
(3)
شهداءَ على الناسِ يومَ القيامةِ واللهُ يَهْدِى مَن يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ). فكان أبو العاليةِ يقولُ: في هذه الآيةِ المَخْرجُ مِن الشُّبُهاتِ والضلالاتِ والفتنِ
(4)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} . يقولُ: اختَلف الكفارُ فيه، فهدَى اللهُ الذين آمنوا للحقِّ مِن ذلك. وهى في قراءةِ ابنِ مسعودٍ:(فهدَى اللهُ الذين آمنوا لِما اختلَفوا [عنه): عنْ]
(5)
الإسلامِ
(6)
.
وأما قولُه: {بِإِذْنِهِ} . فإنه يعنى جل ثناؤه: بعلمِه [بهم لِما]
(7)
هداهم له.
وقد بيَّنَّا معنى الإذنِ إذا
(8)
كان بمعنى العلمِ في غيرِ هذا الموضعِ، بما أغنى عن إعادتِه ههنا
(9)
.
وأما قولُه: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فإنه يعنى به: واللهُ يُسَدِّدُ مَن يَشاءُ مِن خلقِه، فيُرشدُه إلى الطريقِ القويمِ، على الحقِّ الذى لا اعوجاجَ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 365 عن الربيع، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 378 (1993) من طريق أبي جعفر، عن الربيع، عن أبى العالية، عن أبى.
(2)
زيادة من: م.
(3)
في م: "لتكونوا".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 378 (1995) من طريق أبى جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية.
(5)
في م: "فيه على"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فيه عن".
(6)
ينظر ما تقدم في ص 611.
(7)
في م، ت 1:"بما".
(8)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إذ".
(9)
ينظر ما تقدم في 2/ 360.
فيه، كما هدَى الذين آمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم لما اخْتَلَف الذين أوتوا الكتابَ فيه بغيًا بينَهم، فسدَّدهم لإصابةِ الحقِّ والصوابِ فيه.
وفى هذه الآيةِ البيانُ الواضحُ على صحةِ ما قاله أهلُ الحقِّ مِن أن كلَّ نعمةٍ على العبادِ في دينِهم أو دنياهم، فمِن اللهِ.
فإن قال لنا قائلٌ: وما معنى قولِه: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} . أهداهم للحقِّ أم هداهم للاختلافِ؟ فإن كان هداهم للاختلافِ فإنما أضلَّهم، وإن كان هداهم للحقِّ فكيف قيلَ:{فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} ؟
قيل: إن ذلك على غيرِ الوجهِ الذى ذهَبْتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى اللهُ الذين آمنوا للحقِّ مما
(1)
اختلف فيه مِن كتابِ اللهِ الذين أُوتوه، فكفَر بتَبْديلِه بعضُهم، وثبَت على الحقِّ والصوابِ فيه بعضُهم، وهم أهلُ التوراةِ الذين بدَّلوها، فهدَى اللهُ للحقِّ مما بدَّلوا وحرَّفوا الذين آمنوا مِن أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفرٍ: فإن أشْكَل ما قُلْنا على ذى غَفْلةٍ، فقال: وكيف يَجوزُ أن يكونَ ذلك كما قُلْتَ، و {مِنَ} إنما هي في كتابِ اللهِ في {الْحَقِّ} ، واللامُ في قولِه:{لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} ، وأنت مُحوِّلٌ اللامَ في {الْحَقِّ} ، و {مِنَ} في "الاختلافِ"، في التأويلِ الذى تَتأولُه فتجعلُه مقلوبًا؟
قيل: ذلك في كلامِ العربِ موجودٌ مُسْتَفيضٌ، واللهُ تبارك وتعالى إنما خاطَبهم بمَنْطقِهم، فمِن ذلك قولُ الشاعر
(2)
:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيما".
(2)
تقدم في ص 48.
كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كما
…
كانَ الزِّناءُ فَرِيضةَ الرَّجمِ
وإنما الرجمُ فريضةُ الزِّناء، وكما قال الآخرُ
(1)
:
إنَّ سِرَاجًا لكرِيمٌ مَفْخَرُهْ
…
تَحْلَى
(2)
به العَينُ إذا ما تجْهَرُهْ
وإنما السِّراجُ الذى يَحْلَى
(2)
بالعين، لا العينُ بالسراجِ
(3)
.
وقد قال بعضُهم: إن معنى قولِه: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} أن أهلَ الكتبِ الأولِ اختلَفوا، فكفَر بعضُهم بكتابِ بعضٍ، وهي كلٌّ
(4)
مِن عندِ اللهِ، فهدَى اللهُ أهلَ الإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم للتصديقِ بجميعِها. وذلك قولٌ، غيرَ أن الأولَ أصحُّ القولين؛ لأن اللهَ إنما أخبَر باختلافِهم في كتابٍ واحدٍ.
أما قولُه: {أَمْ حَسِبْتُمْ} . فإنه
(5)
اسْتَفهم بـ "أَمْ" في ابتداءٍ لم يَتقدَّمْه حَرْفُ اسْتِفهامٍ، لسُبوقِ
(6)
كلامٍ هو به مُتصِلٌ، ولو لم يَكُنْ قبلَه كلامٌ يكونُ به متصلًا وكان ابتداءً، لم يكن إلا بحرفٍ مِن حروفِ الاستفهامِ؛ لأن قائلًا لو كان قال مبتدِئًا كلامًا لآخرَ: أم عندَك أخوك. لكان قائلًا ما لا معنى له، ولكن لو قال: أنت رجلٌ
(1)
في الأصل: "الراجز". وتقدم البيت في ص 48.
(2)
في الأصل: "تجلا"
(3)
في م: "بسراج".
(4)
في: "كلها".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كأنه".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لمسبوق".
مُدِلٌّ بقُوتِك أم عندَك أخوك ينصُرُك. كان مُصِيبًا.
وقد بيَّنا بعضَ هذا المعنى فيما مضَى مِن كتابِنا هذا بما فيه الكفايةُ عن إعادتِه
(1)
.
فمعنى الكلامِ: أحسِبتم أنكم أيُّها المؤمنون باللهِ ورسولِه
(2)
تَدْخلون الجنةَ ولم يُصِبْكم مِثْلُ ما أصاب مَن قبلَكم مِن أتباعِ الأنبياءِ والرسلِ مِن الشدائدِ والمحنِ والاخْتبارِ، فتُبْتَلُوا بما ابْتُلوا واخْتُبِروا به مِن البأساءِ، وهي شدَّةُ الحاجةِ والفاقةِ، والضراءِ، وهى العِلَلُ والأوصابُ، ولم تُزلزَلوا زلزالَهم. يعني: ولم يُصِبْهم مِن أعدائِهم مِن الخوفِ والرُّعْبِ شِدةٌ وجَهدٌ شديدٌ حتى يَسْتبطئَ القومُ نصرَ اللهِ إياهم، فيقولوا: متى اللهُ ناصرُنا. ثم أخبَرهم اللهُ أن نصرَه منهم قريبٌ، وأنه مُعْلِيهم على عدوِّهم، ومُظْهِرُهم عليه، فنجَز
(3)
لهم ما وعدَهم، وأعْلَى كلمتَهم، وأطفأ نارَ حربِ الذين كفروا.
وهذه الآيةُ -فيما يَزْعُمُ أهلُ التأويلِ- نزَلت يومَ الخندقِ، حين لَقِى المؤمنون ما لَقُوا مِن شِدَّةِ الجَهْدِ، مِن خوفِ الأحزابِ، وشدةِ أذى البردِ، وضيقِ العَيْشِ الذي كانوا فيه يومئذٍ، يقول اللهُ جل وعز للمؤمنين مِن أصحابِ رسولِه صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9 - 11].
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 412، 413، 585، ومعاني القرآن للفراء 1/ 132.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"رسله".
(3)
في الأصل: "فينجز".
ذِكْرُ مَن قال: نزَلت هذه الآيةُ يومَ الخندقِ
(1)
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} . قال: أصابهم
(2)
هذا يومَ الأحزابِ، حتى
(3)
قال قائلُهم: {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}
(4)
[الأحزاب: 12].
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} . قال: نزَلت في يومِ الأحزابِ، أصابَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بلاءٌ وحصْرٌ، فكانوا كما قال اللهُ جل وعز:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}
(5)
[الأحزاب: 10].
وأما قولُه: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} . فإن عامةَ أهلِ العربيةِ يَتأوَّلونه بمعنى: ولم يَأْتِكمْ. ويَزْعُمون أن "ما" صِلَةٌ وحَشْوٌ.
وقد بَيَّنْتُ القولَ في "ما" التى تُسَمِّيها أهلُ العربيةِ صِلةً، ما حُكْمُها، في غيرِ هذا الموضعِ بما أغْنَى عن إعادتِه
(6)
.
وأما معنى قولِه: {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} . فإنه يعنى: شَبَهُ الذين خَلَوا فمضَوا قبلَكم.
(1)
في م: "الأحزاب".
(2)
في م: "نزل"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"نزلت".
(3)
في م: "حين".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 380 (2004) من طريق عمرو به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 83، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 243 إلى ابن المنذر.
(6)
ينظر ما تقدم في 1/ 429، 430، 2/ 234، 235.
وقد دَلَّلتُ في غيرِ هذا الموضعِ على أن المَثَلَ الشَّبَهُ
(1)
وبنحوِ الذى قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} . [إلى قولِه: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}. قال: يقولُ: أم حسِبتم أن تدخُلوا الجنةَ ولما تُبتَلُوا، يقولُ: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}. يقولُ: سُننُ الذين من قبلِكم، {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}]
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن عبدِ الملكِ بنِ جُرَيجٍ، قال قولَه:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} . قال: هو خيرُهم وأعلمُهم باللهِ.
وفي قولِه: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} وجهان مِن القراءةِ؛ الرفعُ، والنصبُ
(3)
. فمَن رفَع يقولُ، فإنه لمّا كان يَحْسُنُ في موضعِه "فعَل"
(4)
بطَل
(5)
عملُ "حتى" فيها، لأن "حتى" غيرُ عاملةٍ في "فعل"، وإنما تَعْملُ في "يفعل"، وإذا تَقدَّمها "فعل"، وكان الذي بعدَها "يفعل"، وهو مما قد فُعِلَ وفُرِغَ منه، وكان ما قبلَها مِن الفعلِ غيرَ مُتطاولٍ، فالفصيحُ مِن كلامِ العربِ حينئذٍ الرفعُ في "يفعل"، وإبطالُ
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 428 وما بعدها.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 379 (1998) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
بالرفع قرأ نافع وحده، وقرأ الباقون بالنصب. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 181.
(4)
أى: صيغة الماضي.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبطل".
عملِ "حتى" عنه، وذلك كقولِ القائلِ: قُمْتُ إلى فلانٍ حتى أضربُه. فالرفعُ هو الكلامُ الصحيحُ في "أضربُه"، إذا أراد: قُمْتُ إليه حتى ضَربتُه. إذا كان الضربُ قد كان وفُرِغَ منه، وكان القيامُ غيرَ مُتَطاولِ المُدةِ. فأما إذا كان ما قبلَ "حتى" مِن الفعلِ على لفظِ "فعَل" متَطاولَ المُدةِ، وما بعدَها مِن الفعلِ على لفظٍ غيرِ مُنْقَضٍ، فالصحيحُ مِن الكلامِ نَصْبُ "يفعل" وإعمالُ "حتى"، وذلك نحوُ قولِ القائلِ: ما زال فلانٌ يَطْلُبُك حتى يُكَلِّمَك، وجعَل يَنظُرُ إليك حتى يُثْبتَك. فالصحيحُ
(1)
مِن الكلامِ الذي لا يَصِحُّ غيرُه النَّصْبُ بـ "حتى"، كما قال الشاعرُ
(2)
:
مَطَوْتُ بِهِمْ حتى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ
…
وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ
فنَصَب "تَكِلَّ" والفعلُ الذي بعد "حتى" ماضٍ، لأن الذي قبلَها مِن المَطْوِ مُتَطاوِلٌ.
والصحيحُ مِن القراءةِ
(3)
-إذ كان ذلك كذلك-: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} . بنَصْبِ
(4)
{يَقُولَ} ، إذ كانت الزَّلزلةُ فِعلًا مُتطاوِلًا، مِثْلَ المَطْوِ بالإبلِ، وإنما الزَّلزلةُ في هذا الوضعِ الخوفُ مِن العدوِّ، لا زلزلةُ الأرضِ، فلذلك كانت مُتطاولةً، وكان إلنصبُ في {يَقُولَ} ، وإن كان بمعنى "فعل"، أفْصَحَ وأصحَّ مِن الرفعِ فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
(1)
في الأصل: "فالفصيح".
(2)
هو امرؤ القيس، والبيت في ديوانه ص 93.
(3)
والقراءتان كلتاهما صواب مقروء بهما.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"نصب".
عَلِيمٌ (215)}
يعنى جل ثناؤُه بذلك: يسألُك أصحابُك يا محمدُ، أيُّ شيءٍ يُنْفقون مِن أموالِهم فيتَصدقون به، وعلى مَن يُنْفِقونه، و
(1)
فيما يُنْفقون ويَتَصدقون به؟ فقُلْ لهم: ما أنْفَقتم مِن أموالِكم وتَصدَّقتم به فأنْفِقُوه وتَصدَّقوا به واجعَلوه لآبائِكم وأمهاتِكم وأقْرَبِيكم، ولليتامى منكم والمساكينِ وابنِ السبيلِ، فإنكم ما تَأْتوا مِن خيرٍ وتَصْنعوه إليهم، فإن اللهَ به عليمٌ، وهو مُحْصِيه لكم حتى يُوفيَكم أجورَكم عليه يومَ القيامةِ، ويُثيبَكم على ما أطَعْتموه [باحتسابِكم في نفقتِكم عليهم]
(2)
.
والخيرُ الذى قال جل ثناؤُه في قولِه: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} . هو المالُ الذى سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه عن
(3)
النفقةِ منه، فأجابهم اللهُ تبارك وتعالى عنه بما أجابَهم به في هذه الآيةِ.
وفى قولِه: {مَاذَا} وجهان مِن الإعرابِ، أحدُهما، أن يكونَ {مَاذَا} بمعنى: أيَّ شيءٍ؟ فيكونَ نصبًا بقولِه: {يُنْفِقُونَ} . فيكونُ معنى الكلامِ حينئذٍ: يسألونك أيَّ شيءٍ يُنْفِقون؟ ولا يُنْصَبُ بـ {يَسْأَلُونَكَ} .
والآخرُ منهما، الرفعُ. وللرفعِ في ذلك وجهان؛ أحدُهما، أن يكونَ "ذا" الذى مع "ما" بمعنى الذي، فُترفَعُ "ما" بـ "ذا"، و "ذا" بـ "ما"، و "يُنْفِقون" مِن صلةِ "ذا"، فإن العربَ قد تَصِلُ "ذا" و "هذا"، كما قال الشاعرُ
(4)
:
(1)
سقط من: م.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بإحسانكم عليه".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(4)
هو يزيد بن مفرغ الحميري، والبيت في معاني القرآن للفراء 1/ 138، والأغاني 18/ 270، واللسان (ع د س).
عَدَسْ
(1)
! ما لِعَبَّادٍ عليكِ إمارَةٌ
…
أمِنْتِ وهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
فـ "تحملين" مِن صلةِ "هذا". فيكونُ تأويلُ الكلامِ حينئذٍ: يَسْألونك ما الذى يُنْفِقون.
والآخرُ مِن وَجْهَىِ الرفع، أن تَكونَ {مَاذَا} بمعنى: أىُّ شيءٍ؟ فيُرفَعَ {مَاذَا} وإن كان قولُه: {يُنْفِقُونَ} واقعًا عليه، إذ كان العاملُ فيه وهو {يُنْفِقُونَ} لا يَصْلُحُ تَقديمُه قبلَه، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوزُ تَقْديمُ الفعلِ فيه قبلَ حرفِ الاستفهامِ، كما قال الشاعرُ
(2)
:
ألا تَسْألانِ المَرْءَ ماذا يُحاوِلُ
…
أنَحْبٌ
(3)
فيُقْضَى أم ضلالٌ وباطلُ
وكما قال الآخرُ
(4)
:
وقالوا تَعَرَّفْها المنَازِلَ مِن مِنًى
…
وما كُلُّ مَنْ يَغْشَى
(5)
مِنًى أنا عارفُ
فرفَع "كل" ولم يَنْصِبْه بـ "عارف"، إذ كان معنى قولِه: وما كلُّ مَن يَغْشَى مِنًى أنا عارفٌ. جحودَ معرفةِ مَن يَغْشَى منًى، فصار في معنى: ما أحدٌ.
وهذه الآيةُ فيما ذُكِر نزَلت قبلَ أن يَفْرِضَ اللهُ [الزكاةَ في]
(6)
الأموالِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
عدس: زجر البغال في الأصل، وعدس أيضا: اسم للبغل، سموه بتسمية الزجر وسببه. التاج (ع د س).
(2)
هو لبيد بن ربيعة، والبيت في شرح ديوانه ص 254.
(3)
النحب: النذر. التاج (ن ح ب).
(4)
هو مزاحم العقيلي، شعر مزاحم العقيلي ص 105.
(5)
في شعر مزاحم العقيلي: "وافى".
(6)
في م: "زكاة".
السديِّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: يومَ نزَلت هذه الآيةُ لم تَكُنْ زكاةٌ، و
(1)
هى النفقةُ يُنفِقُها الرجلُ على أهلِه، والصدقةُ يَتَصدَّقُ بها، فنَسَختها الزكاةُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ: سأل المؤمنون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أين يَضَعون أموالَهم، فنزَلت:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . فذلك النفقةُ في التطوُّعِ، والزكاةُ سِوى ذلك كلِّه
(3)
.
قال: وقال مجاهدٌ: سألوا فأفتاهم في ذلك: {مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . وما ذُكِرَ معهما
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، قال: سمِعت ابنَ أبي نجيحٍ في قولِ اللهِ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} . قال: سألوه فأفتاهم في ذلك: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وما ذُكِرَ معهما
(4)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ وسألتُه عن قولِه: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . قال: هذا
(5)
مِن النوافلِ. قال
(6)
: يقولُ: هم أحقُّ بفضلِك مِن غيرِهم.
(1)
في م: "وإنما".
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 381 (2010) من طريق عمرو به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 243 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
سقط من: الأصل.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 381 (2008) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(5)
في الأصل: "هذه".
(6)
سقط من: الأصل.
وهذا الذى قاله السُّدِّيُّ مِن أنه لم تَكُنْ يومَ نزَلَت هذه الآيةُ زكاةٌ، وإنما كانَت نفقةٌ
(1)
يُنْفِقُها الرجلُ على أهلِه، وصدقةٌ يَتَصَدَّقُ بها، ثم نسَخَتْها الزكاةُ -قولٌ مُمكِنٌ أن يَكونَ كما قال، ومُمْكِنٌ غيرُه، ولا دَلالةَ في الآيةِ على صحةِ ما قال؛ لأنه ممكنٌ أن يَكونَ قولُه:{قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية. حَثًّا مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه على الإنفاقِ على مَن كانت نفقتُه غيرَ واجبةٍ مِن الآباءِ والأمهاتِ والأقْرباءِ، ومَن سمَّى معهم في هذه الآيةِ، وتَعْرِيفًا مِن اللهِ عبادَه مَواضعَ الفضلِ التى تُصْرَفُ فيها النَّفَقاتُ، كما قال في الآيةِ الأُخرى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177]. وهذا القولُ الذى قلْناه هو
(2)
قولُ ابنِ جُرَيْجٍ الذى حكَيْناه.
وقد بيَّنَّا معنى المَسْكنةِ، ومَن ابنُ السبيلِ فيما مضَى، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه ههنا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} : فُرِض عليكم القِتالُ. يعنى قتالَ المشركين، {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} .
واخْتَلَف أهلُ العلمِ في الذين عُنُوا بفرضِ القتالِ، فقال بعضُهم: عُنى بذلك أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خاصةً دونَ غيرِهم.
(1)
في الأصل: "نفقته".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(3)
تقدم في 2/ 26، 27، 192، وفى ص 82 من هذا الجزء.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدثنا الحسينُ، قال: حدثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: سألْتُ عطاءً قلتُ له: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أواجبٌ الغَزْوُ على الناسِ مِن أجلِها؟ قال: لا، كُتِب على أولئك حينَئذٍ
(1)
.
[حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: حدثنا خالدٌ، عن حسينِ بنِ قيسٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . قال: نسَخَتْها: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
(2)
.
وهذا قولٌ لا معنى له؛ لأن نسخَ الأحكامِ مِن قِبَلِ اللهِ جل وعز لا مِن قِبَلِ العبادِ، وقولُه:{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . خبرٌ مِن اللهِ عن عبادِه المؤمنين، وأنهم قالوه، لا نسخٌ منه]
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا معاويةُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو إسحاقَ الفَزَاريُّ، قال: سأَلْتُ الأوْزاعيَّ عن قولِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . أواجبٌ الغَزْو على الناسِ كلِّهم؟ قال: لا أَعْلَمُه، ولكن لا يَنْبَغى للأئمةِ والعامَّةِ تَرْكُه، فأما الرجلُ في خاصةِ نفسِه فلا.
وقال آخَرون: هو على كلِّ أحدٍ حتى يَقومَ به مَن في قيامِه به الكِفايةُ، فيَسْقُطُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 382 (2014) من طريق حجاج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 244 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 244 إلى المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 382 (2013) من طريق حسين بن قيس، عن عكرمة قوله، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من: الأصل، وموضعه في ت 1، ت 2، ت 3 بعد قوله:{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير} في ص 633. ولعل موضعه في الأصل كما في هذه النسخ، ولكن هذا الجزء من الأصل ليس بين أيدينا.
فرضُ ذلك حينئذٍ عن باقي المسلمين، كالصلاةِ على الجنائزِ، ودفنِ الموتى، وغسلِهم.
وهذا قولُ عامةِ علماءِ المسلمين. وذلك هو الصوابُ عندَنا؛ لإجماعِ الحُجَّةِ على ذلك، ولقولِه جلّ ثناؤُه:{فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. فأخْبَر جلَّ ثناؤُه أن الفضلَ للمُجاهِدِين، وأن لهم وللقاعِدِين الحُسْنَى، ولو كان القاعدون مُضَيِّعين فرضًا، لَكان لهم السُّوأَى لا
(1)
الحُسْنَى.
وقال آخَرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيامِ الساعةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا حُبَيْشُ
(2)
بنُ مُبشِّرٍ
(3)
، قال: ثنا رَوْحُ بنُ عُبادةَ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن داودَ بنِ أبي عاصمٍ، قال: قلتُ لسعيدِ بنِ المسيبِ: قد أعْلَمُ أن الغَزْوَ واجبٌ على الناسِ. فسكَت، وقد أعْلَمُ أن لو أنكَر ما قلتُ لبيَّن لى.
وقد بيَّنَّا فيما مضَى معنى قولِه: {كُتِبَ} بما فيه الكِفايةُ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذكرُه: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: وهو ذو كُرْهٍ لكم. فترَك ذكرَ "ذو" اكْتِفاءً بدلالةِ
(1)
إلى هنا ينتهى الجزء الخامس من مخطوط جامعة القرويين والتى أشير إليها بالأصل، وسيجد القارئ أرقام المخطوط ت 1 بين معقوفين.
(2)
في النسخ: "حسين". والمثبت من تاريخ بغداد 8/ 272. وينظر تهذيب الكمال 5/ 415.
(3)
في م: "ميسر".
(4)
ينظر ما تقدم في ص 102، 103.
قولِه: {كُرْهٌ لَكُمْ} عليه، كما قال:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
وبنحوِ الذى قلْنا في ذللث رُوِى عن عطاء في تأويلِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ فى قولِه:{وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . قال: كُرِّهَ إليكم حينَئذٍ.
والكُرْهُ بالضمِّ هو ما حمَل الرجلُ نفسَه عليه مِن غيرِ إكْراهِ أحدٍ إياه عليه، والكَرْهُ بفتحِ الكافِ هو ما حمَله عليه غيرُه فأدْخَله عليه كَرْهًا.
وممَّن حُكِى عنه هذا القولُ مُعاذُ بنُ مُسْلِمٍ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حمادٍ، عن مُعاذِ بنِ مسلمٍ، قال: الكُرْهُ المَشَقَّةُ، والكَرْهُ الإجْبارُ.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: الكُرْهُ والكَرْهُ لغتان بمعنًى واحدٍ، مثلَ الغُسْلِ والغَسْلِ، والضُّعْفِ، والضَّعْفِ، والرُّهْبِ والرَّهْبِ.
وقال بعضُهم: الكُرْهُ بضمِّ الكافِ اسمٌ، والكَرْهُ بفتحِها مصدرٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذكرُه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: ولا تَكْرَهوا القِتالَ، فإنكم لعلكم أن تَكْرَهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تُحِبُّوا تَرْكَ الجهادِ، فلعلكم أن تُحِبُّوه وهو شرٌّ لكم.
كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}: وذلك لأن المسلمين كانوا يَكْرَهون القِتالَ، فقال:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . يقولُ: إن
(1)
في القتالِ الغَنيمةَ والظُّهورَ والشَّهادةَ، ولكم في القعودِ ألا تَظْهَروا على المشركين، ولا تَسْتَشْهِدوا، ولا تُصِيبوا شيئًا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ إبراهيمَ السُّلَمِيُّ، قال: ثنى يحيى بنُ محمدِ بنِ مجاهدٍ، قال: أخْبَرنى عبيدُ اللهِ بنُ أبي هاشمٍ الجُعْفِيُّ، قال: أخْبَرني عامرُ بنُ وَاثِلةَ، قال: قال ابنُ عباسٍ: كنتُ رِدْفَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا بنَ عباسٍ، ارْضَ عن اللهِ بما قدَّرَ، وإن كان خِلافَ هواك، فإنه مُثْبَتٌ في كتابِ اللهِ". قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، فأين وقد قرأت القرآنَ؟ قال:"في قولِه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} "
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذِكْرُه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: واللهُ يعلمُ ما هو خيرٌ لكم مما هو شرٌّ لكم، فلا تَكْرهوا ما كتبتُ عليكم مِن جهادِ عدوِّكم، وقتالِ مَن أمرْتُكم بقتالِه، فإنى أعلمُ أنّ قتالَكم إياهم هو خيرٌ لكم في عاجلِكم ومعادِكم، وتركَكم قتالَهم شرٌّ لكم، وأنتم لا تعلمون مِن ذلك ما أعلمُ. يَحُضُّهم جلَّ ذكرُه بذلك على جهادِ أعدائِه، ويُرغِّبُهم في قتالِ مَن كفَر به.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذِكْرُه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، وبعده في م:"لكم".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 383 (2019) من طريق عمرو به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 244 إلى المصنف.
مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
يعنى بذلك جل ثناؤُه: يسألُك يا محمدُ أصحابُك عن الشهرِ الحرامِ -وذلك رجبٌ- عن قتالٍ فيه.
وخفضُ "القتالِ" على معنى تَكْريرِ "عن" عليه. وكذلك كانت قراءةُ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ فيما ذُكِرَ لنا
(1)
.
وقد حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} . قال: يقولُ: يسألونك عن قتالٍ فيه. قال: وكذلك كان يقرؤُها: (عن قتالٍ فيه)
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: {قُلْ} يا محمدُ: {قِتَالٌ فِيهِ} يعنى: فى الشهرِ الحرامِ، {كَبِيرٌ} أى: عظيمٌ عندَ اللهِ استحلالُه، وسفكُ الدماءِ فيه.
ومعنى قولِه: {قِتَالٌ فِيهِ} : قُل: القِتالُ فيه كبيرٌ.
وإنما قال: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ؛ لأن العربَ كانت لا تَقْرعُ فيه الأسِنَّةَ، فيَلْقَى الرجلُ قاتلَ أبيه أو أخيه فيه فلا يَهِيجُه؛ تعظيمًا له، وتُسَمِّيه مُضَرُ الأصمَّ، لسُكوتِ
(3)
أصواتِ السلاحِ وقَعْقَعتِه فيه.
وقد حدَّثنى محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ المصْرىُّ، قال: ثنا شعيبُ بنُ الليثِ، قال: ثنا الليثُ، قال: ثنا أبو
(4)
الزبيرِ، عن جابرٍ، قال: لم يَكُنْ رسولُ اللهِ
(1)
المصاحف ص 58. وهى قراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(2)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 252 إلى المصنف. وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 385 عقب الأثر (2024) من طريق ابن أبى جعفر به، وهى قراءة ابن عباس والربيع والأعمش. ينظر البحر المحيط 2/ 145.
(3)
فى م: "لسكون".
(4)
سقط من: م، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"ابن". والمثبت من المسند، وينظر تهذيب الكمال 26/ 402.
صلى الله عليه وسلم يَغْزو فى الشهرِ الحرامِ إلا أنْ يُغْزَى، أو يَغْزوَ حتى إذا حضَر ذلك أقام حتى يَنْسَلِخَ
(1)
.
وقولُه جل ثناؤُه: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} . ومعنى الصدِّ عن الشئِ: المنعُ منه والدَّفْعُ عنه. ومنه قيل: صدَّ فلانٌ بوجهه عن فلانٍ. إذا أَعْرَض عنه فمنَعه من النظرِ إليه.
وقولُه: {وَكُفْرٌ بِهِ} . يعنى: وكفرٌ باللهِ. والباءُ فى {بِهِ} عائدةٌ على اسمِ اللهِ الذى فى {سَبِيلِ اللهِ} .
وتأويلُ الكلامِ: وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ، وكفرٌ به، وعن المسجدِ الحرامِ، وإخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ -وهم أهلُه وولاتُه- أكبرُ عندَ اللهِ مِن القتالِ فى الشهرِ الحرامِ.
فـ "الصدُّ عن سبيلِ اللهِ" مرفوعٌ بقولِه: {أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} . وقولُه: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عطفٌ على "الصدِّ". ثم ابْتَدأ الخبرَ عن الفِتْنةِ فقال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . يعنى: الشركُ أعظمُ وأكبرُ مِن القتلِ. يعنى: مِن قتلِ ابنِ الحَضْرَمىِّ الذى اسْتَنْكرتم قتلَه فى الشهرِ الحرامِ.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ
(2)
يَزْعُمُ أن قولَه: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . معطوفٌ على "القتالِ"، وأن معناه: يَسْألونك عن الشهرِ الحرامِ، عن قتالٍ فيه، وعن المسجدِ الحرامِ. فقال اللهُ جل ثناؤُه:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} مِن القتالِ فى الشهرِ الحرامِ.
وهذا القولُ مع خروجِه مِن أقوالِ أهلِ العلمِ، قولٌ لا وجهَ له؛ لأن القومَ لم
(1)
أخرجه أحمد 22/ 439، 23/ 60 (14583، 14713) من طريق الليث به.
(2)
هو الفراء فى معانى القرآن 1/ 141.
يكونوا فى شكٍّ مِن عظيمِ ما أتَى المشركون إلى المسلمين فى إخراجِهم إياهم مِن منازلِهم بمكةَ، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن إخراجِ المشركين إياهم مِن منازلِهم، وهل ذلك كان لهم، بل لم يَدَّعِ ذلك عليهم أحدٌ مِن المسلمين، ولا أنهم سألوا رسولَ صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، فلم
(1)
يكنِ القومُ سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا عما ارتابوا بحُكْمِه، كارتيابِهم فى أمرِ قتلِ ابنِ الحَضْرَمِىِّ، إذ ادَّعَوا أن قاتلَه مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قتلَه فى الشهرِ الحرامِ، فسألوا عن أمرِه لارتيابِهم فى حُكْمِه، فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلامِ مِن
(2)
المسجدِ الحرامِ، فلم يكنْ فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.
ولا خلافَ بينَ أهلِ التأويلِ جميعًا أن هذه الآيةَ نزلَت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى سببِ قتلِ ابنِ الحَضْرمىِّ وقاتِلِه.
ذِكْرُ الرِّوايةِ عمَّن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: ثنى الزُّهرىُّ ويزيدُ بن رُومانَ، عن عُروةَ بنِ الزبيرِ، قال: بعَثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عبدَ اللهِ ابنَ جَحْشٍ فى رَجَبٍ مَقْفَلَه مِن بدرٍ الأُولى، وبعَث معه بثمانيةِ رَهْطٍ مِن المهاجرين، ليس فيهم مِن الأنصارِ أحدٌ، وكتَب له كتابًا، وأمرَه ألا يَنْظُرَ فيه حتى يَسِيرَ يومين، ثم يَنْظُرَ فيه فيَمْضِىَ لما أمَره، ولا يَسْتكرِهَ مِن أصحابِه أحدًا. وكان أصحابُ عبدِ اللهِ ابنِ جحشٍ مِن المهاجرينِ؛ مِن بنى عبدِ شمس: أبو حُذَيفَةَ بنُ [عُتْبَةَ بنِ]
(3)
(1)
فى النسخ: "ولم". والمثبت هو الصواب.
(2)
فى ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(3)
سقط من النسخ، وسيأتى على الصواب، وينظر الإصابة 7/ 87.
ربيعةَ
(1)
بنِ عبدِ شمسٍ، ثم مِن حلفائِهم: عبدُ اللهِ بنُ جَحْشِ بنِ ريابٍ، وهو أميرُ القومِ، وعُكَّاشةُ بنُ مِحْصَنِ بنِ حُرْثانَ، أحدُ بنى أسدِ بنِ خُزَيمَةَ، ومِن بنى نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ: عُتْبةُ بنُ غَزْوانَ، حليفٌ لهم، ومِن بنى زُهْرةَ بنِ كلابٍ: سعدُ بنُ أبى وَقاصٍ، ومِن بنى عدىِّ بنِ كعبٍ: عامرُ بنُ ربيعةَ، حليفٌ لهم، ووَاقِدُ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ [منافِ بن عَرِينِ]
(2)
بنِ ثَعْلَبةَ بنِ يَرْبوعِ بنِ حنظلةَ، وخالدُ بنُ البكيرِ أحدُ بنى سعدِ بن ليثٍ، حليفٌ لهم، ومِن بنى الحارثِ بنِ فهرٍ: سُهَيلُ ابنُ بيضاءَ. فلما سار عبدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ يومين فتَح الكتابَ ونظَر فيه، فإذا فيه: "إذا نظَرت فى
(3)
كتابى هذا، فَسِرْ حتى تنزِلَ نَخْلَةَ بينَ مكةَ والطائفِ، فتَرصُدَ بها قريشًا، وتَعلَمَ لنا مِن أخبارِهم". فلما نظَر عبدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ فى الكتابِ قال: سمعًا وطاعةً. ثم قال لأصحابِه: قد أمَرنى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن أمْضِىَ إلى نَخْلةَ فأرْصُدَ بها قريشًا، حتى آتيَه منهم بخَبرٍ، وقد نهانى أن أسْتَكرِهَ أحدًا منكم، فمَن كان منكم يُريدُ الشَّهادةَ ويَرغبُ فيها فلْيَنْطلِقْ، ومَن كَرِه ذلك فلْيَرجِعْ، فأما أنا فماضٍ لأمرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فمضَى ومضَى أصحابُه معه، فلم يتخلَّفْ عنه أحدٌ، وسلَك على الحجازِ، حتى إذا كان بمَعْدِنٍ فوقَ الفُرْعِ، يقالُ له: بُحْرانُ
(4)
. أضلَّ سعدُ بنُ أبى وقاصٍ وعتبةُ بنُ غَزْوانَ بعيرًا لهما
(5)
كانا عليه يَعْتَقِبانه، فتخلَّفا عليه فى طلبِه، ومضَى عبدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ وبقيةُ أصحابِه حتى نزَل بنَخْلةَ، فمرَّت به عِيرٌ لقريشٍ
(1)
بعده فى النسخ: "ومن بنى أمية". والمثبت كما فى سيرة ابن هشام، وينظر جمهرة أنساب العرب ص 76، 77.
(2)
فى النسخ: "مناة بن عويم". والمثبت من سيرة ابن هشام، وينظر الإصابة 6/ 595.
(3)
فى النسخ: "إلى". والمثبت من سيرة ابن هشام، وهو الموافق لما فى بقية المصادر.
(4)
فى النسخ: "نجران". والمثبت من تاريخ المصنف وسيرة ابن هشام. وينظر معجم البلدان 1/ 498.
(5)
فى ت 1، ت 2، ت 3:"إنما".
تَحمِلُ زبيبًا وأدَمًا وتجارةً مِن تجارةِ قريشٍ، فيها منهم: عمرُو بنُ الحَضْرمىِّ، وعثمانُ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ المُغيرةِ، وأخوه نَوفلُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ المغيرةِ، المَخْزوميان، والحكمُ بنُ كَيْسانَ مولى هشامِ بنِ المُغيرةِ. فلما رآهم القومُ هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشْرَف لهم عُكَّاشةُ بنُ مِحْصَنٍ، وقد كان حلَق رأْسَه، فلما رأَوه أمِنوا وقالوا: عُمَّارٌ، فلا بأسَ علينا منهم. وتشَاور القومُ فيهم، وذلك فى آخرِ يومٍ مِن جُمادَى
(1)
، فقال القومُ: واللهِ لئن تَركْتُم القومَ هذه الليلةَ ليَدْخُلُنَّ الحَرَمَ فليَمْتنعُنَّ به منكم، ولئن قَتلتُموهم لتَقْتُلُنَّهم فى الشهرِ الحرامِ. فتَردَّد القومُ فهابوا الإقدامَ عليهم، ثم شجّعوا
(2)
عليهم، وأجْمَعوا على قتلِ مَن قَدَروا عليه منهم، وأخْذِ ما معهم، فرمَى واقدُ بنُ عبدِ اللهِ التَّمِيمىُّ عمرَو بنَ الحَضْرمىِّ بسهمٍ فقَتَله، واسْتَأْسَر عثمانَ بنَ عبدِ اللهِ والحكمَ ابنَ كيسانَ، وأفْلَت نَوْفلُ بنُ عبدِ اللهِ فأعْجَزَهم، وقَدِم عبدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ وأصحابُه بالعِيرِ والأسيرَيْنِ حتى قَدِموا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ. وقد ذَكَر بعضُ آلِ عبدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ أَن عبدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ قال لأصحابِه: إن لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مما غَنِمْتم الخُمُسَ. وذلك قبلَ أن يُفْرَضَ الخُمُسُ مِن الغَنائِمِ، فعزَل لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُمُسَ العِيرِ، وقسَم سائرَها بينَ
(3)
أصحابِه، فلما قَدِموا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"ما أَمَرْتُكم بقِتالٍ فى الشهرِ الحرامِ". فوقَف العِيرَ والأسِيرَيْن، وأَبَى أَن يَأْخُذَ مِن ذلك شيئًا، فلما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقِط فى أَيْدِى القومِ، وظَنُّوا أنهم قد هلَكوا، وعَنَّفَهم المُسْلِمون فيما صَنَعوا، وقالوا لهم: صَنَعتم ما لم تُؤْمروا به، وقاتَلْتم فى الشهرِ الحرامِ ولم تُؤمروا بقتالٍ. وقالت قريشٌ: قد استحلَّ محمدٌ وأصحابُه
(1)
كذا فى النسخ، وفى تاريخ المصنف وسيرة ابن هشام:"رجب"، وسيأتى ما يدل على أن الرواية هنا هكذا.
(2)
فى تاريخ المصنف: "تشجعوا"، وفى سيرة ابن هشام:"شجعوا أنفسهم".
(3)
فى م، ت 3:"على".
الشهرَ الحرامَ، فسَفَكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموالَ، وأسَروا
(1)
. فقال مَن يَرُدُّ ذلك عليهم مِن المسلمين ممن كان بمكةَ: إنما أصابوا ما أصابوا فى جُمادَى
(2)
. وقالت يهودُ -تَتَفاءلُ
(3)
بذلك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-: عمرُو بنُ الحَضْرَمىِّ قتَله وَاقِدُ بنُ عبدِ اللهِ؛ عمرٌو: عَمَرتِ الحربُ، والحَضْرَمِىُّ: حَضَرت الحربُ، وواقدُ بنُ عبدِ اللهِ: وَقَدتِ الحربُ. فجعَل اللهُ عليهم ذلك [وبهم]
(4)
. فلما أَكْثَر الناسُ فى ذلك، أنزَل اللهُ جل وعز على رسولِه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أى: عن قتالٍ فيه، {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلى قولِه:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . أى: إن كنتم قتَلتم فى الشهرِ الحرامِ فقد صَدُّوكم عن سبيلِ اللهِ، مع الكفرِ به، وعن المسجدِ الحرامِ. وإخراجُكم عنه -إذ أنتم أهلُه ووُلاتُه- أكبرُ عندَ اللهِ مِن قتلِ مَن قَتَلتُم منهم، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. أى: قد كانوا يَفْتِنون المسلمَ عن دينِه حتى يَردُّوه إلى الكفرِ بعدَ إِيمانِه، وذلك أكبرُ عندَ اللهِ مِن القتلِ، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}. أى: هم مُقِيمون على أخبثِ ذلك وأعظمِه، غيرَ تائبين ولا نازِعِين. فلما نزَل القرآنُ بهذا مِن الأمرِ، وفَرَّج اللهُ عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَقِ
(5)
، قَبَض رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم العِيرَ والأسِيرَيْن
(6)
.
(1)
بعده فى تاريخ المصنف وسيرة ابن هشام: "فيه الرجال".
(2)
فى تاريخ المصنف وسيرة ابن هشام: "شعبان".
(3)
فى ت 1، ت 2، ت 3:"يقال". وفى تاريخ المصنف وسيرة ابن هشام: "تفاءل".
(4)
فى تاريخ المصنف وسيرة ابن هشام: "لا لهم".
(5)
الشفق: الخوف. التاج (ش ف ق).
(6)
أخرجه المصنف فى تاريخه 2/ 410 - 413، وذكره ابن هشام فى سيرته 1/ 601 - 605. وفيهما زيادة عما هنا. =
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} : وذلك أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَث سَرِيَّهً وكانوا سبعةَ نَفَرٍ
(1)
، عليهم عبدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ الأسَدِىُّ، وفيهم عَمارُ بنُ ياسرٍ، وأبو حُذَيفةَ بنُ عُتْبةَ بنِ رَبيعةَ، وسعدُ بنُ أبى وقاصٍ، وعُتْبةُ ابنُ غَزْوانَ السُّلَمِىُّ، حَليفٌ لبنى نَوْفلٍ، وسُهَيلُ ابنُ بَيْضَاءَ، وعامرُ بنُ فُهَيرةَ، ووَاقدُ ابنُ عبدِ اللهِ اليَرْبوعِىُّ، حليفٌ لعمرَ بنِ الخطابِ. وكتَب مع ابنِ جَحْشٍ كتابًا، وأمَره ألا يَقْرأَه حتى ينزِلَ بطنَ
(2)
مَلَلٍ، فلما نزَل ببَطنِ مَلَلٍ فتَح الكتابَ، فإذا فيه:"أَنْ سِرْ حتى تَنزِلَ بَطْنَ نَخْلةَ". فقال لأصحابِه: مَن كان يُريدُ الموتَ فلْيَمضِ ولْيُوصِ، فإنى مُوصٍ وماضٍ لأمرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فسار، وتَخلَّف عنه سعدُ بنُ أبى وقاصٍ وعُتبةُ بنُ غَزْوانَ، أضلَّا
(3)
رَاحلةً لهما، فأَتَيا بُحْرانَ
(4)
يَطْلُبانها، وسار ابنُ جَحْشٍ إِلى بَطْنِ نَخْلَةَ، فإذا هم بالحكمِ بنِ كَيْسانَ، وعبدِ اللهِ بنِ المُغيرةِ، والمُغيرةِ بنِ عثمانَ، وعمرِو بنِ الحَضْرمىِّ، فاقْتَتَلوا، فأَسَروا الحَكَمَ بنَ كَيْسانَ وعبدَ اللهِ بنَ المُغيرةِ، وانْفَلَت المُغيرةُ، وقُتِلَ عمرُو بنُ الحَضْرمىِّ؛ قتَله واقدُ بنُ عبدِ اللهِ، فكانت أوَّلَ غَنيمةٍ غَنِمها أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. فلما رجَعوا إلى المدينةِ بالأسيرَيْن وما غَنِموا
= وأخرجه البيهقى فى الدلائل 3/ 18، 19 من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن يزيد وحده مختصرًا.
وأخرج بعضه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 385، 386 (2024، 2034، 2038) من طريق سلمة وعبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق به.
(1)
بعده فى ت 1، ت 2، ت 3:"وأمر".
(2)
سقط من النسخ، والمثبت مما بعده، ولما فى تاريخ المصنف.
وملل: اسم موضع فى طريق مكة بين الحرمين. معجم البلدان 4/ 637.
(3)
فى م: "أضل".
(4)
فى النسخ: "نجران". وتقدم مثله فى ص 651.
مِن الأموالِ، أراد أهلُ مكةَ أن يُفَادوا بالأسيرَيْن، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"حتى نَنْظُرَ ما فعَل صاحبانا". فلما رجَع سعدٌ وصاحبُه فادَى بالأسيرين، ففَجَر
(1)
عليه المشركون وقالوا: محمدٌ يَزْعُمُ أنه يَتَّبعُ طاعةَ اللهِ، وهو أوَّلُ مَن اسْتحلَّ الشهرَ الحرامَ، وقَتَل صاحبَنا في رجبٍ. فقال المسلمون: إنما قَتَلناه في جُمادَى -وقيلَ: في أوَّل ليلةٍ من رَجَبٍ، وآخرِ ليلةٍ مِن جُمَادَى- وغَمَد
(2)
المسلمون سُيوفَهم حينَ
(3)
دخَل رَجَبٌ، فأنزَل اللهُ جلَّ وعز يُعَيِّرُ أهلَ مكةَ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لا يَحِلُّ، وما صَنَعتم -أنتم يا معشرَ المشركين- أكبرُ مِن القتلِ في الشهرِ الحرامِ، حين كفَرتم باللهِ، وصَدَدْتم عنه محمدًا وأصحابَه. وإخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ منه -حينَ أخْرجوا محمدًا- أكبرُ مِن القتلِ عندَ اللهِ. والفِتْنَةُ -هى الشركُ- أعظمُ عندَ اللهِ مِن القتلِ في الشهرِ الحرامِ. فذلك قولُه:{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى الصَّنْعانيُّ، قال: ثنا المُعتَمِرُ بنُ سُليمانَ التَّيْمِيُّ، عن أبيه، أنه حدَّثه رجلٌ، عن أبي السَّوَّارِ، يُحدِّثُه عن جُنْدَبِ بنِ عبدِ اللهِ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه بعَث رَهْطًا، فبعَث عليهم أبا عُبَيدةَ، فلما أخَذ لينْطلِقَ بكَى صَبابةً إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبعَث رجلًا مكانَه يُقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ. وكتَب له كتابًا، وأمَره ألَّا يَقْرأَ الكتابَ حتى يَبْلُغَ كذا وكذا، "ولا تُكْرِهَنَّ أحدًا مِن أصحابِك
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3، ونسخة من تاريخ المصنف:"ففخر".
(2)
في م، ت 2، ونسخة من تاريخ المصنف:"أغمد".
(3)
في ت 2، ت 3:"حتى".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 413، 414 مختصرا عما هنا. وأخرج جزءا منه دون القصة ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 385 (2027) من طريق عمرو به.
على السيرِ معك". فلما قرَأ الكتابَ اسْتَرْجَع وقال: سمعًا وطاعةً لأمرِ اللهِ ورسولِه. فخَبَّرهم الخبرَ، وقرَأ عليهم الكتابَ، فرجَع رجلان ومضَى بقيتُهم، فلَقُوا ابنَ الحَضْرمىِّ فقَتَلوه، ولم يَدْروا ذلك اليومُ من رجبٍ أو مِن
(1)
جُمادَى، فقال المشركون للمسلمين: فَعلتم كذا وكذا في الشهرِ الحرامِ. فأَتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فحدَّثوه الحديثَ، فأنزَل اللهُ عز وجل:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} والفتنةُ هى الشركُ.
وقال بعضُ الذين -أظُنُّه قال-: كانوا في السَّرِيَّةِ: واللهِ ما قتَله إلا واحدٌ. فقال: إن يَكُنْ خيرًا فقد وَلِيتُ، وإن يَكُنْ ذنبًا فقد عَمِلْتُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} . قال: إن رجلًا من بنى تميمٍ أرسَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّةٍ، فمرّ بابنِ الحَضْرميِّ يَحْمِلُ خَمْرًا مِن الطائفِ إلى مكةَ، فرَماه بسَهْمٍ فقَتله، وكان بينَ قريشٍ ومحمدٍ عَقْدٌ، فقتَله في آخرِ يومٍ من جُمادَى الآخرةِ، وأولِ يومٍ من رجبٍ، فقالت قريشٌ: في الشهرِ الحرامِ، ولنا عهدٌ؟! فأنزَل اللهُ عز وجل:{قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ} ، وصدٌّ عن {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} مِن قتلِ
(1)
سقط من: ت 2، ت 3.
(2)
في ت 2، ت 3، ونسخة من تاريخ المصنف:"علمت".
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 415. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 384، 387 (2022، 2035) من طريق المعتمر به. وأخرجه أبو يعلى (1534)، والطبراني (1670)، والبيهقي 9/ 11، 12 من طرق عن المعتمر به بزيادة في آخره.
ابنِ الحَضْرميِّ، {وَالْفِتْنَةُ} كفرٌ باللهِ وعبادةُ الأوثانِ، أكبرُ مِن هذا كلِّه
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهرىِّ وعثمانَ الجَزَرِيِّ، عن مِقْسَمٍ مَوْلَى ابنِ عباسٍ، قال: لَقِىَ واقدُ بنُ عبدِ اللهِ عمرَو بنَ الحَضْرَميِّ في أوَّل ليلةٍ من رجبٍ، وهو يَرَى أنه مِن جُمادَى، فقَتَله، وهو أوَّلُ قتيلٍ مِن المشركين، فعَيَّر المشركون المسلمين فقالوا: أتَقْتلون في الشهرِ الحرامِ؟ فأنزَل اللهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . يقولُ: وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ، وكُفْرٌ باللهِ {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: وصدٌّ عن المسجدِ الحرامِ، {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} من قتلِ عمرِو بنِ الحَضْرميِّ، {وَالْفِتْنَةُ}. يقولُ: الشركُ الذى أنتم فيه أكبرُ مِن ذلك أيضًا. قال الزهرىُّ: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما بَلَغنا يُحَرِّمُ القِتالَ في الشهرِ الحرامِ ثم أُحِلَّ
(2)
بَعْدُ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} : وذلك أن المشركين صدُّوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجدِ الحرامِ في شهرٍ حرامٍ، ففتَح اللهُ على نبيِّه في شهرٍ حرامٍ مِن العامِ المقبلِ، فعابَ المشرِكون على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم القِتالَ في شهرٍ حرامٍ، فقال اللهُ جل وعز:{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} مِن القتلِ فيه.
(1)
تفسير مجاهد ص 231، 232، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 251 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في عبد الرزاق وابن أبى حاتم "له".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 87، 88، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 384 (2023) عن الحسن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 251 إلى أبى داود في ناسخه.
وإن محمدًا بعَث سَرِيَّةً، فلَقُوا عمرَو بنَ الحَضْرميِّ وهو مُقْبِلٌ مِن الطائفِ آخرَ ليلةٍ مِن جُمادَى، وأوَّلَ ليلةٍ مِن رَجبٍ، وإنَّ أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانوا يَظُنون أن تلك الليلةَ مِن جُمادَى، وكانت أوَّلَ رجبٍ ولم يَشْعُروا، فقَتَله رجلٌ منهم واحدٌ، وإن المشركين أرْسَلوا يُعَيِّرونه بذلك، فقال اللهُ جل وعز:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وغيرُ ذلك أكبرُ منه، {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} إخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ أكبرُ مِن الذى أصاب
(1)
أصحابُ
(2)
محمدٍ، والشِّرْكُ باللهِ أشَدُّ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ، قال: لما نزَلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} . إلى قولِه: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . استكبَروه
(4)
، فقال:{وَالْفِتْنَةُ} : الشِّرْكُ الذى أنتم عليه مُقِيمون {أَكْبَرُ} مما اسْتكبرتم.
حُدِّثْتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ الغفاريِّ، قال: بعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عبدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ في جيشٍ، فلَقِىَ ناسًا مِن المشركين ببَطْنِ نَخْلةَ، والمسلمون يَحْسَبون أنه آخرُ يومٍ مِن جُمادَى، وهو أولُ يومٍ مِن رجبٍ، فقَتَلَ المسلمون ابنَ الحَضْرميِّ، فقال المشركون:
(1)
في ت 1: "أصحاب".
(2)
سقط من النسخ، والمثبت من تفسير ابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 385، 386 (2026، 2028، 2031، 2032) من طريق محمد بن سعد به.
(4)
كذا في النسخ في هذا الموضع وما بعده؛ من الاستكبار -وهو استعظام الشئ- وتقدم في كلام المصنف في ص 649: قتل ابن الحضرمي الذى استنكرتم. وهى كذلك في تفسير مجاهد في الأثر الآتى: استنكرتم.
ألستم تَزْعُمون أنكم تُحَرِّمون الشهرَ الحرامَ والبلدَ الحرامَ، وقد قَتَلتم في الشهرِ الحرامِ؟ فأنزَل اللهُ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} إلى قولِه: {أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} من الذى اسْتَكْبرتم
(1)
مِن قتلِ ابنِ الحَضْرميِّ، {وَالْفِتْنَةُ} التى أنتم عليها مُقِيمون، يعنى الشركَ، {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ، قال -وكان يُسَمِّيهما
(3)
- يقولُ: لَقِىَ واقدُ بنُ عبدِ اللهِ التَّمِيميُّ عمرَو بنَ الحَضْرمىِّ ببَطْنِ نَخْلَةَ فقتَله.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قُلْتُ لعطاءٍ: قولُه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} في مَن نزَلت؟ قال: لا أدْرِى. قال ابنُ جُرَيجٍ: وقال عِكْرمةُ ومجاهدٌ: في عمرِو بنِ الحَضْرَمِيِّ. قال ابنُ جُرَيجٍ: وأخْبَرنا ابنُ أبي حُسينٍ، عن الزُّهْرِيِّ
(4)
ذلك أَيضًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال مُجاهدٌ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: يقولُ: صدٌّ عن المسجدِ الحرامِ، وإخْراجُ أهلِه منه، فكلُّ هذا أكبرُ مِن قتلِ ابنِ الحَضْرميِّ، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} ، كفرٌ باللهِ وعبادةُ الأوثانِ أكبرُ مِن هذا كلِّه.
(1)
في تفسير ابن أبي حاتم: "استنكرتم".
(2)
تفسير مجاهد ص 232 من طريق حصين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 251 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"يسميها"، وفى ت 1:"يسمها"، والمثبت هو الصواب.
(4)
في ت 1، ت 3:"الزبيري".
حُدِّثْتُ عن الحسيِن بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ الفَضْلَ بنَ خالدٍ، قال: أخْبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ الباهليُّ، قال: سمِعتُ الضحاكَ بنَ مُزاحمٍ يقولُ في قولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} : كان أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قَتَلوا ابنَ الحَضْرمىِّ في الشهرِ الحرامِ، فعَيَّرَ المشركون المسلمين بذلك، فقال اللهُ: قتالٌ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ، وأكبرُ مِن ذلك صدٌّ عن سبيلِ اللهِ وكفرٌ به وإخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ مِن المسجدِ الحرامِ.
وهذان الخبران اللذان ذَكَرناهما عن مجاهدٍ والضحاكِ يُنْبِئان عن صِحَّةِ ما قُلْنا في رفعِ "الصدّ" به
(1)
، وأن رافِعَه {أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} . وهما يُؤكِّدان صحةَ ما روَينا في ذلك عن ابنِ عباسٍ، ويَدُلَّان على خطأِ من زعَم أنه مرفوعٌ على العطفِ على "الكبير". وقولِ مَن زعَم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيلِ اللهِ. وزعَم أن قولَه: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} . خَبرٌ مُنْقطِعٌ عما قبلَه مبتدأٌ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال. ثنا هُشَيمٌ، قال: أخْبَرنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن الشَّعْبيِّ في قولِه:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . قال: يعنى به الكُفْرَ.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} مِن ذلك. ثم عَيَّر المشركين بأعمالِهم أعمالِ السُّوءِ فقال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . أى: الشركُ باللهِ أكبرُ مِن القتلِ
(2)
.
وبمثلِ الذى قُلْنا مِن التأويلِ في ذلك رُوِىَ عن ابنِ عباسٍ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن
(1)
كذا في النسخ، ولعل صواب الكلام: في رفع الصد والكفر به. وينظر ما تقدم في ص 649.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 386 عقب الأثر (2031) من طريق شيبان، عن قتادة نحوه.
أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما قتَلَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عمرَو بنَ الحَضْرميِّ في آخرِ ليلةٍ مِن جُمادَى وأوَّلِ ليلةٍ مِن رجبٍ، أرسَل المشركون إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَيِّرونه بذلك، فقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وغيرُ ذلك أكبرُ منه، {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} مِن الذى أصابَ أصحابُ
(1)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وأما أهلُ العربيةِ فإنهم اخْتَلفوا في الذى ارْتَفَع به قولُه: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} . فقال بعضُ نَحْويِّي الكوفيين
(3)
: في رفعِه وجهان: أحدُهما، أن يكونَ "الصدّ" مَرْدودًا على "الكبير"، تُريدُ: قل: القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ وكُفْرٌ به. وإن شِئْتَ جعَلت الصدَّ كبيرًا، تُريدُ به: قُل: القتالُ فيه كبيرٌ، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيلِ اللهِ والكفرُ به.
قال: فأخطأ -يعنى الفَرَّاءَ- في كلا تَأْويليه، وذلك أنه إذا رفَع "الصدّ" عطفًا به على {كَبِيرٌ} ، يَصيرُ تأويلُ الكلامِ: قُل: القتالُ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ، وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ، وكفرٌ باللهِ. وذلك مِن التأويلِ خلافُ ما عليه أهلُ الإسلامِ جميعًا؛ لأنه لم يدَّعِ أحدٌ أن اللهَ تبارك وتعالى جعَل القتالَ في الأشهرِ الحرمِ كُفرًا باللهِ، بل ذلك غيرُ جائزٍ أن يُتَوهَّمَ على عاقلٍ يَعْقِلُ ما يقولُ أن يقولَه، وكيف يجوزُ أن يقولَه ذو فِطرةٍ صحيحةٍ، واللهُ جلَّ ثناؤُه يقولُ في أثرِ ذلك:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} . فلو كان الكلامُ على ما رآه جائزًا في تأويلِه هذا، لوجَب أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ مِن المسجدِ الحرامِ، كان أعظمَ عندَ اللهِ
(1)
سقط من النسخ والمثبت من تفسير ابن أبي حاتم.
(2)
تقدم تخريجه في ص 658.
(3)
هو الفراء كما سيصرح به المصنف، وينظر معانى القرآن 1/ 141.
مِن الكفرِ به، وذلك أنه يقولُ في أثَرِه:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} . وفى قيامِ الحُجَّةِ بأن لا شيءَ أعظمُ عندَ اللهِ مِن الكفرِ به، ما يُبِينُ عن خطأِ هذا القولِ.
وأما إذا رفع "الصدّ" بمعنى ما زعَم أنه الوجهُ الآخرُ -وذلك رفعُه بمعنى: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيلِ اللهِ. ثم قيل: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهلِ المسجدِ الحرامِ مِن المسجدِ الحرامِ، أعظمُ عندَ اللهِ مِن الكفرِ باللهِ والصدِّ عن سبيلِه وعن المسجدِ الحرامِ. ومُتأوِّلُ ذلك كذلك داخَلَ مِن الخَطأِ مثلَ الذى دخَل فيه القائلُ القولَ الأوَّلَ؛ مِن تَصْييرِه بعضَ خِلالِ الكُفرِ أعظَمَ عندَ اللهِ مِن الكفرِ بعينِه، وذلك مما لا يُخِيلُ
(1)
على أحدٍ خَطؤُه وفسادُه.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ مِن أهلِ البصرةِ يقولُ القولَ الأوَّلَ في رفعِ "الصدّ"، ويَزْعُمُ أنه معطوفٌ به على "الكبير"، ويجعَلُ قولَه:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} . مرفوعًا على الابتداءِ. وقد بينَّا فسادَ ذلك وخطأَ تأويلِه.
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في قولِه: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} هل هو مَنسوخٌ أم ثابتُ الحكمِ؟ فقال بعضُهم: هو منسوخٌ بقولِ اللهِ جل وعز: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، وبقولِه:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال:
(1)
يخيل: يُشكِل. اللسان (خ ى ل).
قال عطاءُ بنُ مَيْسرةَ: أحَلَّ القِتالَ في الشهرِ الحرامِ في "براءة" قولُه: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} . يقول: فيهن وفى غيرِهن
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِىِّ، قال: كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم فيما بَلَغنا يُحَرِّمُ القِتالَ في الشهرِ الحرامِ، ثم أُحِلَّ بعدُ
(2)
.
وقال آخرون: بل ذلك حكمٌ ثابتٌ لا يَحِلُّ القتالُ لأحدٍ في الأشهرِ الحُرُمِ بهذه الآيةِ؛ لأن اللهَ جعَل القتالَ فيه كبيرًا.
ذِكرُ مَن من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ
(3)
، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، [عن مجاهدِ]
(4)
، قال: قُلْتُ لعطاءٍ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} . قُلْتُ: ما لهم! وإذ ذاك لا يَحِلُّ لهم أن يَغْزوا أهلَ الشركِ في الشهرِ الحرامِ، ثم غَزَوهم بعدُ فيه، فحلَف لى عطاءٌ باللهِ: ما يَحِلُّ للناسِ أن يَغْزوا في الشهرِ الحرامِ، ولا أن يُقَاتِلوا فيه، وما يُسْتَحبُّ. قال: ولا يُدْعَون إلى الإسلامِ قبلَ أن يُقَاتَلوا، ولا إلى الجِزيةِ، تركوا ذلك
(5)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله عطاءُ بنُ مَيْسرةَ، مِن أن النَّهْىَ عن قتالِ المشركين في الأشْهُرِ الحُرُمِ مَنْسوخٌ بقولِ اللهِ جل ثناؤُه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 252 إلى ابن أبى داود.
(2)
تقدم تخريجه في ص 657.
(3)
في النسخ: "الحسن". وتقدم على الصواب.
(4)
كذا في النسخ، ولعلها زيادة من الناسخ، وينظر مصدر التخريج.
(5)
تفسير الفخر الرازى 6/ 31 عن ابن جريج، عن عطاء مختصرا.
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التربة: 36] وإنما قلنا: ذلك ناسخٌ لقولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لتَظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه غَزا هوازنَ بحُنَينٍ، وثقيفًا بالطائفِ، وأرْسَل أبا عامرٍ إلى أوطاسٍ لحربِ مَن بها مِن المشركين في بعضِ الأشْهُرِ الحُرُمِ، وذلك في شوالٍ وبعضِ ذى القَعدةِ، وهما
(1)
مِن الأشهرِ الحُرُمِ، فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصيةٌ، كان أبعدَ الناسِ مِن فعلِه صلى الله عليه وسلم. وأُخْرَى، أن جميعَ أهلِ العلمِ بسِيَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا تَتدافعُ أن بيعةَ الرِّضْوانِ على قتالِ قريشٍ كانت في
(2)
ذى القَعْدةِ، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابَه إليها يومَئذٍ، لأَنه بلَغه أن عثمانَ بنَ عفانَ قتلَه المشركون إذ أرْسَله إليهم بما أرسلَه به مِن الرسالةِ، فبايَع صلى الله عليه وسلم على أن يُناجِزَ القومَ الحربَ ويُحاربَهم، حتى رجَع عثمانُ بالرسالةِ، وجرَى بينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقريشٍ الصُّلْحُ، فكفَّ عن حربهم حينئذٍ وقتالِهم، وكان ذلك في ذى القَعْدةِ، وهو مِن الأشْهُرِ الحُرُمِ. فإذا كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قولِه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} . وأنه مَنْسوخٌ.
فإن ظنَّ ظانٌّ أن النهىَ عن القتالِ في الأشهرِ الحرمِ كان بعدَ استحلالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياهنَّ؛ لما وَصَفنا من حُروبِه، فقد ظنَّ جهلًا، وذلك أن هذه الآيةَ -أعْنِى قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} - في أمرِ عبدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ وأصحابِه، و
(3)
ما كان مِن أمرِهم وأمرِ القَتيلِ الذى قتَلوه، فأنزَل اللهُ في أمرِه هذه
(1)
في م: "هو".
(2)
بعده في م: "أول".
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"وكان".
الآيةَ في آخرِ جُمادَى الآخرةِ مِن السنةِ الثانيةِ مِن مَقْدَمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهِجْرتِه إليها، وكانت وَقْعةُ حُنَينٍ والطائفِ في شوَّالٍ مِن سنةِ ثمانٍ مِن مَقْدَمِه المدينةَ وهجرتِه إليها، وبينهما مِن المدةِ ما لا يخْفَى على أحدٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذِكْرُه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .
يَعْنِى تعالى ذِكْرُه: ولا يَزالُ مُشْركو قريشٍ يُقاتلونكم حتى يَردُّوكم عن دينِكم إن قدَرُوا على ذلك.
كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابنُ إسحاقَ، قال: ثنى الزهرىُّ ويزيدُ بنُ رومانَ، عن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} . أى: هم مُقِيمون على أخبثِ ذلك وأعظمِه غيرَ تائبين ولا نازعين. يعنى: على أن يَفْتِنوا المسلمين عن دينِهم حتى يَرُدُّوهم إلى الكفرِ، كما كانوا يَفْعلون بمن قَدَروا عليه منهم قبلَ الهِجْرةِ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} . قال: كفارُ قريشٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذِكْرُه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ
(1)
تقدم تخريجه في ص 653.
(2)
تفسير مجاهد ص 232. ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 387 (2036)، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 252 إلى عبد بن حميد.
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}.
يعنى بقولِه جل ثناؤه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} : مَن يَرْجِعْ منكم عن دينِه، كما قال جل ثناؤُه:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] يعنى بقولِه: {فَارْتَدَّا} : رجَعا. ومِن ذلك قيل: اسْتَردَّ فلانٌ حقَّه مِن فلانٍ. إذا اسْتَرجعه منه. وإنما أظْهَر التَّضْعيفَ في قولِه: {يَرْتَدِدْ} ؛ لأن لامَ الفعلِ ساكنةٌ بالجزمِ، وإذا سُكِّنت فالقياسُ تركُ التَّضْعِيفِ، وقد تُضَعَّفُ وتُدْغَمُ وهى ساكنةٌ، بِناءً على التثنيةِ والجمع.
وقولُه: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} . يقولُ: مَن يرجعْ عن دينِه، دينِ الإسلامِ، {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، فيَمُتْ قبلَ أن يتوبَ مِن كفرِه، فهم الذين حَبِطَت أعمالُهم. يعنى بقولِه:{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطَلت وذهَبت. وبُطُولُها ذهابُ ثوابِها، وبُطُولُ الأجرِ عليها والجزاءِ في دارِ الدنيا والآخرةِ.
وقولُه: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . يعنى: الذين ارْتَدُّوا عن دينِهم فماتوا على كفرِهم، هم أهلُ النارِ المُخلَّدون فيها. وإنما جعَلهم أهلَها؛ لأنهم لا يَخْرجون منها، فهم سكانُها المُقيمون فيها، كما يقالُ: هؤلاء أهلُ مَحَلَّةِ كذا. يعنى: سكانُها المُقيمون فيها.
ويعنى بقولِه: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : هم فيها لابِثون لُبثًا مِن غيرِ أمدٍ ولا نهايةٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذِكْرُه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} .
يعنى بذلك جل ذِكْرُه: إن الذين صدَّقوا باللهِ وبرسولِه وبما جاء به. وبقولِه:
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} : الذين هجَروا مُساكنةَ المشركين في أمصارِهم، ومُجاورتَهم في ديارِهم، فتَحوَّلوا عنهم وعن جوارِهم وبلادِهم إلى غيرِها، هجرةً لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصلُ المهاجَرةِ المفاعلةُ؛ من هجرةِ الرجلِ الرجلَ للشَّحْناءِ تكونُ بينهما، ثم تُسْتَعْمَلُ في كلِّ مَن هجَرَ شيئًا لأمرٍ كرِهه منه. وإنما سُمِّى المهاجرون مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مهاجرين؛ لما وصَفنا من هجرتِهم دُورَهم ومنازلَهم -كراهةً منهم النزولَ بين أظهرِ المشركين وفى سلطانِهم، بحيثُ لا يَأْمَنون فتنتَهم على أنفسِهم في ديارِهم- إلى الموضعِ الذى يأمنون ذلك.
وأمَّا قوله: {وَجَاهَدُوا} فإنه يعنى: وقاتَلوا وحارَبوا. وأصلُ المجاهدةِ المفاعلةُ؛ من قولِ الرجلِ: قد جهَد فلانٌ فلانًا على كذا -إذا كرَبه وشقَّ عليه- يَجْهَدُه جَهْدًا. فإذا كان الفعلُ من اثنين، كلُّ واحدٍ منهما يُكابدُ من صاحبِه شدَّةً ومشقَّةً، قيل: فلانٌ يُجَاهِدُ فلانًا. يعنى أن كلَّ واحدٍ منهما يَفْعَلُ بصاحبِه ما يَجْهَدُه ويَشُقُّ عليه، فهو يُجاهِدُه مجاهدةً وجهادًا.
وأَمَّا سبيلُ اللهِ: فطريقُه ودينُه.
فمعنى قولهِ إذن: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} : والذين تحوَّلوا من سلطانِ أهلِ الشركِ؛ هجرةً لهم، وخوفَ فتنتِهم على أديانِهم، وحارَبوهم في دينِ اللهِ لِيُدْخِلوهم فيه، وفيما يُرْضِى اللهَ، {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ}. أى: يَطْمَعون أن يَرْحَمَهم اللهُ فيُدْخِلَهم جنَّتَه بفضلِ رحمتِه إيَّاهم، {وَاللَّهُ غَفُور}. أى: ساترٌ ذنوبَ عبادِه بعفوِه عنها، متفضلٌ عليهم بالرحمةِ.
وهذه الآيةُ أيضًا ذُكرَ أنها نزَلتْ في عبدِ اللهِ بنِ جحشٍ وأصحابِه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، أنه حدَّثه رجلٌ، عن أبى السَّوَّارِ، يُحَدِّثُه عن جُندَبِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: لمّا كان من أمرِ عبدِ اللهِ بنِ جحشٍ وأصحابِه، وأمرِ ابنِ الحضْرَميِّ ما كان، قال بعضُ المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرِهم -أظنُّه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنزَل اللهُ:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
.
حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: ثنى الزُّهرىُّ ويزيدُ ابنُ رومانَ، عن عروةَ بنِ الزبيرِ، قال: أنزَل اللهُ عز وجل القرآنَ بما أنزَل من الأمرِ، وفرّجَ اللهُ عن المسلمينَ في أمرِ عبدِ اللهِ بنِ جحشٍ وأصحابِه -يعنى في قتلِهم ابنَ الحَضْرميِّ- فلمَّا تجلَّى عن عبدِ اللهِ بنِ جحشٍ وأصحابِه ما كانوا فيه حين نزَل القرآنُ، طَمِعُوا في الأجرِ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أنطمعُ أن تكونَ لنا غزوةً نُعْطَى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنزَل اللهُ عز وجل فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فوَقَفهم
(2)
اللهُ من ذلكَ على أعظمِ الرجاءِ.
(3)
.
حدثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: أثنَى اللهُ على أصحابِ نبيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناءِ، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 388 (2040) من طريق المعتمر به. وتقدم في ص 655، 656.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"فوصفهم"، وفى سيرة ابن هشام:"فوضعهم".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 388 (2042) من طريق ابن إسحاق به، وهذا اللفظ أيضا عند ابن هشام في السيرة، كما تقدم في ص 650 - 653.
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. هؤلاء خيارُ هذه الأمةِ، ثم جعَلهمُ اللهُ أهلَ رَجاءٍ كما تسمعون
(1)
، وإنه مَن رَجَا طلَب، ومَنْ خاف هرَب
(2)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(3)
.
القول في تأويل قولِه عزَّ ذكرُه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: يسألك أصحابُك يا محمدُ عن الخمرِ وشُرْبِها.
والخمرُ كلُّ شرابٍ خامَر العقلَ فستَره وغَطَّى عليه، وهو من قولِ القائلِ: خمَرْتُ الإناءَ. إذا غطَّيتَه. وخَمِرَ الرجلُ. إذا دخلَ في الخَمَرِ
(4)
. ويقالُ: هو في خُمارِ النَّاسِ وغُمارِهم. يرادُ به: دخَل في عُرْضِ الناسِ. ويقالُ للضَّبعِ: [خامرِى أمَّ عامرٍ]
(5)
. أي: استترِى
(6)
. وما خامَر العقلَ من دَاءٍ وسُكْرٍ فخالَطه وغمَره فهو خَمْرٌ، ومن ذلك أيضًا خِمارُ المرأةِ، وذلك لأنها تسترُ به
(7)
رأسَها فتغطِّيه. ومنه يقال: هو يمشي لك الخمَرَ. أي مُستخْفِيًا، كما قال العجاجُ
(8)
:
(1)
في ت 1: "يسمعون"، وفى ت 2، ت 3:"يستمعون".
(2)
في ت 2: "طلب".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 252 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 388 (2041) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
الخَمَرُ من الناس: جماعتهم وكثرتهم. الوسيط (خ م ر).
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"خامرنى أمر".
(6)
في ت 2، ت 3:"استرنى".
(7)
زيادة لازمة.
(8)
ديوانه ص 26.
في لامعِ العِقْبانِ لا يأتي الخَمَرْ
يُوجِّهُ الأرْضَ
(1)
ويَشتاقُ الشَّجَرْ
ويعنى بقولِه: لا يأتي الخمَر: لا يأتي مُستخفيًا ولا مُسارقَةً، ولكن ظاهرًا براياتٍ وجيوشٍ. والعِقبانُ جمعُ عُقابٍ، وهي الراياتُ.
وأما الميسرُ فإنها الفعِلُ، من قولِ القائلِ: يَسَر لي هذا الأمرُ. إذا وجَب لي، فهو يَيْسِرُ لي يَسَرًا ومَيسِرًا. والياسرُ الواجبُ، بقداحٍ وجَبَ ذلك أو مباحهِ
(2)
أو غيرِ ذلك. ثم قيل للمُقامرِ: ياسرٌ ويَسَرٌ. كما قال الشاعرُ
(3)
:
فَبِتُّ كأنَّنِى يَسَرٌ غَبِينٌ
…
يُقَلِّبُ بعدَ ما اخْتُلِعَ
(4)
القِدَاحا
وكما قال النابغةُ
(5)
:
أَوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِه
(6)
…
أسِفٌ تآكَلُه
(7)
الصَّديقُ مُخَلَّعُ
يعني بالياسرِ المقامِرَ. وقيل للقِمارِ: مَيسِرٌ.
وكان مجاهدٌ يقولُ نحوَ ما قلنا في ذلك.
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي
(1)
وجَّه الأرض: صيَّرها وجها واحدًا. اللسان (و ج هـ).
(2)
في ت 3: "ماجه" واستصوب الشيخ شاكر أنها فُتاحة، وفى حاشية المطبوعة: لعله محرف عن ممانحة، وهي المعاونة والمرافدة.
(3)
هو النابغة الذبيانى، والبيت في ديوانه ص 250.
(4)
اختلع: أُخذ ماله. التاج (خ ل ع).
(5)
لم نجده في ديوانه، وينظر التبيان 2/ 212.
(6)
الوفر: المال الكثير الواسع. التاج (و ف ر).
(7)
في م: "بأكله"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"يأكله". والمثبت من التبيان.
نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} . قال: القِمارِ، وإنما سُمّىَ الميسرَ، لقولِهم: أيْسِرُوا واجزُرُوا. كقولِك: ضعْ كذَا وكذَا
(1)
.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: كلُّ القمارِ من الميسرِ، حتى لَعِبُ الصبيانِ بالجوْزِ
(2)
.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ الملكِ ابنِ عُميرٍ، عن أبي الأحوصِ، قال: قال عبدُ اللهِ: إياكم وهذه الكِعابَ
(3)
الموسومةَ التى تزجُرُون
(4)
زجرًا، فإنهنَّ من الميْسِرِ
(5)
.
حدثنا محمدُ بنُ المثني، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عبدِ الملكِ بنِ عُميرٍ، عن أبي الأحوصِ مثلَه.
حدثنا محمدُ بنُ المثني، قال: ثنا محمدُ بنُ نافعٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللهِ أنه قال: إياكم وهذه الكِعابَ التى
(1)
تفسير مجاهد ص 232، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 390 (2051)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 252 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 653، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1197 (6749) من طريق سفيان به، وأخرجه معمر في جامعه 10/ 467 (19728)، وعبد الرزاق في تفسيره 1/ 88، والبيهقي 10/ 213 من طريق ليث به.
(3)
الكعاب جمع الكعب الذي يلعب به، وهو فص النرد. التاج (ك ع ب).
(4)
زاد ناشرو المطبوعة بعدها: "بها".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 549، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1196 (6746) من طريق سفيان به، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1270)، والبيهقي في الشعب (6502)، من طرق عن عبد الملك بن عمير به، وأخرجه معمر في جامعه 10/ 467 (19727)، وأحمد 7/ 298 (4263)، وابن عدي في الكامل 1/ 216، والبيهقي 10/ 215، وفى الشعب (6501، 6503) من طرق عن أبي الأحوص به، وقد روى مرفوعًا وموقوفًا، ورجح الدارقطني في العلل 5/ 315، 316 الرواية الموقوفة.
تزْجُرون
(1)
زَجرًا، فإنها مِن الميسرِ
(2)
.
حدثني عليُّ بنُ سعيد الكِندىُّ، قال: ثنا علي بنُ مُسهِرٍ، عن عاصمٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: القمارُ ميسرٌ
(3)
.
حدثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: كلُّ شيءٍ له خَطَرٌ
(4)
، أو فى خَطَرٍ -أبو عامرٍ شكّ- فهو من الميسرِ
(5)
.
حدثنا الوليدُ بنُ شجاعٍ أبو همامٍ، قال: ثنا عليُّ بنُ مُسهرٍ، عن عاصمٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: كلُّ قِمارٍ ميسرٌ، حتى اللعبُ بالنَّردِ على القيامِ، والصياحُ، والريشةُ يجعلُها الرجلُ في رأسِه.
حدثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، عن ابنِ سيرينَ، قال: كلُّ لعبٍ فيه قِمارٌ من شُربٍ أو صِياحٍ أو قيامٍ، فهو من الميسرِ
(6)
.
حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا الأشعثُ، عن الحسنِ أنه قال: الميسرُ القمارُ
(7)
.
(1)
زاد ناشرو المطبوعة بعدها: "بها".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 88، والخرائطى في مساوئ الأخلاق (756) من طريق يزيد بن أبي زياد به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 553، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (114) من طريق حماد بن نجيح، عن ابن سيرين به.
(4)
الخطر: السبق الذي يُتراهن عليه، والجمع أخطار مثل سبب وأسباب. المصباح المنير (خ ط ر).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 553 من طريق سفيان به.
(6)
أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (117) من طريق جرير به، وأخرجه الخرائطى في مساوئ الأخلاق (760) من طريق آخر عن ابن سيرين، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 320 إلى أبي الشيخ.
(7)
أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (116) من طريق الفضل بن دلهم، عن الحسن.
حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا المعتمرُ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ وعطاءٍ، قالا: كلُّ قمارٍ فهو من الميسرِ، حتى لعِبُ الصبيانِ بالكِعابِ والجوْزِ
(1)
.
حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ، قال: الميسرُ القمارُ
(2)
.
حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبدُ الملكِ بنُ عُميرٍ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ
(3)
اللهِ، قال: إيّاكم وهاتينِ الكَعْبتينِ، يُزجرُ بهما زَجرًا، فإنهما من الميسرِ
(4)
.
حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليّةَ، عن ابنِ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، قال: أمّا قولُه: {وَالْمَيْسِرِ} فهو القمارُ كلُّه
(5)
.
حدثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني يحيى بنُ عبدِ اللهِ بنِ سالمٍ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عُمرَ، أنه سمِعَ عُمرَ بنَ عُبيدِ اللهِ يقولُ للقاسمِ بنِ محمدٍ: النَّردُ ميسرٌ، أرأيتَ الشِّطْرَنْجَ مَيسرٌ هو؟ فقال القاسمُ: كلُّ ما ألْهَى عن ذكرِ اللهِ وعن الصلاةِ فهو
(6)
ميسرٌ
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 553، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1197 (6749)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (115) من طرق عن ليث به.
(2)
أخرجه الآجرى في تحريم النرد والملاهى (45) من طريق عطاء به.
(3)
فى م: "عبيد".
(4)
تقدم تخريجه في ص 671.
(5)
أخرجه الآجرى في تحريم النرد والملاهى (46) من طريق شيبان، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 316 إلى عبد بن حميد.
(6)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
أخرجه ابن أبي الدنيا فى ذم الملاهى (97)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 391 (2056)، والآجرى فى تحريم النرد والملاهى (25)، والبيهقي في الشعب (6519) من طريق عبيد الله بن عمر به.
حدثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الميسرُ القمارُ، كان الرجلُ في الجاهليةِ يُخاطرُ على
(1)
أهلِه ومالِه، فأيُّهما قمَر صاحبَه، ذهَب بأهلِه ومالِه
(2)
.
حدثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ، قال: الميسرُ القمارُ
(3)
.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، قال: الميسرُ القمارُ
(4)
.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ، قالا: الميسرُ القمارُ كلُّه، حتى الجوْزُ الذي يلعَبُ به الصبيانُ
(5)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: سمِعتُ عُبيدَ بنَ سليمانَ يُحدِّثُ عن الضحاكِ قولَه: {وَالْمَيْسِرِ} . قال: القمارِ.
حدثنا بشرُ بن مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: الميسرُ القمارُ.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(2)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 359، 360، وأبو جعفر النحاس في ناسخه ص 186، والآجرى في تحريم النرد والملاهى (44) من طرق عن عبد الله بن صالح به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 390 عقب الأثر (2051) من طريق عمرو به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 88.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 88، وأخرجه معمر في جامعه 10/ 467 (19728) -ومن طريقه البيهقي 10/ 213 - عن ليث، عن مجاهد وحده.
حدثنا المثني، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو بدرٍ شجاعُ بنُ الوليدِ، قال: ثنا موسى بنُ عقبةَ، عن نافعٍ، أن ابنَ عُمرَ كان يقولُ: القمارُ من الميسرِ
(1)
.
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: الميسرُ قِداحُ العربِ وكِعابُ فارسَ
(2)
. وقال ابنُ جُريجٍ: وزعَم عطاءُ ابنُ ميسرةَ أنَّ الميسرَ القمارُ كلُّه
(3)
.
حدثنا ابنُ البرقىِّ، قال: ثنا عَمرُو بنُ أبي سَلَمةَ، عن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، قال: قال مكحولٌ: الميسرُ القمارُ.
حدثنا الحسينُ بنُ محمدٍ الذَّارعُ، قال: ثنا الفضلُ بنُ سليمانَ وشجاعُ بنُ الوليدِ، عن موسى بنِ عقبةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: الميسرُ القمارُ.
وأما قولُه: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فإنه يعني بذلك جلّ ثناؤُه: قلْ يا محمدُ لهم: {فِيهِمَا} يعني: في الخمرِ والميسرِ {إِثْمٌ كَبِيرٌ} فالإثم الكبيرُ الذي فيهما ما ذُكِرَ عن السدىِّ فيما حدَّثنى به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: أما قولُه: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} . فإثمُ الخمرِ أن الرجلَ يشرَبُ فيسْكَرُ فيؤذِى الناسَ، وإثمُ الميسرِ أن يُقامرَ الرجلُ فيمنعَ الحقَّ ويظلمَ.
حدثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 390 (2050) من طريق شجاع بن الوليد به، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1260)، والبيهقي 10/ 213 من طريق موسى بن عقبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 252 إلى أبي عبيد وابن المنذر.
(2)
بعده في م: "قال".
(3)
تفسير مجاهد ص 314، ومن طريقه البيهقي 10/ 213.
نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} . قال: هذا أولُ ما عِيبَتْ به الخمرُ
(1)
.
حدثني علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلْحَةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} . يعني: ما يَنقُصُ من الدِّينِ عندَ مَن يَشربُها
(2)
.
والذي هو أوْلى بتأويلِ الآيةِ بالإثمِ
(3)
الكبيرِ الذي ذكَر اللهُ جلَّ ثناؤُه أنَّه في الخمرِ والميسرِ مما
(4)
قاله السُّدىُّ، زوالُ عقلِ شاربِ الخمرِ إِذا سكِرَ من شُرْبهِ إيّاها، حتى يَعزُبَ عنه معرفةُ ربِّه، وذلك أعظمُ الآثامِ، وذلك معنى قولِ ابنِ عباسٍ إن شاءَ اللهُ. وأما في الميسرِ فما فيه من الشُّغُلِ به عن ذكرِ اللهِ وعن الصلاةِ، ووقوعِ العداوةِ والبغضاءِ بين المتياسِرينَ بسبَبِه، كما وصَف ذلك به ربُّنا جلَّ ثناؤُه بقولِه:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91].
وأما قولُه: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . فإنّ منافعَ الخمرِ كانت أثمانَها قبلَ تحرِيمِها، وما يَصِلونَ إليه بشرْبِها من اللذةِ، كما قال الأعشى في صفتِها
(5)
:
لَنا مِن ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبةٌ
…
وذِكْرَى هُمُومٍ ما تَغِبُّ
(6)
أذَاتُها
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 253 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 391 (2059) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 253 إلى ابن المنذر والنحاس.
(3)
في م: "الإثم".
(4)
في م: "فالخمر ما".
(5)
ديوانه ص 83، 85 باختلاف.
(6)
في م: "تفك".
وعندَ العَشىِّ
(1)
طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ
…
ومالٌ كَثيرٌ عِدَّةٌ
(2)
نشوَاتُها
وكما قال حسانُ
(3)
:
فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكًا
…
وأُسْدًا ما يُنَهْنِهُنا
(4)
اللِّقاءُ
وأمَّا منافعُ الميسرِ، فما يصيبون فيه
(5)
من أنصباءِ الجَزُورِ، وذلك أنهم كانوا
يُياسِرونَ على الجزورِ، وإذا أفلَج
(6)
الرجلُ منهم صاحبَه نحرَه، ثمَّ اقْتسموا أعشارًا
على عَددِ القِداحِ، وفي ذلك يقولُ أعشى بنى ثعلبةَ
(7)
:
وجَزُورِ أيْسارٍ
(8)
دَعَوْتُ [إلى النَّدَى]
(9)
…
ونِياطُ
(10)
مُقْفِرَةٍ أخافُ ضَلالَهَا
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: المنافعُ ههنا ما يُصيبون من الجَزُورِ
(11)
.
(1)
في م: "العشاء".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عدد"، وفي الديوان:"غدوة".
(3)
ديوانه ص 73.
(4)
نهنهه عن الشيء: زجره وكفه. الوسيط (ن هـ ن).
(5)
في ت 2، ت 3:"به".
(6)
أفلج الرجل: أي ظفر على صاحبه. الوسيط (ف ل ج).
(7)
ديوانه ص 27.
(8)
أيسار: جمع ياسر، وهو الضارب بالقداح، والمتقامر على الجزور، والذي يلي قسمة جزور الميسر. التاج (ى س ر).
(9)
في الديوان: "لحتفها".
(10)
النياط من المفازة: بُعد طريقها، كأنها نيطت بمفازة أخرى لا تكاد تنقطع. التاج (ن و ط).
(11)
تفسير مجاهد ص 232 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 392 (2062).
حدثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: أما مَنافعُهما، فإن منفعةَ الخمرِ في لذتِه وثمنِه، ومنفعةَ الميسرِ فيما يصابُ من القمارِ.
حدثنا أبو هشامٍ
(1)
الرفاعىُّ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، عن ورقاءَ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . قال: منافعُهما قبلَ أن يُحرَّما
(2)
.
حدثنا علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . قال: يقولُ: فيما يُصيبون من لذَّتِها وفرحِها إذا شَرِبوها
(3)
.
واختلَف القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأه عُظْمُ أهلِ المدينةِ وبعضُ الكوفيين والبصريين: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} بالباءِ، بمعنى: قُلْ: [في شُرْبِ]
(4)
هذه، والقمارِ هذا، كبيرٌ من الآثامِ، [أي: عظيمٌ]
(5)
. وقرَأه آخرون من أهلِ المِصْرَيْنِ؛ البصرةِ والكوفةِ: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ). بمعنى الكثرةِ من الآثامِ، وكأنهم رأوْا أنَّ الإثمَ بمعنى الآثامِ، وإنْ كان في اللفظِ واحدًا، فوصفوه بمعناه من الكثْرةِ
(6)
.
وأوْلى القراءتين في ذلك بالصوابِ
(7)
قراءةُ من قرَأه بالباءِ: {قُلْ
(1)
في ت 1، ت 3:"هاشم"، وفي ت 2:"عاصم".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 392 (2063) من طريق ابن أبي زائدة به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 392 (2061) من طريق أبي صالح به.
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"شربها".
(5)
سقط من: م.
(6)
والذي قرأ بالثاء من الكثرة: حمزة والكسائى، وقرأ الباقون بالباء من الكبر. حجة القراءات ص 132.
(7)
القراءتان متواترتان، وليست إحداهما أولى بالصواب من الأخرى.
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}. لإجماعِ جميعِهم على قولِه: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وقراءتِه بالباء، وفي ذلك دلالةٌ بيِّنةٌ على أن الذي وُصف به الإثمُ الأولُ من ذلك هو العِظَمُ والكِبَرُ، لا الكثرةُ في العَدَدِ، ولو كان الذي وُصفَ به من ذلك الكثرةَ، لقيل: وإثمُهما أكثرُ من نفعِهما.
القولُ في تأويل قوله عزَّ ذكرُه: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
يعني بذلك عزَّ ذكرُه: والإثمُ بشُربِ هذه، والقمارُ هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرَّةً عليهم من النفْعِ الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك لأنهم كانوا إذا سَكِرُوا وثَب بعضُهم على بعضٍ، وقاتَل بعضُهم بعضًا، وإذا ياسَرُوا وقَع بينهم فيه بسببِه الشّرُّ، فأدّاهم ذلك إلى ما يأثَمون به.
ونزَلت هذه الآيةُ في الخمرِ قبل أن يُصرَّحَ بتحرِيمِها، فأضاف الإثمَ جلّ ثناؤُه إليهما، وإنما الإثمُ بأسبابِهما، إذْ كان عن سبَبِهما يحدُثُ.
وقد قال عَددٌ مِن أهلِ التأويلِ: معنى ذلك: وإثمُهما بعد تحريمِهما أكبرُ من نفعِهما قبلَ تحريمِهما.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . قال: منافعُهما قبلَ التّحريمِ، وإثمُهما بعدَ ما حُرِّما
(1)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ: {وَمَنَافِعُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 392 (2065) عن محمَّد بن سعد به.
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: يُنزِّلُ
(1)
المنافعَ قبلَ التحريمِ، والإثمُ بعدَ ما حَرَّم.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخبرنى عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . يقولُ: إثمُهما بعدَ التحريمِ أكبرُ من نفعِهما قبلَ التحريمِ
(2)
.
حدثني علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . يقولُ: ما يَذهبُ من الدِّينِ، والإثمُ فيه أكبرُ مما يصيبونَ في فرَحِها إذا شرِبوها
(3)
.
وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل؛ لتواتُرِ الأخبارِ وتظاهُرِها بأنّ هذه الآيةَ
(4)
نزَلتْ قبلَ تحريمِ الخمرِ والميسرِ، فكان معلومًا بذلك أن الإثمَ الذي ذكَرَه اللهُ في هذه الآيةِ فأضافه إليهما، إنما عنَى به الإثمَ الذي يحدُثُ عن أسبابِهما
(5)
، على ما وصَفْنا، لا الإثمَ بعدَ التحريمِ.
ذِكرُ الأخبارِ الدَّالةِ على ما قلْنا مِن أنَّ هذه الآيةَ نزَلَت قبلَ تَحريمِ الخَمرِ
حدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا قيسٌ، عن سالمٍ، عن
(1)
في ت 1: "بترك"، وفي ت 2، ت 3:"يترك".
(2)
أخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 146 من طريق آخر عن الضحاك.
(3)
تقدم تخريجه في ص 676.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 3.
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"أسبابها".
سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: لما نزَلتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فكرِهَها قومٌ لقولِه: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} . وشَرِبها قومٌ لقولِه: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} حتى نزَلتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. قال: فكانوا يدَعونَها في حينِ الصلاةِ ويشْربونَها في غيرِ حينِ الصلاةِ، حتى نزلتْ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. فقال عُمرُ: ضَيْعةً لكِ! اليومَ قُرِنْتِ بالميسرِ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ مَعمرٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ أبى حُميدٍ، عن أبي تَوبةَ المصرىِّ، قال: سمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ يقولُ: أنزلَ اللهُ عز وجل في الخمرِ ثلاثًا، فكان أولَ ما أَنزلَ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الآية. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ننتفعُ بها ونشْربُها كما قال اللهُ جلَّ وعزَّ في كتابِه. ثمَّ نزَلَت هذه الآيةُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية. قالوا: يا رسولَ اللهِ، لا نشربُها عند قُربِ الصلاةِ. قال: ثمَّ نزَلتْ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} الآية. قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُرّمَتِ الخَمْرُ"
(2)
.
حدثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 317 إلى المصنف.
(2)
أخرجه الطيالسى (2069)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 389، 4/ 1199 (2046، 6762)، والبيهقي في الشعب (5569) كلهم من طريق محمَّد بن أبي حميد به. وفي سند الطيالسى وابن أبي حاتم والبيهقي:"أبو طعمة" بدلًا من أبي توبة، قال ابن عساكر - كما في مختصر تاريخ دمشق 28/ 203: وأبو توبة هذا لم أجد له ذكرًا في كتاب من الكتب المشهورة. وقال الشيخ شاكر: أبو توبة المصري: لا يوجد راو بهذا الاسم، وإنما هو من تخليط محمَّد بن أبي حميد. وصحته أبو طعمة الأموى.
النحوىِّ، عن عكرمةَ والحسنِ، قالا: قال اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فنسخَتْها الآيةُ التي في "المائدةِ" فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية.
حدثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عوفٌ، عن أبي القَمُوصِ زيدِ ابنِ علىٍّ، قال: أنزلَ اللهُ عز وجل في الخمرِ ثلاثَ مراتٍ؛ فأولُ ما أَنزل قال اللهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . قال: فشرِبَها من المسلمين من شاءَ اللهُ منهم على ذلك، حتى شرِبَ رَجُلان، فدخَلا في الصلاةِ، فجعَلا يهْجُران كلامًا، لا يدْرِى عوفٌ ما هو، فأنزل اللهُ عز وجل فيهما:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فشَرِبها من شَرِبها منهم، وجعَلوا يَتَّقُونَها عندَ الصلاةِ، حتى شرِبَها -فيما زَعَم أبو القَمُوصِ- رجلٌ، فجعَل ينوحُ على قتلَى بدرٍ
(1)
:
تُحَيِّى بالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْرٍو
…
وهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ
ذَرِينِى أصْطَبِحْ بَكْرًا فإنّى
…
رأيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشامِ
وَوَدّ بَنُو المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ
…
بألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ
(2)
(1)
الأبيات دون الثاني والثالث في سيرة ابن هشام 2/ 29 لأبى بكر بن الأسود بن شعوب، وكذا نسب البيت الثانى له مصعب في نسب قريش ص 301، ونسب البيت الثانى والثالث في الاشتقاق ص 101 والوحشيات ص 257 لبحير بن عبد الله القشيرى. وأورد البخاري في صحيحه 5/ 83 البيت الأوّل والرابع والخامس. وفي هذه المصادر اختلاف كثير في الرواية والترتيب عما هنا.
(2)
السوام: الإبل الراعية. اللسان (س و م).
كأنى بالطَّوِىِّ
(1)
طَوِىِّ بَدْرٍ
…
مِنَ الشِّيزَى
(2)
يُكَلَّلُ بالسَّنامِ
كأنى بالطَّوِىِّ طَوِيِّ بَدْرٍ
…
مِنَ الفِتْيانِ والحُلَلِ الكِرَامِ
قال: فبلَغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فجاء فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَه من الفزعِ حتى انتهَى إليه، فلمَّا عاينَه الرجلُ، فرفَع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيدِه ليضرِبَه، قال: أعوذُ باللهِ مِن غَضَبِ اللهِ ورسولِه، واللهِ لا أطعَمُها أبدًا. فأنزَل اللهُ تحريمَها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قولِه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . فقال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: انتهَينا انتهَينا
(3)
.
حَدَّثَنَا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا إسحاقُ الأزرقُ، عن زكريّا، عن سِماكٍ، عن الشعبيُّ، قال: نزَلتْ في الخَمرِ أربعُ آياتٍ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فترَكوها، ثم نزلتْ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]. فشرِبوها، ثم نزلتِ الآيتان في "المائدةِ":{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} إلى قولِه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
(4)
.
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدىِّ، قال: نزَلَتْ هذه الآيةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. فلم
(1)
الطوى: البئر المطوية بالحجارة. اللسان (ط و ى).
(2)
الشيزى: جفان تصنع من خشب، وإنما أراد أصحابها الذين يطعمون فيها. شرح غريب السيرة 2/ 76.
(3)
الإصابة 7/ 45، وبعض المصادر تنسب هذا الشعر لأبى بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الشيخ شاكر: زيد بن على أبو القموص تابعى ثقة قليل الحديث، وروايته هذه مرسلة، لا تقوم بها حجة، وقد أشار إليها الحافظ في الإصابة 7/ 45 وأنه رواها الفاكهى في تاريخ مكة، عن يحيى بن جعفر، عن على بن عاصم، عن عوف بن أبى جميلة، عن أبي القموص، وجزم بتضعيفها، لمعارضتها بما رواه الفاكهى نفسه، من وجه صحيح، عن عائشة، قالت: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 317 إلى المصنّف.
يزالوا بذلك يشرَبُونَها، حتى صنَع عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ طعامًا، فدعا ناسًا من أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فيهم عليُّ بنُ أبى طالبٍ، فقرَأ:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ولم يفهَمْها، فأنزَل اللهُ عز وجل يشدِّدُ في الخمرِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فكانت لهم حلالًا، يشرَبون من صلاةِ الفجرِ حتى يرتفِعَ النهارُ أو ينتصفَ، فيقومون إلى صلاةِ الظهرِ وهم مُصْحُون، ثم لا يشرَبونَها حتى يصلُّوا العَتَمةَ -وهى العشاءُ- ثم يشربونها حتى ينتصِفَ الليلُ وينامون، ثم يقومون إلى صلاةِ الفجرِ وقد صَحُوا، فلم يزالُوا بذلك يشربونها، حتى صنَع سعدُ بنُ أبى وقاصٍ طعامًا، فدعا ناسًا من أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيهم رجلٌ من الأنصارِ، فشوَى لهم رأسَ بعيرٍ ثم دعاهُم عليه، فلما أكَلُوا وشرِبوا من الخمرِ، سَكِرُوا وأخذوا في الحديثِ، فتكلَّم سعدٌ بشيءٍ، فغضِبَ الأنصارىُّ، فرفَع لَحْىَ البعيرِ
(1)
فكسَر أنفَ سعدٍ، فأنزلَ اللهُ نسخَ الخمرِ وتحريمَها، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} . إلى قولِه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، وعن رجلٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} . قالا: لما نزَلتْ هذه الآيةُ شَرِبها بعضُ الناسِ وترَكَها بعضٌ، حتى نزَل تحريمها في سورةِ "المائدةِ"
(2)
.
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، عن
(1)
لحى البعير: مفرد اللَّحْيين، وهما حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كلّ ذى لَحْى يكون للإنسان والدابة. اللسان (ل ح ى).
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 88.
ابنِ [أبى نَجيحٍ]
(1)
، عن مجاهدٍ:{قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال: هذا أوّلُ ما عِيبَتْ به الخَمرُ
(2)
.
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} : فذمَّهما اللهُ ولم يحرِّمْهما، لِمَا أراد أن يبلُغَ بهما من المدةِ والأجَلِ، ثم أنزَل اللهُ في سورةِ "النساءِ" أشدَّ منها:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فكانوا يشرَبونها، حتى إذا حضَرت الصلاةُ سكَتُوا عنها، فكان السُّكْرُ عليهم حرامًا، ثم أنزلَ اللهُ جلَّ وعزَّ في سورةِ "المائدةِ" بعدَ غَزْوةِ الأحزابِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قولِه
(3)
: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فجاء تحريمُها في هذه الآيةِ قليلِها وكثيرِها، ما أسكَر منها وما لَمْ يُسكِرْ، وليس للعَربِ يومئذٍ عيشٌ أعْجبَ إليهم منها
(4)
.
وحُدِّثتُ عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . قال: لما نزَلتْ هذه الآيةُ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّ رَبَّكم يُقَدِّمُ في تَحْريمِ الخَمْرِ". قال: ثم نزَلتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبَّكم يُقَدِّمُ في تَحْرِيمِ الخَمْرِ". قال: ثم نزَلتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"جريج".
(2)
تقدم تخريجه في 675، 676.
(3)
زيادة من: ت 2.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 318 إلى المصنّف وابن المنذر.
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}. فحرِّمت الخَمرُ عندَ ذلك
(1)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية كلها، قال: نُسِختْ ثلاثةً، في سورةِ "المائدةِ"، وبالحدِّ الذى حدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وضَرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يضرِبُهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمَلُ في ذلك برأيِه، ولم يكنْ حدًّا مُسمًّى، وهو حدٌّ. وقرَأ:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} .
يعنى جلَّ ذكرُه بذلك: ويسأَلُكَ يا محمدُ أصحابُك: أَىَّ شيءٍ ينفِقون من أموالِهم فيتصدَّقون به، فقل لهم يا محمدُ: أنفِقوا منها العفْوَ.
واختلَفَ أهلُ التأويلِ في معنى: {الْعَفْوَ} فى هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: معناه الفضلُ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا عَمرُو بنُ عليٍّ الباهليُّ، قال: ثنا وكيعٌ، وحدثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابنِ أبى ليلي، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال:{الْعَفْوَ} : ما فضَلَ عن أهلِكَ
(2)
.
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {قُلِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 318 إلى المصنّف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (365 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 393 (2069)، والطبرانى (12075)، وأبو جعفر النحاس في ناسخه ص 189، والبيهقي في الشعب (3415) من طريق ابن أبي ليلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 253 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر.
الْعَفْوَ}. أى: الفضْلَ.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، قال: هو الفضلُ
(1)
.
حَدَّثَنِي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ في قولِه:{الْعَفْوَ} . قال: الفضلَ
(2)
.
حَدَّثَنَا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال:{الْعَفْوَ} . يقولُ: الفضلَ
(3)
.
حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: كان القومُ يعملُون في كلِّ يومٍ بما فيه، فإن فضَلَ ذلك اليومَ فضلٌ عن العيالِ قدَّموه، ولا يتركُون عيالَهم جُوَّعًا ويتصدَّقون به على الناسِ.
حَدَّثَنَا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا يونسُ، عن الحسَنِ في قولِه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: هو الفضْلُ، فضْلُ المالِ
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عَفْوًا لا يَبينُ على مَن أنفقَه أو تصَدَّق به.
ذِكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنِي عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ،
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 88.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (364 - تفسير) من طريق عبد الملك به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 394 (2074) من طريق عمرو بن حماد به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 393 عقب الأثر (2069) معلقًا.
عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . يقولُ: ما لا يَتَبيَّنُ في أموالِكم
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ جُريجٍ، عن طاوسٍ في قولِ اللهِ جلَّ وعزَّ:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: اليسيرَ من كلِّ شيءٍ
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: الوسطُ من النَّفقةِ، ما لَمْ يكنْ إسرافًا ولا إقْتارًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ بَزِيعٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، عن عوفٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . يقولُ: لا تُجْهِدْ مالَك حتى يَنْفَدَ للناسِ
(3)
.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: سألتُ عطاءً عن قولِه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: العفوُ في النفقةِ ألا تُجْهِدَ مالَك حتى يَنْفَدَ فتسألَ الناسَ.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: سألتُ عطاءً عن قولِه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: العفوُ ما
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 394 (2073)، وأبو جعفر النحاس في ناسخه ص 188، من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 253 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 233 - ومن طريقه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 393 (2070) - من طريق ابن أبي نجيح عن طاوس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 253 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن زنجويه في الأموال (2350)، وعبد بن حميد في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير 1/ 373 - من طريق عوف به.
لَمْ يُسْرِفوا، ولم يَقْتُروا في الحَقِّ. قال: وقال مجاهدٌ: العفوُ صدقةٌ عن ظهْرِ غِنًى.
حَدَّثَنَا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: هو ألا تُجْهِدَ مالَك.
وقال آخَرون: معنى ذلك: {قُلِ الْعَفْوَ} : خُذْ منهم ما أتَوْك به مِن شيءٍ قليلًا أو
(1)
كثيرًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال؛ ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . يقولُ: ما أتَوْك به مِن شيءٍ قليلٍ أو كثيرٍ، فاقْبَلْه منهم.
وقال آخَرون: معنى ذلك: ما طاب مِن أموالِكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: يقولُ: الطيبَ منه. يقولُ: أفضلُ مالِك وأطيبَه
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمَّارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ، قال: كان يقولُ: {الْعَفْوَ} : الفضلَ. يقولُ: أفضلَ مالِك.
وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقةُ المفروضةُ.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 393 (2071) من طريق ابن أبي جعفر به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن قيسِ بنِ سعدٍ -أو عيسى، عن قيسٍ- عن مجاهدٍ -شكَّ أبو عاصمٍ- قولَ اللهِ جلّ وعزّ:{قُلِ الْعَفْوَ} . قال: الصدقةَ المفروضةَ
(1)
.
وأَوْلى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى العفوِ: الفضلُ مِن مالِ الرجلِ عن نفسِه وأهلِه في مُؤَنِهم
(2)
وما لا بُدَّ لهم منه، وذلك هو الفضلُ الذى تظاهَرت به الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالإذنِ في الصدقةِ، وصدقتُه
(3)
في وجوهِ البِرِّ.
ذكرُ بعضِ الأخبارِ التى رُوِيت عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلك
حدَّثنا عليُّ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن ابنِ عَجْلانَ، عن المَقْبُرىِّ، عن أبى هريرةَ، قال: قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، عندى دينارٌ. قال:"أَنْفِقْه على نفسِكَ". قال: عندى آخَرُ. قال: "أنفِقْه على أهلِك". قال: عندى آخَرُ. قال: "أنْفِقْه على ولدِك". قال: عندى آخَرُ. قال: "فأنت أَبْصَرُ"
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 233، ومن طريقه أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 393 (2072)، والنحاس في ناسخه ص 188، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 393 (2072) من طريق قيس به.
(2)
في م: "مؤنتهم".
(3)
في النسخ: "صدقة". وينظر تعليق الشيخ شاكر.
(4)
أخرجه البيهقى 7/ 466، والبغوى في شرح السنة (1686) من طريق أبى عاصم به، وأخرجه الشافعى 2/ 121، والحميدى (1176)، وأحمد 2/ 381، 16/ 104 (7419، 10086)، والبخارى في الأدب المفرد (197)، وأبو داود (1691)، والنسائى (2534)، وابن حبار (4233)، والحاكم 1/ 415، والبيهقى 7/ 466، والبغوى (1685) من طرق عن ابن عجلان به.
حدَّثنى محمدُ بنُ مَعْمَرٍ البَحْرانيُّ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ عُبادةَ، قال: ثنا ابنُ جُرَيْجٍ، قال: أخبرَنى أبو الزُّبَيْرِ، أنه سمِع جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذا كان أحدُكم فقيرًا فَلْيَبْدَأْ بنفسِه، فإن كان له فضلٌ فَلْيَبْدَأْ معَ نفسِه بمَن يَعُولُ، ثم إن وجَد فضلًا بعدَ ذلك فَلْيَتَصَدَّقْ على غيرِهم"
(1)
.
حدثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عاصمِ بنِ
(2)
عمرَ بنِ قتادةَ، عن محمودِ بنِ لَبِيدٍ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: أتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضةٍ من ذهبٍ أَصابها في بعضِ المعادنِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، خُذْ هذه منى صدقةً، فو اللهِ ما أصبحتُ أَمْلِكُ غيرَها. فأعْرَض عنه، فأتاه مِن ركنِه الأيمنِ، فقال له مثلَ ذلك، فأعْرَض عنه، ثم قال له مثلَ ذلك، فأعرَض عنه، ثم قال له مثلَ ذلك، فقال:"هاتِها". مُغْضَبًا، فأخَذها فحذَفه بها حذفةً لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال:"يَجِئُ أحَدُكم بمالِه كلِّه يَتَصَدَّقُ به ويَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ الناسَ، إنما الصَّدقةُ عن ظَهْرِ غِنًى"
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن إبراهيمَ الهَجَرىِّ
(4)
، قال: سمِعتُ أبا الأحوصِ يُحَدِّثُ عن عبدِ اللهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
أخرجه الشافعى 2/ 132 - ومن طريقه البيهقى 10/ 309 - من طريق ابن جريج به، وأخرجه الطيالسى (1854)، وأحمد 22/ 173 (14273)، ومسلم (997)، وأبو داود (3957)، والنسائى (2545، 4666) من طرق عن أبى الزبير به.
(2)
في النسخ: "عن". وتقدم على الصواب في 2/ 237، 250.
(3)
أخرجه ابن خزيمة (2441) من طريق يزيد بن هارون به، وأخرجه ابن زنجويه في الأموال (2346)، والدارمى 1/ 391، وأبو داود (1673)، وابن خزيمة (2441) من طرق عن ابن إسحاق به.
(4)
في النسخ: "المخرمى". والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 2/ 203.
"ارْضَخْ
(1)
مِن الفَضْلِ، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، ولا تُلامُ على كَفَافٍ"
(2)
.
وما أشبهَ ذلك مِن الأخبارِ التى يطولُ باستقصاءِ ذكرِها الكتابُ.
فإذا كان الذى أَذِن صلى الله عليه وسلم لأمتِه الصدقةَ مِن أموالِهم الفضْلَ
(3)
عن حاجةِ المتُصَدِّقِ، فالفضلُ
(4)
من ذلك هو العفوُ مِن مالِ الرجلِ، إذ كان العفوُ في كلامِ العربِ في المالِ وفى كلِّ شيءٍ هو الزيادةُ والكثرةُ، ومن ذلك قولُه جل ثناؤُه:{حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]. بمعنى: زادُوا على ما كانوا عليه مِن العددِ وكثُروا. ومنه قولُ الشاعرِ
(5)
:
ولكنَّا [يَعَضُّ السيفُ منا]
(6)
…
بأَسْوُقِ عَافِياتِ الشَّحْمِ
(7)
كُومِ
يعنى به كثيراتِ الشحومِ. ومِن ذلك قيل للرجلِ: خُذْ ما عفا لك مِن فلانٍ. يُرادُ به: ما فضَل فصفا لك عن جُهْدِه بما لم يَجْهَدْه - كان بَيِّنًا أن الذى أذِن اللهُ به في قولِه: {قُلِ الْعَفْوَ} لعبادِه مِن النفقةِ، فأذِنهم بإنفاقِه إذا أرادوا إنفاقَه، هو الذى بيَّن لأمتِه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولِه:"خيرُ الصدقةِ ما أنفقتَ عن غِنًى". وآذَنَهم به.
فإن قال لنا قائلٌ: وما تُنْكِرُ أن يكونَ ذلك العفوُ هو الصدقةَ المفروضةَ؟
قيل: أنكَزنا ذلك لقيامِ الحُجَّةِ على أن مَن حلَّت في مالِه الزكاةُ المفروضةُ،
(1)
رضخ له من ماله: إذا أعطاه عطاء غير كثير. التاج (ر ض خ).
(2)
أخرجه أبو يعلى (5125) من طريق إبراهيم الهجرى به، وأخرجه الطيالسى (310)، وابن زنجويه في الأموال (2349) من طريق إبراهيم به موقوفًا.
(3)
في م: "بالفضل".
(4)
في النسخ: "الفضل".
(5)
هو لبيد بن أبى ربيعة، والبيت في شرح ديوانه ص 104.
(6)
في الديوان: "نعض السيف منها".
(7)
في الديوان: "اللحم".
فهلَك جميعُ مالِه إلَّا قَدْرَ الذى لزِم مالَه لأهلِ سُهمانِ الصدقةِ، أن عليه أن يُسَلِّمَه إليهم، إذا كان هلاكُ مالِه بعدَ تفريطِه في أداءِ الواجبِ كان لهم في
(1)
مالِه إليهم، وذلك لا شكَّ أنه جُهدُه -إذا سلَّمه إليهم- لا عفوُه، وفى تسميةِ اللهِ جلّ ثناؤه ما علَّم عبادَه وجْهَ إنفاقِهم مِن أموالِهم عفوًا، ما يُبْطِلُ أن يكونَ مُسْتَحِقًّا اسمَ جُهْدٍ في حالةٍ. وإذا كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ فسادُ قولِ مَن زعَم أن معنى العفوِ هو ما أخرَجه ربُّ المالِ إلى إِمامِه فأعطاه، كائنًا ما كان مِن قليلِ مالِه وكثيرِه، وقولِ مَن زعَم أنه الصدقةُ المفروضةُ.
وكذلك أيضًا لا وجهَ لقولِ مَن يقولُ: إنَّ معناه: ما لم يَتَبيَّنْ في أموالِكم؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لُبَابَةَ: إن مِن توبتى أن أَنْخَلِعَ إلى اللهِ ورسولِه مِن مالى صدقةً. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَكْفِيكَ مِن ذلك الثلثُ"
(2)
. وكذلك رُوِى عن كعبِ بنِ مالكٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا مِن ذلك
(3)
. والثلثُ لا شكَّ أنه بَيِّنٌ فقدُه مِن مالِ ذى المالِ. ولكنه عندى كما قال جلَّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]. وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دونَ ذلك على قدرِ المالِ واحتمالِه.
ثم اخْتَلف أهلُ العلمِ في هذه الآيةِ: هل هى منسوخةٌ أم ثابتةُ الحكمِ على
(1)
سقط من النسخ.
(2)
أخرجه أحمد 27/ 25، 488 (15750، 16080)، وأبو داود (3319). وينظر طرقه والكلام عليه في تخريج المسند.
(3)
البخارى (4418، 4676)، ومسلم (2769).
العبادِ؟ فقال بعضُهم: هى منسوخةٌ، نسَختها الزكاةُ المفروضةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى عليُّ بن داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليِّ ابنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: كان هذا قبلَ أن تُفْرَضَ الصدقةُ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . قال: لم تُفْرَضْ فيه فريضةٌ معلومةٌ، ثم قال:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. ثم نزَلت الفرائضُ بعدَ ذلك مُسَمَّاةً
(2)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} : هذه نسَختها الزكاةُ
(3)
.
وقال آخرون: بل مُثْبتَةُ الحكمِ غيرُ منسوخةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبى نَجيحٍ، عن قيسِ بنِ سعدٍ -أو: عيسى، عن قيسٍ- عن مجاهدٍ -شكَّ أبو عاصمٍ-
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 394 (2073)، وأبو جعفر النحاس في ناسخه ص 188 من طريق عبد الله بن صالح به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 253 إلى المصنف.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 394 (2074) من طريق عمرو بن حماد به.
قال: قال: العفوُ الصدقةُ المفروضةُ
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله ابنُ عباسٍ على ما رواه عنه عطيةُ، مِن أن قولَه:{قُلِ الْعَفْوَ} . ليس بإيجابِ فرضٍ فُرِض مِن اللهِ حقًّا في مالِه، ولكنه إعلامٌ منه ما يُرْضِيه مِن النفقةِ ممَّا يُسْخِطُه، جوابًا منه لمَن سأَل نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم عمَّا فيه له رضًا، فهو أدبٌ من اللهِ لجميعِ خلقِه على ما أدَّبهم به في الصدقةِ غيرِ
(2)
المفروضاتِ، ثابتُ الحكمِ، غيرُ ناسخٍ لحكمٍ كان قبلَه بخلافِه، ولا منسوخٍ بحكمٍ حدَث بعدَه، فلا ينبغِى لذى وَرَعٍ ودِينٍ أن يَتَجاوَزَ في صدقاتِه
(3)
التطوّعِ وهِباتِه وعطايا النفلِ وصدقتِه ما أدَّبهم به نبيُّه صلى الله عليه وسلم بقولِه: "إذا كان عندَ أحدِكم فضلٌ فَلْيَبْدَأْ بنفسِه، ثم بأهلِه، ثم بولدِه". ثم يَسْلُكُ حينئذٍ في الفضلِ مسالكَه التِى تُرْضِى اللهَ ويُحِبُّها، وذلك هو القَوَامُ بينَ الإسرافِ والإقتارِ الذى ذكَره اللهُ عز وجل في كتابِه
(4)
إن شاء اللهُ تعالى.
ويقالُ لمَن زعَم أن ذلك منسوخٌ: ما الدلالةُ على نسخِه وقد أجْمَع الجميعُ لا خلافَ بينهم، على أن للرجلِ أن يُنْفِقَ مِن مالِه صدقةً وهبةً ووصيةً الثلثَ، فما الذى دلَّ على أن ذلك منسوخٌ؟ فإن زعَم أنه يعنى بقولِه: إنه منسوخٌ، أن إخراجَ العفوِ مِن المالِ غيرُ لازمٍ فرضًا، وأن فرضَ ذلك ساقطٌ بوجودِ الزكاةِ في المالِ. قيل له: وما الدليلُ على أن إخراجَ العفوِ كان فرضًا فأسقَطه فرضُ الزكاةِ، ولا دلالةَ في الآيةِ على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم يكنْ أمرٌ مِن اللهِ عزَّ ذكرُه، بل فيها الدلالةُ
(1)
تقدم تخريجه في ص 690.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(3)
في م: "صدقات".
(4)
يعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
على أنها جوابُ ما سأل عنه القومُ على وجهِ التعرُّفِ لِمَا فيه للهِ الرضا مِن الصدقاتِ، ولا سبيلَ لمُدَّعى ذلك إلى دلالةٍ تُوجِبُ صحَّة ما ادَّعَى.
وأمَّا القرَأةُ فإنهم اخْتَلفوا في قراءةِ {الْعَفْوَ} ، فقرَأته عامَّةُ قرَأةِ الحجازِ وقرَأةِ الحَرَميْنِ وعُظْمُ قرَأةِ الكوفيِّين:{قُلِ الْعَفْوَ} . نصبًا. وقرَأه بعضُ قرَأةِ البصريِّين: (قُلِ العَفْوُ). رفعًا
(1)
. فمَن قرَأه نصبًا جعَل {مَاذَا} حرفًا واحدًا، ونصَبه بقولِه:{يُنْفِقُونَ} . على ما قد بيَّنتُ قبلُ، ثم نصَب {الْعَفْوَ} على ذلك، فيكونُ معنَى الكلامِ حينئذٍ: ويَسْأَلونك أىَّ شيءٍ يُنْفِقون؟
ومَن قرَأه رفعًا جعَل "ما" مِن صلةِ "ذا"، ورفَعوا "العفو"، فيكونُ معنى الكلام حينئذٍ: ما الذى ينفقون؟ قل: الذى ينفقون العفوُ.
ولو نَصَبَ "العفو"، ثم جَعَلَ "ماذا" حرفين بمعنَى: يسألونك ماذا يُنفِقون؟ قل: يُنفِقون العفوَ. ورفَع الذين جعلوا "ماذا" حرفًا واحدًا بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذى ينفِقون -خبرًا- كان صوابًا صحيحًا في العربيةِ.
وبأىِّ القراءتينِ قُرِئ ذلك فهو
(2)
عندى صوابٌ، لتقارُبِ معنييهما، معَ استفاضةِ القراءةِ بكلِّ واحدةٍ منهما، غيرَ أن أعجبَ القراءتين إليَّ -وإن كان الأمرُ كذلك- قراءةُ مَن قرَأه بالنصبِ، لأن مَن قرَأ به مِن القرأةِ أكثرُ، وهو أعرفُ وأشهرُ.
القولُ في تأويلِ قولِه عزَّ ذكرُه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} .
يعنى بقولِه عزَّ ذكرُه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} : هكذا يُبَيِّنُ.
(1)
قراءة الرفع هى قراءة أبى عمرو، وقرأ الباقون بالنصب. حجة القراءات ص 133.
(2)
سقط من: النسخ.
أى: كما بيَّنتُ
(1)
لكم أعلامى وحُجَجى -وهى آياتُه في هذه السورة- وعرَّفتُكم فيها ما فيه خلاصُكم مِن عقابِى، وبيَّنتُ لكم حُدودِى وفَرائِضى، ونبَّهتُكم فيها على الأدلَّةِ على وَحْدانيَّتى، ثم على حُجَجِ رسولى إليكم، فأرْشَدتُكم إلى ظهورِ الهُدَى، فكذلك أُبَيِّنُ لكم في سائرِ كتابى الذى أنْزَلتُه على نبيِّى محمدٍ صلى الله عليه وسلم آياتى وحُجَجى، وأُوضِّحُها لكم؛ لِتَتَفَكَّروا في وعْدِى ووعيدى، وثوابى وعِقابى، فتُجاوِزوا
(2)
طاعتى التى تَنالون بها ثوابى في الدارِ الآخرةِ، والفوزَ بنعيمِ الأبدِ على القليلِ مِن اللذاتِ، واليسيرِ مِن الشهواتِ، بركوبِ معصيتى في الدنيا الفانيةِ، التى مَن ركِبها كان مَعَادُه إلىَّ، ومصيرُه إلى ما لا قِبَلَ له به مِن عقابى وعذابى.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال: يعنى في زوالِ الدنيا وفنائِها، وإقبالِ الآخرةِ وبقائِها
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . قال: يقولُ: لعلَّكم تَتَفَكَّرون في الدنيا والآخرةِ، فتعرِفون فضلَ الآخرةِ على الدنيا
(4)
.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يبين".
(2)
في ت 1: "فتتجازوا"، ولعل الصواب: فلا تتجاوزوا. وأثبتها الشيخ شاكر: فتختاروا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 394 (2075) -ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة (25) - من طريق أبى صالح به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 88، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 394 (2077) عن الحسن بن يحيى به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال قولَه:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . قال: أمَّا الدنيا فتَعْلَمون أنها دارُ بلاءٍ ثم فناءٍ، والآخرةُ دارُ جزاءٍ ثم بقاءٍ، فتَتَفَكَّرون، فتعملون للباقيةِ منهما
(1)
. قال: وسمِعتُ أبا عاصمٍ يَذْكُرُ نحوَ هذا أيضًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} : وإنه مَن تفكَّر فيهما عرَف فضلَ إحداهما على الأخرى، وعرَف أن الدنيا دارُ بلاءٍ، ثم دارُ فناءٍ، وأن الآخرةَ دارُ جزاءٍ، ثم دارُ بقاءٍ، فكونوا ممن يَصْرِمُ حاجةَ الدنيا لحاجةِ الآخرةِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذكرُه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ فيما نزَلت هذه الآيةُ، فقال بعضُهم: نزَلت
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن إسرائيلَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لمَّا نزَلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152، الإسراء: 34]. عزَلوا أموالَ اليتامى، فذكَروا ذلك
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 374.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 255 إلى عبد بن حميد.
(3)
كذا في النسخ، والكلام ناقص، وزاد الشيخ شاكر بعده: في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره وذلك حين نزلت {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
وفى حاشية المطبوعة: "هنا بياض في الأصل ولعل تمام العبارة: حين نزل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كما يستفاد من سياق الروايات بعده".
لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنزَلت:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} فخالَطوهم
(1)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لمَّا نزَلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. انطَلق مَن كان عنده يتيمٌ فعزَل طعامَه مِن طعامِه، وشرابَه مِن شرابِه، فجعَل يَفْضُلُ الشئُ مِن طعامِه، فيُحْبَسُ له حتى يَأْكُلَه أو يَفْسُدَ، فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكَروا ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل اللهُ عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فخلَطوا طعامهم بطعامِهم، وشرابَهم بشرابِهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ، قال: لمَّا نزَلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: [كان يُصنَعُ]
(3)
لليتيمِ طعامٌ
(4)
فيَفْضُلُ منه الشئُ، فيَتْرُكُونه حتى يَفْسُدَ، فأنزَل اللهُ:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد 5/ 140 (3000)، والحاكم 2/ 278، 279، وابن أبى حاتم في تفسيره 5/ 1418 (8079)، والبيهقى 5/ 258، 259، 6/ 5 من طريق يحيى بن آدم به.
(2)
أخرجه أبو داود (2871)، والواحدى في أسباب النزول ص 49، والحاكم 2/ 318، والبيهقى 6/ 284 من طريق جرير به. وأخرجه النسائى (3671)، وابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 395 (2081) من طرق عن عطاء ابن السائب به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 255 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ وابن مردويه.
(3)
فى م: "كنا نصنع".
(4)
في م: "طعامًا".
(5)
أخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 49 من طريق سالم الأفطس عن سعيد، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 255 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا يحيى بنُ داودَ الواسطىُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن ابنِ أبى ليلَى، عن الحكمِ، قال: سُئِل عبدُ الرحمنِ بنُ أبى ليلى عن مالِ اليتيمِ، فقال: لمَّا نزَلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} اجْتُنِبتْ مُخَالطتُهم، واتَّقَوْا كلَّ شيءٍ، حتى اتَّقَوا المَاءَ، فلمَّا نزَلت:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قال: فخالَطوهم.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية كلّها. قال: كان اللهُ أنْزَل قبلَ ذلك في سورةِ "بنى إسرائيلَ": {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فكبُرت عليهم، فكانوا لا يُخَالِطونهم في مَأْكَلٍ ولا في غيرِه، فاشتدَّ ذلك عليهم، فأنْزَل اللهُ الرُّخصةَ، فقال:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
(1)
.
حدّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، قال: لمَّا نزَلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} اعْتَزل الناسُ اليتامى فلم يُخالِطوهم في مَأْكَلٍ ولا مَشْرَبٍ ولا مالٍ. قال: فشقَّ ذلك على الناسِ، فسألُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل اللهُ عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع في قولِه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} الآية. قال: فذكِر لنا -واللهُ أعلمُ- أنه أنْزَل في بنى إسرائيلَ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فكبُرت عليهم، فكانوا لا يُخالِطونهم في طعامٍ ولا
(1)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 551 من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 255 إلى عبد بن حميد وابن الأنبارى، وسيأتى عند المصنف مرة أخرى في تفسير سورة الإسراء".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 377، 378.
شرابٍ ولا غيرِ ذلك، فاشتدَّ ذلك عليهم، فأنزَل اللهُ الرخصةَ فقال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . يقولُ: مخالطتُهم في ركوبِ الدابَّةِ، وشُربِ اللبنِ، وخدمةِ الخادمِ. يقولُ للولىِّ الذى يَلى أمرَهم: فلا بأسَ عليه أن يَرْكَبَ الدابَّةَ، أو يَشْرَبَ اللبنَ، أو يَخْدُمَه الخادمُ.
وقال آخَرون في ذلك بما حدَّثنى عَمرُو بنُ علىٍّ، قال: ثنا عمرانُ بنُ عُيَيْنَةَ، قال: ثنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} الآية. قال: كان يكونُ في حِجْرِ الرجلِ اليتيمُ، فيَعْزِلُ طعامَه وشرابَه وآنيتَه، فشقَّ ذلك على المسلمين، فأنزَل اللهُ:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فأحلَّ خلطَهم
(1)
.
حدَّثنى أبو السائبِ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، قال: ثنا أشعثُ، عن الشَّعْبىِّ، قال: لمَّا نزَلت هذه الآيةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . قال: فاجْتَنب الناسُ الأيتامَ، فجعَل الرجلُ يَعْزِلُ طعامَه مِن طعامِه، ومالَه مِن مالِه، وشرابَه مِن شرابِه. قال: فاشتدَّ ذلك على الناسِ، فنزَلت:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قال الشَّعْبىُّ: فمَن خالَط يتيمًا فَلْيتَوَسَّعْ عليه، ومَن خالَطَه لِيَأْكُلَ مِن مالِه فلا يَفْعَلْ
(2)
.
حدَّثنى علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن
(1)
أخرجه النسائى (3672)، وفى الكبرى (6497)، وابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 395، 3/ 878 (2081، 4879) من طريق عمران به.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 878 عقب الأثر (4879) معلقًا.
ابنِ عباسٍ قولَه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} : وذلك أن اللهَ لمَّا أنْزَل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} كرِه المسلمون أن يَضُمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يُخالِطوهم في شيءٍ، فسألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل اللهُ:{قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} .
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: سألتُ عطاءَ بنَ أبى رَبَاحٍ عن قولِه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قال: لمَّا نزَلت سورةُ "النساءِ" عزَل الناسُ طعامَهم فلم يُخالِطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنَّا يَشُقُّ علينا أن نَعْزِلَ طعامَ اليتامى وهم يأكُلون معَنا. فنزَلت: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
(1)
.
قال ابنُ جُرَيْجٍ: وقال مجاهدٌ: عزَلوا طعامَهم عن طعامِهم، وألبانَهم عن ألبانِهم، وأُدْمَهم عن أُدْمِهم، فشقَّ ذلك عليهم، فنزَلت:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قال: مخالطةُ اليتيمِ في المراعِى والأُدْمِ.
قال ابنُ جُرَيْجٍ: وقال ابنُ عباسٍ: الألبانِ وخدمةِ الخادمِ وركوبِ الدابَّةِ. قال ابنُ جُرَيْجٍ: وفى المساكنِ. قال: والمساكنُ يومئذٍ عزيزةٌ.
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ الحسنِ الأَشْقَرُ، قال: أخبَرَنا أبو كُدَيْنةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لمَّا نزَلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} . قال: اجْتَنَب الناسُ مالَ اليتيمِ وطعامَه، حتى كان يَفْسُدُ إن كان لحمًا أو
(1)
أخرجه النسائى (3671)، وفى الكبرى (6496) من طريق أبى كدينة به.
غيرَه، فشقَّ ذلك على الناسِ، فشكَوا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنزلَ اللهُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، [أو عيسى، عن قيسِ بنِ سعدٍ]
(2)
-شكَّ أبو عاصمٍ- عن مجاهدٍ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قال: مخالطةُ اليتيمِ في الرعىِ والأدْمِ
(3)
.
وقال آخَرون: بل كان اتِّقاءُ مالِ اليتيم واجتنابُه مِن أخلاقِ العربِ، فاستَفْتَوْا في ذلك لمشقَّتِه عليهم، فأُفْتُوا بما بيَّنه اللهُ في كتابِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} . قال: كانت العربُ يُشَدِّدون في اليتيمِ حتى لا يَأْكُلوا معَه في قَصْعَةٍ واحدةٍ، ولا يَرْكبوا له بعيرًا، ولا يَسْتَخْدِموا له خادمًا، فجاءوا إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال:{قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} يُصْلِحُ له مالَه وأمرَه له خيرٌ، وإن يُخَالِطْه فيَأْكُلْ معَه ويُطْعِمْه، ويَرْكَبْ راحلتَه ويَحْمِلْه، ويَسْتَخْدِمْ خادمَه ويَخْدُمْه، فهو أجودُ:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} .
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن
(1)
أخرجه النسائى (3671)، وفى الكبرى (6496) من طريق أبى كدينة له.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 395 (2084) من طريق ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد.
أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} إلى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : وإن الناسَ كانوا إذا كان في حِجْرِ أحدِهم اليتيمُ جعَل طعامَه على ناحيةٍ، ولبنَه على ناحيةٍ، مخافةَ الوِزرِ، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْدُ، فلم يكنْ عندَهم ما يَجْعَلون خَدَمًا لليتامى، فقال اللهُ:{قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} إلى آخرِ الآيةِ.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ
(1)
بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} : كانوا في الجاهليةِ يُعَظِّمون
(2)
شأنَ اليتيمِ، فلا يَمَسُّون مِن أموالِهم شيئًا، ولا يَرْكَبون لهم دابَّةً، ولا يَطْعَمون لهم طعامًا، فأصابهم في الإسلامِ جَهْدٌ شديدٌ، حتى احتاجوا إلى أموالِ اليتامى، فسألوا نبىَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامى، وعن مُخالطتِهم، فأنْزَل اللهُ:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} يعنى بالمخالطةِ ركوبَ الدابَّةِ، وخدمةَ الخادمِ، وشربَ اللبنِ.
فتأويلُ الآيةِ إذن: ويَسْألُك يا محمدُ أصحابُك عن مالِ اليتامى، وخَلْطِهم أموالَهم به في النفقةِ والمُطَاعَمةِ والمُشَارَبةِ والمُسَاكنةِ والخِدمةِ، فقل لهم: تَفَضُّلُكم عليهم -بإصلاحِكم أموالَهم مِن غيرِ مَرْزِئَةِ
(3)
شيءٍ مِن أموالِهم، وغيرِ أخْذِ عِوَضٍ مِن أموالِهم على إصلاحِكم ذلك لهم- خيرٌ لكم عندَ اللهِ، وأعظمُ لكم أجرًا؛ لما لكم في ذلك مِن الأجرِ والثوابِ، وخيرٌ لهم في أموالِهم في عاجلِ دنياهم؛ لِما في ذلك مِن توفُّرِ أموالِهم عليهم، وإن تُخالِطوهم فتُشارِكوهم بأموالِكم أموالَهم في
(1)
في النسخ: "الحسن". وتقدم مرارًا.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يطعمون".
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"مرزبة". والمرزئة: النقصان. يقال: رزأ الشئ. أى نقصه. التاج (رزأ).
نفقاتِكم ومطاعمِكم ومشاربِكم ومساكِنكم، فتَضُمُّوا مِن أموالِهم عِوَضًا مِن قيامِكم بأمورِهم وأسبابِهم وإصلاحِ أموالِهم، فهم إخوانُكم، والإخوانُ يُعِينُ بعضُهم بعضًا، ويَكْنُفُ بعضُهم بعضًا؛ فذو المالِ يُعِينُ ذا الفاقَةِ، وذو القُوَّةِ في الجسمِ يُعِينُ ذا الضعفِ.
يقولُ تعالى ذكرُه: فأنتم أيُّها المؤمنون وأيتامُكم كذلك إن خالَطْتُموهم بأموالِكم، فخَلَطتُم طعامَكم بطعامِهم، وشرابَكم بشرابِهم وسائرَ أموالِكم بأموالِهم، فأصَبتُم مِن أموالِهم فضلَ مَرْفِقٍ بما كان منكم
(1)
مِن قيامِكم بأموالِهم ووَلائِهم، ومعاناةِ أسبابِهم على النظرِ منكم
(1)
لهم نظرَ الأخِ الشفيقِ
(2)
لأخيهِ العاملِ فيما بينَه وبينَه بما أوْجَب اللهُ عليه وألزمَه، فذلك لكم حلالٌ؛ لأنكم إخوانٌ بعضُكم لبعضٍ.
كما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} . قال: قد يُخالِطُ الرجلُ أخاه.
حدَّثنى أحمدُ بنُ حازم، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبى مسكينٍ، عن إبراهيمَ، قال: إنى لأَكْرَهُ أن يكونَ مالُ اليتيمِ كالعُرَّةِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن هشامٍ الدَّسْتُوَائىِّ، عن حمَّادٍ، عن إبراهيمَ، عن عائشةَ، قالت: إنى لأَكْرَهُ أن يكونَ مالُ اليتيمِ عندى عُرَّةً حتى أَخْلِطَ طعامَه بطعامى وشرابَه بشرابى
(4)
.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"منهم".
(2)
في ت 1: "الشقيق".
(3)
العرة: القذرة وعذرة الناس. النهاية 3/ 205.
(4)
أخرجه وكيع -كما في تفسير ابن كثير 1/ 375 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 256 إلى عبد بن حميد.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيفَ قال: {فَإِخْوَانُكُمْ} فرفَع الإخوانَ، وقال في موضعٍ آخرَ:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]؟ قيل: لافتراقِ
(1)
معنييْهما، وذلك أن أيتامَ المؤمنين إخوانُ المؤمنين، خالَطَهم المؤمنون بأموالِهم أو لم يُخالِطوهم. فمعنى الكلامِ: وإن تُخالِطوهم فهم إخوانُكم، و"الإخوانُ" مرفوعون
(2)
بالمعنى المتروكِ ذكرُه وهو "هم" لدلالةِ الكلامِ عليه، وأنه لم يُرِدْ بالإخوانِ الخبرَ عنهم أنهم كانوا إخوانًا مِن أجلِ مخالطةِ وُلاتِهم إيَّاهم، ولو كان ذلك المرادَ لكانت القراءةُ نصبًا، وكان معناه حينئذٍ: وإن تُخالِطوهم فخالِطوا إخوانَكم. ولكنه قُرِئ رفعًا لِمَا وصَفتُ مِن أنهم إخوانٌ للمؤمنين الذين يَلُونهم، خالَطوهم أو لم يُخالِطوهم.
وأمَّا قولُه: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} فنُصِب لأنهما حالانِ للفعلِ غيرُ ذاتِيَّين
(3)
، ولا يَصْلُحُ معَهما "هو"، وذلك أنك لو أظْهَرت "هو" معَهما لاسْتَحال الكلامُ. ألا تَرَى أنه لو قال قائلٌ: إن خفتَ مِن عدوِّك أن تُصَلِّىَ قائمًا، فهو راجِلٌ أو راكبٌ. لبطَل المعنى المرادُ بالكلامِ. وذلك أن تأويلَ الكلامِ: فإن خِفتُم أن تُصَلُّوا قيامًا مِن عدوِّكم، فصلُّوا رِجالًا أو رُكبانًا، ولذلك نصبَه إجراءً على ما قبلَه مِن الكلامِ، كما تقولُ في نحوِه مِن الكلامِ: إن لبِستَ ثيابًا فالبياضَ. فتنصِبُه لأنك تُرِيدُ: إن لبِستَ ثيابًا فالْبَسِ البياضَ. ولستَ تُرِيدُ الخبرَ عن أن جميعَ ما يُلْبَسُ مِن الثيابِ فهو البياضُ، ولو أرَدْتَ الخبرَ عن ذلك لقلتَ: إن لبِستَ ثيابًا فالبياضُ. رفعًا، إذ كان مَخْرَجُ الكلامِ على وجهِ الخبرِ منك عن اللابسِ أن كلَّ ما
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"لا فراق".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"مرفوعًا".
(3)
كذا بالنسخ، وهى غير منقوطة في ت 2. وقد جعلها الشيخ شاكر 4/ 356:"دائمين". وقال: وهو تصحيف فاحش لا معنى له.
يلْبَسُ مِن الثيابِ فبياضٌ؛ لأنك تُرِيدُ حينئذٍ: إن لبِستَ ثيابًا فهى بياضٌ.
فإن قال: فهل يجوزُ النصبُ في قولِه: {فَإِخْوَانُكُمْ} ؟ قيل: جائزٌ في العربية فأمَّا في القراءةِ فإنما منَعْناه لإجماعِ القرأةِ على رفعِه. وأمَّا في العربيةِ فإنما أجَزْناه؛ لأنه يَحْسُنُ معَه تكريرُ ما يُحْمَلُ في الذي قبلَه مِن الفعلِ فيهما: وإن تخالِطوهم فإخوانَكم تُخالِطون. فيكونُ ذلك جائزًا في كلامِ العربِ.
(*)
القولُ في تأويلِ قولِه عزّ ذكرُه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: إن ربَّكم وإن أذِن لكم في مخالطتِكم اليتامى على ما أذِن لكم به، فاتقوا اللهَ في أنفسِكم أن تُخالِطوهم وأنتم تُرِيدون أكْلَ أموالِهم بالباطلِ، وتجعلون مخالطتَكم إيَّاهم ذريعةً لكم إلى إفسادِ أموالِهم، وأكلِها بغيرِ حقِّها، فتَسْتَوْجِبوا بذلك منه العقوبةَ التى لا قِبَلَ لكم بها، فإنه يَعْلَمُ مَن خالطَ منكم يتيمَه فشارَكَه في مَطْعَمِه ومَشْرَبهِ ومَسْكَنِه وخَدمِه ورُعَاتِه في حالِ مُخالطتِه إيَّاه، ما الذي يَقْصِدُ بمُخالطتِه إيَّاه؛ إفسادَ مالِه وأكلَه بالباطلِ، أم إصلاحَه وتثميرَه؛ [لأنه لا يَخْفَى]
(1)
عليه منه شيءٌ، ويَعْلَمُ أيَّكم المُرِيدُ إصلاحَ مالِه مِن المُرِيدِ إفسادَه.
كما حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} . قال: اللهُ يَعْلَمُ حينَ تَخْلِطُ مالَك بمالِه أتُرِيدُ أن تُصْلِحَ مالَه أو تُفْسِدَه فتأْكُلَه بغيرِ حقٍّ
(2)
.
(*) من هنا يبدأ الجزء الرابع من نسخة دار الكتب المصرية، وأشير إليها بـ "ص".
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"لأنها"، وفي ت 2:"لأنه".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 256 إلى المصنف.
حدَّثنى أبو السائبِ، [قال: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ]
(1)
، قال: ثنا أشعثُ، عن الشَّعْبىِّ:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} . قال الشعبىُّ: فمَن خالَط يتيمًا فَلْيَتَوَسَّعْ عليه، ومَن خالَطه ليَأْكُلَ مالَه فلا يَفْعَلْ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: ولو شاء اللهُ لحرَّم ما أحلَّه لكم مِن مخالطةِ أيتامِكم بأموالِكم أموالَهم، فجهَدَكُم ذلك وشقَّ عليكم، ولم تَقْدِروا على القيامِ باللازمِ لكم مِن حقِّ اللهِ تعالى، والواجبِ عليكم في ذلك من فرضِه، ولكنه رخَّص لكم فيه، وسهَّله عليكم؛ رحمةً منه بكم ورأفةً.
واختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {لَأَعْنَتَكُمْ} ؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنى به محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن قيسِ ابنِ سعدٍ -أو عيسى، عن قيسِ بنِ سعدٍ- عن مجاهدٍ -شكَّ أبو عاصمٍ- في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} : لحرَّم عليكم المَرْعَى والأدْمَ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: يعنى بذلك مجاهدٌ رعىَ مواشى والى اليتيمِ مع مواشى اليتيمِ، والأكلَ مِن إدامِه؛ لأنه كان يتَأَوَّلُ في قولِه:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أنه خُلْطَةُ الولىِّ اليتيمَ بالرعىِ والأُدْمِ.
حدَّثنى علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} . يقولُ: ولو شاء اللهُ لأحرَجَكم، فضيَّق عليكم، ولكنَّه وسَّع ويسَّر، فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
(1)
سقط من النسخ، والمثبت مما تقدم في ص 701.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 397 (2092) من طريق ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد.
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
(1)
[النساء: 6].
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} . يقولُ: لجهَدكم، فلم تقوموا بحقٍّ ولم تُؤَدُّوا فريضةً
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ نحوَه، إلا أنه قال: فلم تَعْمَلوا بحقٍّ
(3)
.
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} : لشدَّد عليكم.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} قال: لشقَّ عليكم في الأمرِ؛ ذلك العَنَتُ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} . قال: ولو شاء اللهُ لجعَل ما أصَبتم مِن أموالِ اليتامى موبِقًا
(4)
.
وهذه الأقوالُ التى ذكَرناها عمَّن ذُكِرت عنه، وإن اخْتَلفت ألفاظُ قائلِيها فيها، فإنها مُتقارباتُ المعانى؛ لأن مَن حرُم عليه شيءٌ فقد ضُيِّق عليه في ذلك الشئِ، ومَن ضُيِّق عليه في شيءٍ فقد أُحْرِجَ فيه، ومَن أُحْرِج في شيءٍ أو ضُيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكلُّ ذلك عائدٌ إلى المعنى الذي وصَفتُ مِن أن
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 396 (2090) من طريق أبى صالح به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 256 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 397 (2093) من طريق ابن أبى جعفر به. ولفظه: فلم تقوموا بحق.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 396 (2091) من طريق جرير به.
معناه الشدَّةُ والمشقَّةُ؛ ولذلك قيل: عَنِتَ فلانٌ
(1)
، إذا شقَّ عليه
(2)
وجهَده، فهو يَعْنَتُ عَنَتًا. كما قال تعالى ذكرُه:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} [التوبة: 128]. يعنى: ما شقَّ عليكم وآذاكم وجهَدكم، ومنه قولُه تعالى ذكرُه:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]. فهذا إذا عنِت العانتُ، فإن صيَّره غيرُه كذلك قيل: أعْنَته فلانٌ في كذا، إذا جهَده وألْزَمه أمرًا جهَده القيامُ به، يُعْنِتُه إعناتًا. فكذلك قولُه:{لَأَعْنَتَكُمْ} . معناه: لأوْجَب لكم العَنَتَ بتحرِيمِه عليكم ما يجْهدُكم ويُحْرِجُكم، ممَّا لا تُطِيقون القيامَ باجتنابِه وأداءِ الواجبِ له عليكم فيه.
وقال آخَرون: معنى ذلك: لأوْبَقكم وأهلَكَكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ، عن زائدةَ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن مقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قرَأ علينا: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} قال ابنُ عباسٍ: ولو شاء اللهُ لجعَل ما أصبتم مِن أموالِ اليتامى مُوبِقًا.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن فُضَيْلٍ وجريرٍ، عن منصورٍ، وحدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} . قال: لجعَل ما أصَبتم مُوبِقًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: إن اللهَ عزيزٌ في سلطانِه، لا يَمْنَعُه مانعٌ ممَّا أحلَّ بكم مِن عقوبةٍ، لو أعنَتكم بما يَجْهَدُكم القيامُ به مِن فرائضِه، فقصَّرتُم في القيامِ
(1)
في م: "فلانًا".
(2)
أى الأمر. وينظر معانى القرآن للفراء 1/ 143.
به، ولا يَقْدِرُ دافعٌ أن يَدْفَعَه عن ذلك ولا عن غيرِه ممَّا يَفْعَلُه بكم وبغيرِكم مِن ذلك، لو فعَله، [ولكنه]
(1)
بفضلِ رحمتِه منَّ عليكم بتركِ تكليفِه إيَّاكم ذلك، وهو حكيمٌ في ذلك -لو فعَله بكم- وفى غيرِه مِن أحكامِه وتدبيرِه، لا يَدْخُلُ أفعالَه خَلَلٌ ولا نقصٌ ولا وَهْىٌ ولا عيْبٌ؛ لأنه فعلُ ذى الحكمةِ الذى لا يَجْهَلُ عواقبَ الأمورِ، فيَدْخُلُ تدبيرَه مَذَمَّةُ عاقبةٍ، كما يَدْخُلُ ذلك أفعالَ الخلقِ لجهلِهم بعواقبِ الأمورِ، لسوءِ اختيارهم فيها ابتداءً.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في هذه الآيةِ، هل نزَلت مُرادًا بها كلُّ مشركةٍ، أم مرادًا بحكمِها بعضُ المشركاتِ دونَ بعضٍ؟ وهل نُسِخ منها بعدَ وجوبِ الحكمِ بها شيءٌ أم لا؟ فقال بعضُهم: نزَلت مُرادًا بها تحريمُ نكاحِ كلِّ مشركةٍ على كلِّ مسلمٍ مِن أىِّ
(2)
أجناسِ الشركِ؛ كانت عابدةَ وَثَنٍ، أو كانت يهوديَّةً أو نصرانيَّةً أو مجوسيَّةً، أو مِن غيرِهم مِن أصنافِ الشركِ، ثم نُسِخ تحريمُ نكاحِ أهلِ الكتابِ بقولِه:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 4، 5].
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي علىُّ بنُ داودَ
(3)
، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ
(1)
في م: "هو لكنه".
(2)
في م: "أن".
(3)
في النسخ: "واقد"، وتقدم مرارًا.
صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . ثم اسْتَثنى نساءَ أهلِ الكتابِ فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} حِلٌّ لكم {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(1)
.
حَدَّثَنَا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسينِ بنِ واقدٍ، عن يزيدَ النحوىِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصرىِّ، قالا
(2)
: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} : فنسَخَ مِن ذلك نساءَ أهلِ الكتابِ، أحلَّهنَّ للمسلمين
(3)
.
حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسي، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . قال: نساءُ أهلِ مكةَ ومَن سواهنَّ مِن المشركين، ثم أَحَلَّ منهنَّ نساءَ أهلِ الكتابِ
(4)
.
حَدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} . إلى قولِه: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . قال: حرَّم اللهُ المشركاتِ في هذه الآيةِ، ثم أنْزَل في سورةِ "المائدةِ"، فاسْتَثنى نساءَ أهلِ الكتابِ، فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَآ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 397 (2095)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 194، والبيهقي 7/ 117 من طريق أبى صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 256 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 3:"قال".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 397 عقب الأثر (2095) معلقًا.
(4)
تفسير مجاهد ص 233، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 397 (2098)، والبيهقي 7/ 171، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 256 إلى آدم وعبد بن حميد.
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(1)
.
وقال آخَرون: بل أُنْزِلت هذه الآيةُ مُرادًا بحكمِها مشركاتُ العربِ، لَمْ يُنْسَخْ منها شيءٌ ولم يُسْتَثْنَ، وإنما هى آيةٌ عامٌّ
(2)
ظاهرُها، خاصٌّ تأويلُها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنَا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . يعنى: مشركاتِ العربِ اللاتى ليس [لهنَّ كتابٌ يَقْرَأْنَه]
(3)
.
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . قال: المشركاتُ مَن ليس مِن أهلِ الكتابِ، وقد تزوَّج حذيفةُ يهوديةً أو نصرانيةً
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . يعنى: مشركاتِ العربِ اللاتى ليس لهنَّ كتابٌ يَقْرَأْنَه
(5)
.
حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن حمَّادٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 397 عقب الأثر (2095) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عامة".
(3)
في ص: "فيهن كتاب يقرأ به".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 398 (2101) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 256 إلى عبد بن حميد.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 89، وأخرجه في مصنفه (12667)، ومن طريقه النحاس في ناسخه ص 196.
(5)
في ص، ت 1، ت 3:"يقرونه".
قولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . قال: مشركاتُ أهلِ الأوثانِ
(1)
.
وقال آخَرون: بل أُنْزِلت هذه الآيةُ مُرادًا بها كلُّ مشركةٍ مِن أىِّ أصنافِ الشركِ كانت، غيرُ مخصوصٍ منها مشركةٌ دونَ مشركةٍ، وَثَنيَّةً كانت أو مجوسيَّةً أو كتابيَّةً، ولا نُسِخ منها شيءٌ.
ذكرُ من قال ذلك
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
(2)
بنُ آدمَ بنِ أبي إياسٍ العَسْقَلانِيُّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَهْرامَ الفَزَارىُّ، قال: ثنا شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ، قال: سمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ يقولُ: نهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن أصنافِ النساءِ إلَّا ما كان مِن المؤمناتِ المهاجراتِ، وحرَّم كلَّ ذاتِ دينٍ غيرِ الإسلامِ، وقال اللهُ تعالى ذكرُه:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]. وقد نكَح طلحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يهوديَّةً، ونكَح حذيفةُ بنُ اليمانِ نصرانيةً، فغضِب عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه غَضَبًا شديدًا، حتى همَّ بأن يَسْطُوَ عليهما، فقالا: نحن نُطَلِّقُ يا أميرَ المؤمنين ولا تَغْضَبْ. فقال: لئن حلَّ طلاقُهنَّ، لقد حلَّ نِكَاحُهنَّ، ولكن أنْتَزِعُهنَّ منكم صَغَرَةً قِماءً
(3)
.
وأَوْلَى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ ما قاله قتادةُ مِن أن اللهَ تعالى ذكرُه عنَى بقولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مَن لَمْ يكنْ مِن أهلِ الكتابِ مِن المشركاتِ،
(1)
أخرجه وكيع -كما في الدر المنثور 1/ 256 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 397 (2096)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 196، والبيهقي 7/ 171.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد". وينظر الجرح والتعديل 5/ 402.
(3)
قماء: جمع قميء، وهو الذليل والحقير الصغير.
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 376 عن المصنّف، وقال: غريب جدًّا.
وأن الآيةَ عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ باطنُها، لَمْ يُنْسَخْ منها شيءٌ، وأن نساءَ أهلِ الكتابِ غيرُ داخلاتٍ فيها، وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه أحلَّ بقولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} للمؤمنين مِن نكاحِ مُحْصَناتِهنَّ، مثلَ الذى أباح لهم مِن نساءِ المؤمناتِ.
وقد بيَّنَّا في غيرِ هذا الموضعِ مِن كتابِنا هذا
(1)
، وفى كتابنا "كتابِ اللطيفِ مِن البيانِ" أن كلَّ آيتينِ أو خبَرينِ كان أحدُهما نافيًا حكمَ الآخرِ في فِطرةِ العقلِ، فغيرُ جائزٍ أن يُقْضَى على أحدِهما بأنه ناسخٌ حكمَ الآخرِ إلَّا بحُجَّةٍ مِن خبرٍ قاطعٍ للعُذْرِ مجيئُه، وذلك غيرُ موجودٍ أن
(2)
قولَه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ناسخٌ ما كان قد وجَب تحريمه مِن النساءِ بقولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . فإن لَمْ يكنْ ذلك موجودًا كذلك، فقولُ القائلِ: هذه ناسخةُ هذه. دعوى لا برهانَ له عليها، والمُدَّعِى دعوى لا برهانَ له عليها مُتَحَكِّمٌ، والتحكُّمُ لا يَعْجِزُ عنه أحدٌ.
وأمَّا القولُ الذى رُوِى عن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن عمرَ رضي الله عنه مِن تفريقِه بينَ طلحةَ وحذيفةَ وامرأتيْهما اللتين كانتا كتابيَّتين - فقولٌ لا معنَى له، لخلافِه ما الأمةُ مجتمعةٌ على تحليلِه بكتابِ اللهِ تعالى ذكرُه وخبرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوِى عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه مِن القولِ خلافُ ذلك بإسنادٍ هو أصحُّ منه، وهو ما حَدَّثَنِي به موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْرُوقيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عن زيدِ بنِ وهبٍ، قال:
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 457، 458.
(2)
في م: "بأن".
قال عمرُ: المسلمُ يَتَزَوَّجُ النصرانيةَ، ولا يَتَزَوَّجُ النصرانيُّ المسلمةَ
(1)
.
وإنما كرِه عمرُ لطلحةَ وحُذيفةَ، رحمةُ اللهِ عليهم، نكاحَ اليهوديَّةِ والنصرانيّةِ، حَذَرًا مِن أن يَقْتَدِىَ بهما الناسُ في ذلك فيَزْهَدوا في المسلماتِ، أو لغيرِ ذلك من المعاني، فأمَرهما بتخليتِهما.
كما حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا الصَّلْتُ بنُ بَهْرامَ، عن شقيقٍ، قال: تزوَّجَ حذيفةُ يهوديةً، فكتَب إليه عمرُ: خلِّ سبيلَها. فكتَب إليه: أتَزْعُمُ أنَّها حرامٌ فأُخَلِّىَ سبيلَها؟ فقال: لا أَزْعُمُ أنَّها حرامٌ، ولكن أخافُ أن تَعَاطَوا المُومِساتِ
(2)
منهنَّ.
وقد حَدَّثَنَا تميمُ بنُ المُنْتَصِرِ، قال: أخبرَنا إسحاقُ الأزرقُ، عن شَرِيكٍ، عن أشعثَ بنِ سَوَّارٍ، عن الحسنِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نتَزَوَّجُ نِساءَ أهلِ الكتابِ ولا يَتَزَوَّجُون نساءَنا"
(3)
.
فهذا الخبرُ، وإن كان في إسنادِه ما فيه، فالقولُ به؛ لإجماعِ الجميعِ على صحةِ القولِ به - أولى مِن خبرِ عبدِ الحميدِ بنِ بَهْرَامَ، عن شهرِ بنِ حَوْشَب.
فمعنى الكلامِ إذن: ولا تَنْكِحوا أيُّها المؤمنون مشركاتِ غيرِ أهلِ الكتابِ حتى يُؤْمِنَّ، فيُصَدِّقْنَ باللهِ ورسولِه وما أُنْزِل عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} .
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10058)، والبيهقي 7/ 172 من طريق سفيان به.
(2)
في ص: "المؤمنات".
والأثر أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 158 عن ابن إدريس به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12670)، وسعيد بن منصور في سننه (716)، والبيهقي 7/ 172 من طريق الصلت به.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 376 عن المصنّف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 261 إلى المصنّف.
يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} : باللهِ وبرسولِه وبما جاء به مِن عندِ اللهِ، خيرٌ عندَ اللهِ وأفضلُ مِن حُرَّةٍ مشركةٍ كافرةٍ وإن شرُف نسبُها وكرُم أصلُها. يقولُ: ولا تَبْتَغوا الناكحَ في ذواتِ الشرفِ مِن أهلِ الشرفِ باللهِ، فإن الإماءَ المسلماتِ عندَ اللهِ خيرٌ مَنْكَحًا منهنَّ.
وقد ذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت في رجلٍ نكَح أَمةً، فعُذِل في ذلك، وعُرِضت عليه حُرَّةٌ مشركةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حَدَّثَنِي موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} . قال: نزَلت في عبدِ اللهِ بنِ رَوَاحةَ، وكانت له أمَةٌ سوداءُ، وأنه غضِب عليها فلطَمها، ثم فزِع، فأتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرَه بخبرِها، فقال له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما هي يا عبدَ اللهِ؟ ". قال: يا رسولَ اللهِ، هى تصومُ وتُصَلِّى وتُحْسِنُ الوُضوءَ، وتَشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنك رسولُ اللهِ. فقال:"هذه مؤمنةٌ". فقال عبدُ اللهِ: فوالذى بعَثك بالحقِّ، لأَعْتِقَنَّهَا ولأَتَزَوَّجَنَّها، ففعَل، فطعَن عليه ناسٌ من المسلمين، فقالوا: تزوَّج أمَةً! وكانوا يُرِيدون أن يَنْكِحوا إلى المشركين ويُنْكِحوهم، رغبةً في أحسابِهم، فأنْزَل اللهُ فيهم:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ}
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 398 (2102) من طريق عمرو بن حماد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 257 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى الحجَّاجُ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ فى قولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . قال: المشركاتِ لشَرَفِهنَّ حتى يُؤْمِنَّ.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: وإن أعْجَبتكم المشركةُ مِن غيرِ أهلِ الكتابِ فى الجمالِ والحسَبِ والمالِ، فلا تَنْكِحوها، فإن الأمَةَ المؤمنةَ خيرٌ عندَ اللهِ مِنها.
وإنما وُضِعت "لو" موضعَ "إن"؛ لتقاربِ مخرجيْهما ومعنييْهما، ولذلك تُجابُ كلُّ واحدةٍ منهما بجوابِ صاحبتِها، على ما قد بيَّنَّا فيما مضَى قبلُ
(1)
.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك أن اللهَ قد حرَّم على المؤمناتِ أن يَنْكِحْنَ مشركًا، كائنًا مَن كان المشركُ، ومن أىِّ أصنافِ الشركِ كان، فلا تُنْكِحوهنَّ أيُّها المؤمنون منهم، فإن ذلك حرامٌ عليكم، ولأَنْ تُزَوِّجُوهنَّ مِن عبدٍ مؤمنٍ مصدِّقٍ باللهِ وبرسولِه، وبما جاء به مِن عندِ اللهِ، خيرٌ لكم مِن أن تُزَوِّجوهنَّ مِن حُرٍّ مشركٍ ولو شرُف نسبُه وكرُم أصلُه، وإنْ أعجَبَكم حسَبُه ونسَبُه.
وكان أبو جعفرٍ محمدُ بنُ علىٍّ يقولُ: هذا القولُ مِن اللهِ تعالى ذكرُه دَلالةٌ على أن أولياءَ المرأةِ أحقُّ بتزويجِها من المرأةِ.
(1)
ينظر ما تقدم فى 2/ 372.
حدَّثنا محمدُ بنُ يزيدَ أبو هشامٍ الرفاعىُّ، قال: أخبرَنا حَفْصُ بنُ غِياثٍ، عن شيخٍ لم يُسَمِّه، قال أبو جعفرٍ: النكاحُ بولىٍّ فى كتابِ اللهِ. ثم قرَأ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} برفعِ التاءِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ والزُّهْرىِّ فى قولِه:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} . قال: لا يَحِلُّ لك أن تُنْكِحَ يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غيرِ أهلِ دينِك
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} لشَرَفِهِم {حَتَّى يُؤْمِنُوا} .
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسينِ بنِ واقدٍ، عن يزيدَ النحوىِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصرىِّ:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} . قال: حرَّم المسلماتِ على رجالِهم. يعنى رجالَ المشركين.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {أُولَئِكَ} : هؤلاء الذين حرَّمتُ عليكم أيُّها المؤمنون مُناكحتَهم مِن رجالِ أهلِ الشركِ ونسائِهم، يَدْعونكم إلى النارِ. يعنى: يدعونكم إلى العملِ بما يُدْخِلُكم النارَ، وذلك هو العملُ الذى هم به عاملون مِن الكفرِ باللهِ ورسولِه. يقولُ: ولا تَقْبَلوا منهم ما يقولون، ولا تَسْتَنْصِحوهم، ولا
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 399 (2105) من طريق حفص به.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (12678)، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 399 (2104) عن الحسن بن يحيى به.
تَنْكِحُوهم، ولا تُنْكِحوا إليهم، فإنهم لا يَأْلونكم خَبالًا، ولكن اقْبَلوا مِن اللهِ ما أمَركم به، فاعْمَلوا به، وانْتَهوا عمَّا نهاكم عنه، فإنه يَدْعوكم إلى الجنةِ، يعنى بذلك: يَدْعوكم إلى العملِ بما يُدْخِلُكم الجنةَ ويُوجِبُ لكم النجاةَ إن عمِلتم به مِن النارِ، وإِلى ما يَمْحو خطايَاكم [وذنوبَكم]
(1)
فيَعْفو عنها، ويَسْتُرُها عليكم.
وأمَّا قولُه: {بِإِذْنِهِ} . فإنه يعنى أنه يَدْعوكم إلى ذلك بإعلامِه إيَّاكم سبيلَه وطريقَه الذى به الوصولُ إلى الجنةِ والمغفرةِ. ثم قال تعالى ذكرُه: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . يقولُ: ويُوَضِّحُ حُجَجَه وأدلَّتَه فى كتابِه الذى أنْزَله على لسانِ رسولِه لعبادِه ليَتَذَكَّروا فيَعْتَبِروا، ويَمِيزوا بين الأمريْنِ اللذين أحدُهما، دعاءٌ إلى النارِ والخلودِ فيها، والآخرُ؛ دعاءٌ إلى الجنةِ وغفرانِ الذنوبِ، فيختاروا خيرَهما لهم، ولم يَجْهَلِ التمييزَ بين هاتين إلَّا غبىُّ الرأىِ، مدخولُ العقلِ.
القولُ فى تأويلِ قولهِ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} : ويَسْألُك يا محمدُ أصحابُك عن الحيضِ
(2)
. وقيل: {الْمَحِيضِ} . لأن ما كان مِن الفعلِ ماضيه بفتحِ عينِ الفعلِ وكسرِها فى الاستقبالِ -مثلُ قولِ القائلِ: ضرَب يَضْرِبُ، وحبَس يَحْبِسُ، ونزَل يَنْزِلُ- فإن العربَ تَبنى مصدرَه على المَفْعَل، والاسمَ على المَفْعِل؛ مثلَ المَضْرَبِ والمَضْرِبِ، مِن: ضرَبت، ونزَلت منزَلًا ومنزِلًا. ومسموعٌ فى ذواتِ الياءِ والألفِ: المَعِيشُ والمعاشُ، والمَعيبُ والمَعابُ، كما قال رُؤْبَةُ فى المعيشِ
(3)
:
(1)
فى م: "أو ذنوبكم".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"المحيض".
(3)
ديوانه ص 78، 79، ورواية البيت الثانى: وجهد أعوام برين ريشى.
إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ
وَمَرَّ أعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِى
وإنما كان القومُ سألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فيما ذُكِر لنا- عن الحيضِ؛ لأنهم كانوا قبلَ بيانِ اللهِ لهم ما يَتَبَيَّنون من أمرِه لا يُساكِنون حائضًا فى بيتٍ، ولا يُؤاكلونهنَّ فى إِناءٍ، ولا يُشارِبونهنّ، فعرَّفهم اللهُ بهذه الآيةِ أن الذى عليهم فى أيامِ حيضِ نسائِهم أن يتجنَّبوا جماعَهنَّ فقط دونَ ما عدا ذلك من مُضاجعتِهنَّ ومُؤاكلتِهنَّ ومُشَاربتِهنَّ.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} حتى بلَغ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} : فكان أهلُ الجاهليةِ لا تُساكِنُهم حائضٌ فى بيتٍ، ولا تؤاكلُهم فى إِناءٍ، فأنزل اللهُ تعالى ذكرُه فى ذلك، فحرَّم فرجَها ما دامت حائضًا، وأحلَّ ما سوى ذلك؛ أن تَصْبُغَ لك رأسَك، وتؤاكلَك مِن طعامِك، وأن تُضاجعَك فى فِراشِك إذا كان عليها إزارٌ محتجِزةً به دونك
(1)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(2)
.
وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك؛ لأنهم كانوا فى أيامِ حيضِهنَّ يجتنِبون إتيانَهنَّ فى مَخرجِ الدَّمِ، ويَأْتونهنَّ فى أدبارِهن، [فنهاهم اللهُ عن أن يَقْرَبوهنَّ فى أيامِ حيضِهنَّ حتى يَطْهُرْنَ، ثم أذِن لهم إذا تطهَّرْنَ مِن حيضِهنَّ فى إتيانِهنَّ مِن حيثُ أمَرهم باعتزالِهنَّ، وحرَّم إتيانَهنَّ فى أدبارِهنَّ بكلِّ حالٍ]
(3)
(1)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 258 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ينظر التبيان 2/ 221 - 222.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
[ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبى الشواربِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ، قال: ثنا خُصيفٌ، قال: ثنى مجاهدٌ، قال: كانوا يَجتنبون النساءَ فى المحيضِ، ويأتونَهن فى أدبارِهنَّ]
(1)
، فسألوا النبىَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزَل اللهُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} إلى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} فى الفرجِ
(2)
لا تَعْدُوه
(3)
.
وقيل: إن السائلَ الذى سأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابتَ بنَ الدَّحْداحِ الأنصارىَّ.
حدَّثنى بذلك موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ
(4)
.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: قل لمَن سألك مِن أصحابِك يا محمدُ عن المحيضِ: {هُوَ أَذًى} .
والأذى هو ما يُؤْذَى به من مكروهٍ فيه، وهو فى هذا الموضعِ يُسَمَّى أذًى لنَتْنِ ريحِه وقَذَرِه ونجاستِه، وهو جامعٌ لمعانٍ شتَّى من خلالِ الأذى غيرِ واحدةٍ.
وقد اختلف أهلُ التأويلِ فى البيانِ عن تأويلِ ذلك على تقارُبِ معانى بعضِ ما قالوا فيه من بعضٍ؛ فقال بعضُهم: قولُه: {قُلْ هُوَ أَذًى} قل: هو قَذَرٌ.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
بعده فى م: "و".
(3)
أخرجه الدارمى 1/ 261 من طريق عبد الواحد به، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 263 إلى عبد بن حميد.
(4)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 258 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{قُلْ هُوَ أَذًى} . قال: أمّا {أَذًى} : فقَذَرٌ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{قُلْ هُوَ أَذًى} . قال: {قُلْ هُوَ أَذًى} . قال: قذرٌ
(2)
.
وقال آخرون: قل: هو دمٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} . قال: الأذى الدمُ
(3)
.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} : فاعتزِلوا جماعَ النساءِ ونكاحَهنّ فى محيضِهن.
كما حدَّثنى علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} . يقولُ: اعتزِلوا نكاحَ
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 401 عقب الأثر (2113) من طريق عمرو بن حماد به.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 89، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 401 (2113) عن الحسن بن يحيى به، وأخرجه الدارمى 1/ 258 من طريق معمر به.
(3)
أخرجه الدارمى 1/ 258 من طريق مؤمل به، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 401 (2112)، والنحاس فى ناسخه ص 209، من طريق سفيان به.
فروجِهن
(1)
.
واختَلف أهلُ العلمِ فى الذى يَجِبُ على الرجلِ اعتزالُه من الحائضِ؛ فقال بعضُهم: الواجبُ على الرجلِ اعتزالُ جميعِ بدنِها أن يباشرَه بشيءٍ من بدنِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا حمَّادُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا عوفٌ، عن محمدٍ، قال: قلتُ لعَبِيدَةَ: ما يَحِلُّ لى من امرأتى إذا كانت حائضًا؟ قال: [اللِّحَافُ واحدٌ، والفِراشُ شتَّى]
(2)
.
حدَّثنى تَمِيمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبرَنا يزيدُ، قال: ثنا محمدٌ، عن الزُّهْرىِّ، عن عُرْوَةَ، عن نُدْبَةَ، مولاةِ آلِ عباسٍ، قالت: بعَثتنى ميمونةُ ابنةُ الحارثِ -أو حفصةُ ابنةُ عمرَ- إلى امرأةِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ، وكانت بينهما قرابةٌ من قِبَلِ النساءِ، فوجَدتُ
(3)
فراشَها معتزِلًا فراشَه، فظنَنْتُ أن ذلك عن الهِجرانِ، فسألتُها عن اعتزالِ فراشِه فراشَها، فقالت: إنى طَامثٌ، وإذا طمَثْتُ اعتزل فراشى. فرجَعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونةَ -أو حفصةَ- فردَّتنى إلى ابنِ عباسٍ: تقولُ لك أمُّك: أرَغِبْتَ
(4)
عن سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم! فواللهِ، لقد كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم ينامُ معَ المرأةِ من نسائِه، وإنها لحائضٌ، وما بينَه وبينها إلَّا ثوبٌ ما يجاوزُ الركبتين
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 401 (2115)، والنحاس فى ناسخه ص 206، والبيهقى 1/ 309 من طريق أبى صالح به.
(2)
كذا فى النسخ، والصواب:"اللحاف شتى والفراش واحد" كما سيأتى فى الأثر بعد القادم عن عبيدة السلمانى، وهو كذلك فى سنن الدارمى.
(3)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فوردت".
(4)
فى ص، ت 1، ت 3:"أرغبة".
(5)
أخرجه أحمد 6/ 332 (الميمنية) من طريق يزيد به. وأخرجه ابن أبى شيبة 4/ 256، وأحمد =
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ وابنِ عونٍ، عن محمدٍ، قال: قلتُ لعَبِيدَةَ: ما للرجلِ من امرأتِه إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراشُ واحدٌ، واللحافُ شتَّى، فإن لم يَجِدْ إلا أن يَرُدَّ عليها من ثوبه ردَّ عليها منه
(1)
.
واعتلَّ قائلو هذه المقالةِ بأن اللهَ تعالى ذكرُه أمَر باعتزالِ النساءِ في حالِ حيضِهن، ولم يَخْصُصْ منهنَّ شيئا دونَ شيءٍ، وذلك عامٌّ على جميعِ أجسادِهن، واجبٌ اعتزالُ كلِّ شيءٍ من أبدانِهن في حيضِهن.
وقال آخَرون: بل الذى أمَر اللهُ تعالى ذكرُه باعتزالِه منهنَّ موضعُ الأذى، وذلك موضعُ مَخْرَجِ الدمِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدَّثنى عُيَيْنَةُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ جَوْشَنٍ، قال: ثنا مروانُ الأصفرُ
(2)
، عن مسروقِ بنِ الأجدعِ، قال: قلتُ لعائشةَ: ما يَحِلُّ للرجلِ من امرأتِه إذا كانت حائضًا؟ قالت: كلُّ شيءٍ إلا الجماعَ
(3)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، وحدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكِر لنا عن
(4)
عائشةَ
= 6/ 332 (الميمنية) من طريق الليث بن سعد عن الزهرى به.
(1)
أخرجه الدارمى 1/ 244 من طريق ابن عون به.
(2)
في ص، م، ت 1:"الأصغر".
(3)
أخرجه الدارمى 1/ 242 من طريق عيينة بن عبد الرحمن به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 378 عن المصنف.
(4)
في ص، ت 1، ت 3:"أن".
أنها قالت: وأيُّنا
(1)
كان ذا
(2)
الفراشينِ [وذا]
(3)
اللحافينِ؟!
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن سالمِ ابنِ أبى الجعدِ، عن مسروقٍ، قال: قلتُ لعائشةَ: ما يَحْرُمُ على الرجلِ من امرأتِه إذا كانت حائضًا؟ قالت: فرجُها.
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن كتابِ أبى قلابةَ، أن مسروقًا ركِب إلى عائشةَ، فقال: السلامُ على النبىِّ وعلى أَهْلِه
(4)
. فقالت عائشةُ: أبو عائشةَ! مرحبًا، فَأْذَنوا له. فدخَل فقال: إنى أُرِيدُ أن أسألَكِ عن شيءٍ وأنا أستحى. فقالت: إنما أنا أمُّك وأنتَ ابنى. فقال: ما للرجلِ [من امرأتِه]
(5)
وهى حائضٌ؟ قالت له: كلُّ شيءٍ إلا فرجَها
(6)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، قال: ثنا حجَّاجٌ، عن ميمونِ بنِ مهرانَ، عن عائشةَ، قالت: له ما فوقَ الإزارِ
(7)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبرَنا أيوبُ، عن نافعٍ، أن عائشةَ قالت في مضاجعةِ الحائضِ: لا بأسَ بذلك إذا كان عليها إزارٌ
(8)
.
(1)
في م، ت 2:"أين".
(2)
في م: "ذو".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ذا".
(4)
في م: "أهل بيته".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1260) عن معمر عن أيوب به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 378 عن المصنف.
(7)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 255، والدارمى 1/ 242 من طريق ميمون به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 378 عن المصنف.
(8)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1240) من طريق نافع به.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن أبى معشرٍ، قال: سُئِلت
(1)
عائشةُ: ما للرجلِ من امرأتِه إذا كانت حائضًا؟ فقالت: كلُّ شيءٍ إلا الفرجَ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، عن محمدِ بنِ عَمرٍو، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ، قال: قال ابنُ عباسٍ: إذا جعَلت الحائضُ على فرجِها ثوبًا، أو ما يَكُفّ الأذى، فلا بأسَ أن يباشرَ جِلْدَها زوجُها.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا يزيدُ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ أنه سُئل: ما للرجلِ من امرأتِه إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزارِ
(3)
.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هاشمُ بنُ القاسمِ، قال: ثنا الحكمُ بنُ فُضيلٍ، عن خالدٍ الحذَّاءِ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: اتَّقِ من الدمِ مثلَ موضعِ النعلِ
(4)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبرَنا أيوبُ، عن عكرمةَ، عن أمِّ سلمةَ، قالت في مضاجعةِ الحائضِ: لا بأسَ بذلك إذا كان على فرجِها خِرْقَةٌ
(5)
.
(1)
في م، ت 2:"سألت".
(2)
أخرجه الطحاوى في معانى الآثار 3/ 38، والنحاس في ناسخه ص 204 من طريق أيوب، عن أبى معشر، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 254 عن عبد الله بن إدريس به، والدارمى 1/ 244 من طريق خالد الواسطى عن يزيد به، دون ذكر ابن عباس.
(4)
أخرجه البيهقى 1/ 314 من طريق هاشم به.
(5)
أخرجه ابن أبى شيبة 1/ 254 عن ابن علية به.
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال: للرجلِ مِن امرأتِه كلُّ شيءٍ ما خلا الفرجَ
(1)
. يعنى وهى حائضٌ.
حدثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدثنا ابنُ أبى عديٍّ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: يَبِيتان في لحافٍ واحدٍ -يعنى الحائضَ- إذا كان على الفرجِ ثوبٌ.
حدَّثنا تَمِيمٌ، قال: أخبرَنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن ليثٍ، قال: تذاكرْنا عندَ مجاهدٍ: الرجلُ يلاعِبُ امرأتَه وهى حائضٌ. قال: اطعُنْ بذَكَرِك حيثما شئتَ فيما بين الفَخِذَين والأَلْيتَيْنِ والسُّرَّةِ، ما لم يكنْ في الدُّبُرِ أو الحيْضِ.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، عن إسماعيلَ بنِ أبى خالدٍ، عن عامرٍ، قال: يُباشِرُ الرجلُ امرأتَه وهى حائضٌ
(2)
إذا كَفَّت الأذى
(3)
.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنى عمرانُ بنُ حُدَيْرٍ، قال: سمِعتُ عكرمةَ يقولُ: كلُّ شيءٍ من الحائضِ لك حلالٌ غيرَ مَجْرَى الدمِ
(4)
.
وعلةُ قائلِ هذه المقالةِ قيامُ الحجةِ بالأخبارِ المتواترةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنه كان يُباشِرُ نساءَه وهنَّ حُيَّضٌ، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعِهنَّ، لَمَا فعَل ذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا صحَّ ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عُلِم أن مُرادَ اللهِ تعالى ذكرُه بقوله:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} هو اعتزالُ بعضِ جسدِها دونَ بعضٍ. وإذا كان ذلك كذلك، وجَب أن يكونَ ذلك هو الجماعَ المُجْمَعَ على تحريمِه على الزوجِ في قُبُلِها، دونَ ما كان فيه اختلافٌ من جماعِها في سائرِ بدنِها.
(1)
ينظر التبيان 2/ 220.
(2)
بعده في م، ت 2:"قال".
(3)
أخرجه الدارمى 1/ 243 من طريق سفيان عن إسماعيل به، وابن أبى شيبة 4/ 255 من طريق عامر بنحوه.
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 255 من طريق آخر عن عكرمة بنحوه.
وقال آخرون: بل الذى أمَر اللهُ تعالى ذكرُه باعتزالِه منهن في حالِ حيضِهن، ما بين السُّرَّةِ إلى الركبةِ، وله ما فوقَ ذلكَ ودونَه منها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، عن ابنِ عونٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن شُرَيْحٍ، قال: له ما فوقَ السُّرَّةِ
(1)
. وذكَر الحائضَ.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: أخبرَنا يزيدُ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: سُئِل ابنُ عباسٍ عن الحائضِ: ما لزوجِها منها؟ فقال: ما فوقَ الإزارِ.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ وابنِ عونٍ، عن محمدٍ، قال: قال شُرَيْحٌ: له ما فوقَ سُرَّتِها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا ابن أبى عَدِيٍّ، عن شعبةَ، عن واقدِ بنِ محمدِ بنِ زيدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، قال: سُئِل سعيدُ بنُ المُسيَّبِ: ما للرجلِ من الحائض؟ قال: ما فوقَ الإزارِ
(2)
.
وعلةُ مَن قال هذه المقالةَ صحةُ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما حدَّثنى به ابنُ أبى الشواربِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ بنُ زيادٍ، قال: ثنا سليمانُ الشيبانيُّ، وحدَّثنى أبو السائبِ، قال: حدَّثنا حفصٌ، قال: ثنا الشيبانيُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ شدَّادِ بنِ الهادِ، قال: سمِعتُ ميمونةَ تقولُ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُباشرَ امرأةً من
(1)
أخرجه الدارمى 1/ 244 من طريق ابن عون به، وعبد الرزاق في مصنفه (1239) عن معمر عن أيوب به.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 1/ 379.
نسائِه وهى حائضٌ أمَرها فاتَّزَرتْ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ
(2)
المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن الشيبانيِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ شدَّادٍ، عن ميمونةَ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُباشِرُها وهى حائضٌ فوقَ الإزارِ
(3)
.
حدَّثنى سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ، عن عائشةَ، قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمَرها فاتَّزرت بإزارٍ ثم يُباشِرُها
(4)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن الشيبانيِّ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الأسودِ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمَرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَأْتَزِرَ ثم يباشرُها
(5)
.
ونظائرُ ذلك من الأخبارِ التى يطولُ باستيعابِ [ذكرِ جميعِها]
(6)
الكتابُ.
قالوا: فما فعَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائزٌ، وهو مباشرةُ الحائضِ ما دونَ الإزارِ وفوقَه، وذلك دونَ الركبةِ وفوقَ السُّرَّةِ، وما عدا ذلك من جسدِ الحائضِ، فواجبٌ اعتزالُه لعمومِ الآيةِ.
(1)
أخرجه أحمد 6/ 336 (الميمنية)، والبخارى (303) من طريق عبد الواحد بن زياد به، وأخرجه عبد بن
حميد (1551)، وأبو داود (2167) من طريق حفص به.
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
أخرجه أحمد 6/ 335 (الميمنية) عن عبد الرحمن بن مهدى به.
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 254، ومسلم (293)، وابن ماجه (636)، والنسائى (285، 372) عن جرير به.
(5)
أخرجه البخارى (302)، ومسلم (2/ 293) من طريق الشيبانى به.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"جميع ذكرها".
وأَوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: إِنَّ للرجلِ من امرأتِه الحائضِ ما فوقَ المُؤْتَزَرِ ودونَه. لِما ذكَرنا من العلةِ لهم.
القولُ في تأويلِ قوله جل ذكرُه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بضمِّ الهاءِ وتخفيفِها
(1)
، وقرَأه آخرون بتشديدِ الهاءِ وفتحِها
(2)
.
وأمَّا الذين قرَءوه بتخفيفِ الهاءِ وضمِّها، فإنهم وجَّهوا معناه إلى: ولا تَقْرَبوا النساءَ في حالِ حيضِهن حتى ينقطعَ عنهنَّ دمُ الحيضِ يَطْهُرْنَ. وقال بهذا التأويلِ جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْدِيٍّ ومُؤَمَّلٌ، قالا
(3)
: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . قال: انقطاعُ الدمِ
(4)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن سفيانَ، أو عثمانَ بنِ الأسودِ:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} : حتى ينقطعَ الدمُ عنهنَّ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ العَتَكيُّ، عن عكرمةَ في قوله:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . قال: حتى ينقطعَ
(1)
هى قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص. ينظر السبعة ص 182.
(2)
هى قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبى بكر والمفضل. المصدر السابق.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(4)
تفسير سفيان ص 66، ومن طريقه الدارمي 1/ 250، والنحاس في ناسخه ص 209، والبيهقي 1/ 310.
(5)
أخرجه الدارمي 1/ 249 من طريق سفيان، عمن حدثه، عن مجاهد.
الدمُ
(1)
.
وأمَّا الذين قرَءوا ذلك بتشديدِ الهاءِ وفتحِها، فإنهم عَنَوْا به: حتى يَغْتَسِلْنَ بالماءِ. وشدَّدوا الطاءَ؛ لأنهم قالوا: معنى الكلمةِ: حتى يَتَطَهَّرْنَ. أُدْغِمت التاءُ فى الطاءِ لتقاربِ مخرجَيْهما.
وأَوْلَى القراءتينِ بالصوابِ
(2)
فى ذلك قراءةُ مَن قرَأ: (حتى يَطَّهَّرْنَ) بتشديدِها وفتحِها، بمعنى: حتى يَغْتَسِلْنَ؛ لإجماعِ الجميعِ على أن حرامًا على الرجلِ أن يَقْرَبَ امرأتَه بعدَ انقطاعِ دمِ حيضِها حتى تَطْهُرَ.
وإنما اخْتُلِفَ فى التطهُّرِ الذى عناه الله تعالى ذكرُه فأحلَّ له جماعَها؛ فقال بعضُهم: هو الاغتسالُ بالماءِ، ولا يَحِلُّ لزوجِها أن يَقْرَبَها حتى تَغْسِلَ جميعَ بدنِها.
وقال بعضُهم: هو الوُضوءُ للصلاةِ.
وقال آخرون: بل هو غَسلُ الفرجِ، فإذا غسَلت فرجَها فذلك تطهُّرُها الذى يَحِلُّ به لزوجِها غشيانُها.
فإذا كان إجماعٌ من الجميعِ أنها لا تَحِلُّ لزوجِها بانقطاعِ الدمِ حتى تَطَّهَّرَ، كان بيِّنًا أن أَوْلَى القراءتينِ بالصوابِ أنفاهُما لِلَّبْسِ عن فهمِ سامعِها، وذلك هو الذى اخترْنا، إذ كان فى قراءةِ قارئِها بتخفيفِ الهاءِ وضمِّها ما لا يُؤْمَنُ معَه اللَّبْسُ على سامعِها من الخطأِ فى تأويلِها، فيرَى أن لزوجِ الحائضِ غشيانَها بعدَ انقطاعِ دمِ حيضِها عنها، وقبلَ اغتسالِها وتطهُّرِها.
فتأويلُ الآيةِ إذن: ويسألونك عن المحيضِ، قل: هو أذًى، فاعتزِلوا جماعَ
(1)
ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 401 عقب الأثر (2117) معلقا.
(2)
القراءتان متواترتان، وليست إحداهما أولى بالصواب من الأخرى.
نسائِكم فى وقتِ حيضِهنَّ، ولا تَقْرَبوهنَّ حتى يَغْتَسِلْنَ فيتطهَّرْنَ من حيضِهنَّ بعدَ انقطاعِه.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} : فإذا اغتسلْنَ فتطهَّرْن بالماءِ فجامِعوهنَّ.
فإن قال قائلٌ: أففَرْضٌ جماعُهنَّ حينئذٍ؟ قيل: لا. فإن قال: فما معنى قولِه إذن: {فَأْتُوهُنَّ} ؟ قيل: ذلك إباحةُ ما كان مُنِع قبلَ ذلك من جماعِهن، وإطلاقٌ لما كان حُظِر فى حالِ الحيضِ، وذلك كقولِه:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقولِه:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. وما أشبهَ ذلك.
واختَلف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ قولِه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فقال بعضُهم: معنى ذلك: فإذا اغتَسلْنَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباس:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} . يقولُ: فإذا طهرت من الدمِ وتطهَّرت بالماءِ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنى [ابنُ مَهْدِىٍّ]
(2)
ومُؤَمَّلٌ، قالا: ثنا سفيانُ، عن
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 402 (2119)، والبيهقى 1/ 309، من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 260 إلى ابن المنذر.
(2)
فى م: "محمد بن مهدى".
ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : فإذا اغْتَسلْنَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عُبَيْدُ اللهِ العَتَكىُّ، عن عكرمةَ فى قولِه:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} . يقولُ: اغتَسلْنَ
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن سفيانَ، أو عثمانَ بنِ الأسودِ:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : إذا اغتَسلْنَ
(3)
.
حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى، ثنا عبدُ الوارثِ، ثنا عامرٌ، عن الحسنِ فى الحائضِ ترَى الطُّهرَ، قال: لا يغشاها زوجُها حتى تغتسلَ وتَحِلَّ لها الصلاةُ
(4)
.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ أنه كرِه أن يطَأَها حتى تغتسلَ
(5)
. يعنى المرأةَ إذا طهَرت.
وقال آخَرون: معنى ذلك: فإذا تطهَّرْنَ للصلاةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا ليثٌ، عن طاوسٍ ومجاهدٍ أنهما قالا: إذا طهَرت المرأةُ من الدمِ فشاء زوجُها أن يأمُرَها بالوضوءِ قبلَ أن تغتسلَ إذا أدْرَكَه الشَّبَقُ، فَلْيُصِبْ
(6)
.
وأَوْلَى التأويلين بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: معنى قولِه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : فإذا
(1)
تفسير سفيان ص 66، ومن طريقه الدارمى 1/ 250، والنحاس فى ناسخه ص 209، والبيهقى 1/ 310.
(2)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 260 إلى المصنف.
(3)
تقدم تخريجه فى ص 731.
(4)
أخرجه الدارمى 1/ 250، والبيهقى 1/ 310 من طرق عن الحسن.
(5)
أخرجه الدارمى 1/ 250 من طريق حماد عن إبراهيم.
(6)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 260 إلى المصنف، وينظر تفسير البغوى 1/ 259.
اغْتَسلْنَ؛ لإجماعِ الجميعِ على أنها لا تصيرُ بالوضوءِ بالماءِ طاهرًا الطُّهرَ الذى يَحِلُّ لها به الصلاةُ، وأن القولَ لا يخلو فى ذلك مِن أحدِ أمرين؛ إمَّا أن يكونَ معناه: فإذا تَطهَّرْنَ من النجاسةِ فَأْتُوهنَّ. وإن كان ذلك معناه، فقد يَنبغى أن يكونَ متى انْقَطع عنها الدمُ فجائزٌ لزوجِها جماعُها إذا لم تكنْ هنالك نجاسةٌ ظاهرةٌ، هذا إن كان قولُه:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} جائزًا استعمالُه فى التطهُّرِ من النجاسةِ، ولا أعلمُه جائرًا إلَّا على استكراهِ الكلامِ. أو يكونَ معناه: فإذا تَطهَّرْنَ للصلاةِ. و
(1)
فى إجماعِ الجميعِ من الحجةِ على أنه غيرُ جائزٍ لزوجِها غشيانُها بانقطاعِ دمِ حيضِها، إذا لم يكنْ هنالك نجاسةٌ دونَ التطهُّرِ بالماءِ إذا كانت واجِدَتَه - أدلُّ الدليلِ على أن معناه: فإذا تَطهَّرْنَ الطهرَ الذى يَجْزِيهنَّ به الصلاةُ. وفى إجماعِ الجميعِ من الأمةِ على أن الصلاةَ لا تَحِلُّ لها إلا بالاغتسالِ، أوضحُ الدَّلالةِ على صحةِ ما قلنا مِن أن غشيانَها حرامٌ إلا بعدَ الاغتسالِ، وأن معنى قولِه:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : فإذا اغتَسلْنَ فصِرْنَ طواهرَ الطُّهْرَ الذى يَجْزِيهنَّ به الصلاةُ.
القولُ فى تأويلِ قولِه جلّ ذكرُه: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ قولِه: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فَأتُوا نساءَكم إذا تَطهَّرْنَ من الوجهِ الذى نهيتُكم عن إتيانِهنَّ منه فى حالِ حيضِهنَّ، وذلك الفرجُ الذى أمَر اللهُ بتركِ جماعِهن فيه فى حالِ الحيض.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: ثنى أبانُ بنُ صالحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ فى قولِه: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: من حيثُ أمَركم أن تعتزِلوهنَّ
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية بن صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقولُ: فى الفرجِ، لا تَعْدُوه إلى غيرِه، فمَن فعَل شيئًا من ذلك فقد اعْتَدى
(2)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا خالدٌ الحَذَّاءُ، عن عكرمةَ فى قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: من حيثُ أمَركم أن تَعتزِلوا
(3)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنا أبو صخرٍ، عن أبى معاويةَ البَجَلىِّ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنه قال: بَيْنَا أنا ومجاهدٌ جالسان عندَ ابنِ عباسٍ أتاه رجلٌ فوقَف على رأسِه، فقال: يا أبا العباسِ -أو يا أبا الفضلِ- ألا تَشْفِينى عن آيةِ المحيضِ؟ قال: بلى. فقرَأ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} حتى بلَغ آخرَ الآيةِ. فقال ابنُ عباسٍ: من حيثُ جاء الدمُ، من
(4)
ثَمَّ أُمِرتَ أن تأتىَ
(5)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، عن عثمانَ
(6)
، عن مجاهدٍ، قال: دُبُرُ المرأةِ مثلُه من الرجلِ. ثم قرَأ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} إلى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: من حيثُ أمَركم أن تَعتزِلوهنَّ
(7)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا مؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نَجيح، عن
(1)
أخرجه الدارمى 1/ 257 من طريق مجاهد به.
(2)
أخرجه البيهقى 1/ 309 من طريق أبى صالح به.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 232 عن ابن علية به.
(4)
سقط من: م.
(5)
سيأتى تخريجه بتمامه فى ص 750.
(6)
فى م، ت 1:"عمرة"، وفى ت 2:"عمر"، وفى ت 3:"عمن".
(7)
تفسير سفيان الثورى ص 66 عن عثمان به، وأخرجه ابن أبى شيبة 4/ 233 من طريق عثمان به.
مجاهدٍ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: أُمِروا أن يأتوهنَّ من حيثُ نُهوا عنه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ أبى الشواربِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ، قال: ثنا خُصيفٌ، قال: ثنى مجاهدٌ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} : فى الفرجِ، ولا تَعْدُوه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقولُ: إذا تَطهَّرْنَ فَأْتوهنَّ من حيثُ نهَى عنه فى المحيضِ.
حدَّثنى محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن سفيانَ، أو عثمانَ بنِ الأسودِ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} : باعتزالِهنَّ منه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أى: من الوجهِ الذى يأتى منه المحيضُ طاهرًا غيرَ حائضٍ، ولا تَعْدُوا ذلك إلى غيرِه.
حدّثنا محمدُ بن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: طواهرَ من غيرِ جماعٍ، ومن غيرِ حيضٍ، من الوجهِ الذى يأتى المحيضُ، ولا يَتعدَّه
(3)
إلى غيرِه
(4)
. قال سعيدٌ: ولا أعلمُه إلا عن ابنِ عباسٍ.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ فى قولِه: {فَإِذَا
(1)
تفسير مجاهد ص 233، ومن طريقه ابن أبى شيبة 4/ 233.
(2)
أخرجه الدارمى 1/ 261 من طريق عبد الواحد به.
(3)
فى م: "يتعدى".
(4)
عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 260 إلى عبد بن حميد.
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}: من حيثُ نُهِيتم عنه فى المحيضِ.
وعن أبيه، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} : من حيثُ نُهِيتم عنه، واتَّقوا الأدبارَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ أبى، عن يزيدَ بنِ الوليدِ، عن إبراهيمَ فى قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: فى الفرجِ
(1)
.
وقال آخَرون: معناه: فَأْتُوهنَّ من الوجهِ الذى أمَركم اللهُ فيه أن تأتوهنَّ منه، وذلك الوجهُ هو الطهرُ دونَ الحيضِ. فكان معنى قائلِ ذلك فى الآيةِ: فأتُوهنَّ من قُبْلِ
(2)
طُهرهنَّ لا مِن قُبْلِ حيضِهن.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعنى: أن يأتيَها طاهرًا غيرَ حائضٍ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن أبى رَزينٍ فى قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: من قُبْلِ الطُّهْرِ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ محببٍ
(5)
، قال: ثنا سفيانُ، عن
(1)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 232، والدارمى 1/ 259، عن ابن إدريس به.
(2)
قُبْل الطهر: إقباله وأوله وحين يمكنها الدخول فى العدة. اللسان (ق ب ل).
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 402 (2117) عن محمد بن سعد به.
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 233 من طريق سفيان به.
(5)
فى م: "يحيى"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"محب".
الأعمشِ، عن أبي رَزِينٍ بمثلِه
(1)
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَمرٍو، عن منصورٍ، عن أبي رَزينٍ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقولُ: ائتوهنَّ من عندِ الطهرِ.
حدَّثنى محمدُ بنُ عُبَيْدٍ المحاربيُّ، قال: ثنا علىُّ بنُ هاشمٍ، عن الزِّبْرِقانِ، عن أبي رَزِينٍ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: من قُبْلِ الطُّهْرِ، ولا تأتوهنَّ مِن قُبْلِ الحَيْضةِ
(2)
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال؛ ثنا عُبَيْدُ اللهِ العَتَكِيُّ، عن عكرمةَ قولَه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقولُ: إذا اغتسلْنَ فأتوهنَّ من حيثُ أمَركم اللهُ. يقولُ: طواهرَ غيرَ حُيَّضٍ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: يقولُ: طواهرَ غيرَ حُيَّضٍ
(3)
.
حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حَمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} : من الطُّهرِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سلمةَ بنِ نُبَيْطٍ، عن الضَّحَّاكِ: فأتوهنَّ طُهَّرًا غيرَ حُيّضٍ.
حُدِّثتُ عن الحسين بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: ثنا عُبَيْدُ بنُ
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 402 (2121) من طريق سفيان به.
(2)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 230، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 401 (2116) من طريق الزبرقان به.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 89.
(4)
ينظر البحر المحيط 2/ 169.
سليمانَ، عن الضحَّاكِ قولَه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: ائتوهنَّ طاهراتٍ غيرَ حُيَّضٍ.
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: ثنا سلمةُ بنُ نُبَيْطٍ، عن الضحَّاكِ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: طُهَّرًا غيرَ حُيَّضٍ، في القُبُلِ
(1)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: فأْتوا النساءَ من قُبْلِ النكاحِ لا من قُبْلِ الفجورِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: ثنا إسماعيلُ الأزرقُ، عن أبى عمرَ الأسدىِّ، عن ابنِ الحنفيَّةِ:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قال: من قُبْلِ الحلالِ؛ من قُبْلِ التزويجِ
(2)
.
وأَوْلَى الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ ذلك عندى قولُ مَن قال: معنى ذلك: فأْتُوهنَّ من قُبْلِ طُهرِهنَّ. وذلك أن كلَّ أمرٍ بمعنًى، فنهىٌ عن خلافِه وضِدِّه، وكذلك النهيُ عن الشيءِ أمرٌ بضدِّه وخلافِه، فلو كان معنى قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} : فَأْتُوهنَّ مِن قِبَل مخرجِ الدمِ الذى نهَيتُكم أن تأتوهنَّ من قِبَلِه في حالِ حيضِهنَّ -لوجَب أن يكونَ قولُه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} تأويلُه: ولا تَقْرَبوهنَّ في مَخْرجِ الدمِ، دونَ ما عدا ذلك من أماكنِ جسدِها، فيكونُ مُطلِقًا في حالِ حيضِها إتيانَهنَّ في أدبارِهنَّ.
وفى إجماعِ الجميعِ على أن اللهَ تعالى ذكرُه لم يُطْلِقْ في حالِ الحيضِ من إتيانِهنَّ في أدبارِهنَّ شيئًا حرَّمه في حالِ الطهرِ، ولا حرَّم مِن ذلك في حالِ الطهرِ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 230 عن وكيع به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 402 (2122) من طريق وكيع به.
شيئًا أحلَّه في حالِ الحيضِ- ما يُعْلَمُ به فسادُ هذا القولِ.
وبعدُ، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالةِ، لوجَب أن يكونَ الكلامُ: فإذا تطهَّرْنَ فأتوهنَّ في
(1)
حيثُ أمَركم اللهُ. حتى يكونَ معنى الكلامِ حينئذٍ على التأويلِ الذى تأوَّله، ويكونَ ذلك أمرًا بإتيانِهن في فُروجِهن؛ لأن الكلامَ المعروفَ إذا أُرِيد ذلك أن يقالَ: أتَى فلانٌ زوجتَه مِن قِبَلِ فرجِها. ولا يقال: أتاها من فرجِها. إلا أن يكونَ أتاها مِن قِبَلِ فرجِها في مكانٍ غيرِ الفرجِ.
فإن قال لنا قائلٌ: فإن ذلك وإن كان كذلك، فليس معنى الكلامِ: فأتوهنَّ في فروجِهنَّ. وإنما معناه: فأتوهنَّ مِن قِبَلِ قُبُلِهن في فروجِهن. كما يُقالُ: أتيتُ هذا الأمرَ من مأتاه.
قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شكَّ أن مَأْتَى الأمرِ ووجهَه غيرُه، وأن ذلك مطلبُه. فإن كان ذلك على ما زعَمتم، فقد يَجِبُ أن يكونَ معنى قولِه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . غيرَ الذى زعَمتم أنه معناه بقولِكم: ائتوهنَّ من قِبَلِ مَخرجِ الدمِ ومن حيثُ أُمِرتم باعتزالِهن. ولكنَّ الواجبَ أن يكونَ تأويلُه على ذلك: فأتوهنَّ من قِبَلِ وجوهِهنَّ في أقبالِهن. كما كان قولُ القائلِ: ائتِ الأمرَ مِن مأتاه. إنما معناه: اطْلُبْه مِن مطلبِه. ومطلبُ الأمرِ غيرُ الأمرِ المطلوبِ، فكذلك [يَجِبُ أن يكونَ]
(2)
مأتى الفرجِ -الذى أمَر اللهُ في قولِهم بإتيانِه- غيرَ الفرجِ. وإذا كان ذلك
(3)
كذلك، وكان معنى الكلامِ عندَهم: فأتوهنَّ مِن قِبَلِ وُجوهِهنَّ في فروجِهنَّ. وجَب أن يكونَ على قولِهم مُحرَّمًا إتيانُهنَّ في فروجِهن مِن قِبَلِ أدبارِهنَّ، وذلك إن
(1)
في النسخ: "من". وهو نص الآية، والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
في ص: "يجب"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"يجب أن". والمثبت هو الصواب.
(3)
زيادة من: ت 2.
قالوه خرَجَ مَن قاله مِن قِيلِ أهلِ الإسلامِ، وخالفَ نصَّ كتابِ اللهِ تعالى ذكرُه، وقولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الله يقولُ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . وأذِن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى إتيانِهنَّ في فروجِهنَّ من قِبَلِ أدبارِهن.
فقد تبيَّن إذن -إذ كان الأمرُ على ما وصَفنا- فسادُ تأويلِ مَن قال: معنى
(1)
ذلك: فأْتوهنَّ في فروجِهن حيثُ نهَيتُكم عن إتيانِهن في حالِ حيضِهن. وصحةُ القولِ الذى قلناه، وهو أن معناه: فأْتوهن [في فروجِهن]
(2)
مِن الوجهِ الذى أذِن الله لكم بإتياتِهن، وذلك حالُ طُهرِهن وتطهُّرِهن، دونَ حالِ حيضِهن.
القولُ في تأويلِ قولِه عز ذكرُه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} : المنُيبين مِن الإدبارِ عن اللهِ وعن طاعتِه إليه وإلى طاعتِه. وقد بيَّنَّا معنى التوبةِ قبلُ
(3)
.
واخْتُلِف في معنى قولِه: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فقال بعضُهم: هم المتطهِّرون بالماءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا طلحةُ، عن عطاءٍ قولَه:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} قال: التوَّابين من الذنوبِ، {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قال:
(1)
سقط من النسخ، وأثبتناه لاستقامة السياق.
(2)
سقط من: ص، ت 2، ت 3.
(3)
ينظر ما تقدم في 1/ 587. 685، 2/ 571.
المُتَطَهِّرين بالماءِ للصلاةِ.
حدَّثنى أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا طلحةُ، عن عطاءٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا وكيعٌ، عن طلحةَ بنِ عمرٍو، عن عطاءٍ:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} : من الذنوبِ لم يُصِيبوها، {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} بالماءِ للصلاةِ
(2)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك: إن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين من الذنوبِ، ويُحِبُّ المتطهِّرين من أدبارِ النساءِ أن يأتوها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ نافعٍ، قال: سمِعتُ سليمًا
(3)
مولى أمِّ عليٍّ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ: مَن أتَى امرأتَه في دُبُرِها فليس من المتطهِّرين
(4)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك: ويُحِبُّ المتطهِّرين من الذنوبِ أن يعودوا فيها بعدَ التوبةِ منها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ:{يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} : من الذنوبِ لم يُصِيبوها، {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} من
(1)
أخرجه ابن أبي كلام في تفسيره 2/ 403 (2124) من طريق أبي نعيم به، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 261 إلى وكيع وعبد بن حميد.
(2)
في ص: "للصلوات".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"سليمان". وهما واحد. ينظر تهذيب الكمال 11/ 347، 12/ 114.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 403 (2128) من طريق إبراهيم به.
الذنوبِ، لا يعودون فيها
(1)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: إن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين من الذنوبِ، ويُحِبُّ المتطهِّرين بالماءِ للصلاةِ؛ لأن ذلك هو الأغلبُ من ظاهرِ معانيه. وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه ذكَر أمرَ المحيضِ، فنهاهم عن أمورٍ كانوا يفعلونها في جاهليتِهم؛ مِن تركِهم مُساكنةَ الحائضِ ومُؤاكلتَها ومُشاربتَها، وأشياءَ غيرَ ذلك مما كان تعالى ذكرُه يَكْرَهُها من عبادِه، فلمَّا اسْتَفتى أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رسولَ اللهِ]
(2)
عن ذلك أوحى اللهُ تعالى إليه في ذلك، فبينَّ لهم ما يَكْرَهُه مما يرضاه ويُحِبُّه، وأخبَرَهم أنه يُحِبُّ مِن خَلقِه مَن أناب إلى رضاه ومحبَّتِه، تائبًا ممَّا يَكْرَهُه، وكان ممَّا بيَّن لهم من
(3)
ذلك أنه قد حرَّم عليهم إتيانَ نسائِهم وإن طهُرنَ من حيضِهن حتى يَغْتَسِلْنَ، ثم قال:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فإن اللهَ يُحِبُّ المتطهِّرين. يعني بذلك المتطهِّرين من الجنابةِ والأحداثِ للصلاةِ، والمتطهِّراتِ بالماءِ من الحيضِ والنِّفاسِ والجنابةِ والأحداثِ من النساءِ. وإنما قال:{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ولم يقل: المتطهراتِ. وإنما جرَى قبلَ ذلك ذكرُ التطهُّرِ للنساءِ؛ لأن ذلك بذكرِ المتطهرين يَجْمَعُ الرجالَ والنساءَ، ولو ذُكِر ذلك بذكرِ المتطهِّراتِ لم يكنْ للرجالِ في ذلك حظٌّ، وكان للنساءِ خاصَّةً، فذكَر اللهُ تعالى ذكرُه بالذكرِ العامِّ جميعَ عبادِه المُكلَّفين، إذ كان قد تعبَّد جميعَهم بالتطهُّرِ بالماءِ، وإن اخْتَلفت الأسبابُ التى تُوجِبُ التطهُّرَ عليهم بالماءِ في بعضِ المعانى واتَّفقت في بعضٍ.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 259.
(2)
سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في النسخ: "مع". والمثبت هو الصواب.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} .
يعنى تعالى ذِكرُه بذلك: نساؤكم مُزْدَرَعُ أولادِكم، فأْتوا مُزْدَرَعَكم كيف شِئْتُم، وأين شِئْتُم، وإنما عنَى بالحرثِ وهو [الزَّرْعُ، المُحْتَرثَ]
(1)
والمُزْدَرعَ، ولكنهنَّ لما كنَّ من أسبابِ الحرثِ جُعِلن حرثًا، إذ كان مَفْهومًا معنى الكلامِ.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عُبَيْدٍ
(2)
المُحاربيُّ، قال: ثنا ابنُ المباركِ، عن يونسَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} . قال: مَنْبَتُ الولدِ
(3)
.
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} : أمَّا الحرثُ فهى مَزْرَعةٌ يُحْرَثُ فيها
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: فانْكِحوا مُزْدَرَعَ أولادِكم من حيثُ شِئْتُم من وجوهِ المأتَى. والإتيانُ في هذا الوْضِع كنايةٌ عن اسمِ الجماعِ.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {أَنَّى شِئْتُمْ} . فقال بعضُهم: معنى {أَنَّى} : كيفَ.
(1)
في ص: "المزرع الحرث".
(2)
في ت 2: "عبيد الله". وينظر تهذيب الكمال 26/ 70.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 263 إلى المصنف.
(4)
ينظر التبيان 2/ 222.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ عطيةَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ ابنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . قال: يأْتِيها كيفَ شاء، ما لم يكنْ يأْتِيها في دُبُرِها أو في الحيضِ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . قال: ائْتِها أنَّى شئت، مُقْبِلةً ومُدْبرةً، ما لم تأتِها في الدُّبُرِ والمحيضِ.
حدَّثنا علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : يعنى بالحرثِ الفرجَ، يقولُ: تأْتِيه كيف شِئتَ، مُسْتَقبِلَه ومُسْتَدْبِرَه، وعلى أىِّ ذلك أردتَ، بعدَ ألا تُجَاوِزَ الفرجَ إلى غيرِه، وهو قولُه:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوازىُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن عبدِ الكريمِ، عن عكرمةَ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . قال: يأْتِيها كيف شاء، ما لم يَعْمَلْ عملَ قومِ لوطٍ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا الحسنُ بنُ صالحٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . قال: يأْتِيها كيف شاء، واتَّقِ الدُّبُرَ
(1)
أخرجه الدارمى 1/ 258 من طريق عطاء به بنحوه.
(2)
أخرجه البيهقى 7/ 196، من طريق أبي صالح به.
(3)
أخرجه الخرائطى في مساوئ الأخلاق (471) من طريق عبد الكريم به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 229، والدارمى 1/ 259 من طريق خالد، عن عكرمة.
والحيضَ
(1)
.
حدَّثنى عُبيدُ اللهِ بنُ سعدٍ، قال: ثنا
(2)
عمِّى، قال: ثنى أبي
(3)
، قال: ثنى يزيدُ، أن ابنَ كعبٍ كان يقولُ: إنما قولُه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . يقولُ: ائْتِها مُضطجِعةً وقائمةً ومُنحرفةً ومقبِلَةً ومدبِرَةً كيف شِئتَ، إذا كان في قُبُلِها.
حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبَرَنا حُصَيْنٌ، عن مُرَّةَ الهَمْدانىِّ، قال: سمِعتُه يُحَدِّثُ أن رجلًا من اليهودِ لقِى رجلًا من المسلمين، فقال له: أيأتِى أحدُكم أهلَه باركًا؟ قال: نعم. قال: فذُكِر ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . يقولُ: كيف شاء، بعدَ أن يكونَ في الفرجِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : إن شئتَ قائمًا أو قاعدًا أو على جَنْبٍ، إذا كان يأْتِيها من الوجهِ الذى يأتى منه المحيضُ، ولا يتعدَّى ذلك إلى غيرِه.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : ائتِ حَرْثَك كيف شِئتَ من قُبُلِها، ولا تأتِها في دُبُرِها. {أَنَّى شِئْتُمْ}. قال: كيف شِئتم.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرَنا عمرو بنُ الحارثِ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 230 من طريق ليث به.
(2)
في م: "ثنى أبي قال ثنى". ينظر تهذيب الكمال 32/ 308.
(3)
بعده في م: "عن أبيه". وسيأتى موصولًا عن ابن عباس في ص 733.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 231 من طريق حصين به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 261 إلى عبد بن حميد.
سعيدِ بنِ أبي هلالٍ، أن عبدَ اللهِ بنَ علىٍّ حدَّثه أنه بلَغه أن ناسًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جلَسوا يومًا ورجلٌ من اليهودِ قريبٌ منهم، فجعَل بعضُهم يقولُ: إنِّى لآتى امرأتى وهى مضطجِعَةٌ. ويقولُ الآخرُ: إنى لآتيها وهى قائمةٌ. ويقولُ الآخرُ: إنى لآتيها على جَنْبِها و
(1)
باركةً. فقال اليهودىُّ: ما أنتم إلا أمثالُ البهائمِ، ولكنَّا إنما نأتيها على هيئةٍ واحدةٍ. فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} . فهو القُبُلُ
(2)
.
وقال آخَرون: معنى: {أَنَّى شِئْتُمْ} : من حيثُ شِئتم، وأىِّ وجهٍ أحْببتُم
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سهلُ بنُ موسى الرازىُّ، قال: ثنا ابنُ أبي فُدَيْكٍ، عن إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ بنِ أبي حبيبةَ الأشهلِ، عن داودَ بنِ الحُصَينِ
(4)
، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان يَكرَهُ أن تُؤتَى المرأةُ في دُبُرِها، ويقولُ: إنما المحترثُ
(5)
من القُبُلِ الذى يكونُ منه النسلُ والحيضُ. ويَنْهَى عن إتيانِ المرأةِ في دُبُرِها ويقولُ: إنما نزَلت هذه الآيةُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . يقولُ: من أىِّ وجهٍ شِئتُم
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا ابنُ واضحٍ، قال: ثنا العَتَكىُّ، عن عكرمةَ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . قال: ظَهْرَها لبَطْنِها غيرَ مُعاجَزَةٍ، يعنى الدُّبُرَ.
حدَّثنا عبيدُ اللهِ بنُ سعدٍ، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبي، عن يزيدَ
(7)
، عن
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وهى".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 262 إلى المصنف.
(3)
في ت 2: "أصبتم".
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"الحسين". وينظر تهذيب الكمال 8/ 379.
(5)
في م: "الحرث".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 263 إلى المصنف.
(7)
في ت 1: "زيد".
الحارثِ
(1)
بنِ كعبٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، قال: إن ابنَ عباسٍ كان يقولُ: اسْقِ نَباتَك من حيثُ نباتُه
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . يقولُ: مِن أين شئْتُم
(3)
. ذكِر لنا، واللهُ أعلمُ، أن اليهودَ قالوا: إن العربَ يأتون النساءَ من قِبَلِ أعجازِهنَّ، فإذا فعَلوا ذلك جاء الولدُ أحولَ، فأكْذَب اللهُ أُحْدُوثَتَهم، فقال:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ، قال: يقولُ: ائتوا النساءَ في غيرِ
(4)
أدبارِهن على كلِّ نحوٍ.
قال ابنُ جُريجٍ: سمِعتُ عطاءَ بنَ أبي رباحٍ قال: تذاكرْنا هذا عندَ ابنِ عباسٍ، فقال ابنُ عباسٍ: ائْتوهنَّ من حيثُ شِئتُم، مقبِلةً ومدبِرةً. فقال رجلٌ: كأن هذا حلالٌ! فأنكر عطاءٌ أن يكونَ هذا هكذا، وأنكره. كأنه إنما يُرِيدُ الفرجَ، مقبلةً ومدبرةً في الفرجِ.
وقال آخَرون: معنى قولِه: {أَنَّى شِئْتُمْ} : متى شِئتم.
(1)
كذا في النسخ، ولعله تحريف. وينظر مصدرى التخريج.
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (9003) من طريق بكر بن مضر، عن يزيد، عن عثمان بن كعب، عن محمد بن كعب به. وأخرجه البيهقى 7/ 196 من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردى، عن يزيد، عن محمد بن كعب به.
(3)
ينظر التبيان 2/ 223.
(4)
سقط من النسخ، وهى زيادة لا بد منها، إذ المشهور عن مجاهد في مسألة الوطء في الدبر أنه لا يحله، وقد أخرج ابن أبي شيبة 4/ 232 من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: ائتوا النساء في أقبالهن على كل نحو. وينظر المغنى 10/ 226، وتفسير القرطبى 3/ 91 - 96، وتفسير ابن كثير 1/ 386 - 389.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن حسين بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: أخبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . يقولُ: متى شِئتم
(1)
.
حدَّثنى يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنا أبو صخرٍ، عن أبى معاويةَ البَجَلىِّ، وهو عمّارٌ الدُّهْنِىُّ
(2)
، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنه قال: بَيْنا أنا ومجاهدٌ جالسان عندَ ابنِ عباسٍ، أتاه رجلٌ فوقَف على رأسِه فقال: يا أبا العباسِ -أو: يا أبا الفضلِ- ألا تَشْفِينى عن
(3)
آيةِ المحيضِ؟ فقال: بلى. فقرَأ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} . حتى بلَغ آخرَ الآيةِ، فقال ابنُ عباسٍ: من حيثُ جاء الدمُ، مِن ثَمَّ أُمِرتَ أن تأتىَ. فقال له الرجلُ: يا أبا الفضلِ، كيف بالآيةِ التى تَتْبَعُها {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}؟ فقال: إى! ويحَك! وفى الدبُرِ من حرثٍ؟ لو كان ما تقولُ حقًّا لكان المحيضُ منسوخًا، إذا اشتغَل من ههنا جئتَ من ههنا، ولكن {أَنَّى شِئْتُمْ} من الليلِ والنهارِ
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئْتُم، وحيث شئْتُم.
(1)
ينظر التبيان 2/ 223، والبحر المحيط 2/ 170، 171.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"الذهبى".
(3)
في م: "من".
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 402، 405 (2120، 2135) من طريق يونس بن عبد الأعلى به. وتقدم أوله في ص 736.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا [ابنُ عليةَ]
(1)
، قال: أخبَرَنا ابنُ عونٍ، عن نافعٍ، قال: كان ابن عُمرَ إذا قرَأ القرآنَ لم يتكلَّم. قال: فقرَأتُ ذاتَ يومٍ هذه الآيةَ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فقال: أتدرى في من نزَلت هذه الآيةُ؟ قلت: لا. قال: نزَلت في إتيانِ النساءِ في أدبارِهنَّ
(2)
.
حدَّثنى إبراهيمُ بن عبدِ اللهِ بنِ مسلمٍ أبو مسلمٍ، قال: ثنا أبو عمرَ الضريرُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ صاحبُ الكَرابِيسىُّ، عن ابنِ عونٍ، عن نافعٍ، قال: كنتُ أُمْسِكُ على ابنِ عمرَ المصحفَ، إذ
(3)
تلا هذه الآيةَ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فقال: أن يأتيَها في دبُرِها
(4)
.
حدَّثنى عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا عبدُ الملكِ بنُ مَسْلَمَةَ، قال: ثنا الدَّرَاوَرْدِىُّ، قال: قيل لزيدِ بنِ أسلمَ: إن محمدَ بنَ المُنْكَدِرِ يَنْهَى عن إتيانِ النساءِ في أدبارِهنَّ، فقال زيدٌ: أَشْهَدُ على محمدٍ لأَخْبَرَنى أنه يَفْعَلُه
(5)
.
حدَّثنى عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أبو زيدٍ عبدُ الرحمنِ
(1)
في م: "هشيم".
(2)
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده وفى تفسيره -كما في الفتح 8/ 190 - ومن طريقه البخارى (4526) - وأبو عبيد في فضائله ص 97 من طريق ابن عون به، وأخرجه الطبرانى في الأوسط (3827) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع به نحوه، وعلقه البخارى عقب (4527).
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"إذا".
(4)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 190 من طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسى، وعزاه إلى المصنف.
(5)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 266 إلى المصنف.
ابنُ أحمدَ بنِ أبي الغَمْرِ
(1)
، قال: ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمِ، عن مالكِ بنِ أنسٍ، أنه قيل له: يا أبا عبدِ اللهِ، إن الناسَ يرْوون عن سالمٍ: كذَب العبدُ، أو العِلْجُ، على أبى. فقال مالكٌ: أَشْهَدُ على يزيدَ بنِ رُومانَ أنه أخبَرنى، عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ، عن ابنِ عمرَ مثلَ ما قال نافعٌ. فقيل له: فإن الحارثَ بنَ يعقوبَ يروى عن أبي الحبُابِ سعيدِ بنِ يسارٍ أنه سأل ابنَ عمرَ، فقال له: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إنا نشترى الجوارىَ، فنُحَمِّضُ
(2)
لهنَّ. فقال: وما التحميضُ
(3)
؟ [فذكر له]
(4)
الدُّبُرَ. فقال ابنُ عمرَ: أفٍّ أفٍّ! يفعلُ ذلك مؤمنٌ؟ -أو قال: مسلم- فقال مالكٌ: أشهدُ على ربيعةَ لأَخْبَرَنى عن أبي الحُبَابِ، عن ابنِ عمرَ مثلَ ما قال نافعٌ
(5)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: أخبَرَنا عَمرُو بنُ طارقٍ، قال: أخبَرَنا يحيى ابنُ أيوبَ، عن موسي بنِ أيوبَ الغافِقىِّ، قال: قلتُ لأبى ماجدٍ الزِّيَادىِّ: إن نافعًا يُحَدِّثُ عن ابنِ عمرَ فى دُبُرِ المرأةِ. فقال: كذَب نافعٌ، صحِبتُ ابنَ عمرَ ونافعٌ مملوكٌ، فسمِعتُه يقولُ: ما نظَرتُ إلى فرجِ امرأتى منذُ كذا وكذا.
حدَّثنى أبو قِلابَةَ، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال. ثنى أبى، عن أيوبَ، عن نافعٍ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"العمر". وينظر تهذيب الكمال 17/ 345.
(2)
في ص، ت 1، ت 3:"فتحمص"، وفى ت 2:"فتمحص".
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"التحميص"، وفى ت 2:"التمحيص".
(4)
في م: "قال".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 388 عن المصنف، وأخرجه الطحاوى في شرح المعانى 3/ 41 من طريق أبي زيد وأصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم به بشطره الأول، وأخرجه الدارمى 1/ 260، والطحاوى 3/ 41 من طريق الحارث بن يعقوب به بشطره الثانى، وأخرجه النسائى في الكبرى (8979) من طريق عبد الرحمن بن القاسم به مختصرا، وأخرج النسائى (8980) من طريق يزيد بن رومان، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا أن يأتى الرجل امرأته في دبرها.
عن ابنِ عمرَ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . قال: في الدُّبُرِ
(1)
.
حدَّثنى أبو مسلمٍ، قال: ثنا أبو عمرَ الضريرُ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ القاسمِ، عن قتادةَ، قال: سُئِل أبو الدرداءِ عن إتيانِ النساءِ في أدبارِهنَّ، فقال: هل يفعلُ ذلك إلا كافرٌ؟ قال رَوْحٌ: فشهِدتُ ابنَ أبى مُلَيكَةَ يُسألُ عن ذلك، فقال: قد أرَدتُه
(2)
من جاريةٍ لى البارحةَ فاعتاص
(3)
علىَّ، فاسْتَعنتُ بدُهْنٍ، أَو: بشحمٍ. قال: فقلتُ له: سبحانَ اللهِ! أخبَرَنا قتادةُ أن أبا الدرداءِ قال: هل
(4)
يفعلُ ذلك إلا كافرٌ
(5)
؟ فقال: لعَنك اللهُ ولعَن قتادةَ. فقلتُ: لا أُحَدِّثُ عنك شيئًا أبدًا، ثم ندِمتُ بعدَ ذلك
(6)
.
واعتلَّ قائلو هذه المقالةِ لقولِهم بما حدَّثنى به محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ
(7)
الحكمِ، قال: أخبَرَنا أبو بكرِ بنُ أبى أُوَيْسٍ الأَعْشَى، عن سليمانَ بنِ بلالٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن ابنِ عمرَ، أن رجلًا أتَى امرأتَه في دُبُرِها فوجَد في نفسِه من ذلك، فأنزَل اللهُ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
(8)
.
(1)
أخرجه البخارى (4527)، وأبو نعيم في مستخرجه -كما في التغليق 4/ 181 - من طريق عبد الصمد به.
(2)
في م: "أوردته".
(3)
في: ت 1، ت 2، ت 3:"فاعتاض". واعتاص عليه الأمر: اشتد. التاج (ع و ص).
(4)
في النسخ: "من".
(5)
في النسخ: "كافرًا".
(6)
أخرجه معمر في جامعه (20957) ومن طريقه البيهقى في شعب الإيمان (5379) عن قتادة به. وقول أبى الدرداء أخرجه أحمد 11/ 554 (6968)، وابن أبى شيبة 4/ 252، والبيهقى 7/ 119 من طرق عن قتادة، عن عقبة بن وساج، عن أبى الدرداء.
(7)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
أخرجه النسائى في الكبرى (8981) عن محمد بن عبد الله به، وأخرجه الطبرانى في الأوسط (6298) من طريق نافع، عن ابن عمر.
حدَّثنى يونسُ، فال: أخبَرَنى ابنُ نافعٍ، عن هشامِ بنِ سعدٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن عطاءِ بنِ يَسارٍ، أن رجلًا أصاب امرأتَه في دُبُرِها على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنكر الناسُ ذلك وقالوا: أَثْفَرَها
(1)
! فأنزل اللهُ تعالى ذكرُه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} الآية
(2)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك: ائْتُوا حرثَكم كيف شِئتم؛ إن شِئْتُم فاعْزِلوا، وإن شِئتمُ فلا تَعْزِلوا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا الحسنُ بنُ صالحٍ، عن ليثٍ، عن عيسى بن سِنانٍ، عن سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : إن شِئتم فاعْزِلوا، وإن شِئتم فلا تَعْزِلوا
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن يونسَ، عن أبى إسحاقَ، عن زائدةَ بنِ عُميرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن شِئتَ فاعْزِلْ، وإن شِئتَ فلا تَعْزِلْ
(4)
.
(1)
في مسند أبى يعلى: "أبعرها"، وفى نسخة من شرح المعانى:"أتعزبها"، وفى نسخة كالمثبت، وأثغرها، من الثغر، وهو السير يشد تحت ذنب البعير، والمراد تشبيه فعل الرجل بوضع الثغر على دبر الدابة. وينظر اللسان والتاج (ث ف ر).
(2)
سقط من: م. والحديث أخرجه أبو يعلى (1103)، والطحاوى في شرح المعانى 3/ 40 من طريق عبد الله بن نافع به، موصولا عن أبى سعيد، وأخرجه النسائى في الكبرى (8981) عن هشام به.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 232، من طريق عيسى به.
(4)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 405 (2136) من طريق وكيع به، وأخرجه ابن منيع في مسنده -كما في الإتحاف للبوصيرى (5275)، والطبرانى (12663) من طريق يونس به، وأخرجه ابن أبى شيبة 4/ 229، والطحاوى في شرح المعانى 3/ 41، والطبرانى في الأوسط (1171)، والحاكم في المستدرك 2/ 279، من طريق أبى إسحاق به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 267 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والضياء في المختارة.
وأمَّا الذين قالوا: معنى قولِه: {أَنَّى شِئْتُمْ} : كيف شِئتم؛ مقبلةً ومدبرةً في الفرجِ والقُبُلِ. فإنهم قالوا: إن الآيةَ إنما نزَلت في استنكارِ قومٍ من اليهودِ اسْتَنكروا إتيانَ النساءِ في أقْبالهنَّ من قِبَلِ أدْبارِهنَّ. قالوا: وفى ذلك دليلٌ على صحَّةِ ما قلنا، من أن معنى ذلك على ما قلنا.
واعتلُّوا لقِيلِهم ذلك بما حدَّثنى به أبو كُريبٍ، قال: ثنا المُحارِبىُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن أبانِ بنِ صالحٍ، عن مجاهدٍ، قال: عرَضتُ المصْحفَ على ابنِ عباسٍ ثلاثَ عرَضاتٍ من فاتحتِه إلى خاتمتِه، أُوقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ، وأسألُه عنها، حتى انتهى إلى هذه الآيةِ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فقال ابنُ عباسٍ: إن هذا الحىَّ من قريشٍ كانوا يَشْرَحُون النساءَ بمكةَ، ويتلذَّذون بهنَّ مُقْبلاتٍ ومُدبراتٍ، فلمَّا قدِموا المدينةَ تزوَّجوا في الأنصارِ، فذهَبوا لِيَفعلوا بهنَّ كما كانوا يَفعلون بالنساءِ بمكةَ، فأنكرْنَ ذلك وقُلْنَ: هذا شيءٌ لم نكنْ نُؤْتَى عليه. فانتشر الحديثُ حتى انتهى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه في ذلك:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : إن شئتَ فمقبلةً، وإن شئتَ فمدبرةً، وإن شئتَ فباركةً، وإنما يعنى بذلك موضعَ الولدِ للحرثِ، يقولُ: ائتِ الحرثَ من حيثُ شِئتَ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيْرٍ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ بإسنادِه نحوَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْدِىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن محمدِ بنِ
(1)
أخرجه الطبرانى (11097) من طريق المحاربى به، وأخرجه أبو داود (2164)، والحاكم 2/ 195، والبيهقى 7/ 195، 196 من طريق ابن إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 263 إلى ابن راهويه والدارمى وابن المنذر، وتقدم تخريجه مختصرا عند الدارمى في ص 736.
المُنْكدِرِ، قال: سمِعتُ جابرًا يقولُ: إن اليهودَ كانوا يقولون: إذا جامَعَ الرجلُ أهلَه في فرجِها من ورائِها كان ولدُه أحولَ. فأنْزَلَ اللهُ تعالى ذكرُه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
(1)
.
حدَّثنا
(2)
مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرَنا الثورىُّ، عن محمدِ بنِ المُنْكدِرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: قالت اليهودُ: إذا أتَى الرجلُ امرأتَه في قُبُلِها من دبُرِها وكان بينَهما ولدٌ كان أحولَ، فأنْزَل اللهُ تعالى ذكرُه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ
(3)
بنُ سليمانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، عن حفصةَ بنتِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبى بكرٍ، عن أمِّ سلمةَ زوجِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قالت: تزَوَّج رجلٌ امرأةً، فأراد أن يُجَبِّيَها
(4)
، فأبَت عليه وقالت: حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قالت أمُّ سلمةَ: فذكَرتْ ذلك لى. فذكَرتْ أمُّ
(1)
أخرجه أبو داود (2163)، والبيهقى 7/ 194 من طريق ابن بشار به، وأخرجه مسلم (1435/ 119) من طريق ابن مهدى به، وأخرجه البخارى (4528)، ومسلم (1435/ 117)، والنسائى في الكبرى (8976)، والطحاوى في شرح المعانى 3/ 40، وابن أبى حاتم في تفسيره 1/ 404 (2133) من طريق سفيان به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 89، وسعيد بن منصور في سننه (366، 367 - تفسير)، والحميدى (1263)، وابن أبى شيبة 4/ 229، والدارمى 1/ 258، 2/ 145، ومسلم (1435/ 119)، والترمذى (4062)، وابن ماجه (1925)، والنسائى في الكبرى (8974، 8975)، وفى التفسير (58)، وأبو يعلى (2024)، والطحاوى في شرح المعانى 3/ 40، وابن حبان (4154، 4185)، والطبرانى في الأوسط (571، 8806)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 154، والخطيب 13/ 262، والبيهقى 7/ 194، 195، والبغوى (2296)، وفى تفسيره 1/ 198 من طرق عن محمد بن المنكدر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 261 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في ت 1، ت 3:"عن".
(3)
في ت 1: "الرحمن".
(4)
يجبيها: أى يكبها على وجهها، تشبيها بهيئة السجود. النهاية 1/ 238.
سلمةَ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أرْسِلى إليها". فلمَّا جاءت قرَأ عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، صمامًا
(1)
واحدًا، صمامًا واحدًا".
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ هشامٍ، عن سفيانَ، عن
(2)
عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ، عن [ابنِ سابطٍ]
(3)
، عن حفصةَ ابنةِ
(4)
عبدِ الرحمنِ بنِ
(5)
أبى بكرٍ، عن أمِّ سلمةَ، قالت: قدِم المهاجرون فتزوَّجوا في الأنصارِ، وكانوا يُجَبُّون، وكانت الأنصارُ لا تفعلُ ذلك، فقالت امرأةٌ لزوجِها: حتى آتِىَ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فأسْألَه عن ذلك. فأتتِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فاسْتَحْيتْ أن تسألَه، فسألتُ أنا، فدعاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقرَأ عليها
(6)
: " {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا".
حدَّثنى أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ اللهِ ابنِ عثمانَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، عن حفصةَ بنتِ عبدِ الرحمنِ، عن أمِّ سلمةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ وابنُ المُثنَّى، قالا: ثنا ابنُ مَهْدِىٍّ، قال: ثنا شفيانُ الثورىُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، عن حفصةَ ابنةِ عبدِ الرحمنِ، عن أمِّ سلمةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قولَه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
(1)
الصمام واحد: أى: مسلك واحد، الصمام: ما تسد به الفرجة، فسمى الفرج به، ويجوز أن يكون في موضع صمام، على حذف المضاف. النهاية 3/ 54.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بن".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"ابن سليط"، وفى ت 3:"سليط". وينظر تهذيب الكمال 17/ 123.
(4)
بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"عبد الله عن سفيان بن".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(6)
في ص: "علينا".
شِئْتُمْ}. قال: "صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا"
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ مَعْمَرٍ البَحْرانىُّ
(2)
، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إسحاقَ الحَضْرَمىُّ
(3)
، قال: ثنى وُهيبٌ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ، قال: قلتُ لحفصةَ: إنى أُريدُ أن أسألَكِ عن شيءٍ وأنا أسْتَحْيِى منك أن أسألَك. قالت: سَلْ يا بُنَىَّ عمَّا بدا لك. قال: قلتُ: أسالُك عن غشيانِ النساءِ في أدبارِهنَّ. قالت: حدَّثَتنى أمُّ سلمةَ، قالت: كانت الأنصارُ لا تُجَبِّى، وكان المهاجرون يُجَبُّون، فتزوَّج رجلٌ من المهاجرين امرأةً من الأنصارِ. ثم ذكَر نحوَ حديثِ أبى كُريبٍ، عن معاويةَ بنِ هشامٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنى وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن ابنِ المنكدِرِ، قال: سمِعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ: إن اليهودَ كانوا يقولون: إذا أتَى الرجلُ امرأتَه باركةً جاء الولدُ أحولَ. فنزَلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
(5)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ الطُّوسىُّ، قال: ثنا الحسنُ بنُ موسى، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّىُّ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: جاء عمرُ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكتُ! قال:"وما الذى أهْلَكك؟ "
(1)
أخرجه الترمذى (2979) عن محمد بن بشار به، وأخرجه أحمد 6/ 318 (الميمنية) عن عبد الرحمن بن مهدى به.
(2)
في ص: "النحراى". وينظر: تهذيب الكمال 26/ 485.
(3)
في ص: "الحصرى". وينظر: تهذيب الكمال 32/ 314.
(4)
أخرجه أحمد 6/ 305 (الميمنية)، والدارمى 1/ 256، والطحاوى في شرح معانى الآثار 3/ 42، من طريق وهيب به.
(5)
أخرجه مسلم (1435/ 119) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه البغوى في الجعديات (1689)، والطحاوى في شرح المعانى 3/ 40، والبيهقى 7/ 194 من طريق شعبة به.
قال: حوَّلتُ رحلى الليلةَ. قال: فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، قال: فأوْحَى اللهُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "أَقْبِلْ وأَدْبِر، واتَّقِ الدُّبُرَ والحيضةَ"
(1)
.
حدَّثنا زكريا بنُ يحيى المصرىُّ، قال: ثنا أبو صالحٍ الحَرّانىُّ، قال: ثنا ابنُ لَهِيعةَ، عن يزيدَ بنِ أبى حَبيبٍ، أن عامرَ بنَ يحيى أخبَره، عن حَنَشٍ الصنعانىِّ، عن ابنِ عباسٍ، أن ناسًا مِن حِمْيرَ أَتَوْا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يسأَلونه عن أشياءَ، فقال رجلٌ منهم: يا رسولَ اللهِ، إنى رجلٌ أُجَبِّى
(2)
النساءَ، فكيف تَرَى في ذلك؟ فأنْزَل اللهُ تعالى ذِكرُه في سورةِ "البقرة" بيانَ ما سأَلوا عنه، وأنْزَل فيما سأَل عنه الرجلُ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ائْتِها مُقْبِلةً ومُدْبِرَةً إذا كان ذلك في الفَرْجِ"
(3)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا قولُ مَن قال: معنى قولِه: {أَنَّى شِئْتُمْ} : من أىِّ وجهٍ شِئتم. وذلك أن "أنَّى" في كلامِ العربِ كلمةٌ تَدُلُّ -إذا ابْتُدِئ بها في الكلامِ- على المسألةِ عن الوجوهِ والمذاهبِ، فكأنَّ القائلَ إذا قال لرجلٍ: أنَّى لك هذا المالُ؟ يريدُ: من أىِّ الوجوهِ لكَ. ولذلك يُجِيبُ المجيبُ فيه بأن يقولَ: مِن كذا
(1)
أخرجه أحمد 4/ 434 (2703)، والترمذى (2980) عن الحسن بن موسى به، وأخرجه النسائى في الكبرى (8977)، وأبو يعلى (2736)، والخرائطى في مساوئ الأخلاق (469)، وابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 405 (2134)، وابن حبان (4202)، والطبرانى (12317)، والبيهقى 7/ 198، والبغوى في تفسيره 1/ 198 من طريق يعقوب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 262 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والضياء في المختارة.
(2)
في النسخ "أحب". وفى تفسير ابن أبى حاتم: "أجب". وليس المراد، ولفظ الأحاديث قبله دالة عليه، وينظر ص 756.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 404 (2130)، والخرائطى في مساوئ الأخلاق (470)، والطحاوى في شرح معانى الآثار 3/ 43، والطبرانى (12983) من طريق ابن لهيعة به.
وكذا. كما قال تعالى ذِكرُه مخبِرًا عن زكريا في مسألتِه مريمَ: {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37]. وهى مقارِبةٌ "أين"، و "كيف" في المعنى، ولذلك تداخَلَت معانِيها، فأشكلَت "أنى" على سامعِها ومُتأوِّلها حتى تأوَّلها بعضُهم بمعنى "أين"، وبعضُهم بمعنى "كيف"، وآخَرون بمعنى "متى"، وهى مخالفةٌ جميعَ ذلك في معناها، وهنَّ لها مخالفاتٌ؛ وذلك أن "أين" إنما هى حرفُ استفهامٍ عن الأماكنِ والمحالِّ، وإنما يُسْتَدَلُّ على افتراقِ معانى هذه الحروفِ بافتراقِ الأجوبةِ عنها، ألا تَرَى أن سائلًا لو سأل آخرَ فقال: أين مالُك؟ لقال: بمكانِ كذا. لي لو قال له: أين أخوك؟ لكان الجوابُ أن يقولَ: ببلدةِ كذا. أو: بموضعِ كذا. فيُجِيبُه بالخبرِ عن محَلِّ ما سأله عن محَلِّه، فيُعْلَمُ أن "أين" مسألةٌ عن المحَلِّ. ولو قال قائلٌ لآخرَ: كيف أنت؟ لقال: صالحٌ. أو: بخيرٍ. أو: في عافيةٍ. وأخبَره عن حالِه التى هو فيها، فيُعْلَمُ حينَئذٍ أن "كيف" مسألةٌ عن حالِ المسئولِ عن حالِه. ولو قال له: أنَّى يُحْيِى اللهُ هذا الميتَ؟ لكان الجوابُ أن يقالَ: مِن وجهِ كذا ووجهِ كذا. فيَصِفُ قولًا، نظيرَ ما وصَف اللهُ تعالى ذكرُه للذى قال:{أَنَّى يُحْيي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] فعلًا حين بعَثه من بعدِ مماتِه.
وقد فرَّقتِ الشُّعراءُ بينَ ذلك في أشعارِها، فقال الكُمَيْتُ بنُ زيدٍ
(1)
:
تَذكَّرَ مِن أنَّى ومن أينَ شُرْبُه
…
يُؤامِرُ
(2)
نَفْسَيْهِ كَذِى الهَجْمَةِ
(3)
الأَبِلْ
(4)
وقال أيضًا
(5)
:
(1)
شعر الكميت 2/ 97.
(2)
يؤامر: يشاور. التاج (أ م ر).
(3)
الهجمة: القطعة من الإبل؛ ما بين الثلاثين والمائة. اللسان (هـ ج م).
(4)
يقال: رجل أبل وآبل: ذو إبل: إذا كان حاذقًا برِعْية الإبل ومصلحتها. اللسان (أ ب ل).
(5)
مجاز القرآن 1/ 91، والمفصل 4/ 111.
أنَّى ومِن أين آبَكَ
(1)
الطَّرَبُ
…
من حيمثُ لا صَبْوَة ولا رِيَبُ
فيُجَاءُ بـ "أنَّى" للمسألِة عن الوجهِ، وبـ "أين" للمسألةِ عن المكانِ، فكأنه قال: مِن أىِّ وجهٍ، ومن أىِّ موضعٍ راجَعك الطربُ؟
والذى يَدُلُّ على فسادِ قولِ مَن تأوَّلَ قولَ اللهِ تعالى ذكرُه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : كيف شِئتم. أو تأوَّلَه بمعنى: حيثُ شِئتم. أو بمعنى: متى شئتم. أو بمعنى: أين شئتم - أن قائلًا لو قال لآخرَ: أنَّى تأتى أهلَك؟ لكان الجوابُ أن يقولَ: مِن قُبُلِها. أو: من دُبُرِها. كما أخبَرَ اللهُ تعالى ذكرُه عن مريمَ إذ سُئِلت: {أَنَّى لَكِ هَذَا} . أنها قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وإذ كان ذلك هو الجوابَ، فمعلومٌ أن معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} إنما هو: فائتوا حرثَكم من حيثُ شِئتم من وجوهِ المأتَى. وأن ما عدا ذلك من التأويلاتِ فليس للآيةِ بتأويلٍ.
وإذ كان ذلك هو الصحيحَ، فبيِّنٌ خطأُ قولِ مَن زعَم أن قولَه:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . دليلٌ على إباحةِ إتيانِ النساءِ في الأدبارِ؛ لأن الدُّبُرَ لا مُحْتَرثَ فيه، وإنما قال تعالى ذكرُه:{حَرْثٌ لَكُمْ} فائتوا الحَرْثَ من أىِّ وجُوهِه شِئتم، وأىُّ مُحْتَرَثٍ في الدبرِ فيقالَ: ائتِه من وجهِه؟!
وبيِّنٌ بما بيَّنَّا صحةُ معنى ما رُوِى عن جابرٍ وابنِ عباسٍ من أن هذه الآيةَ نزَلت فيما كانت اليهودُ تقولُه للمسلمين: إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبُرِها في قُبُلِها جاء الولدُ أحولَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: قدِّموا
(1)
في م: "نابك".
لأنفسِكم الخيرَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ: أمَّا قولُه: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} ، فالخيرَ
(1)
.
وقآل آخَرون: بل معنى ذلك: وقدِّموا لأنفسِكم ذِكْرَ اللهِ عندَ الجماعِ وإتيانِ الحرثِ قبلَ إتيانِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى محمدُ بنُ كثيرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ واقدٍ، عن عطاءٍ، قال: أُرَاه عن ابنِ عباسٍ: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} . قال: يقولُ: باسمِ اللهِ. التسميةَ عندَ الجماعِ
(2)
.
والذى هو أَوْلَى بتأويلِ الآيةِ ما روَيْنا عن السُّدِّىِّ، وهو أن قولَه:{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} . أمرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه عبادَه بتقديمِ الخيرِ والصالحِ من الأعمالِ ليومِ مَعَادِهم إلى ربِّهم، عُدَّةً منهم ذلك لأنفسِهم عندَ لقائِه في موقفِ الحسابِ، فإنه قال تعالى ذكرُه:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110، المزمل: 20].
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويلِ الآيةِ، لأن اللهَ تعالى ذكرُه عقَّب قولَه:{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} بالأمرِ باتقائِه في ركوبِ معاصيه، فكان الذى هو أَوْلَى بأن يكونَ
(3)
قبلَ التهددِ على المعصيةِ عامًّا، الأمرَ بالطاعةِ عامًّا.
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 406 (2139) من طريق عمرو بن حماد به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 389، عن المصنف.
(3)
بعده من ص، م، ت 1:"الذى".
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجهُ الأمرِ بالطاعةِ بقولِه: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} . من قولِه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ؟
قيل: إن ذلك لم يُقْصَدْ به ما توهَّمَته، وإنما عُنِى به: وقدِّموا لأنفسِكم من الخيراتِ التى ندَبْناكم إليها بقولِنا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]. وما بعده من سائرِ ما سأَلوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُجِيبوا عنه مما ذكَره اللهُ تعالى ذكرُه في هذه الآياتِ. ثم قال تعالى ذكرُه: قد بيَّنَّا لكم ما فيه رَشَدُكم وهدايتُكم
(1)
إلى ما يُرْضِى ربَّكم عنكم، فقدِّموا لأنفسِكم الخيرَ الذى أمَركم به، واتَّخِذوا عنده به عهدًا لِتَجِدوه لديه إذا لَقِيتُموه في معادِكم، واتَّقُوه في معاصيه أن تَقْرَبوها، وفى حدودِه أن تُضَيِّعوها، واعْلَموا أنكم -لا محالةَ- مُلاقُوه في معادِكم، فمُجازى المحسن منكم بإحسانِه، والمسيء بإساءتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه عزَّ ذكرُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} .
وهذا تحذيرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه عبادَه أن يأتوا شيئا ممَّا نهاهم عنه من معاصيه، وتخويفٌ لهم عقابَه عند لقائِه، كما قد بيَّنَّا قبلُ
(2)
، وأمرٌ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن يُبَشِّرَ مِن عبادِه، بالفوزِ يومَ القيامةِ، وبكرامةِ الآخرةِ، وبالخلودِ في الجنةِ، مَن كان منهم محْسنًا مؤْمنًا
(3)
بكُتُبِه ورُسُلِه وبلقائِه، مصدِّقًا إيمانَه قولًا بعملِه ما أمَره به ربُّه، وافْتَرض عليه مِن فرائضِه، [وفيما]
(4)
ألزَمه من حقوقِه، وبتجَنُّبِه ما أمَره بتجنُّبِه من معاصيه.
(1)
في ت 1، ت 3:"تدابركم".
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 632.
(3)
سقط من: ص.
(4)
في م: "فيما".