المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌ ‌ ‌القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا - تفسير الطبري جامع البيان - ت التركي - جـ ٤

[ابن جرير الطبري]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: ولا تَجْعَلوه علَّةً لأيمانِكم، وذلك إذا سُئِل أحدُكم الشيءَ من الخيرِ والإصلاحِ بينَ الناسِ، قال: علىَّ يمينٌ باللهِ ألا أفعلَ

(1)

ذلك. أو: قد حلَفتُ باللهِ ألَّا أفعلَه. فيعتلُّ في تركِه فعلَ الخيرِ والإصلاحِ بينَ الناسِ بالحلِفِ باللهِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِف على الأمرِ

(2)

الذى لا يَصْلُحُ، ثم يَعْتَلُّ

(3)

بيَمينِه، يقولُ اللهُ:{أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} . يقولُ

(4)

: هو خيرٌ له من أن يَمْضِيَ على ما لا يَصْلُحُ، وإن حلَفتَ كفَّرتَ عن يمينِك وفعَلتَ الذي هو خيرٌ لك

(5)

.

(1)

في م: "فعل".

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"الأخر".

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"يقبل".

(4)

سقط من: م.

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 92، وفى مصنفه (16048).

ص: 5

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المبُارَكِ، عن مَعْمَرٍ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه مثلَه، إلا أنه قال: وإن حلَفتَ فكفِّرْ عن يمينِك، وافعلِ الذى هو خيرٌ.

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا عُبَيْدُ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن السُّدِّيِّ، عمَّن حدَّثه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} . قال: هو أن يَحْلِفَ الرجلُ ألَّا يُكَلِّمَ قرابتَه ولا يَتصَدَّقَ، أو يكونَ بينه وبين إنسانٍ مُغَاضبةٌ، فيَحْلِفَ لا يُصْلِحُ بينَهما، ويقولَ: قد حلَفتُ. قال: يُكَفِّرُ عن يمينِه، {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا}

(1)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} . يقولُ: لا تعتلُّوا باللهِ، أن يقولَ أحدُكم: إنه تَأَلَّى أن لا يَصِلَ رَحِمًا، ولا يسعى في صَلاحٍ، ولا يتصدَّقَ من مالِه. مهلًا مهلًا! بارَك اللهُ فيكم، فإن هذا القرآنَ إنما جاء بتركِ أمرِ الشيطانِ، فلا تُطيعوه، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيءٍ من نُذُورِكم ولا أيْمانِكم

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حَصِينٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ لا يُصْلِحُ بينَ الناسِ ولا يَبَرُّ، فإذا قيل له، قال: قد حلَفتُ

(3)

.

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال:

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

ذكره البيهقي 10/ 33، وفى الشعب عقب الأثر (7974) عن قتادة معلقًا، وأخرجه 10/ 33، وفي الشعب (7974) من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 409، 4/ 1190 (2156، 6706) من طريق أبي بشر، عن سعيد.

ص: 6

سألتُ عطاءً عن قولِه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} ؟ قال: الإنسانُ يَحْلِفُ ألا يَصْنَعَ

(1)

الخيرَ، الأمرَ الحسنَ، يقولُ: حلَفتُ. قال اللهُ: افعلِ الذى هو خيرٌ، وكفِّرْ عن يمينِك، ولا تَجْعَلِ اللهَ عُرْضَةً

(2)

.

حُدِّثتُ عن الحسينِ

(3)

، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخبرَنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية: هو الرجلُ يُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ له على نفسِه، فيقولُ: قد حلَفتُ، فلا يَصْلُحُ إلا أن أَبَرَّ يميني. فأمَرهم اللهُ أن يُكَفِّروا أيْمانَهم، ويأتوا الحلالَ

(4)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} : أما {عُرْضَةً} ؛ فيَعْرِضُ بينَك وبينَ الرجلِ الأمرُ فتَحْلِفُ باللهِ لا تُكَلِّمُه ولا تَصِلُه، وأما {تَبَرُّوا} ؛ فالرجلُ يَحْلِفُ لا يَبَرُّ ذا رَحِمِه، فيقولُ: قد حلَفْتُ. فأمَر اللهُ ألا يُعَرِّضَ بيمينِه بينَه وبينَ ذي رَحِمِه، ولْيَبَرَّه ولا يُبالي بيمينِه، وأما {وَتُصْلِحُوا} ؛ فالرجلُ يُصْلِحُ بينَ الاثنيْن فيَعْصِيانِه، فيَحْلِفُ ألا يُصْلِحَ بينَهما، فيَنْبَغِي له أن يُصْلِحَ ولا يُباليَ بيمينِه، وهذا قبلَ أن تَنْزِلَ الكفَّاراتُ

(5)

.

(1)

في ص: "يضع"، وفى ت 2:"يضيع".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (16031) عن ابن جريج به بنحوه.

(3)

في م: "عمار بن الحسن".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 270 إلى ابن المنذر.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 407، 408 (2147، 2150) من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 7

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن هُشيمٍ، عن مُغِيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . قال: يَحْلِفُ ألا يَتَّقِيَ اللهَ، ولا يَصِلَ رَحِمَه، ولا يُصْلِحَ بينَ اثنين، فلا يَمْنَعُه يمينُه

(1)

.

وقال آخَرون: معنى ذلك: ولا تَعْتَرِضوا بالحلفِ باللهِ في كلامِكم فيما بينَكم، فتَجْعَلوا ذلك حُجَّةً لأنفسِكم في تركِ فعلِ الخيرِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . يقولُ: لا تَجْعَلْني عُرْضَةً ليَمينِك ألا تَصْنَعَ الخيرَ، ولكن كفِّرْ عن يَمينِك واصْنَعِ الخيرَ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} : كان الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ مِن البرِّ والتَّقْوَى ولا يَفْعَلُه، فنهَى اللهُ عز وجل عن ذلك، فقال:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا}

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرنا مُغيرةُ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ

(1)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (371 - تفسير) عن هشيم به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 407 (2145)، والبيهقي 10/ 33 من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 268 إلى ابن المنذر.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 268 إلى المصنف.

ص: 8

يَحْلِفُ ألا يَبَرَّ قَرابتَه، ولا يَصِلَ رحمَه، ولا يُصْلِحَ بينَ اثنين. يقولُ: فلْيَفْعَلْ ولْيُكفِّرْ عن يمينِه.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، عن إبراهيمَ النَّخَعيِّ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} . قال: لا تَحْلِفْ ألا تَتَّقىَ اللهَ، ولا تَحْلِفْ ألا تَبَرَّ ولا تَعْمَلَ خيرًا، ولا تَحْلِفْ ألا تَصِلَ، ولا تَحْلِفْ ألا تُصْلِحَ بينَ الناسِ، ولا تَحْلِفْ أن تَقْتُل وتَقْطَعَ.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: أخْبَرَنا هُشيمٌ، عن داودَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، ومُغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً} الآية. قالا: هو الرجلُ يَحْلِفُ ألا يَبَرَّ ولا يَتَّقيَ ولا يُصْلِحَ بينَ الناسِ، [وأُمِر أن يَتَّقيَ اللهَ، ويُصْلِحَ بينَ الناسِ]

(1)

، ويُكَفِّرَ عن يمينِه

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [عن عيسى، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ](1)، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} : فأُمِروا بالصِّلةِ والمعروفِ والإصْلاحِ بينِ الناسِ، فإن حلَف حالفٌ ألا يَفْعَلَ ذلك فلْيَفْعَلْه ولْيَدَعْ يمينَه

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية. قال: ذلك في الرجلِ

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 409 (2157) من طريق هشيم به من قول سعيد وحده.

(3)

تفسير مجاهد ص 234، 235.

ص: 9

يَحْلِفُ ألا يَبَرَّ، ولا يَصِلَ رحمَه، ولا يُصْلِحَ بينَ الناسِ، فأمَرَه اللهُ أن يَدَعَ يمينَه، ويَصِلَ رحمَه، ويَأْمُرَ بالمعروفِ، ويُصْلِحَ بينَ الناسِ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا محمدُ بنُ حربٍ، قال: ثنا ابنُ لَهِيعَةَ، عن أبى الأسودِ، عن عروةَ، عن عائشةَ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} . قالت: لا تَحْلِفوا

(2)

باللهِ وإن برَرْتُم

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: حُدِّثْتُ أن قولَه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الَاية: نزَلَت في أبي بكرٍ في شأنِ مِسْطَحٍ

(4)

.

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا ابنُ فُضيلٍ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ قولَه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية. قال: يَحْلِفُ الرجلُ ألا يَأْمُرَ بالمعروفِ، ولا يَنْهَى عن المنكرِ، ولا يَصِلَ رحِمَه.

حدَّثني المثنَّى، ثنا سُويدٌ، أخْبَرنا ابنُ المبُارَكِ، عن هُشيمٍ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . قال: يَحْلِفُ ألا يَتَّقِىَ اللهَ، ولا يَصِلَ رحِمَه، ولا يُصْلِحَ بينَ اثنين، فلا يَنْفَعُه يمينُه

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 407 عقب الأثر (2145) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"تجعلوا".

(3)

فى ت 1: "نزرتم"، وفي ت 2:"نذرتم".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 268 إلى المصنف.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 268 إلى المصنف.

(5)

ص 8 حاشية (1)، وفي 3.

ص: 10

حدَّثنى ابنُ عبدِ الرحيمِ البَرْقىُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبى سلَمةَ، عن سعيدٍ، عن مَكْحولٍ أنه قال فى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} . قال: هو أن يَحْلِفَ الرجلُ ألا يَصْنَعَ خيرًا، ولا يَصِلَ رحمَه، ولا يُصْلِحَ بينَ الناسِ، نهاهم اللهُ عن ذلك

(1)

.

وأولى التأويلَيْن بالآيةِ تأويلُ مَن قال: معنى ذلك: لا تَجْعَلوا الحلفَ باللهِ حُجَّةً لكم فى تركِ فعلِ الخيرِ فيما بينَكم وبينَ اللهِ وبينَ الناسِ. وذلك أن العُرْضةَ فى كلامِ العربِ القوةُ والشدةُ، يقالُ منه: هذا الأمرُ عُرْضةٌ له

(2)

. يعنى بذلك: قوةٌ لك على أسبابِك. ويقالُ: فلانةُ عُرْضةٌ للنِّكاحِ. أى: قوةٌ. ومنه قولُ كعبِ بنِ زُهَيْرٍ فى صفةِ نُوقٍ

(3)

:

مِن كلِّ نَضَّاخةِ

(4)

الذِّفْرَى

(5)

إذا عَرِقَتْ

عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهولُ

يعنى بـ "عرضتُها": قوَّتُها وشدَّتُها.

فمعنى قولِه تعالى ذكرُه: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [إذن: لا تَجْعَلوا اللهَ قوةً لأيمانِكم]

(6)

فى ألا تَبَرُّوا ولا تَتَّقُوا ولا تُصْلِحوا بينَ الناسِ، ولكن إذا حلَف أحدُكم فرأَى الذى هو خيرٌ مما حلَف عليه؛ مِن تَرْكِ البرِّ والإصْلاحِ بينَ

(1)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 407 عقب الأثر (2145) معلقًا.

(2)

كذا فى النسخ، ولعل الصواب:"لك".

(3)

شرح ديوانه ص 9.

(4)

نضاخة، من نضخ الماء: اشتد فورانه من ينبوعه، ونضاخة يعنى: شديدة النضخ. القاموس المحيط (ن ض خ).

(5)

الذفرى، بالكسر من جميع الحيوان: العظم الشاخص خلف الأذن. التاج (ذ ف ر).

(6)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 11

الناس، فلْيَحْنَثْ فى يمينِه، ولْيَبَرَّ، ولْيَتَّقِ اللهَ، ولْيُصْلِحْ بينَ الناسِ، ولْيُكَفِّرْ عن يمينِه. وترَك ذكر "لا" مِن الكلامِ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليها، واكْتِفاءً بما ذكَر عما ترَك، كما قال امرؤُ القيسِ

(1)

:

فقلتُ يمينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعدًا

ولو قَطَّعوا رأْسى لَدَيْكِ وأوْصالى

بمعنى: فقلتُ: يمينَ اللهِ لا أَبْرَحُ. فحذَف "لا" اكْتِفاءً بدَلالةِ الكلامِ عليها.

وأما قولُه: {أَنْ تَبَرُّوا} . فإنه اخْتُلِف فى تأويلِ البِرِّ الذى عناه اللهُ تعالى ذكرُه، فقال بعضُهم: هو فعلُ الخيرِ كلِّه. وقال آخَرون: هو البِرُّ بذى رحمِه. وقد ذكَرْتُ قائلى ذلك فيما مضَى.

وأولى ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عنَى به فعلَ الخيرِ كلِّه. وذلك أن أفعالَ الخيرِ كلَّها مِن البرِّ، ولم يَخْصُصِ اللهُ فى قولِه:{أَنْ تَبَرُّوا} معنًى دونَ معنًى مِن معانى البِرِّ، فهو على عمومِه، والبِرُّ بذَوِى القَرابةِ أحدُ معانى البِرِّ.

وأما قولُه: {وَتَتَّقُوا} فإن معناه: أن تَتَّقوا ربَّكم، فتَحْذَروه وتَحْذَروا عِقابَه فى فرائضِه وحُدودِه أن تُضَيِّعوها أو تَتَعَدَّوْها.

وقد ذكَرْنا تأويلَ مَن تأوَّل ذلك أنه بمعنى التَّقْوَى قبلُ.

وقال آخَرون فى تأويلِه بما حدَّثنى به محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} . قال: كان الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ مِن البِرِّ والتَّقْوَى لا يَفْعَلُه، فنهَى اللهُ عز وجل عن ذلك، فقال:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} الآية. قال: ويقالُ: لا يَتَّقِ بعضُكم بعضًا بى، تَحْلِفون

(1)

ديوانه ص 32.

ص: 12

بى وأنتم كاذِبون لِيُصَدِّقَكم الناسُ، وتُصْلِحون بينَهم، فذلك قولُه:{أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} الآية

(1)

.

وأما قولُه: {وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} . فهو الإصلاحُ بينَهم بالمعروفِ فيما لا مَأْثَمَ فيه، وفيما يُحِبُّه اللهُ دونَ ما يَكْرَهُه.

وأما الذى ذكَرْنا عن السُّدىِّ مِن أنَّ هده الآيةَ نزَلَت قبلَ نزولِ كفَّاراتِ الأيْمانِ، فقولٌ لا دَلالةَ عليه مِن كتابٍ ولا سنةٍ، والخبرُ عما كان لا تُدْرَكُ صحتُه إلا بخبرٍ صادقٍ، وإلا كان دعْوَى لا يَتَعَذَّرُ مثلُها وخلافُها على أحدٍ، وغيرُ مُحالٍ أن تكونَ هذه الآيةُ نزَلَت بعدَ بيانِ كفاراتِ الأيْمانِ فى سورةِ "المائدةِ"، واكْتُفِى بذكرِها هناك عن إعادتِها ههنا، إذ كان المُخاطَبون بهذه الآيةِ قد علِموا الواجبَ مِن الكفاراتِ فى الأيْمانِ التى يَحْنَثُ فيها الحالفُ.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: واللهُ سميعٌ لما يَقولُه الحالفُ منكم باللهِ إذا حلَف، فقال: واللهِ لا أَبَرُّ، ولا أَتَّقِى، ولا أُصْلِحُ بيَن الناسِ. ولغيرِ ذلك مِن قِيلِكم وأيْمانِكم، عليمٌ بما تَقْصِدون وتَبتَغون بحَلِفِكم ذلك، الخيرَ تُريدون أم غيرَه؛ لأنى عَلَّامُ الغُيوبِ وما تُضْمِرُه الصُّدورُ، لا تَخْفَى علىَّ خافيةٌ

(2)

، ولا يَنْكَتِمُ عنى أمرٌ عَلَن فظهَر، أو خَفِى فبطَن.

وهذا مِن اللهِ تعالى ذكرُه تَهَدُّدٌ ووَعيدٌ. يقولُ تعالى ذكرُه: واتَّقُونِ أيُّها الناسُ أن تُظْهِروا بألسنتِكم مِن القولِ، أو بأبدانِكم مِن الفعلِ، ما نهَيْتُكم عنه، أو تُضْمِروا

(1)

تقدم تخريجه ص 8.

(2)

بعده فى ص: "عليه خافية".

ص: 13

فى أنفسِكم، وتَعْزِموا بقلويكم مِن الإراداتِ والنياتِ فعْلَ ما زجَرْتُكم عنه، فتَسْتَحِقُّوا بذلك منى العُقوبةَ التى قد عرَّفْتُكموها، فإنى مُطَّلعٌ على جَميعِ ما تُعْلِنونه أو تُسِرُّونه.

‌القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ قولِه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .

وفى معنى "اللَّغْوِ"؛ فقال بعضُهم فى معناه: لا يُؤَاخِذُكمُ اللهُ بما سبَقَتْكم به ألسنتُكم مِن الأيمانِ على عَجَلةٍ وسُرْعةٍ، فيُوجِبَ عليكم به كَفَّارةً إذا لم تَقْصِدوا الحَلِفَ واليَمينَ. وذلك كقولِ القائلِ: فعَلْتُ هذا واللهِ. أو: أفْعَلُه واللهِ. أو: لا أفْعَلُه واللهِ. على سُبوقِ المتكلمِ بذلك لسانُه بما وصَل به كلامَه مِن اليمين.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ، قال: ثنا عَتَّابُ بنُ بَشِيرٍ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قال: هى: بلى واللهِ، ولا واللهِ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن الزُّهرىِّ، عن القاسمِ، عن عائشةَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ

(2)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (783 - تفسير)، والبيهقى 10/ 49 من طريق عتاب به، عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 269 إلى ابن المنذر.

(2)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 392 عن المصنف.

ص: 14

[حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ

(1)

، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ، عن عطاءٍ، عن عائشةَ نحوَه]

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن [ابنِ إسحاقَ]

(3)

، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، قال: سألْتُ عائشةَ عن لَغْوِ اليمين، قالت: هو: لا واللهِ، وبلى واللهِ. ما يَتَراجَعُ به الناسُ

(4)

.

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا وَكيعٌ وعَبْدةُ وأبو معاويةَ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ فى قولِ اللَّهِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ

(5)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ. يَصِلُ بها كلامَه.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامُ بنُ سَلْمٍ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: دخَلْتُ مع عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ على عائشةَ، فقال لها: يا أمَّ المؤمنين، قولُه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ؟ قالت: هو: لا واللهِ، وبلى واللهِ. ليس مما عقَّدْتُم الأيمانَ

(6)

.

(1)

كذا فى م من غير ذكر ابن إسحاق، وكذا ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 392 عن المصنف، وفى نسخة من ابن كثير: عن إسحاق. بدلا من: عن سلمة. وتقدمت رواية ابن إسحاق، عن ابن أبى نجيح 1/ 548.

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

والأثر أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 (2155) من طريق عطاء به.

(3)

فى ص: "أبى نجيح"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"أبى إسحاق".

(4)

أخرجه مالك 2/ 477، والشافعى (2/ 147 - شفاء العى)، وسعيد بن منصور فى سننه (781 - تفسير)، والبخارى (6663)، والنسائى فى الكبرى (11149)، والبيهقى 10/ 48 من طريق هشام به، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 269 إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(5)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 408 (2152) من طريق عبدة به.

(6)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (780 - تفسير) من طريق عبد الملك به.

ص: 15

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ أبى ليلى، عن عطاءٍ، قال: أتَيْتُ عائشةَ مع عُبَيدِ بنِ عُميرٍ، فسألها عُبَيدٌ عن قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . فقالت عائشةُ: هو قولُ الرجلِ: لا واللهِ، وبلى واللهِ. ما لم يَعْقِدْ عليه قلبَه.

حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخْبَرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ، قال: انْطَلَقْتُ

(1)

مع عُبَيدِ بنِ عُمَيْرٍ إلى عائشةَ، وهى مُجاورةٌ فى ثَبِيرٍ

(2)

، فسألها عُبَيدٌ عن لَغْوِ اليَمينِ، فقالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ موسى الحَرَشىُّ

(4)

، قال: ثنا حسانُ بنُ إبراهيمَ الكِرْمانىُّ، قال: ثنا إبراهيمُ الصائغُ، عن عطاءٍ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: قالت عائشةُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هو قولُ الرجلِ فى بيتِه: كلَّا واللهِ، وبلى واللهِ"

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن الزهرىِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قالت: هم القومُ يتدارءون فى الأمرِ، فيقولُ هذا: لا واللهِ، وبلى واللهِ، وكلا

(1)

فى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كنت أنطلق".

(2)

ثبير: جبل بين مكة ومنى. معجم البلدان 1/ 917.

(3)

أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (15951)، والشافعى 2/ 147 (شفاء العى)، والبيهقى 10/ 49 عن ابن جريج به.

(4)

فى م: "الحرسى". وينظر تهذيب الكمال 26/ 532.

(5)

أخرجه أبو داود (3254)، وابن حبان (4333)، والبيهقى 10/ 49 من طريق حسان بن إبراهيم به، وأخرجه ابن مردويه -كما فى تخريج الكشاف للزيلعى- 1/ 419 من طريق أشرس بن بزيغ، عن إبراهيم الصائغ به، قال الحافظ فى التلخيص 4/ 167: وصحح الدارقطنى الوقف.

ص: 16

واللهِ. يتدارءون فى الأمرِ لا تُعْقَدُ عليه قلوبُهم

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن الشَّعبىِّ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: قولُ الرجل: لا واللهِ، وبلى واللهِ. يَصِلُ به كلامَه، ليس فيه كَفَّارةٌ

(2)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا المُغيرةُ، عن الشعبىِّ، قال: هو الرجلُ يقولُ: لا واللهِ. وبلى واللهِ. يَصِلُ حديثَه.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا ابنُ عونٍ، قال: سأَلْتُ عامرًا عن قولِه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو: لا واللهِ، وبلى واللهِ.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، وحدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، جَميعًا عن ابن عَوْنٍ، عن الشعبىِّ مثلَه.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ وابنُ وَكيعٍ، قالا: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا أيوبُ، قال: قال أبو قِلابةَ فى: لا واللهِ، وبلى واللهِ: أرْجُو أن يَكونَ لُغةً

(3)

.

وقال يعقوبُ فى حديثهِ: أرْجُو أن يَكونَ لَغْوًا. وقال ابنُ وَكيعٍ فى حديثهِ: أرْجُو أن يَكونَ لُغةً. ولم يَشُكَّ.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ وابنُ وَكيعٍ وهَنَّادٌ، قالوا: ثنا وَكيعٌ، عن إسماعيلَ بنِ أبى خالدٍ، عن أبى صالحٍ، قال: لا واللهِ، وبلى واللهِ

(4)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 90، وفى مصنفه (15952).

(2)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (779 - تفسير) من طريق مغيرة به.

(3)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 269 إلى عبد بن حميد.

(4)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 408 عقب الأثر (2153) معلقًا.

ص: 17

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن مالكٍ، عن عَطاءٍ، قال: سمِعْتُ عائشةَ تقولُ فى قولِه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ.

[حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن مالكِ بنِ مِغْوَلٍ، عن عطاءٍ مثلَه]

(1)

.

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن عاصمٍ الأحْولِ، عن عكرمةَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو قولُ الناسِ: لا واللهِ، وبلى واللهِ

(2)

.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن عاصمٍ، عن الشعبىِّ وعكرمةَ، قالا: لا واللهِ، وبلى واللهِ.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا ابنُ عُيَيْنةَ، عن عمرٍو، عن عَطاءٍ، قال: دخَلْتُ مع عُبَيدِ بنِ عُميرٍ على عائشةَ، فسألها، فقالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ

(3)

.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا حفصٌ، عن ابنِ أبى ليلى وأشْعَثَ، عن عطاءٍ، عن عائشةَ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ، قالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبِى وجَريرٌ، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: لا واللهِ، وبلى واللهِ.

حدّثنا ابنُ وَكيعٍ وهَنَّادٌ، قالا: ثنا يَعْلَى، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: قالت عائشةُ فى قولِ اللهِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قالت: هو قولُك: لا واللهِ، وبلى واللهِ، ليس لها عَقْدُ الأيمانِ.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 408 عقب الأثر (2153) عن معلقًا.

(3)

أخرجه الشافعى 2/ 147 (شفاء العى) ومن طريقه البيهقى 10/ 49 - عن ابن عيينة به.

ص: 18

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال. ثنا أبو الأحْوَصِ، عن مُغيرةَ، عن الشعبىِّ، قال: اللَّغْوُ قولُ الرجلِ: لا واللهِ، وبلى واللهِ. يَصِلُ به كلامَه ما لم يكُ

(1)

شيئًا يَعْقِدُ عليه قلبَه.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَنى عمرٌو، أن سعيدَ بنَ أبى هِلالٍ حدَّثه، أنه سمِع عطاءَ بنَ أبى رَباحٍ يقولُ: سمِعْتُ عائشةَ تقولُ: لَغْوُ اليَمينِ قولُ الرجلِ: لا واللهِ، وبلى واللهِ. فيما لم يَعْقِدْ عليه قلبَه.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال عمرٌو: وحدَّثنى عبدُ اللهِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ أبى حُسينٍ النَّوفلىُّ، عن عطاءٍ، عن عائشةَ بذلك.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن مُجاهدٍ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: الرجلان يَتَبايَعان، فيقولُ أحدُهما: واللهِ لا أبيعُك بكذا وكذا. ويقولُ الآخرُ؛ واللهِ لا أشْتَرِيه بكذا وكذا. فهذا اللغوُ لا يُؤَاخَذُ به

(2)

.

وقال آخَرون: بل اللغوُ فى اليمينِ: اليمينُ التى يَحْلِفُ بها الحالفُ، وهو يَرَى أنه كما يَحْلِفُ عليه، ثم تَبَيَّن غيرُ ذلك، وأنه بخلافِ الذى حلَف عليه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرَنى ابنُ نافعٍ، عن أبى مَعْشَرٍ، عن محمدِ بنِ قيسٍ، عن أبى هريرةَ أنه كان يقولُ: لغوُ اليمينِ حَلِفُ الإنسانِ على الشئِ يَظُنُّ أنه الذى حلَف عليه، فإذا هو غيرُ ذلك

(3)

.

(1)

فى م: "يشك".

(2)

ذكره القرطبى فى تفسيره 3/ 100 عن مجاهد.

(3)

عزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 269 إلى المصنف.

ص: 19

حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : واللغوُ أن يَحْلِفَ الرجلُ على الشئِ يَراه حقًّا وليس بحقٍّ

(1)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : هذا فى الرجلِ يَحْلِفُ على أمْرِ إضْرارٍ

(2)

أن يَفْعَلَه فلا يَفْعَلُه، فيَرَى الذى هو خيرٌ منه، فأمَر

(3)

اللهُ أن يُكفِّرَ عن يمينِه ويَأْتىَ الذى هو خيرٌ، ومِن اللغوِ أيضًا أن يَحْلِفَ الرجلُ على أمرٍ لا يَأْلُو فيه الصدقَ، وقد أخْطَأ فى يمينِه؛ فهذا الذى عليه الكفارةُ، ولا إثمَ عليه

(4)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا [أبو داودَ]

(5)

، قال: ثنا هشامٌ، عن قتادةَ، عن سليمانَ بنِ يَسارٍ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: خطأٌ غيرُ عمدٍ

(6)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ، عن عوفٍ، عن الحسنِ فى هذه الآيةِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو أن تَحْلِفَ على الشئِ وأنت يُخَيَّلُ إليك أنه كما حلَفْتَ، وليس كذلك، فلا يُؤَاخِذُه اللهُ ولا كفارةَ، ولكنَّ المُؤَاخَذةَ والكفارةَ فيما حلَف عليه على علمٍ

(7)

.

(1)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 269 إلى المصنف.

(2)

فى ص: "إصرار".

(3)

فى م، ت 1:"فأمره".

(4)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 269 إلى المصنف، وابن المنذر.

(5)

فى ت 1، ت 2، ت 3:"داود".

(6)

عزاه السيوطى فى الدر المنثور 1/ 269 أبى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(7)

أخرجه البيهقى 10/ 50 من طريق عوف به.

ص: 20

حدَّثنا هَنَّادٌ وابنُ وَكيعٍ، قالا: ثنا وَكيعٌ، عن الفضلِ بنِ دَلْهَمٍ، عن الحسنِ، قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على اليمينِ لا يَرَى إلا أنه كما حلَف.

حدَّثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن عاصمٍ، عن الحسنِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على اليمينِ يَرَى أنها كذلك، وليست كذلك.

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا عَبْدةُ، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، عن الحسنِ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ وهو يَرَى أنه كذلك، فلا يَكونُ كما قال، فلا كفارةَ عليه.

حدَّثنا هَنَّادٌ وأبو كُرَيْبٍ وابنُ وَكيعٍ، قالوا: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا الثَّورىُّ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على اليمين لا يَرَى إلا أنها كما حلَف عليه، وليست كذلك

(1)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجِيحٍ فى قولِ اللهِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: مَن حلَف باللهِ ولا يَعْلَمُ إلا أنه صادقٌ فيما حلَف.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : حَلِفُ الرجلِ على الشئِ وهو لا يَعْلَمُ إلا أنه على ما حلَف عليه فلا يَكونُ كما حلَف؛ كقولِه: إن هذا البيتَ لفلانٍ.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 91، وفى مصنفه (15953)، وأخرجه البيهقى 10/ 50 من طريق الثورى به.

ص: 21

وليس له، وإن هذا الثوبَ لفلانٍ. وليس له

(1)

.

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا أبو الأحْوَصِ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ يَرَى أنه فيه صادقٌ

(2)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا مُغيرةُ، عن إبراهيمَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلفُ على الأمرِ يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكونُ كذلك، قال: فلا يُؤاخَذُ بذلك. قال: وكان يُحِبُّ

(3)

أن يُكَفِّرَ

(4)

.

حدَّثنا موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقىُّ، قال: ثنا الجُعْفىُّ، عن زائدةَ، عن منصورٍ، قال: قال إبراهيمُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: أن يَحْلِفَ على الشئِ وهو يَرَى أنه صادقٌ، وهو كاذبٌ، فذلك اللغوُ لا يُؤاخَذُ به.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ نحوَه، إلا أنه قال: إن حلَفْتَ على الشئِ وأنت تَرَى أنك صادقٌ، وليس كذلك.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ

(5)

إدْريسَ، قال: أخْبَرَنا حُصَينٌ، عن أبى مالكٍ

(1)

تفسير مجاهد ص 235.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (777 - تفسير) من طريق مغيرة به.

(3)

فى ت 2: "يجب".

(4)

أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 1/ 91، وفى مصنفه (15955) - ومن طريقه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409، 4/ 1190 (2158، 6707) - وسعيد بن منصور فى سننه (775 - تفسير) عن هشيم به.

(5)

فى م: "أبو".

ص: 22

أنه قال: اللغوُ: الرجلُ يَحْلِفُ على الأيمانِ وهو يَرَى أنه كما حلَف

(1)

.

حدَّثنى إسحاقُ ابنُ حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ، قال: ثنا عَتَّابُ بنُ بَشيرٍ، عن خُصيفٍ، عن زِيادٍ، قال: هو الذى يَحْلِفُ على اليمين يَرَى أنه فيها صادقٌ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إسحاقَ الحَضْرمىُّ، قال: ثنا بُكَيْرُ ابنُ أبى السَّمِيطِ

(2)

، عن قتادةَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الخطأُ غيرُ العمدِ؛ الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ يَرَى أنه كذلك، وليس كذلك

(3)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخْبَرَنا هُشَيْمٌ، عن منصورٍ ويونس، عن الحسنِ، قال: اللغوُ: الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ يَرَى أنه كذلك، فليس عليه فيه كفارةٌ.

حدَّثنا هَنَّادٌ وابنُ وكيعٍ، قال هَنَّادٌ: حدَّثنا وَكيعٌ، وقال ابنُ وَكيعٍ: حدَّثنى أبى، عن عِمْرانَ بنِ حُدَيْرٍ قال: سمِعْتُ زُرارةَ بنَ أوْفَى، قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على اليمينِ لا يَرَى إلا

(4)

أنها كما حلَف

(5)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ بَشيرٍ، قال: سُئِل عامرٌ عن هذه الآيةِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ؟ قال: اللغوُ: أن يَحْلِفَ

(1)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (778 - تفسير) من طريق حصين به.

(2)

فى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"السمط". وينظر تهذيب الكمال 4/ 236.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 91، وفى مصنفه (15956) عن معمر عن قتادة.

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 عقب الأثر (2154) معلقًا.

ص: 23

الرجلُ لا يَألُو عن الحقِّ، فيكونَ غيرَ ذلك، فذلك اللغوُ الذى لا يُؤاخَذُ به.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : فاللغوُ: اليمينُ الخطأُ غيرُ العمدِ؛ أن تَحْلِفَ على الشئِ وأنت تَرَى أنه كما حلَفْتَ عليه ثم لا يَكونُ كذلك، فهذا لا كفارةَ عليه ولا مَأْثَمَ فيه.

حدَّثنى موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : أما اللغوُ: فالرجلُ يَحْلِفُ على اليمين وهو يَرَى أنها كذلك، فلا تَكونُ كذلك، فليس عليه كفارةٌ

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: اللغوُ: اليمينُ الخطأُ فى غيرِ عمدٍ؛ أن يَحْلِفَ على الشئِ وهو يَرَى أنه كما حلَف عليه، وهذا ما ليس عليه فيه كفارةٌ

(2)

.

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا أبو الأحْوصِ، عن حُصينٍ، عن أبى مالكٍ، قال: أما اليمينُ التى لا يُؤاخَذُ بها صاحبُها، فالرجلُ يَحْلِفُ على اليمينِ وهو يَرَى أنه فيها صادقٌ، فذلك اللغوُ.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا حُصَينٌ، عن أبى مالكٍ مثلَه، إلا أنه قال: الرجلُ يَحْلِفُ على الأمرِ يَرَى أنه كما حلَف عليه فلا يَكونُ كذلك، فليس عليه فيه كفارةٌ، وهو اللغوُ

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 عقب الأثر (2154) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 عقب الأثر (2154) من طريق ابن أبى جعفر به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (784 - تفسير) عن هشيم به مطولًا.

ص: 24

حدَّثنى يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَنى معاويةُ بن صالحٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، [وعن]

(1)

ابنِ

(2)

أبى طلحةَ -كذا قال [ابنُ أبى جعفرٍ]

(3)

- قالا: مَن قال: واللهِ لقد فعَلْتُ كذا وكذا. وهو يَظُنُّ أن قد فعَلَه، ثم تبَيَّن له أنه لم يَفْعَلْه، فهذا لغوُ اليمينِ وليس عليه فيه كفارةٌ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن رجلٍ، عن الحسنِ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الخطأُ غيرُ العمدِ، كقولِ الرجلِ: واللهِ إن هذا لكذا وكذا. وهو يَرَى أنه صادقٌ، ولا يَكونُ كذلك. قال مَعْمَرٌ: وقاله قتادةُ أيضًا

(4)

.

حدَّثنى ابنُ البَرْقىِّ، قال: ثنا عمرٌو، قال: سُئِل سعيدٌ عن اللغوِ فى اليمينِ، قال سعيدٌ: قال

(5)

مكحولٌ: الخطأُ غيرُ العمدِ، ولكنَّ الكفارةَ فيما عقَدَت قلوبُكم

(6)

.

حدَّثنى ابنُ البَرْقىِّ، قال: ثنا عمرٌو، عن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، عن مكحولٍ، أنه قال: اللغوُ الذى لا يُؤاخِذُ اللهُ به أن يَحْلِفَ الرجلُ على الشئِ الذى يَظُنُّ أنه فيه صادقٌ، فإذا هو فيه غيرُ ذلك، فليس عليه فيه كفارةٌ، وقد عفا اللهُ عنه.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: إذا حلَف على اليمينِ وهو يَرَى أنه فيه صادقٌ، وهو كاذبٌ، فلا يُؤاخَذُ به، وإذا حلَف على اليمين وهو يَعْلَمُ أنه كاذبٌ،

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

كذا فى النسخ.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 91، وفى مصنفه (15956).

(5)

فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"وقال".

(6)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 عقب الأثر (2154) معلقًا.

ص: 25

فذلك الذى يُؤاخَذُ به.

وقال آخَرون: بلِ اللغوُ مِن الأيْمانِ التى يَحْلِفُ بها صاحبُها فى حالِ الغضبِ على غيرِ عقدِ قلبٍ ولا عزمٍ، ولكن وُصْلةً للكلامِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ وَكيعٌ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، عن خالدٍ، عن عطاءٍ، عن وَسيمٍ

(1)

، عن ابنِ عباسٍ، قال: لغوُ اليمين أن تَحْلِفَ وأنت غَضْبانُ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو حمزةَ، عن عطاءٍ، عن طاوسٍ، قال: كلُّ يمينٍ حلَف عليها رجلٌ وهو غَضْبانُ، فلا كفارةَ عليه فيها؛ قولُه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}

(3)

.

وعلةُ مَن قال هذه المقالةَ ما حدَّثنى به أحمدُ بنُ منصورٍ المَرْوَزىُّ، قال: ثنا عمرُ ابنُ يونُسَ اليَمامىُّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ أبى سليمانَ الزُّهْرىُّ، عن يحيى بنِ أبى كَثيرٍ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَمينَ فى غضبٍ"

(4)

.

(1)

فى م: "رستم". وينظر التاريخ الكبير 8/ 181.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (782 - تفسير) -ومن طريقه البيهقى 10/ 49 - عن خالد، عن عطاء، عن وسيم عن طاوس، عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 410، 4/ 1191 (2161، 6710) من طريق خالد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 269 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

ينظر تفسير البغوى 1/ 263.

(4)

أخرجه الطبرانى فى الأوسط (2029) من طريق أحمد بن منصور، عن عمر بن يونس، عن سليمان، عن يحيى، عن الزهرى، عن عكرمة، عن ابن عباس، وضعفه الحافظ فى الفتح 11/ 565.

ص: 26

وقال آخَرون: بل اللغوُ فى اليمينِ الحلفُ على فعلِ ما نهَى اللهُ عنه، وتَرْكِ ما أمَر اللهُ بفعلِه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، عن داودَ بنِ أبى هندٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: هو الذى يَحْلِفُ على المعصيةِ، فلا يَفِى، ويُكَفِّرُ يمينَه؛ قولُه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبى الشَّوارِبِ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: لغوُ اليمينِ أن يَحْلِفَ الرجلُ على المعصيةِ للهِ، لا يُؤاخِذُه اللهُ بإلغائها

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ، عن داودَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ بنحوِه، وزاد فيه، قال: وعليه كفارتُه

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنى عبدُ الأعْلَى ويزيدُ بنُ هارونَ، عن داودَ، عن سعيدٍ بنحوِه.

حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على المعصيةِ، فلا يُؤاخِذُه اللهُ أن يُكَفِّرَ عن يمينِه ويأتىَ الذى هو خيرٌ.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، وحدَّثنا ابنُ

(1)

فى النسخ: "بإيفائها". والمثبت ما تقضتيه الآثار.

(2)

فى م: "كفارة".

ص: 27

وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن شعبةَ، عن أبى بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ فى هذه الآيةِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ، قال: الرجلُ يَحْلِفُ على المعصيةِ، فلا يُؤاخِذُه اللهُ بتركِها

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ الصَّبَّاحِ البَزَّارُ، قال: ثنا إسحاقُ، عن عيسى ابنِ بنتِ داودَ بنِ أبى هندٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ إلْياسَ، عن أمِّ أبيه، أنها حلَفَت ألا تُكَلِّمَ ابنةَ ابنِها ابنةَ أبى الجَهْمِ، فأتَت سعيدَ بنَ المسيبِ وأبا بكرٍ وعروةَ بنَ الزبيرِ، فقالوا: لا يمينَ فى معصيةٍ، ولا كفارةَ عليها.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن أبى بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على المعصيةِ، فلا يُؤاخِذُه اللهُ بتركِها إن ترَكها. قلتُ: فكيف يَصْنَعُ؟ قال: يُكَفِّرُ عن يمينِه ويَتْرُكُ المعصيةَ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا هُشَيْمٌ، عن أبى بشير، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على الحرامِ، فلا يُؤاخِذُه اللهُ بتركِه

(3)

.

حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخْبَرَنا داودُ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال فى لغوِ اليمينِ، قال: هى اليمينُ فى المعصيةِ. قال: أو لا تَقْرَأُ فتَفْهَمَ، قال اللهُ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]؟

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 (2156) من طريق شعبة به.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (776 - تفسير)، عن هشيم به، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 409 (2157) من طريق هشيم، عن أبى بشر وداود به، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 1/ 269 إلى وكيع.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 91، وأخرجه فى مصنفه (15954) عن هشيم به.

ص: 28

قال: فلا يُؤاخِذُه بالإلغاءِ

(1)

، ولكن يُؤاخِذُه بالتَّمامِ عليها. قال: وقال: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ، إلى قولِه:{وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن هُشَيْمٍ، عن أبى بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ فى قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: الرجلُ يَحْلِفُ على المعصيةِ، فلا يُؤاخِذُه اللهُ بتركِها، ويُكَفِّرُ.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا وهبُ بنُ جَريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصمٍ، عن الشعبىِّ، عن مسروقٍ فى الرجلِ يَحْلِفُ على المعصيةِ، فقال: أيُكَفِّرُ خُطواتِ الشيطانِ؟ ليس عليه كفارةٌ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا وهبُ بنُ جَريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصمٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ مثلَ ذلك.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ، عن داودَ، عن الشعبىِّ فى الرجلِ يَحْلِفُ على المعصيةِ، قال: كفارتُها أن يَتُوبَ منها

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرنا مُغيرةُ، عن الشعبىِّ أنه كان يقولُ: يَتْرُكُ المعصيةَ ولا يُكَفِّرُ، ولو أمَرْتُه بالكفارةِ لأمَرْتُه أن يُتِمَّ على قولِه

(4)

.

حدَّثنا يحيى بنُ داودَ الواسطىُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن مُجالِدٍ، عن عامرٍ، عن مسروقٍ قال: كلُّ يمينٍ لا يَحِلُّ لك أن تَفِىَ بها فليس فيها كفارةٌ.

وعلةُ مَن قال هذا القولَ مِن الأثَرِ ما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن

(1)

فى النسخ: "بالإيفاء".

(2)

ذكره البغوى فى تفسيره 1/ 263، وأخرجه ابن حزم 8/ 401 من طريق عاصم عن الشعبى من قوله.

(3)

ذكره البغوى فى تفسيره 1/ 263.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (373 - تفسير) عن هشيم به.

ص: 29

الوليدِ بنِ كثيرٍ، قال: ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ الحارثِ، عن عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن نذَر فيما لا يَمْلِكُ فلا نَذْرَ له، ومَن حلَف على معصيةِ اللهِ فلا يَمينَ له، ومَن حلَف على قَطيعةِ رَحِمٍ فلا يَمينَ له"

(1)

.

حدَّثنى علىُّ بنُ سعيدٍ الكِنْدىُّ، قال: ثنا علىُّ بنُ مُسْهِرٍ، عن حارثةَ بنِ محمدٍ، عن عَمْرةَ، عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حلَف على يمين قطيعةِ رَحِمٍ أو معصيةٍ للهِ فبِرُّه أن يَحْنَث بها ويَرْجِعَ عن يمينِه"

(2)

.

وقال آخَرون: اللغوُ مِن الأيمانِ كلُّ يمينٍ وصَل بها الرجلُ كلامَه على غيرِ قصدٍ منه إيجابَها على نفسِه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا هشامٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن إبراهيمَ، قال: لغوُ اليمين أن يَصِلَ الرجلُ كلامَه بالحلفِ؛ واللهِ لَيَأْكُلَنَّ، واللهِ لَيَشْرَبَنَّ، ونحوُ هذا، لا يَتَعَمَّدُ به اليمينَ ولا يُريدُ به حلِفًا، ليس عليه كفارةٌ.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن هشامٍ الدَّسْتُوائىِّ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ: لغوُ اليمينِ ما يَصِلُ به كلامَه؛ واللهِ لَتَأْكُلَنَّ، واللهِ لَتَشْرَبَنَّ.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هما الرجلان يَتَساوَمان بالشئِ، فيقولُ

(1)

أخرجه أبو داود (2191) عن أبى كريب به، وأخرجه الدارقطنى 4/ 15، والحاكم 4/ 300، وابن حزم 8/ 401، والبيهقى 10/ 33 من طريق أبى أسامة به، وأخرجه أحمد 2/ 185 (6732) من طريق عبد الرحمن بن الحارث به، وينظر مسند الطيالسى (2373، 2379 - طبعتنا).

(2)

أخرجه ابن ماجه (2110) من طريق حارثة به، وضعفه ابن كثير فى تفسيره 1/ 391، والبوصيرى فى مصباح الزجاجة 2/ 146.

ص: 30

أحدُهما: واللهِ لا أَشْتَرِيه منك بكذا. ويقولُ الآخرُ: واللهِ لا أَبِيعُك بكذا وكذا

(1)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَنى يونُسُ، عن ابنِ شِهابٍ، أن عروةَ حدَّثه أن عائشةَ زوجَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم قالت: أيْمانُ اللغوِ ما كان فى الهَزْلِ والمِراءِ والخُصومةِ والحديثِ الذى لا يَعْتَمِدُ

(2)

عليه القلبُ

(3)

.

وعلةُ مَن قال هذا القولَ مِن الأثَرِ ما حدَّثنا به محمدُ بنُ موسى الحرشىُّ، قال: ثنا عُبَيدُ اللهِ بنُ ميمونٍ المُرادىُّ، قال: ثنا عَوْفٌ الأعْرابىُّ، عن الحسنِ بنِ أبى الحسنِ، قال: مرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقومٍ يَنْتَضِلون -يعنى: يَرْمُون- ومع النبىِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن أصحابِه، فرمَى رجلٌ مِن القومِ، فقال: أصَبْتُ واللهِ، وأخْطَأْتَ. فقال الذى مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم: حنِث الرجلُ يا رسولَ اللهِ. قال: "كلَّا، أيْمانُ الرُّماةِ لَغْوٌ، لا كَفارةَ فيها ولا عُقوبةَ"

(4)

.

وقال آخَرون: اللغوُ مِن الأيْمانِ ما كان مِن يمينٍ بمعنى الدعاءِ مِن الحالفِ على نفسِه إن لم يَفْعَلْ كذا وكذا، أو بمعنى الشركِ والكفرِ.

(1)

تقدم تخريجه فى ص 19.

(2)

كذا فى النسخ، وفى مصادر التخريج:"يعقد".

(3)

أخرجه ابن وهب فى جامعه -كما فى الفتح 11/ 548 - عن يونس به، وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه (15952)، وابن أبى عاصم -كما فى الفتح- من طريق معمر والزبيرى، عن الزهرى به، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 408 (2153) من طريق أبى الأسود عن عروة به.

(4)

ذكره ابن كثير فى تفسيره 1/ 392 عن المصنف، وقال الحافظ فى الفتح 11/ 547: وهذا لا يثبت؛ لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن، لأنه كان يأخذ عن كل أحد. وأخرجه الطبرانى فى الصغير 2/ 136، وفى كتاب الرمى -كما فى لسان الميزان 6/ 330 - من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وقال الحافظ عن يوسف بن يعقوب بن عبد العزيز -شيخ الطبرانى-: لا أعرف حاله، أتى بخبر باطل بإسناد لا بأس به.

ص: 31

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحَكَمِ المِصْريُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ مَرْزوقٍ، عن يحيى بنِ أيوبَ، عن محمدِ بنِ عَجْلانَ، عن زيدِ بنِ أسْلَمَ في قولِ اللهِ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: هو كقولِ الرجلِ: أعْمَى اللهُ بصَرِي إن لم أَفْعَلْ كذا وكذا، أخْرَجَني اللهُ مِن مالى إن لم آتِك غدًا -فهو هذا- ولا يَتْرُكُ اللهُ له مالًا ولا ولدًا. يقولُ: لو يُؤاخِذُكم اللهُ بهذا لم يَتْرُكْ لكم شيئًا

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا إسماعيلُ، قال: ثنى يحيى ابنُ أيوبَ، عن عمرِو بنِ الحارثِ، عن زيدِ بنِ أسلمَ بمثلِه

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ مرزوقٍ، قال: ثنى يحيى بن أيوبَ، أن زيدَ بنَ أسلمَ كان يقولُ في قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : مثلُ قولِ الرجلِ: هو كافرٌ، وهو مشركٌ. قال: لا يُؤاخِذُه حتى يَكونَ ذلك مِن قلبِه.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: اللغوُ في هذا: الحلفُ باللهِ ما كان بالألسُنِ، فجعَله لغوًا، وهو أن يقولَ: هو كافرٌ باللهِ، وهو إذَنْ يُشْرِكُ باللهِ، وهو يَدْعُو مع اللهِ إلهًا. فهذا اللغوُ الذى قال اللهُ في سورةِ "البقرةِ".

وقال آخَرون: اللغوُ مِن الأيمانِ ما كانت فيه كفارةٌ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 409، 411 (2159، 2166) من طريق يحيى بن أيوب به.

ص: 32

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبى طلحة، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} : فهذا في الرجلِ يَحْلِفُ على أمرِ إضْرارٍ أن يَفْعَلَه فلا يَفْعَلَه، فيَرَى الذى هو خيرٌ منه، فأمَرَه اللهُ أن يُكَفِّرَ يمينَه ويَأْتِيَ الذى هو خيرٌ

(1)

.

حدَّثني يحيى بنُ جعفرٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخْبَرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . قال: اليمينُ المُكَفَّرَةُ.

وقال آخَرون: اللغوُ مِن الأيمانِ هو ما حنِثَ فيه الحالفُ ناسيًا.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنى مُغيرةُ، عن إبراهيمَ، قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ على الشئِ ثم يَنْساه

(2)

. يعنى في قولِه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: واللغوُ مِن الكلامِ في كلامِ العربِ كلُّ كلامٍ كان مَذْمومًا، وفعلًا لا معنى له مَهْجورًا. يقالُ منه: لغَا فلانٌ في كلامِه يَلْغُو لَغْوًا. إذا قال قَبيحًا مِن الكلامِ، ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]. وقولُه: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].

(1)

تقدم تخريجه في ص 20.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ينسى".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 91، وفى مصنفه (15955)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 409 (2158) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 33

ومَسْموعٌ مِن العربِ: لغَيْتُ باسمِ فلانٍ. بمعنى: أُولِعْتُ بذكرِه بالقبيح. فمن قال: لغَيْتُ. قال: ألْغَى لَغًا. وهى لغةٌ لبعضِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ

(1)

:

ورَبِّ أَسرابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ

عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ

فإذ كان اللغوُ ما وصَفْتُ، وكان الحالفُ باللهِ: ما فعَلْتُ كذا. وقد فعَل، ولقد فعَلْتُ كذا. وما فعَل، واصِلًا بذلك كلامَه على سبيلِ سُبوقِ لسانِه مِن غيرِ تعمُّدِ إثْمٍ في يمينِه، ولكن لعادةٍ قد جرَت له عندَ عَجَلةِ الكلامِ، والقائلُ: واللهِ إن هذا لَفلانٌ. وهو يراه كما قال، أو: واللهِ ما هذا فلانًا. وهو يَراه ليس به، والقائلُ: ليَفْعَلَنَّ كذا واللهِ. أو: لا يَفْعَلُ كذا واللهِ. على سبيلِ ما وصَفْنا مِن عَجَلةِ الكلامِ وسُبوقِ اللسانِ للعادةِ، على غيرِ تعمُّدِ حَلِفٍ على باطلٍ، والقائلُ: هو مُشْرِكٌ، أو هو يَهُودىٌّ، أو نَصْرانيٌّ، إن لم يَفْعَلْ كذا، أو إن فعَل كذا. مِن غيرِ عزمٍ على كفرٍ أو يَهُوديةٍ أو نصرانيةٍ، جميعُهم قائلون هُجْرًا مِن القولِ، وذَميمًا مِن المَنْطِقِ، وحالِفون مِن الأيمانِ بألسنتِهم ما لم تتَعَمَّدْ فيه الإثمَ قلوبُهم، كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيْمانِهم لا يَلْزَمُهم كفارةٌ في العاجلِ، ولا عقوبةٌ في الآجِلِ؛ لإخبارِ اللهِ تعالى ذكرُه أنه غيرُ مُؤاخِذٍ عبادَه بما لغَوْا مِن أيمانِهم، وأن الذى هو مُؤاخِذُهم به ما تعَمَّدَت فيه الإثمَ قلوبُهم.

وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن حلَف على يمينٍ فرأَى غيرَها خيرًا منها، فلْيَأْتِ الذى هو خيرٌ، ولْيُكَفِّرْ عن يمينِه"

(2)

. فأوْجَب الكفارةَ بإتيانِ الحالفِ ما حلَف ألا يَأْتِيَه، مع وجوبِ إتيانِ الذى هو خيرٌ مِن

(1)

تقدم تخريجه في 3/ 296.

(2)

أخرجه البخاري (6622، 6722، 7146، 7147)، ومسلم (1652) من حديث عبد الرحمن بن سمرة، وينظر تخريجه في مسند الطيالسي (1448).

ص: 34

الذى حلَف عليه ألا يَأْتِيَه، وكانت الغرامةُ في المالِ، أو إلزامُ الجزاءِ مِن المجزيِّ

(1)

أبدانَ الجازين

(2)

، لا شكَّ عقوبةً كبعضِ العقوباتِ التى جعَلها اللهُ تعالى ذكرُه نَكالًا لخلقِه فيما تَعَدَّوْا مِن حُدودِه، وإن كان يَجْمَعُ جميعَها أنها تَمْحيصٌ وكَفَّاراتٌ لمَن عُوقِبَ بها فيما عُوقِبوا عليه - كان بيِّنًا أن مَن أُلْزِم الكفارةَ في عاجلِ دُنْياه فيما حلَف به مِن الأيمانِ فحنِث فيه، وإن كانت كفارةً لذنبِه

(3)

، فقد واخَذَه اللهُ بها بإلزامِه إياه الكفارةَ منها، وإن كان ما عجَّل مِن عقوبتِه إياه على ذلك مُسْقِطًا عنه عقوبتَه في آجِلِه. وإذ كان تعالى ذكرُه قد واخَذَه بها، فغيرُ جائزٍ لقائلٍ أن يقولَ، وقد واخَذَ بها: هى مِن اللغوِ الذى لا يؤاخَذُ به قائله.

فإذ كان ذلك غيرَ جائزٍ، فبيِّنٌ فسادُ القولِ الذى رُوِى عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنه قال: اللغوُ: الحلِفُ على المعصيةِ. لأن ذلك لو كان كذلك لم يَكُنْ على الحالفِ على معصيةِ اللهِ كفارةٌ بحِنْثِه في يمينِه، وفى إيجابِ سعيدٍ عليه الكفارةَ دليلٌ واضحٌ على أن صاحبَها بها مُؤاخَذٌ؛ لما وصَفْنا مِن أن مَن لزِمه الكفارةُ في يمينِه فليس ممَّن لم يُؤاخَذْ بها.

فإذ كان اللغوُ هو ما وصَفْنا مما أخْبَرَنا اللهُ تعالى ذكرُه أنه غيرُ مُؤاخِذِنا به، وكلُّ يمينٍ لزِمَت صاحبَها بحِنْثِه فيها الكفارة في العاجلِ، و

(4)

أوْعَد اللهُ تعالى ذكرُه صاحبَها العقوبةَ عليها في الآجِلِ، وإن كان وضَع عنه كفارتَها في العاجلِ -فهى مما كسَبَتْه قلوبُ الحالفِين، وتعَمَّدَت فيه الإثْمَ نفوسُ المُقْسِمِين، وما عدا ذلك فهو اللغوُ

(1)

في م: "الجازى".

(2)

في م: "المجزيين".

(3)

في ص، ت 2، ت 3:"لدينه".

(4)

في م: "أو".

ص: 35

وقد بيَّنَّا وُجوهَه.

فتأويلُ الكلامِ إذن: لا تَجْعَلوا اللهَ أيُّها المؤمنون قُوَّةً

(1)

لأيْمانِكم، وحُجَّةً لأنفسِكم في أقسامِكم في ألَّا تَبَرُّوا ولا تتَّقُوا ولا تُصْلِحوا بينَ الناسِ، فإن اللهَ لا يُؤاخِذُكم بما لغَتْه ألسنتُكم مِن أيمانِكم، فنطَقَت به مِن قَبيحِ الأيْمانِ وذَميمِها، على غيرِ تعمُّدِكم الإثمَ وقصدِكم بعزائمِ صدورِكم إلى إيجابِ عَقْدِ الأيْمانِ التى حلَفْتُم بها، ولكنه إنما يُؤاخِذُكم بما تعَمَّدْتُم فيه عَقْدَ اليمينِ وإيجابَها على أنفسِكم، وعزَمْتُم على الإتمامِ على ما حلَفْتُم عليه بقصدٍ منكم وإرادةٍ، فيَلْزَمُكم حينَئذٍ إمَّا كفارةٌ في العاجلِ، وإما عقوبةٌ في الآجِلِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويل في المعنى الذى أوْعَد اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} عبادَه أنه مُؤاخِذُهم به؛ بعدَ إجماعِ جميعِهم على أن معنى قولِه: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} : ما تعَمَّدَت. فقال بعضُهم: المعنى الذى أوْعَد اللهُ عبادَه مُؤاخَذتَهم به هو حَلِفُ الحالفِ منهم على كذبٍ وباطلٍ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: إذا حلَف الرجلُ على اليمينِ وهو يَرَى أنه صادقٌ، وهو كاذبٌ، فلا يُؤاخَذُ بها، وإذا حلَف وهو يَعْلَمُ أنه كاذبٌ، فذاك الذى يُؤاخَذُ به

(3)

.

(1)

في م: "عرضة".

(2)

في ص: "الآخر".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 410 (2165) من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 269 إلى عبد بن حميد.

ص: 36

حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسْروقىّ، قال: ثنا حسينٌ الجُعْفيُّ، عن زائدةَ، عن مَنصورٍ، قال: قال إبراهيمُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . قال: أن يَحْلِفَ على الشئِ وهو يَعْلَمُ أنه كاذبٌ، فذاك الذى يُؤاخَذُ به.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} : أن تَحْلِفَ وأنت كاذبٌ.

حدَّثني المثنى، [قال: ثنا عبدُ اللهِ بنِ صالحٍ]

(1)

، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]: وذلك اليمينُ الصَّبْرُ

(2)

الكاذبةُ، يَحْلِفُ بها الرجلُ على ظلمٍ أو قَطيعةٍ، فتلك لا كفارةَ لها إلا أن يَتْرُكَ ذلك الظلمَ أو يَرُدَّ ذلك المالَ إلى أهلِه، وهو قولُه تعالى ذكرُه:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} . إلى قولِه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} : ما عقَدَتْ عليه

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: لا تُؤاخَذُ حتى تُصْعِدَ

(4)

الأمرَ، ثم تَحْلِفَ عليه باللهِ الذى لا إلهَ إلا هو، فتُعَقِّدَ عليه يمينَك.

(1)

سقط من النسخ، وهو إسناد دائر.

(2)

اليمين الصبر: هى التى ألزم بها صاحبها وحبس عليها، وكانت لازمة له من جهة الحكم. النهاية 3/ 8.

(3)

تفسير مجاهد ص 235.

(4)

في م: "تقصد".

ص: 37

والواجبُ على هذا التأويلِ أن يَكونَ قولُه تعالى ذكرُه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} في الآخِرةِ بما شاء مِن العقوباتِ، وأن تكونَ الكفارةُ إنما تَلْزَمُ الحالفَ في الأيمانِ التى هى لَغْوٌ. وكذلك رُوى عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ أنه كان لا يَرَى الكفارةَ إلا في الأيمانِ التى تَكونُ لَغْوًا، فأما ما كسَبَتْه القلوبُ، وعقَدَت فيه على الإثم، فلم يَكُنْ يُوجِبُ فيه الكفارةَ. وقد ذكَرْنا الروايةَ عنهم بذلك فيما مضَى قبلُ

(1)

.

وإذ كان ذلك تأويلَ الآيةِ عندَهم، فالواجبُ على مذهبِهم أن يَكونَ معنى الآيةِ في سورةِ "المائدةِ"

(2)

: {لا يُؤاخِذُكم اللهُ باللغوِ في أيمانِكم، ولكنْ يُؤاخِذُكم بما عقَّدتُم الأيمانَ، فكفارتُه إطعام عشَرةِ مَساكينَ مِن أوْسطِ ما تُطْعِمون أهْليكم أو كِسوتُهم أو تحريرُ رقبةٍ، فمَن لم يجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ، ذلك كفارةُ أيْمانِكم إذا حلَفْتُم} ولكن يؤاخِذُكم بما عقَّدْتُم، {واحْفَظوا أيْمانَكم} .

وبنحوِ ما ذكَرْناه عن ابنِ عباسٍ مِن القولِ في ذلك كان سعيدُ بنُ جُبيرٍ والضحاكُ ابنُ مُزاحِمٍ وجماعةٌ أُخَرُ غيرُهم يقولون، وقد ذكَرْنا الروايةَ عنهم بذلك آنفًا.

وقال آخَرونَ: المعنى الذى أوْعَد اللهُ تعالى عبادَه المُؤاخَذةَ بهذه الآيةِ، هو حَلِفُ الحالفِ على باطلٍ يَعْلَمُه باطلًا، وبذلك أوْجَب اللهُ عندَهم الكفارةَ دونَ اللغوِ الذى يَحْلِفُ به الحالفُ وهو مُخطِئٌ في حلفِه، يَحْسَبُ أن الذى حلَف عليه كما حلَف، وليس ذلك كذلك.

(1)

ينظر ما تقدم ص 20.

(2)

الآية 89.

ص: 38

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . يقولُ: بما تعَمَّدَت قلوبُكم، وما تعَمَّدَتْ فيه المأْثَمَ، فهذا عليك فيه الكفارةُ

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه سواءً

(2)

.

وكأن قائلى هذه المقالةِ وجَّهوا تأويلَ مُؤاخَذةِ اللهِ عبدَه على ما كسَبه قلبُه مِن الأيمانِ الفاجرةِ، إلى أنها مُؤاخَذةٌ منه له بها

(3)

بإلزامِه الكفارةَ فيه.

وقال بنحوِ قولِ قتادةَ جماعةٌ أُخَرُ في إيجابِ الكفارةِ على الحالفِ اليمينَ الفاجرةَ، منهم عطاءٌ والحكَمُ.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ ويعقوبُ، قالا: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا حَجَّاجٌ، عن عطاءٍ والحكمِ أنهما كانا يقولان في من حلَف كاذبًا متعمدًا: يُكَفِّرُ

(4)

.

وقال آخَرون: بل ذلك معنيان؛ أحدُهما مُؤَاخَذٌ به العبدُ في حالِ الدنيا بإلزامِ اللهِ إياه الكفارةَ منه، والآخرُ منهما مُؤاخَذٌ به في الآخِرةِ إلا أن يَعْفُوَ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن

(1)

ذكره ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 410 عقب الأثر (2163) معلقًا.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 410 عقب الأثر (2163) من طريق ابن أبى جعفر به.

(3)

سقط من: م.

(4)

أخرجه ابن حزم 8/ 391 من طريق هشيم، عن الحجاج، عن عطاء وحده، وينظر الاستذكار 15/ 67.

ص: 39

السُّدِّىِّ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} : أما ما كسَبت قلوبُكم، فما عقَدَت قلوبُكم، فالرجلُ يَحْلِفُ على اليمين يَعْلَمُ أنها كاذبةٌ، إرادةَ أن يَقْضِىَ أمرَه. والأيمانُ ثلاثةٌ، اللغوُ، والعمدُ، والغَموسُ، والرجلُ يَحْلفُ على اليمينِ وهو يُرِيدُ أن يَفْعَلَ، ثم يَرَى خيرًا مِن ذلك، فهذه اليمينُ التى قال اللهُ تعالى ذكرُه:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} . فهذه لها كفارةٌ.

وكأنَّ قائلَ هذه المقالةِ وجَّه تأويلَ قولِه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} إلى غيرِ ما وجَّه إليه تأويلَ قولِه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} . وجعَل قولَه: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الغَموسَ مِن الأيمانِ التى يَحْلِفُ بها الحالفُ على علمٍ منه بأنه في حلفِه بها مُبْطِلٌ، وقولَه:{بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} اليمينَ التى يَسْتَأْنِفُ فيها الحِنْثَ أو البِرَّ، وهو في حالِ حلفِه بها عازمٌ على أن يَبَرَّ فيها.

وقال آخرون: بل ذلك هو اعتقادُ الشركِ باللهِ والكفرِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ مَرْزوقٍ، قال: ثنى يحيى بنُ أيوبَ، عن محمدٍ -يعنى ابنَ عَجْلانَ- أن زيدَ بنَ أسْلَمَ كان يَقولُ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} : مثلَ قولِ الرجلِ: هو كافرٌ، هو مُشْركٌ. قال: لا يُؤاخِذُه اللهُ حتى يَكونَ ذلك مِن قلبِه

(1)

.

حدَّثنى يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَا

(1)

تقدم تخريجه في ص 32.

ص: 40

يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}. قال: اللغوُ في هذا الحلفُ باللهِ ما كان بالألسنِ. فجعَله لغوًا، وهو أن يقولَ: هو كافرٌ بالله، وهو إذن يُشْرِكُ باللهِ، وهو يَدْعُو مع اللهِ إلهًا. فهذا اللغوُ الذى قال اللهُ تعالى في سورةِ "البقرةِ":{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، قال: بما كان في قلوبكم صدقًا واخِذُك به، فإن لم يَكنْ في قلبِك صدقًا لم يُواخِذْك به، وإن أثِمْتَ

(1)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذكرُه أوْعَد عبادَه أن يُؤاخِذَهم بما كَسَبت قلوبُهم مِن الأيمانِ، فالذى تَكْسِبُه قلوبُهم مِن الأيمانِ هو ما قصَدَتْه وعزَمَت عليه، على علمٍ ومعرفةٍ منها بما تَقْصِدُه وتُريدُه، وذلك يَكونُ منها على وجهين؛ أحدُهما: على وجهِ العزمِ على ما يَكونُ به العازمُ عليه في حالِ عزمِه بالعزمِ عليه آثمًا، وبفعلِه مستحِقًّا المؤاخَذةَ مِن اللهِ عليها، وذلك كالحالفِ على الشئِ الذى لم يَفْعَلْه أنه قد فعَله، وعلى الشئِ الذى قد فعَله أنه لم يَفْعَلْه، قاصدًا أصْلَ

(2)

الكذبِ، وذاكرًا أنه قد فعَل ما حلَف عليه أنه لم يَفْعَلْه، أو أنه لم يَفْعَلْ ما حلَف عليه أنه قد فعَل، فيكونُ الحالفُ بذلك -إن كان مِن أهلِ الإيمانِ باللهِ وبرسولِه- في مشيئةِ اللهِ يومَ القيامةِ، إن شاء واخَذَه به في الآخِرةِ، وإن شاء عفا عنه بتفضلِه، ولا كفارةَ عليه فيها في العاجلِ؛ لأنها ليست مِن الأيمانِ التى يَحْنَثُ فيها، وإنما الكفارةُ تَجِبُ في الأيمانِ بالحِنْثِ فيها، والحالفُ الكاذبُ في يمينِه ليست يمينُه مما يُبْتَدَأُ فيه الحِنْثُ فتَلْزَمَ فيه الكفارةُ.

والوجهُ الآخرُ منهما: على وجهِ العزمِ على إيجابِ عقدِ اليمينِ في حالِ عزمِه على ذلك، فذلك مما لا يُواخَذُ به صاحبُه حتى يَحْنَثَ فيه بعدَ حلفِه، فإذا حنِث فيه

(1)

تقدم تخريجه في ص 32.

(2)

في م: "لقيل".

ص: 41

بعدَ حلفِه كان مُواخَذًا بما كان اكْتَسَبه قلبُه -مِن الحلفِ باللهِ على إثمٍ وكذِبٍ- في العاجلِ بالكفارةِ التى جعَلها اللهُ كفارةً لذنبِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: واللهُ غفورٌ لعبادِه فيما لغَوْا مِن أيْمانِهم التى أخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه أنه لا يُواخِذُهم بها، ولو شاء واخَذَهم بها، ولما واخَذَهم بها

(1)

فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفيرِ فيه، ولو شاء واخَذَهم في آجِلِ الآخِرةِ بالعقوبةِ عليه، فساترٌ عليهم فيها، وصافِحٌ لهم بعفوِه عن العقوبةِ فيها وغيرِ ذلك مِن ذنويهم، حليمٌ في تركِه مُعاجَلةَ أهلِ معصيتِه العقوبةَ على مَعاصِيهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} : للذين يُقْسِمُون أَلِيَّةً. والأَليةُ الحلفُ.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا مَسْلَمةُ بنُ علقمةَ، قال: ثنا داودُ بن أبى هندٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ في قولِه:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} : يَحْلِفون

(2)

.

يقالُ: آلَى فلانٌ يُؤْلِى إيلاءً وأَلِيَّةً. كما قال الشاعرُ

(3)

:

كفَيْنا مَن تغَيَّب مِن ترابٍ

(4)

وأحْنَثْنا أَلِيَّةَ مُقْسِمِينا

ويقالُ: أَلْوَةٌ وأُلْوَةٌ. كما قال الراجزُ:

(1)

في ص، ت 2، ت 3:"به".

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 411 (2171) من طريق مسلمة به.

(3)

التبيان 2/ 231.

(4)

في التبيان: "نزار".

ص: 42

يا أُلْوَةٌ ما أُلْوَةٌ ما أُلْوَتِي

وقد حُكِى عنهم أيضًا أنهم يقولون: إلْوةٌ. مَكسورةُ الألفِ.

والتربُّصُ النظرُ والتوقفُ.

ومعنى الكلامِ: للذين يُؤْلون أن يَعْتَزِلوا مِن نسائِهم تربُّصُ أربعةِ أشهرٍ. فترَك ذكرَ "أن يَعْتَزلوا"، اكْتِفاءً بدلالةِ ما ظهَر من الكلامِ عليه.

واخْتَلَف أهلُ التأويل في صفةِ اليمين التى يَكونُ بها الرجلُ مُؤْلِيًا مِن امرأتِه؛ [فقال بعضُهم: اليمينُ التى يَكونُ بها الرجلُ مُؤْلِيًا مِن امرأتِه]

(1)

، أن يَحْلِفَ عليها في حالِ غضبٍ على وجهِ الضِّرارِ

(2)

لها ألا يُجامِعَها في فرجِها، فأما إن حلَف على غيرِ وجهِ الإضْرارِ [وعلى]

(3)

غيرِ غضبٍ فليس هو مُؤلِيًا منها.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِىِّ، قال: ثنا أبو الأحْوَصِ، عن سِماكٍ، عن حُرَيْثِ بنِ عَمِيرةَ، عن أمِّ عَطيةَ، قالت: قال جُبيرٌ: أرْضِعى ابنَ أخى مع ابنِكِ. فقالت: ما أَسْتَطِيعُ أن أُرْضِعَ اثنين. فحلَف ألا يقرَبَها حتى تَفْطِمَه، فلما فطَمَتْه مرَّ به على المجلسِ، فقال له القومُ: حَسَنًا ما غذَوْتُموه. قال جبيرٌ: إنى حلَفْتُ ألا أَقْرَبَها حتى تَفْطِمَه. فقال له القومُ: هذا إيلاءٌ. فأتَى عليًّا فاسْتَفْتاه، فقال: إن كنتَ فعَلْتَ ذلك غضبًا فلا تَصْلُحُ لك امرأتُك، وإلا فهى امرأتُك

(4)

.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "الإضرار".

(3)

في م: "على".

(4)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 141 عن أبى الأحوص به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 270 إلى عبد بن حميد.

ص: 43

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، أنه سمِع عَطيةَ بنَ جبيرٍ، قال: تُوُفِّيَت أمُّ صبيٍّ نَسِيبةٌ لى، فكانت امرأةُ أبى تُرْضِعُه، فحلَف ألا يَقْرَبَها حتى تَفْطِمَه، فلمَّا مضَت أربعةُ أشهرٍ قيل له: قد بانَت منك. وأَحْسَبُ -شكَّ أبو جعفرٍ- قال: فأتَى عليًّا يَسْتَفْتِيه، فقال: إن كنتَ قلتَ ذلك غضبًا فلا امرأةَ لك، وإلا فهى امرأتُك

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخْبَرَنى سِماكٌ، قال: سمِعْتُ عطيةَ بنَ جُبيرٍ يَذْكُرُ نحوَه عن عليٍّ.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ بنُ عبدِ المجيدِ، قال: ثنا داودُ، عن سِماكٍ، عن رجلٍ مِن بنى عِجْلٍ، عن أبى عطيةَ، أنه تُوُفِّى أخوه، وترَك ابنًا له صغيرًا، فقال أبو عطيةَ لامرأتِه: أَرْضِعِيه. فقالت: إنى أخشى أن تُغِيلَهما

(2)

. فحلَف ألا يَقْرَبَها حتى تَفْطِمَهما، ففعَل حتى فطَمَتْهما، فخرَج ابنُ أخى أبى عطيةَ إلى المجلسِ، فقالوا: لَحُسْنَ ما غَذَا أبو عطيةَ ابنَ أخيه. قال: كلَّا زعَمَت أمُّ عطيةَ أنى أُغِيلُهما، فحلَفْتُ ألا أَقْرَبَها حتى تَفْطِمَهما. فقالوا له: قد حرُمَت عليك امرأتُك. فذكَرْتُ ذلك لعليٍّ، فقال عليٌّ: إنما أرَدْتَ الخيرَ، وإنما الإيلاءُ في الغضبِ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن سِماكٍ، عن أبى عطيةَ أن أخاه تُوفِّى. فذكَر نحوَه.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: أخْبَرَنا داودُ بنُ أبى

(1)

أخرجه البيهقى 7/ 382 من طريق شعبة به نحوه.

(2)

أغالت المرأة ولدها وأغيلته: أرضعته وهى حامل فهى مُغِيل والغيل: اللبن.

(3)

أخرجه البيهقى 7/ 381، 382 من طريق عبد الوهاب به.

ص: 44

هندٍ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، أن رجلًا هلَك أخوه، فقال لامرأتِه: أَرْضِعِى ابنَ أخى. فقالت: أَخافُ أن تَقَعَ علىَّ. فحلَف ألا يَمَسَّها حتى تَفْطِمَ. فأمْسَك عنها حتى إذا فَطمَتْه أخْرَج الغلامَ إلى قومِه، فقالوا: لقد أحْسَنْتَ غِذاءَه. فذكَر لهم شأنَه، فذكَروا امرأتَه، قال: فذهَب إلى عليٍّ، فاسْتَحْلَفه باللهِ: ما أرَدْتَ بذلك -يعنى إيلاءً- قال: فردَّها عليه.

حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: ثنا المحاربيُّ، عن أشْعَثَ بنِ سَوَّارٍ، عن سِماكٍ، عن عطيةَ بنِ أبى عَطيةَ، قال: تُوُفِّى أخٌ لى وترَك يَتيمًا له رضيعًا، وكنتُ رجلًا مُعْسرًا، لم يَكُنْ بيدى ما أَسْتَرْضِعُ له. قال: فقالت لى امرأتى -وكان لى منها ابنٌ تُرْضِعُه-: إن كفَيْتَنى نفسَك كفَيْتُكَهُما. فقلتُ: وكيف أَكْفِيك نفسى؟ قالت: لا تَقْرَبْنى. فقلتُ: واللهِ لا أَقْرَبُك حتى تَفْطِميهما. قال: ففَطمَتهما، وخرَجا على القومِ فقالوا: ما نَراك إلا قد أحْسَنْتَ ولايتَهما. قال: فقصَصْتُ عليهم القصةَ، فقالوا: ما نَراك إلا آلَيْتَ منها وبانت منك. قال: فأتَيْتُ عليًّا، فقصَصْتُ عليه القصةَ، فقال: إنما الإيلاءُ ما أُرِيدَ به الإيلاءُ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ البُرْسانيُّ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن جابرِ بنِ زيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا إيلاءَ إلا بغضبٍ

(1)

.

وحدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعْلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا إيلاءَ إلا بغضبٍ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا أبو

(2)

وَكيعٍ، عن أبى

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 270 للمصنف.

(2)

في النسخ: "ابن". وأبو وكيع هو الجراح بن مليح الرؤاسى. ينظر تهذيب الكمال 4/ 518.

ص: 45

فَزَارةَ، عن يزيدَ بنِ الأصَمِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا إيلاءَ إلَّا بغضبٍ

(1)

.

حَدَّثَنَا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن أبي عَطِيةَ، عن عليٍّ، قال: لا إيلاءَ إلا بغضب

(2)

.

حَدَّثَنَا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلي، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، أن عليًّا قال: إذا قال الرجلُ لامرأته وهى تُرْضِعُ: واللهِ لا قرَبْتُك حتى تَفْطِمى ولدِى. يُرِيدُ به صلاحَ ولدِه قال: ليس عليه إيلاءٌ

(3)

.

حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ السَّلُوليُّ، عن محمدِ بنِ مسلمٍ الطائفيّ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، قال: جاء رجلٌ إلى عليٍّ، فقال: إنى قلتُ لأمرأتى: لا أَقْرَبُها سنتين. قال: قد آلَيْتَ منها. قال: إنما قلتُ لأنَّها تُرْضِعُ. قال: فلا إذَنْ

(4)

.

حَدَّثَنِي المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن داودَ بنِ أبى هندٍ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن أبي عطيةَ، عن عليٍّ أنه كان يقولُ: إنما الإيلاءُ ما كان في غضبٍ، يقولُ الرجلُ: واللهِ لا أَقْرَبُكِ، واللهِ لا أَمَسُّكِ. فأما ما كان في إصلاحٍ من أمرِ الرَّضاعِ وغيرِه، فإنه لا يَكونُ إيلاءً ولا تَبِينُ منه.

حَدَّثَنَا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، يعنى ابنَ مَهْديٍّ، قال: ثنا حمادُ بنُ

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1876)، وابن حزم 11/ 245 من طريق إلى وكيع، عن أبى فزارة، عن ابن عباس، بدون ذكر يزيد بن الأصم.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (1874) من طريق داود به، وأخرج ابن أبي شيبة 5/ 141، 142 من طريق زبيد عمن حدثه عن على.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11634) عن معمر عن قتادة نحوه. ثم قال: قال معمر: وبلغنى عن على مثله.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11631)، وسعيد بن منصور في سننه (1879) من طريق عمرو بن ديار به.

ص: 46

زيدٍ، عن حفصٍ، عن الحسنِ أنه سُئِل عنها فقال: لا واللهِ ما هو بإيلاءٍ

(1)

.

حَدَّثَنَا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا بشرُ بنُ منصورٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: إذا حلَف مِن أجلِ الرَّضاعِ فليس بإيلاءٍ

(2)

.

حَدَّثَنَا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى يونُسُ، قال: سأَلْتُ ابنَ شِهابٍ عن الرجلِ يقولُ: واللهِ لا أَقْرَبُ امرأتى حتى تَفْطِمَ ولدِى. قال: لا أَعْلَمُ الإيلاءَ يَكونُ إلَّا بحلفٍ باللهِ فيما يُريدُ المرءُ أن يُضَارَّ به امرأتَه مِن اعتزالِها، ولا نَعْلَمُ

(3)

فريضةَ الإيلاءِ إلَّا على أولئك، فلا نَرَى أن هذا الذى أَقْسَم بالاعتزالِ لامرأتِه حتى تَفْطِمَ ولدَه، أَقْسَم إلَّا على أمرٍ يَتَحَرَّى به فيه الخيرَ، فلا نَرَى وجَب على هذا ما وجَب على المُؤْلِى الذى يُؤلى في الغضبِ

(4)

.

وقال آخَرون: سواءٌ إذا حلَف الرجلُ على امرأتِه ألا يُجامِعَها في فرجِها، كان حلِفُه في غضبٍ أو غيرِ غضبٍ، كلُّ ذلك إيلاءٌ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في رجلٍ قال لامرأتِه: إن غَشِيتُك حتى تَفْطِمى ولدَك فأنت طالقٌ. فترَكها أربعةَ أشهرٍ، قال: هو إيلاءٌ

(5)

.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الأعْلَي، قال: ثنا سعيدٌ، عن أبي

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1875) عن هشيم عن يونس عن الحسن نحوه.

(2)

أخرجه البيهقي في معرفة السنن (4528) من طريق ابن جريج به.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يعلم".

(4)

ذكره الحافظ في الفتح 9/ 426 عن ابن شهاب.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11633) عن سفيان به.

ص: 47

مَعْشَرٍ، عن النَّخَعيِّ، قال: كلُّ شيءٍ يَحولُ بينَه وبينَ غِشْيانِها، فترَكها حتى تَمْضِىَ أربعةُ أشهرٍ فهو داخلٌ عليه.

حَدَّثَنِي المثنَّي، قال: ثنا حبانُ

(1)

بنُ موسي، قال: ثنا ابنُ المبُارَكِ، قال: أخْبَرَنا أبو عَوانةَ، عن المغيرةِ، عن القَعْقاعِ، قال: سأَلْتُ الحسنَ عن رجلٍ تُرْضِعُ امرأتُه صبيًّا فحلَف ألا يَطَأَها حتى تَفْطِمَ ولدَها، فقال: ما أَرَى هذا بغضبٍ، وإنما الإيلاءُ في الغضبِ. قال: وقال ابنُ سِيرينَ: ما أَدْرِى ما هذا الذى يُحَدِّثون؟ إنما قال اللهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} . إلى {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فلْيَخْطُئها إن رغِب فيها

(2)

.

حَدَّثَنَا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن مَنْصورٍ، عن إبراهيمَ في رجلٍ حلَف ألا يُكَلِّمَ امرأتَه، قال: كانوا يَرَوْن الإيلاءَ في الجماعِ

(3)

.

حَدَّثَنَا أبو السائب، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: كلُّ يمينٍ منَعَت جماعًا حتى تَمْضِىَ أربعةُ أشهرٍ فهى إيلاءٌ

(4)

.

حَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعْتُ إسماعيلَ وأشْعَثَ، عن الشعبيِّ مثلَه

(5)

.

(1)

في النسخ: "حسان". وهو حبان بن موسى بن سوار السلمى. ينظر تهذيب الكمال 5/ 345.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 412 (2177) من طريق ابن المبارك به دون قول ابن سيرين، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1877)، وابن أبي شيبة 5/ 142 من طريق القعقاع به.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11613) عن الثورى به، وأخرجه (11616) عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 142 عن أبي معاوية به، وأخرجه سعيد بن منصور فى سننه (1870) من طريق الأعمش به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11612) عن الثورى عن حماد عن إبراهيم به.

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1871) من طريق أشعث به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11611، 11612)، وابن أبي شيبة 5/ 143 من طرق عن الشعبى.

ص: 48

حَدَّثَنَا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ والشعبيِّ، قالا: كلُّ يمينٍ منَعَت جِماعًا فهى إيلاءٌ

(1)

.

وقال آخَرون: كلُّ يمينٍ حلَف بها الرجلُ في مَسَاءةِ امرأتِه فهى إيلاءٌ منه منها؛ على الجِماعِ حلَف أو غيره، في رضًا حلَف أو سُخْطٍ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن خُصَيفٍ، عن الشعبيِّ، قال: كلُّ يمينٍ حالَت بينَ الرجلِ وبينَ امرأته فهى إيلاءٌ، إذا قال: واللهِ لَأُغْضِبَنَّك، واللهِ لَأَسُوءَنَّك، واللهِ لَأَضْربَنَّك. وأشباهُ هذا

(2)

.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنى أبى وشُعَيْبٌ، عن الليثِ، عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، عن ابنِ أبى ذئبٍ العامرىِّ، أن رجلًا مِن أهلِه قال لامرأتِه: إن كلَّمْتُك سنةً فأنت طالقٌ. واسْتَفْتَى القاسمَ وسالمًا، فقالا: إن كلَّمْتَها قبلَ سنةٍ فهى طالقٌ، وإن لَمْ تُكَلِّمْها فهى طالقٌ إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، قال: سمِعْتُ حمادًا قال: قلتُ لإبراهيمَ: الإيلاءُ أن يَحْلِفَ ألا يُجامِعَها، ولا يُكَلِّمَها، ولا يَجْمَعَ رأسَه [ورأسَها]

(3)

، أو لَيُغْضِبَنَّها، أو لَيَحْرِمَنَّها، أو لَيَسُوءَنَّها، قال: نعم

(4)

.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 270 إلى عبد بن حميد، وأخرجه سعيد بن منصور فى سننه (1870)، وابن أبي شيبة 5/ 143 كلاهما من طريق مغيرة عن إبراهيم وحده.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11611).

(3)

في م: "برأسها".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11602، 11614) عن سفيان به.

ص: 49

حَدَّثَنَا ابنُ المثنَّي، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سألْتُ الحكمَ عن رجلٍ قال لامرأتِه: واللهِ لَأَغِيظَنَّك. فترَكَها أربعةَ أشهرٍ، قال: هو إيلاءٌ.

حَدَّثَنَا ابنُ المثنَّي، قال: ثنا وهبُ بنُ جَريرٍ، قال: سمِعْتُ شعبةَ، قال: سأَلْتُ الحكمَ. فذكَر مثلَه.

حَدَّثَنِي المثنَّي، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حَدَّثَنِي الليثُ، [قال: ثنا يونُسُ]

(1)

، قال: قال ابنُ شِهابٍ: حَدَّثَنِي سعيدُ بنُ المسيِّبِ، أنه إن حلَف رجلٌ ألا يُكَلِّمَ امرأتَه يومًا أو شهرًا. قال: فإنا نَرَى ذلك يَكُونُ إيلاءً. وقال: إلَّا أن يَكُونَ حلَف ألا يُكَلِّمَها فكان يَمَسُّها، فلا نَرَى ذلك يَكُونُ مِن الإيلاءِ، والفَىْءُ أن يَفِئَ إلى امرأتِه فيُكَلِّمَها أو يَمَسَّها، فمَن فعَل ذلك قبل أن تَمْضِىَ الأربعةُ أشهُرٍ فقد فاء، ومن فاء بعدَ أربعةِ أشهرٍ وهى في عِدَّتِها فقد فاء وملَك امرأتَه، غيرَ أنه مضَت لها تَطْليقةٌ.

وعلَّةُ مَن قال: إنما الإيلاءُ في الغضَبِ والضِّرارِ. أن اللهَ تعالى ذكرُه إنما جعَل الأجَلَ الذى أجَّل في الإيلاءِ مَخْرَجًا للمرأةِ مِن عَضْلِ الرجلِ وضِرارِه إياها فيما لها عليه مِن حُسْنِ الصحبةِ والعِشْرةِ بالمعروفِ، وإذا لَمْ يَكُنِ الرجلُ لها عاضِلًا ولا مُضارًّا بيمينِه وحَلِفِه على تَرْكِ جِماعِها، بل كان طالبًا بذلك رِضاها، وقاضيًا بذلك حاجتَها، لَمْ يَكُنْ بيَمينِه تلك مُؤلِيًا؛ لأنه لا معنى هنالك لحِقَ

(2)

المرأةَ به مِن قِبَلِ بعلِها مَساءةٌ وسوءُ عشرةٍ، فيَجْعَلَ الأجَلَ الذى جَعَل للمؤلى

(3)

لها مخْرجًا منه.

وأما علَّةُ مَن قال: الإيلاءُ في حالِ الغضبِ والرضا سواءٌ. عُمومُ الآيةِ، وأن اللهَ تعالى ذكرُه لَمْ يَخْصُصْ مِن قولِه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "يلحق".

(3)

في النسخ: "المؤلى". والمثبت ما يقتضيه السياق.

ص: 50

أَشْهُرٍ}. بعضًا دونَ بعضٍ، بل عمَّ به كلَّ مؤلٍ ومُقْسِمٍ، فكلُّ مُقْسمٍ على امرأتِه ألا يَغْشاها مدةً هى أكثرُ مِن الأجَلِ الذى جعَل اللهُ له تربُّصَه، فمُؤْلٍ مِن امرأتِه عند بعضِهم، وعندَ بعضِهم هو مُؤْلٍ وإن كانت مدةُ يَمينِه الأجلَ الذى جُعِل له تربُّصه.

وأما علةُ مَن قال بقولِ الشَّعبيِّ والقاسمِ وسالمٍ، أن اللهَ تعالى ذكرُه جعَل الأجَلَ الذى حدَّه للمُؤلى مَخْرَجًا للمرأةِ من سوءِ عِشْرةِ

(1)

بعلِها إياها وضرارِه لها

(2)

، وليست اليمينُ عليها بألا يجامِعَها ولا يَقْرَبَها بأولى بأن تَكُونَ مِن معانى سوءِ العشرةِ والضِّرارِ مِن الحلِفِ عليها ألا يُكَلِّمَها أو يَسُوءَها أو يَغِيظَها؛ لأنَّ كلَّ ذلك ضَرَرٌ عليها، وسُوءُ عشرةٍ لها.

وأولى التأويلاتِ التى ذكَرْنا في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: كلُّ يمينٍ منَعت المُقْسِمَ الجماعَ أكثرَ مِن المدةِ التى جعَل اللهُ للمُؤلى تربُّصَها، قائلًا في غضبٍ كان ذلك أو رِضًا. وذلك للعلةِ التى ذكَرْناها قبلُ لقائِلى ذلك، وقد أتينا على فسادِ قولِ مَن خالَف ذلك في كتابِنا "كتابِ اللطيفِ" بما فيه الكفايةُ، فكرِهنا إعادتَه في هذا الموضِعِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: فإن رجَعوا إلى تَرْكِ ما حلَفوا عليه أن يَفْعَلوه بهنَّ مِن تَرْكِ جماعِهن فجامَعوهنَّ وحنِثوا في أيمانِهم، فإن اللهَ غفورٌ لِما كان منهم مِن الكذبِ في أيمانِهم بألَّا يَأْتُوهنَّ ثم أتَوْهُنَّ، ولما

(3)

سلَف منهم إليهنَّ مِن اليمينِ على ما لَمْ يَكُنْ لهم أن يَحْلِفوا عليه فحلَفوا عليه، رحيمٌ بهم

(1)

في م: "عشرتها".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بها".

(3)

في النسخ: "بما". والمثبت هو الصواب.

ص: 51

وبغيرِهم مِن عبادِه المؤمنين.

وأصلُ الفَىْءِ الرُّجوعُ مِن حالٍ إلى حالٍ، ومنه قولُه تعالى ذكرُه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . إلى قولِه: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات: 9]. يعنى: حتى تَرْجِعَ إلى أمرِ اللهِ. ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

ففاءَت ولم تَقْضِ الذى [أقبَلَت له]

(2)

ومِن حاجةِ الإنسانِ ما ليس قاضيَا

(3)

يقالُ منه: فاء فلانٌ يَفِئُ فَيْئَةً، مثلَ الجَيْئَةِ، وفَيْئًا. والفَيْئَةُ المرةُ، فأما في الظلِّ، فإنه يقالُ: فاء الظلُّ يَفئُ فُيوءًا وفَيْئًا. وقد يُقالُ: فُيوءًا. أيضًا في المعنى الأولِ، لأنَّ الفَىْءَ في كلِّ الأشياءِ بمعنى الرُّجوعِ.

وبمثلِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، غيرَ أنهم اختلَفوا فيما يَكُونُ به المُؤْلِى فائيًا، فقال بعضُهم: لا يَكُونُ فائيًا إلَّا بالجِماعِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ الرَّمْلِيُّ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي ليلي، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الفَىْءُ الجِماعُ

(4)

.

حَدَّثَنَا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، عن يزيدَ بنِ أبي

(5)

زيادِ بنِ

(6)

عن أبي الجَعْدِ، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الفَىْءُ الجِماعُ.

(1)

هو سحيم عبد بنى الحسحاس، والبيت في ديوانه ص 19.

(2)

في الديوان: "هو أهله".

(3)

في الديوان: "لاقيا".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11642) عن الثورى به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1893) من طريق ابن أبى ليلى به.

(5)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(6)

في م: "عن". وينظر تهذيب الكمال 32/ 130.

ص: 52

حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن صاحبٍ له، عن الحكمِ بنِ عُتَيْبَةَ، عن مِقْسمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُصَينٍ، عن الشعبىِّ، عن مَسْروقٍ، قال: الفَىْءُ الجِماعُ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا ابنُ أبى عَدِىٍّ، عن شعبةَ، عن حُصَينٍ، عن الشعبىِّ، عن مَسْروقٍ مثلَه.

حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيَانٍ، قال: أخبرَنا محمدُ بنُ يزيدَ، عن إسماعيلَ، قال: كان عامرٌ لا يَرَى الفَىْءَ إلا الجماعَ

(3)

.

حدَّثنا تَميمُ بنُ المنُتصِرِ، قال: أخبرَنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرَنا إسماعيلُ، عن عامرٍ بمثلِه.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن علىِّ بنِ بَذِيمةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: الفَئُ الجِماعُ

(4)

.

حدَّثنا أبو عبدِ اللهِ النَّسائىُّ، قال: ثنا إسحاقُ الأزرقُ، عن سفيانَ، عن علىِّ بنِ بَذِيمةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ مثلَه.

(1)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 138، والبغوى في الجعديات (157) من طريق شعبة به.

(2)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 139 من طريق سفيان به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1896) عن حصين به.

(3)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 138 من طريق إسماعيل به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1899) من طريق مغيرة، عن عامر.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11679) عن الثورى به.

ص: 53

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: الفَىْءُ الجِماعُ، لا عُذْرَ له إلا أن يُجامِعَ، وإن كان في سجنٍ أو في سَفَرٍ. سعيدٌ القائلُ

(1)

.

حدَّثنى محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنه قال: لا عذْرَ له حتى يَغْشَى.

حدَّثنى المثنَّى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا حمادٌ، عن حمادٍ وإياسٍ، عن الشعبىِّ، قال أحدُهما: عن مَسْروقٍ، قال: الفَىْءُ الجِماعُ. وقال الآخرُ: عن الشعبىِّ: الفَىْءُ الجِماعُ.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ في رجلٍ آلَى مِن امرأتِه ثم شغَله مَرَضٌ، قال: لا عُذْرَ له حتى يَغْشَى.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: حدَّثنى أبى، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في الرجلِ يُؤْلى مِن امرأتِه قبلَ أن يَدْخُلَ بها أو بعدَ ما دخَل بها، فيَعْرِضُ له عارضٌ يَحْبِسُه، أو لا يَجِدُ ما يَسوقُ، أنه إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ أنها أحقُّ بنفسِها.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكَمِ والشعبىِّ، قالا: إذا آلَى الرجلُ مِن امرأتِه ثم أراد أن يَفِئَ، فلا فَىْءَ إلا الجِماعُ

(2)

.

وقال آخرون: الفَىْءُ المراجعةُ باللسانِ أو القلبِ في حالِ العذرِ، وفى غيرِ حالِ العذرِ الجماعُ.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11678).

(2)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 138 عن جرير به.

ص: 54

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ وعكرمةَ أنهما قالا: إذا كان له عُذْرٌ فأَشْهَدَ فذاك له

(1)

. يعنى في رجلٍ آلَى مِن امرأتِه فشغَله مرضٌ أو طريقٌ فأَشْهَدَ على مراجعةِ امرأتِه.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن صاحبٍ له، عن الحَكَمِ، قال: تذاكَرْنا أنا والنَّخَعِىُّ ذلك، فقال النَّخَعِىُّ: إذا كان له عُذْرٌ فأَشْهَدَ فقد فاء. وقلتُ أنا: لا عُذْرَ له حتى يَغْشَى. فانْطَلَقْنا إلى أبى وائلٍ، فقال: إنى أرجو إذا كان له عُذْرٌ فأَشْهَدَ جاز.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال: إن آلَى ثم مرِض أو سُجِن أو سافر، فراجَع، فإن له عُذْرًا ألا يجامِعَ. قال: وسمِعتُ الزهرىَّ يقولُ مثلَ ذلك

(2)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا حِبانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، قال: أخبرَنا أبو عَوانةَ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في النُّفَساءِ يُؤْلِى منها زوجُها، قال: هذه في مُحارِبٍ

(3)

، سئِل عنها أصحابُ عبدِ اللهِ، فقالوا: إذا لم يَسْتَطِعْ كَفَّرَ عن يَمينِه، وأَشْهَدَ على الفَىْءِ

(4)

.

حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن أبى الشَّعثاءِ، قال: نزَل به ضيفٌ، فآلَى مِن امرأتِه فنُفِسَت، فأراد أن يَفِئَ فلم يَسْتَطِعْ أن

(1)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 138 من طريق سعيد به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11677)، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 413 (2181) عن الحسن به.

(3)

أى: في قبيلة محارب.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1901) من طريق مغيرة به.

ص: 55

يَقْرَبهَا مِن أجلِ نِفاسِها، فأتى علقمةَ فذكَر ذلك له، فقال: أليس قد فِئْتَ بقلبِك ورَضِيت؟ قال: بلى. قال: فقد فِئْتَ، هى امرأتُك

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الأعمش، عن إبراهيمَ أن رجلًا آلَى مِن امرأتِه، فولَدت قبلَ أن تَمْضِىَ أربعةُ أشهرٍ، أراد الفَيْئَةَ، فلم يَسْتَطِعْ مِن أجلِ الدمِ حتى مَضَت أربعةُ أشهرٍ، فسأل عنها علقمةَ بنَ قيسٍ، فقال: أليس قد راجَعتَها في نفسِك؟ قال: بلى. قال: فهى امرأتُك

(2)

.

حدَّثنا عِمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: أخبَرنا عامرٌ، عن الحسنِ، قال: إذا آلَى مِن امرأتِه ثم لم يَقْدِرْ أن يَغْشاها مِن عذرٍ، قال: يُشْهِدُ أنه قد فاء، وهى امرأتُه

(3)

.

حدَّثنا عِمرانُ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا عامرٌ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ بمثلِه

(4)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنى أبى، عن قتادةَ، عن عكرمةَ، قال، وحدَّثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، في قتادةَ، عن عكرمةَ، قال: إذا آلَى مِن امرأتِه فجهَد أن يَغْشاها فلم يَسْتَطِعْ، فله أن يُشْهِدَ على رَجْعَتِها.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ وعكرمةَ أنهما سئِلا عن رجلٍ آلَى مِن امرأتِه فشغَله أمرٌ، فأَشْهَد على مراجعةِ امرأتِه، قالا: إذا كان له عُذْرٌ فذاك له.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1902) عن أبى معاوية به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11675).

(3)

أخرجه سعيد بن منصور فى سننه (1904)، وابن أبى شيبة 5/ 138 من طرق عن الحسن به بنحوه.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11676) من طريق إبراهيم به.

ص: 56

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا غُنْدَرٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، قال: انْطَلَقْتُ أنا وإبراهيمُ إلى أبى الشَّعثاءِ، فحدَّث أن رجلًا مِن بنى سعدِ بنِ هَمّامٍ آلَى مِن امرأتِه فنُفِسَت فلم يَسْتَطِعْ أن يَقْرَبَها، فسأَل الأسودَ أو بعضَ أصحابِ عبدِ اللهِ، فقال: إذا أَشْهَد فهى امرأتُه.

حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا غُنْدَرٌ، قال: ثنا شعبةٌ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ أنه قال: إن كان له عُذْرٌ فأَشْهَد فذلك له. يَعْنى المُؤْلِىَ مِن امرأتِه

(1)

.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ أنه كان يحدِّثُ عن أبى الشَّعثاءِ، عن علقمةَ وأصحابِ عبدِ اللهِ أنهم قالوا في الرجلِ إذا آلَى مِن امرأتِه فنُفِسَت، قالوا: إذا أَشْهَد فهى امرأتُه.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن حمادٍ، قال: إذا آلَى الرجلُ مِن امرأتِه ثم فاء فلْيُشْهِدْ على فَيْئِه، وإذا آلَى الرجلُ مِن امرأتِه وهو في أرضٍ غيرِ الأرضِ التى فيها امرأتُه فلْيُشْهِدْ على فَيْئِه، فإن أشْهَد وهو لا يَعْلَمُ أن ذلك لا يُجزئُه مِن وقوعِه عليها، فمضَت أربعةُ أشهرٍ قبل أن يجامِعَها فهى امرأتُه، وإن علِم أنه لا فَىْءَ إلا في الجماعِ في هذا البابِ ففاء وأَشْهَد على فَيْئِه ولم يَقَعْ عليها حتى مضَت أربعةُ أشهرٍ، فقد بانَت منه.

حدَّثَنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى يونسُ، قال: قال ابنُ شهابٍ: حدَّثنى سعيدُ بنُ المسيَّبِ أنه إذا آلَى الرجلُ مِن امرأتِه، قال: فإن كان به مرَضٌ ولا يَسْتَطِيعُ أن يَمَسَّها، أو كان مسافِرًا فحُبِس، قال: فإذا فاء وكفَّرَ عن يمينِه فأَشْهَد على فَيْئِه قبل أن تَمْضِىَ أربعةُ أشهرٍ فلا نَرَاه إلا قد صلَح له أن يُمْسِكَ امرأتَه ولم يَذْهَبْ مِن طلاقِها شَىْءٌ. قال: وقال ابنُ شهابٍ في رجلٍ يُؤْلِى مِن امرأتِه

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11677) عن الثورى، عن حماد به بنحوه.

ص: 57

ولم يَبْقَ لها عليه إلا تَطْليقةٌ، فيُريدُ أن يَفئَ في آخرِ ذلك وهو مريضٌ أو مسافرٌ، أو هى مريضةٌ أو طامثٌ أو غائبةٌ، لا يقدرُ على أن يَبْلُغَها حتى تَمْضِىَ أربعةُ أشهرٍ، أله في شيءٍ مِن ذلك رخصةٌ أن يُكَفِّرَ عن يمينِه، ولم يَقْدِرْ على أن يَطَأَ امرأتَه؟ قال: نرى -واللهُ أعلمُ- إن فاء قبل الأربعةِ الأشهرِ فهى امرأتُه، بعد أن يُشْهِدَ على ذلك ويُكفِّرَ عن يمينِه، وإن لم يَبْلُغْها ذلك مِن فَيئتِه فإنه قد فاء قبلَ أن يَكُونَ طلاقًا.

حُدِّثْت عن عمارِ بنِ الحسنِ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: الفَىْءُ الجماعُ، فإن هو لم يَقْدِرْ على المجامَعةِ، وكانت به علةٌ مِن مرَضٍ، أو كان غائبًا، أو كان مُحرِمًا، أو شىْءٌ له فيه عذرٌ، ففاء بلسانِه، وأَشْهَد على الرِّضَا، فإن ذلك له فَئٌ إن شاء اللهُ.

وقال آخرون: الفَىْءُ المراجعةُ باللسانِ بكلِّ حالٍ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا الضحاكُ بنُ مَخْلَدٍ، عن سفيانَ، عن منصورٍ وحماد، عن إبراهيمَ، قال: الفَىْءُ أن يَفِئَ بلسانِه

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدَّثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، عن زيادٍ الأعلمِ، عن الحسنِ، قال: الفَىْءُ الإشهادُ

(2)

.

حدَّثَنى المُثَنَّى، قال: ثنى الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن زيادٍ الأعلمِ، عن الحسنِ مثلَه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11677) عن الثورى، عن حماد -وحده- به، وعزاه الحافظ في الفتح 9/ 426 إلى المصنف.

(2)

ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 2/ 413 عقب الأثر (2180) معلقًا.

ص: 58

أيوبَ، عن أبى قِلابةَ، قال: إن فاء في نفسِه أجْزَأَه. يَقُولُ: قد فاء

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن إسماعيلَ بنِ رجاءٍ، قال: ذكَروا الإيلاءَ عندَ إبراهيمَ، فقال: أرَأَيتَ إن لم يَنْتَشِرْ ذَكَرُه؟ إذا أَشْهَد فهى امرأتُه.

قال أبو جعفرٍ: وإنما اختلَف المختلِفون في تأويلِ الفَىْءِ على قَدْرِ اختلافِهم في معنى اليمين التى تَكُونُ إيلاءً، فمَن كان مِن قولِه: إن الرجلَ لا يَكُونُ مُؤْلِيًا مِن امرأتِه الإيلاءَ الذى ذكَره اللهُ في كتابِه إلا بالحَلِفِ عليها ألا يجامِعَها. جعَل الفَىْءَ الرجُوعَ إلى فِعْلِ ما حلَف عليه ألا يَفْعَلَه مِن جماعِها، وذلك الجِماعُ في الفَرْجِ إذا قدَر على ذلك وأمْكَنَه، وإذا لم يَقْدِرْ عليه ولم يُمْكِنْه، فإحداثَ

(2)

النيةِ أن يَفْعَلَه إذا قدَر عليه وأمْكَنَه، وإبداءَ

(3)

ما نوَى مِن ذلك بِلسانِه ليَعْلَمَه المسلمون، في قولِ مَن قال ذلك.

وأما قولُ مَن رأى أن الفَىْءَ هو الجِماعُ دونَ غيرِه، فإنه لم يَجْعَلِ العائقَ له عذرًا، ولم يَجْعَلْ له مَخْرَجًا مِن يمينِه غيرَ الرجُوعِ إلى ما حلَف على تركِه، وهو الجِماعُ.

وأما مَن كان مِن قولِه: إنه قد يَكُونُ مُؤْلِيًا منها بالحلِفِ على تركِ كلامِها، أو على أن يسوءَها، أو يَغيظَها، أو ما أشبَه ذلك مِن الأيمانِ. فإن الفَىْءَ عندَه الرُّجوعُ إلى تَرْكِ ما حلَف عليه أن يَفْعَلَه مما فيه مَساءتُها بالعزمِ على الرُّجوعِ عنه، [وإبداءُ]

(4)

ذلك بلسانِه في كلِّ حالٍ عزَم فيها على الفَىْءِ.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11681).

(2)

في م: "بإحداث".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وأبدى".

(4)

في م، ت 2، ت 3:"وأبدى".

ص: 59

وأولى الأقوالِ بالصحةِ في ذلك عندَنا قولُ مَن قال: الفَىْءُ هو الجِماعُ، لأن الرجلَ لا يَكُونُ مُؤْلِيًا عندَنا مِن امرأتِه إلا بالحَلِفِ على تَرْكِ جماعِها المدةَ التى ذكَرْنا؛ للعِلَلِ التى وصَفْنَا قبلُ، فإذ كان ذلك هو الإيلاءَ، فالفَىْءُ الذي يُبْطِلُ حُكْمَ الإيلاءِ عنه، لا شَكَّ أنه غيرُ جائزٍ أن يَكُونَ إلا ما كان للذى

(1)

آلَى عليه خِلَافًا؛ لأنه لما

(2)

جعَل حُكْمَه إن لم يَفِئْ إلى ما آلَى على تَرْكِه، الحُكْمَ الذي بَيَّنَه اللهُ لهم في كتابِه، كان الفَىْءُ إلى ذلك معلومٌ

(3)

أنه فعلُ ما آلَى على تركِه إن أطاقَه، وذلك هو الجِماعُ، غيرَ أنه إذا حِيل بينَه وبينَ الفَىْءِ -الذي هو جماعٌ- بعذرٍ، فغيرُ كائنٍ

(4)

تاركًا جماعَها على الحقيقةِ؛ لأن المرءَ إنما يَكُونُ تاركًا ما له إلى فعلِه وتركِه سبيلٌ، فأما مَن لم يَكُنْ له إلى فعلِ أمرٍ سبيلٌ، فغيرُ كائنٍ تاركَه. وإذ كان ذلك كذلك، فإحداثُ

(5)

العزمِ في نفسِه علي جِماعِها مُجْزئٌ عنه في حالِ العذرِ، حتى يَجِدَ السبيلَ إلى جِماعِها، وإن أبدى ذلك بلسانِه وأَشْهَد على نفسِه في تلك الحالِ بالأَوْبَةِ والفَىْءِ كان أعجبَ إلىَّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فإن اللهَ غفورٌ لكم فيما اجْتَرَمْتُم بفَيْئِكم إليهن مِن الحِنْثِ في اليمينِ التى حَلَفْتم عليهنّ باللهِ ألا تَغْشُوهن، رحيمٌ بكم في تخفيفِه عنكم كفارةَ أيمانِكم التى حلَفتم عليهن ثم حَنِثتم فيها.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن

(1)

في م: "الذي".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"إنما".

(3)

في م: "معلوما".

(4)

في ص، ت 1، ت 2:"جائز".

(5)

في ص، ت 1، ت 2:"وإحداث".

ص: 60

الحسنِ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال: لا كفارةَ عليه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال: إذا فاء فلا كفارةَ عليه

(1)

.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حبانُ

(2)

بنُ موسى، قال: أخبَرَنا ابنُ المباركِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: كانوا يَرَون في قولِ اللهِ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أن كفارتَه فَيْؤُه

(3)

.

وهذا التأويلُ الذي ذكَرنا هو التأويلُ الواجبُ على قولِ مَن زعَم أن كلَّ حانثٍ في يمينٍ هو في المُقامِ عليها حَرِجٌ

(4)

، فلا كفارةَ عليه في حِنْثِه فيها، وأن كفارتَها

(5)

الحنثُ فيها.

وأما على

(6)

قولِ مَن أوجَب على الحانثِ في كلِّ يمينٍ حلَف بها كفارةً

(7)

، بِرًّا كان الحِنْثُ فيها أو غيرَ بِرٍّ، فإن تأويلَه: فإن اللهَ غفورٌ للمُؤلِين مِن نسائهم فيما حَنِثُوا فيه مِن إيلائِهم، بأن

(8)

فاءوا فكَفَّرُوا أيمانَهم، بما ألزَم اللهُ الحانثين في أيمانِهم من الكفارةِ، رحيمٌ بهم، بإسقاطِه عنهم العقوبةَ في العاجلِ والآجلِ على ذلك، بتكفيرِه إياه بما فرَض عليهم من الجزاءِ والكفارةِ، وبما جعَل لهم مِن المَهْلِ الأشهرَ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11708).

(2)

في النسخ: "حماد". وتقدم التعليق عليه في ص 48.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11707) من طريق مغيرة به.

(4)

أى آثم.

(5)

في م، ت 2:"كفارته".

(6)

سقط من: ص، ت 1.

(7)

زيادة لابد منها.

(8)

في النسخ: "فإن". والمثبت صواب السياق.

ص: 61

الأربعةَ، فلم يَجْعَلْ فيها للمرأةِ التى آلَى منها زوجُها ما جَعَل لها بعدَ الأشهرِ الأربعةِ.

كما حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حبانُ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ بشرٍ أنه سمِع عكرمةَ يقولُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} . قال: وتلك رحمةُ اللهِ، ملَّكه أمرَها الأربعةَ الأشهرِ إلا من معذرةٍ؛ لأنَّ اللهَ قال:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}

(1)

[النساء: 34].

‌ذكرُ بعضِ مَن قال: إذا فاء المُؤلِى فعليه الكفارةُ

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن علىِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} : وهو الرجلُ يَحْلِفُ لامرأتِه باللهِ لا يَنْكِحُها، فَيَتَرَبَّصُ أربعةَ أشهرٍ، فإن هو نَكَحَها كفَّر يَمينَه بإطعامِ عشَرَةِ مساكينَ، أو كسوتِهم، أو تحريرِ رقبةٍ، فمن لم يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ

(2)

.

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى اللَّيْثُ، قال: ثنى يونسُ، قال: ثنى ابنُ شهابٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ بنحوِه.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حِبانُ بنُ موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، قال: إذا آلَى فغَشِيها قبلَ الأربعةِ الأشهرِ كفَّر عن يمينِه.

(1)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 412 (2173) من طريق ابن المبارك به.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 411 (2170)، والبيهقى 7/ 380، من طريق عبد الله بن صالح به، وهو مختصر عند ابن أبى حاتم إلى قوله: لا ينكحها.

ص: 62

حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبانُ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا أبو عَوانةَ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في النُّفَساءِ يُؤْلِى منها زوجُها، قال: هذه في محارِبٍ، سُئِل عنها أصحابُ عبدِ اللهِ، فقالوا: إذا لم يَسْتَطِعْ كفَّر عن يمينِه، وأشْهَد على الفَىْءِ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: إن فاء فيها كفَّر يمينَه، وهى امرأتُه

(2)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَثّامٌ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ في الإيلاءِ، قال: يُوقَفُ قبلَ أن تَمْضِىَ الأربعةُ الأشهرِ، فإن راجَعَها فهى امرأتُه وعليه يمينٌ يكفِّرُها إذا حَنِثَ

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: وهذا التأويلُ الثانى هو الصحيحُ عندَنا في ذلك؛ لِما قد بيَّنَّا مِن العللِ في كتابِنا "كتابِ الأيمانِ"، من أن الحِنْثَ موجِبٌ الكفارةَ في كلِّ ما ابتُدِئَ فيه الحنثُ مِن الأيمانِ بعد الحَلِفِ، على معصيةٍ كانت اليمينُ أو على طاعةٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} ؛

(1)

تقدم في ص 55.

(2)

عزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 270 إلى ابن حميد مطولًا، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11699) عن معمر عن قتادة، قال: يكفر وإن لم يدخل بها.

(3)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 133 من طريق الأعمش به مختصرًا.

ص: 63

فقال بعضُهم: معنى ذلك: للذين يُؤْلُون أن يَعْتَزلوا مِن نسائِهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ، فإن فاءوا فرجَعوا إلى ما أوجَب اللهُ لهنَّ من العِشْرَةِ بالمعروفِ في الأشهرِ الأربعةِ التى جعَل اللهُ لهم تَرَبُّصَهم عنهن

(1)

وعن جِماعِهن وعِشْرَتِهن في ذلك بالواجبِ، فإن اللهَ لهم غفورٌ رحيمٌ، وإن ترَكوا

(2)

الفَىْءَ إليهن

(3)

في الأشهرِ الأربعةِ التى جعَل اللهُ لهم التَّرَبُّصَ فيهن حتى يَنْقَضِين طُلِّق منهم نساؤُهم اللاتى آلَوا منهن بمُضِيِّهن. ومُضِيُّهن عندَ قائلى ذلك هو الدّلالةُ على عزمِ المُؤلِى على طلاقِ امرأتِه التى آلَى منها.

ثم اختلَف مُتَأَوِّلو هذا التأويلِ بينَهم في الطلاقِ الذي يَلْحَقُها بمُضِىِّ الأشهرِ الأربعةِ؛ فقال بعضُهم: هو تَطْلِيقةٌ بائنةٌ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن خِلاسٍ أو الحسنِ، عن علىٍّ قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ، فهى تَطْلِيقةٌ بائنةٌ.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبى، عن قتادةَ، أن عليًّا وابنَ مسعودٍ كانا يَجْعَلانِها تَطْلِيقةً، إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهى أحقُّ بنفسِها. قال قتادةُ: وقولُ علىٍّ وعبدِ اللهِ أعجبُ إلىَّ في الإيلاءِ

(4)

.

(1)

في ص، ت 1:"منهن".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"تركهم".

(3)

في م: "لليمين"، وفي ت 1، ت 2:"اليمين".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11641) عن معمر، عن قتادة به.

ص: 64

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ أن عليًّا قال في الإيلاءِ: إذا مَضَت أربعةُ أشهرٍ بانَت بتَطْلِيقةٍ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ أبى الشواربِ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا مَعْمَرٌ، عن عطاءٍ الخراسانىِّ، عن أبى سلمةَ، أن عثمانَ بنَ عفانَ وزيدَ بنَ ثابتٍ كانا يَقولان: إذا مضَت الأربعةُ الأشهرِ فهى واحدةٌ بائنةٌ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا مَعْمَرٌ، قال: أخبَرنا عطاءٌ الخُراسانىُّ، قال: سمِعنى أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ أَسْأَلُ ابنَ المسيَّبِ عن الإيلاءِ، فمرَرتُ به، فقال: ما قال لك ابنُ المسيَّبِ؟ فحَدَّثْتُه بقولِه، فقال: أفلا أُخْبِرُك ما كان عثمانُ بنُ عفانَ وزيدُ بنُ ثابتٍ يَقُولان؟ قُلْتُ: بلى. قال: كانا يَقُولان: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهى واحدةٌ وهى أحقُّ بنفسِها

(3)

.

حدَّثنا علىُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ، عن الأوزاعىِّ، عن عطاءٍ الخُراسانىِّ، قال: ثنا أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، أن عثمانَ بنَ عفانَ قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ مِن يومِ آلَى فتَطْلِيقةٌ بائنةٌ

(4)

.

حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن مَعْمَرٍ، أو حُدِّثتُ عنه، عن عطاءٍ الخراسانىِّ، عن أبى سلمةَ، عن عثمانَ وزيدٍ أنهما كانا يَقُولَان: إذا مضَت أربعةُ

(1)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 129 من طريق سعيد به.

(2)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 128، وابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 411 (2172)، والدارقطنى 4/ 62 من طريق معمر به.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11638) عن معمر به، ومن طريقه البيهقى 7/ 378.

(4)

أخرجه الدارقطنى 4/ 63 من طريق الوليد به من قول عثمان وزيد.

ص: 65

أشهرٍ فهى تَطْليقةٌ بائنةٌ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، قال: آلَى عبدُ اللهِ بن أُنَيسٍ مِن امرأتِه، فمكَثَت ستةَ أشهرٍ، فأتَى ابنَ مسعودٍ فسأله، فقال: أعْلِمْها أنها قد ملَكت أمرَها. فأتاها فأخبَرها، وأصدَقها رَطْلًا مِن وَرِقٍ

(1)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ أنه كان يقولُ في الإيلاءِ: إذا مضَت الأربعةُ الأشهرِ فهى تَطْلِيقةٌ بائنةٌ

(2)

.

حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ مثلَ ذلك

(3)

.

حدَّثنى أبو السائبِ، قال: حدَّثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: آلَى عبدُ اللهِ بنُ أُنَيسٍ مِن امرأتِه، قال: فخرَج فغاب عنها ستةَ أشهرٍ، ثم جاء فدخَل عليها، فقيل: إنها قد بانَت منك. فأتى عبدَ اللهِ فذكَر ذلك له، فقال له عبدُ اللهِ: قد بانَت منك، فأْتِها فأعْلِمْها، واخْطُبْها إلى نفسِها. فأتاها فأعْلَمَها أنها قد بانَت منه، وخطَبها إلى نفسِها، وأصْدَقها رَطلًا مِن وَرِقٍ.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ بنُ

(4)

عطاءٍ، قال: ثنا

(1)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 130 عن سفيان به.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور (1888) عن هشيم به، وأخرجه (1886) من طريق منصور، عن إبراهيم به.

(3)

أخرجه ابن أبى شيبة 5/ 128 من طريق مغيرة به.

(4)

في م: "عن". وينظر تهذيب الكمال 8/ 461.

ص: 66

داودُ، عن عامرٍ، عن ابنِ مسعودٍ أنه قال في الإيلاءِ: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهى واحدةٌ بائنةٌ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: حدثنى عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ أن رجلًا مِنْ بنى هلالٍ يُقالُ له: فلانُ بنُ أُنَيسٍ

(2)

، أو: عبدُ اللهِ بنُ أنيسٍ

(2)

، أراد مِن أهلِه ما يُريدُ الرجلُ مِن أهلِه، فأبَت، فحلَف ألا يَقْرَبَها، فطرَأ على الناسِ بَعْثٌ مِن الغدِ، فخرَج فغاب ستةَ أشهرٍ، ثم قدِم، فأتى أهلَه ما يرى أن عليه بأسًا، فخرَج إلى القومِ، فحدَّثهم بسَخَطِه على أهلِه حيثُ خرَج، وبرِضاه عنهم حينَ قدِم، فقال القومُ: فإنها قد حَرُمَت عليك. فأتَى ابنَ مسعودٍ فسأَله عن ذلك، فقال ابنُ مسعودٍ: أمَا علِمتَ أنها حَرُمَت عليك؟ قال: لا. قال: فانْطَلِقْ فاسْتَأْذِنْ عليها، فإنها ستُنْكِرُ ذلك، ثم أخْبِرْها أن يمينَك التى كُنْتَ حلَفتَ عليها صارَت طلاقًا، وأخْبِرْها أنها واحدةٌ وأنها أمْلَكُ بنفسِها، فإن شاءَت خَطَبْتَها فكانت عندَك على ثِنتين، وإلا فهى أمْلكُ بنفسِها.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ مهدىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن علىِّ بنِ بَذِيمةَ، عن أبي عُبَيدةَ، عن مَسْروقٍ، عن عبدِ اللهِ، قال في الإيلاءِ: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهى تَطْليقةٌ بائنةٌ، وتَعْتَدُّ ثلاثةَ قُروءٍ

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ مهدىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ والأعمشِ ومُغيرةَ، عن إبراهيمَ أن عبدَ اللهِ بنَ أُنَيسٍ آلَى مِن امرأتِه، فمضَت أربعةُ أشهرٍ، ثم

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه 2/ 28 (1888) من طريق داود به.

(2)

في ص: "أنس".

(3)

أخرجه البيهقى 7/ 379 من طريق سفيان الثورى به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1889) عن المسعودى عن على بن بذيمة به.

ص: 67

جامَعَها وهو نَاسٍ، فأتى علقمةَ، فذهَب به إلى عبدِ اللهِ، فقال عبدُ اللهِ: بانَت منك، فاخْطُبْها إلى نفسِها. فأصْدَقَها رَطلًا مِن فِضةٍ

(1)

.

حدَّثنى يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: ثنا أيوبُ، وحدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: حدَّثنا أيوبُ، عن أبى قِلابةَ، أن النعمانَ بنَ بَشيرٍ آلَى مِن امرأتِه، فضرَب ابنُ مسعودٍ فَخِذَه وقال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فاعْتَرِفْ بتَطْلِيقةٍ

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعتمِرُ، قال: سمِعتُ داودَ، عن عامرٍ أن ابنَ مسعودٍ قال في المُؤلى: إذا مضَتْ أربعةُ أشهرٍ ولم يَفِئْ فقد بانَت منه امرأتُه بواحدةٍ، وهو خاطبٌ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ مهديٍّ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: عَزْمُ الطلاقِ انقضاءُ الأربعةِ الأشهرِ

(4)

.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه

(5)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 6/ 459 (11667) عن سفيان به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 128 عن ابن علية، وعبد الرزاق في مصنفه (11639) من طريق أيوب به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1890) من طريق خالد عن أبي قلابة به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1888) من طريق داود به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 129، 138، وابن أبي حاتم 2/ 414 (2184)، والبيهقى 7/ 379 من طريق شعبة به. وأخرجه عبد الرزاق (11642)، وسعيد بن منصور في سننه (1893)، وفى (376 - تفسير) من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 272 الى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(5)

في ت 2: "قال: الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر".

ص: 68

[حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال]

(1)

: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عبدِ اللهِ بن أبي نجيحٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال في الإيلاءِ: إذا مضَتْ أربعةُ أشهرٍ فهي واحدةٌ بائِنةٌ

(2)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، عن جَعْفرِ بنِ بَرْقانَ، عن عبدِ الأعلى بنِ ميمونِ بنِ مهرانَ، عن عكرمةَ أنه قال: إذا مضَت الأربعةُ الأشهرِ فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ. فذكَر ذلك عن ابنِ عباسٍ.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، عن يزيدَ بنِ زيادِ بنِ

(3)

أبي الجَعْدِ، عن الحَكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ قال: عزيمةُ الطلاقِ انقضاءُ الأربعةِ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه

(4)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابنُ فُضَيلٍ

(5)

، قال: ثنا الأعمشُ، عن حَبيبٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّ أميرَ مكةَ سأَله عن المُؤْلِى، فقال: كان ابنُ عمرَ يَقولُ: إذا مضت أربعةُ أشهرٍ ملَكت أمرَها، وكان ابنُ عباسٍ يَقولُ ذلك

(6)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2.

(2)

أخرجه البيهقي 7/ 379، من طريق شعبة به.

(3)

في النسخ: "عن"، وتقدم على الصواب في ص 52.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 138 عن وكيع به.

(5)

في م، ت 2:"فضل".

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 128، عن ابن فضيل به، وأخرجه سعيد بن منصور (1892)، عن أبي معاوية عن الأعمش به. وأخرجه في (1891) عن هشيم، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس وحده.

ص: 69

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا حَفْصٌ، عن الحجاجِ، عن الحَكَمِ، عن مِقْسمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا حَفْصٌ، عن حجاجٍ، عن سالمٍ المكيِّ، عن ابنِ الحَنَفيةِ مثلَه.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أبي وشُعيبٌ، عن الليثِ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عن أبانِ بنِ صالحٍ، عن ابنِ شهابٍ، أن قَبيصةَ ابنَ ذُؤَيبٍ قال في الإيلاءِ: هي تَطْليقةٌ بائنةٌ، وتَأْتَنِفُ

(2)

العِدَّةَ، وهي أملكُ بأمرِها

(3)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن الشعبيِّ، عن شُريحٍ أنه أتاه رجلٌ فقال: إني آلَيتُ مِن امرأتى، فمضَت أربعةُ أشهرٍ قبلَ أن أفِئَ؟ فقال شُريحٌ:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . لم يَزِدْه عليها، فأتى مَسْروقًا فذكَر ذلك له، فقال: يَرْحَمُ اللهُ أبا أميةَ، لو أنَّا قلنا مثلَ ما قال، لم يُفَرِّجْ أحدٌ عنه، وإنما أتاه ليفرِّجَ عنه. ثم قال: هي تطليقةٌ بائنةٌ، وأنت خاطبٌ مِن الخُطَّابِ

(4)

.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن مُغيرةَ أنه سمِع الشعبيَّ يُحَدِّثُ أنه شَهِد شُرَيْحًا وسأَله رجلٌ عن الإيلاءِ، فقال:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية. قال: فقُمْتُ مِن عندِه، فأتَيْتُ مَسْروقًا، فقُلْتُ: يا أبا عائشةَ، وأخبَرتُه بقولِ شُرَيحٍ، فقال: يَرْحَمُ اللهُ أبا أميةَ، لو أن الناسَ كلَّهم قالوا

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 129 عن حفص به من قول ابن عباس وابن الحنفية.

(2)

استأنف الشئ وأْتنفه ائتنافا: أخذ أوله وابتدأه، وقيل: استقبله. اللسان (أ ن ف).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 129 من طريق الزهري به بنحوه.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1934، 1936) من طريق مغيرة به بنحوه.

ص: 70

مثلَ هذا، مَن كان يُفَرِّجُ عنا مثلَ هذا؟ ثم قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي واحدةٌ بائنةٌ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو داودَ، عن جَريرِ بنِ حازمٍ، قال: قرَأتُ في كتابِ أبي قِلابةَ عندَ أيوبَ: سأَلتُ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ وأبا سلمةَ بنَ عبدِ الرحمنِ فقالا: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تطليقةٌ بائنةٌ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو داودَ، عن جريرِ بنِ حازمٍ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، عن عطاءٍ، قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تطليقةٌ بائنةٌ، ويَخْطُبُها في العدةِ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعْتَمِرٌ، عن أبيه في الرجلِ يَقولُ لامرأتِه: واللهِ لا يَجْمَعُ رأسي ورأسَك شيءٌ أبدًا. ويَحْلِفُ ألا يَقْرَبَها أبدًا: فإن مضَت أربعةُ أشهرٍ ولم يَفِئْ كانت تَطْليقةً بائنةً، وهو خاطبٌ، قولُ عليٍّ وابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ والحسنِ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ أنه سُئِل عن رجلٍ قال لامرأتِه: إن قَرِبْتُك فأنت طالقٌ ثلاثًا. قال: فإذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ، وسقَط ذلك

(4)

.

حدَّثنا سَوَّارٌ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضلِ، وحدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وكيعٌ، جميعًا عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، قال: سمِعتُ الحسنَ ومحمدًا في الإيلاءِ قالا: إذا

(1)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 236 عن محمد بن جعفر به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 130 عن أبي داود به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 131 عن أبي داود به.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 412 عقب الأثر (2174) معلقا.

ص: 71

مضَت أربعةُ أشهرٍ فقد بانَت بتَطْليقةٍ بائنةٍ، وهو خاطبٌ مِن الخُطَّابِ

(1)

.

حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن ابنِ عونٍ، عن محمدٍ، قال: كنا نَتَحَدَّثُ في الأَلِيَّةِ أنها إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ، فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَثَّامٌ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ في الإيلاءِ قال: إن مضَت - يَعْنى أربعةَ أشهرٍ - بانَت منه

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن قتادةَ، عن النَّخَعِيِّ، قال: إن قَرِبَها قبلَ الأربعةِ الأشهرِ فقد بانَت منه بثلاثٍ، وإن ترَكها حتى تَمْضِىَ الأربعةُ الأشهرِ بانَت منه بالإيلاءِ. في رجلٍ قال لامرأتِه: أنت طالقٌ ثلاثًا إن قَرِبتُك سنةً.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن قتادةَ، قال: أعْتَمَ

(3)

عبيدُ اللهِ بنُ زيادٍ عند هندٍ في ليلةِ أمِّ عثمانَ ابنةِ عمرَ بنِ عبيدِ اللهِ، فلما أتاها أمرَت جَواريَها فأَغْلَقْن الأبوابَ دونَه، فحلَف ألا يأتِيَها حتى تَأْتِيَه، فقيل له: إن مضَت أربعةُ أشهرٍ ذهبَت منك.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عوفٌ، قال: بلَغنى أن الرجلَ إذا آلَى مِن امرأتِه فمضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ، ويَخْطُبُها إن شاء.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} : في الذي

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 130 عن وكيع به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 129، 130 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن إبراهيم به.

(3)

أعتم: أبطأ. وأعتم الليل: إذا مرَّ قطعة منه. اللسان (ع ت م).

ص: 72

يُقْسِمُ، وإن مضَت الأربعةُ الأشهرِ فقد حرُمت عليه، فتَعْتَدُّ عِدَّةَ

(1)

المطلقةِ، وهو أحدُ الخُطابِ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ، عن قَبيصةَ بنِ ذُؤَيبٍ، قال: إذا مضَت الأربعةُ الأشهرِ فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ

(2)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : وهذا في الرجلِ يُؤْلِى مِن امرأتِه ويَقُولُ: واللهِ لا يَجْتَمِعُ رأسي ورأسُكِ، ولا أَقْرَبُك، ولا أغْشَاك.

فكان أهلُ الجاهليةِ يَعُدُّونَه طلاقًا، فحَدَّ اللهُ لهما أربعةَ أشهرٍ، فإن فاء فيها كفَّر يمينَه وهي امرأتُه، وإن مضَت أربعةُ أشهرٍ ولم يَفِئْ فهي تَطْليقةٌ بائنةٌ، وهي أحقُّ بنفسِها، وهو أحدُ الخُطابِ.

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ مثلَه.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} . قال: كان ابنُ مسعودٍ وعمرُ بنُ الخطابِ يقولان: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي طالقٌ بائنةٌ، وهي أحقُّ بنفسِها

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو وهبٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} الآية: هو الذي يَحْلِفُ ألا يَقْرَبَ امرأتَه، فإن مضَت أربعةُ أشهرٍ ولم يَفِئْ ولم يُطَلِّقْ، بانَت منه بالإيلاءِ، فإن رجَعت إليه فمَهْرٌ جديدٌ، ونكاحٌ ببَيِّنةٍ، ورِضًا مِن الوليِّ

(4)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 3:"عنده".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11651) عن معمر به، وتقدم في ص 70.

(3)

أخرجه البيهقي 7/ 380 من طريق عمرو به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المولى".

ص: 73

وقال آخرون: بل الذي يَلْحَقُها: بمُضىَّ الأربعةِ الأشهرِ تَطْليقةٌ يَمْلِكُ فيها الزوجُ الرَّجْعَةَ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا مالكٌ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ وأبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، قالا: إذا آلَى الرجلُ مِن امرأتِه فمضَت أربعةُ أشهرٍ، فواحدةٌ وهو أمْلكُ لرَجْعَتِها

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن مالكٍ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تَطْليقةٌ يَمْلِكُ الرَّجعةَ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بنِ أميةَ، عن مكحولٍ، قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تَطْليقةٌ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ

(3)

.

حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ، عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ، قال: هي واحدةٌ وهو أحَقُّ بها - يعني إذا مضَت الأربعةُ الأشهرِ - وكان الزهريُّ يُفْتى بقولِ أبي بكرٍ هذا

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا الليثُ، قال: ثنى يونسُ، قال: قال ابنُ شهابٍ: حدَّثني سعيدُ بنُ المسيَّبِ أنه قال: إذا آلَى الرجلُ مِن امرأتِه فمضَت الأربعةُ الأشهرِ قبلَ أن يَفِيءَ فهي تَطْليقةٌ، وهو أملكُ بها ما كانت في عِدَّتِها.

(1)

الموطأ 2/ 557، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 130، عن ابن إدريس به.

(2)

الموطأ ص 181 (579) برواية محمد بن الحسن بأطول من هذا.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 130 عن ابن مهدي به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11654) عند الثوري به.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11651) عن معمر به بنحوه، وفي (11651) عن ابن جريج، عن الزهري به.

ص: 74

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا أبو يونسَ القويُّ، قال: قال لي سعيدُ بنُ السيَّبِ: ممن أنت؟ قال: قُلْتُ: من أهلِ العراقِ. قال: لعلك ممَّن يَقُولُ: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فقد بانَت. لا، ولو مَضَت أربعُ سنينَ.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حجاجُ بنُ رِشْدين، قال: ثنا عبدُ الجبارِ بنُ عمرَ، عن ربيعةَ أنه قال في الإيلاءِ: إذا مَضَت أربعةُ أشهرٍ فهي تَطْليقةٌ، وتَسْتَقْبِلُ عِدَّتَها، وزوجُها أحَقُّ برجْعَتِها.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: كان ابنُ شُبْرُمةَ يَقولُ: إذا مَضَت أربعةُ أشهرٍ فله الرجعةُ. ويُخاصِمُ بالقرآنِ، ويَتَأَوَّلُ هذه الآيةَ:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} ثم نزع {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(1)

.

حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: قال أبو عمرٍو: نحنُ في ذلك - يَعْنى في الإيلاءِ - على قولِ أصحابِنا؛ الزهريِّ ومكحولٍ: أنها تَطْليقةٌ - يَعْنى مُضِىَّ الأربعةِ الأشهرِ - وهو أمْلَكُ بها في عِدَّتِها.

وقال آخرون: معنى قولِه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} إلى قولِه: {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} على الاعتزالِ مِن نسائِهم تَّنَظُّرُ أربعةِ أشهرٍ بأمرِه وأمرِها، {فَإِنْ فَاءُوا} بعدَ انقِضاءِ الأشهرِ الأربعةِ إليهن، فرجَعوا إلى عِشْرَتِهن بالمعروفِ، وتَرْكِ هِجرانِهن، وأتَوْا إلى غِشْيانِهن وجِماعِهن {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} فأحدَثوا لهنَّ طلاقًا بعدَ الأشهرِ الأربعةِ، {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لطلاقِهم إياهنَّ، {عَلِيمٌ} بما فعَلوا بهنَّ مِن إحسانٍ وإساءةٍ.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 412 عقب الأثر (2174) معلقا.

ص: 75

وقال مُتَأوِّلو هذا التأويلِ: مُضِىُّ الأشهرِ الأربعةِ يُوجِبُ للمرأةِ المطالبةَ على زوجِها المُؤْلى منها بالفَيْءِ أو الطلاقِ، ويَجِبُ على السلطانِ أن يَقِفَ الزوجَ على ذلك، فإن فاء أو طلَّق، وإلا طلَّق عليه السلطانُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: أخبَرنا المُثَنَّى بنُ الصَّبَّاحِ، عن عمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أن عمرَ قال في الإيلاءِ: لا شيْءَ عليه حتى يُوقَفَ، فيُطَلِّقَ أوُ يُمْسِكَ.

حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ شَبُّويَه، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: ثنا يحيى بنُ أيوبَ، عن المُثَنَّى، عن عمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، عن عمرَ بنِ الخطابِ مثلَه.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا غُنْدَرٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جُبيرٍ يُحَدِّثُ عن عمرَ بنِ الخطابِ أنه قال في الإيلاءِ: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ لم يَجْعَلْه شيئًا

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ الرَّفاعيُّ، قال: ثنا ابنُ عُيَينةَ، عن الشيبانيِّ، عن الشعبيَّ، عن عمرِو بنِ سلمةَ، عن عليٍّ أنه كان يَقِفُ المُؤْلىَ بعدَ الأربعةِ الأشهرِ حتى يَفِيءَ أو يُطَلِّقَ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن الشيبانيِّ، عن الشعبيِّ، عن

(1)

أخرجه ابن حزم في المحلى 11/ 248 من طريق غندر به.

(2)

أخرجه الشافعي في الأم 5/ 265 - ومن طريقه البيهقي 7/ 377 - وابن أبي شيبة 5/ 131، وسعيد بن منصور في سننه (1906) عن ابن عيينة به.

ص: 76

عمرِو بنِ سلمةَ، عن عليٍّ، قال في الإيلاءِ: يُوقَفُ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن الشيبانيِّ، عن بُكَيرِ بنِ الأخْنَسِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ أبي ليلى، عن عليٍّ أنه كان يَقِفُه

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن الشيبانيِّ، عن بُكَيرِ بنِ الأخْنَسِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ أبي ليلى، [عن عليٍّ أنه كان يُوقِفُه]

(3)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ، عن مَرْوانَ بنِ الحكمِ، عن عليٍّ، قال: يُوقَفُ المُؤْلِى عندَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهرِ حتى يَفِيءَ أو يُطَلِّقَ. قال أبو كريبٍ، قال ابنُ إدريسَ: وهو قولُ أهل المدينةِ

(4)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا ابنُ فضيلٍ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ، عن مروانَ، عن عليٍّ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، مال: ثنا سفيانُ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ، عن مرْوانَ بنِ الحَكَمِ، عن عليٍّ، قال: المُؤْلى إما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ

(5)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن مِسْعَرٍ، عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عن طاوسٍ، أن عثمانَ كان يقِفُ المُؤْلىَ بقولِ أهلِ المدينةِ

(6)

.

(1)

أخرجه الدارقطني 4/ 61 من طريق يحيى وابن مهدي، عن سفيان به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 131 عن وكيع به، وأخرجه الشافعي في الأم 5/ 265 عن سفيان به، وسعيد بن منصور في سننه (1909) من طريق الشيباني به.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"في الإيلاء قال يوقف". والأثر أخرجه الدارقطني 4/ 61 - ومن طريقه البيهقي 7/ 377 - من طريق يحيى وابن مهدي عن سفيان به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 131 عن ابن إدريس به، وعن شريك، عن ليث به.

(5)

أخرجه الشافعي في الأم 5/ 265 - ومن طريقه البيهقي 7/ 377 - وسعيد بن منصور في سننه (1907) عن سفيان به.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 132 عن وكيع به، وأخرجه الشافعي في الأم 5/ 265 - ومن طريقه البيهقي 7/ 377 - والدارقطني 4/ 62 من طريق سفيان عن مسعر به.

ص: 77

حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن حبيبِ بنٍ أبي ثابتٍ، قال: لقِيتُ طاوسًا فسألتُه، فقال: كان عثمانُ يَأخُذُ بقولِ أهلِ المدينةِ.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ ابنِ المسيَّبِ، عن أبي الدرداءِ أنه قال: ليس له أجلٌ، وهي معصيةٌ، يُوقَفُ في الإيلاءِ، فإما أن يُمْسِكَ وإما أن يُطَلِّقَ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، أن أبا الدرداءِ قال في الإيلاءِ: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ فإنه يُوقَفُ، إما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن قتادةَ، عن سعيدِ ابنِ المسيَّبِ، أن أبا الدرداءِ كان يقولُ: هي معصيةٌ، ولا تَحْرُمُ عليه امرأتُه بعدَ الأربعةِ الأشهرِ، ويُجْعَلُ عليها العدةُ بعدَ الأربعةِ الأشهرِ.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، أن أبا الدرداءِ وسعيدَ بنَ المسيَّبِ قالا: يُوقَفُ عندَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهرِ، فإما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ، ولا يَزال مُقيمًا على معصيةٍ حتى يَفِيءَ أو يُطَلِّقَ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ، أن أبا الدرداءِ وعائشةَ قالا: يُوقَفُ المُؤْلى عندَ انقضاءِ الأربعةِ، فإما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ

(2)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 134، وسعيد بن منصور في سننه (1917)، والبيهقي 7/ 378، من طريق قتادة به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11658) عن معمر به.

ص: 78

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أبي الدرداءِ وسعيدِ بنِ المسيَّبِ نحوَه.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ

(1)

إدريسَ، قال: ثنا الحسنُ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قال: قالت عائشةُ: يُوقَفُ عندَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهرِ، فإما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ.

قال: قُلْتُ: أنتَ سمِعتَها؟ قال: لا تُبَكِّتْنِى

(2)

.

حدَّثنا [أبو مسلمٍ إبراهيمُ]

(3)

بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا عمرانُ بنُ ميسرةَ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا حسنُ بنُ الفراتِ بإسنادِه عن عائشةَ مثلَه.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا عبدُ الجبارِ بن الوَرْدِ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، عن عائشةَ مثلَه.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى عُبَيدُ

(4)

اللهِ بنُ عمرَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه، عن عائشةَ أنها قالت: إذا آلى الرجلُ ألا يمسَّ امرأتَه، فمضَت أربعةُ أشهرٍ، فإما أن يُمْسِكَها كما أمَره اللهُ وإما أن يُطَلِّقَها، لا يُوجِبُ عليه الذي صنَع طلاقًا ولا غيرَه

(5)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني يونسُ بنُ يزيدَ وناجيةُ بنُ بكرٍ وابن أبي الزنادِ، عن أبي الزنادِ، قال: أخبَرني القاسمُ بنُ محمدٍ: أن خالدَ بنَ العاصِ المخزوميَّ كانت عندَه ابنةُ أبي سعيدِ بنِ هشامٍ، فكان يَحْلِفُ فيها مِرارًا كثيرةً

(1)

في النسخ: "أبو". وتقدم على الصواب.

(2)

التبكيت: استقبال الرجل بما يكره. ينظر اللسان (ب ك ت). والأثر أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 132 من طريق الحسن به بنحوه.

(3)

في م: "إبراهيم بن مسلم".

(4)

في النسخ: "عبد". والمثبت من سنن البيهقي.

(5)

أخرجه البيهقي 7/ 378 من طريق عبيد الله بن عمر به.

ص: 79

ألا يَقْرَبَها الزمانَ الطويلَ، قال: فسمِعتُ عائشةَ تَقُولُ له: ألا تَتَّقى اللهَ يا بنَ

(1)

العاصِ في ابنةِ أبي سعيدٍ؟ أما تَحْرَجُ، أما تَقْرَأُ هذه الآيةَ التي في سورةِ "البقرةِ"؟ قال: فكأنها تُؤَثِّمُه، ولا تَرَى أنه فارَق أهلَه

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن عبيدِ اللهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ أنه قال في المُؤْلى: لا يَحِلُّ له إلا ما أحَلَّ اللهُ له؛ إما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ

(3)

.

حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبَرنا عبدُ اللهِ بنُ نميرٍ، قال: أخبَرنا عبيدُ اللهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ نحوَه.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: لا يَجُوزُ للمُؤْلِى ألا يَفْعَلَ ما أمَره اللهُ - يَقُولُ: يُبَيِّنُ رَجْعَتَها، أو يُطَلِّقُ عندَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهر - يُبَيِّنُ رَجْعَتَها أو يُطَلِّقُ. قال أبو كريبٍ: قال ابنُ إدريسَ: وزاد فيه: وراجعْتُه فيه، فقال قولًا معناه، أن له الرَّجْعَةَ

(4)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، سال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، عن سعيدِ ابنِ جبيرٍ أن عمرَ قال نحوًا مِن قولِ ابنِ عمرَ

(5)

.

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا جَريرُ بنُ حازمٍ، قال: أخبَرنا نافعٌ أن ابنَ عمرَ قال في الإيلاءِ: يُوقَفُ عندَ الأربعةِ الأشهرِ.

(1)

بعده في النسخ: "أبي". ينظر أسد الغابة 2/ 100.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11660)، وسعيد بن منصور في سننه (1913) من طريق أبي الزناد به بنحوه.

(3)

أخرجه مالك 2/ 556، والشافعي في الأم 5/ 265، والبخاري (5291)، وسعيد ابن منصور في سننه (1911) من طريق نافع به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 132 عن ابن إدريس به.

(5)

تقدم في ص 76.

ص: 80

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ أنه قال: إذا آلى الرجلُ ألَّا يَمَسَّ امرأتَه فمضَت أربعةُ أشهرٍ، فإما أنْ يُمْسِكَها كما أمَره اللهُ وإما أن يُطَلِّقَها، ولا يُوجِبُ عليه الذي صنَع طلاقًا ولا غيرَه.

حَدَّثَنَا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابنُ عُيَيْنةَ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: سأَلتُ ابنَ عمرَ عن الإيلاءِ فقال: الأمراءُ يَقْضُون بذلك

(1)

.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: يُوقَفُ المُؤْلى بعدَ انقضاءِ الأربعةِ، فإما أن يُطَلِّقَ وإما أن يَفِيءَ

(2)

.

حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ شَبُّويَه، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: ثنا يحيى ابنُ أيوبَ، عن عبيدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن سهيلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيه، قال: سأَلتُ اثْنَيْ عشَر رجلًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الرجلِ يُؤْلِى مِن امرأتِه، فكلُّهم يَقولُ: ليس عليه شيءٌ حتى تَمْضِيَ الأربعةُ الأشهرِ فيُوقَفَ؛ فإن فاء وإلا طلَّقَ

(3)

.

حَدَّثَنَا ابنُ المثني، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ في الرجلِ يُؤْلِى مِن امرأتِه، قال: كان لا يَرَى أن تدخُلَ عليه فُرْقَةٌ حتى يُطَلِّقَ

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 132 عن ابن عيينة به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11661).

(3)

أخرجه الدارقطني 4/ 61 - ومن طريقه البيهقي 7/ 377 - من طريق ابن أبي مريم به.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1882، 1883) من طريق داود به. (تفسير الطبري 4/ 6)

ص: 81

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن داودَ، عن سعيدِ ابنِ المسيَّبِ في الإيلاءِ إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ: إنما جعَله اللهُ وقتًا لا يَحِلُّ له أن يُجَاوِزَ حتى يَفِيءَ أو يُطَلِّقَ، فإن جاوَز فقد عصَى اللهَ، لا تَحْرُمُ عليه امرأتُه.

حَدَّثَنَا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابنُ فُضَيلٍ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، قال: إذا مضَت أربعةُ أشهرٍ، فإما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ

(1)

.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ المُثَنَّى وابنُ بشارٍ، قالا: ثنا عبدُ الأعلي، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن ابنِ المسيَّبِ في الإيلاءِ: يُوقَفُ عندَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهرِ، فإما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ.

حَدَّثَنَا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن معمرٍ، أو حُدِّثتُ

(2)

عنه، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، قال: سأَلتُ ابنَ المسيَّبِ عن الإيلاءِ، فقال: يُوقَفُ.

حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيي، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابنِ المسيبِ، وعن ابنِ طاوسٍ، عن أبيه، قالا: يُوقَفُ المُؤْلى بعدَ انقضاءِ الأربعةِ، فإما أن يَفِيءَ وإما أن يُطَلِّقَ

(3)

.

حَدَّثَنَا عليُ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: حَدَّثَنِي مالكُ بنُ أنسٍ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ وأبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 133 عن ابن فضيل به.

(2)

في م: "حدثته".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11655) عن معمر به، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 132 وسعيد بن منصور في سننه (1939) عن سفيان بن عيينة عن ابن طاووس به.

ص: 82

مثلَ ذلك. يَعْنِي مثلَ قولِ عمرَ بنِ الخطابِ في الإيلاءِ: لا شيْءَ عليه حتى يُوقَفَ فيُطَلِّقَ أوُ يُمْسِكَ

(1)

.

حَدَّثَنَا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ أنه قال في الإيلاءِ: يُوقَفُ

(2)

.

حَدَّثَني محمدُ بنُ عمرٍو قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، وحَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: حَدَّثَنَا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} . قال: إذا مَضى أربعةُ أشهرٍ أُخِذَ فيُوقَفُ حتى يُراجِعَ أهلَه أو يُطَلِّقَ

(2)

.

حَدَّثَنَا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابنُ عُيَيْنةَ

(3)

، عن أيوبَ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ أن مروانَ وَقَفَه بعدَ ستةِ أشهرٍ

(4)

.

حَدَّثَنَا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ في الإيلاءِ، قال: يُوقَف عندَ الأربعةِ الأشهرِ حتى يَفِيءَ أو يُطَلِّقَ

(5)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: حدثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} : هو الرجلُ يَحْلِفُ لامرأتِه باللهِ لا يَنْكِحُها، فَيَتَرَبَّصُ أربعةَ أشهرٍ، فإن هو نَكحها كفَّر عن يمينِه، فإن

(1)

الموطأ 2/ 557.

(2)

تفسير مجاهد ص 235، وأخرجه سعيد في سننه (1940)، وابن أبي شيبة 5/ 132، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 412 (2176)، كلهم من طريق ابن أبي نجيح به.

(3)

في ت 2: "قتيبة".

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1916) عن ابن عيينة، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11665) عن مالك ومعمر وابن عيينة به.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 132 من طريق عبد الوهاب به مختصرا.

ص: 83

مضَت أربعةُ أشهرٍ قبلَ أن يَنْكِحَها أجبَره

(1)

السلطانُ، إما أن يَفِيءَ فيراجِعَ، وإما أن يَعْزِمَ فيُطَلِّقَ، كما قال اللهُ سبحانَه

(2)

.

حَدَّثَنَا موسى بنُ هارونَ، مَال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} الآية. قال: كان عليٌّ وابنُ عباسٍ يقولان: إذا آلى الرجلُ مِن امرأتِه، فمضَت الأربعةُ الأشهرِ فإنه يُوقَفُ، فيُقالُ له: أمسَكْتَ أو طَلَّقْتَ؟ فإن أمْسَكَ فهي امرأتُه، وإن طلَّق فهي طالِقٌ

(3)

.

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} . قال: هو الرجلُ يَحْلِفُ ألا يُصيبَ امرأتَه كذا وكذا، فجعَل اللهُ له أربعةَ أشهرٍ يَتَرَبَّصُ بها. وقال: قولُ اللهِ تعالى ذكرُه: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} . يَتَرَبَّصُ بها، {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . فإذا رفَعَتْه إلى الإمامِ ضرَبَ له أجلَ أربعةِ أشهرٍ، فإن فاء وإلا طَلَّقَ عليه، فإن لَمْ تَرْفَعْه فإنما هو حقٌّ لها تَرَكَتْه.

حَدَّثَنِي يونسُ قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، عن مالكٍ، قال: لا يَقَعُ على المُؤْلِى طلاقٌ حتى يُوقَفَ، ولا يَكُونُ مُؤْلِيًا حتى يَحْلِفَ على أكثرَ مِن أربعةِ أشهرٍ، فإذا حلَف على أربعةِ أشهرٍ فلا إيلاءَ عليه؛ لأنَّه يُوقَفُ عندَ الأربعةِ الأشهرِ، وقد سقَطت عنه اليمينُ، فذهَب الإيلاءُ

(4)

.

حَدَّثَنِي يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، عن ابنِ زيدٍ، قال: قال ابنُ عمرَ: حتى

(1)

في ص، ت 2:"أخبره".

(2)

تقدم تخريجه في ص 62.

(3)

أخرجه البيهقي 7/ 380 من طريق عمرو به.

(4)

ينظر الموطأ 2/ 557، 558.

ص: 84

يُرفَعَ إلى السلطانِ، وكان أبي يَقولُ ذلك، ويَقولُ: لا واللهِ وإن مضَت أربعُ سنين حتى يُوقَفَ.

حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا فِطْرٌ، قال: قال محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظِيُّ وأنا معه: لو أن رجلًا إلى مِن امرأتِه أربعَ سِنينَ لم نُبِنْها

(1)

منه حتى نَجْمَعَ بينَهما، فإن فاء فاء، وإن عزَم الطلاقَ عزَم

(2)

.

حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ الماجِشونُ، عن داودَ ابنِ الحصيِن، قال: سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يَقولُ: يُوقَفُ إذا مضَت الأربعةُ

(3)

.

وقال آخرون: ليس الإيلاءُ بشيءٍ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال. سأَلتُ ابنَ المسيَّبِ عن الإيلاءِ، فقال: ليس بشيءٍ

(4)

.

حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: حَدَّثَنِي جعفرُ بنُ بُرْقانَ، عن ميمونِ بنِ مِهرانَ، قال: سأَلتُ ابنَ عمرَ عن رجلٍ آلى مِن امرأتِه، فمضَت أربعةُ أشهرٍ فلم يَفِئْ إليها، فتلا هذه الآيةَ:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} . الآية.

(1)

في م: "نكنها"، وفي ت 2:"يكن"، وفي ت 1، ت 3:"يكنها".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 133 من طريق فطر به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 133 من طريق القاسم به.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1881)، وابن أبي شيبة 5/ 133 من طريق عمرو به.

ص: 85

حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، قال: أرسَلْتُ إلى عطاءٍ أسْأَلُه عن المُؤْلِى، فقال: لا عِلْمَ لي به. وقال آخرون مِن أهلِ هذه المقالةِ: بل معنى قولِه: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} : وإن امتنعوا مِن الفَيْئَةِ بعدَ استيقافِ الإمامِ إيَّاهم على الفَيْءِ أو الطلاقِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: يُوقَفُ المُؤْلى عندَ انقضاءِ الأربعةِ، فإن فاء جعَلها امرأتَه، وإن لَمْ يَفِئْ جعَلها تطليقةً بائنةً.

حَدَّثَنَا أبو هشامٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: يُوقَفُ المُؤْلى عندَ انقضاءِ الأربعةِ، فإن لَمْ يَفِئْ، فهي تطليقةٌ بائنةٌ

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وأشبهُ هذه الأقوالِ بما دلَّ عليه ظاهرُ كتابِ اللهِ تعالى ذكرُه، قولُ عمرَ بنِ الخطابِ وعثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهم ومَن قال بقولِهم في الطلاقِ، أن قولَه:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . إنما معناه: فإن فاءوا بعدَ وَقْفِ الإمامِ إيَّاهم مِن بعدِ انقضاءِ الأشهرِ الأربعةِ، فرجَعوا إلى أداءِ حقِّ اللهِ عليهم لنسائِهم اللاتى آلَوا منهن فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ، وإن عزَموا الطلاقَ فطَلَّقُوهنَّ، فإن اللهَ سميعٌ لطلاقِهم إذا طلقَّوا، عليمٌ بما أتَوا إليهن.

وإنما قلنا: ذلك أشبهُ بتأويلِ الآيةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكرُه ذكَر حينَ قال: {وَإِنْ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 133، عن وكيع به.

ص: 86

عَزَمُوا الطَّلَاقَ} - {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . ومعلومٌ أن انقضاءَ الأشهرِ الأربعةِ غيرُ مسموعٍ، وإنما هو معلومٌ، فلو كان عَزْمُ الطلاقِ انقضاءَ الأشهرِ الأربعةِ، لَمْ تَكُنِ الآيةُ مختومةً بذكرِ اللهِ الخبرَ عن اللهِ تعالى ذكرُه أنه سميعٌ عليمٌ، كما أنه لَمْ يَخْتِمِ الآيةَ التي ذكَر فيها الفَيْءَ إلى طاعتِه - في مراجعةِ المُؤْلِى زوجتَه التي آلَى منها وأداءِ حقِّها إليها - بذكرِ الخبرِ عن أنه شديدُ العقابِ، إذ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ وعيدٍ على معصيةٍ، ولكنه ختَم ذلك بذكرِ الخبرِ عن وصفِه نفسَه، تعالى ذكرُه، بأنه غفورٌ رحيمٌ، إذ كان موضعَ وَعْدِ المنيبِ على إنابتِه إلى طاعتِه، فكذلك ختَم الآيةَ التي فيها ذِكْرُ القولِ والكلامِ بصفةِ نفسِه؛ بأنه للكلامِ سميعٌ وبالفعلِ عليمٌ، فقال تعالى ذكرُه: وإن عزَم المُؤْلُون على نسائِهم على طلاقِ من آلَوا منه مِن نسائِهم، فإن اللهَ سميعٌ لطلاقِهم إيَّاهن إن طلَّقُوهنَّ، عليمٌ بما أتَوا إليهنَّ مما يَحِلُّ لهم ويَحْرُمُ عليهم.

وقد استَقْصَيْنَا البيانَ عن الدَّلالةِ على صحةِ هذا القولِ في كتابِنا "كتابِ اللطيفِ مِن البيانِ عن أحكامِ شرائِعِ الدينِ" فكرِهنا إعادتَه في هذا الموضعِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} .

يعني تعالى ذكرُه: والمطلقاتُ اللواتي طُلِّقْن بعدَ ابْتِناءِ أزواجِهن بهنَّ وإفضائِهم إليهن، إذا كُنَّ ذواتِ حيضٍ وطُهْرٍ، يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن عن نكاحِ الأزواجِ ثلاثةَ قُرُوءٍ.

واختلَف أهل التأويل في تأويلِ القُرْءِ الذي عَناه اللهُ بقولِه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، فقال بعضُهم: هو الحَيْضُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي

ص: 87

نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . قال: حِيَضٍ

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أي: ثلاثَ حِيَضٍ، يَقُولُ: تَعْتَدُّ ثلاثَ حِيَضٍ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا همامٌ بن يحيى، قال: سمِعت قتادةَ نى قولِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . يَقُولُ: جعَل عِدَّةَ المطلقاتِ ثلاثَ حِيَضٍ، ثم نُسِخَ منها المطلقةُ التي طُلِّقَت قبلَ أن يُدْخَلَ بها

(3)

، واللائي يَئِسنَ مِن المحيضِ، واللائي لم يَحِضْنَ، والحاملُ

(4)

.

حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ، قال: القُروءُ

(5)

الحِيَضُ

(6)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . قال: ثلاثَ حِيَضٍ

(7)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 235، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 415 (2189).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 415 عقب الأثر (2189) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

بعده في م: "زوجها".

(4)

ذكره النحاس في ناسخه ص 211 عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 274 إلى عبد بن حميد.

(5)

في ص: "القرء".

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 161 من طريق جويبر به.

(7)

أخرجه البيهقي 7/ 417، 418 من طريق حجاج به.

ص: 88

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قال عمرُو بنُ دينارٍ: الأقْرَاءُ الحِيَضُ، عن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن رجلٍ سمِع عكرمةَ، قال: الأقراءُ الحيَضُ، وليس بالطُّهْرِ، قال اللهُ تعالى ذكرُه:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. ولم يَقُلْ: لقُروئِهنَّ

(2)

.

حدَّثنا يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا جويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . قال: ثلاثَ حِيَضٍ.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} : أما {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فثلاثَ حِيَضٍ

(3)

.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ، أنه رُفِع إلى عمرَ، فقال لعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: لتقولنَّ فيها. فقال: أنت أحقُّ أن تقولَ. قال: لتَقُولَنَّ. قال: أقُولُ: إن زوجَها أحقُّ بها ما لم تَغْتَسِلْ من الحَيْضَةِ الثالثةِ. قال: ذاك رَأْيِي وَافَقْتَ ما في نَفْسي. فقضَى بذلك عمرُ

(4)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10992) - ومن طريقه البيهقي 7/ 418 - عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 274.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10993) عن معمر به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 415 عقب الأثر (2189) من طريق عمرو به.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10988، 10989)، والبيهقي 7/ 417.

ص: 89

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن أبي معْشَرٍ، عن النخعيِّ، عن قتادةَ، أن عمرَ بنَ الخطابِ قال لابنِ مسعودٍ. فذكَر نحوَه.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيي، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن أبي معشرٍ، عن النخعيِّ، أن عمرَ بنَ الخطابِ وابنَ مسعودٍ قالا: زوجُها أحقُّ بها ما لم تَغْتَسِلْ. أو قالا: تَحِلَّ لها الصلاةُ.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ، قال: ثنا مَطَرٌ، أن الحسنَ حَدَّثهم؛ أن رجلًا طلَّق امرأتَه ووكَّل بذلك رجلًا مِن أهلِه، أو إنسانًا مِن أهلِه، فغفَل ذلك الذي وكَّله بذلك حتى دخَلت امرأتُه في الحيضَةِ الثالثةِ، وقرَّبت ماءَها لتَغْتَسِلَ، فانطَلَق الذي وكِّل بذلك إلى الزوجِ، فأقبَل الزوجُ وهي تُريدُ الغسلَ، فقال: يا فلانةُ. قالت: ما تشاءُ؟ قال: إني قدْ راجعتُك.

قالت: واللهِ ما لكَ ذلك. قال: بلَى واللهِ. قال: فارتفعا إلى أبي موسى الأشعريِّ، فأخَذ يمينَها باللهِ الذي لا إلهَ إلا هو: إن كنتِ لقد اغتسلتِ حين ناداكِ؟ قالت: لا واللهِ ما كنتُ فعَلتُ، ولقد قرَّبتُ مائي لأغتسلَ. فردَّها على زوجِها، وقال: أنتَ أحقُّ ما لم تغتسِلْ من الحيضةِ الثالثةِ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن مطرٍ، عن الحسنِ، عن أبي موسى الأشعريِّ بنحوِه.

حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا يونسُ، عن الحسنِ،

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10994، 10996)، وسعيد بن منصور في سننه (1220، 1222) من طرق عن الحسن.

ص: 90

قال: قال عُمرُ: هو أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ من الحيضةِ الثالثةِ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو الوليدِ، قال: ثنا أبو هلالٍ، عن قتادةَ، عن يونسَ بنِ جُبيرٍ، أن عُمرَ بنَ الخطابِ طلَّق امرأتَه، فأرادتْ أن تغتسِلَ من الحيضةِ الثالثةِ، فقال عمرُ بنُ الخطابِ: امرأتي وربِّ الكعبةِ. فراجَعها. قال ابنُ بشارٍ: فذكَرتُ هذا الحديثَ لعبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ، فقال: سمِعتُ هذا الحديثَ من أبي هلالٍ، عن قتادةَ، وأبو هلالٍ لا يَحْتمِلُ هذا.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، قال: كنا عندَ عمرَ بنِ الخطابِ، فجاءت امرأةٌ فقالت: إن زوجى طلَّقني واحدةً أو ثِنتيْن، فجاء وقد وضعتُ مائي، وأغلقتُ بابي، ونزَعتُ ثيابي. فقال عمرُ لعبدِ اللهِ: ما تَرَى؟ قال: أُراها امرأَتَه ما دونَ أن تَحِلَّ لها الصلاةُ. قال عمرُ: وأنا أرَى ذلك

(2)

.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ أنه قال في رجلٍ طلَّقَ امرأتَه، ثم ترَكها حتى دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ، فأرادت أن تغتسلَ، ووضَعتْ ماءَها لِتغتسِلَ، فراجَعها، فأجازَه عمرُ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن

(1)

أخرجه البيهقي 7/ 417 من طريق يونس، عن الحسن، عن عمر وعبد الله وأبي موسى.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10988) - ومن طريقه البيهقي 7/ 417 - وسعيد بن منصور في سننه (1218)، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 62 من طريق سفيان به، ولم يذكر عبد الرزاق علقمة، وأخرجه عبد الرزاق أيضا (10989) من طريق حماد، عن إبراهيم نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 275 إلى عبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 192، 193 عن غندر به مختصرًا.

ص: 91

إبراهيمَ، عن الأسودِ بمثلِه، إلا أنه قال: ووَضعتِ الماءَ للغُسلِ، فراجعَها، فسُئل

(1)

عبدُ اللهِ وعمرُ، فقالا

(2)

: هو أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ.

حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قالا: كان عمرُ وعبدُ اللهِ يقولان: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه تطليقةً يَمْلِكُ الرجعةَ، فهو أحقُّ بها ما لم تغتسلْ مِن حيضتِها الثالثةِ

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا المُغيرةُ، عن إبراهيمَ، أن عمرَ بنَ الخطابِ كان يقولُ: إذا طلّقَ الرجلُ امرأتَه تطليقةً أو تطليقتيْنِ، فهو أحقُّ برجعتِها وبينهما الميراثُ، ما لم تغتسلْ من الحيضةِ الثالثةِ

(4)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّة، عن أيوبَ، عن الحسنِ، أن رجلًا طلَّق امرأتَه تطليقةً أو تطليقتيْنِ ثم وكَّلَ بها بعضَ أهلِه، فغفَل الإنسانُ حتى دخَلت مُغتَسلَها، وقرَّبت غُسلَها، فأتاهُ فآذَنه، فجاء فقال: إني قد راجعتُكِ. قالت: كلَّا واللهِ. قال: بلَى واللهِ. قالت: كلَّا واللهِ. قال: بلَى واللهِ. قال: فتحالَفا، فارتفَعا إلى الأشعريِّ، واستحلفَها باللهِ: لقد كنتِ اغتسلتِ وحلَّت لك الصلاةُ؟ فأبَتْ أن تحلِفَ، فردَّها عليه

(5)

.

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: ثنا سعيدٌ،

(1)

في ص، م:"فسأل".

(2)

في م: "فقال".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1230) عن أبي معاوية به، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 192 من طريق الأعمش به.

(4)

أخرجه سعيد بن منصورفى سننه (1216) عن هشيم به.

(5)

تقدم تخريجه في ص 90.

ص: 92

عن أبي معشرٍ، عن النَّخَعيِّ، أن عمرَ استشارَ ابنَ مسعودٍ في الذي طلّقَ امرأتَه تطليقةً أو ثِنتيْنِ، فحاضت الحيضةَ الثالثةَ، فقال ابنُ مسعودٍ: أُراهُ أحقَّ بها ما لم تغتسلْ. فقال عمرُ: وافقتَ الذي في نفسِي. فردَّها على زوجِها.

حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسعدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا النعمانُ بنُ راشدٍ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أن عليًّا كان يقولُ: هو أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ من الحيضةِ الثالثةِ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ يقولُ: إذا انقطَعَ الدمُ فلا رجعةَ

(2)

.

حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: إذا طلّقَ الرجلُ امرأتَه وهي طاهرٌ اعتدَّت ثلاثَ حِيَضٍ سوى الحيضةِ التي طَهُرَتْ منها.

حدَّثني محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن مطرٍ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، أن عمرَ سأل أبا موسى عنها، وكان بلَغه قضاؤُه فيها، فقال أبو موسى: قضيتُ أنّ زوجَها أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ. فقال عمرُ: لو قضيتَ غيرَ هذا لأوجعتُ لكَ رأسَكَ.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1219)، وابن أبي شيبة 5/ 193، والبيهقي 7/ 417 من طريق ابن عيينة، عن الزهري، به.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1224) عن سفيان به.

ص: 93

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبرنا مَعمرٌ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أن عليَّ بنَ أبي طالبٍ قال في الرجلٍ يتزوَّجُ المرأةَ فيطلِّقُها تطليقةً أو ثِنتيْن، قال: لِزوجِها الرجعةُ عليها حتى تغتسِلَ من الحيضةِ الثالثةِ وتحِلَّ لها الصلاةُ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن زيدِ بنِ رفيعٍ، عن أَبِي عُبيدةَ بنِ

(2)

عبدِ اللهِ، قال: أرسَل عثمانُ إلى أبي يسألُه عنها، فقال أبي: وكيف يُفتِي منافقٌ؟ فقال عثمانُ: أُعِيذُكَ باللهِ أن تكونَ منافقًا، ونعوذُ باللهِ أن نُسمِّيَك مُنافقًا، ونُعيذُكَ باللهِ أن يكونَ مثلُ هذا كان في الإسلام ثم تموتَ ولم تُبيِّنْه. قال: فإني أرى أنه أحقُّ بها حتى تغتسِلَ من الحيضةِ الثالثةِ وتَحِلَّ لها الصلاةُ. قال: فلا أعلمُ عثمانَ إلا أخذَ بذلك

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن أيوبَ، عن أبي قِلابةَ - قاق: وأخبرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ - قالا: راجَع رجلٌ امرأتَه حين وضَعتْ ثيابَها تريدُ الاغتسالَ، فقال:[1/ 277 و] قد راجعتُكِ. فقالت: كلَّا. فاغتسَلتْ، ثم خاصَمها إلى الأشعريِّ، فردَّها عليه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن زيدِ ابنِ رفيعٍ، عن مَعبدٍ الجُهنيِّ، قال: إذا غسَلتِ المطلقةُ فرجَها مِن الحيضةِ الثالثةِ بانَتْ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10983) عن معمر به.

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"عن".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10987)، ومن طريقه البيهقي 7/ 417 عن معمر به.

ص: 94

منه وحلَّت للأزواجِ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ، و

(2)

عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، أن عمرَ بنَ الخطاب قال: يَحِلُّ لزوجِها الرجعةُ عليها حتى تغتسِلَ من الحيضةِ الثالثةِ ويَحِلَّ لها الصومُ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ ومحمدُ بنُ المُثَنَّى، قالا: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، قال: قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: هو أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ من الحيضةِ الثالثةِ.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، عن سعيدٍ، عن دُرُسْتَ

(4)

، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، عن عليٍّ مثلَه، وقال آخرون: بل القُرءُ الذي أمَر اللهُ تعالى ذكرُه المطلقاتِ أن يعتدِدْنَ به، الطهرُ.

ذِكر من قال ذلك

حدثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: أخبَرنا سفيانُ، عن الزهريِّ، عن عَمرةَ، عن عائشةَ، قالت: الأقراءُ الأطهارُ

(5)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11007) عن معمر به.

(2)

سقط من: م.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10985، 10986) عن معمر به.

(4)

في م، ت 1:"درسب"، وفي ص غير منقوطة، وينظر التاريخ الكبير 3/ 252.

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1231)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 414 (2187) من طريق سفيان به.

ص: 95

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه، عن عائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقولُ: الأقراءُ الأطهارُ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الزهريِّ، عن عَمرةَ [وعروةَ]

(2)

، عن عائشةَ، قالت: إذا دخَلت المطلقةُ في الحيضةِ الثالثةِ فقد بانتْ من زوجِها وحلَّت للأزواجِ. قال الزهريُّ: قالت عَمرةُ: كانت عائشةُ تقول: القرءُ الطهرُ، وليس بالحيضةِ

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن الزهريِّ، عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ مثلَ قولِ زيدٍ وعائشةَ

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، مثلَ قولِ زيدٍ

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بنِ المسيّبِ وسليمانَ بنِ يسارٍ، أن زيدَ بنَ ثابتٍ قال: إذا دخَلت

(1)

ذكره النحاس في ناسخه ص 212، 213 عن عبد الله بن عمر العمري به.

(2)

سقط من: ت 1، ت 2.

(3)

أخرجه مالك 2/ 576، 577، ومن طريقه أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 3/ 61، والبيهقي 7/ 415.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11005) عن معمر به، وأخرجه مالك 2/ 577 - ومن طريقه الطحاوي في شرح المعاني 3/ 61 - عن الزهري به.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11004) - ومن طريقه البيهقي 7/ 418 به - عن معمر به.

ص: 96

المطلقةُ في الحيضةِ الثالثةِ فقد بانَت من زوجِها وحلَّت للأزواجِ. قال مَعمرٌ: وكان الزهريُّ يُفتِي بقولِ زيدٍ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: سمِعتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: بلغني أن عائشةَ قالت: إنما الأقراءُ الأطهارُ.

حدَّثنا حميدُ بنُ مسعدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيّب، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فلا رجعةَ له علَيها.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ وعبدُ الأعلَى، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن ابنِ المسيَّبِ في رجلٍ طلَّقَ امرأتَه واحدَةً أو ثنتيْنِ، قال: قال زيدُ بنُ ثابتٍ: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فلا رجعةَ له عليها. وزادَ ابنُ أبي عدِىٍّ، قال: قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: هو أحقُّ بها ما لم تغتسلْ.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثنَّى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن ابنِ المسيَّبِ، عن زيدٍ وعليٍّ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الزِّنادِ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فلا ميراثَ لها

(2)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11003) عن معمر به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11008)، وابن أبي شيبة 5/ 192 عن سفيان به، ووقع عند عبد الرزاق يحيى بن سعيد بين سفيان وأبي الزناد.

ص: 97

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليّةَ، وحدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ - قالا جميعًا: ثنا أيوبُ، عن نافعٍ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، أن الأحوصَ - رجلٌ من أشرافِ أهلِ الشامِ - طلّقَ امرأَتَه تطليقةً أو ثِنتيْن، فماتَ وهي في الحيضةِ الثالثةِ، فرُفِعتْ إلى معاويةَ، فلم يُوجَدْ عندَه فيها عِلْمٌ، فسألَ عنها فَضالةَ ابنَ عُبيدٍ ومَن هناك من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلم يُوجدْ عندهم فيها عِلْمٌ، فبعَث معاويةُ راكبًا إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، فقال: لا ترِثُه، ولو ماتتْ لم يرِثْها. فكان ابنُ عمرَ يَرَى ذلك

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن أيوبَ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، أنّ رجلًا يقالُ له: الأحوصُ - من أهلِ الشامِ - طلَّق امرأتَه تطليقةً، فماتَ وقد دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ، فرُفِعَ إلى معاويةَ، فلم يدرِ ما يقولُ، فكتَب فيها إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، فكتب إليه زيدٌ: إذا دخَلتِ المطلقةُ في الحيضةِ الثالثةِ فلا ميراثَ بينهما

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، عن سليمانَ بنِ يسارٍ، أن رجلًا يقالُ له: الأحوصُ. فذكَر نحوَه عن معاويةَ وزيدٍ.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، قال: قال ابنُ عمرَ: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فلا رجعةَ له عليها

(3)

.

(1)

أخرجه مالك 2/ 577 - ومن طريقه الشافعي في الأم 5/ 209، والبيهقي 7/ 415 - من طريق نافع وزيد بن أسلم به، وأخرجه النحاس في ناسخه ص 214 من طريق نافع به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11006) عن معمر به.

(3)

أخرجه البيهقي 7/ 415 من طريق سعيد به، وأخرجه مالك في موطئه 2/ 578 - ومن طريقه النحاس في ناسخه ص 213، والبيهقي 7/ 415 - من طريق نافع به.

ص: 98

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ أنه قال في المطلَّقةِ: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فقد بانَتْ.

حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى عمرُ بنُ محمدٍ، أن نافعًا أخبَرَه، عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ

(1)

وزيدِ بنِ ثابتٍ أنهما كانا يقولان: إذا دخَلتِ المرأةُ في الدّمِ من الحيضةِ الثالثةِ، فإنها لا ترِثُه ولا يرِثُها، وقد بَرِئتْ منه وبرِئَ منها

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: بلَغنِي عن زيدِ بنِ ثابتٍ قال: إذا طُلّقتِ المرأةُ فدخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ، إنه ليس يينَهما ميراثٌ ولا رجعةٌ.

حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: سمِعتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: سمِعتُ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ مثلَ قولِ زيدِ بنِ ثابتٍ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: وسمِعتُ يحيى يقولُ: بلَغنى عن أبانِ بنِ عثمانَ أنه كان يقولُ بذلك

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثنَّى

(4)

، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ، عن زيدِ ابنِ ثابتٍ مثلَ ذلك.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثنَّى، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عبدِ ربِّه

(1)

في ص: "عمرو".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 192 من طريق نافع به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 192 عن عبد الوهاب الثقفي به. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1229) من طريق يحيى بن سعيد عن سالم - وحده.

(4)

في م: "بشار"، ومحمد بن المُثَنَّى ومحمد بن بشار كلاهما يروى عن عبد الوهاب الثقفي. ينظر تهذيب الكمال 18/ 503.

ص: 99

ابنِ سعيدٍ، عن نافعٍ، أن معاويةَ بعَث إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، فكتَب إليه زيدٌ: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فقد بانَتْ. وكان ابن عُمرَ يقولُه

(1)

.

حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سليمانَ وزيدِ بنِ ثابتٍ أنهما قالَا: إذا حاضَتِ الحيضةَ الثالثةَ فلا رجعةَ ولا ميراثَ.

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا هشامُ بنُ حسانَ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، عن بُكيرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: إذا طلَّقَ الرجلُ امرأتَه، فرأت الدمَ في الحيضةِ الثالثةِ، فقد انقضَت عِدَّتُها.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن موسى بنِ شدادٍ، عن عُمرَ ابنِ ثابتٍ الأنصارىِّ، قال: كان زيدُ بنُ ثابتٍ يقولُ: إذا حاضَتِ المطلقةُ الثالثةَ قبلَ أن يراجِعَها زوجُها فلا يملِكُ رجعتَها

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، عن [سعيدٍ، عن دُرُسْتَ

(3)

، عن الزهريِّ، عن]

(4)

سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أن عائشةَ وزيدَ بنَ ثابتٍ قالا: إذا دخَلتْ في الحيضةِ الثالثةِ فلا رجعةَ له عليها.

قال أبو جعفرٍ: [والقُروءُ في كلامِ العربِ جمعُ قُرءٍ]

(5)

، وقد تجمَعُه العربُ أَقْراءً، يقالُ - في "أفعَلَ" منه -: أقرَأتِ المرأةُ. إذا صارتْ ذاتَ حيضٍ وطهرٍ، فهي تُقْرِئُ

(1)

أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 61 من طريق وهب به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 191، 192 عن جرير به.

(3)

في م: "درسب". وتقدم في ص 95.

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(5)

في م: "والقرء في كلام العرب جمعه قروء".

ص: 100

إقراءً. وأصلُ القَرءِ في كلامِ العربِ الوقتُ لمجئِ الشيْءِ المعتادِ مجيئُه لوقتٍ معلومٍ، ولإدبارِ الشيْءِ المعتادِ إدبارُه لوقتٍ معلومٍ، ولذلك قالت العربُ: أقرَأتْ حاجةُ فلانٍ عندي. بمعنى: دنا قضاؤها، وجاءَ وقتُ قضائِها. وأقرَأَ النجمُ، إذا جاء وقتُ أُفُولِه. وأقرَأ، إذا جاء وقتُ طلوعِه، كما قال الشاعرُ:

إذَا ما الثُّرَيَّا وقَدْ أَقْرَأتْ

أحَسَّ السِّما كانِ مِنها أُفُولَا

وقيل: أقرأتِ الريحُ. إذا هبَّتْ لوقتِها، كما قال الهذليُّ

(1)

:

شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بنى شُلَيْلٍ

إذَا هَبَّتْ لِقارِئها الرِّيَاحُ

(2)

بمعنى: هبَّت لوقتِها وحينَ هُبوبها.

ولذلك سَمَّى بعضُ العربِ وقتَ مَجِيءِ الحيضِ قُرءًا، إذ كان دمًا يُعتادُ ظُهورُه من فرجِ المرأةِ في وقتٍ، وكُمُونُه في آخرَ، فسمِّى وقتُ مَجيئِه قُرءًا، كما سَمَّى الذين سَمَّوا وقتَ مَجِيءِ الريحِ لوقْتِها قُرءًا. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمةَ بنتِ أبي حُبيشٍ:"دَعِى الصَّلاةَ أيّامَ أقْرائِكِ"

(3)

. بمعنى: دعِى الصلاةَ أيامَ إقبالِ دَمِ

(4)

حيضِكِ.

وسَمَّى آخرون من العربِ وقتَ مَجِيءِ الطُّهرِ قُرءًا، إذْ كان وقتُ مجيئِه وقتًا لإدبارِ الدمِ دمِ الحيضِ، وإقبالِ الطُّهْرِ المعتادِ مجيئُه لوقتٍ معلومٍ، فقال في ذلك الأعشَى ميمونُ بنُ قيسٍ

(5)

:

(1)

هو مالك بن الحارث الهذلي، والبيت في ديوان الهذليين 3/ 83. وينسبه الجمحي وأبو عبد الله إلى تأبط شرا الفهمى، يجيب به مالكا بن الحارث، ينظر شرح أشعار الهذليين 1/ 239.

(2)

العقر: القصر، أو هو مكان، شليل: من بجيلة، وهو جد جرير بن عبد الله البجلي. شرح أشعار الهذليين.

(3)

أخرجه أبو داود (280)، والنسائي (211)، وابن ماجه (620) ولفظه:"إذا أتى قرؤك فلا تصلى". وينظر تلخيص الحبير 1/ 170.

(4)

سقط من: م.

(5)

ديوانه ص 91.

ص: 101

وفي كُلِّ عامٍ أنْتَ جاشمُ غَزْوَةٍ

تَشُدُّ لأقصَاها عَزِيمَ عَزائِكَا

مُوَرِّثةٍ مالًا وفي الذِّكْرِ رِفعَةً

لِماَ ضاعَ فيها مِنْ قُرُوءِ نِسائكَا

فجعَل القُرءَ وقتَ الطُّهرِ.

ولِمَا وصَفنا من معنى القرءِ أشكَل تأويلُ قولِ اللهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} على أهلِ التأويلِ؛ فرأَى بعضُهم أن الذي أُمِرتْ به المرأةُ المطلقةُ ذاتُ الأقراءِ من الأقراءِ، أقراءُ الحيضِ - وذلك وقت مجيئِه لعادتِه التي تجيءُ فيه - فأَوْجَب عليها تربُّصَ ثلاثِ حِيَضٍ بنفسِها عن خِطبةِ الأزواجِ.

ورأى آخرون أن الذي أُمِرتْ به من ذلك إنما هو أقراءُ الطُّهرِ - وذلك وقت مجيئِه لعادتِه التي تجيءُ فيه - فأوجَب عليها تربُّصَ ثلاثةِ أطهارٍ.

فإذ كان معنى القرءِ ما وصَفْنا لِماَ بيَّنا، وكان اللهُ تعالى ذكرُه قد أمَر المريدَ طلاقَ امرأتِه ألا يُطَلِّقَها إلا طاهرًا غيرَ مُجامَعةٍ، وحرّمَ عليه طلاقَها حَائضًا، وكان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها - إذا كانت ذاتَ أقراءٍ - تَرَبُّصَ أوقاتٍ محدودةِ المبلغِ بنفسِها عَقيبَ طلاقِ زَوجِها إيّاها؛ أن تنظُرَ إلى ثلاثةِ قروءٍ بين طهرىْ كلِّ قُرءٍ منهنَّ قُرءٌ

(1)

، وهو خلافُ ما احتَسبتْه لنفسِها قروءًا تتَرَبَّصُهُنَّ

(2)

، فإذا انقضَينَ، فقد حلَّت للأزواجِ، وانقضَتْ عِدّتُها، وذلك أنها إذا فَعَلتْ ذلك، فقد دخَلتْ في عِدادِ مَنْ تَربَّصُ ين المطلقاتِ بنفسها ثلاثةَ قروءٍ بين طُهرىْ كلِّ قرءٍ

(3)

(1)

في ص: (قروء).

(2)

في النسخ: "فتربصهن". وينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع.

(3)

في ت 2: "قروء".

ص: 102

منهنَّ قرءٌ له مخالفٌ، وإذا فعَلتْ ذلك كانت مؤديةً ما ألزَمها ربُّها تعالى ذكرُه بظاهرِ تنزيلِه.

فقد تبين إذن - إذ كان الأمرُ على ما وصَفْنَا - أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها - على ما بينَّا - الطهرُ الثالثُ، وأن بانقضائه ومجيءِ قرءِ الحيضِ الذي يتلوه، انقضاءُ عدَّتِها.

فإن ظنّ ذو [غباءٍ - أنّا]

(1)

إذ كنا قد نُسمِّى وقتَ مجيءِ الطهرِ قرءًا، ووقتَ مَجِيءِ الحيضِ قرءًا - أنه يلْزَمُنا أن نَجعَلَ عدةَ المرأةِ مُنقضيةً بانقضاءِ الطُّهرِ الثاني، إذْ كان الطهرُ الذي طلَّقها فيه، والحيضةُ التي بعدَه، والطهرُ الذي يتلوها أقراءً كلَّها، فقد ظَنَّ جَهْلًا، وذلك أن الحكمَ عندنا في كلِّ ما أنزَله اللهُ في كتابِه على ما احتمَلَه ظاهرُ التنزيلِ، ما لم يُبيِّنِ اللهُ تعالَى ذكرُه لعبادِه أنّ مرادَه منه الخصوصُ؛ إمّا بتنزيلٍ في كتابِه، أو علَى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فإذا خصَّ منه البعضَ، كان الذي خَصَّ من ذلك غيرَ داخلٍ في الجملةِ التي أوجَب الحكمَ بها، و

(2)

كان سائرُها على عمومِها، كما

(3)

قد بيَّنا في كتابِنا "كتابِ لطيفِ القولِ من البيانِ عن أصولِ الأحكامِ" وغيرِه من كُتبِنا.

فالأقراءُ التي هي أقراءُ الحيضِ بينَ طُهرىْ أقراءِ الطهرِ غيرُ مُحتسَبةٍ من أقراءِ المتربِّصةِ بنفسِها بعدَ الطلاقِ؛ لإجماعِ الجميعِ من أهلِ الإسلامِ أن الأقراءَ التي أوجبَ اللهُ عليها تربُّصَهنَّ ثلاثةُ قروءٍ، بينَ كلِّ قرءٍ منهنّ أوقاتٌ مخالفاتُ المعنَى لأقرائِها التي تَربَّصُهُنَّ، وإذْ كنَّ مستحقّاتٍ عندنا اسمَ أقراءٍ، فإن ذلك من إجماعِ

(1)

في م: "غباوة".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"وإن".

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"ما".

ص: 103

الجميعِ لم يُجِزْ لها التربُّصَ إلّا على ما وصَفْنا قبلُ.

وفي هذه الآيةِ دليلٌ واضحٌ على خطأَ قولِ مَن قال: إن امرأةَ المُؤلِى التي آلَى مِنها تحِلُّ للأزواجِ بانقضاءِ الأشهرِ الأربعةِ إذا كانت قد حاضتْ ثلاثَ حِيَضٍ في الأشهرِ الأربعةِ؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه إنما أوجَب عليها العدةَ بعدَ عزْمِ المُؤلِى على طلاقِها، وإيقاعِ الطلاقِ بها بقولِه:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . فأوجَب تعالى ذكرُه على المرأةِ إذا صارتْ مُطلّقةً تربُّصَ ثلاثةِ قروءٍ، فمعلومٌ أنها لم تكُن مُطلَّقةً يومَ آلَى مِنها زوجُها؛ لإجماعِ الجميعِ على أن الإيلاءَ ليس بطلاقٍ مُوجِبٍ على المُؤْلِى منها العدَّةَ. وإذْ

(1)

كان ذلك كذلك، فالعدةُ إنما تلزَمُها بعدَ الطلاقِ، والطلاقُ إنما يلحَقُها بما قد بيَّنَّاه قبلُ.

وأمّا معنى قولِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} فإنه: والمخلَّيَاتُ السبيلِ غير ممنوعاتٍ بأزواجٍ ولا مخطوباتٍ

(2)

.

وقولُ القائلِ: فلانةُ مطلقةٌ. إنما هو "مُفَعَّلة"، من قولِ القائلِ: طلَّق الرجلُ زوجتَه فهي مُطلّقةٌ. وأما قولُهم: هي طالقٌ. فمن قولِهم: طلَّقها زوجُها فطَلُقَتْ هي، وهي تَطلُقُ طَلاقًا، وهي طالِقٌ.

وقد حُكِىَ عن بعضِ أحياءِ العربِ أنها تقولُ: طَلَقَت المرأةُ. وإنما قيلَ ذلك لها إذا خَلَّاها زوجُها، كما يقالُ للنعجةِ المهملةِ بغيرِ راعٍ ولا كالئٍ إذا خرَجتْ وحدَها من أهلِها للرعْىِ مُخلَّاةً سبيلُها: هي طالقٌ. فَمُثِّلَتِ المرأةُ المخلَّاةُ سبيلُها بها، وسُمِّيت بما سُمِّيتْ به النعجةُ التي وصَفْنا أمرَها. وأما قولُهم: طُلِقَت المرأةُ. فمعنًى

(1)

في ص: "إذا".

(2)

في ص: "محفوظات"، وبعدها بياض يسع كلمة.

ص: 104

غيرُ هذا، إنما يقالُ في هذا إذا نُفِسَتْ، هذا من الطَّلْقِ

(1)

، والأولُ من الطَّلاقِ، وقد بيَّنا أن التربُّصَ إنما هو التوقُّفُ عن النكاحِ، وحبْسُ النَّفسِ عنه، في غيرِ هذا الموضعِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عزّ ذكرُه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: ولا يَحِلُّ لهنَّ - يعني للمطلقاتِ - أن يَكتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهن من الحيضِ إذا طُلِّقْنَ؛ حَرَّمَ عَليهنَّ أنْ يَكْتُمنَ أزواجَهنَّ الذين طلَّقوهُنَّ في الطلاقِ الذي لهنَّ عليهم فيه رجعةٌ؛ يبتغينَ بذلك إبطالَ حقوقِهم من الرجعةِ عليهنَّ.

ذِكرُ من قال ذلك

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، عن يونسَ، عن ابنِ شهابٍ، قال: قال اللهُ تعالى ذِكره: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قولِه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . قال: بلَغَنا أن ما خُلِقَ في أرحامِهنَّ الحملُ، وبلَغَنا أنه الحيضةُ، فلا يحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمنَ ذلك لتنقضىَ العدةُ ولا يملِكَ الرجعةَ إذا كانت له

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال:

(1)

الطلق: وجع الولادة. اللسان (ط ل ق).

(2)

تقدم في ص 43.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى المصنف.

ص: 105

الحَيْضُ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قال: أكثرُ

(1)

ذلكَ الحَيْضُ

(2)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ مُطرِّفًا، عن الحكمِ، قال: قال إبراهيمُ في قولِه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: الحَيْضُ

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: ثنا خالدٌ الحذاءُ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: الحَيْضُ. ثم قال خالدٌ: الدَّمُ

(4)

.

وقال آخرون: هو الحَيْضُ، غيرَ أن الذي حرَّم اللهُ تعالَى ذِكرُه عليها كتمانَه فيما خلَق في رحمِها من ذلك هو أن تقولَ لزوجِها المطلِّقِ وقد أراد رجْعتَها قبلَ الحيضةِ الثالثةِ: قدْ حِضتُ

(5)

الحيضةَ الثالثةَ. كاذبةً؛ ليَبْطُلَ

(6)

حقُّه بِقِيلِها الباطلِ في ذلك.

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"إذ أكثر" أو تقرأ "إذا كثر".

(2)

ينظر تخريجه في الصفحة التالية.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 234 عن ابن إدريس به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 233، 234 عن ابن علية به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 416 (2192) من طريق خالد به.

(5)

بعده في ص: "في".

(6)

في م: "لتبطل".

ص: 106

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عُبيدةَ بنِ مُعَتِّبٍ

(1)

، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: الحَيْضُ، المرأةُ تعتدُّ قُرءَيْنِ، ثم يريدُ زوجُها أن يراجعَها، فتقولُ: قد حِضتُ الثالثةَ.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: أكثَرُ ما عنى به الحَيْضُ

(2)

.

وقال آخرون: بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانِه زوجَها المطلِّقَ الحَبَلُ والحَيْضُ جميعًا.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا حُميدُ بنُ مسعدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا الأشعثُ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} : الحَيْضُ

(3)

والحملُ؛ لا يَحِلُّ لها إن كانت حائضًا أن تكتُمَ حيضَها، ولا يَحِلُّ لها إن كانتْ حاملًا أن تكتُمَ حملَها

(4)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ مُطرّفًا، عن الحكَمِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: الحمْلُ والحَيْضُ

(5)

.

(1)

في م: "مغيث"، وغير منقوطة في ص، وينظر تهذيب الكمال 19/ 273.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 1/ 276، ومن طريقه البيهقي 7/ 420 - عن جرير به، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.

(3)

في م: "من الحيض".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 415 (2191) من طريق يزيد به.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 234 عن ابن إدريس به.

ص: 107

قال أبو

(1)

كُريبٍ: قال ابنُ إدريسَ: هذا أولُ حديثٍ سمِعتُه من مُطرِّفٍ.

حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن مُطرفٍ، عن الحكَمِ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: الحبَلُ.

حدَّثنا إسماعيلُ بنُ موسى الفَزارِيُّ، قال: حدثنا أبو إسحاقَ الفَزارِيُّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: من الحيضِ والولدِ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني مسلمُ بنُ خالدٍ الزَّنْجِيُّ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: من الحيضِ والولدِ.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: لا يحلُّ للمطلقةِ أن تقولَ: إني حائضٌ. وليست بحائضٍ، ولا تقولَ: إني حُبْلَى. وليستْ بحبلَى، ولا تقولَ: لستُ بحبلَى. وهي حُبْلَى

(2)

. حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن الحجاجِ،

(1)

في م: "ابن".

(2)

تفسير مجاهد ص 236، ومن طريقه ابن أبي شيبة 5/ 234، والبيهقي 7/ 372، وأخرجه الشافعي في الأم 5/ 213، وعبد الرزاق في مصنفه (11059) من طريق ابن جريج، عن مجاهد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد.

ص: 108

عن مجاهدٍ، قال: الحَيْضُ والحبَلُ. قال: تفسيرُه: ألا تقولَ: إني حائضٌ. وليستْ بحائضٍ، ولا: لستُ بحائضٍ. وهي حائضٌ، ولا: إني حُبْلَى. وليست بحُبلَى، ولا: لستُ بحُبلَى. وهي حُبْلَى

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرَنا ابنُ المباركِ، عن الحجاجِ، عن القاسِم بنِ نافعٍ، عن مجاهدٍ نحوَ هذا التفسيرِ في هذه الآيةِ.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، وزاد فيه: قال: وذلك كلُّه في بُغضِ المرأةِ زوجَها وحُبِّه

(2)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال

(3)

: لا يحِلُّ لهن أن يَكْتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ من الحيضِ والحبَلِ، لا يَحِلُّ لها أن تقولَ: إني قد حضْتُ. ولم تَحِضْ، ولا يحلُّ لها أن تقولَ: إني لم أَحِضْ. وقد حاضَتْ، ولا يحلُّ لها أن تقولَ: إني حُبلى. وليست بحُبْلَى، ولا أن تقولَ: لستُ بحُبْلَى. وهي حُبْلَى

(4)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية. قال: لا يَكْتُمْنَ الحَيْضَ ولا الولدَ، ولا يَحِلُّ لها أنْ تكْتُمَه وهو لا يعلَمُ متى تحِلُّ، لئلَّا يَرْتجِعَها؛ تُضارُّهُ

(5)

.

حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا جويبرٌ، عن الضحاكِ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 234 من طريق الحجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به.

(2)

أخرجه البيهقي 7/ 420 من طريق جرير به.

(3)

في م: "يقول".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 416 عقب الأثر (2191) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به.

(5)

في م: "مضارة". وينظر المحرر الوجيز 2/ 96، والبحر المحيط 2/ 187.

ص: 109

في قولِه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} : يعني الولدَ. قال: الحَيْضُ والولدُ هو الذي ائتُمِنَ عليه النساءُ

(1)

.

وقال آخرون: بل عنَى بذلك الحبَلَ. ثم اختلَفَ قائلو ذلك في السببِ الذي من أجلِه نُهيَتْ عن كتمانِ ذلك الرجلَ؛ فقال بعضُهم: نُهيت عن ذلك لئلَّا يَبْطُلَ حقُّ الزوجِ من الرجعةِ إن

(2)

أرادَ رجْعَتَها قبلَ وضعِها حملَها.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن قَبَاثِ بنِ رَزِينٍ، عن عُليِّ بنِ رباحٍ أنه حدَّثه أن عُمرَ بنَ الخطابِ قال لرجلٍ: اتْلُ هذه الآيةَ.

فتلَا، فقال: إنّ فلانةَ ممَّن يَكْتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهن. وكانت طُلِّقتْ وهي حُبْلَى، فكتَمتْ حتى وضَعتْ

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه تطليقةً أو تطليقتَيْنِ وهي حاملٌ، فهو

(4)

أحقُّ برجْعتِها ما لم تَضَعْ حملَها، وهو قولُه:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 234 من طريق جويبر به.

(2)

في م: "إذا".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 415 (2190) من طريق قباث به.

(4)

في ص: "فهي".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 416 (2195)، والبيهقي 7/ 367، من طريق عبد الله بن صالح به.

ص: 110

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن يحيى بنِ بشرٍ، أنه سمِع عكرمةَ يقولُ: الطلاقُ مرَّتان بينهما رجعةٌ، فإن بدا له أن يطلِّقَها بعدَ هاتين فهي ثالثةٌ، وإن طلَّقها ثلاثًا فقد حَرُمتْ عليه حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَه، إنما اللّاتي ذُكرنَ في القرآنِ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} هي التي طُلِّقتْ واحدةً أو ثِنتيْنِ، ثم كتَمتْ حملَها لكيْ تَنْجُوَ من زَوجِها، فأمّا إذا أبَتَّ الثلاثَ التطليقاتِ فلا رجعةَ له عليها حتى تنكِحَ زوجًا غيرَه

(1)

.

وقال آخرون: السببُ الذي من أجلِه نُهينَ عن كتمانِ ذلك أنهنَّ في الجاهليةِ كُنَّ يَكْتُمْنَه أزواجَهنَّ خوفَ مُراجَعتِهم

(2)

إياهُنَّ حتى يتزوَّجْنَ غيرَهم، [فيُلْحِقْنَ نسبَ]

(3)

الحملِ - الذي هو من الزوجِ المطلِّقِ - بمَن تزوَّجْنَه، فحرَّم اللهُ ذلك عليهن.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا سويدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: كانت المرأةُ إذا طُلِّقت كتَمتْ ما في بطنِها وحملَها؛ لتذهبَ بالولدِ إلى غيرِ أبيه، فكرِه اللهُ ذلك لهنَّ.

حدَّثني محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: علِمَ اللهُ أنّ منهنَّ كواتمَ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 261 من طريق سماك، عن عكرمة.

(2)

في ص: "مراجعة".

(3)

في م: "فيلحق بسببه".

ص: 111

يَكْتُمْنَ الولدَ، وكان أهلُ الجاهليةِ؛ كان الرجلُ يُطلِّقُ امرأتَه وهي حاملٌ، فتَكْتُمُ الولدَ، فتذهبُ به إلى غيرِه، وتَكْتُمُ مخافةَ الرجعةِ، فنهَى اللهُ عن ذلك وقدَّمَ فيه

(1)

.

حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} . قال: كانت المرأةُ تَكْتُمُ حملَها حتى تجعلَه لرجلٍ آخرَ منها

(2)

.

وقال آخرون: بل السببُ الذي من أجلِه نُهينَ عن كتمانِ ذلك، هو أن الرجلَ كانَ إذا أرادَ طلاقَ امرأتِه سألَها، هلْ بها حَملٌ؛ لكيلَا يُطلِّقَها وهي حاملٌ منه، للضَّرَرِ الذي يَلْحَقُه وولَدَه في فراقِها

(3)

، فأُمِرْنَ بالصدقِ في ذلك ونُهينَ عن الكذبِ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى، [قال: ثنا عمرٌو]

(4)

، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} : فالرجلُ يريذ أنْ يُطَلِّقَ امرأتَه فيسألَها: هل بكِ حملٌ؟ فتكتُمُه، إرادةَ أن تُفارقَه، فيطلِّقُها وقد كَتَمتْه حتى تضعَ، وإذا علِمَ بذلك فإنها تُردُّ إليه عُقوبةً لما كتَمَتْه، وزوجُها أحقُّ برجْعتِها

(5)

.

وأوْلى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ قولُ من قال: الذي نُهيت المرأةُ المطلَّقةُ عن كِتمانِه زوجَها المطلِّقَها تطليقةً أو تطليقتَين، مما خلَق اللهُ في رحِمِها، الحَيْضُ والحبَلُ؛ لأنه لا خلافَ بين الجميعِ أن العدَّةَ تنقضِي بوضْعِ الولدِ الذي خلَق اللهُ في

(1)

عزاه السيوطي في الدر 1/ 275 إلى عبد بن حميد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 92، وفي مصنفه (11060)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 275 إلى ابن المنذر.

(3)

بعده في م: "إن فارقها".

(4)

سقط من النسخ.

(5)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 96، 97 عن السدي.

ص: 112

رحِمِها كما تَنقضِي بالدَّمِ إذا رأتْه بعدَ الطُّهرِ الثالثِ، في قولِ مَن قال: القُرءُ الطهرُ.

وفي قولِ مَن قال: هو الحَيْضُ. إذا انقطَع من الحيضةِ الثالثةِ، فتَطهَّرتْ بالاغتسالِ

(1)

.

فإذ كان ذلك كذلك، [وكان]

(2)

اللهُ تعالَى ذكرُه إنما حرَّم عليهنَّ كتمانَ المطلِّقِ الذي وصَفْنا أمْرَه، ما يكونُ بكتْمانِهن إيَّاهُ لطُولُ حقِّه الذي جعَله اللهُ له بعدَ الطلاقِ عليهنَّ إلى انقضاءِ عِدَدِهنَّ، وكان ذلك الحقُّ يبطُلُ بوضعِهنَّ ما في بطونِهن إن كُنَّ حواملَ، وبانقضاءِ الأقراءِ الثلاثةِ إن كنَّ غيرَ

(3)

حواملَ - عُلِم أنَّهنَّ مَنهياتٌ عن كتمانِ أزواجِهنَّ المطلِّقِيهِنَّ

(4)

من كلِّ واحدٍ منهما - أعني من الحيضِ والحبَلِ - مثلَ الذي هنَّ مَنهياتٌ عنه من الآخرِ، وألا معنى لخصوصِ من خَصَّ بأن المرادَ بالآيةِ من ذلك أحدُهما دونَ الآخرِ، إذْ كانا جميعًا مما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ، وأنّ في كلِّ واحدٍ منهما من معنى بُطُولِ حقِّ الزوجِ بانتهائِه

(5)

إلى غايةٍ مثلَ ما في الآخرِ. ويُسْألُ مَن خَصَّ ذلك، فجعَلَه لأحدِ المعنييْنِ دونَ الآخرِ، عن البرهانِ على صحةِ دعوَاه من أصلٍ أو حجَّةٍ يجبُ التسليمُ لها، ثم يُعكَسُ عليه القولُ في ذلك، فلنْ يقولَ في أحدِهما قولًا إلَّا أُلزم في الآخرِ مثلَه.

وأما الذي قاله السُّديُّ من أنه معنيٌّ به نهيُ النساءِ كتمانَ أزواجِهنَّ الحبَلَ عند إرادتِهم طلَاقَهُنَّ، فقولٌ لِماَ يَدُلُّ عليه ظاهرُ التنزيلِ مخالفٌ؛ وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا

(1)

في م: "للاغتسال".

(2)

في ص: "ولو كان".

(3)

سقط من: ص.

(4)

في م: "المطلقين".

(5)

في م: "بالتهائه".

ص: 113

خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [بمعنى: ولا يحلُّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ]

(1)

في

(2)

الثلاثةِ القروء إنْ كنَّ يؤمنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ. وذلك أن اللهَ تعالَى ذكرُه ذكَرَ تحريمَ ذلك عليهنَّ بعدَ وصفِه إياهُنَّ بما وصَفَهنَّ به من فراقِ أزواجِهنَّ بالطَّلاقِ، وإعلامِهِنَّ ما يلزَمُهُنَّ مِن التَّربُّصِ، معرِّفًا لهنَّ بذلك ما يَحْرُمُ عليهنَّ وما يَحِلُّ، وما يَلزمُهنَّ من العِدَّةِ ويجبُ عليهنَّ فيها، فكان مما عرَّفهنَّ أنّ مِن الواجبِ عليهنّ ألا يَكْتُمْنَ أزواجَهنَّ الحيضَ والحبَلَ - الذي يكونُ بوضعِ هذا وانقضاءِ هذا إلى نهايةٍ محدودَةٍ انقطاعُ حقوقِ أزواجِهن - ضِرارًا منهن لهم، فكان نهيُه عمّا نَهاهُن عنه من ذلك بأنْ يَكُونَ مِن صفةِ ما يليه قبلَه ويتلُوه بعدَه، أوْلَى من أن يكونَ مِن صفةِ ما لمْ يَجْرِ له ذِكرٌ قبلَه.

فإن قال قائلٌ: فما معنى قولِه: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ؟ أَوَ يَحِلُّ لهنّ كتمانُ ذلك أزواجَهن إن كنَّ لا يؤمنَّ باللهِ ولا باليومِ الآخرِ حتى خَصَّ النهيُ عن ذلك المؤمناتِ باللهِ واليومِ الآخرِ؟

قيلَ: معنى ذلك على غيرِ ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه أن كتمانَ المرأةِ المطلَّقةِ زوجَها المطلِّقَها ما خلَقَ اللهُ في رحِمِها من حيضٍ وولدٍ في أيامِ عدَّتِها من طلَاقِه ضِرارًا له، ليس من فعلِ مَن يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ ولا من أخلاقِه، وإنما ذلك من فعلِ مَن لا يُؤمِنَّ باللهِ ولا باليومِ الآخرِ وأخلاقِهنَّ من النساءِ الكوافرِ، فلا تَتخلَّقْنَ أيتُها المؤمناتُ بأخلاقِهن، فإن ذلك لا يحِلُّ لَكُنّ إن كنتنَّ تُؤمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ، وكنتنَّ من المسلماتِ، لا أنَّ المؤمناتِ هنَّ المخصوصاتُ بتحريمِ ذلك عليهنَّ

(3)

دونَ الكوافِرِ، بل الواجبُ على كلِّ

(1)

سقط من: ص.

(2)

في م: "من".

(3)

في م: "عليهم".

ص: 114

مَن لزِمتْه فرائضُ اللهِ من النساءِ اللواتِي لهنَّ أقراءٌ إذا طُلِّقت بعدَ الدخولِ بها في عدَّتِها ألَّا تَكْتُمَ زوجَها ما خلَق اللهُ في رحِمِها من الحيضِ والحبلِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} .

والبُعولَةُ جمعُ بعلٍ، وهو زوجُ المرأةِ، ومنه قولُ جريرٍ

(1)

:

أعِدُّوا معَ الحَلْيِ المَلَابَ

(2)

فإنّما

جَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وأنْتُمْ حَلائِلُهْ

وقد يُجمَعُ البعلُ البعولةَ والبُعولَ، كما يُجمَعُ الفحلُ الفُحُولَ والفُحولَةَ، والذَّكَرُ الذُّكُورَ والذُّكورَةَ، وكذلك ما كان على مثالِ فُعولٍ من الجمعِ، فإنّ العربَ كثيرًا ما تُدْخِلُ فيه الهاءَ، فأمَّا ما كان منها على مثالِ فِعالٍ، فقليلٌ في كلامِهم دخولُ الهاءِ فيه، وقد حُكِيَ عنهم العِظامُ والعِظامَةُ، ومنه قولُ الراجزِ

(3)

:

ثم دفَنْتَ الفَرْثَ والعظامَهْ

وقد قيل: الحِجارةُ والحِجارُ، والمِهارةُ والمِهارُ، والذِّكارةُ والذِّكارُ للذكورِ. وأما تأويلُ الكلامِ فإنه: وأزواجُ المطلقاتِ اللاتِي فرَضْنا عليهنَّ أن يتربَّصْنَ بأنفسِهنَّ ثلاثةَ قروءٍ، وحَرَّمنا عليهنَّ أن يَكْتُمْنَ ما خلَقَ اللهُ في أرحامِهنَّ، أحقُّ وأوْلَى بردِّهن إلى أنفسِهمْ

(4)

- في حالِ تربُّصِهنَّ إلى الأقراءِ الثلاثةِ وأيامِ الحبَلِ - وارتجاعِهن إلى حِبالِهم، مِنهنَّ

(5)

بأنفسِهنَّ؛ أنْ يَمْنَعْنَهم من أنفسِهنَّ ذلك.

كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ

(1)

ديوانه 2/ 969.

(2)

الملاب: ضرب من الطيب، فارسي. ينظر التاج (ل و ب، م ل ب).

(3)

الجمهرة لابن دريد 3/ 121، واللسان (ع ظ م)، (هـ ذ م).

(4)

في ص: "أنفسهن".

(5)

في م: "منهم".

ص: 115

ابنِ أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه * {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}. يقولُ: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه تطليقةً أو ثِنْتَينِ وهي حاملٌ، فهو أحقُّ برجعتِها ما لمْ تَضَعْ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} . قال: في العِدَّةِ.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن يزيدَ النحويِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصريِّ، قالَا: قال اللهُ تبارك وتعالى:

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} . وذلك أن الرجلَ كان إذا طلَّق امرأتَه كان أحقَّ برجْعتِها وإنْ طلَّقها ثلاثًا، فنسَخ ذلك فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية

(2)

.

حدَّثني محمدُ

(3)

بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} : في عِدَّتهنَّ

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال:

* من هنا تبدأ قطعة من نسخة مكتبة القرويين التي اتخذناها أصلًا فيما سبق، وهذه القطعة مقدارها عشر ورقات، ولعلها من الجزء السادس.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 416 (2195)، والبيهقي 7/ 367 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى ابن المنذر.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 417 عقب الأثر (2195) معلقًا.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"موسى".

(4)

تفسير مجاهد ص 236، ومن طريقه البيهقي 7/ 367.

ص: 116

في العِدَّةِ.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . أي: في القروءِ، في الثلاثِ حِيَضٍ، أو ثلاثةِ أشهرٍ، أو كانت حاملًا، فإذا طلَّقها زَوجُها واحدةً أو اثنتينِ راجَعها إن شاء ما كانت في عِدَّتِها.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . قال: كانت المرأةُ تكتُمُ حملَها حتى تجعلَه لرجلٍ آخرَ، فنهاهُنَّ اللهُ عن ذلك وقال:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . قال قتادةُ: أحقُّ برجْعتِهنَّ في العِدَّةِ

(1)

.

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . يقولُ: في العِدّةِ ما لم يُطلِّقْها ثلاثًا

(2)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّديِّ:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . يقولُ: أحقُّ برجْعتِها صاغرةً، عقوبةً لما كَتَمتْ زوجَها مِن الحملِ

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} قال: أحقُّ برجْعتِهن ما لم تنقضِ

(4)

العِدَّةُ.

حدَّثنا يحيى بنُ أبي طالب، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . قال: ما كانتْ في العدَّةِ، إذا أرادَ المراجعةَ.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 92، وفي مصنفه (11060)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى عبد بن حميد.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى المصنف.

(3)

تقدم تخريجه في ص 112.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تنقضى".

ص: 117

فإن قال لنا قائلٌ: [أفما لزوجِ المطلَّقةِ]

(1)

واحدةً أو اثنتينِ بعدَ الإفضاءِ إليها، عليها رجعةٌ في أقرائِها الثلاثةِ، إلَّا أنْ يكونَ مُريدًا بالرجعةِ إصلاحَ أمرِها وأَمرِه؟

قيل: أمَّا فيما بينَه وبينَ اللهِ فغيرُ جائزٍ - إذا أرادَ ضِرارَها بالرجعةِ لا إصلاحَ أمرِها وأمرِه - مراجَعتُها. وأما في الحكمِ فإنه مَقضيٌّ له عليها بالرجعةِ نظيرَ

(2)

حُكْمِنا عليه ببُطُولِ رجعتِه عليها، لو كتَمتْه حملَها الذي خلَقه اللهُ في رحِمِها، أو حيضَها حتى انقضَتْ عدَّتُها ضِرارًا منها له، وقد نهاها

(3)

اللهُ عن كتمانِه ذلك، فكان سواءً في الحكمِ - في بُطولِ رجعةِ زوجِها عليها، وقد أثِمتْ في كتمانِها إيّاه ما كتَمتْه مِن ذلك حتى انقضَتْ عدَّتُها - هي والتي أطاعت اللهَ بتركِها كتمانَ ذلك منه، وإن اختلَفتا

(4)

في طاعةِ اللهِ في ذلك ومعصيتِه، فكذلك المُراجعُ زوجتَه المطلَّقةَ واحدةً أو اثنتينِ بعدَ الإفضاءِ إليها، وهما حُرّان، وإن أرادَ ضِرارَ المراجعةِ برجعتِه، فمحكومٌ له بالرجعةِ وإن كان آثمًا برَبِّه

(5)

في فعلِه، ومُقْدِمًا على ما لم يُبحْه اللهُ له، واللهُ وليُّ مُجازاتِه فيما أتَى من ذلك. فأما العبادُ فإنهم غيرُ جائزٍ لهم الحوْلُ بينَه وبينَ امرأتِه التي راجَعها بحكمِ اللهِ جلَّ ثناؤُه بأنها حينئذٍ زَوجتُه، فإنْ حاوَل ضِرارَها بعدَ المراجعةِ بغيرِ الحقِّ الذي جعَلهُ اللهُ له، أُخِذ لها بالحقوقِ التي ألزَم اللهُ الأزواجَ للزوجاتِ حتى يعودَ ضُرُّ ما أرادَ من ذلك عليه دونَها.

وفي قولِه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أبينُ الدلالةِ على صحةِ قولِ مَن قال: إنّ المُؤْلِىَ إذا عَزَم/ الطلاقَ فطلَّقَ امرأتَه التي آلَى منها، أن له عليها الرجعةَ في

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فما لزوج"، وفي م:"فما لزوج طلق".

(2)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"نهى".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"اختلفا".

(5)

في م: "برأيه".

ص: 118

طلاقِه ذلك، وعلى فسادِ قولِ مَن قال: إن مُضىَّ الأربعةِ الأشهرِ عَزمُ الطلاقِ، وإنه تطليقةٌ بائنةٌ؛ لأن اللهَ جلّ ذكرُه إنما أعلَم عبادَه ما يلزَمُهم إذا آلَوا مِن نسائِهم، وما يلزَمُ النساءَ من الأحكامِ في هذه الآيةِ بإيلاءِ الرجالِ وطلاقِهم، إذا عزَموا ذلك وترَكوا الفيْءَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: ولهنّ مِن حسنِ الصحبةِ والعشرَةِ بالمعروفِ على أزواجِهن مثلُ الذي عليهنَّ لهم من الطاعةِ فيما أوجَب اللهُ تعالَى ذكرُه له عليها.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إذا أَطَعْنَ اللهَ وأطعنَ أزواجَهنَّ، فعليه أن يُحسنَ صُحبتَها، ويكفَّ عنها أذاه، وينفقَ عليها مِن سَعَتِه

(1)

.

حدَّثني يونسُ قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: يتقونَ اللهَ فيهنَّ، كما عليهنَّ أن يتقينَ اللهَ فيهم

(2)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجِهنَّ من التَّصنُّعِ والمُؤاتاةِ

(3)

مثلُ إلذى عليهنَّ لهم من ذلك.

* من هنا يبدأ خرم في مخطوطة الأصل وينتهي عند قوله: وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها. في ص 122.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى المصنف.

(2)

ينظر البحر المحيط 2/ 189.

(3)

المؤاتاة: حسن المطاوعة والموافقة. اللسان (أ ت ى).

ص: 119

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن بَشيرِ

(1)

بنِ سلمانَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إني أُحِبُّ أن أَتزيّنَ للمرأةِ، كما أُحِبُّ أن تَتَزَيَّنَ لي؛ لأن اللهَ تعالى ذِكرُه يقولُ:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(2)

.

والذى هو أولَى بتأويلِ الآيةِ عندي: وللمطلقاتِ واحدةً أو اثْنتينِ، بعدَ الإفضاءِ إليهنَّ، على بُعولتِهنَّ ألا يراجِعوهنَّ

(3)

في أقرائِهن الثلاثةِ إذا أرادُوا رَجعَتَهنَّ فيهنَّ إلَّا أن يُريدوا

(4)

إصلاحَ أمرِهن وأمرِهم [وألا]

(5)

يراجعوهن ضِرارًا، كما عليهنَّ لهم إذا أرادُوا رجعتَهنَّ فيهن ألا يَكْتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ من الولدِ ودمِ الحيضِ ضِرارًا منهنَّ لهم لِيَفُتْنَهمْ

(6)

بأنفسِهنَّ. ذلك أن اللهَ تعالَى ذكرُه نَهَى المطلقاتِ عن كتمانِ أزواجِهنَّ في أقرائِهنَّ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ إن كنَّ يُؤْمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ، وجعَل أزواجَهنَّ أحقَّ بردِّهنَّ في ذلك إن أرادُوا إصلاحًا، فحرَّم على كلِّ واحدٍ منهما مُضارَّةَ صاحبِه، وعرَّف كلَّ واحدٍ منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقَّب ذلك بقولِه:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . فبيّنَ أن الذي على كلِّ واحدٍ منهما لصاحبِه من تركِ مُضارَّتِه مثلُ الذي له على صاحبِه من ذلك.

فهذا التأويلُ هو أشبهُ بدلالةِ ظاهرِ التنزيلِ مِن غيره، وقد يَحتملُ أن يكونَ كلُّ ما على كلِّ واحدٍ منهما لصاحبِه داخلًا في ذلك، وإن كانت الآيةُ نزَلتْ فيما

(1)

في م: "بشر".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 417 (2196) من طريق وكيع، به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 276 إلى سفيان بن عيينة ووكيع وعبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

بعده في م: "ضرارًا".

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3:"يروا".

(5)

في م: "فلا".

(6)

في م: "لتيقنهن" والمعنى: سَبَقْنَهُم إلى حيث لا يبلغونهن، فلا ينالون منهن شيئًا. ينظر التاج (ف و ت).

ص: 120

وَصفْنا؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه قد جعَلَ لكلِّ واحدٍ منهما على الآخرِ حقًّا، فلكلِّ واحدٍ منهما على الآخرِ من أداءِ حقِّه إليه مثلُ الذي عليه له، فيدخُلُ حينئذٍ في الآيةِ ما قاله الضحاكُ وابنُ عباسٍ وغيرُ ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .

اختلَفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى الدرجةِ التي جعَل اللهُ للرجالِ على النساءِ، الفضلُ الذي فضَّلهم اللهُ عليهنَّ في الميراثِ والجهادِ وما أشبهَ ذلك.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: فضلُ ما فضَّله اللهُ به عليها من الجهادِ، وفضلُ ميراثِه على ميراثِها، وكلُّ ما فُضِّل به عليها

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن قتادةَ:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: للرجالِ درجةٌ في الفضلِ على النساءِ

(2)

.

وقال آخرون: بل تلك الدرجةُ الإمْرةُ والطاعةُ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 417 (2199) من طريق ابن أبي نجيح به.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 93، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 418 (2202) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 121

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ ما، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن زيدِ بنِ أسلَمَ في قولِه:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: إمارةٌ

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: طاعة. قال: يُطِعْنَ الأزواجُ الرجالَ، وليس الرجالُ يُطيعونَهنَّ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أزهرُ، عن ابنِ عَوْنٍ، عن محمدٍ في قولِه:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: لا أعلَمُ إلا أن لهنَّ مثلَ الذي عليهنّ إذا عرَفنَ تلك الدرجةَ.

وقال آخرون: تلك الدرجةُ له عليها بما ساقَ إليها من الصَّداقِ، وأنها إذا قذَفتْه حُدَّتْ، وإذا قَذَفَها لاعَنَ.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عُبيدةَ، عن الشعبيِّ في قولِه:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: بما أعطاها من صَداقِها، وأنه إذا قذَفَها لاعنَها، وإذا قذَفتْه جُلِدَتْ وأُقِرَّتْ عندَه

(3)

.

وقال آخرون: تلك الدرجةُ التي له عليها إفضالُه عليها، وأداءُ حقِّها

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 417 (2201) من طريق سفيان، به.

(2)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 98.

(3)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 98، والبحر المحيط 2/ 190.

* إلى هنا ينتهي الخرم المشار إليه في ص 119.

ص: 122

إليها، وصفْحُه عن الواجبِ له عليها أو عن بعضِه.

ذِكر من قال ذلك

حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن بَشيرِ

(1)

بنِ سلمانَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ما أُحِبُّ أن أسْتَنظِفَ

(2)

جميعَ حقِّى عليها؛ لأن اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}

(3)

.

[وقال آخرون: بل تلك الدرجةُ التي له عليها أن جعَلَ له لِحْيَةً وحرَمها ذلك.

ذِكر من قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقيُّ، قال: ثنا عُبيدُ بن الصبَّاحِ، قال: ثنا حُميدٌ، قال:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . قال: لِحَيَةٌ

(4)

]

(5)

.

وأولى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ ما قاله ابنُ عباسٍ، وهو أن الدرجةَ التي ذكَرَ اللهُ جلَّ ثناؤُه في هذا الموضعِ الصفحُ من الرجلِ لامرأتِه عن بعضِ الواجبِ له عليها، وإغضاؤُه لها عنه، وأداءُ كلِّ الواجبِ لها عليه، وذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه قال:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} عَقيبَ قولِه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . فأخبَر أن على الرجلِ من تركِ ضِرارِها في مراجَعتِه إيَّاهَا في أقرائِها الثلاثةِ وفي غيرِ ذلك من

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر".

(2)

استنظف: استوفى. التاج (ن ظ ف).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 417 (2198) من طريق وكيع، به.

(4)

المحرر الوجيز 2/ 98 عن حميد، وقال: وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها.

(5)

سقط من: الأصل.

ص: 123

أمورِها وحقوقِها، مثلَ الذي له عليها من ترْكِ ضِرارِه في كتمانِها إيّاه ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ وغيرِ ذلك من حقوقِه. ثم ندَب الرجالَ إلى الأخذِ عليهنّ بالفضل إذا تَرَكْنَ أداءَ بعضِ ما أوجَب اللهُ لهم عليهنَّ، فقال:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} بتَفَضُّلِهم عليهن، وصَفْحِهم لهنَّ عن بعضِ الواجبِ لهم عليهنَّ، وهذا هو المعنى الذي قصَده ابنُ عباسٍ بقولِه: ما أُحِبُّ أن أستنْظِفَ جميعَ حقِّى عليها؛ لأن اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . ومعنى الدرجةِ الرتبةُ والمنزلةُ.

وهذا القولُ من اللهِ جلّ ثناؤه وإن كان ظاهرُه ظاهرَ خبرٍ، فمعناه معنى نَدْبِ الرجالِ إلى الأخذِ على النساءِ بالفضلِ ليكونَ لهم عليهنَّ فضلُ درجةٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} .

يعني بذلك جلَّ ثناؤُه: واللهُ عزيزٌ في انتقامِه ممن خالَف أمرَه، وتعدَّى حدودَه، فأتى النساءَ في المحيضِ، وجعَل اللهَ عرضةً لأيمانِه أن يَبَرَّ ويتَّقِىَ ويصلحَ بين الناسِ، وعضَل امرأتَه بإيلائِه، وضارَّها في مراجَعتِه بعدَ طلاقِه، ومِمَّن

(1)

كتَم من النساءِ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ أزواجَهنَّ، ونكَحن في عِدَدِهنَّ، وترَكْنَ التربصَ بأنفُسِهنَّ إلى الوقتِ الذي حدَّه اللهُ لهنَّ، وركِب

(2)

غيرَ ذلك من معاصِيه، حكيمٌ فيما دبَّرَ في خلقِه، وفيما حكَم وقضَى بينَهم من أحكامِه.

كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع في قولِه:{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . يقولُ: عزيزٌ في نقمتِه، حكيمٌ في أمرِه

(3)

.

(1)

في النسخ: "لمن". والصواب ما أثبت.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ركبن".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 371، 418، 453 عقب الأثر (1956، 2204، 2398) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به.

ص: 124

وإنما توعَّدَ اللهُ جلَّ ثناؤُه بهذا القولِ عبادَه؛ لتقديمِه قبلَ ذلك بيانَ ما حرَّم عليهم أو نَهاهم عنه من ابتداءِ قولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} إلى قولِه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . ثم أَتبع ذلك بالوعيدِ ليزدَجِرَ أولُو النُّهَى، وليذَّكرَ أولو الحِجَا، فيتَّقُوا عقابَه، ويحذَرُوا عذابَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: هو دلالةٌ على عَددِ الطلاقِ الذي يكونُ للرجلِ فيه الرجعةُ على زوجتِه، والعدَدِ الذي تَبِينُ به زوجتُه منه.

ذكرُ من قال: إن هذه الآيةَ نزَلتْ لأنَّ أهلَ الجاهليةِ وأهلَ الإسلامِ قبلَ نزولِها لم يكنْ لطلاقِهم نهايةٌ تَبِينُ بالانتهاءِ إليها امرأتُه منه، ما راجَعها في عدَّتِها منه، فجعَل اللهُ لذلك حدًّا حرَّمَ بانتهاءِ الطلاقِ إليه على الرجلِ امرأتَه المطلَّقةَ إلَّا بعدَ زوجٍ، وجعَلها أملَكَ حينئذٍ بنفسِها منه.

‌ذِكرُ الأخبارِ الواردةِ بما قلنا في ذلك

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن أبيه، قال: كان الرجلُ يطلِّقُ ما شاءَ ثم إنْ راجَعَ امرأتَه قبلَ أن تنقضيَ عدَّتُها كانت امرأتَه، فغضِبَ رجلٌ من الأنصارِ على امرأتِه، فقال لها: لا أقرَبُك ولا تَحِلِّين مِنِّى. قالت له: كيفَ؟ قال: أُطلِّقُكِ، فإذا

(1)

دَنَا أجلُكِ راجَعتُك، ثم أُطلِّقُك، فإذا دَنَا أجلُك راجعتُك. قال: فشكَتْ ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللهُ جلّ ثناؤُه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} الآية

(2)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حتى إذا".

(2)

أخرجه مالك 2/ 588 - ومن طريقه الشافعي 2/ 68 (شفاء العى)، والبيهقي 7/ 333 - وعبد بن =

ص: 125

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا هشامٌ، عن أبيه، قال: قال رجلٌ لامرأتِه على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لا أُؤْوِيكِ، ولا أدَعُكِ تَحِلِّين. فقالت له: كيف تَصنَعُ؟ قال: أُطلِّقُكِ، فإذا دنَا مُضِىُّ عِدَّتِكِ راجعْتُكِ، فمتى تحلِّينَ؟ فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللهُ عز وجل:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قال: فاستقبلَه الناسُ جديدًا، من كان طلَّقَ ومَن لم يكنْ طلَّق

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان أهلُ الجاهليةِ؛ كان الرجلُ يطلِّقُ الثلاثَ والعشرَ وأكثرَ من ذلك، ثم يُراجِعُ ما كانت في العِدّةِ، فجعَل اللهُ جلَّ ثناؤُه حدَّ الطلاقِ ثلاثَ تطليقاتٍ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان أهلُ الجاهليةِ يُطلِّقُ أحدُهم امرأتَه ثم يراجِعُها، لا حدَّ في ذلك، هي امرأتُه ما راجَعها في عِدّتِها، فجعَل اللهُ تبارك وتعالى حدَّ ذلكَ يصيرُ إلى ثلاثةِ قُروءٍ، وجعَل حدَّ الطلاقِ ثلاثَ تطليقاتٍ.

حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} . قال: كان الطلاقُ، قبلَ أن يجعَلَ اللهُ الطلاقَ ثلاثًا، ليسَ له أمدٌ؛ يطلِّقُ الرجلُ امرأتَه مائةً، ثم إنْ أرادَ أن يُراجِعَها قبلَ أن تَحِلَّ، كان ذلك له، فطلَّقَ رجلٌ امرأتَه حتى إذا كادَتْ أن تحِلَّ ارْتَجَعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعدَ ذلك يُضَارُّها بتركِها، حتى إذا كان قبلَ انقضاءِ عدَّتِها راجَعَها، وصنَع ذلك مرارًا، فلمَّا علِمَ اللهُ

= حميد - كما في تفسير ابن كثير 1/ 399، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 418 (2206) ص طريق هشام به.

(1)

أخرجه الترمذي عقب حديث (1192) عن أبي كريب به، وابن أبي شيبة 5/ 260 عن ابن إدريس به. وأخرجه الترمذي (1192)، والحاكم 2/ 279، وابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 399، 400 - والبيهقي 7/ 333 من طرق عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

(2)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 400.

ص: 126

ذلك منه جعَل الطلاقَ ثلاثًا؛ مرَّتين، ثم بعدَ المرتينِ إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ

(1)

.

حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} : أما قولُه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فهو الميقاتُ الذي يكونُ عليها فيه الرجعةُ

(2)

.

حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال: إذا أرادَ الرجلُ أن يطلِّقَ امرأتَه فيطلِّقَها تَطليقتيْنِ، فإن أرادَ أن يُراجِعَها كانت له عليها رجعةٌ، وإن شاءَ طلَّقها أُخرَى، فلم تحِلَّ له حتى تنكِحَ زوجًا غيرَه

(3)

.

فتأويلُ الآيةِ على هذا الخبرِ الذي ذكَرنا: عددُ الطّلاقِ الذي لكم أيُّها الناسُ فيه على أزواجِكم الرجعةُ، إذا كنَّ مَدخولًا بهنّ، تَطليقتان، ثم الواجبُ على من راجَع منكم بعدَ التطليقتيْنِ إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ؛ لأنه لا رجعةَ له بعد التَّطليقتين إنْ سرَّحها فطلَّقها الثالثةَ.

وقال آخرون: إنما أُنزِلتْ هذه الآيةُ علَى نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم تعريفًا من اللهِ جلّ ثناؤُه عبادَه سُنَّةَ طلاقِهم نساءَهم إذا أرادُوا طلاقَهنَّ، لا دلالةً على العَدَدِ

(4)

الذي به تَبِينُ المرأةُ من زوجِها.

(1)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 400.

(2)

أخرجه البيهقي 7/ 367 من طريق عمرو، عن أسباط، عن السدي بإسناده.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 261 عن أبي الأحوص به.

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"القدر".

ص: 127

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُطرِّفٍ، عن أبي

(1)

إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللهِ في قولِه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال: يُطلِّقُها بعدَ ما تطْهُرُ مِن قبلِ جماعٍ، ثم يدَعُها حتى تَطْهُرَ مرَّةً أُخرى، ثم يطلِّقُها إن شاءَ، ثم إنْ أرادَ أنْ يُراجِعَها راجَعَها، ثم إنْ شاءَ طلَّقها، وإلَّا ترَكَها حتى تُتِمَّ ثلاث حِيَضٍ، وتَبينَ منهُ به

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه تطليقتَيْنِ، فليتَّقِ اللهَ في التطليقةِ الثالثةِ، فإمَّا

(3)

يُمسكُها بمعروفٍ فيُحْسِنُ صَحابتَها، أو يسرِّحُها بإحسانٍ، فلَا يظلِمُها من حقِّها شيئًا

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .

قال: يُطلِّقُ الرجلُ امرأتَه طاهرًا مِن غيرِ جماعٍ، فإذا حاضَتْ ثم طَهُرتْ فقد تمَّ القرْءُ، ثم يطلِّقُ الثانيةَ كما طلَّق

(5)

الأولَى، إن

(6)

أحبَّ أنْ يفعَلَ، فإذا طلَّق الثانيةَ ثم

(1)

في الأصل: "ابن".

(2)

أخرجه النسائي (3394، 3395)، وابن ماجه (2021)، والدارقطني 4/ 5، والبيهقي 7/ 332 من طريق أبي إسحاق به.

(3)

بعده في م: "أن".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 419 (2208، 2209) من طريق عبد الله بن صالح به.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يطلق".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فإن".

ص: 128

حاضت الحيضةَ الثانيةَ فهما تطليقتانِ وقُرْءَان، ثم قال اللهُ تبارك وتعالى في الثالثةِ:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فيطلِّقُها في ذلك القرءِ كلِّه إن شاءَ حينَ تجمَعُ عليها

(1)

ثيابَها

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، إلَّا أنه قال: فحاضَت الحيضةَ الثانيةَ، كما طلَّق الأولَى، فهاتان تطليقتانِ وقُرْءانِ، ثم قال: الثالثةُ. وسائرُ الحديثِ مثلُ حديثِ محمدِ بن عمرٍو، عن أبي عاصمِ.

فتأويلُ الآيةِ على قولِ هؤلاء: سُنَّةُ الطلاقِ التي سَنَنْتُها وأبَحتُها لكم، إذا أردْتم طلاقَ نسائِكم، أن تطلقوهنَّ ثِنتينِ في كلِّ طهرٍ واحدةً، ثم الواجبُ * بعدَ ذلك عليكم، إما أن تمسكوهنّ بمعروفٍ أو تسرِّحوهنَّ بإحسانٍ.

فالذي هو أوْلَى بظاهرِ التنزيلِ ما قاله عُروةُ وقتادةُ ومَن قال مثلَ قولِهما من أنَّ الآيةَ إنما هي دليلٌ على عددِ الطلاقِ الذي يكونُ به التحريمُ وبُطولُ الرجْعةِ فيه، والذى يكونُ فيه الرجعةُ منه، وذلك أن اللهَ تعالى ذِكرُه قال في الآيةِ التي تتلوها:

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . فعرَّف عبادَه القدرَ الذي به تحرُمُ المرأةُ على زوجِها إلَّا بعدَ زوجٍ، ولم يبيِّنْ فيها الوقتَ الذي يجوزُ الطلاقُ فيه، والوقتَ الذي لا يجوزُ ذلكَ فيه، فيكونَ موجِّهًا تأويلَ الآيةِ إلى ما رُوى عن ابنِ مسعودٍ ومجاهدٍ ومن قال بمثلِ قولِهما فيه.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عليه".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 261، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 418 (2207). من طريق ابن أبي نجيح به.

* من هنا خرم في النسخة الأصل، وينتهي عند قوله: فيه الرجعة مرتان. في ص 132.

ص: 129

وأما قولُه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإنَّ في تأويلِه وفيما عُنِى به اختلافًا بين أهلِ التأويلِ؛ فقال بعضُهم: عنَى اللهُ تعالَى ذكرُه بذلك الدلالةَ على اللازمِ للأزواجِ للمطلقاتِ

(1)

اثنتين بعدَ مُراجعتِهم إياهنَّ من التطليقةِ الثانيةِ من عِشرتِهن بالمعروفِ، أو فراقِهنَّ بطلاقٍ.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريج، قال: قلتُ لعطاءٍ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ؟ قال: يقولُ: عندَ الثالثةِ إما أن يُمسِكَ بمعروفٍ، وإما أن يُسرِّحَ بإحسانٍ. وغيرُه

(2)

قالها. قال: وقال مجاهدٌ: الرجلُ أملكُ بامرأتِه في تطليقتين من غيرِه، فإذا تكلَّمَ الثالثةَ فليستْ منه بسبيلٍ، وتَعتدُّ لغيرِه

(3)

.

حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن إسماعيلَ بنِ سُميعٍ، عن أبي رَزِينٍ، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ قولَه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فأين الثالثةُ؟ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} " هي الثالثةُ"

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، مَال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وعبدُ الرحمنِ بنُ مهدىٍّ، قالا: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بنِ سُميعٍ، عن أبي رزينٍ، قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ

(1)

في ص: "المطلقات".

(2)

في م: "غيرها".

(3)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 100.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1457)، وابن أبي شيبة 5/ 259، 260، والبيهقي 7/ 340 من طريق أبي معاوية به، وأخرجه سعيد بن منصور (1456)، والحارث بن أبي أسامة (502 - بغية)، وابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 1/ 400 - من طريق إسماعيل بن سميع به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 277 إلى وكيع وأبي داود في ناسخه وابن المنذر.

ص: 130

صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}. فأين الثالثةُ؟ قال:" {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ".

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرَّزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن إسماعيلَ، عن أبي رَزِينٍ، قال: قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، يقولُ اللهُ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ، فأين الثالثةُ؟ قال:"التَّسْريحُ بإحسانٍ"

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال: في الثالثةِ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزَّاقِ، عن مَعمرٍ، عن قتادةَ، قال: كان الطلاقُ ليس له وقتٌ حتى أنزَل اللهُ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} . قال: الثالثةُ {إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(3)

.

وقال آخرون منهم: بل عنَى اللهُ بذلك الدلالةَ على ما يلزَمُهم لهنَّ بعدَ التطليقةِ الثانيةِ من مُراجعةٍ بمعروفٍ أو تسريحٍ بإحسانٍ، بتركِ رجْعتِهنَّ حتى تنقضيَ عدَّتُهنَّ، فيصِرْنَ أملكَ بأنفُسِهنَّ

(4)

. وأنكَروا قولَ الأوَّلين الذين قالوا: إنه دليلٌ على التطيقةِ الثالثةِ.

ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قولِه:

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 93، وفي مصنفه (11091) - ومن طرف النحاس في ناسخه ص 225، 226، وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 1/ 400 - وأبو داود في المراسيل ص 145، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 419 (2210) من طريق سفيان به.

(2)

ينظر المحرر 2/ 100.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 93، وفي مصنفه (11093).

(4)

في م: "لأنفسهن".

ص: 131

{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} : إذا طلَّقَ واحدة أو اثنتيْنِ، إما أن يُمسِكَ - ويمسكَ: يراجعَ - بمعروفٍ، وإما سكتَ عنها حتى تنقضيَ عدَّتُها، فتكونَ أحقَّ بنفسِها

(1)

.

حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} : فالتسريحُ أن يدَعَها حتى تمضيَ عِدَّتُها

(1)

.

حدَّثنا يحيى

(2)

بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال: يعني تطليقتيْنِ بينهما مُراجعةٌ، فأُمِر أنُ يمسِكَ أو يُسرِّحَ بإحسانٍ. قال: فإنْ هو طلَّقها ثالثةً، فلَا تَحِلُّ له حتى تنكِحَ زوجًا غيرَه.

وكأن قائلي هذا القولِ الذف ذكَرناه عن السُّدِّيِّ والضحاكِ ذهَبوا إلى أن معنى الكلامِ: الطلاقُ مرّتانِ، فإمساكٌ في كلِّ واحدةٍ منهما لهنَّ بمعروفٍ، أو تسريحٌ لهنَّ بإحسانٍ.

وهذا مذهبٌ مما يحتمِلُه ظاهرُ التنزيلِ لولَا الخبرُ الذي ذكَرتُه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيلُ بنُ سُميعٍ، عن أبي رَزِينٍ، فإنَّ اتباعَ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أوْلى بنا مِن غيرِه. فإذ كان ذلك هو الواجبَ، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآيةِ: الطلاقُ الذي لأزواجِ النساءِ على نسائِهم (*) فيه الرجعةُ مرتان، ثم الأمرُ بعدَ ذلك إذا راجَعوهُنَّ في الثانيةِ، إما إمساكٌ بمعروفٍ، وإما تسريحٌ منهم لهن بإحسانٍ بالتطليقةِ

(1)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 100.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"على".

(*) إلى هنا ينتهي الخرم المشار إليه في ص 129.

ص: 132

الثالثةِ حتى يَبِنَّ

(1)

مِنهم، فيَبطُلَ

(2)

ما كان لهم عليهن من الرجْعةِ، ويصِرنَ أملكَ بأنفسِهنَّ

(3)

منهم

(4)

.

فإن قال قائلٌ: وما ذلك الإمساكُ الذي هو بمعروفٍ؟

قيل: هو ما حدَّثني به عليُّ بنُ عبدِ الأعلَى المحاربيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المحاربيُّ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} . قال: المعروفُ أن يُحسنَ صُحبتَها.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} . قال: ليتّقِ اللهَ فما التطليقةِ الثالثةِ، فإمّاُ يُمسِكُها بمعروفٍ فيحسِنُ صَحابتَها

(5)

.

فإن قال: فما التسريحُ الذي هو بإحسانٍ؟

قيل: هو ما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} : أو يُسرِّحُها فلا يظلِمُها من حقِّها شيئًا.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال: هو الميثاقُ الغليظُ.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {أَوْ تَسْرِيحٌ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تبين".

(2)

في م: "فتبطل".

(3)

في م: "لأنفسهن".

(4)

في م: "منهن".

(5)

في الأصل: "صحبتها". والأثر تقدم تخريجه في ص 128.

ص: 133

بِإِحْسَانٍ}. قال: الإحسانُ أن يوفِّيَها حقَّها، فلا يُؤذِيَها ولا يَشتمَها

(1)

.

حدَّثنا عليُّ بنُ عبدٍ الأعلَى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المحاربيُّ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} : فالتسريحُ بإحسانٍ أن يدَعَها حتى تمضيَ عِدّتُها، ويُعطيَها مَهرًا إنْ كان لها عليه إذا طلَّقها، فذلك التسريحُ بإحسانٍ، والمتعةُ على قَدْرِ الميسرَةِ.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] قال: قولُه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(2)

.

بأن قال قائلٌ: فما الرافعُ للإمساكِ والتسريحِ؟

قيل: محذوفٌ اكتُفِيَ بدلالةِ ما ظهَر من الكلامِ مِن ذكرِه، ومعناه: الطلاقُ مرتان، فالأمرُ الواجبُ حينئذٍ

(3)

إمساكٌ بمعروفٍ، أو تسريحٌ بإحسانٍ.

وقد بيَّنَّا ذلك مفسَّرًا في قولِه: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فأغنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} .

يعني بقولِه جلّ ثناؤُه: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} :

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 419 (2211) من طريق عمرو به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 143، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 909 (5071) من طريقين، عن ابن عباس.

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".

(4)

ينظر ما تقدم في 3/ 110، 111.

ص: 134

ولا يَحِلُّ لكم أيُّها الرجالُ أن تأخُذوا مِن نسائِكم - إذا أنتم أردتُم طلاقَهن - لطلاقِكم وفراقِكم إياهنَّ، شيئاً مما أعطيتموهُنَّ من الصّداقِ، وسُقتُم إليهنَّ [من المهرِ]

(1)

، بل الواجبُ عليكم تسريحُهنَّ بإحسانٍ، وذلك إيفاؤُهنَّ حقوقَهنَّ من الصَّداقِ والمتعةِ وغيرِ ذلك مما يجبُ لهنَّ عليكم إلَّا أن يخافا ألا يُقيما حدودَ اللهِ.

واختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} . وذلك قراءةُ عُظْمِ أهلِ الحجازِ والبصرةِ

(2)

، بمعنى: إلَّا أن يخافَ الرجلُ والمرأةُ ألا يقيمَا حدودَ اللهِ. وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ: (إلَّا أنْ يَظُنَّا ألَا يُقيِما حُدودَ اللهِ).

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، قال: أخبَرني ثورٌ، عن ميمونِ بنِ مِهرانَ، قال: في حرفِ أُبيٍّ أن الفداءَ تطليقةٌ. قال

(3)

: فذكَرتُ ذلك لأيوبَ، فأتينا رجلًا عندَه مصحفٌ قديمٌ لأبيٍّ خرَج من ثقةٍ، فقرَأناه فإذا فيه:(إلَّا أنْ يَظُنَّا ألَّا يُقِيما حُدودَ اللهِ، فإنْ ظَنَّا ألا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه، لا تحلُّ له من بعدُ حتى تنكحَ زوجًا غيرَه)

(4)

.

والعربُ قد تضعُ الظَّنَّ موضعَ الخوفِ، والخوفَ موضعَ الظنِّ في كلامِها؛ لتقاربِ معنيَيْهما، كما قال الشاعرُ

(5)

:

أتانِي كَلامٌ عنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ

ومَا خِفْتُ يا سَلَّامُ أنَّكَ عائبِي

(1)

سقط من: ص، م.

(2)

وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو والكسائي وخلف. ينظر النشر 2/ 171.

(3)

القائل هو معمر كما في مصنف عبد الرزاق.

(4)

مصنف عبد الرزاق (11763).

(5)

هو أبو الغول الطُّهوي، والبيت في نوادر أبي زيد ص 46، ومعاني القرآن للفراء 1/ 146.

ص: 135

بمعنى: وما ظَننتُ.

وقرأه آخرون من أهلِ المدينةِ والكوفةِ: (إلَّا أنْ يُخافا)

(1)

. فأما قارئُ ذلك كذلك من أهلِ الكوفةِ، فإنه ذُكِر عنه أنه قرَأه كذلك اعتبارًا منه بقراءةِ ابنِ مسعودٍ، وذُكِرَ أنه في قراءةِ ابنِ مسعودٍ:(إلَّا أنْ تَخافُوا ألَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ)

(2)

. وقراءةُ ذلك كذلك اعتبارًا بقراءةِ ابنِ مسعودٍ التي ذُكِرتْ عنه خطأٌ، وذلك أن ابنَ مسعودٍ إن كان قرَأه كما ذُكِرَ عنه، فإنما أعملَ الخوفَ في "أنْ" وحدَها، وذلك غيرُ مدفوعةٍ صحتُه، كما قال الشاعرُ

(3)

:

إذَا مِتُّ فادْفِنِّي إلى أصْلِ

(4)

كَرْمَةٍ

يُرَوِّي عِظامي بَعْدَ مَوتي عُرُوقُها

ولَا تَدْفِنَنِّى بالفَلاةِ فإنَّنِي

أخافُ إذَا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقُها

فأمّا قارئُه: (إلَّا أن يُخافَا). بذلك المعنَى، فقد أعمَل الخوفَ

(5)

في متروكةٍ

(6)

تَسميتُه، وفي "أنْ"، فأعْمَله في ثلاثةِ أشياءَ

(7)

: المتروكِ الذي هو اسمُ ما لمْ يُسمَّ فاعلُه، وفي "أنْ" التي تنوبُ عن شيئين. ولا تقولُ العربُ في كلامِها: ظُنّا أنْ يقوما. لكنّ قراءةَ ذلك كذلك صحيحةٌ على غيرِ الوجهِ الذي قرَأهُ مَنْ ذكَرْنا قراءَتَه

(1)

وهي قراءة أبي جعفر ويعقوب وحمزة. النشر 1/ 171.

(2)

البحر المحيط 2/ 197.

(3)

هو أبو محجن الثقفي، عمرو بن حبيب. والبيتان في معاني القرآن للفراء 1/ 146، وخزانة الأدب 8/ 398، 399، 401، 402، وهمع الهوامع 2/ 2.

(4)

في م: "جنب".

(5)

سقط من: ص، م.

(6)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"متروكه".

(7)

بعده في الأصل: "أحدهما".

ص: 136

كذلك، اعتبارًا بقراءةِ عبدِ اللهِ [التي وصَفْنَاها]

(1)

، ولكنْ على أن يكونَ مرادًا به إذا قُرئَ كذلك: إلا أن يُخافَا بألا يقيما حدودَ اللهِ. أو على ألا يقيما حدودَ اللهِ.

فيكونَ العاملُ في "أن" غيرَ "الخوفِ"، ويكونَ "الخوفُ" عاملًا فيما لم يُسمَّ فاعلُه. وذلك هو الصوابُ عندَنا من

(2)

القراءةِ؛ لدلالةِ ما بعدَه على صحتِه، وهو قولُه:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} فكان بيِّنًا أن الأولَ بمعنى: إلَّا أن تَخافوا ألا يُقِيما حدودَ اللهِ.

فإن قال قائلٌ: وأيةُ حالٍ الحالُ التي يُخافُ عليهما ألا يُقِيما حدودَ اللهِ، حتى يَجوزَ للرجلِ أنْ يأخُذَ حينئذٍ منها ما آتاها؟

قيل: حالُ نُشوزِها وإظهارِها له بِغْضتَه، حتى يُخافَ عليها تركُ طاعةِ اللهِ فيما ألزَمها

(3)

لزوجِها من الحقِّ، ويُخافَ على زوجِها بتقصيرِها في أداءِ حقوقه التي ألزَمها اللهُ له تركُه أداءَ الواجبِ لها عليه، فذلك حينَ الخوفِ عليهما ألا يُقيما حدودَ اللهِ فيُطِيعاه فيما ألزَمَ كلَّ واحدٍ منهما لصاحبِه، والحالُ التي أباحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ أخذَ ما كان آتَى زوجَته إذْ نَشَزتْ عليه بُغضًا منها له.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: قرأتُ على فُضيلٍ، عن أبي حَرِيزٍ

(4)

، أنه سأل عكرمةَ: هل كان للخُلعِ أصلٌ؟ قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: إنَّ أولَ خُلعٍ كان في الإسلامِ أختُ عبدِ اللهِ بنِ أبَىٍّ؛ أنها أتتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ اللهِ لا يجمَعُ رأسِي ورأسَه شيْءٌ أبدًا، إني رفَعتُ جانبَ الخِباءِ فرأيتُه أقبَل في عِدَّةٍ، فإذا هو أشدُّهم سوادًا، وأقصرُهم قامةً، وأقْبحُهم

(1)

في ص، م:"الذي وصفنا".

(2)

في م: "في".

(3)

في م: "لزمها".

(4)

في النسخ: "جرير". وينظر تهذيب الكمال 14/ 420.

ص: 137

وجهًا. قال زوجُها: يا رسولَ اللهِ إني أعطيتُها أفضلَ مالي حديقةً، [فإنْ ردَّتْ]

(1)

عليَّ حديقتي! قال: ما تقولين؟ قالت: نَعم، وإن شاءَ زِدْتُه. قال: ففرّقَ بينهما

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ مَعمرٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا أبو عَمرٍ والسَّدوسِيُّ، عن عبدِ اللهِ، يعني ابنَ أبي بكرٍ، عن عَمْرةَ، عن عائشةَ، أن حبيبةَ ابنةَ سهلٍ كانت تحتَ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، فضرَبها فكسَر بعضَها

(3)

، فأتت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ الصُّبحِ، فاشْتكتْه إليه

(4)

، فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثابتًا، فقال:"خُذْ بعضَ مالِها وفارِقْها". قال: ويصلُحُ ذلك يا رسولَ اللهِ؟ قال: "نعم". قال: فإني أصدَقْتُها حديقتَيْنِ وهما بيدِها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"خُذْهُمَا وفارِقْهَا". ففعَل

(5)

.

حدثنا [ابن بشارٍ]

(6)

، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا مالكٌ، عن يحيى، عن عَمْرةَ، أنها أخبرَته عن حبيبةَ ابنةِ سهلٍ الأنصاريةِ أنها كانت تحتَ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، وأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رآها عندَ بابِه بالغَلسِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هَذِه؟ " قالت: أنا حبيبةُ ابنةُ سهلٍ، لا أنا ولا ثابتُ بنُ قيسٍ. لزوجِها، فلما جاء

(1)

في م: "فلتردد".

(2)

ذكره ابن كثير 1/ 403 عن المصنف، وينظر الإصابة 7/ 557، وتخريج أحاديث الكشاف 1/ 145.

(3)

في جامع الأصول (2094): "نغضها"، وذكر الشيخ شاكر أنها كذلك في نسختين من أبي داود، والمثبت موافق لما في مطبوعة سنن أبي داود وتفسير ابن كثير وإن غيرها ناشرو المطبوعة. ولم يذكر غيرها في عون المعبود 2/ 234، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: النغض: أعلى الكتف، وقيل: هو العظم العريض الذي يسمى اللوح.

(4)

سقط من: ص، م.

(5)

أخرجه أبو داود (2228) عن محمد بن معمر به، وأخرجه البيهقي 7/ 315 من طريق عبد الله بن أبي بكر، به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11762) من طريق عمرة به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 402.

(6)

في م: "أبو يسار".

ص: 138

ثابتُ بنُ قيسٍ قال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ حَبِيبَةُ ابنةُ سَهْلٍ تَذْكُرُ ما شاءَ اللهُ أنْ تَذْكُرَ". فقالت حبيبةُ: يا رسولَ اللهِ، كلُّ ما أعطانِيه عندي. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذْ مِنْها". فأخَذ منها وجلَستْ في بيتِها

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن ثابتٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ رباحٍ

(2)

، عن جميلةَ بنتِ أُبيِّ ابنِ سلولَ، أنها كانت تحت

(3)

ثابتِ بنِ قيسٍ فنشَزتْ عليه، فأرسَل إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا جَمِيلَةُ ما كَرِهْتِ مِنْ ثابِتٍ"؟ قالت: واللهِ ما كرِهتُ منه دِينًا ولَا خُلقًا، إلَّا أني كرِهتُ دَمامَتَه. فقال لها:"أتَرُدِّين الحَديقَةَ؟ " قالت: نعم. فرَدَّتِ الحديقةَ، وفرَّق بينهما

(4)

.

وقد ذُكِرَ أنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ في شأنِهما، أعني في شأنِ ثابتِ بنِ قيسٍ وزوجتِه هذه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: نزَلتْ هذه الآيةُ في ثابتِ بنِ قيسٍ وفي حبيبةَ، قال: وقد كانت اشتكَته إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ:"تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ"؟ فقالت: نعم. فدعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فذكَر ذلك له. فقال: ويطيبُ لي ذلك يارسولَ اللهِ؟ قال: "نعم". قال

(1)

أخرجه مالك 2/ 564 - ومن طريقه الشافعي في الأم 5/ 113، وأحمد 6/ 433 (الميمنية)، وأبو داود (2227)، والنسائي (3462)، وابن الجارود (749)، وابن حبان (4280)، والبيهقي 7/ 312، وأخرجه الشافعي 5/ 113 - ومن طريقه البيهقي 7/ 313 - من طريق يحيى به مختصرا، وأخرجه أبو داود (2228) من طريق عمرة به.

(2)

في الأصل: "زياد".

(3)

في ص، م:"عند".

(4)

أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 4/ 1802 من طريق ابن حميد به.

ص: 139

ثابتٌ: قد فعَلْتُ. فنزَلتْ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}

(1)

.

وأما أهلُ التأويلِ فإنهم اختَلَفوا في معنى الخوفِ منهما ألا يُقِيما حدودَ اللهِ، فقال بعضُهم: ذلك هو أن يظهرَ من المرأةِ سوءُ الخلقِ والعِشرةِ لزوجِها، فإذا ظهَر ذلك منها له، حلَّ له أخذُ ما أعطَتْه من فديةٍ على فراقِها.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} : إلَّا أن يكونَ النشوزُ وسوءُ الخلقِ مِن قِبَلِها، فتَدْعوَك إلى أن تَفتديَ منك، فلا جناحَ عليك فيما افتدَتْ به

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: أخبَرني هِشامُ بنُ عروةَ، أن عروةَ كان يقولُ: لا يحِلُّ الفداءُ حتى يكونَ الفسادُ من قِبَلِها، ولم يكنْ يقولُ:"لا يحِلُّ له" حتى تقولَ: لا أبَرُّ لكَ قَسمًا، ولا أغتسِلُ مِن جنابةٍ

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: أخبَرني عَمرُو بنُ دينارٍ، قال: قال جابرُ بنُ زيدٍ: إذا كان الشَّرُّ

(4)

مِن قِبلِها حلَّ الفداءُ (3).

(1)

أخرجه الدارقطني 3/ 255، والبيهقي 7/ 314، من طريق عن حجاج، عن ابن جريج، عن أبي الزبير.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 420 (2217) من طريق أبي صالح به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 108 عن ابن علية به.

(4)

في م: "النشز".

ص: 140

حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: حدَّثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني ابنُ أبي الزِّنادِ، عن هشامِ بنِ عروةَ، أن أباه كان يقولُ: إذا كان سوءُ الخلقِ وسوءُ العِشْرَةِ مِن قِبلِ المرأةِ، فذاكَ يُحِلُّ خُلْعَها.

حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ، عن حمادٍ، عن هشامٍ، عن أبيه أنه قال: لا يصلُحُ الخُلعُ حتى يكونَ الفسادُ من قِبلِ المرأةِ

(1)

.

حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ السُّكَّريُّ

(2)

، قال: ثنا محمدُ بنُ يزيدَ، عن إسماعيلَ، عن عامرٍ في امرأةٍ قالت لزوجِها: لا أبَرُّ لك قسمًا، ولا أُطيعُ لك أمْرًا، ولا أغتسِلُ لك من جنابةٍ: قال: ما هذا؟ - وحرَّك يدَه - لا أبَرُّ لك قسمًا، ولا أطيعُ لك أمرًا! إذا كرِهتِ المرأةُ زوجَها فلْيأخُذْ ولْيترُكْها

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ أنه قال في المُختَلِعةِ: يَعِظُها، فإن انتهَتْ وإلا هجرَها، فإن انتهَتْ وإلا ضرَبها، فإن انتهتْ وإلا رفَع أمرَها إلى السلطانِ، فيبعَثُ حَكَمًا من أهلِه وحكَمًا من أهلِها، فيقولُ الحكمُ الذي من أهلِها: تفعلُ بها كذا وتفعلُ بها كذا. ويقولُ الحكَمُ الذي من أهلِه: تفعَلُ به كذا وتفعلُ به كذا. فأيُّهما كان أظلمَ ردَّه السلطانُ، وأخَذ فوقَ يدِه، وإن كانت ناشزًا أمَره أن يخلَعَ

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} إلى قولِه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا

(1)

أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 23/ 370 من طريق حماد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 281 إلى عبد بن حميد.

(2)

في ص، م:"القناد". وينظر تهذيب الكمال 16/ 413.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1417) عن إسماعيل به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 156 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 141

افْتَدَتْ بِهِ}. قال: إذا كانت المرأةُ راضيةً مُغتبطةً مطيعةً، فلا يحلُّ له أن يضرِبَها حتى تفتديَ منه، فإن أخَذ منها شيئًا على ذلك، فما أخَذ مِنها فهو حرامٌ، وإن كان النشوزُ والبغضُ والظلمُ من قِبَلِها، فقد حلَّ له أن يأخُذَ منها ما افتدتْ به.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا مَعمرٌ، عن الزهريِّ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} قال: لا يحلُّ للرَّجلِ أن يَخْتلِعَ

(1)

امرأتَه إلا أن يُؤتَى

(2)

ذلك مِنها، فأما أن يكونَ [ذلك منه]

(3)

، يُضَارُّها حتى تَختلِعَ، فإن ذلك لا يصلُحُ، ولكن إذا نشَزتْ فأظهَرتْ له البغضاءَ وأساءت عِشْرتَه، فقد حلَّ له خُلْعُها

(4)

.

حدَّثنا يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} قال: الصداقُ {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} وحدودُ اللهِ أن تكونَ المرأةُ ناشِزًا، فإن اللهَ أمَر الزوجَ أن يعِظَها بكتابِ اللهِ، فإن قبِلتْ وإلا هجَرها، والهَجْرُ

(5)

ألا يُجامِعَها ولا يضاجِعَها على فراشٍ واحدٍ، ويُولِّيَها ظهرَه ولا يكلِّمَها، فإن أبَتْ غلَّظ لها

(6)

القولَ بالشَّتيمةِ لترجِعَ إلى طاعتِه، فإن أبتْ فالضربُ

(7)

؛ ضربٌ غيرُ مُبرِّحٍ، فإن أبتْ إلا جِماحًا فقد أُحِلَّ له منها الفديةُ

(8)

.

(1)

في م: "يخلع".

(2)

في م: "يرى".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 93، وفي مصنفه (11815).

(5)

في ص، م:"الهجران".

(6)

في م: "عليها".

(7)

في الأصل: "فبالضرب".

(8)

ينظر التبيان 2/ 246.

ص: 142

وقال آخرون: بل الخوفُ من ذلك ألا تَبَرَّ له قَسَمًا ولا تطيعَ له أمرًا، وتقولَ: لا أغتسِلُ لك من جنابةٍ، ولا أُطِيعُ لك أمرًا. فحينئذٍ يَحِلُّ له عندَهم أَخْذُ ما آتاها على فِراقِه إيّاها.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا معتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، قال: قال الحسنُ: إذا قالت: لا أغتسِلُ لك من جنابةٍ، ولا أَبَرُّ لك قسمًا، ولا أُطيعُ لك أمرًا. فحينئذٍ حلَّ الخُلعُ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال: إذا قالت المرأةُ لزوجِها: لا أبَرُّ لك قسمًا، ولا أطيعُ لك أمرًا، ولا أغتسِلُ لكَ من جنابةٍ، ولا أُقيمُ حدًّا من حدودِ اللهِ. فقد حلَّ له مالُها.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بنِ سالمٍ، قال: سألتُ الشعبيَّ، قلتُ: متى يحلُّ للرجلِ أن يأخُذَ من مالِ امرأتِه؟ قال: إذا أظهرَتْ بُغضَه وقالت: لا أبَرُّ لك قسمًا، ولا أطيعُ لك أمرًا.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن الشعبيِّ أنه كان يَعْجَبُ من قولِ مَن يقولُ: لا تحلُّ الفديةُ حتى تقولَ: لا أغتسِلُ لكَ من جنابةٍ. وقال: إن الزانِيَ يَزنِي ثم يغتسِلُ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ في

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 108، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 421 (2224) من طرق عن الحسن مختصرا.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1416) من طريق مغيرة به عن الشعبي.

ص: 143

الناشزِ، قال: إن المرأةَ ربما عصَتْ زوجَها ثم أطاعته، ولكن إذا عصَتْه فلم تَبَرَّ [له قَسَمًا]

(1)

، فعندَ ذلك تحِلُّ له

(2)

الفديةُ

(3)

.

حَدَّثَنِي [موسى بنُ هارونَ]

(4)

، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} : لا يحلُّ له أن يأخُذَ من مهرِها شيئًا إلَّا أن [يكونا يخافان]

(5)

ألَّا يُقيما حدودَ اللهِ، فإذا لَمْ يقيما حدودَ اللهِ، فقد حلَّ له الفِدَى

(6)

، وذلك أن تقولَ له: واللهِ لا أبرُّ لك قسمًا، ولا أطيعُ لك أمرًا، ولا أُكرِمُ لك نفْسًا. ولا أغتسِلُ لكَ من جنابةٍ. فهو حدودُ اللهِ، فإذا قالت ذلك، فقد حلَّ الفِدَى للزوجِ أن يأخُذَه ويطلِّقَها.

حَدَّثَنَا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، قال: ثنا عَنبسةُ، عن عليِّ بنِ بَذِيمةَ، عن مِقْسمٍ في قولِهِ:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] يقولُ: (إلَّا أن يُفْحِشْن) في قراءةِ ابنِ مسعودٍ

(7)

. قال: إذا عصتْكَ وآذَتْكَ، فقد حلَّ لك ما أخَذتَ منها

(8)

.

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} . قال: الخُلعُ. قال: ولا يحلُّ له إلَّا أن تقولَ المرأةُ: لا أَبَرُّ قسَمَه، ولا أطيعُ أمرَه. فيقبلَه خيفةَ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قسمه".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1439) من طريق مغيرة عن إبراهيم به.

(4)

في م: "يونس".

(5)

في م: "أن يخافا".

(6)

في م: "الفداء". وهما واحد.

(7)

ينظر البحر المحيط 3/ 203.

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 108 من طريق على به.

ص: 144

أن يسيءَ إليها إن أمسَكها ويتعدَّى الحقَّ.

وقال آخرون: بل الخوفُ من ذلك أن [تُبْدِىَ له]

(1)

بلسانِها قولًا أنَّها له كارهةٌ.

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكَمِ المصريُّ، قال: ثنا أبي وشعيبُ بنُ الليثِ، عن الليثِ، عن أيوبَ بنِ موسي، عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، قال: يُحِلُّ الخلعَ أن تقولَ المرأةُ لزوجِها: إني لأكرَهُكَ، وما أحبُّكَ، ولقد خشيتُ أن آثَمَ

(2)

في جنبِكَ ولا أؤدِّيَ حقَّكَ. وتطيبَ نَفْسًا

(3)

بالخُلعِ.

وقال آخرون: بل الذي يبيحُ له أخذَ الفديةِ أن يكونَ خوفُ ألا يقيما حدودَ اللهِ منهما جميعًا لكراهةِ كلِّ واحدٍ منهما صُحبةَ الآخَرِ.

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنَا حُميدُ بنُ مَسعدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، وحَدَّثَنِي يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن داودَ، قال: قال عامرٌ: أُحِلُّ له مالَها بنُشوزِه ونُشوزِها

(4)

.

حَدَّثَنِي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: قال ابنُ جُريجٍ: قال طاوسٌ: يُحِلُّ له الفِدى ما قال اللهُ تبارك وتعالى ولم يكن يقولُ قولَ السفهاءِ: لا أبَرُّ لك قسمًا. ولكن يُحِلُّ الفداءَ ما قال اللهُ: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ}

(1)

في ص: "تبتدي له" وفي م: "تبتذله".

(2)

في م: "أنام".

(3)

في م: "نفسك".

(4)

ينظر التبيان 2/ 246.

ص: 145

فيما افْتَرَض لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبِه من العِشرةِ والصحبةِ

(1)

.

حَدَّثَنِي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يقولُ: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} . قال: فيما افتَرَض اللهُ عليهما في العِشرةِ والصُّحبةِ

(2)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى ابنُ شهابٍ، قال: أخبَرني سعيدُ بنُ المسيَّبِ، قال: لا يَحِلُّ الخلعُ حتى يخافا ألا يُقِيما حدودَ اللهِ في العِشرةِ التي بينهما.

وأوْلى هذه الأقوالِ بالصحةِ قولُ من قال: لا يَحِلُّ للرجلِ أخذُ الفديةِ مِن امرأتِه على فراقِه إيَّاها، حتى يكونَ خوفُ معصيةِ اللهِ من كلِّ واحدٍ منهما على نفسِه، في تفريطِه في الواجبِ عليه لصاحبِه منهما جميعًا، على ما ذكرناه عن طاوسٍ والحسنِ ومَن قال في ذلك مثلَ قولِهما؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكرُه إنما أباحَ للزوجِ أخذَ الفدية من امرأتِه عندَ خوفِ المسلمين عليهما ألا يقيما حدودَ اللهِ.

فإن قال قائلٌ: فإن كان الأمرُ كما وصَفتَ، فالواجبُ أن يكونَ حرامًا على الرجلِ قبولُ الفديةِ منها إذا كان النشوزُ منها دونَه، حتى يكونَ منه من الكراهيةِ لها مثلُ الذي يكونُ منها؟

قيل له: الأمرُ في ذلك بخلافِ ما ظننتَ، وذلك أن في نشوزِها عليه داعيةً له إلى التقصيرِ في واجبِها، ومجازاتِها * بسوء فِعْلِها به، وذلك هو المعنى الذي يوجبُ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 109، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 420 (2216) عن ابن علية به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11818) عن ابن جريج به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 109 عن ابن علية به.

* من هنا خرم في النسخة الأصل، ينتهي في ص 149.

ص: 146

للمسلمين الخوفَ عليهما ألا يقيما حدودَ اللهِ. فأمَّا إذا كان التفريطُ من كلِّ واحدٍ منهما في واجبِ حقِّ صاحبِه قد وُجدَ، وسوءُ الصحبةِ والعِشرَةِ قد ظهَر للمسلمين، فليس هناك للخوفِ موضعٌ، إذْ كان الخوفُ قد وُجدَ، وإنما يُخافُ وقوعُ الشيءِ قبلَ حُدوثِه، فأما بعدَ حُدوثِه فلا وجهَ للخوفِ مِنه ولا الزيادةِ في مكروهِه.

‌القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} التي إذا خيفَ من الزوجِ والمرأةِ ألا يُقيماها حَلَّتْ له الفديةُ من أجلِ الخوفِ عليهما تَضْييعَها

(1)

؛ فقال بعضُهم: هو استخفافُ المرأةِ بحقِّ زوجِها وسوء طاعتِها إيَّاه، وأذاها له بالكلامِ.

ذكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنِي المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . قال: هو تركُها إقامةَ حدودِ اللهِ، واستخفافُها بحقِّ زوجِها، وسوءُ خلُقِها، فتقولُ له: واللهِ لا أبَرُّ لك قسمًا، ولا أطأُ لك مَضجَعًا، ولا أطيعُ لك أمرًا. فإن فعَلتْ ذلك فقد حَلَّ له منها الفديةُ

(2)

.

حَدَّثَنَا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي زائدةَ، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ في قولِه {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .

(1)

في م: "بصنيعها".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 421 (2221) من طريق عبد الله بن صالح به.

ص: 147

قال: إذا قالت: لا أغتسلُ لك من جنابةٍ. حلَّ له أن يأخُذَ منها

(1)

.

حَدَّثَنِي المُثَنَّي، قال: ثنا حبَّانُ بنُ موسي، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قال: ثنا يونسُ، عن الزهريِّ، قال: يَحِلُّ الخلعُ حين يخافان ألا يقيما حدودَ اللهِ وأَداءَ حدودِ اللهِ في العِشرةِ التي بينَهما

(2)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم ألا يطيعا اللهَ.

ذِكرُ من قال ذلك

حَدَّثَنَا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن عامرٍ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} . قال: ألا يطيعا اللهَ

(3)

.

حَدَّثَنِي محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: الحدودُ الطاعةُ.

والصوابُ من القولِ في ذلك: فإن خفتم ألا يُقيما [ما أوجَب]

(4)

اللهُ عليهما مِن الفرائضِ، فيما أُلْزِمَ كلُّ واحدٍ منهما من الحقِّ لصاحبِه من العِشرةِ بالمعروفِ، والصُّحبةِ بالجميلِ، فلا جناحَ عليهما فيما افْتَدَتْ به.

وقد يدخلُ في ذلك ما رَوَيْناه عن ابنِ عباسٍ والشعبيِّ، وما رَوَيْنا عن الحسنِ والزهريِّ، لأنَّ من الواجبِ للزوجِ على المرأةِ طاعتَه فيما أوجَب اللهُ طاعتَه فيه، ولا تؤذِيه بقولٍ، ولا تمتنِعُ عليه إذا دعاها لحاجتِه، فإذا خالَفتْ ما أمرَها اللهُ به من ذلك

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 421 (2224) من طريق يزيد.

(2)

ينظر التبيان 2/ 247.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 421 (2222) من طريق إسرائيل به.

(4)

في م: "حدود الله ما أوجب".

ص: 148

كانت قد ضيَّعتْ حدودَ اللهِ التي أمرَها بإقامتِها

(1)

.

وأما معنى إقامةِ

(2)

حدودِ اللهِ، فإنه العملُ بها، والمحافظةُ عليها، وتركُ تضْيِيعِها، وقد بينَّا ذلك فيما مضَى قبلُ مِن كتابِنا هذا، بما يدلُّ على صحتِه

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيمَ الزوجان ما حدَّ اللهُ لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبِه من حقٍّ، وألزَمه له مِن فرضٍ، وخَشِيتم عليهما تضييعَ فرضِ اللهِ وتعدِّيَ حدودِه في ذلك، فلا جناحَ حينئدٍ عليهما فيما افتدَتْ به المرأةُ نفسَها من زوجِها، ولا حرجَ عليهما فيما أعطَتْ هذه على فراقِ زوجِها إيّاها

(4)

، ولا على هذا فيما أخَذ منها من الجُعلِ والعِوَضِ عليه.

فإن قال قائلٌ: وهل كانت المرأةُ حَرِجةً لو كان الضِّرارُ من الرجلِ بها حتى افتدَتْ به نفْسَها، فيكونَ لا جناحَ عليهما

(5)

فيما أعطَتْه من الفديةِ على فِراقِها إذا كان النشوزُ مِن قِبَلِها؟

قيل: لو علِمتْ في حالِ ضِرارِه بها ليأخذَ منها ما آتاها أن ضِرارَه ذلك إنما هو ليأخذَ منها ما حرَّمَ اللهُ عليه أخذَه * على الوجهِ الذي نهاهُ اللهُ عن أخذِه منها، ثم قَدَرتْ أن تمتنِعَ مِن إعطائِه ذلك

(6)

بما لا ضررَ عليها في نفسٍ ولا دينٍ، ولا

(1)

في ص: "بإدامتها".

(2)

في ص: "إدامة".

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 247، 3/ 274.

(4)

في م: "إياه".

(5)

في م: "عليها".

* إلى هنا ينتهي الخرم المشار إليه في ص 146.

(6)

سقط من: ص، م.

ص: 149

خوفَ

(1)

عليها في ذهابِ حقٍّ لها، لما حلَّ لها إعطاؤُه ذلكَ، إلَّا علَى وجهِ طيبِ النفسِ منها بإعطائِه إيَّاهُ على ما يَحِلُّ له أخذُه منها؛ لأنها متى أعطَتْه ما لا يَحلُّ له أخذُه منها وهي قادرةٌ على مَنعِه ذلكَ بما لا ضررَ عليها في نفسٍ ولا دينٍ، ولا في حقٍّ لها تخافُ ذهابَه، فقد شارَكَتْه في الإثمِ بإعطائِه ما لا يَحلُّ له أخذُه منها على الوجهِ الذي أعطتْه عليْه، فلذلك

(2)

وُضِع عنها الجناحُ إذا

(3)

كان النشوزُ من قِبلِها، وأعطَتْه ما أعطَتْه من الفديةِ بطيبِ نفسٍ؛ ابتغاءً منها بذلك سلامتَها وسلامةَ صاحبِها من الوِزْرِ والمأثمِ، وهي - إذا أعطَتْه على هذا الوجهِ - باستحقاقِ الأجرِ والثوابِ من اللهِ أوْلى إن شاءَ اللهُ من الجنُاحِ والحرجِ، ولذلك قال جلّ ثناؤُه:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فوضَع الحرجَ عنها فيما أعطَتْه على هذا الوجهِ من الفديةِ على فِراقِه إيَّاها، وعنه فيما قبَض منها إذ كانت مُعطيةً على المعنى الذي وصَفْنا، وكان قابضًا منها ما أعطتْه من غيرِ ضِرارٍ، بل طلَبَ السلامةِ لنفسِه ولها في [أديانِهما وحذارًا للأوزارِ]

(4)

والمأثمِ.

وقد يتَّجِهُ قولُه جلّ ثناؤُه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وجهًا آخرَ من التأويلِ، وهو أنَّها لو بذَلتْ له ما بذَلتْ من الفديةِ على غيرِ الوجهِ الذي أذِن نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لامرأةِ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، وذلك لكراهتِها أخلاقَ زوجِها أو دمامةَ خَلْقِه، وما أشبَهَ ذلك من الأمورِ التي يكرهُها الناسُ بعضُهم من بعضٍ، ولكن على الانصرافِ منها بوجْهِها إلى آخرَ غيرِه على وجهِ الفسادِ وما لا يَحِلُّ لها - كان حرامًا عليها أنْ تُعطىَ على مسألتِها إياهُ فِراقَها على ذلك الوجهِ شيئًا؛ لأنَّ مسألتَها إيّاه الفرقةَ على ذلك

(1)

في ص، م:"حق".

(2)

في م: "فكذلك".

(3)

في الأصل: "إذ".

(4)

في ص: "أورالهما وحذار الأوزار"، وفي م:"أديانهما وحذار الأوزار".

ص: 150

الوجهِ معصيةٌ منها للهِ، وتلك هي المُخْتلِعةُ - إن خولِعتْ على ذلك الوجهِ - التي رُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سمَّاها منافقةً.

كما حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، عن ليثٍ، عن أبي إدريسَ، عن ثوبانَ مولَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيُّمَا امرأةٍ سأَلَتْ زوجَها الطَّلاقَ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهَا رَائحَةَ الجَنَّةِ". وقال: "المُخْتَلِعاتُ هُنَّ المنُافِقَاتُ"

(1)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مُزاحمُ بنُ ذَوَّادِ بنِ عُلْبةَ، عن أبيه، عن ليثِ بنِ أبي سُليمٍ، عن أبي الخطابِ، عن أبي زُرعةَ، عن أبي إدريسَ، عن ثوبانَ مولَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"المُخْتَلِعاتُ هُنَّ المُنافِقاتُ"

(2)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ بشرٍ، قال: ثنا قيسُ بنُ الربيعِ، عن أشعثَ بنِ سَوّارٍ، عن الحسنِ، عن ثابتِ بنِ يزيدَ، عن عقبةَ بنِ عامرٍ الجُهَنيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المُخْتلِعاتِ المُنْتَزِعاتِ هُنَّ المُنافِقاتُ"

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، قالا جميعًا: ثنا أيوبُ، عن أبي قِلابةَ، عمَّن حدَّثه، عن ثوبانَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّمَا امْرَأةٍ سَأَلَتْ زَوْجَها طَلاقًا من غَيرِ بَأسٍ، فَحَرَامٌ علَيها

(1)

أخرجه الروياني في مسنده (638) من طريق معتمر به.

(2)

أخرجه الترمذي (1186)، وابن عدي 3/ 986 عن أبي كريب به، وأخرجه البيهقي في الشعب (5503) من طريق ليث، عن أبي الخطاب، عن أبي زرعة، عن ثوبان. وينظر علل ابن أبي حاتم 1/ 304 (913).

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير 17/ 339 (935) من طريق قيس به.

ص: 151

رَائحَةُ الجَنَّة"

(1)

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو النُّعمانِ عارمٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، عن أبي قِلابةَ، عن أبي أسماءَ الرحبيِّ، عن ثوبانَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَه

(2)

.

فإذ كان من وجوهِ افتداءِ المرأةِ نفسَها من زوجِها ما تكونُ به حَرِجةً، وعليها في افتدائِها نفسَها على ذلك الحَرجُ والجُناحُ، وكان من وجوهِه ما يكونُ الحرجُ والجُناحُ فيه على الرجلِ دونَ المرأةِ، ومنه ما يكونُ عليهما، ومنه ما لا يكونُ عليهما فيه حرجٌ ولا جُناحٌ، قيل في الوجهِ الذي لا حرجَ عليهما فيه: لا جُناحَ إذْ كانا فيما حاولا وقصَدا من افتراقِهما بالجُعْلِ الذي بذَلتْه المرأةُ لزوجِها لا جناحَ عليهما فيما افتدَتْ به من الوجهِ الذي أُبيحَ لهما، وذلك أن يخافا ألا يقيما حدودَ اللهِ بمقامِ

(3)

كلِّ واحدٍ منهما على صاحبِه.

وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ

(4)

أن في ذلك وجهين؛ أحدُهما، أن يكونَ مرادًا به: فلا جُناحَ على الرجلِ فيما افتدتْ به المرأةُ، دونَ المرأةِ. وإن كانا قد ذُكرا جميعًا، كما قال في سورةِ "الرحمنِ":{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} . [وإنَّما يَخْرُجُ - زعَم - اللؤْلُؤُ والمَرْجانُ]

(5)

من المِلحِ لا مِن العذْبِ. قال: ومِثلُه: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما النّاسي صاحبُ موسى وحدَه. قال:

(1)

أخرجه الترمذي (1187) عن ابن بشار به، وأخرجه أحمد 5/ 277 (الميمنية) عن ابن علية به.

(2)

أخرجه الدارمي 2/ 162، وابن ماجه (2055) عن أبي النعمان به، وأخرجه أحمد 5/ 283 (الميمنية)، وأبو داود (2226)، والحاكم 2/ 200، والبيهقي 7/ 316 من طريق حماد بن زيد به.

(3)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"مقام".

(4)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 147.

(5)

سقط من: ص، وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"وهما".

ص: 152

ومِثلُه في الكلامِ أن تقولَ: عندي دابتان أركبُهما وأستَقِي عليهما. وإنما تَركبُ إحداهما وتَسْتَقِي على الأُخْرى. قال: وهذا من سَعةِ العربيةِ التي يُحتجُّ بسَعتِها في الكلامِ. قال: والوجهُ الآخرُ، أن يشترِكا جميعًا في ألا يكونَ عليهما جُناحٌ، إذْ كانت تُعطِي ما قد نُفِيَ عن الزوجِ فيه الإثمُ، اشترَكت فيه؛ لأنها إذا أعطتْ ما يُطرحُ فيه المأثمُ احتاجتْ إلى مثلِ ذلك.

قال أبو جعفرٍ: فلم يُصِبِ الصوابَ في واحدٍ مِن الوجهين، ولا في احتجاجِه بما احتجَّ به مِن قولِه:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} . فأما قولُه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فقد بينّا وجهَ صوابِه، وسنُبَيِّنُ وجهَ قولِه:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} في موضعِه إذا أتينا عليه، إن شاء اللهُ.

وإنما خَطَّأْنا قولَه ذلك؛ لأن اللهَ تبارك وتعالى قد أخبرَ عن وضعِه الحرجَ عن الزوجيْنِ إذا افتدت المرأةُ مِن زوجِها على ما أذِنَ، وأخبرَ عن البحرين أن منهما يخرُجُ اللؤلؤُ والمرجانُ، فأضاف الخبرَ

(1)

إلى اثنيْن. فلو جازَ لقائلٍ أن يقولَ: إنما أريدَ به الخبرُ عن أحدِهما فيما لم يكنْ مُستحيلًا أن يكونَ عنهما، جازَ في كلِّ خبرٍ كانَ عن اثنينِ - غيرُ مُستحيلةٍ صحتُه أن يكونَ عنهما - أن يقالَ: إنما هو خبرٌ عن أحدِهما.

وذلك قلبُ المفهومِ من كلامِ الناسِ والمعروفِ من استعمالِهم في مخاطباتِهم. وغيرُ جائزٍ حملُ كتابِ اللهِ عز وجل ووَحْيِه جلَّ ذكرُه على الشواذِّ من الكلامِ، وله في المفهومِ الجارِي بين الناسِ وجهٌ صحيحٌ موجودٌ.

ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .

أمَعنيٌّ به أنهما موضوعٌ عنهما الجُناحُ في كلِّ ما افتدتْ به المرأةُ نفسَها من شيءٍ أم في

(1)

سقط من: ص، م.

ص: 153

بعضِه؟ فقال بعضُهم: عنَى بذلك: فلا جناحَ عليهما فيما افتدَتْ به من صَداقِها الذي كان آتاها زوجُها الذي تختلِعُ منه. واحتجُّوا في قولِهم ذلك بأن آخرَ الآيةِ مردودٌ على أوَّلِها، وأن معنى الكلامِ: ولا يحِلُّ لكم أن تأخُذوا مما آتَيْتموهنَّ شيئًا إلا أن يَخافا ألا يُقِيما حُدودَ اللهِ، فإن خِفتم ألا يُقيما حُدودَ اللهِ فلا جُناحَ عليهما فيما افتدَتْ به مما آتيتموهنَّ.

قالوا: فالذي أحلّه اللهُ لهما من ذلك عندَ الخوفِ عليهما ألا يقيما حدودَ اللهِ هو الذي كان حظَرَ عليهما قبلَ حال الخوفِ عليهما من ذلك. واحتجُّوا في ذلك بقصةِ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شَمّاسٍ، وأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنما أمَر امرأتَه إذْ نَشَزَت عليه أن تردَّ ما كان ثابتٌ أصْدَقها، وأنها عرَضت الزيادةَ فلم يقبَلْها النبيٌّ صلى الله عليه وسلم.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، لَال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ أنه كان يقولُ: لا يصلُحُ له أن يأخذَ منها أكثرَ مما ساقَ إليها. ويقولُ: إن اللهَ يقولُ: (فَلا جُناحَ عليهما فيما افْتَدَتْ به منه). يقولُ: من المهرِ، وكذلك كان يَقْرَؤُها:(فيما افتدَتْ به منه)

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا بشرُ بنُ بكرٍ، عن الأوزاعيِّ، قال: سمِعتُ عمرَو بنَ شعيبٍ وعطاءَ بنَ أبي رباحٍ والزهريَّ يقولون في الناشزِ: لا يأخُذُ منها زوجُها

(2)

إلا ما ساقَ إليها

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 419 (2213) من طريق ابن أبي جعفر به. والقراءة شاذة؛ لمخالفتها رسم المصحف.

(2)

سقط من: ص، م.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 123 من طريق الأوزاعي به.

ص: 154

حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، ثنا أبو عمرٍو، عن عطاءٍ، قال: الناشزُ لا يأخُذُ إلا ما ساق إليها.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ أنه كَرِه أنْ يأخذَ في الخلعِ أكثرَ مما أعطاها

(1)

.

حدَّثنا زكريا بنُ يحيى بنِ أبي زائدةَ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن أشعثَ، عن الشعبيِّ، قال: كان يَكْرَهُ أن يأخُذَ الرجلُ من المختلِعةِ فوقَ ما أعطاها، وكان يرى أن يأخُذَ دونَ ذلك.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، مَال: ثنا سفيانُ، عن أبي حُصَيْنٍ، عن الشعبيِّ، قال: لا يأخذُ منها أكثرَ مما أعطاها

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن الشعبيِّ أنه كان يَكرَهُ أن يأخذَ منها أكثرَ مما أعطاها. يعني المختلِعَةَ

(3)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا، عن الحكمِ بنِ عُتيبَةَ، قال: كان عليٌّ يقولُ: لا يأخذُ من المختلعةِ فوقَ ما أعطاها

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ

(5)

، عن الحَكَمِ أنه قال في المُختلعةِ: أحبُّ إليَّ ألا يَزدادَ

(6)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1435) من طريق عبد الملك، عن عطاء.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11849)، وابن أبي شيبة 5/ 123 عن الثوري به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1434) عن هشيم به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 123 عن ابن إدريس به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11844)، وابن أبي شيبة 5/ 122، 123 من طريق ليث به.

(5)

في ص، م:"سعيد".

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 123 من طريق شعبة به.

ص: 155

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن حُميدٍ، أن الحسنَ كان يَكْرَهُ أن يأخُذَ منها أكثرَ مما أعطاها

(1)

.

حدثنا محمدُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن مطرٍ، أنه سأل الحسنَ - أو أن الحسنَ سُئِلَ - عن رجلٍ تزوَّج امرأةً على مائتي درهمٍ، فأرادَ أن يخلَعَها، هل له أن يأخذَ أربعَمائةٍ؟ فقال: لا واللهِ، [لا أرَى]

(2)

ذاك؛ أن يأخذَ منها أكثرَ مما أعطاها.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، قال: كان الحسنُ يقولُ: لا يأخذُ منها أكثرَ مما أعطاها. قال مَعمرٌ: وبلَغني عن عليٍّ أنه كان يَرَى ألا يأخذَ منها أكثرَ مما أعطاها

(3)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن عبدِ الكريمِ الجَزَرِيِّ، عن ابنِ المسيَّبِ، قال: ما أُحِبُّ أن يأخذَ منها كلَّ ما أعطاها حتى يَدَعَ لها منه ما يُعِيشُها

(4)

.

حدثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاق، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، أن أباه كان يقولُ في المفتديةِ: لا يَحِلُّ له أن يأخذَ منها أكثرَ مما أعطاها

(5)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1426)، وابن أبي شيبة 5/ 123 من طرق عن الحسن.

(2)

سقط من: ص، م.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11848) عن معمر، عمن سمع الحسن، وقول معمر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11845).

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11846).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11838) عن معمر وابن جريج، عن ابن طاوس، به.

ص: 156

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الزهريِّ، قال: لا يَحِلُّ لرجلٍ أن يأخذَ من امرأتِه أكثرَ مما أعطاها

(1)

.

وقال آخرون: بل عنَى بذلك: فلا جُناحَ عليهما فيما افتدَتْ به من قليلِ ما تملِكُه وكثيرِه. واحتجُّوا لقولِهم ذلك بعمومِ الآيةِ، وأنه غيرُ جائزةٍ إحالةُ ظاهرٍ عامٍّ إلى باطنٍ خاصٍّ، إلا بحجةٍ يَجبُ التسليمُ لها. قالوا: ولا حُجَّةَ يجبُ التسليمُ لها بأنَّ الآيةَ مرادٌ بها بعضُ الفديةِ دونَ بعضٍ من أصلٍ أو قياسٍ، فهي على ظاهِرِها وعُمومِها.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبرَنا أيوبُ، عن كثيرٍ مولَى سَمُرةَ، أن عُمرَ أُتِي بامرأةٍ ناشزٍ، فأمَرَ بها إلى بيتٍ كثيرِ الزِّبلِ ثلاثًا، ثم [دعا بها]

(2)

فقال: كيف وجدتِ؟ قالت: ما وجدتُ راحةً منذُ كنتُ عندَه إلا هذه الليالي التي حَبَسْتَنِي. فقال لزوجِها: اخْلَعْها ولو من قُرْطِها

(3)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن أيوبَ، عن كثيرٍ مولَى سَمُرَة، قال: أخَذ عُمرُ بنُ الخطابِ امرأةً ناشِزًا فوعَظَها،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 123 من طريق آخر عن الزهري به.

* من هنا خرم في الأصل ينتهي في ص 164.

(2)

في ص: "دعاها".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 124 عن ابن علية به، وأخرجه البيهقي 7/ 315 من طريق أيوب به.

ص: 157

فلم تقبَلْ بخيرٍ، فحبَسها في بيتٍ كثيرِ الزِّبلِ ثلاثةَ أيامٍ. وذكَر نحوَ حديثِ ابنِ عُلَيَّةَ

(1)

.

حدثنا ابنُ بشارٍ ومحمدُ بنُ يحيى، قالا: ثنا عبدُ الأعلَى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن حُميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، أن امراةً أتتْ عُمرَ بنَ الخطابِ فشكَتْ زوجَها، فقال: إنها ناشزٌ. فأباتَها في بيتِ الزِّبلِ، فلمَّا أصْبَحتْ

(2)

قال لها: كيف وجدتِ مكانَكِ؟ قالت: ما كنتُ عندَه ليلةً أقرَّ لعيني من هذه الليلةِ. فقال: خُذْ ولو عِقاصَها

(3)

.

حدثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، عن نافعٍ، أن مولاةً لصفيةَ اختلَعتْ من زوجِها بكلِّ شيءٍ تملِكُه إلا من ثيابِها، فلم يَعِبْ ذلك ابنُ عُمرَ

(4)

.

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى ومحمدُ بنُ المثنَّى، قالا: ثنا مُعتمِرٌ، قال: سمِعْتُ عُبيدَ اللهِ يُحدِّثُ عن نافعٍ، قال: ذُكِر لابنِ عمرَ مولاةٌ له اخْتَلَعَتْ من زوجِها بكلِّ مالٍ لها، فلم يَعِبْ ذلك عليها ولم يُنْكِرْه.

حدثني يحيى بنُ طلحةَ اليَرْبُوعيُّ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن حُميدٍ، عن رجاءِ بنِ حَيْوةَ، عن قَبيصةَ بنِ ذُؤَيبٍ أنه كان لا يَرَى بأسًا أن يأخُذَ منها أكثرَ مما أعطاها. ثم

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11851).

(2)

في م: "أصبح".

(3)

العقاص: خيط يشد به أطراف الذوائب. التاج (ع ق ص). والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 404 عن سعيد به.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11852)، وابن أبي شيبة 5/ 125 من طريق عبد الله - وفي نسخة من مصنف ابن أبي شيبة: عبيد الله - به.

ص: 158

تلا هذه الآيةَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

.

حدثنا ابنُ بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال في الخُلْعِ: خُذْ ما دونَ عِقاصِ شَعَرِها، وإن كانت المرأةُ لَتَفْتَدِي ببعضِ مالِها

(2)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن مُغِيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: الخُلْعُ ما

(3)

دونَ عِقاصِ الرأسِ

(4)

.

حدثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكَمِ، عن إبراهيمَ أنه قال في المختلِعةِ: خُذْ منها ولو عِقاصَها.

حدثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا مُغيرةُ، عن إبراهيمَ، قال: الخلعُ بما دون عِقاصِ الرأسِ، وقد تَفْتَدِي المرأةُ ببعضِ مالِها

(5)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ عَقيلٍ، أنَّ الرُّبَيِّعَ ابنةَ مُعَوِّذِ بنِ عفراءَ حدَّثَتْه قالت: كان لي زوجٌ يُقِلُّ عليَّ الخيرَ إذا حضَرني، ويَحْرِمُني إذا غابَ. قالت: فكانت منِّي زَلَّةٌ يومًا، فقلت: أَخْتَلِعُ منك بكلِّ شيءٍ أَمْلِكُه. قال: نعم. قالت

(6)

: ففعَلْتُ. قالت: فخاصَم عمِّى معاذُ بنُ عفراءَ إلى عثمانَ بنِ عفّانَ، فأجاز الخُلْعَ وأمَره أن يَأخُذَ عِقاصَ

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1427) عن هشيم به. وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 123، 124 من طريق حميد به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11856) عن سفيان به.

(3)

في م: "بما".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11855).

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1424) عن هشيم به.

(6)

في م: "قال".

ص: 159

رأسي فما دونَه. أو قالت: ما دونَ عِقاصِ الرأسِ

(1)

.

حدَّثني ابنُ

(2)

المثنَّى، قال: ثنا حِبّانُ

(3)

بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابنُ المبارَكِ، قال: أخبرَنا الحسنُ بنُ يحيى، عن الضّحّاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لا بأسَ بما خَلَعَها به من قليلٍ أو كثيرٍ، ولو عُقُصَها.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا حِبّانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابنُ المبارَكِ، قال: أخبرَنا حَجّاجٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: إن شاء أخَذ منها أكثرَ مما أَعطاها

(4)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبرَني عمرُو بنُ دينارٍ أنه سَمِع عكرمةَ يقولُ: قال ابنُ عباسٍ: لِيَأخُذْ منها حتى قُرْطَها. يَعني في الخُلْعِ

(5)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: أخبرَنا مالكُ بنُ أنسٍ، عن نافعٍ، عن مولاةٍ لصفيةَ ابنةِ أبي عُبيدٍ أنها اختلَعَتْ من زوجها بكلِّ شيءٍ لها، فلم يُنْكِرْ ذلك عبدُ اللهِ بنُ عمرَ

(6)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا الحَجّاجُ، قال: ثنا حمّادٌ، قال: أخبرَنا حُميدٌ، عن رجاءِ بنِ حَيْوَةَ، عن قَبِيصةَ بنِ ذُؤَيبٍ، أنه تلا هذه الآيةَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11850)، والبيهقي 7/ 315 من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل به.

(2)

سقط من: ص.

(3)

في ص: "حماد".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11857)، وسعيد بن منصور في سننه (1425) من طريق ابن أبي نجيح به.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11854) عن ابن جريج، عن عمرو، عن عكرمة قوله.

(6)

أخرجه مالك 2/ 565، ومن طريقه الشافعي 2/ 96 (شفاء العي)، والبيهقي 7/ 315.

ص: 160

افْتَدَتْ بِهِ}. قال: يأخُذُ أكثرَ مما أَعطاها.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: ثنا يزيدُ وسهلُ بنُ يوسفَ وابنُ أبي عديٍّ، عن حُميدٍ، قال: قلتُ لرجاءِ بنِ حَيْوَةَ: إن الحسنَ يقولُ في المختلِعةِ: لا يأخُذُ أكثرَ مما أَعطاها. ويتأوَّلُ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ

(1)

تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}. قال رجاءٌ: فإنَّ قَبِيصةَ بنَ ذُؤَيْبٍ كان يُرَخِّصُ أن يأخُذَ أكثرَ مما أَعطاها، ويَتَأَوَّلُ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(2)

.

وقال آخرون: هذه الآيةُ منسوخةٌ بقولِه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20].

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الصَّمَدِ بنُ عبدِ الوارثِ، قال: ثنا عُقْبةُ ابنُ أبي الصَّهْباءِ، قال: سألتُ بَكْرًا عن المختلِعةِ أيأخُذُ منها شيئًا؟ قال: لا. وقرَأ: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا الحَجّاجُ، قال: ثنا عُقبةُ بنُ أبي الصَّهْباءِ، قال: سألتُ بَكْرَ بنَ عبدِ اللهِ عن رجلٍ تُريدُ امرأتُه منه الخُلْعَ، قال: لا يَحِلُّ له أن يأخُذَ منها شيئًا.

قلتُ: يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه في كتابِه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . قال: هذه نُسِخَتْ. قلتُ: فأَنَّى حُفِظَتْ؟ قال: حُفِظَتْ في سورةِ "النِّساءِ" قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ

(1)

سقط من النسخ.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 123، 124 عن يزيد عن حميد به.

ص: 161

قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}

(1)

.

وأَوْلَى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: إذا خِيفَ مِن الرجلِ والمرأةِ ألا يُقيما حُدودَ اللهِ على سبيلِ ما قدَّمْنا البيانَ عنه، فلا حرَج عليهما فيما افْتَدَتْ به المرأةُ نفسَها مِن زوجِها مِن قليلِ ما تَمْلِكُه وكثيرِه مما يجوز للمسلمِين أن يَمْلِكُوه، وإنْ أتَى ذلك على جميعِ مِلْكِها؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه لم يَخُصَّ ما أباحَ لهما من ذلك على حدٍّ لا يُجاوَزُ، بل أطْلَق ذلك في كلِّ ما افتدَتْ به، غيرَ أني أختارُ للرجلِ استحبابًا لا تَحتيمًا

(2)

- إذا تَبَيَّنَ من امرأتِه أن افتداءَها منه لغيرِ معصيةٍ للهِ، بل خوفًا منها على دينِها - أن يُفارِقَها بغيرِ فديةٍ ولا جُعْلٍ، فإن شَحَّتْ نفسُه بذلك، فلا يَبْلُغْ بما يأخُذُ منها جميعَ ما آتاها. فأمّا قاله بَكْرُ بنُ عبدِ اللهِ مِن أنَّ هذا الحكمَ في جميعِ الآيةِ منسوخٌ بقولِه:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} . فقولٌ لا معنى له، فنَتَشاغلَ بالإبانةِ عن خَطَئِه؛ لمعنيَيْن؛ أحدُهما، إجماعُ الجميعِ من الصحابةِ والتابعِين ومَن بعدَهم من المسلمِين على تَخطئتِه وإجازةِ أخذِ الفِدْيةِ من المُفْتَدِيةِ نفسَها لزوجِها، وفي ذلك الكفايةُ عن الاستشهادِ على خطئِه بغيرِه. والآخرُ، أن الآيةَ التي في سورةِ "النِّساءِ" إنما حرَّم اللهُ فيها على زوجِ المرأةِ أن يأخُذَ منها شيئًا مما آتاها، بأن أراد الرجلُ استبدالَ زوجٍ بزوجٍ من غيرِ أن يكونَ هنالك خوفٌ من المسلمين عليهما مُقامَ أحدِهما على صاحبِه ألا يُقيما حدودَ اللهِ، ولا نشوزٌ من المرأةِ على الرجلِ. وإذا كان الأمرُ كذلك، فقد ثَبَت

(3)

أن أخذَ الزوجِ مِن امرأتِه مالًا على وجهِ الإكراهِ لها والإضرارِ بها، حتى تُعطَيَه شيئًا من مالِها على فِراقها - حرامٌ، ولو كان ذلك حبّةَ فِضّةٍ فصاعدًا.

(1)

ذكره النحاس في ناسخه ص 226 عن عقبة به.

(2)

في ص: "تحريما".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بينا"، وغير منقوطة في ص، والمثبت ما يقتضيه السياق.

ص: 162

وأما الآيةُ التي في سورةِ "البقرةِ"، فإنها إنما دَلَّتْ على إباحةِ اللهِ تعالى ذكرُه له أخذَ الفِدْيهَ منها في حالِ الخوفِ عليهما ألا يُقيما حُدودَ اللهِ بنُشوزِ المرأةِ، وطَلَبِها فِرَاقَ الرجلِ، ورغبتِه فيها، فالأمرُ الذي أُذِن به للزوجِ في أخذِ الفديةِ من المرأةِ في سورةِ "البقرةِ" ضدُّ الأمرِ الذي نُهِيَ من أجلِه عن أخذِ الفديةِ في سورةِ "النساءِ"، كما الحَظْرُ في سورةِ "النساءِ" غيرُ الطلاقِ

(1)

والإباحةِ في سورةِ "البقرةِ"، فإنما يجوزُ في الحُكْمَينْ أن يقالَ: أحدُهما ناسخٌ. إذا اتفقتْ معاني المحكومِ فيه، ثم خُولِف بينَ الأحكامِ فيه باختلافِ الأوقاتِ والأزمنةِ. وأما اختلافُ الأحكامِ باختلافِ معاني المحكومِ فيه في حالٍ واحدةٍ ووقتٍ واحدٍ، فذلك هو الحكمةُ البالغةُ، والمفهومُ في العقلِ والفطرةِ، وهو من الناسخِ والمنسوخِ بمَعْزِلٍ.

وأما الذي قاله الرَّبيعُ بنُ أنسٍ من أن معنى الآيةِ: فلا جُناحَ عليهما فيما افتدتْ به منه - يعني بذلك: مما آتَيْتُمُوهُنَّ - فنظيرُ قولِ بَكْرٍ في دَعواه نسخَ قولِه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} بقولِه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} لادِّعائه في كتابِ اللهِ ما ليس موجودًا في مصاحفِ المسلمين رَسْمُه.

ويقالُ لمن قال بقولِه: قد قال مَن قد عَلِمْتَ مِن أئمةِ الدينِ: إنما معنى ذلك: فلا جُناحَ عليهما فيما افتدتْ به من مِلْكِها. فهل مِن حُجّةٍ [تَبِينُ بها منهم]

(2)

غيرُ الدَّعْوَى؟ فقد احتجُّوا بظاهرِ التنزيلِ، وادَّعَيْتَ فيه خُصوصًا. ثم يُعكَسُ عليه القولُ في ذلك، فلن يقولَ في شيءٍ من ذلك قولًا إلا أُلْزِمَ في الآخرِ مثلَه. وقد بَيّنّا الأدلةَ بالشواهدِ على صحةِ قولِ مَن قال: للزوجِ أن يأخُذَ منها كلَّ ما أَعْطَتْه المُفْتَدِيةُ التي

(1)

كذا في النسخ. والصواب: "الإطلاق" لتكافئ معنى الإباحة إلا أن يكون المصنف أراد بها "الإطلاق". وينظر تعليق الشيخ شاكر.

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تبين تهافتهم". وما في "ص" أقرب وجوهه إلى الصواب أن يكون كما أثبتنا، ومعناه: تفترق وتمتاز بها عنهم.

ص: 163

أباحَ اللهُ لها الافتداءَ في كتابِنا "كتابِ اللطيفِ"، فكَرِهْنا إعادتَه في هذا الموضعِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} .

يَعنِي تعالى ذكرُه بذلك: تلك معالمُ فُصولِه بينَ ما أحلَّ لكم وما

(1)

حرَّم عليكم أيُّها الناسُ، فلا تَعْتَدُوا ما أحلَّ لكم من الأمورِ التي بَيَّنها وفَصَّلَها لكم من الحلالِ

(2)

، إلى ما حرَّم عليكم، فتُجاوِزُوا طاعتَه إلى معصيتِه.

وإنما عَنَى تعالى ذكرُه بقولِه: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} : هذه الأشياءُ التي بَيَّنْتُ لكم في هذه الآياتِ التي مضَتْ؛ مِن نكاحِ المشركاتِ * الوَثَنِيّاتِ، وإنكاحِ المشركِين المسلماتِ، وإتيانِ النساءِ في المَحِيضِ، وما قد بَيَّنَ في الآياتِ الماضيةِ قبلَ قوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} مما أحلَّ لعبادِه وحرَّم عليهم، وما أمَر ونهَى. ثم قال لهم: هذه الأشياءُ التي بيَّنتُ لكم حلالَها مِن حرامِها حدودِي. يَعْنى به معالمَ فصولِ ما بينَ طاعتي ومعصيتي، {فَلَا تَعْتَدُوهَا}. يقولُ: فلا تَتجاوَزُوا ما أَحْلَلْتُه لكم إلى ما حرَّمْتُه عليكم، ولا ما أمَرْتُكم به إلى ما نَهَيْتُكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، فإن مَن تَعَدَّى ذلك - يَعنِي مَن تَخَطّاه وتَجاوزَه إلى ما حرَّمْتُه عليه أو نَهَيْتُه - فإنه هو الظالمُ، وهو الذي فعَل ما ليس له فِعْلُه، ووضَع الشيْءَ في غيرِ مَوْضِعِه.

وقد دَلَّلْنا فيما مضَى على معنى الظلمٍ وأصلِه بشواهدِه الدالةِ على معناه،

(1)

زيادة من: م.

(2)

في ص، ت 1، ت 3:"الحرام"، وفي ت 2:"الجرم".

* إلى هنا ينتهي الخرم المشار إليه في ص 157.

ص: 164

فكَرِهْنا إعادتَه في هذا الموضِعِ

(1)

.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن خالَفتْ ألفاظُ تأويلِهم ألفاظَ تأويلِنا، غيرَ أن معنى ما قالوا في ذلك آيِلٌ

(2)

إلى معنى ما قلْنا فيه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّى قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} : يعني بالحدودِ الطاعةَ.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ في قولِه:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} . يقولُ: مَن طلَّق لغيرِ العِدّةِ فقد اعتدَى وظلَم نفسَه، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

(3)

.

وهذا الذي ذُكِر عن الضّحاكِ لا معنى له في هذا الموضعِ؛ لأنه لم يَجْرِ للطلاقِ في العِدَّةِ ذِكْرٌ فيقالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} . وإنما جرَى ذكرُ العَدَدِ الذي يكونُ للمُطَلِّقِ فيه الرَّجعةُ، والذى لا يكونُ له فيه الرَّجعةُ، دون ذكرِ البيانِ عن الطلاقِ للعِدّةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ فيما دلَّ عليه هذا القولُ من اللهِ عز وجل؛ فقال بعضُهم: دلَّ على أنه إن طلَّق الرجلُ امرأتَه التطليقةَ الثالثةَ بعد التطليقتَيْن اللتَيْن قال اللهُ عز وجل فيهما: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} . فإن امرأتَه تلك لا تَحِلُّ له من

(4)

بعدِ التطليقةِ الثالثةِ حتى

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 559.

(2)

سقط من م، ت 1، ت 2، ت 3، ومكانها بياض في ص.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 422 (2226، 2229) من طريق جويبر به.

(4)

سقط من: ص، م.

ص: 165

تَنْكِحَ زوجًا غيرَه، يعني به غيرَ المطلِّقِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: جعَل اللهُ حدَّ

(1)

الطلاقِ ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تَنْقَضِ العِدَّةُ، وعِدَّتُها ثلاثُ حِيَضٍ، فإن انْقَضَتِ العِدَّةُ قبل أن يكونَ راجعَها، فقد بانتْ منه بواحدةٍ

(1)

، وصارتْ أحقَّ بنفسِها، وصار خاطبًا من الخُطّابِ، فكان الرجلُ إذا أراد طلاقَ أهلِه نظَر حَيْضَتَها، حتى إذا طَهُرَتْ طلَّقها تطليقةً في قُبْلِ

(2)

عِدَّتِها عند شاهدَيْ عدلٍ، فإن بدا له مراجعتُها راجعَها ما كانت في عِدَّتِها، وإن ترَكها حتى تَنْقَضيَ عِدَّتُها فقد بانتْ منه بواحدةٍ، وإن بدا له طلاقُها بعد الواحدةِ وهي في عِدَّتِها نظَر حَيْضَتَها، حتى إذا طَهُرَتْ طلَّقها تطليقةً أُخرى في قُبْلِ عِدَّتِها، فإن بدا له مراجعتُها راجعَها، فكانت عنده على واحدةٍ، وإن بدا له طلاقُها طلَّقها الثالثةَ عند طُهْرِها، فهذه الثالثةُ التي قال اللهُ عز وجل:[{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}]

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . يقولُ: إن طلَّقها ثلاثًا، فلا تَحِلُّ له حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَه

(4)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.

(2)

سقط من: م.

(3)

في ص: "لا تحل له حتى تنكح زوجا". معنى الآية لا نصها، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"لا" وباقي الآية كالمثبت. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 283 الى عبد بن حميد مختصرًا.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 422 (2230)، والبيهقي 7/ 376، من طريق عبد الله بن صالح، به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 283 إلى ابن المنذر.

ص: 166

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا جُويبرٌ، عن الضّحّاكِ، قال: إذا طلَّق واحدةً أو ثِنْتَين، فله الرجعةُ ما لم تَنْقَضِ العِدَّةُ. قال: والثالثةُ قولُه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} . يعني الثالثةَ

(1)

، فلا رجعةَ له عليها حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَه.

حدَّثنا يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرَنا جُويبرٌ، عن الضّحّاكِ بنحوِه.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} . [قال: فإن طلَّقها من]

(2)

بعدِ التطليقتَيْن فلا تَحِلُّ له حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَه، وهذه الثالثةُ

(3)

.

وقال آخرون: بل دَلَّ هذا القولُ على ما يَلْزَمُ مُسَرِّحَ امرأتِه بإحسانٍ بعد التطليقتَيْن اللتَيْن قال اللهُ فيهما: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} .

قالوا: وإنّما بَيَّن اللهُ جل ثناؤُه بهذا القولِ عن حُكمِ قولِه: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . وأَعلَمَ أنه إن سَرَّح الرجلُ المرأةَ بعد التطليقتَيْن بإحسانٍ

(4)

فلا تَحِلُّ له المُسَرَّحةُ كذلك إلا بعدَ زوجٍ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . قال:

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالثالثة".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 423 (2232) من طريق عمرو به.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 167

عاد إلى قولِه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ *، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيح، عن مجاهدٍ مثلَه.

قال أبو جعفرٍ: والذى قاله مجاهدٌ في ذلك عندنا أوْلَى بالصوابِ؛ للذى ذكَرْنا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الخبرِ الذي رَوَيناه عنه أنه قال، أو سُئِل فقيل: هذا قولُ اللَّهِ تعالى ذكرُه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فأين الثالثةُ؟ قال: " {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} "

(2)

فأخبرَ صلى الله عليه وسلم أن الثالثةَ إنما هي قولُه: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فإذ كان التسريحُ بالإحسانِ هو الثالثةَ، فمعلومٌ أن قولَه:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . مِن الدَّلالةِ على التطليقةِ الثالثةِ بَمعْزِلٍ، وأنّه إنّما هو بيانٌ عن الذي يَحِلُّ للمُسَرِّحِ بالإحسانِ إن سَرَّح زوجتَه بعد التطليقتَينْ، والذي يَحْرُمُ

(3)

عليه منها، والحال التى يجوزُ له نكاحُها فيها، وإعلامٌ عبادَه أنَّ بعدَ التسريحِ - على ما وَصَفْتُ - لا رجعةَ للرجلِ على امرأتِه.

فإن قال قائلٌ: فأيَّ النكاحَينْ عَنَى اللَّهُ بقولِه: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . النكاحُ الذي هو جماعٌ، أم النكاحُ الذي هو عَقْدُ تزويجٍ؟

قيل: كلاهما؛ وذلك أن المرأةَ [إن نَكَحَتْ رجلًا]

(4)

نكاحَ تزويجٍ، ثم

(5)

لم

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 283 إلى المصنف.

* إلى هنا ينتهي الجزء السادس من نسخة جامعة القرويين، والتي أشير إليها بالأصل، وسيجد القارئ أرقام صفحات النسخة ت 1 بين معكوفين.

(2)

تقدم تخريجه في ص 130.

(3)

في م، ت 2، ت 3:"حرمه"، وفي ت 1:"يحرمه".

(4)

في م: "إذا نكحت زوجا".

(5)

سقط من: م.

ص: 168

يَطَأْها في ذلك النكاحِ ناكحُها، ولم يُجامِعْها حتى يُطَلِّقَها، لم تَحِلَّ للأولِ، وكذلك إن وَطِئها واطئٌ بغيرِ نكاحٍ، لم

(1)

تَحِلَّ للأولِ بإجماعِ

(2)

الأمةِ جميعًا. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن تأويلَ قولِه:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} نكاحًا صحيحًا، ثم يجامعَها فيه، ثم يُطَلِّقَها.

فإن قال: فإنَّ ذِكْرَ الجماعِ غيرُ موجودٍ في كتابِ اللَّهِ تعالى ذكرُه، فما الدَّلالةُ على أن معناه ما قلتَ؟

قيل: الدَّلالةُ على ذلك إجماعُ الأمّةِ جميعًا على أن ذلك معناه. وبعدُ، فإن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . فلو نكَحَتْ زوجًا غيرَه بعَقِبِ الطلاقِ قباى انقضاءِ عِدَّتِها، كان، لا شكَّ، أنها ناكحةٌ نكاحًا بغيرِ المعنى الذى أباح اللَّهُ تعالى ذكرُه لها ذلك به، وإن لم يكنْ ذكرُ العِدَّةِ مقرونًا بقولِه:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . لدلالتِه على أن ذلك كذلك بقولِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} . وكذلك قولُه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . وإن لم يكنْ مقرونًا به ذكرُ الجماعِ والمباشرةِ والإفضاءِ، فقد دَلَّ على أن ذلك كذلك بوَحْيِه إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وبيانِه ذلك على لسانِه لعبادِه.

‌ذكرُ الأخبارِ المرويةِ بذلك عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

-

حدَّثني عُبيدُ اللَّهِ بنُ إسماعيلَ الهَبّاريُّ وسفيانُ بنُ وكيعٍ وأبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قالوا: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن الأَسْودِ، عن عائشةَ، قالت:

(1)

في م: "ثم".

(2)

في م: "لإجماع".

ص: 169

سُئِل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلَّق امرأتَه، فتزوَّجَتْ رجلًا غيرَه، فدخَل بها، ثم طلَّقها قبل أن يُواقِعَها، أتَحِلُّ لزوجِها الأولِ؟ فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَحِلُّ لزَوْجِها الأوَّلِ حتى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَها

(1)

وتَذُوقَ عُسَيْلَتَه"

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابنُ المبارَكِ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه

(3)

.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا ابنُ عُيَينةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُروةَ، عن عائشةَ، قال: سمِعْتُها تقولُ: جاءت امرأةُ رفاعةَ القُرَظِيِّ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنتُ عند رفاعةَ فطلَّقَني فبَتَّ طلاقي، فتَزَوَّجْتُ عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبيرِ، [وإن ما]

(4)

معه مثلُ هُدْبةِ الثَّوبِ

(5)

. فقال لها: "تُرِيدِين أن تَرْجِعِي إلى رِفاعةَ؟ لا، حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَه ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"

(6)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، عن عُروةَ، عن عائشةَ نحوَه

(7)

.

(1)

قال ابن الأثير: شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقا، وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل. وقيل: على إعطائها معنى النطفة. وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث، فمن صغره مؤنثا قال: عسيلة

وإنما صغره إشارة إلى القدر القليل الذى يحصل به الحل. النهاية 3/ 237.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 274، وأحمد 6/ 42 (الميمنية)، وأبو داود (2309)، والنسائي (3407)، من طريق أبي معاوية به.

(3)

أخرجه أحمد 6/ 229 (الميمنية)، والبخاري (5317)، ومسلم (1433) من طريق هشام به.

(4)

في ص: "وأنا"، وفي ت 1:"فإنما".

(5)

قال ابن الأثير: أرادت متاعه، وأنه رخو مثل طرف الثوب لا يغني عنها شيئًا. النهاية 5/ 249.

(6)

أخرجه الحميدي (226)، وابن أبي شيبة 4/ 274، وأحمد 6/ 37 (الميمنية)، والدارمي 2/ 161، والبخاري (2639)، ومسلم (1433)، والترمذي (1118)، وابن ماجه (1932)، والنسائي (3283، 3411) من طريق ابن عيينة.

(7)

أخرجه مسلم (1433) من طريق يونس به.

ص: 170

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى عُقَيلٌ، عن ابنِ شهابٍ، قال: ثنى عُروةُ بنُ الزُّبيرِ، أن عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخبَرَتْه أن امرأةَ رِفاعةَ القُرظِيِّ جاءت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ. فذكَر مثلَه

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن الزُّهرِيِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ، أن رفاعةَ القُرَظيَّ طلَّق امرأتَه فبَتَّ طلاقَها، فتزوَّجَها بعدُ عبدُ الرحمنِ بنُ الزَّبيرِ، فجاءتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبيَّ اللَّهِ، إنها كانت عند رفاعةَ، فطلَّقَها آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ، فتزوَّجَتْ بعدَه عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبيرِ، وإنه واللَّهِ ما معه يا رسولَ اللَّهِ إلا مثلُ هذه الهُدْبةِ. فتبسَّم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها:"لَعَلَّكِ تُرِيدِين أن تَرجِعِي إلى رِفاعةَ! لا، حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَه ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ". قالت: وأبو بكرٍ جالسٌ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخالدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ ببابِ الحجرةِ لم يُؤْذَنْ له، فطفِق خالدٌ ينادِي أبا بكرٍ، يقولُ: يا أبا بكرٍ، ألا تَزْجُرُ هذه عما تَجْهَرُ به عندَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ يزيدَ الأَدَمِيُّ

(3)

، قال: ثنا يحيى بنُ سُلَيمٍ، عن عُبيدِ اللَّهِ، عن القاسمِ، عن عائشةَ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"لا، حتى يَذُوقَ مِن عُسَيْلَتِها ما ذَاقَ الأوَّلُ".

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ عبيدَ اللَّهِ، قال: سَمِعْتُ القاسمَ يُحدِّثُ عن عائشةَ قالت: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري (5260) من طريق الليث به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11131) ومن طريقه أحمد 6/ 226 (الميمنية)، ومسلم (1433/ 113)، وأخرجه البخاري (6084) من طريق معمر به.

(3)

في م: "الأودي". وينظر تهذيب الكمال 27/ 38.

ص: 171

"لا، حتى يَذُوقَ مِن عُسَيْلَتِها ما ذاقَ صاحبُه".

حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا يحيى، عن عُبيدِ اللَّهِ، قال: ثنا القاسمُ، عن عائشةَ أن رجلًا طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فتزوَّجَتْ زوجًا، فطلَّقَها قبلَ أن يَمَسَّها، فسُئِل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أتَحِلُّ للأوَّلِ؟ قال: "لا، حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كما ذاقَ الأوَّلُ"

(1)

.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا موسى بنُ عيسى الليثيُّ، عن زائدةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن أمِّ محمدٍ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا طَلَّقَ الرجلُ امرأتَه ثلاثًا، لم تَحِلَّ له حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَه، فيَذُوقَ كلُّ واحدٍ منهما عُسَيْلَةَ صاحبِه"

(2)

.

حدَّثني العباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبرَنا سعدُ

(3)

بنُ حفصٍ الطَّلْحِيُّ، قال: أخبرَنا شَيبانُ، عن يحيى، عن أبي الحارثِ الغِفارِيِّ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها"

(4)

.

حدَّثني عُبيدُ بنُ آدمَ بنِ أبي إياسٍ العَسْقلانيُّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شَيْبانُ، قال: ثنا يحيى بنُ أبى كثيرٍ، عن أبي الحارثِ الغِفاريِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المرأةِ يُطَلِّقُها زوجُها ثلاثًا

(5)

، فتتزَوَّجُ زوجًا غيرَه، فيُطَلِّقُها قبل أن

(1)

أخرجه مسلم (1433)، والنسائي (3412) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 6/ 193 (الميمنية)، والبخاري (5261) من طريق يحيى به.

(2)

أخرجه الدارقطني 4/ 32 من طريق زائدة به، وأخرجه الطيالسي (1664)، وأحمد 6/ 96 (الميمنية) من طريق علي بن زيد به.

(3)

في النسخ: "سعيد". وينظر تهذيب الكمال 10/ 260.

(4)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 9/ 23 من طريق سعد بن حفص به. وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 276 من طريق شيبان به. ووقع عند البخاري: سعيد بن حفص.

(5)

زيادة من: م.

ص: 172

يَدخُلَ بها، فيريدُ الأولُ أن يراجعَها، قال:"لا، حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها"

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ إبراهيمَ الأَنماطيُّ، قال: ثنا هشامُ بن عبدِ الملكِ، قال: ثنا محمدُ بنُ دينارٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ يزيدَ الهُنَائيُّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فتزوَّجَها آخرُ، فطلَّقها قبل أن يدخُلَ بها، أتَرْجِعُ إلى زوجِها الأولِ؟ قال:"لا، حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها وتَذُوقَ عُسَيْلَتَه"

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ ويعقوبُ بنُ ماهانَ، قالا: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا يحيى بنُ أبي إسحاقَ، عن سليمانَ بنِ يَسارٍ، عن عُبيدِ اللَّهِ

(3)

بنِ عباسٍ، أن الغُمَيصاءَ

(4)

أو الرُّمَيْصاءَ جاءت إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشكو زوجَها، وتزعُمُ أنه لا يَصِلُ إليها. قال: فما كان إلا يسيرًا حتى جاء زوجُها، فزعَم أنها كاذبةٌ، ولكنها تريدُ أن تَرجِعَ إلى زوجِها الأولِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ليس لكِ حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رجلٌ غيرُه"

(5)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عَلْقمةَ بن مَرْثَدٍ، عن سالمِ بنِ رَزينٍ الأحمريِّ

(6)

، عن سالمِ بنِ [عبدِ اللَّهِ]

(7)

،

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 409 عن المصنف.

(2)

أخرجه أحمد 21/ 422 (14024)، والبزار (1505 - كشف)، وأبو يعلى (4199)، والطبراني في الأوسط (2372)، وابن عدي 6/ (3205)، والبيهقي 7/ 375 من طريق محمد بن دينار به.

(3)

بعده في م: "عن".

(4)

في ت 2، ونسخة من النسائي:"العميصاء" بالمهملة، وفي سنن سعيد:"الرميضاء".

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1984)، وأحمد 3/ 336 (1837)، والنسائي (3413)، وفي الكبرى (5606)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (402)، وأبو يعلى (6718) عن هشيم به، وفي سنن سعيد والمجتبى:"عبد الله بن عباس". وكذا أورد الحديث في مسنده المزي في التحفة 4/ 468.

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الأحمدي". ينظر تهذيب الكمال 10/ 140.

(7)

في ت 1، ت 2، ت 3:"عبيد الله".

ص: 173

عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رجلٍ يَتزوَّجُ المرأةَ فيُطَلِّقُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها البَتَّةَ، فتَتَزوَّجُ زوجًا آخرَ، فيُطَلِّقُها قبلَ أن يدخُلَ بها، أتَرجِعُ إلى الأوَّلِ؟ قال:"لا، حتى تَذُوقَ عُسَيْلَتَه ويَذُوقَ عُسَيْلَتَها"

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بَشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عَلْقمةَ بنِ مَرْثَدٍ، عن رَزينٍ الأَحمريِّ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الرجل يُطَلِّقُ امرأتَه ثلاثًا، فيَتَزوَّجُها رجلٌ، فأغلَق البابَ، فطلَّقها قبل أن يَدْخُلَ بها، أتَرْجِعُ إلى زوجِها الآخرِ؟ قال:"لا، حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها"

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بَشّارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عَلْقمةَ بنِ مَرْثَدٍ، عن سُليمانَ بنِ رَزينٍ، عن ابنِ عمرَ أنه سأل

(3)

النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يَخْطُبُ، عن رجلٍ طلَّق امرأتَه، فتزوَّجَتْ بعدَه، ثم طلَّقها أو مات عنها، أيَتزوَّجُها الأولُ؟ قال:"لا، حتى تَذُوقَ عُسَيْلَتَه"

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} : فإن طلَّق المرأةَ التي بانتْ مِن زوجِها

(1)

أخرجه ابن ماجه (1933) عن محمد بن بشار به، وأخرجه أحمد 9/ 406 (5571)، والنسائي (3414)، والبيهقي 7/ 375 من طريق محمد بن جعفر به.

(2)

أخرجه أحمد 9/ 210 (5277)، وابن أبي حاتم في العلل 1/ 428، والبيهقي 7/ 375 من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.

(3)

في مصنف عبد الرزاق وسنن البيهقي: "سئل".

(4)

أخرجه أحمد 8/ 395، 9/ 210 (4777، 5278) عن أبي أحمد الزبيري به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11135)، وابن أبي شيبة 4/ 274، والنسائي (3415)، وابن أبي حاتم في العلل 1/ 429، والبيهقي 7/ 375 من طريق سفيان به.

ص: 174

بآخرِ التطليقاتِ الثلاثِ بعد ما نكحَها مُطَلِّقُها الثاني، زوجُها الذى نكَحَها بعد بَيْنُونَتِها مِن الأوَّلِ، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. يقولُ تعالى ذكرُه: فلا حرَج على المرأةِ التي طلَّقها هذا الثاني من بعدِ بَيْنُونَتِها من الأوَّلِ، وبعد نكاحِه إيّاها، وعلى الزوجِ الأولِ الذي كانت حَرُمَتْ عليه بِبَيْنُونَتِها منه بآخرِ التطليقاتِ، أن يتراجَعا بنكاحٍ جديدٍ.

كما حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} . يقولُ: إذا تَزوَّجَتْ بعد الأولِ، فدخَل الآخرُ بها، فلا حَرَجَ على الأولِ أن يَتزوَّجَها إذا طلَّقها

(1)

الآخرُ، أو مات عنها، فقد حَلَّتْ له

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ

(3)

، قال: أخبرَنا جُويبرٌ، عن الضّحّاكِ، قال: إذا طلَّق واحدةً أو ثِنْتَيْن، فله الرَّجْعةُ ما لم تَنْقَضِ العِدَّةُ. قال: والثالثةُ قولُه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الثالثةَ، فلا رَجْعةَ له عليها حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَه فيَدْخُلَ

(4)

بها، {فَإِنْ طَلَّقَهَا} هذا الأخيرُ بعدَ ما يدخُلُ بها، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} يعني الأوَّلَ، {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}

(5)

.

وأما قولُه: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} . فإن معناه: إن رَجَوَا مَطْمَعًا أن يُقيما حدودَ اللَّهِ. وإقامتُهما

(6)

حدودَ اللَّهِ العملُ بها. وحدودُ اللَّهِ ما أمَرهما به،

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"طلق".

(2)

أخرجه البيهقي 7/ 376 من طريق عبد الله بن صالح به.

(3)

في النسخ: "هشام". وتقدم على الصواب في ص 167.

(4)

في ص: "يدخل"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"فدخل".

(5)

تقدم أوله في ص 167.

(6)

في ص، ت 1:"إقامتها".

ص: 175

وأَوْجَبَ لكلِّ

(1)

واحدٍ منهما على صاحبِه، وأَلْزَمَ كلَّ واحدٍ منهما بسببِ النكاحِ الذى يكونُ بينهما.

وقد بَيَّنّا معنى الحدودِ ومعنى إقامةِ ذلك، بما أَغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(2)

.

وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويلِ قولِه: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} . ما حدَّثني به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} : إن ظَنَّا أنَّ نكاحَهما على غيرِ دُلْسةٍ

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

وقد وجَّه بعضُ أهلِ التأويلِ

(4)

قولَه: {إِنْ ظَنَّا} . إلى أنه بمعنى: إن أَيْقَنا. وذلك ما لا وَجْهَ له؛ لأن أحدًا لا يَعلمُ ما هو كائنٌ غيرُ اللَّهِ تعالى ذكرُه. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يُوقِنُ الرجلُ والمرأةُ أنّهما إذا تراجَعا أقاما حدودَ اللَّهِ؟ ولكنَّ معنى ذلك كما قال تعالى ذكرُه:{إِنْ ظَنَّا} . بمعنى: طَمِعا بذلك ورَجَوَاه.

(1)

في م: "بكل".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 261، 3/ 267.

(3)

الدُّلْسةُ: الظُّلمة، ويقال: فلان لا يدالس ولا يوالس. أي: لا يظلم ولا يخون، وهو لا يدالسك: لا يخادعك ولا يُخْفِي عليك الشيء. التاج (د ل س).

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 423 (2235) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 285 إلى عبد بن حميد. وينظر تفسير البغوي 1/ 273.

(4)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 74.

ص: 176

و {أَنْ} التي في قولِه: {أَنْ يُقِيمَا} . في موضعِ نصبٍ بـ {ظَنَّا} ، و {أَنْ} التي في:{أَنْ يَتَرَاجَعَا} . جعَلها بعضُ أهلِ العربيةِ في موضعِ نصبٍ بفَقْدِ الخافضِ

(1)

؛ لأن معنى الكلامِ: فلا جُناحَ عليهما في أن يتراجَعا. فلمّا حُذِفت "في" التي كانت تَخْفِضُها نَصَبها، فكأنّه قال: فلا جُناحَ عليهما تراجُعَهما.

وكان بعضُهم يقولُ

(2)

: موضعُه خفضٌ، وإن لم يكنْ معها خافضُها، وإن كان محذوفًا فمعروفٌ موضعُه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} : هذه الأمورُ التي بَيَّنَها لعبادِه في الطلاقِ والرَّجْعةِ والفِدْيةِ والعِدَّةِ والإيلاءِ وغيرِ ذلك، مما يُبَيِّنُه لهم في هذه الآياتِ، {حُدُودُ اللَّهِ}: معالمُ فُصولِ حلالِه وحرامِه، وطاعتِه ومعصيتِه، {يُبَيِّنُهَا}: يُفَصِّلُها، فيُمَيِّزُ بينها، ويُعَرِّفُهم أحكامَها، لقومٍ يَعْلَمونها إذا بَيَّنَها اللَّهُ لهم، فيَعْرِفون أنها مِن عندِ اللَّهِ، فيُصَدِّقُون بها، ويَعمَلون بما أَوْدَعهم اللَّهُ من علمِه، دون الذين قد طبَع اللَّهُ على قلوبِهم، وقضَى عليهم أنهم لا يُؤمِنون بها، ولا يُصَدِّقُون بأنها مِن عندِ اللَّهِ، فهم يَجْهَلون أنها من اللَّهِ، وأنها تنزيلٌ من حَكيمٍ حَميدٍ. ولذلك خَصَّ القومَ الذين يَعْلَمون بالبيانِ دون الذين يَجْهلون، إذ كان الذين يَجْهَلون أنها من عندِه قد آيسَ نبيَّه محمدًا

(3)

صلى الله عليه وسلم من

(4)

تصديقِ كثيرٍ

(1)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 148.

(2)

هو الكسائي، فيما نقله الفراء في معاني القرآن، الموضع السابق.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"محمد".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".

ص: 177

منهم بها، وإن كان بَيَّنها

(1)

لهم من وجهِ الحُجّةِ عليهم ولزومِ العملِ لهم بها، وإنما أخرَجَها مِن أن تكونَ بيانًا لهم من وجهِ تركِهم الإقرارَ والتصديقَ به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: وإذا طلَّقْتُم أيُّها الرجالُ نساءَكم، {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} . يعني مِيقاتَهنَّ الذي وقَّتُّه لهنَّ؛ من انقضاءِ الأقراءِ الثلاثةِ إن كانت من أهلِ القُرْءِ

(2)

، وانقضاءِ الأشهرِ إن كانت من أهلِ الشهورِ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ}. يقولُ: فراجِعُوهن إن أردْتُم رَجْعَتَهنَّ في الطَّلْقةِ التي فيها رَجْعةٌ، وذلك إمّا في التطليقةِ الواحدة أو التَّطليقتَيْن، كما قال تعالى ذكرُه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .

وأما قولُه: {بِمَعْرُوفٍ} . فإنه عنَى: بما أَذِن به من الرَّجعةِ، مِن الإشهادِ على الرَّجعةِ قبلَ انقضاءِ العدةِ، دونَ الرَّجعةِ بالوطءِ والجماعِ؛ لأن ذلك إنما يجوزُ للرجلِ بعد الرَّجعةِ، وعلى الصُّحبةِ مع ذلك والعِشْرةِ بما أمَر اللَّهُ به وبَيَّنه لكم أيُّها الناسُ، {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. يقولُ: أو خَلُّوهُنَّ يَقْضِين تمامَ عِدَّتِهنَّ، ويَنْقَضِي بقيةُ أجلِهنَّ الذي أَجَّلْتُه لهنَّ لعِدَدِهنَّ، {بِمَعْرُوفٍ}. يقولُ: بإيفائِهنَّ

(3)

تمامَ حقوقِهنَّ عليكم، على ما أَلْزَمْتُكم لهنَّ مِن مَهْرٍ ومُتْعةٍ ونفَقةٍ وغيرِ ذلك من حقوقِهنَّ قِبَلَكم، {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}. يقولُ: ولا تُراجِعُوهُنَّ

(4)

إن راجَعْتُموهنَّ في

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بينا".

(2)

في م: "الأقراء".

(3)

في ص: "بايفاقهن"؛ وفي ت 1، ت 2، ت 3:"بإيقافهن".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تراجعون".

ص: 178

عِدَدِهنَّ مُضارَّةً

(1)

لهنَّ، لِتُطَوِّلُوا عليهنَّ مدةَ انقضاءِ عِدَدِهنَّ، أو لِتأخُذُوا منهنَّ بعضَ ما آتيتُمُوهنَّ بطَلبِهنَّ الخُلْعَ منكم لمُضَارَّتِكم

(2)

إيَّاهنَّ بإمساكِكم إيّاهنَّ، ومُراجَعَتِكُموهُنَّ ضِرارًا واعتداءً.

وقولُه: {لِتَعْتَدُوا} . يقولُ: لتَظْلِمُوهنَّ بمُجاوَزَتِكم في أَمْرِهنَّ حدودِي التي بَيَّنْتُها لكم.

وبمثلِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مَسْروقٍ:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} . قال: يُطَلِّقُها حتى إذا كادت

(3)

تَنْقَضِي راجَعها، ثم يُطَلِّقُها، فيَدَعُها حتى إذا كادت

(3)

تَنْقَضِي عِدَّتُها راجَعها، ولا يُريدُ إمساكَها، فذلك الذي يُضارُّ ويَتَّخِذُ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا

(4)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أبي رجاءٍ، قال: سُئِل الحسنُ عن قولِه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} . قال: كان الرجلُ يُطَلِّقُ المرأةَ، ثم يُراجِعُها، ثم يُطَلِّقُها، ثم يُراجِعُها، يُضارُّها، فنَهاهم اللَّهُ عن ذلك

(5)

.

(1)

في ص: "مصادة"، وفي ت 2:"مضادة".

(2)

في ص، ت 2:"لمضادتكم".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كانت".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 426 (2249) من طريق منصور به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 285 إلى عبد بن حميد.

(5)

أخرجه البيهقي 7/ 368 من طريق زياد الأعلم، عن الحسن.

ص: 179

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . قال: نهَى

(1)

عن الضِّرارِ {ضِرَارًا} أن يُطَلِّقَ الرجلُ امرأتَه، ثم يُراجعَها عند آخرِ يومٍ يَبْقَى من الأجلِ، حتى يَفِيَ لها تسعةُ أشهرٍ، لِيُضارَّها به

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، إلا أنه قال: نهَى عن الضِّرارِ، والضِّرارُ في الطلاقِ أن يُطَلِّقَ الرجلُ امرأتَه [ثم يراجعَها]

(3)

. وسائرُ الحديث مثلُ حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} : كان الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه ثم يُراجعُها قبل انقضاءِ عِدَّتِها، ثم يُطَلِّقُها، يَفعلُ ذلك يُضارُّها ويَعْضُلُها، فأَنزَل اللَّهُ هذه الآيةَ

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} . قال: كان الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه تطليقةً واحدةً ثم يَدَعُها، حتى إذا ما تكادُ تخلُو عِدّتُها راجَعها، ثم يُطَلِّقُها، حتى إذا ما كاد تخلُو عِدَّتُها راجَعها، ولا حاجةَ له فيها، إنما يريدُ أن يُضَارَّها بذلك، فنَهَى اللَّهُ عن ذلك

(1)

بعده في م: "الله".

(2)

تفسير مجاهد ص 237، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 425 (2246)، والبيهقي 7/ 368.

(3)

زيادة من: م.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 425 (2245) عن محمد بن سعد به.

ص: 180

وتَقَدَّمَ فيه، وقال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى الليثُ، عن يونسَ، عن ابنِ شهابٍ، قال: قال اللَّهُ تعالى ذكرُه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} : فإذا طلَّق الرجلُ المرأةَ وبلَغتْ أجلَها، فَلْيُراجِعْها بمعروفٍ أو لِيُسَرِّحْها بإحسانٍ، ولا يَحِلُّ له أن يُراجعَها ضِرارًا وليست له فيها رَغبةٌ إلا أن يُضَارَّها.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} . قال: هو في الرجلِ يَحْلِفُ بطلاقِ امرأتِه، فإذا بَقِيَ من عِدَّتِها شيءٌ راجَعها، يُضَارُّها بذلك، ويُطَوِّلُ عليها، فنهاهم اللَّهُ عن ذلك

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيسٍ، عن مالِك بنِ أنسٍ، عن ثَورِ بنِ زيدٍ الدِّيليِّ، أن رجلًا كان يُطَلِّقُ امرأتَه ثم يُراجعُها، ولا حاجةَ له بها، ولا يريدُ إمساكَها، كيما يُطَوِّلُ عليها بذلك العِدَّةَ ليُضَارَّها، فأَنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . يُعَظِّمُ

(3)

ذلك

(4)

.

حدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ الباهليُّ، قال: سمِعْتُ الضَّحّاكَ يقولُ في قولِه: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 425 (2247) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 94.

(3)

في م: "ليعظم"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"يظلم"، وفي الموطأ والدر المنثور:"يعظهم الله بذلك".

(4)

الموطأ 2/ 588، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 285 إلى ابن المنذر.

ص: 181

ضِرَارًا}: هو الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه واحدةً، ثم يراجعُها، ثم يُطَلِّقُها، ثم يُراجعُها، ثم يُطَلِّقُها، ليُضَارَّها بذلك لتَخْتَلِعَ منه

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} . قال: نزَلتْ في رجلٍ من الأنصارِ يُدْعَى ثابتَ بنَ يسارٍ

(2)

طَلَّق امرأتَه، حتى إذا انقضَتْ عِدَّتُها إلا يومَيْن أو ثلاثةً راجَعها، ثم طَلَّقها، ففَعل ذلك بها، حتى مضَتْ لها تسعةُ أشهرٍ، مُضَارَّةً يُضَارُّها، فأنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}

(3)

.

حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرني أبي، قال: سمِعْتُ عبدَ العزيزِ يُسألُ عن طلاقِ الضِّرارِ، فقال: يُطَلِّقُ، ثم يراجِعُ، ثم يُطَلِّقُ، ثم يراجِعُ، فهذا الضِّرارُ الذي قال اللَّهُ:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} .

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} . قال: الرجلُ يُطَلِّقُ المرأةَ تطليقةً، ثم يترُكُها حتى تَحيضَ ثلاثَ حِيَضٍ، ثم يراجعُها، ثم يُطَلِّقُها تطليقةً، ثم يُمْسِكُ عنها حتى تَحِيضَ ثلاثَ حِيَضٍ، ثم يراجعُها، {لِتَعْتَدُوا}. قال: لا يُطَاولُ عليهن

(4)

.

وأَصْلُ التَّسْريحِ مِن: سَرْحِ القومِ، وهو ما أُطْلِقَ من نَعَمِهم للرَّعْيِ. يقالُ للمواشِي المُرْسَلَةِ للرَّعْيِ: هذا سَرْحُ القومِ. يرادُ به مواشيهم المُرْسَلةُ للرَّعْيِ. ومنه قولُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 425 عقب الأثر (2246) معلقًا.

(2)

في م: "بشار".

(3)

عزاه الحافظ في الإصابة 1/ 399، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 285 إلى المصنف وابن المنذر.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 285 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 182

اللَّهِ تعالى ذكرُه: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 5، 6].

يَعني بقولِه: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} : حين تُرْسِلُونها للرَّعْيِ. فقيل للمرأةِ إذا خَلَّاها زوجُها فأبانها منه: سَرَّحَها. تمثيلًا لذلك بتَسْريحِ المُسَرِّحِ ماشيتَه للرَّعْيِ، وتشبيهًا به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .

يَعني تعالى ذكرُه بذلك: ومَن يُراجِعِ امرأتَه بعد طلاقِه إيّاها في الطلاقِ الذي له

(1)

فيه عليها الرَّجعةُ، ضِرارًا بها، ليَعْتَدِيَ حدَّ

(2)

اللَّهِ في أمرِها، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. يعني: فأَكْسَبَها بذلك إثْمًا، وأَوجَبَ لها من اللَّهِ عقوبةً بذلك.

وقد بَيَّنّا معنى الظلمِ فيما مضَى، وأنه وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه، وفعلُ ما ليس للفاعلِ

(3)

فعْلُه

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} .

يَعني تعالى ذكرُه: ولا تَتَّخِذُوا أعلامَ اللَّهِ وفُصولَه بين حلالِه وحرامِه، وأمرِه ونهْيِه، في وحْيِه وتنزيلِه، استهزاءً ولَعِبًا، فإنه قد بَيَّنَ لكم في تنزيلِه وآيِ كتابِه ما لكم من الرَّجعةِ على نسائِكم، في الطلاقِ الذي جعَل لكم عليهن فيه الرَّجعةَ، وما ليس لكم منها، وما الوجهُ الجائزُ لكم منها، وما الذي لا يجوزُ، وما الطلاقُ الذي لكم عليهن فيه الرَّجعةُ، وما ليس لكم ذلك فيه، وكيف وجوهُ ذلك؛ رحمةً منه بكم، ونعمةً منه عليكم، ليَجعَلَ بذلك لبعضِكم مِن مكروهٍ - إن كان فيه من

(1)

زيادة من: م.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حق".

(3)

بعده في ص: "على".

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 581.

ص: 183

صاحبِه مما هو فيه - المخرَجَ والمخلَصَ بالطلاقِ والفِراقِ، وجعَل ما جعَل لكم عليهنَّ من الرَّجعةِ سبيلًا لكم إلى الوصولِ إلى ما نازَعه إليه، ودعاه إليه هواه بعدَ فِراقِه إيّاهن منهن، لتُدْرِكوا بذلك قضاءَ أوطارِكم منهن، إنعامًا منه بذلك عليكم، لا لِتَتَّخِذُوا ما بيَّنْتُ لكم من ذلك في آيِ كتابي وتنزيلي - تَفَضُّلًا مني ببيانِه عليكم، وإنعامًا ورحمةً مني بكم - لَعِبًا وسُخْرِيًّا.

وبمعنى ما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ شَبُّويَه، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أيوبُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ أبى أُوَيسٍ، عن سليمانَ بنِ بلالٍ، عن محمدِ بنِ أبي عَتيقٍ وموسى بنِ عُقبةَ، عن ابنِ شهابٍ، عن سليمانَ بنِ أَرْقمَ، أن الحسنَ حدَّثهم، أن الناسَ كانوا على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطَلِّقُ الرجلُ أو يُعْتِقُ، فيقالُ: ما صَنَعْتَ؟ فيقولُ: إنما كنتُ لاعبًا. قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن طَلَّق لاعِبًا أو أَعْتَقَ لاعِبًا فقد جازَ عليه". قال الحسنُ: وفيه نزَلتْ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} . قال: كان الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه، فيقولُ: إنما طَلَّقْتُ لاعبًا. ويَتزوَّجُ أو يُعْتِقُ أو يَتَصَدَّقُ فيقولُ: إنما فعلْتُ لاعبًا. فنُهُوا عن ذلك، فقال تعالى ذكرُه:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}

(2)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ، عن عبدِ السلامِ بنِ حربٍ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 106، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 425 (2248) من طرق عن الحسن به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 246 عقب الأثر (2248) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 184

يزيدَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي العلاءِ، عن حُميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي موسى، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضِب على الأَشْعَريِّينَ، فأتاه أبو موسى فقال: يا رسولَ اللَّهِ، غَضِبْتَ على الأَشْعَرِيِّين! فقال:"يقولُ أحَدُكُم: قد طَلَّقْتُ، قد راجَعْتُ. ليس هذا طَلاقَ المُسلِمِين، طَلِّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدَّتِها"

(1)

.

حدَّثنا أبو زيدٍ عمرُ

(2)

بنُ شَبَّةَ، قال: ثنا أبو غَسّانَ النَّهْدِيُّ، قال: ثنا عبدُ السلامِ بنُ حربٍ، عن يزيدَ

(3)

أبي خالدٍ - يعني الدَّالانيَّ - عن أبي العلاءِ الأَوْدِيِّ، عن حُميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي موسى الأشعريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم

(4)

: "يَقولُ أحَدُكم لامرأتِه: قد طَلَّقْتُكِ، قد راجَعْتُكِ. ليس هذا بطَلاقِ المُسلمِين، طَلِّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ طُهْرِها

(5)

".

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: واذكرُوا نعمةَ اللَّهِ عليكم بالإسلامِ الذي أَنعَم عليكم به، فهداكُم له، وسائرَ نِعَمِه التي خَصَّكم بها دونَ غيرِكم من سائرِ خَلْقِه، فاشكُروه

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 1، 2 من طريق عبد السلام بن حرب به، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 414 عن المصنف.

(2)

في النسخ: "عن". والمثبت مما سيأتي في 5/ 67، 7/ 74، 15/ 49.

(3)

بعده في النسخ: "بن". وهو أبو خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، المتقدم في الإسناد السابق. وينظر تهذيب الكمال 33/ 273.

(4)

في سنن البيهقي: "لم" من قول النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عدتها".

والحديث أخرجه البيهقي 7/ 323 من طريق أبي غسان النهدي مالك بن إسماعيل به.

ص: 185

على ذلك بطاعتِه فيما أمَركم به [ونَهاكم]

(1)

عنه، واذكرُوا أيضًا مع ذلك ما أَنزَل عليكم من كتابِه؛ [وذلك]

(2)

القرآنُ الذي أَنزَلَه على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واذكُروا ذلك فاعمَلُوا به، واحفَظُوا حدودَه فيه. {وَالْحِكْمَةِ} يعني: وما أَنزلَ عليكم من الحكمةِ، وهي السُّننُ التي علَّمَكُموها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وسَنَّها لكم.

وقد ذكَرْتُ اختلافَ المختلِفين في معنى الحكمةِ فيما مضَى قبلُ في قولِه: {وَيُعَلِّمُهُمُ

(3)

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. فأَغْنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {يَعِظُكُمْ بِهِ} : يَعِظُكم بالكتابِ الذي أَنزَله عليكم. والهاءُ التي في قولِه: {بِهِ} عائدةٌ على الكتابِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} . يقولُ: وخافُوا اللَّهَ فيما أمَركم به، وفيما نَهاكم عنه، في كتابِه الذي أَنزلَه عليكم، وفيما أَنزلَه فبَيَّنه على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم لكم، أن تُضَيِّعُوه وتَتَعَدَّوْا حدودَه، فتَسْتَوْجِبُوا ما لا قِبَلَ لكم به من أليمِ عِقابِه، ونَكَالِ عذابِه.

وقولُه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . يقولُ: واعلَمُوا أيها الناسُ أن ربَّكم الذي حدَّ لكم هذه الحدودَ، وشرَع لكم هذه الشرائعَ، وفرَض عليكم هذه الفرائضَ في كتابِه وفي تنزيلِه على رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بكلِّ ما أنتم عامِلُوه من خيرٍ وشرٍّ، وحسَنٍ وسَيِّئٍ، وطاعةٍ ومعصيةٍ، عالمٌ، لا يَخْفَى عليه من ظاهرِ ذلك وخَفِيِّه، وسِرِّه وجَهْرِه، شيءٌ، وهو مُجازِيكم بالإحسانِ إحسانًا، وبالسَّيِّئِ سَيِّئًا، إلا أن يَعْفُوَ ويَصْفَحَ، فلا تَتَعَرَّضُوا لِعقابِه وتَظْلِمُوا أنفسَكم.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في م: "ذلك".

(3)

في النسخ: "يعلمكم".

(4)

ينظر ما تقدم في 2/ 574.

ص: 186

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

ذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلتْ في رجلٍ كانت له أختٌ كان زوَّجَها من ابنِ عمٍّ له

(1)

، فطلَّقَها، وترَكها فلم يُراجِعْها حتى انقضتْ عِدَّتُها، ثم خطَبها منه، فأبَى أن يُزَوِّجَها إيّاه، ومنَعها منه وهي فيه راغبةٌ.

ثم اختَلف أهلُ التأويلِ في الرجلِ الذي كان فعَل ذلك فنزَلتْ هذه الآيةُ فيه؛ فقال بعضُهم: كان ذلك الرجلُ مَعْقِلَ بنَ يَسارٍ المُزَنِيَّ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، قال: كانت أختُه تحتَ رجلٍ فطلَّقها، ثم خَلا

(2)

عنها، حتى إذا انقضَتْ عِدَّتُها خطَبها، فحَمِيَ مَعْقِلٌ من ذلك أَنَفًا

(3)

، وقال: خَلا (2) عنها وهو يَقْدِرُ عليها. فحال بينه وبينها، فأنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}

(4)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن الفضلِ بنِ دَلْهَمٍ، عن الحسنِ، عن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، أن أختَه طلَّقها زوجُها، فأراد أن يُراجعَها، فمنعَها مَعْقِلٌ، فأَنزل اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}

(1)

في م: "لها".

(2)

في صحيح البخاري: "خلّى".

(3)

أَنِف من الشيء يأنف أنفًا: إذا كرهه وشرُفت نفسه عنه، وأراد به هنا: أخذته الحمية من الغيرة والغضب. النهاية 1/ 76.

(4)

أخرجه البخاري (5331) من طريق عبد الأعلى به، والدارقطني 3/ 224 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 286 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

ص: 187

إلى آخرِ الآيةِ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ المخرِّميُّ

(2)

، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا عبّادُ بنُ راشدٍ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنى مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، قال: كانت لي أختٌ تُخطَبُ وأمنعُها الناسَ، حتى خطَب إليَّ ابنُ عمٍّ لي، فأَنكحْتُها، فاصْطَحَبا ما شاء اللَّهُ، ثم إنه طلَّقها طلاقًا له رجعةٌ، ثم ترَكها حتى انقضَتْ عِدَّتُها، ثم خُطِبَتْ إليَّ، فأتاني يَخْطُبُها مع الخُطَّابِ، فقلْت له: خُطِبَتْ إليَّ فمنعْتُها الناسَ، فآثرْتُك بها، ثم طَلَّقْتَ طلاقًا لك فيه رجعةٌ، فلمّا خُطِبَتْ إليَّ أتَيْتَنِي تَخطُبُها مع الخُطّابِ! واللَّهِ لا أُنْكِحُها أبدًا. قال: ففيَّ نزلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: فكفَّرْتُ عن يمينِي وأَنكحْتُها إيّاه

(3)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} : ذُكِر لنا أنَّ رجلًا طلَّق امرأتَه تطليقةً، ثم خَلا عنها حتى انقضَتْ عِدَّتُها، ثم قَرُب بعد ذلك يخطُبُها، والمرأةُ أختُ مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، فأَنِف من ذلك مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، وقال: خلَا عنها وهي في عِدَّتِها، ولو شاء راجَعها، ثم يريدُ أن يراجِعَها وقد بانَتْ منه. فأبَى عليها أن يُزَوِّجَها إيّاه، وذُكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لمّا نزَلتْ هذه الآيةُ دعاه فتلاها عليه، فترَك الحَمِيَّةَ واستقادَ لأمرِ اللَّهِ.

(1)

أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 286 - ومن طريقه الطبراني في الكبير 20/ 208 (475)، والحاكم 2/ 280.

(2)

في ص: "المحرمي"؛ وفي م: "المخزومي". وينظر تهذيب الكمال 25/ 534.

(3)

أخرجه البخاري (4529)، وأبو داود (2087)، والطبراني 20/ 204 (468)، والدارقطني 3/ 224، والبيهقي 7/ 104 من طريق أبي عامر العقدي به، وأخرجه الطيالسي (972)، والنسائي في الكبرى (11041)، والبيهقي 7/ 104 من طريق عباد بن راشد به.

ص: 188

حدِّثْتُ عن عمّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن يونسَ، عن الحسنِ قولَه تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: نزَلتْ هذه الآيةُ في مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ. قال الحسنُ: حدَّثني مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ أنها نزَلتْ فيه. قال: زوَّجْتُ أختًا لي من رجلٍ فطلَّقها، حتى إذا انقضتْ عِدَّتُها جاء يَخْطُبُها، فقلت له: زوَّجْتُكَ، وفَرَشْتُكَ أختي، وأَكْرَمْتُكَ، ثم طَلَّقْتَها، ثم جِئْتَ تخطُبُها! لا تعودُ إليك أبدًا. قال: وكان رجلَ صِدْقٍ لا بأسَ به، وكانتِ المرأةُ تُحِبُّ أن تَرْجِعَ إليه، قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: فقلتُ: الآنَ أفعلُ يا رسولَ اللَّهِ. فزوَّجْتُها منه

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَلِيُّ، عن بكرِ بنِ عبدِ اللَّهِ المُزَنِيِّ، قال: كانت أختُ مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ تحت رجلٍ فطَلَّقَها، فخطَب إليه، فمنَعها أخوها

(2)

، فنزلتْ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} . إلى آخرِ الآيةِ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية. قال: نزَلتْ في امرأةٍ من مُزَيْنةَ طلَّقها زوجُها وأُبِينَتْ منه، فنكَحها آخرُ، فعَضَلها أخوها مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، يُضَارُّها خِيفةَ أن تَرجِعَ إلى زوجِها الأوَّلِ

(3)

.

قال ابنُ جريجٍ: وقال عِكْرمةُ: نزَلتْ في مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، قال ابنُ جُريجٍ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 426 (2254) من طريق أبي جعفر به، وأخرجه البخاري (5130، 5330)، والنسائي في الكبرى (11042)، والطبراني 20/ 204 (467)، والدارقطني 3/ 223، والحاكم 2/ 174، والبيهقي 7/ 138 من طريق يونس به.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إخوتها".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 189

أختُه جُمْلُ

(1)

ابنةُ يَسارٍ، كانت تحت أبي البدَّاحِ، طلَّقها فانقضَتْ عِدَّتُها، فخطَبها، فعَضَلها مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} : نزَلتْ في امرأةٍ من مُزَينةَ طلَّقها زوجُها، فعَضَلها أخوها أن تَرجِعَ إلى زوجِها الأولِ، وهو مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ أخوها

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه لم يقلْ فيه: وهو مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبّانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابنُ المبارَكِ، قال: أخبرَنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ الهَمْدانيِّ، أن فاطمةَ بنتَ يَسارٍ طلَّقها زوجُها، ثم بدا له فخطَبها، فأبَى مَعْقِلٌ، فقال: زوَّجْناكَ فطلَّقْتَها وفعلْتَ. فأنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ وقتادةَ في قولِه:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . قالا

(5)

: نزَلتْ في مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، كانت أختُه تحت رجلٍ فطلَّقها، حتى إذا انقضَتْ عِدَّتُها جاء فخطَبها، فعضَلها مَعْقِلٌ، فأبَى أن يُنْكِحَها إيّاه، فنزَلتْ فيها هذه الآيةُ، يَعني به الأولياءَ، يقولُ: لا

(1)

في م، والفتح، والإصابة، نقلًا عن المصنف:"جميل". وكذا في الإكمال 2/ 125 وغيره. وترجمها الحافظ في الإصابة: جمل، وكذا في الدر المنثور عن المصنف، ثم ذكرها الحافظ بالتصغير. وقيل غير ذلك في اسمها. ينظر الفتح 9/ 186، والإصابة 7/ 555، 556.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى المصنف عن ابن جريج.

(3)

تفسير مجاهد 1/ 237.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى المصنف.

(5)

في النسخ: "قال". والمثبت من تفسير عبد الرزاق.

ص: 190

تعضُلوهن أن ينكِحْنَ أزواجَهُنَّ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن رجلٍ، عن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ، قال: كانت أختي عند رجلٍ فطلَّقها تطليقةً بائنةً، فخطَبها، فأبَيْتُ أن أُزوِّجَها منه، فأنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . الآية.

وقال آخرون: كان ذلك

(2)

الرجلُ جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ الأنصاريَّ.

ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: نزَلتْ في جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ الأنصاريِّ، وكانت له ابنةُ عمٍّ فطلَّقها زوجُها تطليقةً، فانقضَتْ عِدَّتُها، ثم رجَع يُريدُ رَجْعَتَها، فأمّا جابرٌ فقال: طَلَّقْتَ ابنةَ عمِّنا ثم تُريدُ أن تَنْكِحَها الثانيةَ! وكانتِ المرأةُ تُريدُ زوجَها قد راضَتْه، فنزَلتْ هذه الآيةُ

(3)

.

[وقال آخرون: نزَلت هذه الآيةُ]

(4)

دَلالةً على نَهْيِ الرجلِ عن مُضَارَّةِ وَلِيَّتِه من النساءِ، يَعْضُلُها عن النكاحِ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} :

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 94.

(2)

سقط من: م.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى المصنف وابن المنذر.

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 191

فهذا في الرجلِ يُطَلِّقُ امرأتَه تطليقةً أو تَطْليقتَيْن، فتَنْقَضِي عِدَّتُها، ثم يَبْدُو له في تزويجِها وأن يُراجِعَها، وتريدُ المرأةُ فيَمْنَعُها أولياؤُها من ذلك، فنَهى اللَّهُ سبحانَه أن يَمْنَعُوها

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . كان الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه فتَبِينُ منه ويَنْقَضِي أجَلُها، ويريدُ أن يراجِعَها، وتَرْضَى بذلك فيأبَى أهلُها، قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبّانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابنُ المبارَكِ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مَسْروقٍ في قولِه:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . قال: كان الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه، ثم يَبْدُو له أن يَتَزَوَّجَها، فيأبَى أولياءُ المرأةِ أن يُزَوِّجوها، فقال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن أصحابِه، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . قال: المرأةُ تكونُ عند الرجلِ فيُطَلِّقُها، ثم يريدُ أن يعودَ إليها، فلا يَعْضُلْها وَلِيُّها أن يُنْكِحَها إيّاه

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، عن يونسَ، عن ابنِ شهابٍ، قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية. فإذا طلَّق الرجلُ المرأةَ وهو وَلِيُّها، فانقضَتْ عِدَّتُها،

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى المصنف وابن المنذر.

ص: 192

فليس له أن يَعْضُلَها حتى يَرِثَها ويَمْنَعَها أن تَسْتَعِفَّ بزوجٍ.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سَمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: أخبرَنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سَمِعْتُ الضَّحّاكَ يقولُ في قولِه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} : هو الرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه تطليقةً، ثم يَسْكُتُ عنها، فيكونُ خاطبًا من الخُطّابِ، فقال اللَّهُ لأولياءِ المرأةِ:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . يقولُ: لا تَمْنَعُوهُنَّ أن يَرْجِعْنَ إلى أزواجِهنَّ بنكاحٍ جديدٍ {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} إذا رَضِيَتِ المرأةُ وأرادتْ أن تراجِعَ زوجَها بنكاحٍ جديدٍ.

والصوابُ من القولِ في هذه الآيةِ أن يقالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه أَنزلَها دَلالةً على تحريمِه على أولياءِ النساءِ مُضَارَّةَ مَن كانوا له أولياءَ من النساءِ؛ بعَضْلِهنَّ عمَّن أردْن نكاحَه من أزواجٍ كانوا لهنَّ، فبِنَّ منهم

(1)

بما تَبِينُ به المرأةُ من زوجِها، مِن طلاقٍ أو فسخِ نكاحٍ، وقد يجوزُ أن تكونَ نزلتْ في أمرِ مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ وأمرِ أختِه، أو في أمرِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ وأمرِ ابنةِ عمِّه، وأيُّ ذلك كان، فالآيةُ دالَّةٌ على ما ذكَرْتُ.

ويَعني بقولِه: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} : لا تُضَيِّقُوا عليهن بمَنْعِكم إياهنَّ أيُّها الأولياءُ من مراجعةِ أزواجِهنَّ بنكاحٍ جديدٍ، تَبتغُون بذلك مُضَارَّتَهن، يقالُ منه: عضَل فلانٌ فلانةَ عن الأزواجِ، يَعْضُلُها عَضْلًا. وقد ذُكِر لنا أن حيًّا من أحياءِ العربِ مِن لغتِها: عضِل يَعضَلُ. فمن كان مِن لغتِه "عَضِل"، فإنه إن صار إلى "يفعَلُ"، قال: يَعضَلُ، بفتحِ الضادِ، والقراءة على ضمِّ الضادِ دون كسرها، والضمُّ من لغةِ مَن قال: عضَل.

وأصلُ العَضْلِ: الضِّيقُ. ومنه قولُ عمرَ رحمةُ اللَّهِ عليه: قد أَعضَل بي أهلُ

(1)

في النسخ: "منهن".

ص: 193

العراقِ، لا يَرْضَوْنَ عن والٍ، ولا يَرضَى عنهم والٍ

(1)

. يعني بذلك: حَمَلوني على أمرٍ ضَيِّقٍ شديدٍ لا أُطِيقُ القيامَ به. ومنه أيضًا: الداءُ العُضالُ. وهو الداءُ الذي لا يُطاقُ علاجُه لضِيقِه عن العلاجِ وتَجاوزِه حدَّ الأدواءِ التي يكونُ لها علاجٌ. ومنه قولُ ذي الرُّمَّةِ

(2)

:

ولم أَقْذِفْ لمُؤْمنةٍ حَصَانٍ

بإذنِ

(3)

اللَّهِ مُوجِبةً عُضَالَا

ومنه قيل: عَضَّل الفَضاءُ بالجيشِ لكثرتِهم. إذا ضاق عنهم من كثرتِهم. وقيل: عضَّلَتِ المرأةُ. إذا نَشِب الولدُ في رَحِمِها فضاق عليه الخروجُ منها. ومنه قولُ أوسِ بنِ حُجْرٍ

(4)

:

وليس أخُوكَ الدَّائمُ العَهْدِ بالذي

يَذُمُّكَ إن وَلَّى ويُرْضِيكَ مُقْبِلَا

ولكنَّه النَّائِي إذا كُنْتَ آمِنًا

وصاحبُكَ الأدْنَى إذا الأمْرُ أَعْضَلَا

و {أَنْ} التي في قولِه: {أَنْ يَنْكِحْنَ} . في موضعِ نصبٍ بقولِه: {تَعْضُلُوهُنَّ} .

ومعنى قولِه: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} : إذا تراضَى الأزواجُ والنساءُ بما يَحِلُّ ويجوزُ أن يكونَ عِوَضًا مِن أَبْضاعِهنَّ

(5)

؛ من المهورِ ونكاحٍ جديدٍ مستأنفٍ.

كما حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عُميرِ بنِ

(1)

ذكره ابن سعد 5/ 58 عن إبراهيم بن قارظ، عن عمر بلفظ: عضل، وأخرجه المصنف في تاريخه 4/ 164، 165 من طريق خليد بن ذفرة، عن أبيه مطولا وفيه: عضلوا.

(2)

ديوانه 3/ 1534.

(3)

في الديوان: "بحمد"

(4)

ديوانه ص 92.

(5)

الأبضاع: جمع بُضْع، وهو الفرج. اللسان (ب ض ع).

ص: 194

عبدِ اللَّهِ، عن عبدِ الملكِ بنِ المغيرةِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ البَيْلَمانيِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْكِحُوا الأَيامَى". فقال رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، ما العلائقُ

(1)

بينهم؟ قال: "ما تَراضَى عليه أهْلُوهُم"

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنى محمدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ البَيْلَمَانِيِّ، عن أبيه، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوٍ منه

(3)

.

وفي هذه الآيةِ الدَّلالةُ الواضحةُ على صحةِ قولِ مَن قال: لا نكاحَ إلا بوَلِيٍّ مِن العَصَبةِ. وذلك أن اللَّهَ تعالى ذكرُه منَع الوَلِيَّ مِن عَضْلِ المرأةِ إن أرادتِ النكاحَ، ونهاه عن ذلك، فلو كان للمرأةِ إنكاحُ نفسِها بغيرِ إنكاحِ وليِّها إيّاها، أو كان لها توليةُ مَن أرادت تَوْلِيَتَه في إنكاحِها، لم يكنْ لنَهْيِ وليِّها عن عَضْلِها معنًى مفهومٌ، إذ كان لا سبيلَ له إلى عَضْلِها؛ وذلك أنها إن كانت متى أرادتِ النكاحَ جاز لها إنكاحُ نفسِها أو إنكاحُ مَن تُوَكِّلُه بإنكاحِها، فلا عَضْلَ هنالك لها مِن أحدٍ فيُنْهَى عاضِلُها عن عَضْلِها.

وفي فسادِ القولِ بأن لا معنَى لنَهْيِ اللَّهِ عمَّا نهَى عنه، صحةُ القولِ بأنَّ لوَلِيِّ المرأةِ في تزويجِها حقًّا لا يَصِحُّ عَقْدُه إلا به، وهو المعنى الذي أمَر اللَّهُ به الوليَّ - مِن تَزويجِها إذا خطَبها خاطبُها ورَضِيَتْ به، وكان رِضًا عند أوليائِها، جائزًا في حُكْمِ المسلمين لمثلِها أن تَنكِحَ مثلَه - ونهاه عن خلافِه مِن عَضْلِها، ومَنْعِها عمّا

(4)

أرادتْ

(1)

العلائق: المهور، الواحدة عَلاقة، وعَلاقة المهر: ما يتعلقون به على المتزوج. النهاية 3/ 289.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 184، والبيهقي 7/ 239، من طريق عمير بن عبد الله به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (619)، وابن أبي شيبة 4/ 186، 14/ 183، والبيهقي 7/ 239، من طريق عبد الملك بن المغيرة به.

(3)

أخرجه البيهقي 7/ 239 من طريق محمد بن بشار به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى ابن مردويه.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مما".

ص: 195

من ذلك وتراضَتْ هي والخاطبُ به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكَ} . ما ذُكِر في هذه الآيةِ من نَهْيِ أولياءِ المرأةِ عن عَضْلِها عن النكاحِ. يقولُ: فهذا الذي نَهَيْتُكم عنه من عَضْلِهنَّ عن النكاحِ، عِظَةٌ مني مَن كان منكم أيُّها الناسُ {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. يَعني: يُصَدِّقُ باللَّهِ، فيُوَحِّدُه ويُقِرُّ برُبُوبيَّتِه، {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. يقولُ: ومَن يؤمنُ باليومِ الآخرِ، فيُصَدِّقُ بالبعثِ للجزاءِ والثوابِ والعقابِ؛ ليتقيَ اللَّهَ في نفسِه فلا يَظْلِمَها بضِرارِ وَلِيَّتِه، ومَنْعِها من نكاحِ مَن رَضِيَتْه لنفسِها ممن أَذِنْتُ لها في نكاحِه.

فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} . وهو خطابٌ للجَميعِ، وقد قال مِن قبلُ:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} ؟ وإذ

(1)

جاز أن يقالَ في خطابِ الجميعِ "ذلك"، أفيجوزُ أن تقولَ لجماعةٍ من الناسِ وأنت تخاطِبُهم: أيُّها القومُ، هذا غلامُك وهذا خادمُك. وأنت تُريدُ: هذا خادمُكم وهذا غلامُكم؟

قيل: لا، إن ذلك غيرُ جائزٍ مع الأسماءِ الموضوعاتِ؛ لأن ما أُضِيفَ إليه الأسماءُ غيرُها، فلا يَفهَمُ سامعٌ سَمِع قولَ قائلٍ لجماعةٍ: أيُّها القومُ، هذا غلامُك. أنه عنَى بذلك: هذا غلامُكم. إلا على اسْتِخْطاءِ الناطقِ في مَنْطِقِه ذلك، فإن طلَب لمَنْطِقِه ذلك وجهًا في [الصوابِ]

(2)

، صرَف كلامَه ذلك إلى أنه انْصَرَفَ عن خطابِ القومِ بما أراد خِطابَهم به، إلى خطابِ رجلٍ واحدٍ منهم أو مِن غيرِهم، وترَك محاورةَ

(3)

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"إن".

(2)

في م: "فالصواب".

(3)

في م: "مجاوزة".

ص: 196

القومِ بما أراد محاورَتَهم

(1)

به من الكلامِ. وليس ذلك كذلك في "ذلك"؛ لكثرةِ جَرْيِ ذلك على أَلْسُنِ العربِ في مَنْطِقِها وكلامِها، حتى صارتِ الكافُ التي هي كنايةُ اسمِ المخاطَبِ فيها، كهيئةِ حرفٍ من حروفِ الكلمةِ التي هي متصلةٌ

(2)

، وصارتِ الكلمةُ بها كقولِ القائلِ: هذا. كأنها ليس معها اسمٌ مخاطَبٌ، فمن قال:{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . أَقرَّ الكافَ من ذلك مُوحَّدةً مفتوحةً في خطابِ الواحدةِ من النساءِ، والواحدِ من الرجالِ، والتثنيةِ والجمعِ، ومَن قال:(ذلكم يُوعَظُ به). كسَر الكافَ في خطابِ الواحدةِ من النساءِ، وفتَح في خطابِ الواحدِ من الرجالِ، [وقال]

(3)

في خطابِ الاثنَيْن منهم: ذلكما. وفي خطابِ الجمعِ: ذلكم.

وقد قيل: إن قولَه: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} . خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك وحَّد

(4)

، ثم رجَع إلى خطابِ المؤمنين بقولِه:{مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} . وإذا وُجِّهَ التأويلُ إلى هذا الوجهِ لم يكنْ فيه مئونةٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكُمْ} : نكاحُ

(5)

أزواجِهنَّ لهنَّ، ومراجعةُ أزواجِهنّ إيّاهنّ، بما أباحَ لهنّ من نكاحٍ ومهرٍ جديدٍ {أَزْكَى لَكُمْ} أيُّها الأولياءُ والأزواجُ والزوجاتُ.

(1)

في م: "مجاوزتهم".

(2)

بعده في م: "بها".

(3)

في النسخ: "فقال". والمثبت صواب السياق.

(4)

في م: "وجه".

(5)

في ص: "نكاحهن".

ص: 197

ويعني بقولِه: {أَزْكَى لَكُمْ} : أفضلُ وخيرٌ عند اللَّهِ من فُرْقَتِهِنَّ أزواجَهنَّ.

وقد دَلَّلْنا فيما مضَى على معنى الزكاةِ، فأَغنَى ذلك عن إعادتِه

(1)

.

وأما قولُه: {وَأَطْهَرُ} . فإنه يَعني بذلك: أَطْهَرُ لقلوبِكم وقلوبِهِنَّ وقلوبِ أزواجِهن من الرِّيبةِ، وذلك أنهما إذا كان في نفسِ كلِّ واحدٍ منهما - أَعنِي الزوجَ والمرأةَ - علاقةُ حبٍّ، لم يُؤْمَنْ أن يَتجاوزَا ذلك إلى غيرِ ما أحلَّه اللَّهُ لهما، ولم يُؤْمَنْ مِن أوليائِهما أن يَسبِقَ إلى قلوبِهم منهما ما لعلَّهما أن يكونا منه بَرِيئَيْن، فأمَر اللَّهُ تعالى ذكرُه الأولياءَ، إذا أراد الأزواجُ التراجُعَ بعد البينونةِ بنكاحٍ مُستأنَفٍ في الحالِ التي أَذِن اللَّهُ لهما بالتراجعِ، ألا يَعْضُلَ وَلِيَّتَه عمّا أرادت من ذلك، وأن يُزَوِّجَها؛ لأن ذلك أفضلُ لجميعِهم، وأطهرُ لقلوبِهم مما يُخافُ سُبوقُه إليها من المعاني المكروهةِ.

ثم أخبَر تعالى ذكرُه عبادَه أنه يَعلَمُ مِن سرائرِهم وخَفِيّاتِ أمورِهم ما لا يعلَمُه بعضُهم من بعضٍ، ودلَّهم بقولِه لهم ذلك في هذا الموضعِ أنه إنما أمَر أولياءَ النساءِ بإنكاحِ مَن كانوا أولياءَه من النساءِ، إذا تراضتِ المرأةُ والزوجُ الخاطبُ بينهم بالمعروفِ، ونهاهم عن عَضْلِهن عن ذلك، لِمَا عَلِم مما في قَلْبِ الخاطبِ والمخطوبةِ من غَلبةِ الهَوى والميلِ مِن كلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبِه بالمَوَدَّةِ والمحبةِ، فقال لهم تعالى ذكرُه: افعلُوا ما أمَرْتُكم به إن كنتم تُؤمِنون بي وبثَوابِي وبعِقابِي في معادِكم في الآخرةِ، فإني أَعلمُ من قَلبِ الخاطبِ والمخطوبةِ ما لا تَعلَمُونه مِن الهَوى والمحبةِ، وفعلُكم ذلك أفضلُ لكم عند اللَّهِ ولهم، وأَزكَى وأَطهرُ لقلوبِكم وقلوبهِنّ في العاجلِ.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 635.

ص: 198

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} .

يَعني تعالى ذكرُه بذلك: والنساءُ اللواتي بِنَّ من أزواجِهنَّ - ولهنّ أولادٌ قد وَلَدْنَهم مِن أزواجِهنَّ قبلَ بَيْنُونَتِهنَّ منهم بطلاقٍ، أو وَلَدْنَهم

(1)

منهم بعدَ فِراقِهم إيّاهن مِن وطءٍ كان منهم لهن قبلَ البينونةِ - {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} . يَعني بذلك أنهنَّ أحقُّ برَضاعِهم من غيرِهنَّ. وليس ذلك بإيجابٍ من اللّهِ تعالى ذكرُه عليهن رَضاعَهم، إذا كان المولودُ له ولدٌ

(2)

، حيًّا مُوسِرًا؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال في سورةِ "النساءِ القُصْرَى"

(3)

: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. وأخبرَ تعالى ذكرُه أن الوالدةَ والولودَ له إن تعاسرَا في الأُجْرةِ التي تُرضِعُ بها المرأةُ ولدَها، أن أُخرى سواها تُرضِعُه، فلم يُوجِبْ عليها فرضًا رَضاعَ ولدِها، فكان معلومًا بذلك أن قولَه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} دَلالةٌ على مبلغِ غايةِ الرِّضاعِ التي متى اختلَف الوالدان في رَضاعِ المولودِ بعدَه

(4)

، جُعِل حدًّا يُفْصَلُ به بينهما، لا دلالةً على أن فرضًا على الوالداتِ رَضاعُ أولادِهنَّ.

وأما قولُه: {حَوْلَيْنِ} . فإنه يعنى به سنتَيْن.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} : سنتَيْن

(5)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن

(1)

في م: "أولدنهم".

(2)

في النسخ: "والدا". والمثبت ما يقتضيه السياق.

(3)

يعني سورة الطلاق.

(4)

في م: "بعدها".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 287 إلى المصنف ووكيع وسفيان وعبد الرزاق وآدم وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

ص: 199

مجاهدٍ مثلَه.

وأصلُ الحَوْلِ من قولِ القائلِ: حال هذا الشيءُ. إذا انتقَل. ومنه قيل: تَحَوَّلَ فلانٌ من مكانِ كذا. إذا انتقَل عنه.

فإن قال لنا قائلٌ: وما معنى ذكرِ {كَامِلَيْنِ} في قولِه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} بعدَ قولِه: {يُرْضِعْنَ} {حَوْلَيْنِ} . وفي ذكرِه الحَوْلَيْن مُسْتَغْنًى عن ذكرِ الكاملَيْن، إذ كان غيرَ مُشْكِلٍ على سامعٍ سَمِع قوله:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} ما يرادُ به، فما الوجهُ الذي مِن أجلِه زِيدَ ذكرُ {كَامِلَيْنِ} ؟

قيل: إن العربَ قد تقولُ: أقام فلانٌ بمكانِ كذا حَوْلَيْن، أو يومَيْن، أو شهرَيْن. وإنما أقام به يومًا وبعضَ آخَرَ، أو شهرًا وبعضَ آخَرَ، أو حَوْلًا وبعضَ آخَرَ، فقيل:{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ليَعْرِفَ سامِعو

(1)

ذلك أن الذي أُريدَ به حَوْلان تامّان، لا حَولٌ وبعضُ آخَرَ، وذلك كما قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . ومعلومٌ أن المُتَعَجِّلَ إنما يَتَعَجَّلُ في يومٍ ونصفٍ، فكذلك ذلك في اليومِ الثالثِ من أيامِ التشريقِ، وأنه ليس منه شيءٌ تامٌّ، ولكنَّ العربَ تَفعَلُ ذلك في الأوقاتِ خاصةً، فتقولُ: اليومُ يومان منذُ لم أرَه. وإنما تَعنِي

(2)

بذلك يومًا وبعضَ آخَرَ، وقد تُوقِعُ الفعلَ الذي تفعلُه

(3)

في الساعةِ أو اللحظةِ على العامِ والزمانِ واليومِ، فتقولُ: زُرْتُه عامَ كذا، وقتَل فلانٌ فلانًا زمانَ

(4)

صِفِّينَ. وإنما تفعلُ ذأك لأنها لا تَقْصِدُ بذلك

(1)

في م: "سامع".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يعني".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يفعله".

(4)

في ص، ت 1:"أزمان".

ص: 200

الخبرَ عن عددِ الأيامِ والسنينَ، وإنما تَعْنِي بذلك الإخبارَ عن الوقتِ الذي كان فيه المخبَرُ عنه، فجاز أن يَنْطِقَ بالحَوْلَيْن واليومَيْن على ما وَصَفْتُ قبلُ

(1)

؛ لأن معنى الكلامِ في ذلك: فعلْتُه إذ ذاك، وفي ذلك الوقتِ. فكذلك قولُه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . لمّا كان الرَّضاعُ في الحَولَيْن وليسا بالحَوْلَيْن - فكان الكلامُ، لو أُطلِق في ذلك بغيرِ تبيينِ

(2)

الحَولَيْن بالكمالِ، وقيل:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} . محتمِلًا أن يكونَ مَعْنِيًّا به حولٌ وبعضُ آخَرَ - نَفَى اللَّبْسَ عن سامِعيه بقولِه: {كَامِلَيْنِ} . أن يكونَ مرادًا به حولٌ وبعضُ آخَرَ، وأُبِين بقولِه:{كَامِلَيْنِ} . عن وقتِ تمامِ حدِّ الرَّضاعِ، وأنه تمامُ الحَولَيْن بانقضائِهما دونَ انقضاءِ أحدِهما وبعضِ الآخرِ.

ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في الذي دَلَّتْ عليه هذه الآيةُ مَن مبلغِ غايةِ رَضاعِ المولودِين، أهو حدٌّ لكلِّ مولودٍ، أو هو حدٌّ لبعضٍ دونَ بعضٍ؟ فقال بعضُهم: هو حدٌّ لبعضٍ دونَ بعضٍ.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في التي تَضَعُ لستةِ أشهرٍ أنها تُرضِعُ حَولَيْن كاملَيْن، وإذا وَضَعَت لسبعةِ

(3)

أشهرٍ أَرْضَعَتْ ثلاثةً وعشرين لتمامِ ثلاثين شهرًا، وإذا وضعَت لتسعةِ أشهرٍ أَرضعَت واحدًا وعشرين شهرًا

(4)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قيل".

(2)

في النسخ: "تضمين". والمثبت ما يقتضيه السياق.

(3)

في ص: "لستة".

(4)

أخرجه الطحاوي في المشكل 7/ 291، 292 عقب (2860)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 264، والحاكم 2/ 280، والبيهقي 7/ 442، 462، من طريق داود بن أبي هند به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 288 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.

ص: 201

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: حدَّثني عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ بمثلِه، ولم يَرفَعْه إلى ابنِ عباسٍ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ، [عن أبي عُبيدٍ]

(1)

، قال: رُفِع إلى عثمانَ امرأةٌ ولَدتْ لستةِ أشهرٍ، فقال: إنها رُفِعَتْ [إليَّ امرأةٌ]

(2)

، لا أَراها إلا قد جاءتْ بشَرٍّ - أو نحوَ هذا - ولَدتْ لستةِ أشهرٍ! فقال ابنُ عباسٍ: إذا أَتمَّتِ الرَّضاعَ كان الحملُ لستةِ أشهرٍ. قال: وتلا ابنُ عباس: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. فإذا أتمَّتِ الرَّضاعَ كان الحملُ لستةِ أشهرٍ. فخلَّى عثمانُ سبيلَها

(3)

.

وقال آخرون: بل ذلك حدُّ رَضاعِ كلِّ مولودٍ اختلَف والداه في رَضاعِه، فأراد أحدُهما البلوغَ إليه، والآخَرُ التقصيرَ عنه.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} : فجعَل اللَّهُ سبحانَه الرَّضاعَ حَولَيْن كاملَيْن لمن أراد أن يُتِمَّ الرَّضاعةَ. ثم قال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} إن أرادا أن يَفْطِماه قبلَ الحَولَيْن وبعدَه

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخبَرنا ابنُ المبارَكِ، عن ابن جُريجٍ،

(1)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، وفي ص، م:"عن أبي عبيدة". والمثبت من مصنف عبد الرزاق، وينظر تهذيب الكمال 10/ 288.

(2)

سقط من النسخ، والمثبت من مصدري التخريج.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13446)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 40 إلى عبد بن حميد.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 288 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم مقتصرًا على آخره، وأخرجه كذلك ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 434 (2299) من طريق عبد الله بن صالح به.

ص: 202

قال: قلتُ لعطاءٍ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} قال: إن أرادتْ أمُّه أن تُقَصِّرَ عن حَولَيْن كان عليها حقًّا أن تَبْلُغَه، لا أن تَزيدَ عليه إلا أن تشاءَ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، وحدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ أبي الزَّرْقاءِ، جميعًا عن الثوريِّ في قولِه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} : والتمامُ الحَوْلَانِ. قال: فإذا أراد

(2)

الأبُ أن يَفْطِمَه قبلَ الحَوْلَيْن ولم تَرْضَ المرأةُ فليس له ذلك، وإذا قالتِ المرأةُ: أنا أَفْطِمُه قبلَ الحَوْلَين. وقال الأبُ: لا. فليس لها أن تَفْطِمَه حتى يَرْضَى الأبُ حتى يَجتمِعَا، فإنِ اجتمعا قبلَ الحولَيْن فطَمَاه، وإذا اختلَفا لَمْ يَفْطِماه قبلَ الحَوْلَيْن وذلك قولُه:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ}

(3)

.

وقال آخرون: بل دلَّ اللَّهُ تعالى ذكرُه بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . على ألا رَضاعَ بعدَ الحَوْلَيْن، فإن الرَّضاعَ إنما هو ما كان في الحَولَيْن.

ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا آدمُ، قال: أخبَرَنا ابنُ أبي ذئبٍ، قال: ثنا الزهريُّ، عن ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ أنهما قالا: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه يقولُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . ولا نَرَى رَضاعًا بعدَ الحَولَيْن يُحَرِّمُ شيئًا

(4)

.

(1)

في ص: "يشاء".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 429 (2270) من طريق ابن المبارك به، وأخرجه عبد الرزاق (12173) عن ابن جريج به.

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 429 من طريق حسين بن حفص، عن سفيان مقتصرًا على قوله: والتمام الحولان.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 429 (2266) من طريق ابن أبي ذئب به.

ص: 203

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا ابنُ المبارَكِ، عن يونسَ بنِ يزيدَ، عن الزهريِّ، قال: كان ابنُ عمرَ وابنُ عباسٍ يقولان: لا رَضاعَ بعدَ الحَوْلَيْن

(1)

.

حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا حَفْصٌ، عن الشَّيبانيِّ، عن

(2)

أبي الضُّحَى، عن أبي عبدِ الرحمنِ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: ما كان مِن رَضاعٍ بعدَ سنتَيْن أو في الحَوْلَيْن بعدَ الفِطامِ، فلا رَضاعَ

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ، أنه رأَى امرأةً تُرضِعُ بعدَ حَوْلَيْن، فقال: لا تُرضِعِيه

(4)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الشَّيبانيِّ، قال: سَمِعْتُ الشعبيَّ يقولُ: ما كان من وَجُورٍ

(5)

أو سَعوطٍ

(6)

أو رَضاعٍ في الحَوْلين فإنه يُحرِّمُ، وما كان بعد الحَوْلَيْن لَمْ يُحرِّمْ شيئًا

(7)

.

حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال ثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ أنه كان يُحدِّثُ عن عبدِ اللَّهِ أنه قال: لا رَضاعَ بعد فِصالٍ أو بعد حَوْلَيْن

(8)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13900) عن معمر، عن الزهري به، وعنده عن ابن عمر أو ابن عباس.

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"ابن". وينظر تهذيب الكمال 27/ 520.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 290 عن حفص به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 291 عن عبد الرحمن بن مهدي وأبي أسامة به.

(5)

الوجور: الدواء يبلع في الفم. اللسان (و ج ر).

(6)

السعوط: الدواء يصب في الأنف. اللسان (س ع ط).

(7)

أخرجه ابن حزم 11/ 199 من طريق عبد الرحمن بن مهدي به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (973)، وابن أبي شيبة 4/ 291 طريق الشيباني به.

(8)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (974)، والبيهقي 7/ 462، وابن حزم 11/ 199، من طريق المغيرة به.

ص: 204

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا حسنُ بنُ عطيةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن عبدِ الأعلى، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ليس يُحرِّمُ مِن الرَّضاعِ بعد التمامِ، إنما يُحرِّمُ ما أَنبتَ اللحمَ وأَنشأ العَظْمَ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، أن ابنَ عباسٍ قال: لا رَضاعَ بعد فِصالِ السنتَيْن

(1)

.

حدَّثنا هلالُ بنُ العَلاءِ الرَّقِّيُّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عُبَيدُ اللَّهِ، عن زيد، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن أبي الضُّحَى، قال: سمِعْتُ ابنَ عباسٍ يقولُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . قال: لا رَضَاعَ إلا في هذين الحولين

(2)

.

وقال آخرون: بل كان قولُه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . دلالةً مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه عبادَه على أن فرضًا على والداتِ المولودِين أن يُرْضِعْنَهم حولين كاملين، ثم خفَّف تعالى ذكرُه ذلك بقولِه:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . فجعَل الخِيارَ في ذلك إلى الآباءِ والأمهاتِ، إذا أرادوا الإتمامَ أكْمَلوا حولين، وإن أرادوا قبلَ ذلك فَطْمَ المولودِ كان ذلك إليهم على النظرِ منهم للمولودِ.

ذكرُ مَن قال في لك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} : ثم أنْزَل اللَّهُ اليُسْرَ والتَّخْفيفَ بعدَ ذلك، فقال، تعالى ذكرُه:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}

(3)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13901) وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (980)، والطحاوي في المشكل 7/ 295، والبيهقي 7/ 462 من طريق عمرو بن دينار به بنحوه.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 288 إلى المصنف.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 429، عقب الأثر (2269) معلقًا.

ص: 205

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . يعني: المطلقاتُ يُرْضِعْن أولادَهن حولين كاملين، ثم أَنْزَل الرُّخْصةَ والتَّخْفيفَ بعدَ ذلك، فقال:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}

(1)

.

‌ذكرُ مَن قال: إن الوالداتِ اللَّوَاتي ذكَرَهن اللَّهُ تعالى في هذا الموضعِ البائناتُ مِن أزْواجِهن. على ما وصَفْنا قبلُ

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّديِّ، قال:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلى {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} : أما {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . فالرجلُ يُطَلِّقُ امرأتَه وله منها ولدٌ، وأنها تُرْضِعُ له ولدَه بما يُرْضِعُ له غيرُها

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه وهي تُرْضِعُ له ولدًا

(3)

.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ بنحوِه.

وأوْلَى الأقْوالِ بالصَّوابِ في قولِه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 429 (2269) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 428، عقب الأثر (2263) من طريق عمرو به.

(3)

سيأتي بتمامه في ص 211.

ص: 206

لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. القولُ الذي رواه عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، ووافَقَه على القولِ به عطاءٌ والثوريُّ، والقولُ الذي رُوِي عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ، وهو أنه دَلالةٌ على الغايةِ التي يُنْتَهَى إليها في رَضاعِ المولودِ إذا اخْتَلَف والداه، وألا رَضاعَ بعدَ الحولين يُحَرِّمُ شيئًا، وأنه مَعْنيٌّ به كلُّ مولودٍ لستةِ أشهرٍ كان وِلادُه أو لسبعةٍ أو لتسعةٍ.

فأما قولُنا: إنه دلالةٌ على الغايةِ التي يُنْتَهَى إليها في الرضاعِ عندَ اختلافِ الوالدين فيه؛ فلأن اللَّهَ تعالى ذِكْرُه لمَّا حدَّ في ذلك حدًّا كان غيرَ جائزٍ أن يَكونَ ما وراءَ حدِّه مُوافقًا في الحكمِ ما دونَه؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يَكُنْ للحدِّ معنًى معقولٌ. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شكَّ أن الذي هو دونَ الحولين مِن الأجَلِ لمَّا كان وقتَ رَضاعٍ كان ما وراءَه غيرَ وقتٍ له، وأنه وقتٌ لتَرْكِ الرَّضاعِ، وأن تمامَ الرَّضاعِ لمَّا كان تَمامَ الحولين، وكان التمامُ مِن الأشياءِ لا معنى للزيادةِ

(1)

فيه - كان لا معنى للزيادةِ في الرضاعِ على الحولين، وأن ما دونَ الحولين مِن الرضاعِ لمّا كان مُحَرِّمًا، كان ما وراءَه غيرَ مُحَرِّمٍ.

وإنما قلْنا: هو دلالةٌ على أنه مَعْنيٌّ به كلُّ مولودٍ لأيِّ وقتٍ كان وِلادُه؛ لستةِ أشهرٍ، أو سبعةٍ، أو تسعةٍ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه عمَّ بقولِه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . ولم يَخْصُصْ به بعضَ المولودِين دونَ بعضٍ.

وقد دلَّلْنا على فسادِ القولِ بالخصوصِ بغيرِ بيانِ اللَّهِ تعالى ذكرُه ذلك في كتابِه، أو على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في كتابِنا "كتابِ البَيانِ عن أصولِ الأحكامِ" بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ.

(1)

في م: "إلى الزيادة".

ص: 207

فإن قال لنا قائلٌ: فإن اللَّهَ تعالى ذكرُه قد بيَّن ذلك بقولِه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . فجعَل ذلك حدًّا للمَعْنَيَيْن كليهما، فغيرُ جائزٍ أن يكونَ حملٌ ورَضاعٌ أكثرَ مِن الحدِّ الذي حدَّه اللَّهُ تعالى ذكرُه، فما نقَص مِن مدةِ الحملِ عن تسعةِ أشهرٍ، فهو مَزيدٌ في مدةِ الرضاعِ، وما زِيدَ في مدةِ الحملِ نَقَص مِن مدةِ الرَّضاعِ، وغيرُ جائزٍ أن يُجاوَزَ بهما كليهما مدةَ ثلاثين شهرًا، كما حدَّه اللَّهُ تعالى ذكرُه؟

قيل له: فقد يَجِبُ أن يَكونَ مدةُ الحملِ - على هذه المقَالةِ - إن بلَغَت حولين كاملين، ألا يُرْضَعَ المولودُ إلا ستةَ أشهرٍ، وإن بلَغَت أربعَ سنينَ أن يَبْطُلَ الرَّضاعُ فلا يُرْضِعَ؛ لأن الحملَ قد اسْتَغْرَق الثلاثين شهرًا، وجاوَز غايتَه، أو يَزْعُمُ قائلُ هذه المقالةِ أن مدةَ الحملِ لن تُجاوِزَ تسعةَ أشهرٍ، فيَخْرُجَ من قولِ جميعِ الحُجَّةِ، ويُكابِرَ الموجودَ والمُشاهَدَ، وكفَى بهما حُجَّةً على خطأ دَعْواه إن ادَّعَى ذلك. فإلى أيِّ الأمرين لجَأ قائلُ هذه المقالةِ وضَح

(1)

لذَوِي الفَهْمِ فسادُ قولِه.

فإن قال لنا قائلٌ: فما معنى قولِه - إن كان الأمرُ على ما وصَفْتَ -: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . وقد ذكَرْتَ آنِفًا أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ ما جاوَز حدَّ اللَّهِ تعالى ذكرُه نظيرَ ما دونَ حدِّه في الحكمِ، وقد قلتَ: إن الحملَ والفِصالَ قد يُجاوِزان ثلاثين شهرًا؟

قيل: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه لم يَجْعَلْ قولَه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . حدًّا تعَبَّد عبادَه بألا يُجاوِزُوه كما جعَل قولَه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . حَدًّا لرَضاعِ المولودِ الثابتِ

(2)

الرضاعِ، وتعَبَّد

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"صح".

(2)

في م: "التام".

ص: 208

العبادَ بحملِ والديه عليه عندَ اخْتِلافِهما فيه، وإرادةِ أحدِهما الضِّرارَ به، وذلك أن الأمرَ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه إنما يَكونُ فيما يَكونُ للعِبادِ السبيلُ إلى طاعتِه بفعلِه

(1)

والمعصيةِ بترْكِه، فأما ما لم يَكُنْ لهم إلى فعلِه، ولا إلى تركِه سبيلٌ، فذلك مما لا يَجوزُ الأمرُ به ولا النهيُ عنه ولا التعبُّدُ به.

فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحملُ مما لا سبيلَ للنساءِ إلى تقصيرِ مدتِه، ولا إلى إطالتِها فيَضَعْنَه متى شِئْنَ، ويَتْرُكْن وَضْعَه إذا شِئْنَ، كان معلومًا أن قولَه:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} إنما هو خبرٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه عن أن مِن خَلْقِه مَن حمَلَتْه أمُّه وولَدَتْه وفصَلَتْه في ثلاثين شهرًا، لا أمرٌ بألا يُتجاوَزَ في مدةِ حملِه وفِصالِه ثلاثون شهرًا؛ لما وصَفْنا، وكذلك قال ربُّنا تعالى ذكرُه في كتابِه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا

(2)

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.

فإن ظنَّ ذو غَباءٍ أن اللَّهَ تعالى ذكرُه إذ وصَف أن مِن خلْقِه مَن حمَلَتْه أمُّه ووضَعَتْه وفصَلَتْه في ثلاثين شهرًا، فوجَب أن يَكونَ جميعُ خلقِه ذلك صفتُهم، وأن ذلك دَلالةٌ على أن حملَ كلِّ عبادِه وفِصالَه ثلاثون شهرًا، فقد يَجِبُ أن يَكونَ كلُّ عبادِه صفتُهم أن يَقُولوا إذا بلَغوا أشُدَّهم، وبلَغوا أربعين سنةً:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} . على ما وصَف اللَّهُ به الذي وُصِف في هذه الآيةِ. وفي وُجودِنا مَن يَسْتَحْكِمُ كفرُه باللَّهِ، وكُفْرانُه نِعَمَ ربِّه عليه، وجُرْأتُه على والدَيْه بالقتلِ والشَّتْمِ وضُروبِ المَكارِهِ عندَ

(1)

في ت 2: "بفضله".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حسنا". وهما قراءتان سيذكرهما المصنف عند تفسير هذه الآية من سورة الأحقاف.

ص: 209

استكمالِه الأربعين مِن سِنِيه، وبُلوغِه أَشُدَّه، ما يُعْلِمُ أنه لم يَعْنِ اللَّهُ بهذه الآيةِ صفةَ جميعِ عبادِه، بل يُعْلِمُ أنه إنما وصَف بها بعضًا منهم دونَ بعضٍ، وذلك ما لا يُنْكِرُه ولا يَدْفَعُه أحدٌ؛ لأن مَن يُولَدُ مِن الناسِ لتسعةِ أشهرٍ أكثرُ ممَّن يُولَدُ لأربعِ سنين ولسنتين، كما أن مَن يُولَدُ لتسعةِ أشهرٍ أكثرُ ممَّن يُولَدُ لستةِ أشهرٍ، ولسبعةٍ.

واختَلَفَتِ القَرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه عامَّةُ أهلِ المدينةِ والعراقِ والشامِ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . بالياءِ في {يُتِمَّ} ، ونصبِ {الرَّضَاعَةَ}. بمعنى: لمن أراد مِن الآباءِ والأمهاتِ أن يُتِمَّ رَضاعَ ولدِه.

وقرَأه بعضُ أهلِ الحجازِ: (لمَنْ أرَادَ أنْ تَتِمَّ الرَّضَاعَةُ). بالتاءِ في "تتم"، ورفعِ "الرضاعة" بصفتِها

(1)

.

والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا قراءةُ مَن قرَأ بالياءِ في {يُتِمَّ} ونصبِ {الرَّضَاعَةَ} ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} فكذلك هن يُتْمِمْنَها إذا أرَدْنَ هن والمولودُ له إتمامَها، وأنها القراءةُ التي جاء بها النقلُ المُسْتَفِيضُ الذي ثبتَت به الحُجَّةُ دونَ القراءةِ الأخرى.

وقد حُكِي في الرضاعةِ سَماعًا مِن العربِ كسرُ الراءِ التي فيها، وإن تَكُنْ صَحيحةً فهي نَظيرةُ الوَكالةِ والوِكالةِ، والدَّلالةِ والدِّلالةِ

(2)

، ومهَرْتُ الشيءَ مَهارَةً ومِهارةً، فيَجوزُ حينَئذٍ الرَّضاعُ والرِّضاعُ، كما قيل: الحَصادُ والحِصادُ. وأما القراءةُ

(1)

وهي قراءة مجاهد والحسن وحميد بن قيس وابن محيصن وأبي رجاء، وهي من القراءات الشاذة. ينظر البحر المحيط 2/ 213.

(2)

بعده في ص: "والدلالة".

ص: 210

فبالفتحِ لا غيرُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} : وعلى آباءِ إلصِّبْيانِ للمَراضِعِ {رِزْقُهُنَّ} . يعني: رزقُ والدتِهن. ويعني بالرزقِ ما يَقُوتُهن مِن طعامٍ، وما لا بدَّ لهن مِن غِذاءٍ ومَطْعَمٍ. {وَكِسْوَتُهُنَّ} . ويعني بالكِسوةِ المَلْبَسَ.

ويعني بقولِه: {بِالْمَعْرُوفِ} : بما يَجِبُ لمثلِها علي مثلِه، إذ كان اللَّهُ تعالى ذكرُه قد علِم تَفاوُتَ أحوالِ خلقِه بالغنى والفقرِ، وأن منهم المُوسِعَ والمُقْتِرَ وبينَ ذلك، فأمَر كلًّا أن يُنْفِقَ على مَن لَزِمَتْه نفقتُه مِن زوجتِه وولدِه على قدْرِ مَيْسَرتِه، كما قال تعالى ذكرُه:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

وكما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن جُوَيْبِر، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه وهي تُرْضِعُ له ولدًا، فتَراضَيا على أن تُرْضِعَ حولَيْن كامَليْن، فعلى الوالدِ رزقُ المُرْضِعِ

(1)

والكِسْوةُ بالمعروفِ، على قدرِ المَيْسَرةِ، لا يُكَلِّفُ

(2)

نفسًا إلا وُسعَها

(3)

.

(1)

في ص: "الموضوع".

(2)

في م: "نكلف".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 418 بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 288 إلى المصنف مقتصرًا على قوله: على قدر الميسرة.

ص: 211

حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ الرَّمْليُّ، قال: ثنا زيدٌ

(1)

، وحدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، جميعًا

(2)

عن سُفيانَ قولَه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} : والتَّمامُ الحولان، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} على الأبِ طعامُها وكِسْوتُها بالمعروفِ

(3)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: على الأبِ

(4)

.

‌‌

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {[لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ]

(5)

إِلَّا وُسْعَهَا}.

يعني تعالى ذكرُه بذلك: لا تُحَمَّلُ نفسٌ مِن الأمورِ إلا ما لا يَضِيقُ عليها ولا يَتَعَذَّرُ عليها وُجودُه إذا أرادَت. وإنما عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه بذلك: لا يُوجِبُ اللَّهُ على الرجالِ مِن نفقةِ مَن أرْضَعَ أولادَهم مِن نسائِهم البائناتِ منهم إلا ما أطاقوه، ووجَدوا إليه السبيلَ، كما قال تعالى ذكرُه:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} .

كما حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} . إلا ما أطاقَت

(6)

.

(1)

في ص: "يزيد".

(2)

سقط من: م.

(3)

تقدم تخريج أوله في ص 203.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 429 عقب الأثر (2271) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

في ص: "لا يكلف الله نفسا".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 577 (3081) من طريق مهران به، بنحوه. وذكره في 2/ 430 عقب الأثر (2276) معلقًا.

ص: 212

والوُسْعُ الفُعْلُ، مِن قولِ القائلِ: وسِعَني هذا الأمرُ، فهو يَسَعُني سَعَةً. ويقالُ: هذا الذي أعْطَيْتُك وُسْعي. أى: ما يَتَّسِعُ لي أن أُعْطِيَك فلا يَضِيقُ عليَّ إعطاؤكَه. و: أعْطَيْتُك مِن جُهْدي. إذا أعْطَيْتَه ما يُجْهِدُك، فيَضِيقُ عليك إعطاؤُه.

فمعنى قولِه: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} . هو ما وصَفْتُ مِن أنها لا تُكَلَّفُ إلا ما يَتَّسِعُ لها بَذْلُ ما كُلِّفَت بَذْلَه، فلا يَضِيقُ عليها ولا يَجْهَدُها، لا ما ظنَّه جَهَلةُ أهلِ القدَرِ مِن أن معناه لا تُكَلَّفُ نفسٌ إلا ما قد أُعْطِيَت عليه القدرةَ مِن الطاعاتِ. لأن ذلك لو كان كما زعَمَت، لكان قولُه تعالى ذكرُه:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48، الفرقان: 9] - إذ كان دالًّا على أنهم غيرُ مُسْتَطِيعي السبيلِ إلى ما كُلِّفوه - واجبًا أن يَكونَ القومُ في حالٍ واحدةٍ قد أُعْطُوا الاسْتِطاعةَ على ما مُنِعوها عليه، وذلك مِن قائلِه، إن قاله، إحالةٌ في كلامِه، ودعْوَى باطلٍ لا يُخِيلُ بُطولُه. وإذ كان بيِّنًا فسادُ هذا القولِ، فمعلومٌ أن الذي أخْبَر تعالى ذكرُه أنه كلَّف النفوسَ مِن وُسْعِها غيرُ الذي أخْبَر أنه كلَّفَها مما لا تَسْتَطِيعُ إليه السبيلَ.

‌القولُ في تأويل قولِه تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} .

اخْتَلَفَتِ القَرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأه عامَّةُ قَرأةِ أهلِ الحجازِ والكوفةِ والشامِ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} . بفتحِ الراءِ

(1)

، بتأْويلِ: لا تُضَارَرْ

(2)

. على وجهِ

(1)

وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 136.

(2)

في ص: "تضارن".

ص: 213

النهيِ، وموضعُه - إذا قرِئ

(1)

كذلك - جَزْمٌ، غيرَ أنه حُرِّك

(2)

، إذ تُرِك التضعيفُ بأخفِّ الحركاتِ وهو الفتحُ، ولو حُرِّك إلى الكسرِ كان جائزًا، إتْباعًا لحركةِ لامِ

(3)

الفعلِ حركةَ عينِه، وإن شئتَ فلأنَّ الجزمَ إذا حُرِّك حُرِّك إلى الكسرِ

(4)

.

وقرَأ ذلك بعضُ أهلِ الحجازِ وبعضُ أهلِ البصرةِ: (لَا تُضَارُّ

(5)

والدةٌ بولَدِها) رفعٌ

(6)

. ومَن قرَأَه كذلِك لَمْ تَحْتَمِلْ قراءتُه معنى النهيِ، ولكنها تكونُ الخبرَ

(7)

، عطفًا بقولِه:{لَا تُضَارَّ} على قولِه: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} .

وقد زعَم بعضُ نحويِّي البصرةِ أن معنى مَن رفَع: (لا تُضارُّ والدةٌ بولدِها) هكذا في الحكمِ، أنه لا تُضارُّ والدةٌ بولدِها. أي: ما يَنْبَغي أن تُضارَّ. فلما حُذِفَت "يَنْبَغِي"، وصار "تُضارُّ" في موضعِه صار على لفظِه. واستَشْهد لذلك بقولِ الشاعرِ

(8)

:

عَلَى الحَكَمِ المَأْتِيِّ يومًا إذا قضَى

قَضِيَّتَه ألا يَجُورَ ويَقْصِدُ

(9)

فزعَم أنه رفَع "يَقْصِدُ" بمعنى "يَنْبَغِي". والمحكيُّ عن العربِ سَماعًا غيرُ الذي قال، وذلك أنه رُوِي عنهم سَماعًا: فتَصْنَعَ ماذا. إذا أرادوا أن يقولوا: فتُرِيدُ أن تَصْنَعَ ماذا. فيَنْصِبونه بنيَّةِ "أن"، وإذا لَمْ يَنْوُوا "أن" ولم يُريدُوها، قالوا: فتُرِيدُ

(1)

في ص: "قوى".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"حول".

(3)

في ص: "لأن".

(4)

ينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع من كلام المصنف، وينظر ما سيأتي في ص 218، 219.

(5)

في م: "تضارر". وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. حجة القراءات ص 136.

(6)

في النسخ: "فعل". والمثبت هو الصواب.

(7)

في م: "بالخبر". ويعني بقوله تكون الخبر، أي تكون على معناه.

(8)

البيت في شرح المفصل 7/ 38، واللسان (ق ص د)، وخزانة الأدب 8/ 555، 557، 558 وقد نسب فيها إلى أبي اللحام التغلبي، ونسبه في الكتاب 3/ 56 إلى عبد الرَّحمن بن أم الحكم.

(9)

يقصد: يعدل، من القصد وهو العدل. التاج (ق ص د).

ص: 214

ماذا. فيَرْفَعون "تُرِيدُ"؛ لأنه لا جالِبَ لـ "أن" قبلَه، كما كان له جالبٌ قبلَ "تَصْنَع". فلو كان معنى قولِه:(لا تُضارُّ). إذا قُرِئ رفعًا بمعنى: يَنْبَغي ألا تُضارَّ، أو ما يَنْبَغِي أن تُضارَّ. ثم حُذِف "يَنْبَغِي" و"أن"، وأُقِيم "تُضارُّ" مُقامَ "يَنْبَغِي"، لكان الواجبُ أن يَقْرَأَ - إذا قُرِئ بذلك المعنى - نصبًا لا رفعًا، ليُعْلَمَ بنصبِه المتروكُ قبلَه المعنيُّ المرادُ، كما فُعِل بقَوْلِهم

(1)

: فتَصْنَعَ ماذا. ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رُفِع على العطفِ على {لَا تُكَلَّفُ} : ليست تُكَلَّفُ نفسٌ إلَّا وُسْعَها، وليست تُضارُّ والدةٌ بولدِها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دينِ اللَّهِ وحُكْمِه وأخلاقِ المسلمين.

وأولى القراءتيْن بالصوابِ في ذلك قراءةُ مَن قرَأ بالنصبِ

(2)

؛ لأنَّه نهيٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه كلَّ واحدٍ مِن أبوَيِ المولودِ عن مُضارَّةِ صاحبِه له، حرامٌ عليهما ذلك بإجماعِ المسلمين، فلو كان ذلك خبرًا لكان حرامٌ عليهما ضِرارَهما به كذلك.

وبما قلْنا

(3)

من أن ذلك بمعنى النهيِ، تأوَّله أهلُ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} : لا تَأْبَى أن تُرْضِعَه ليَشُقَّ ذلك على أبيه، ولا يُضَارُّ الوالدُ بولدِه، فيَمْنَعَ أمَّه أن تُرْضِعَهُ ليَحْزُنَها

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

(1)

في م: "بقوله".

(2)

والقراءتان متواترتان وكلتاهما صواب.

(3)

بعده في م: "في ذلك".

(4)

في ص: "فيحزنها"، والأثر في تفسير مجاهد ص 237، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 430 (2277).

ص: 215

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} قال: نهَى اللَّهُ تعالى عن الضِّرارِ، وقدَّم فيه، فنهَى اللَّهُ أن يُضَارَّ الوالدُ فيَنْتَزِعَ الولَدَ مِن أمِّه إذا كانت راضيةً بما كان مُسْتَرْضِعًا به غيرَها، ونُهِيَتِ الوالدةُ أن تَقْذِفَ الولدَ إلى أبيه ضِرارًا.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} : تَرْمِي به إلى

(1)

أبيه ضِرارًا، {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} يقولُ: ولا الوالدُ

(2)

فيَنْتَزِعُه منها ضِرارًا إذا رَضِيَت مِن أجْرِ الرَّضاعِ ما رضِي به غيرُها، فهي أحقُّ به إذا رضِيَت بذلك

(3)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن يونُسَ، عن الحسنِ:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال: ذلك إذا طلَّقها، فليس له أن يُضارَّها، فيَنْتَزِعَ الولدَ منها إذا رضِيَت منه بمثلِ ما يَرْضَى به غيرُها، وليس لها أن تُضَارَّه فتُكَلِّفَه ما لا يُطِيقُ إذا كان إنسانًا مسكينًا فتَقْذِفَ إليه ولدَه

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضَّحاكِ:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} : لا تُضارَّ أمٌّ بولدِها، ولا أبٌ بولدِه، يقولُ: لا تُضارَّ أمٌّ بولدِها فتَقْذِفَه [إليه إذا]

(5)

كان الأبُ حيًّا، أو إلى عَصَبتِه إذا

(6)

كان

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"على".

(2)

في م: "الولد".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 94، وأخرجه في مصنفه (12177).

(4)

ذكره القرطبي في تفسيره 3/ 167.

(5)

في ص، ت 1، ت 2:"إذ".

(6)

في ص، ت 1، ت 2:"إذ".

ص: 216

الأبُ

(1)

ميِّتًا، ولا يُضَارَّ الأبُ المرأةَ إذا أحَبَّت أن تُرضِعَ ولدَها ولا يَنْتَزِعْه

(2)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السدىِّ:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} . يقولُ: لا يَنْزِعُ الرجلُ ولدَه مِن امرأتِه فيُعْطِيَه غيرَها بمثلِ الأجرِ الذي تَقْبَلُه هي به، ولا تُضَارُّ

(3)

والدةٌ بولدِها فتَطْرَحَ الأمُّ إليه ولدَه تقولُ: لا أَلِيه. ساعةَ تَضَعُه. ولكن عليها مِن الحقِّ أن تُرْضِعَه حتى يَطْلُبَ مُرْضِعًا

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شِهابٍ، وسُئِل عن قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} . قال ابنُ شِهابٍ: والوالداتُ أحقُّ برَضاعِ أولادِهن ما قبِلْنَ

(5)

رَضاعَهن بما يُعْطَى غيرُهن مِن الأجرِ، وليس للوالدةِ أن تُضارَّ بولدِها، فتأْبَى رَضاعَه مُضارَّةً، وهي تُعْطَى عليه ما يُعْطَى غيرُها، وليس للمولودِ له أن يَنْزِعَ ولدَه مِن والدتِه مُضارًّا لها، وهي تَقْبَلُ مِن الأجرِ ما يُعْطاه غيرُها

(6)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحَدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ في قولِه:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} : لا تَرْمِ بولدِها إلى الأبِ إذا فارَقَها،

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 418 عن الضحاك بنحوه.

(3)

في ص: "يضار".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 431 (2279) من طريق عمرو به، دون شطره الثاني.

(5)

في ص، ت 1، ت 2:"قبل".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 432 (2284) شطره الثاني من طريق الليث به، وعلقه البخاري عقب (5360) عن يونس عنه، ووصله ابن وهب في جامعه - كما في تغليق التعليق 4/ 480، 481، وذكره ابن أبي حاتم شطره الأول في تفسيره 2/ 430 عقب (2277) معلقًا.

ص: 217

تُضَارُّه بذلك، {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}: ولا يَنْزِعُ الأبُ منها ولدَها، يُضَارُّها بذلك

(1)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} . قال: لا يَنْتَزِعُه منها وهي تحبُّ أن تُرْضِعَه فيُضَارَّها، ولا تَطْرَحُه عليه وهو لا يَجِدُ مَن تُرْضِعُه، ولا يَجِدُ ما يَسْتَرْضِعُه به

(2)

.

حدَّثنا عمرٌو بنُ عليٍّ الباهليُّ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنى ابنُ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ في قولِه:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} . قال: لا تَدَعَنَّه - ورَضاعُه مِن شأنِها - مُضارَّةً لأبيه، ولا يَمْنَعُها الذي عندَه مُضارَّةً لها

(3)

.

وقال بعضُهم: الوالدةُ التي نهَى الرجلَ عن مُضارَّتِها ظِئْرُ

(4)

الصبيِّ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هارونُ النحويُّ، قال: ثنا الزبيرُ بنُ الخِرِّيتِ

(5)

، عن عكرمةَ في قولِه:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} . قال: هي الظِّئْرُ.

فمعنى الكلامِ: لا يُضارِرْ والدُ مولودٍ والدتَه بمولودِه منها، ولا والدةُ مولودٍ والدَه بمولودِها منه. ثم ترَك ذكْرَ الفاعلِ في "يُضارَّ"، فقيل: لا تُضارَرْ والدةٌ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12178) عن سفيان الثوري بنحوه.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 418 عن ابن زيد.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12176) عن ابن جريج به.

(4)

الظئر: هي العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له. التاج (ظ أ ر).

(5)

في النسخ: "الحارث". وينظر تهذيب الكمال 9/ 301.

ص: 218

بولدِها، ولا مولودٌ له بوَلَدِهِ. كما يقالُ إذا نُهِي عن إكرامِ رجلٍ بعينِه فيما لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يُقْصَدْ بالنهيِ عن إكرامِه قصْدُ شخصٍ بعينِه

(1)

-: لا يُكْرَمُ عمرٌو، ولا يُجْلَسُ إلى أخيه. ثم تُرِك التَّضعيفُ فقيل: لا يُضارّ. فحُرِّكَتِ الراءُ الثانيةُ التي كانت مجزومةً - لو أُظْهِر التضعيفُ - بحركةِ الراءِ الأولى.

وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أنَّها إنما حُرِّكَت إلى الفتحِ في هذا الموضعِ؛ لأنه أخفُّ

(2)

الحركاتِ. وليس للذي

(3)

قال مِن ذلك معنًى؛ لأن ذلك إنما كان جائزًا أن يكونَ كذلك لو كان معْنَى الكلامِ: لا تُضارِرْ

(4)

والدةٌ بولدِها. وكان المنهيُّ

(5)

عن الضِّرارِ هي الوالدةَ. على أنَّ معنى الكلامِ لو كان كذلك لكان الكسرُ في "تضار" أفصحَ مِن الفتحِ، والقراءةُ به كانت أصوبَ مِن القراءةِ بالفتحِ، كما أن: مُدَّ بالثوبِ، أفصحُ مِن: مُدَّ به. وفي إجماعِ القرأةِ على قراءةِ {لَا تُضَارَّ} بالفتحِ دون الكسرِ دليلٌ واضحٌ على إغفالِ مَن حكَيْتُ قولَه مِن أهلِ العربيةِ في ذلك.

فإن كان قائلُ ذلك قاله تَوَهُّمًا منه أن معنى ذلك: لا تضارِرْ

(6)

والدةٌ. وأن "الوالدةَ" مرفوعةٌ بفعلِها، وأن الراءَ الأولى حظُّها الكسرُ، فقد أغْفَل تأويلَ الكلامِ، وخالَف قولَ جميعِ مَن حكَيْنا قولَه مِن أهلِ التأويلِ، وذلك أن اللَّهَ تعالى ذكرُه تقَدَّم

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(2)

في النسخ: "أحد". وينظر الكتاب 4/ 167، 188، 382، 383.

(3)

في م: "الذي".

(4)

في ص، م، ت 2:"تضارن"، وفي ت 1:"تضار"، والصواب ما أثبتناه، فقد التبس على الناسخ في الراء الثانية فرسمها نونًا فصارت:"تضارن" بدلا من: "تضارر".

(5)

في ص، ت 1، ت 2:"النهي".

(6)

في م، ت 1، ت 2:"تضار".

ص: 219

إلى كلِّ أحدٍ مِن أبوَيِ المولودِ بالنهيِ عن ضِرارِ صاحبهِ بمولودِهما، لا أنه نَهَى كلَّ واحدٍ منهما عن أن يُضارَّ المولودَ، وكيف يجوزُ أن يَنْهاه ىن مُضارَّةِ الصبيِّ، والصبيُّ - في حالِ ما هو رَضيعٌ - غيرُ جائزٍ أن يكونَ منه ضِرارٌ لأحدٍ، فلو كان ذلك معناه، لكان التَّنْزيلُ: لا تُضَرُّ

(1)

والدةٌ بولدِها.

وقد زعَم آخَرون مِن أهلِ العربيةِ

(2)

أن الكسرَ في {تُضَارَّ} جائزٌ. والكسرُ في ذلك عندي في هذا الموضعِ غيرُ جائزٍ؛ لأنه إذا كُسِر تغَيَّر معناه عن معنى: لا تضارَرْ

(3)

، الذي هو في مذهبِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، إلى معنى: لا تضارِرْ

(4)

. الذي هو في مذهبِ ما قد سُمِّي فاعلُه.

فإذ كان اللَّهُ تعالى ذكرُه قد نهَى كلَّ واحدٍ مِن أبوَيِ المولودِ عن مضارَّةِ صاحبِه بسببِ ولدِهما، فحقٌّ على إمامِ المسلمين - إذا أراد الرجلُ نَزْعَ ولدِه مِن أمِّه بعدَ بَيْنونتِها منه، وهي تَحْضُنُه وتَكْفُلُه وتُرْضِعُه، بما يَحْضُنُه به غيرُها ويَكْفُلُه به ويُرْضِعُه مِن الأُجْرةِ - أن يَأْخُذَ الوالدَ بتسليمِ ولدِها، ما دام مُحْتاجًا الصبيُّ إليها في ذلك، بالأُجرةِ التي يُعْطاها غيرُها. وحقٌّ عليه إذا كان الصبيُّ لا يَقْبَلُ ثَدْيَ غيرِ والدتِه، أو

(5)

كان المولودُ له لا يَجِدُ مَن يُرْضِعُ ولدَه، وإن كان يَقْبَلُ ثَدْيَ غيرِ أمِّه، أو كان مُعْدِمًا لا يَجِدُ ما يَسْتَأْجِرُ به مُرْضِعًا، ولا يَجِدُ من

(6)

يَتَبَرَّعُ عليه برَضاعِ مولودِه، أن يَأْخُذَ والدتَه البائنةَ مِن والدِه برَضَاعِه وحَضانتِه؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه إنْ

(7)

حرَّم على

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"تضار".

(2)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 149.

(3)

في ص، م:"تضار".

(4)

في النسخ: "تضار". والصواب ما أثبتناه.

(5)

في ص، ت 1، ت 2:"إذ".

(6)

في النسخ: "ما". والمثبت هو الصواب.

(7)

سقط من: م.

ص: 220

كلِّ واحدٍ مِن أبوَيْه ضِرارَ صاحبِه بسببِه، فالإضْرارُ به أحْرَى أن يَكونَ مُحرَّمًا، مع ما في الإضْرارِ به مِن مضارَّةِ صاحبِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الوارثِ الذي عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وأيُّ وارثٍ هو؟ ووارثُ مَن هو؟ فقال بعضُهم: هو وارثُ الصبيِّ. وقالوا: معنى الآيةِ: وعلى وارثِ الصبيِّ إذا كان أبوه

(1)

ميتًا مثلُ الذي كان على أبيه في حياتِه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : على وارثِ الولدِ.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : على وارثِ الولدِ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن مَعْمرٍ، عن قتادةَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: وعلى وارثِ الصبيِّ مثلُ ما على أبيه

(3)

.

ثم اخْتَلَف قائلو هذه المقالةِ في وارثِ المولودِ الذي ألْزَمه اللَّهُ تعالى ذكرُه مثلَ

(1)

سقط من النسخ، والمثبت يدل عليه السياق بعده.

(2)

ينظر: المحرر الوجيز 2/ 115.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12183) عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 288 إلى عبد بن حميد.

ص: 221

الذي وصَف، فقال بعضُهم: هو وارثُ الصبيِّ مِن قِبَلِ أبيه مِن عَصَبتِه كائنًا مَن كان؛ أخًا كان أو عمًّا أو ابنَ عمٍّ أو ابنَ أخٍ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، أن عمرَو بنَ شُعيبٍ أخْبَرَه، أن سعيدَ بنَ المسيبِ أخْبَرَه، أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قال في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال - وقَف

(1)

بنى عمِّ

(2)

مَنْفوسٍ

(3)

؛ [بنى عمِّه]

(4)

كَلالةً بالنفقةِ عليه، مثلَ العاقلةِ

(5)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، أن الحسنَ كان يقولُ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : على العَصَبةِ

(6)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ إدريسَ وأبو عاصمٍ، قالا: ثنا ابنُ جُرَيْجٍ، عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، قال: وقَف

(1)

في م: "حبس".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عمر"، وفي م:"عم على". والمثبت من مصادر التخريج.

(3)

المنفوس: المولود. اللسان (ن ف س).

(4)

سقط من: م، وفي ت 2:"عن بنى عمه".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 94، 95 وفي مصنفه (12181)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 432 (2288) عن الحسن بن يحيى به. وأخرجه أبو عبيد في الأموال (595)، وابن زنجويه (868)، وأخرجه النحاس في ناسخه ص 234، والبيهقي 7/ 478 من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 288 إلى سفيان وعبد بن حميد.

(6)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 278.

ص: 222

عمرُ ابنَ عمِّ

(1)

مَنْفوسٍ كلالةً برَضاعِه

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن يونُسَ، أن الحسنَ كان يقولُ: إذا تُوُفِّى الرجلُ وامرأتُه حاملٌ، فنفقتُها مِن نصيبِها، ونفقةُ ولدِها مِن نصيبِه مِن مالِه إن كان له، فإن لم يَكُنْ له مالٌ فنفقتُه على عَصَبتِه. قال: وكان يَتَأَوَّلُ قولَه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} على الرجالِ

(3)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن يونُسَ، عن الحسنِ، قال: على العَصَبةِ الرجالِ دونَ النساءِ

(4)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ وعمرُو بنُ عليٍّ، قالا: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: ثنا هشامٌ، عن ابنِ سِيرينَ أنه أتَى عبدَ اللَّهِ بنَ عتبةَ مع اليتيمِ وليُّه، ومع اليتيمِ مَن يَتَكَلَّمُ في نفقتِه، فقال لوليِّ اليتيمِ: لو لم يَكُنْ له مالٌ لَقَضَيْتُ عليك بنفقتِه؛ لأن اللَّهَ تعالى يقولُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(5)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال

(6)

: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، قال: أُتِي عبدُ اللَّهِ بنُ عتبةَ في رَضاعِ صبيٍّ، فجعَل رَضاعَه في مالِه، وقال لوليِّه: لو لم يَكُنْ له مالٌ جعَلْنا رَضاعَه في مالِك، ألا تَراه يقولُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ

(1)

بعده في م: "على".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 246، 247، عن ابن إدريس به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 207 عن ابن علية به ببعضه، وفي 5/ 243 عن يونس به.

(4)

أخرجه أبو عبيد في الأموال (594)، وابن زنجويه في الأموال (865) من طريق يونس به.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 245 عن ابن إدريس به.

(6)

في ص، ت 1:"قالا".

ص: 223

ذَلِكَ}

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: على الوارثِ ما على الأبِ إذا لم يَكُنْ للصبيِّ مالٌ، وإذا كان له ابنُ عمٍّ أو عَصَبةٌ تَرِثُه، فعليه النفقةُ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: الوليُّ مَن كان.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن أبي بشرٍ وَرْقاءَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الحَنَفيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عثمانَ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، قال: أخْبَرَنا يعقوبُ - يعني ابنَ القاسمِ - عن عطاءٍ وقتادةَ، في يتيمٍ ليس له شيءٌ: أيُجْبَرُ أولياؤُه على نفقتِه؟ قالا: نعم، يُنْفَقُ عليه حتى يُدْرِكَ

(4)

.

حُدِّثْتُ عن يعلى بنِ عُبيدٍ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ، قال: إن مات أبو الصبيِّ، وللصبيِّ مالٌ، أُخِذ رَضاعُه مِن المالِ، وإن لم يَكُنْ له مالٌ أُخِذ مِن العَصَبةِ،

(1)

أخرجه أبو عبيد في الأموال (592)، وابن أبي شيبة 5/ 243، وابن زنجويه في الأموال (864)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 433 (2289) من طريق ابن علية به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 244، وابن زنجويه (867) عن جرير بنحوه.

(3)

تفسير مجاهد ص 237، ومن طريقه البيهقي، 7/ 478.

(4)

أخرجه ابن حزم 11/ 346 من طريق إبراهيم الصائغ، عن عطاء.

ص: 224

فإن لم يَكُنْ للعَصَبةِ مالٌ أُجْبِرَت عليه أمُّه

(1)

.

وقال آخَرون منهم: بل ذلك على

(2)

وارثِ المولودِ مَن كان؛ مِن الرجالِ والنساءِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ أنه كان يَقولُ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : على وارثِ المولودِ ما كان على الوالدِ مِن أجرِ الرَّضاعِ، إذا كان الولدُ لا مالَ له؛ على الرجالِ والنساءِ على قَدْرِ ما يَرِثُون

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْريِّ، أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه أَغْرَم ثلاثةً - كلُّهم يَرِثُ الصبيَّ - أجْرَ رَضاعِه

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمرٌ، عن أيوبَ، عن ابنِ سِيرينَ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ عُتْبةَ جعَل نفقةَ صبيٍّ مِن مالِه، وقال لوارثِه: أمَا إنه لو لم يَكُنْ له مالٌ أخَذْناك بنفقتهِ، ألا تَرَى أنه يَقولُ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(5)

.

وقال آخَرون منهم: هو مِن ورثتِه مَن كان منهم ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ للمولودِ،

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12189)، وابن أبي شيبة 5/ 244 من طريق جويبر به.

(2)

سقط من: ص.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12183)، وابن حزم 11/ 347 من طريقين عن قتادة بنحوه.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12184).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (12185)، ومن طريقه ابن حزم 11/ 346، وتقدم ص 223، 224.

ص: 225

فأما مَن كان ذا رَحِمٍ منه وليس بمَحْرَمٍ، كابنِ العمِّ والمَوْلَى ومَن أشْبَهَهما، فليس مَن عَناه اللَّهُ بقولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} .

والذين قالوا هذه المقالةَ؛ أبو حنيفةَ، وأبو يوسُفَ، ومحمدٌ

(1)

.

وقالت فرقةٌ أُخرى: بل الذي عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} المولودُ نفسُه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الحكمِ المِصْريُّ، قال: ثنا أبو زُرْعةَ [وَهْبُ اللَّهِ]

(2)

بنُ راشدٍ، قال: أخْبَرَنا حَيْوةُ بنُ شُرَيْحٍ، قال: أخْبَرَنا جعفرُ بنُ ربيعةَ، أنَّ [بُشَيْرَ بنَ النَّضْرِ]

(3)

المُزَنيَّ - وكان قاضيًا قبلَ ابنِ حُجَيرةَ في زمانِ عبدِ العزيزِ - كان يقولُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: الوارثُ هو الصبيُّ

(4)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يزيدَ المُقْرِئُ، قال: أخْبَرَنا حَيْوةُ، قال: أخْبَرَنا جعفرُ بنُ ربيعةَ، عن قَبيصةَ بنِ ذُؤَيْبٍ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: هو الصبيُّ

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المبارَكِ، عن حَيْوةَ بنِ شُرَيْحٍ،

(1)

الآثار لأبي يوسف 159 (726)، وجامع المسانيد للخوارزمي 2/ 160.

(2)

في م: "وعبد الله".

(3)

في النسخ: "بشر بن نصر". وينظر: الولاة والقضاة ص 313، حسن المحاضرة 2/ 137.

(4)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 116، وأبو حيان في البحر المحيط 2/ 216، والقرطبي في تفسيره 3/ 168.

(5)

أخرجه النحاس في ناسخه ص 235، وابن حزم في المحلى 11/ 346 من طريق أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ به.

ص: 226

قال: أخْبَرَني جعفرُ بنُ ربيعةَ، أن قَبيصةَ بنَ ذُؤَيْبٍ كان يقولُ: الوارثُ هو الصبيُّ.

يعني قولَه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} .

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: يعني بالوارثِ الولدَ الذي يَرْضَعُ

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وتأويلُ ذلك على ما تأوَّله هؤلاء: وعلى الوارثِ المولودِ مثلُ ما كان على المولودِ له.

وقال آخَرون: بل هو الباقي مِن والِدَيِ المولودِ بعدَ وفاة الآخَرِ منهما.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الحَنَفيُّ، قال: أخْبَرَنا عبدُ اللَّهِ بنُ عثمانَ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، قال: سَمِعْتُ سفيانَ يقولُ في صبيٍّ له عمٌّ وأمٌّ، وهي تُرْضِعُه، قال: يَكونُ رَضاعُه بينَهما، ويُدْفَعُ عن العمِّ بقدرِ ما تَرِثُ الأمُّ؛ لأن الأمَّ تُجْبَرُ على النفقةِ على ولدِها

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مِثْلُ ذَلِكَ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {مِثْلُ ذَلِكَ} ؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: وعلى وارثِ الصبيِّ بعدَ وفاةِ أبويه مثلُ الذي كان على والدِه مِن أجرِ رَضاعِه ونفقتِه، إذا لم يَكُنْ للمولودِ مالٌ.

(1)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 116، والقرطبي في تفسيره 3/ 168، وأبو حيان في البحر المحيط 2/ 216.

(2)

ينظر التبيان 2/ 259، والمحرر الوجيز 2/ 116.

ص: 227

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: على الوارثِ رَضاعُ الصبيِّ.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ ومحمدُ بنُ بَشَّارٍ، قالا: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن مَنصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: أجرُ الرضاعِ.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: الرضاعُ

(1)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: أجرُ الرضاعِ.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن أيوبَ، عن محمدِ بنِ سِيرينَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: الرضاعُ.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُتبةَ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: النفقةُ بالمعروفِ.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: على الوارثِ ما على الأبِ مِن الرَّضاعِ إذا لم يَكُنْ للصبيِّ مالٌ

(2)

.

(1)

تفسير سفيان ص 67.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 244، وابن زنجويه في الأموال (867) من طريق جرير بنحوه.

ص: 228

حدَّثنا سفيانُ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: الرَّضاعُ والنفقةُ.

حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن إبراهيمَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: الرَّضاعُ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن الشعبيِّ، قال: الرَّضاعُ

(2)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن مُطَرِّفٍ، عن الشعبيِّ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: أجْرُ الرَّضاعِ.

حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ والشعبيِّ مثلَه

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ وعمرُو بنُ عليٍّ، قالا: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ إدريسَ، قال: سمِعْتُ هشامًا

(4)

، عن الحسنِ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: الرَّضاعُ.

حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن هشامٍ وأشْعَثَ، عن الحسنِ مثلَه

(5)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن يونُسَ، عن

(1)

أخرجه ابن زنجويه (863) من طريق أبي نعيم به مطولا.

(2)

أخرجه ابن حزم 11/ 347 من طريق إسماعيل بن سالم، عن الشعبي.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 244 من طريق أشعث، عن الشعبي، وحماد، عن إبراهيم.

(4)

في ص: "وهشاما".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 244 عن ابن إدريس به.

ص: 229

الحسنِ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} يقولُ: في النفقةِ، على الوارثِ إذا لم يَكُنْ له مالٌ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، عن قيسِ بنِ سعدٍ، عن مُجاهدٍ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: النفقةُ بالمعروفِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : على الوليِّ كَفْلُه ورَضاعُه إن لم يَكُنْ للمولودِ مالٌ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مُجاهِدٍ، قال:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: وعلى الوارثِ - مَن كان - مثلُ ما وصَف مِن الرَّضاعِ

(2)

. قال ابنُ جُرَيْجٍ: وأخْبَرَني عبدُ اللَّهِ بنُ كثيرٍ، عن مُجاهدٍ:{مِثْلُ ذَلِكَ} : في الرضاعةِ. قال

(3)

: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: وعلى الوارثِ أيضًا كَفْلُه ورَضاعُه إن لم يَكُنْ له مالٌ، وألا يُضارَّ أمَّه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: نفقتُه حتى يُفْطَمَ إن

(1)

أخرجه ابن حزم 11/ 346 من طريق هشام، عن الحسن نحوه.

(2)

أخرجه أبو عبيد في الأموال (593)، وابن أبي شيبة 5/ 244، وابن زنجويه في الأموال (866)، وابن حزم 11/ 347 من طريق ابن أبي نجيح به بنحوه. وينظر تفسير مجاهد ص 237.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

ص: 230

كان أبوه لم يَتْرُكْ له مالًا

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: على وارثِ الولدِ ما كان على الوالدِ

(2)

مِن أجرِ الرَّضاعِ إذا كان الولدُ لا مالَ له.

حدَّثني عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الحَنَفيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عثمانَ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن مَعْمرٍ، عن قتادةَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: على وارثِ الصبيِّ مثلُ ما على أبيه، إذا كان قد هلَك أبوه ولم يَكُنْ له مالٌ، فإن على الوارثِ أجْرَ الرَّضاعِ

(3)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: إذا مات وليس له مالٌ، كان على الوارثِ رَضاعُ الصبيِّ

(4)

.

وقال آخَرون: بل تأويلُ ذلك: وعلى الوارثِ مثلُ ذلك ألا يُضَارَّ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ ومحمدُ بنُ بَشَّارٍ، قالا: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن عليِّ بنِ الحَكَمِ، عن الضَّحَّاكِ بنِ مُزاحِمٍ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: ألا يُضَارَّ

(5)

.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 289 إلى المصنف وابن المنذر.

(2)

في م: "الولد".

(3)

تقدم تخريجه ص 221.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 244 عن جرير بنحوه.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 245 من طريق حماد بن زيد به.

ص: 231

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن عاصمٍ الأحْولٍ، عن الشعبيِّ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . قال: لا يُضَارُّ، ولا غُرْمَ عليه

(1)

.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : ألا يُضَارَّ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنا الليثُ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شِهابٍ:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قال: الوالداتُ أحقُّ برَضاعِ أولادِهن ما قَبِلْن

(3)

رَضاعَهن، بما يُعْطَى غيرُهن مِن الأجرِ، وليس لوالدةٍ أن تُضَارَّ بولدِها، فتَأْبَى رَضاعَه مُضارَّةً، وهي تُعْطَى عليه ما يُعْطَى غيرُها، وليس للمولودِ له أن يَنْتَزِعَ ولدَه مِن والدتِه

(4)

ضِرارًا لها وهي تَقْبَلُ مِن الأجرِ ما يُعْطِي غيرَها، {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}: مثلُ الذي على الوالدِ في ذلك

(5)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، عن سفيانَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: ألا يُضَارَّ، وعليه مثلُ ما على الأبِ مِن النفقةِ والكِسْوةِ.

وقال آخَرون: بل تأويلُ ذلك: وعلى وارثِ المولودِ مثلُ الذي كان على المولودِ

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 433 عقب الأثر (2291)، والبيهقي في المعرفة 6/ 117، وليس فيهما: ولا غرم عليه.

(2)

تفسير سفيان ص 68 عن عيسى، عن مجاهد به.

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"قبل".

(4)

في ص، ت 1، ت 2:"والده".

(5)

تقدم تخريجه ص 217.

ص: 232

له مِن رزقِ والدتِه وكِسْوتِها بالمعروفِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: على الوارثِ عندَ الموتِ مثلُ ما على الأبِ للمُرْضِعِ

(1)

مِن النفقةِ والكِسْوةِ. قال: ويعني بالوارثِ الولدَ الذي يُرْضَعُ؛ أن يُؤْخَذَ مِن مالِه - إن كان له مالٌ - أجْرُ ما أرْضَعَتْه أمُّه، فإن لم يَكُنْ للمولودِ مالٌ ولا لعَصَبتِه فليس لأمِّه أجرٌ، وتُجْبَرُ على أن تُرْضِعَ ولدَها بغيرِ أجرٍ.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: على وارثِ الولدِ مثلُ ما على الوالدِ مِن النفقةِ والكِسْوةِ

(2)

.

وقال آخَرون: معنى ذلك: وعلى الوارثِ مثلُ ما ذكَره اللَّهُ تعالى ذكرُه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لعَطاءٍ: قولُه تعالى ذكرُه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: مثلُ ما ذكَر اللَّهُ تعالى ذكرُه

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقْوالِ بالصَّوابِ في تأويلِ قولِه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . أن يكونَ المعنِيُّ بالوارثِ ما قاله قَبيصةُ بنُ ذُؤَيْبٍ والضَّحَّاكُ بنُ مُزاحِمٍ

(1)

في ص، ت 1:"المرضع".

(2)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 216.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12179) عن ابن جريج به.

ص: 233

ومَن ذكَرْنا قولَه آنِفًا، مِن أنه معنيٌّ بالوارثِ المولودُ، وفي قولِه:{مِثْلُ ذَلِكَ} . أن يَكونَ مَعْنيًّا به مثلُ الذي كان على والدِه مِن رزقِ والدتِه وكِسْوتِها بالمعروفِ إن كانت مِن أهلِ الحاجةِ، وهي ذاتُ زَمانةٍ

(1)

وعاهةٍ، ومَن لا احْترافَ

(2)

فيها، ولا زوجَ لها تَسْتَغْنِي به، وإن كانت مِن أهلِ الغِنَى والصحةِ، فمثلُ الذي كان على والدِه لها مِن أجرِ رَضاعِه

(3)

.

وإنما قلْنا: هذا التأويلُ أولى بالصوابِ مما عداه مِن سائرِ التأويلاتِ التي ذكَرْنا؛ لأنه غيرُ جائزٍ أن يُقالَ في تأويلِ كتابِ اللَّهِ تعالى ذكرُه قولٌ إلا بحُجَّةٍ واضحةٍ على ما قد بيَّنَّا في أولِ كتابِنا هذا. وإذ كان ذلك كذلك، وكان قولُه:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . مُحْتَمِلًا ظاهرُه: وعلى وارثِ الصبيِّ المولودِ مثلُ الذي كان على المولودِ له. ومُحْتَمِلًا: وعلى وارثِ المولودِ له

(4)

مثلُ الذي كان عليه في حياتِه؛ مِن تركِ ضِرارِ الوالدةِ، ومِن نفقةِ المولودِ. وغيرَ ذلك مِن التأويلاتِ، على نحوِ ما قد قدَّمْنا ذكرَها

(5)

، وكان الجميعُ مِن الحُجَّةِ قد أجْمَعوا على أن مِن وَرَثةِ المولودِ مَن لا شيءَ عليه مِن نفقتِه وأجرِ رَضاعِه، وصحَّ بذلك مِن الدَّلالةِ على أن سائرَ ورثتهِ - غيرَ آبائِه وأمهاتِه وأجْدادِه وجَدَّاتِه مِن قِبَلِ أبيه أو أمِّه - في حُكْمِه؛ في أنهم

(6)

لا يَلْزَمُهم له نفقةٌ ولا أجرُ رَضاعٍ، إذ كان مولى النِّعْمةِ مِن ورثتِه، وهو ممَّن لا يَلْزَمُه له

(1)

الزمانة: العاهة، ورجل زمن أي مبتلى. اللسان (ز م ن).

(2)

في ص: "اختراف". والاحتراف: الاكتساب، يقال: هو يحرف لعياله ويحترف. أي: يكتسب من ههنا وههنا. اللسان (ح ر ف).

(3)

في م: "رضاعة".

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(5)

في م: "ذكره".

(6)

في ص، ت 1، ت 2:"أنه".

ص: 234

نفقةٌ ولا أجرُ رَضاعٍ، فوجَب بإجماعِهم على ذلك أن حُكْمَ سائرِ ورثتِه - غيرَ مَن اسْتُثْنِي - حُكْمُه. وكان إذا بطَل أن يكونَ معنى ذلك ما وصَفْنا، مِن أنه معنيٌّ به ورثةُ المولودِ، فبُطُولُ القولِ الآخرِ - وهو أنه معنيٌّ به ورثةُ المولودِ له سوى المولودِ - أحْرَى؛ لأن الذي هو أقربُ بالمولودِ قَرابةً

(1)

ممَّن هو أبعدُ منه إذا لم يَصِحَّ وجوبُ نفقتِه وأجرِ رَضاعِه عليه، فالذي هو أبعدُ منه قَرابةً أحْرَى

(2)

ألا يَصِحَّ وجوبُ ذلك عليه.

وأما الذي قلْنا مِن وجوبِ رزقِ الوالدةِ وكِسْوتِها بالمعروفِ على ولدِها - إذا كانتِ الوالدةُ بالصفةِ التي وصَفْنا - على مثلِ الذي كان يَجِبُ لها مِن ذلك على المولودِ له، فما لا خلافَ فيه مِن أهلِ العلمِ جميعًا، فصحَّ ما قلْنا في الآيةِ مِن التأويلِ بالنقلِ المُسْتَفيضِ وراثةً عمَّن لا يَجوزُ خلافُه، وما عدا ذلك مِن التأويلاتِ فمُتنازَعٌ فيه، وقد دلَّلْنا على فَسادِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {فَإِنْ أَرَادَا} : إن أراد والدُ المولودِ ووالدتُه فِصالًا. يعني فِصالَ ولدِهما مِن اللبنِ. ويعني بالفِصالِ الفِطامَ، وهو مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: فاصَلْتُ فلانًا أُفاصِلُه مُفاصَلةً وفِصالًا. إذا فارَقه مِن خُلْطةٍ كانتْ بينَهما، فكذلك فِصالُ الفَطِيمِ، إنما هو مَنْعُه اللبنَ

(3)

وقطعُه شُرْبَه، وفِراقُه ثَدْيَ أُمِّه

(4)

، إلى الاغْتِذاءِ

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"قربه".

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(3)

في م: "اللين".

(4)

في م: "امرأته".

ص: 235

بالأقْواتِ التي يَغْتَذِي بها البالغُ مِن الرجالِ.

وبما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ قولَه:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} . يقولُ: إن أرادا أن يَفْطِماه قبلَ الحولَيْن

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ الله، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} : فإن أرادا أن يَفْطِماه قبلَ الحولين وبعدَه

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جَوَيْبِرٍ، عن الضَّحاكِ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} قال: الفِطامَ

(3)

.

وأما قولُه: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} . فإنه يعني بذلك: عن تَراضٍ من والدَيِ المولودِ وتَشاوُرٍ منهما.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الوقتِ الذي أسْقَط اللَّهُ الجُناحَ عنهما

(4)

، إن فطَماه عن تَراضٍ منهما وتَشاورٍ، وأيِّ الأوقاتِ الذي عَناه اللَّهُ تعالى ذكرُه بِقولِه:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} ؛ فقال بعضُهم: عنَى بذلك: فإن أرادا فِصالًا في الحولين عن تراضٍ منهما وتشاورٍ، فلا جُناحَ عليهما.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 434 (2296) من طريق عمرو به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 434 (2299) من طريق أبي صالح به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 289 إلى المصنف.

(4)

في م: "عنها".

ص: 236

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} يقولُ: إذا

(1)

أرادا أن يَفْطِماه قبلَ الحولين، فتَراضَيا بذلك، فلْيَفْطِماه

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ: إذا أرادَتِ الوالدةُ أن تَفْصِلَ ولدَها قبلَ الحولين، فكان ذلك عن تَراضٍ منهما وتَشاورٍ، فلا بأسَ به

(3)

.

حدَّثنا سفيانُ، قال: ثنا أبي، عن سُفيانَ، عن ليثٍ، عن مُجاهِدٍ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} قال: التَّشاوُرُ فيما دونَ الحولين، ليس لها أن تَفْطِمَه إلا أن يَرْضَى، وليس له أن يَفْطِمَه إلا أن تَرْضَى

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُويْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ، قال: التَّشاوُرُ ما دونَ الحولَيْن، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} دون الحولَيْن، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} ، فإن لم يَجْتَمِعا، فليس لها أن تَفْطِمَه دونَ الحولين

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سُفيانُ، عن ليثٍ، عن مُجاهِدٍ

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"إن".

(2)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12174).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 434 (2297) عن طريق وكيع به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12175) عن سفيان به نحوه.

(5)

تفسير سفيان ص 68.

ص: 237

قال: التَّشاوُرُ ما دونَ الحولين، ليس لها حتى يَجْتَمِعا.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى الليثُ، قال: أخْبَرَنا عُقَيلٌ، عن ابنِ شِهابٍ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} : يَفْصِلان ولدَهما، {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} دونَ الحولَين الكاملَين، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ، قال: التَّشاوُرُ ما دونَ الحولين إذا اصْطَلَحا دونَ ذلك، وذلك قولُه:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} . فإذا قالتِ المرأةُ: أنا أَفْطِمُه قبلَ الحولين. وقال الأبُ: لا. فليس لها أن تَفْطِمَه قبلَ الحولين، وإن لم تَرْضَ الأمُّ فليس له ذلك حتى يَجْتَمِعا، فإن اجْتَمَعا قبلَ الحولين فطَماه، وإذا اخْتَلَفا لم يَفْطِماه قبلَ الحولين، وذلك قولُه:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}

(2)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ [في قولِه]

(3)

: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} . قال: قبلَ السنتَيْن

(4)

، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (2)

وقال آخَرون: معنى ذلك: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في أيِّ وقتٍ أرادا ذلك، قبلَ الحولين أرادا أمْ بعدَ ذلك.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 234 عقب الأثر (2294) معلقًا.

(2)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 117.

(3)

سقط من: م.

(4)

في ص: "الستين".

ص: 238

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى مُعاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} : أن يَفْطِماه قبلَ الحولين وبعدَه

(1)

.

ووأما قولُه: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} . فإنه يعني: عن تَراضٍ منهما وتَشاورٍ فيما فيه مصلحةُ المولودِ لفَطْمِه.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} قال: غيرَ مُسِيئين

(2)

في ظلمِ أنفسِهما، ولا إلى صبيِّهما، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثني أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

وأولى التأويلَيْن بالصوابِ تأويلُ مَن قال: فإن أرادا فِصالًا في الحولين عن تَراضٍ منهما وتشاورٍ؛ لأن تَمامَ الحولين غايةٌ لتَمامِ الرَّضاعِ وانْقِضائِه، ولا تَشاوُرَ بعدَ انقضائِه، وإنما التشاورُ والتَّراضِي قبلَ انقضاءِ نهايتِه.

فإن ظنَّ ذو غَفْلةٍ أن للتشاورِ بعدَ انقضاءِ الحولين معنًى صحيحًا، إذ كان مِن الصِّبْيانِ مَن تكونُ به علةٌ يَحتاجُ مِن أجلِها إلى ترْكِه [والاغْتِذاءِ]

(4)

بلبنِ أمِّه، فإن ذلك

(1)

تقدم تخريجه في ص 236.

(2)

بياض في: ص، وفي تفسير مجاهد:"مسببين".

(3)

تفسير مجاهد ص 237، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 433 (2293)، والبيهقي 7/ 478.

(4)

في ص، ت 2:"أو لاغتذاء".

ص: 239

إذا كان كذلك، فإنما هو علاجٌ - كالعلاجِ بشُرْبِ بعضِ الأدويةِ - لا رَضاعٌ. فأما الرَّضاعُ الذي يَكونُ في الفِصالِ مِنه قبلَ انقضاءِ آخرِه تَراضٍ وتشاورٌ مِن والدَيِ الطفلِ الذي أسْقَط اللَّهُ تعالى ذكرُه لفَطْمِهما إياه الجُناحَ عنهما قبلَ انقضاءِ آخرِ مدتِه، فإنما الحدُّ الذي حدَّه اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . على ما قد أتَيْنا على البيانِ عنه فيما مضَى قبلُ.

وأما الجُناحُ فالحرَجُ.

كما حدَّثني به المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} : فلا حرَجَ عليهما.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: وإن أرَدْتُم أن تَسْتَرْضِعوا أولادَكم مَراضِعَ غيرَ أمهاتِهم، إذا أبَتْ أمهاتُهم أن يُرْضِعْنَهم بالذي يُرْضِعْنَهم به غيرُهن مِن الأجرِ، أو مِن خِيفةِ ضَيْعةٍ منكم على أولادِكم بانقطاعِ ألبانِ أمهاتِهم، أو غيرِ ذلك مِن الأسبابِ، فلا حرَجَ عليكم في اسْتِرْضاعِهن، إذا سلَّمْتُم ما آتَيْتُم بالمعروفِ.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي

ص: 240

نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} : خِيفةَ الضَّيْعةِ على الصبيِّ فلا جُناحَ عليكم.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ مثلَه.

حدَّثني عبدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ الحَنَفيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عثمانَ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، قال: أخْبَرَنا أبو بشرٍ وَرْقاءُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} . إن قالتِ المرأةُ: لا طاقةَ لي به فقد ذهَب لبني. فتُسْتَرْضَعُ له أُخرى

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحاكِ، قال: ليس للمرأةِ أن تَتْرُكَ ولدَها بعدَ أن يَصْطَلِحا على أن تُرْضِعَ، ويُسَلِّمان ويُجْبَران على ذلك. قال: فإن تَعاسَروا عندَ طلاقٍ أو موتٍ في الرَّضاعِ، فإنه يُعْرَضُ على الصبيِّ المَراضِعُ، فإن قَبِل مُرْضِعًا صار ذلك وأرْضَعَتْه، وإن لم يَقْبَلْ مُرْضِعًا فعلى أمِّه أن تُرْضِعَه بالأجرِ، إن كان له مالٌ أو لعَصَبتِه، فإن لم يَكُنْ له مالٌ ولا لعصَبَتِه، أُكْرِهَت على رَضاعِه

(3)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : إذا أَبَتِ الأمُّ أن تُرْضِعَه

(1)

تفسير مجاهد ص 237، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 434 (2300)، والبيهقي 7/ 478.

(2)

تقدم تخريجه في ص 236.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12189) من طريق جويبر، عن الضحاك بنحوه وفيه زيادة في أوله.

ص: 241

فلا جُناحَ على الأبِ أن يَسْتَرْضِعَ له غيرَها

(1)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: إذا رضِيَتِ الوالدةُ أن تَسْتَرْضِعَ ولدَها، ورضِي الأبُ

(2)

أن يَسْتَرْضِعَ ولدَه، فليس عليهما جُناحٌ.

واخْتَلَفوا في قولِه: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: إذا سلَّمْتُم لأمهاتِهم ما فارقْتُموهن عليه مِن الأجرةِ على رَضاعِهن بحسابِ ما اسْتَحَقَّتْه إلى انقطاعِ لبنِها، أو الحالِ التي عُذِر أبو الصبيِّ بطلبِ مُرْضِعٍ لولدِه غيرِ أمِّه واسْتِرْضاعِه له.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: حسابُ ما أُرْضِع به الصبيُّ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} : حسابُ ما يُرْضَعُ به الصبيُّ.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ: {إِذَا سَلَّمْتُمْ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12189) عن الثوري به، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 435 (2304) عن سفيان به.

(2)

في ص: "الأول".

(3)

تفسير مجاهد ص 237، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 235 (2305)، والبيهقي 7/ 478.

ص: 242

مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} إن قالت - يعني الأُمَّ -: لا طاقةَ لي به فقد ذهَب لبني. فتُسْتَرْضَعُ

(1)

له أُخرى، ولْيُسَلَّمْ لها أجرُها بقدرِ ما أرْضَعَت

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبَارَكِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قلتُ - يعني لعطاءٍ -: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} ؟ قال: أمُّه وغيرُها. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ} . قال: إذا سلَّمْتَ لها أجْرَها. {مَا آتَيْتُمْ} . قال: ما أعْطَيْتُم

(3)

.

وقال آخَرون: معنى ذلك: إذا سلَّمْتُم للاسْتِرْضاعِ عن مَشورةٍ منكم ومِن أمهاتِ أولادِكم الذين تَسْتَرْضِعون لهم، وتَراضٍ منكم ومنهم باسْتِرضاعِهم.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . يقولُ: إذا كان ذلك عن مَشورةٍ ورضًا منهم

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: أخْبَرَني الليثُ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شهابٍ: لا جُناحَ عليهما أن يَسْتَرْضِعا أولادَهما - يعني أبَويِ

(1)

في م: "فسترضع".

(2)

تقدم تخريجه في ص 236.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 434 (2301) من طريق ابن المبارك ببعضه، وعبد الرزاق في مصنفه (12188) عن ابن جريج به - وليس فيه: إذا أسلمت لها أجرها -.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 436 (2310) من طريق شيبان، عن قتادة.

ص: 243

المولودِ - إذا سلَّما ولم يَتَضارَّا

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . يقولُ: إذا كان ذلك عن مَشورةٍ ورضًا منهم.

وقال آخَرون: بل معنى ذلك: إذا سلَّمْتُم ما آتيْتُم بالمعروفِ إلى

(2)

التي اسْتَرْضَعْتُموها بعدَ إباءِ أمِّ المُرْضَعِ مِن الأُجْرةِ بالمعروفِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ في قولِه:{إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إذا سلَّمْتُم إلى هذه التي تَسْتَأْجِرون أجْرَها بالمعروفِ. يعني: إلى مَن اسْتُرْضِع للمولودِ إذا أبَتِ الأمُّ رَضاعَه

(3)

.

وأولى الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ ذلك قولُ مَن قال: تأويلُه: وإن أرَدْتُم أن تَسْتَرْضِعوا أولادَكم إلى تَمامِ رَضاعِهن، ولم تَتَّفِقوا أنتم ووالداتُهم على فِصالِهم، ولم تَرَوْا ذلك مِن صلاحِهم، فلا جُناحَ عليكم أن تَسْتَرْضِعوهم ظُؤُورةً إنِ امْتَنَعَت أمهاتُهم مِن رَضاعِهم لعلةٍ بهن أو لغيرِ علةٍ، إذا سلَّمْتُم إلى أمهاتِهم وإلى المُسْتَرْضَعةِ الآخِرةِ حقوقَهن التي آتَيْتُموهن بالمعروفِ. يعني بذلك المعنى الذي أوْجَبه اللَّهُ لهن عليكم؛ وهو أن يُوَفِّيَهن أجورَهن على ما فارَقَهن عليه في حالِ الاسْتِرْضاعِ ووقتِ عقدِ الإجارةِ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 435 (2303) من طريق يونس، عن ابن شهاب بنحوه.

(2)

سقط من: ص، ت 2.

(3)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 118.

ص: 244

وهذا هو المعنى الذي قاله ابنُ جُرَيْجٍ ووافَقه على بعضِه مجاهدٌ والسديُّ ومَن قال بقولِهم في ذلك.

وإنما قضَيْنا لهذا التأويل أنه أوْلَى بتأويلِ الآيةِ مِن غيرِه؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه ذكَر قبلَ قولِه: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} . أمْرَ فِصالِهم، وبيَّنَ الحُكْمَ في فِطامِهم قبلَ تَمامِ الحولَيْن الكاملين، فقال:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} في الحولين الكاملين، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} . فالذي هو أوْلَى بحكمِ الآيةِ - إذ كان قد بيَّن فيها وجْهَ الفِصالِ قبلَ الحولين - أن يكونَ الذي يَتْلُو ذلك حُكْمَ ترْكِ الفِصالِ وإتْمامِ الرَّضاعِ إلى غايةِ

(1)

نهايتِه، وأن يكونَ، إذ كان قد بيَّن حُكْمَ الأمِّ إذا هي اختارَتِ الرَّضاعَ بما تُرْضِعُ به غيرُها مِن الأجرةِ - أن يكونَ الذي يَتْلُو ذلك مِن الحُكْمِ بيانَ حُكمِها وحُكْمِ الولدِ إذا هي امْتَنَعَت مِن رَضاعِه، كما كان ذلك كذلك في غيرِ هذا الموضعِ مِن كتابِ اللَّهِ تعالى، وذلك في قولِه:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. فأتْبَع ذكْرَ بيانِ رضا الوالداتِ برَضاعِ أولادِهن ذكْرَ بيانِ امْتناعِهن مِن رَضاعِهن، فكذلك ذلك في قولِه:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} .

وإنما اخْتَرْنا في قولِه: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . ما اخْتَرْنا مِن التأويلِ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه فرَض على أبي المولودِ تسليمَ حقِّ والدتِه إليها مما آتاها مِن الأجْرةِ على رَضاعِها

(2)

له بعدَ بَيْنونتِها منه، كما فرَض عليه ذلك لمَن اسْتَأْجَره لذلك ممَّن ليس مِن مولدِه بسبيلٍ، وأمَرَه بإيتاءِ كلِّ واحدةٍ منهما حقَّها بالمعروفِ على رَضاعِ ولدِه، فلم يَكُنْ قولُه:{إِذَا سَلَّمْتُمْ} . بأن يَكونَ مَعْنِيًّا به: إذا سلَّمْتُم إلى

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"عامة".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"رضاعه".

ص: 245

أمهاتِ أولادِكم الذين يُرْضِعون حقوقَهن. بأوْلَى منه بأن يكونَ مَعْنيًّا به: إذا سلَّمْتُم ذلك إلى المَراضِعِ سِواهن. ولا الغرائبُ مِن المولودِ بأولى أن يَكُنَّ مَعْنيَّاتٍ بذلك مِن الأمهاتِ، إذ كان اللَّهُ تعالى ذكرُه قد أوْجَب على أبي المولودِ لكلِّ مَن اسْتَأْجَره لرَضاعِ ولدِهِ مِن تسليمِ أجرتِها إليها مثلَ الذي أوْجَب عليه مِن ذلك للأُخرى، فلم يَكُنْ لنا أن نُحِيلَ ظاهرَ تَنْزيلٍ إلى باطنٍ، ولا نقْلَ عامٍّ إلى خاصٍّ، إلا بحُجَّةٍ يَجِبُ التسليمُ لها - فصحَّ بذلك ما قلْنا.

وأما معنى قولِه: {بِالْمَعْرُوفِ} . فإن معناه: بالإجْمالِ والإحْسانِ وتركِ البَخْسِ والظلمِ فيما وجَب للمَراضِعِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} : وخافوا اللَّهَ فيما فرَض لبعضِكم على بعضٍ مِن الحقوقِ، وفيما ألْزَم نساءَكم لرجالِكم، ورجالَكم لنسائِكم، وفيما أوْجَب عليكم لأولادِكم، فاحْذَرُوه أن تُخالِفوه فتَعْتَدُوا في ذلك وفي غيرِه مِن فَرائضِه وحقوقِه وحُدُودِه، فتَسْتَوْجِبوا بذلك عقوبتَه، واعْلَموا أن اللَّهَ بما تَعْمَلون مِن الأعمالِ أيُّها الناسُ؛ سرِّها وعَلانيتِها، وخَفِيِّها وظاهرِها، وخيرِها وشرِّها، بصيرٌ يَراه ويَعْلَمُه، فلا يَخْفَى عليه شيءٌ، ولا يتغيَّبُ

(1)

عنه منه شيءٌ، فهو يُحْصِي ذلك كلَّه عليكم حتى يُجازِيَكم بخيرِ ذلك وشرِّه.

ومعنى {بَصِيرٌ} : ذو إبْصارٍ. وهو في معنى مُبْصِرٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

(1)

في م: "يغيب".

ص: 246

أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

يعني تعالى ذكرُه بذلك: والذين يُتَوَفَّوْن منكم مِن الرجالِ أيُّها الناسُ، فيَمُوتُون ويَذَرُون أزْواجًا، يَتَرَبَّصُ

(1)

أزواجُهن بأنفسِهن.

فإن قال قائلٌ: فأين الخبرُ عن الذين يُتَوَفَّوْن؟ قيل: متروكٌ؛ لأنه لم يَقْصِدْ قَصْدَ الخبرِ عنهم، وإنما قصَد قَصْدَ الخبرِ عن الواجِب على المعْتدَّاتِ مِن العِدَّةِ في وفاةِ أزْواجِهن، فصُرف الخبرُ عن الذين ابْتُدِئ بذكرِهم مِن الأمواتِ إلى الخبرِ عن أزواجِهم والواجبِ عليهن مِن العِدَّةِ، إذ كان مَعْروفًا مفهومًا معنى ما أُرِيدَ بالكلامِ. وهو نَظيرُ قولِ القائلِ في الكلامِ: بعضُ جُبَّتِك مُتَخَرِّقةٌ. في تركِ الخبرِ عمَّا ابْتُدئ به الكلامُ إلى الخبرِ عن بعضِ أسْبابِه. وكذلك الأزْواجُ اللَّواتي عليهن التَّرَبُّصُ؛ لمَّا كان إنما ألْزَمَهن التربصَ بأسبابِ أزواجِهن، صرَف الكلامَ عن خبرِ مَن ابْتُدِئ بذكرِه إلى الخبرِ عمَّن قصَد قصْدَ الخبرِ عنه، كما قال الشاعرُ

(2)

:

لَعَلِّيَ إن مالَتْ بيَ الريحُ مَيْلةً

على ابن أبي ذِبَّانَ

(3)

أن يَتَنَدَّمَا

فقال: لعلِّي. ثم قال: أن يَتَنَدَّما. لأن معنى الكلامِ: لعل ابنَ أبي ذِبَّانَ

(3)

أن يَتَنَدَّمَ إن مالتْ بي الريحُ مَيْلةً عليه. فرجَع بالخبرِ إلى الذي أراد به، وإن كان قد ابْتَدَأ بذكرِ غيرِه. ومنه قولُ الشاعرِ

(4)

:

ألم تَعْلَموا أن ابنَ قيسٍ وقَتْلَهُ

بغيرِ دمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ

(1)

في م: "يتربصن".

(2)

هو ثابت قطنة، واسمه ثابت بن كعب العتكي، والبيت في معاني القرآن للفراء 1/ 150، وتاريخ المصنِّف 6/ 603، والصاحبي ص 359.

(3)

في م: "زبان"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"ريان". وأبو ذبان هو عبد الملك بن مروان، وابنه هو مسلمة بن عبد الملك.

(4)

معاني القرآن للفراء 1/ 150، والصاحبي ص 360، والبحر المحيط 2/ 222، ولم ينسبه أحد منهم، وعند ثلاثتهم "بني أسد" بدل "ألم تعلموا".

ص: 247

فأَلْقَى

(1)

ابنَ قيسٍ وقد ابْتَدَأ بذكرِه، وأخْبَر عن قتلِه أنه ذُلٌّ.

وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ أن خبرَ {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} متروكٌ، وأن معنى الكلامِ: والذين يُتَوفَّونَ منكم ويَذَرُون أزواجًا، يَنْبَغي لهن أن يَتَرَبَّصْنَ بعدَ موتِهم. وزعَم أنه لم يُذْكرْ موتُهم، كما يُحْذَفُ بعضُ الكلامِ، وأنَّ {يَتَرَبَّصْنَ} رفعٌ؛ إذ وقَع موقعَ "ينبغي"، و"ينبغي" رفعٌ.

وقد دلَّلنا على فسادِ ما

(2)

قال في رفعِ {يَتَرَبَّصْنَ} بوقوعِه موقعَ "ينبغي" فيما مضَى

(3)

، فأغْنَى عن إعادتِه.

وقال آخَرُ

(4)

منهم: إنما لم يَذْكُرِ {الَّذِينَ} بشيءٍ؛ لأنه صار "الذين" في خبرِهم مثلَ تأويلِ الجَزاءِ: مَن يَلْقَك منا يُصِبْ خيرًا. الذي يَلْقاك منا يُصِيبُ خيرًا. قال: ولا يَجوزُ هذا إلا على معنى الجزاءِ.

وفي البيتين اللذين ذكَرْناهما دلالةٌ واضحةٌ على القولِ في ذلك بخلافِ ما قالا.

وأما قولُه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} . فإنه يعني به: يَحْتَبِسْنَ بأنفسِهن مُعْتَدَّاتٍ عن الأزواجِ والطِّيبِ والزينةِ والنُّقْلةِ عن المسكنِ الذي كُنَّ يَسْكُنَّه في حياةِ أزْواجِهن - أربعةَ أشهرٍ وعشْرًا، إلا أن يَكُنَّ حوَاملَ، فيكونَ عليهن مِن التربُّصِ كذلك إلى حينِ وضعِ حَمْلِهن، فإذا وَضَعْن حملَهن انْقَضَت عِدَدُهن حينَئذٍ.

وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم مثلَ ما قلْنا فيه.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ

(1)

في م: "فألغى".

(2)

في م: "قول من".

(3)

ينظر ما تقدم في ص 214.

(4)

في م: "آخرون".

ص: 248

عباسٍ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} : فهذه عِدَّةُ المُتَوَفَّى عنها

(1)

، إلا أن تَكونَ حاملًا، فعِدَّتُها أن تَضَعَ ما في بطنِها

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شِهابٍ في

(3)

قولِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . قال ابنُ شِهاب: جعَل اللَّهُ هذه العِدَّةَ للمُتَوَفَّى عنها زوجُها، فإن كانت حاملًا فيُحِلُّها مِن عدتِها أن تَضَعَ حملَها، وإن اسْتَأْخَر فوقَ الأربعةِ أشهرٍ والعشرِ، فما اسْتَأْخَر لا يُحِلُّها إلا أن تَضَعَ حملَها.

وإنما قلْنا: عنَى بالتربُّصِ ما وصَفْنا؛ لتَظاهُرِ الأخْبارِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بما: حدَّثْنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ وأبو أُسامةَ، عن شعبةَ، وحدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن حُميدِ بنِ نافعٍ، قال: سمِعْتُ زينبَ ابنةَ أمِّ سلمةَ تُحَدِّثُ - قال أبو كُرَيْبٍ: قال أبو أسامةَ: عن أمِّ سلمةَ - أن امرأةً تُوُفِّي عنها زوجُها، واشْتَكَتْ عينُها

(4)

، فأتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْتَفْتِيه في الكُحْلِ فقال: "لقد كانت إحْداكن تَكونُ في الجاهليةِ في شرِّ

(5)

أحْلاسِها

(6)

، فتَمْكُثُ في بيتِها

(1)

بعده في م: "زوجها".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 436 (2315)، والنحاس في ناسخه ص 240، 241، والبيهقي 7/ 427، من طريق أبي صالح به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 289 إلى ابن المنذر.

(3)

في النسخ: "عن". والمثبت هو ما جرى عليه المصنف.

(4)

قال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان؛ ضم النون على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية، وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل. ينظر فتح الباري 9/ 488.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سن".

(6)

الأحلاس: جمع حِلس بكسر الحاء، والمراد في شر ثيابها، وهو مأخوذ من حلس البعير =

ص: 249

حولًا إذا تُوُفِّي عنها زوجُها، فيَمُرُّ عليها الكلبُ فتَرْمِيه بالبَعَرةِ، أفلا أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا! "

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: سمِعْتُ يحيَى بنَ سعيدٍ، قال: سمِعْتُ نافعًا، عن صَفيةَ ابنةِ أبي عُبيدٍ، أنها سمِعَتْ حَفْصةَ ابنةَ عمرَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُحدِّثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ أن تُحِدَّ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ، فإنَّها تُحِدُّ عليه أربعةَ أشهرٍ وعشرًا"

(2)

.

قال يحيى: والإحْدادُ عندَنا ألا تَطَّيَّبَ، ولا تَلْبَسَ ثوبًا مَصْبوغًا بوَرْسٍ ولا زَعْفَرانٍ، ولا تَكْتَحِلَ، ولا تَزَّيَّنَ.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: أخْبَرَنا يحيى، عن نافعٍ، عن صفيةَ ابنةِ أبي عُبيدٍ، عن حفصةَ ابنةِ عمرَ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ أن تُحِدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ"

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: سمِعْتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: أخْبَرَني حُميدُ بنُ نافعٍ، أن زينبَ ابنةَ أمِّ سلمةَ أخْبَرَتْه عن أمِّ سلمةَ - أو أمِّ حَبيبةَ -

= وغيره من الدواب وهو كالمِسْح - كساء من شعر - يُجعل على ظهره. ينظر صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 116.

(1)

أخرجه مسلم (1488) عن ابن المثنى به، وأخرجه الطيالسي (1701)، والبخاري (5338)، ومسلم (1488)، والبغوي في الجعديات (1571، 1572)، من طريق شعبة به.

(2)

أخرجه النسائي (3503) عن محمد بن بشار به، وأخرجه مسلم (1490/ 64)، والبيهقي 7/ 438 من طريق عبد الوهاب به، وأخرجه أحمد 6/ 286 (الميمنية) من طريق نافع به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 280، وأحمد 6/ 286 (الميمنية)، والطبراني في الكبير 23/ 208 (361)، من طريق يزيد به، وأخرجه ابن ماجه (2086) من طريق يحيى به.

ص: 250

زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن امرأةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكَرَتْ أن ابنتَها تُوُفِّي عنها زوجُها، وأنها قد خافَتْ على عينِها. فزعَم حميدٌ عن زينبَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "قد كانت إحْداكن تَرْمِي بالبَعَرةِ على رأسِ الحولِ، وإنما هي أربعةَ أشهرٍ وعشْرًا

(1)

".

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخْبَرَنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن حُميدِ بنِ نافعٍ، أنه سمِع زينبَ ابنةَ أمِّ سلمةَ تُحَدِّثُ، عن أمِّ حَبيبةَ أو أمِّ سلمةَ، أنَّها ذكَرتْ أن امرأةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تُوفِّيَ عنها زوجُها، وقد اشْتَكَت عينُها، وهي تُريدُ أن تَكْحَلَ عينَها، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قد كانت إحْداكن تَرْمِي بالبَعَرةِ بعدَ الحولِ، وإنما هي أربعةَ أشهرٍ وعشرًا

(1)

"

(2)

.

قال ابنُ بشارٍ: قال يَزيدُ: قال يحيى: فسأَلْتُ حُميدًا عن رَمْيِها بالبَعَرةِ. قال: كانت المرأةُ في الجاهليةِ إذا تُوُفِّي عنها زوجُها عَمَدَتْ إلى شرِّ بيتِها، فقعَدَتْ فيه حولًا، فإذا مرَّتْ بها سنةٌ ألقَتْ بَعَرةً وراءَها.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا شعبةُ، عن يحيى، عن حُميدِ بنِ نافعٍ بهذا الإسنادِ مثلَه.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا [عبدُ اللَّهِ]

(3)

بنُ إدريسَ، قال: ثنا ابنُ عُيينةَ، عن أيوبَ بنِ موسى ويحيى بنِ سعيدٍ، عن حُميدِ بن نافعٍ، عن زينبَ ابنةِ أمِّ سلمةَ، عن أمِّ

(1)

في م، ت 2:"عشر".

(2)

أخرجه مسلم (1486، 1488)، وابن ماجه (2084) من طريق يزيد بن هارون به.

(3)

سقط من: م. وفي ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يحيى". وينظر تهذيب الكمال 26/ 244.

ص: 251

سلمةَ، أن امرأةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجُها، فاشْتَكَتْ عينُها، أفتَكْتَحِلُ؟ فقال: "قد كانت إحْداكن تَرْمِي بالبَعَرةِ على رأسِ الحولِ، وإنما هي الآن أربعةَ أشهرٍ وعشْرًا

(1)

". قال: قلتُ: وما تَرْمِي بالبَعَرةِ على رأسِ الحولِ؟ قال: كان نساءُ أهلِ الجاهليةِ إذا مات زوجُ إحْداهن لَبِسَتْ أطْمارَ

(2)

ثيابِها، وجلَسَت في أخَسِّ بيوتِها، فإذا حال عليها الحولُ، أخَذَت بَعَرةً فدحْرَجَتْها على ظهرِ حمارٍ، وقالت: قد حَلَلْتُ

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا أحمدُ بنُ يونُسَ، قال: ثنا زُهَيْرُ بنُ مُعاويةَ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن حُميدِ بنِ نافعٍ، عن زينبَ ابنةِ أمِّ سلمةَ، عن أمِّها أمِّ سلمةَ وأمِّ حَبيبةَ زوجَيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن امرأةً مِن قريشٍ جاءت إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تُوِّفِّي عنها زوجُها، وقد خِفْتُ على عينِها، وهي تُرِيدُ الكُحْلَ. قال:"قد كانت إحْداكن تَرْمي بالبَعَرةِ على رأسِ الحولِ، وإنما هي أربعةَ أشهرٍ وعشرًا (1) ". قال حُميدٌ: فقلتُ لزينبَ: وما رأسُ الحولِ؟ قالت زينبُ: كانت المرأةُ في الجاهليةِ إذا هلَك زوجُها عمَدتْ إلى أشرِّ بيتٍ لها، فجلَسَتْ فيه، حتى إذا مرَّتْ بها سنةٌ خرَجَتْ، ثم رمَتْ ببَعَرةٍ وراءَها

(4)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا ابنُ المُبارَكِ، عن مَعْمرٍ، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ أنها كانت تُفْتِي المتُوَفَّى عنها زوجُها أن تُحِدَّ على زوجِها حتى تَنْقَضِيَ

(1)

في م، ت 2:"عشر".

(2)

أطمار: جمع طِمْر، وهو الثوب الخَلَق البالي. ينظر التاج (ط م ر).

(3)

أخرجه النسائي (3540) من طريق الليث عن أيوب به نحوه، وفي (3541) من طريق سفيان، عن يحيى به مختصرًا.

(4)

أخرجه النسائي (3542) من طريق زهير بن معاوية به.

ص: 252

عِدَّتُها، ولا تَلْبَسَ ثوبًا مصبوغًا ولا مُعَصْفَرًا، ولا تَكْتَحِلَ بالإِثْمِدِ

(1)

، ولا بكُحلٍ فيه طِيبٌ وإن وجِعَتْ عينُها، ولكن تَكْتَحِلُ بالصَّبِرِ

(2)

، وما بدا لها مِن الأكْحالِ سوى الإثْمِدِ، مما ليس فيه طيبٌ، ولا تَلْبَسَ حَلْيًا، وتَلْبَسَ البَياضَ ولا تلْبَسَ السوادَ.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن موسى بنِ عُقبةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ في المتوفَّى عنها زوجُها: لا تَكْتَحِلُ، ولا تَطَّيَّبُ، ولا تَبِيتُ عن بيتِها، ولا تَلْبَسُ ثوبًا مَصْبوغًا، إلا ثوبَ عَصْبٍ

(3)

تَجَلْبَبُ به

(4)

.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا ابنُ جريج، عن عَطاءٍ، قال: بلَغَني عن ابنِ عباسٍ، قال: تُنْهَى المتوفَّى عنها زوجُها أن تَزَّيَّنَ وتَطَّيَّبَ

(5)

.

حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الأعْلَى، قال: ثنا عُبَيدُ اللَّهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: إن المتوفَّى عنها زوجُها لا تلْبَسُ ثوبًا مصبوغًا، ولا تَمَسُّ طِيبًا، ولا تَكْتَحِلُ، ولا تَمْتَشِطُ. وكان لا يَرَى بأسًا أن تَلْبَسَ البُرْدَ (4).

(1)

الإثمد: حَجَر الكحل، وهو أسود إلى حمرة. التاج (ث م د).

(2)

الصَّبِر: عُصارة شجر مُرّ. الواحدة صَبِرَة. وجمعه صُبُور. التاج (ص ب ر).

(3)

العَصْب: ضَرْب من البُرُود اليمنية يُعصَب غَزْلها، أي يُجْمَع ويُشَدّ، ثم يُصْبَغ وينسج، فيأتي مَوْشيًّا لبقاء ما عُصِب منه أبيضَ لم يأخذه صِبْغ. النهاية 3/ 245.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12115، 12116)، وسعيد بن منصور في سننه (2137)، وابن أبي شيبة 5/ 205، والبيهقي 7/ 440 من طرق عن نافع به.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12111، 12112)، وابن أبي شيبة 5/ 204، 205 عن ابن جريج به.

ص: 253

وقال آخَرون: إنما أُمِرَتِ المتوفَّى عنها أن تَرَبَّصَ بنفسِها عن الأزواجِ خاصةً، فأما عن الطِّيبِ والزينةِ والمَبيتِ عن المنزلِ، فلم تُنْهَ عن ذلك، ولم تُؤْمَرْ بالتربُّصِ بنفسِها عنه.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن يونُسَ، عن الحسنِ أنه كان يُرَخِّصُ في التزيُّنِ والتَّصَنُّعِ، ولا يَرَى الإحْدادَ شيئًا

(1)

.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عَطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} : لم يَقُلْ: تَعْتَدُّ في بيتِها. تَعْتَدُّ حيث شاءت.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا إسماعيلُ، قال: حدَّثنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: إنما قال اللَّهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} : ولم يَقُلْ: تَعْتَدُّ في بيتِها. فلْتَعْتَدَّ حيث شاءت

(2)

.

واعْتَلَّ قائلو هذه المَقالةِ بأنَّ اللَّهَ تعالى ذكرُه إنما أمَر المتوفَّى عنها بالتربُّصِ عن النكاحِ، وجعَلوا حُكمَ الآيةِ على الخصوصِ.

وبما حدَّثني به محمدُ بنُ إبراهيمَ السُّلَميُّ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، وحدَّثني محمدُ بنُ مَعْمرٍ البَحْرانيُّ، قال: حدَّثنا أبو عامرٍ، قالا جميعًا: حدَّثنا محمدُ بنُ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 281 عن ابن علية به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12051)، وابن أبي شيبة 5/ 189، وابن حزم 11/ 672، من طريق ابن جريج به.

ص: 254

طلحةَ، عن الحكمِ بنِ عُتيْبةَ

(1)

، عن عبدِ اللَّهِ بنِ شدَّادِ بنِ الهادِ، عن أسماءَ ابنةِ عُمَيسٍ، قالت: لمَّا أُصيب جعفرٌ قال لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَلَّبي

(2)

ثلاثًا، ثم اصْنَعي ما شئتِ"

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدَّثنا أبو نُعَيْمٍ وابنُ الصَّلْتِ، عن محمدِ بنِ طلحةَ، عن الحكمِ بنِ عُتَيْبةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ شدادٍ، عن أسماءَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثلِه

(3)

.

قالوا: فقد بيَّن هذا الخبرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم [ألا إحْدادَ]

(4)

على المتوفَّى عنها زوجُها، وأن القولَ في تأويلِ قولِه:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} إنما هو: يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن عن الأزواجِ دونَ غيرِه.

وأما الذين أوْجَبوا الإحْدادَ على المتوفَّى عنها زوجُها، وتركَ النُّقْلةِ عن منزلِها الذي كانت تَسْكُنُه يومَ تُوُفِّي عنها زوجُها، فإنهم اعْتَلُّوا بظاهرِ التَّنْزيلِ، وقالوا: أمَر اللَّهُ المتوفَّى عنها أن تَرَبَّصَ بنفسِها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فلم يَأْمُرْها بالتربُّصِ بشيءٍ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عيينة". وينظر تهذيب الكمال 7/ 114.

(2)

تسلبي: أي البسي ثوب الحداد؛ وهو السِّلاب. والجمع سُلُب. وقيل: هو ثوب أسود تغطى به المُحِدُّ رأسها. ينظر النهاية 2/ 387.

(3)

أخرجه ابن سعد 8/ 282، وأحمد 6/ 369، 438 (الميمنية)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 75، وابن حبان (3148)، والطبراني في المعجم الكبير 24/ 139 (369)، والبيهقي 7/ 438، من طريق محمد بن طلحة به. ووقع عند ابن سعد وابن حبان:"تسلمي"؛ قال الحافظ في الفتح 9/ 487، 488: وأغرب ابن حبان فساق الحديث بلفظ "تسلمي" بالميم بدل الموحدة، وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله، ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك قيدها بالثلاث. هذا معنى كلامه، فصحف الكلمة وتكلف لتأويلها. ووقع عند الطحاوي والطبراني بلفظ: تَسَكَّني. وتسكن: اطمأنَّ. ينظر الوسيط (س ك ن).

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الإحداد".

ص: 255

مُسَمًّى في التنزيلِ بعينِه، بل عمَّ بذلك مَعانيَ التربُّصِ. قالوا: فالواجبُ عليها أن تَرَبَّصَ بنفسِها عن كلِّ شيءٍ، إلا ما أطْلَقَتْه لها حُجَّةٌ يجبُ التسليمُ لها.

قالوا: فالتَّربُّصُ عن الطِّيبِ والزينةِ والنُّقْلةِ مما هو داخلٌ في عمومِ الآيةِ، كما التربُّصُ عن الأزواجِ داخلٌ فيها.

قالوا: وقد صحَّ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الخبرُ بالذي قلنا في الزينةِ والطِّيبِ.

وأما في النُّقْلةِ؛ فإن أبا كُريبٍ حدَّثنا، قال: ثنا يونُسُ بنُ محمدٍ، عن فُلَيْحِ بنِ سليمانَ، عن سعدِ

(1)

بنِ إسحاقَ بنِ كعبِ بنِ عُجْرةَ، عن عمَّتِه، عن

(2)

الفُرَيْعةِ ابنةِ مالكٍ أختِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قالت: قُتِل زوجي وأنا في دارٍ، فاستأذنتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في النُّقلةِ، فأذِن لي، ثم ناداني بعدَ أن توَلَّيْتُ، فرجَعْتُ إليه، فقال:"يا فُرَيْعةُ، حتى يَبْلغَ الكتابُ أجلَه"

(3)

.

قالوا: فبيَّن رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صحةَ ما قلنا في معنى تربُّصِ المتوفَّى عنها زوجُها، [وبطولَ]

(4)

ما خالَفه.

قالوا: وأما ما رُوِي عن ابنِ عباسٍ، فإنه لا معنى له؛ بخروجِه عن ظاهرِ التنزيلِ والثابتِ مِن الخبرِ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد". والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 10/ 248.

(2)

سقط من النسخ. والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 35/ 186، 266.

(3)

أخرجه مالك 2/ 591، والطيالسي (1769)، وأحمد 6/ 370 (الميمنية)، والدارمي 2/ 168، وأبو داود (2300)، وابن ماجه (2031)، والترمذي (1204)، والنسائي (3528 - 3530، 3532) من طريق سعد بن إسحاق به.

(4)

زيادة لازمة ليست في النسخ.

ص: 256

قالوا: وأما الخبرُ الذي رُوِي عن أسماءَ ابنةِ عُمَيْسٍ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن أمْرِه إياها بالتَّسَلُّبِ ثلاثًا، ثم أن تَصْنَعَ ما بدا لها، فإنه غيرُ دالٍّ على ألا حِدادَ على المرأةِ، بل إنما دَلَّ على أمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياها بالتَّسَلُّبِ ثلاثًا، ثم العملِ بما بدا لها مِن لُبْسِ ما شاءت مِن الثيابِ، مما يَجوزُ للمعتدةِ لُبْسُه، مما لَمْ يَكُنْ زينةً ولا تَطَيُّبًا؛ لأنه قد يَكونُ مِن الثيابِ ما ليس بزينةٍ ولا ثيابِ تسَلُّبٍ، وذلك كالذي أذِن صلى الله عليه وسلم للمُتوفَّى عنها أن تَلْبَسَ مِن ثيابِ العَصْبِ وبُرودِ اليمنِ، فإن ذلك لا مِن ثيابِ زينةٍ، ولا مِن ثيابِ تسلُّبٍ، وكذلك كلُّ ثوبٍ لَمْ يَدْخُلْ عليه صِبْغٌ بعدَ نَسْجِه مما يَصْبُغُه الناسُ لتزيينِه، فإن لها لُبْسَه؛ لأنها تَلْبَسُه غيرَ متزيِّنةٍ الزينةَ التي يَعْرِفُها الناسُ.

فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . ولم يُقَلْ: وعشرةً؟ وإذ كان التنزيلُ كذلك، أفبالليالي تَعْتَدُّ المتوفَّى عنها العشرَ، أم بالأيامِ؟ قيل: بل تَعْتَدُّ بالأيامِ بلياليها. فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل:{وَعَشْرًا} . ولم يُقَلْ: وعشرةً. والعشرُ بغيرِ الهاءِ مِن عددِ الليالي دونَ الأيامِ؟ فإن جاز

(1)

ذلك المعنى فيه ما قلتَ، فهل تُجِيزُ: عندي عشرٌ. وأنتَ تُرِيدُ عشرةً مِن رجالٍ ونساءٍ؟

قلتُ: ذلك جائزٌ في عددِ الليالي والأيامِ، وغيرُ جائزٍ مثلُه في عددِ بني آدمَ مِن الرجالِ والنساءِ؛ وذلك أن العربَ في الأيامِ والليالي خاصةً، إذا أبْهَمَت العددَ غَلَّبَت فيه الليالي، حتى إنهم فيما رُوِي لنا عنهم لَيَقُولون: صُمْنا عشرًا مِن شهرِ رمضانَ. لتَغْليبِهم اللياليَ على الأيامِ، وذلك أن العددَ عندَهم قد جرَى في ذلك بالليالي دونَ الأيامِ، فإذا أظْهَروا مع العددِ مُفَسِّرَه، أسْقَطوا مِن عددِ المؤنثِ الهاءَ، وأُثْبَتُوها في

(1)

في م: "أجاز".

ص: 257

عددِ المذكرِ، كما قال تعالى ذكرُه:{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]. فأسْقَط الهاءَ مِن "سبعٍ"، وأثْبَتَها في "الثمانيةِ".

وأما بنو آدمَ فإن مِن شأنِ العربِ إذا اجْتَمَعَتِ الرجالُ والنساءُ، ثم أَبْهَمَت عددَها، أن تُخْرِجَه على عددِ الذُّكْرانِ دونَ الإناثِ، وذلك أن الذُّكْرانَ مِن بني آدمَ مَوْسومٌ واحدُهم وجمعُه بغيرِ سِمةِ إناثِهم، وليس كذلك سائرُ الأشياءِ غيرِهم، وذلك أن الذكورَ مِن غيرِهم ربما وُسِم بسِمةِ الأنثى، كما قيل للذكرِ والأنثى: شاةٌ. وقيل للذكورِ والإناثِ مِن البقرِ: بقرٌ. وليس كذلك في بني آدمَ.

فإن قال: وما معنى زيادةِ هذه العشَرةِ الأيامِ على الأربعةِ

(1)

الأشهرِ؟ قيل: قد قيل في ذلك ما

(2)

حدَّثنا به ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . قال: قلتُ: لمَ صارَتْ هذه العَشْرُ مع الأشهرِ الأربعةِ؟ قال: لأنه يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ في العَشْرِ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى أبو عاصمٍ

(4)

، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قال: سألْتُ سعيدَ بنَ المسيَّبِ: ما بالُ العشرِ؟ قال: فيه يُنْفَخُ الرُّوحُ

(5)

.

(1)

سقط من: م.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 3:"فيما".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 437 (2318)، والبيهقي في الأسماء والصفات (824) من طريق أبي جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 289 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عصام". وينظر تهذيب الكمال 13/ 281.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 420 عن سعيد بن أبي عروبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 289 إلى المصنف.

ص: 258

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: فإذا بلَغْنَ الأجلَ الذي أُبِيح لهن فيه ما كان حُظِر عليهن في عِدَدِهن مِن وفاةِ أزْواجِهن - وذلك بعدَ انقضاءِ عِدَدِهن، ومُضِيِّ الأشهُرِ الأربعةِ والأيامِ العشَرةِ - {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. يقولُ: فلا حرَجَ عليكم أيُّها الأولياءُ، أولياءُ المرأةِ، فيما فعَل المُتَوَفَّى عنهن حينَئذٍ في أنفسِهن مِن تَطيُّبٍ وتزيُّنٍ، ونُقْلةٍ مِن المسكنِ الذي كُنَّ يَعْتَدِدْنَ فيه، ونكاحِ مَن يَجوزُ لهن نكاحُه بالمعروفِ. يعني بذلك: على ما أذِن اللَّهُ لهن فيه وأباحَه لهن.

وقد قيل: إنما عنَى بذلك النكاحَ خاصَّةً.

وقيل: إن معنى قولِه: {بِالْمَعْرُوفِ} إنما هو النكاحُ الحلَالُ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال:

(1)

الحلالُ الطَّيِّبُ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ،

(1)

بعده في ت 2: "المعروف النكاح".

(2)

تفسير سفيان ص 68 عن ابن جريج، عن مجاهد، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 438 (2322).

ص: 259

عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: المعروفُ النكاحُ الحلالُ الطيبُ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: قال ابنُ جُرَيْجٍ: قال مجاهدٌ في قولِه: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: هو النكاحُ الحلالُ الطيبُ

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ، قال: هو النكاحُ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابنِ شَهابٍ:{فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: في نكاحِ مَن هَوِيَتْه

(3)

إذا كان معروفًا

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: واللَّهُ بما تعمَلون أيُّها الأولياءُ في أمرِ مَن أنتم وليُّه مِن نسائِكم؛ مِن عَضْلِهن وإنْكاحِهن ممَّن أرَدْنَ نكاحَه بالمعروفِ، ولغيرِ ذلك مِن أمورِكم وأمورِهم، {خَبِيرٌ}. يعني: ذو خبرةٍ وعلمٍ، لا يَخْفَى عليه منه شيءٌ.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 97.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 438 (2322) من طريق عمرو به. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 421.

(3)

في م: "هوينه".

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 438 عقب الأثر (2322) معلقا. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 421.

ص: 260

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: ولا جُناحَ عليكم أيُّها الرجالُ فيما عرَّضْتم به من خِطْبةِ النساءِ، للنساءِ المُعْتَدَّاتِ مِن وفاةِ أزْواجِهن في عِدَدِهن، ولم تُصرِّحوا بعقدِ نكاحٍ.

والتَّعْريضُ الذي أُبِيح في ذلك هو ما حدَّثنا به ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مَنصورٍ، عن مُجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: التَّعريضُ أن يقولَ: إني أُريدُ التزويجَ، وإني لَأُحِبُّ امرأةً مِن أمرِها وأمرِها. يُعَرِّضُ لها بالقولِ بالمعروفِ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مُجاهِدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: إني أُريدُ ان أَتَزَوَّجَ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن مُجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: التَّعْريضُ ما لم يَنْصِبْ

(3)

للخِطْبةِ. قال مجاهدٌ: قال

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 257 عن جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 290 إلى وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

تفسير سفيان ص 69، ومن طريقه البيهقي 7/ 178.

(3)

أي: يقصد. ينظر اللسان (ن ص ب).

ص: 261

رجلٌ لامرأةٍ في جِنازةِ زوجِها: لا تَسْبِقيني بنفسِك. قالت: قد سُبِقْتَ.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال في هذه الآيةِ:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: التعريضُ ما لم يَنْصِبْ للخِطبةِ

(1)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن مُجاهِدٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: التعريضُ أن يَقولَ للمرأةِ في عِدَّتِها: إني لا أُرِيدُ أن أَتَزَوَّجَ غيرَك إن شاء اللَّهُ، ولَوَدِدْتُ أني وجَدْتُ امرأةً صالحةً. ولا يَنْصِبُ لها ما دامَت في عدَّتِها

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . يقولُ: يعرِّضُ لها في عدَّتِها، يقولُ لها: إن رأيتِ ألا تَسْبِقِيني بنفسِك، ولودِدتُ أن اللَّهَ قد هيَّأ بيني وبينَك. ونحو هذا من الكلامِ، فلا حرجَ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا آدمُ العَسْقلانِيُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (383 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 438 (2324)، والبيهقي 7/ 178 من طريق شعبة به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12154)، وابن أبي شيبة 4/ 258، والبخاري (5124)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 438 (2325)، والبيهقي 7/ 178 من طرق عن منصور به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 291 إلى المصنف.

ص: 262

النِّسَاءِ}. قال: هو أن يقولَ لها في عِدَّتِها: إني أريدُ التزويجَ، وودِدْتُ أنَّ اللَّهَ رزَقني امرأةً. ونحو هذا، ولا ينصِبُ للخِطبةِ.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ عَوْنٍ، عن محمدٍ، عن عَبيدةَ في هذه الآيةِ، قال: يَذْكُرُها إلى وليِّها، يَقولُ: لا تَسْبِقْني بها

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: يقولُ: إنكِ لجَميلةٌ، وإنك لنافقةٌ

(2)

، وإنك إلى خيرٍ

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ، أنه كَرِه أن يقولَ: لا تَسْبِقِيني بنفسِك

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: هو قولُ الرجلِ للمرأةِ: إنك لَجميلةٌ، وإنك لَنافقةٌ، وإنك لَإلى خيرٍ

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن مَعْمرٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 258 من طريق ابن عون به.

(2)

نافقة: رائجة. اللسان (ن ف ق).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 257 من طريق ليث به.

(4)

تفسير الثوري ص 69.

(5)

تفسير مجاهد ص 238، ومن طريقه ابن أبي شيبة 4/ 259.

ص: 263

النِّسَاءِ}. قال: يُعَرِّضُ للمرأةِ في عِدَّتِها فيقولُ: واللَّهِ إنك لجميلةٌ، وإن النساءَ لَمِن حاجتي، وإنَّك إلى خيرٍ إن شاء اللَّهُ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا شعبةُ، عن سلمةَ بنِ كُهَيْلٍ، عن مسلمٍ البَطِينِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: هو قولُ الرجلِ: إني أُرِيدُ أن أَتَزَوَّجَ، وإني إن تَزَوَّجْتُ أحْسَنْتُ إلى امرأتي. هذا التعريضُ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا شعبةُ، عن سلمةَ بنِ كُهَيْلٍ، عن مسلمٍ البَطِينِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ في قولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: يقولُ: لَأُعْطِيَنَّكِ، لَأُحْسِنَنَّ إليكِ، لَأَفْعَلَنَّ بك كذا وكذا

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: سمِعْتُ يحيى بنَ سعيدٍ، قال: أخْبَرَني عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمِ في قولِه: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: قولُ الرجلِ للمرأةِ في عدتِها يُعَرِّضُ بالخِطْبةِ: واللَّهِ إني فيكِ لَراغبٌ، وإني عليكِ لحَريصٌ. ونحو هذا.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ الثَّقَفيُّ، قال: سمِعْتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: أخْبَرَني عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمِ أنه سمِع القاسمَ بنَ محمدٍ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 95، وفي مصنفه (12152).

(2)

أخرجه البيهقي 7/ 178 من طريق آدم به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (384 - تفسير) من طريق شعبة به.

ص: 264

يقولُ: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . هو قولُ الرجلِ للمرأةِ: إنك لَجميلةٌ، وإنك لَنافقةٌ، وإنك إلى خيرٍ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ: كيف يقولُ الخاطبُ؟ قال: يُعَرِّضُ تَعْريضًا، ولا يَبوحُ بشيءٍ، يقولُ: إن لي حاجةً وأبْشِرِي، وأنت بحمدِ اللَّهِ نافقةٌ. ولا يَبوحُ بشيءٍ. قال عطاءٌ: وتَقولُ هي: قد أَسْمَعُ ما تَقولُ. ولا تَعِدُه شيئًا، ولا تقولُ: لعلَّ ذاك

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرَنا ابنُ المباركِ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قال: ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمِ أنه سمِع القاسمَ يقولُ في المرأةِ يُتَوفَّى عنها زوجُها، والرجلُ يُريدُ خِطبتَها، ويُرِيدُ كلامَها، ما الذي يَجمُلُ به مِن القولِ؟ قال: يقولُ: إني فيك لَراغبٌ، وإني عليكِ لَحريصٌ، وإني بكِ لَمُعجَبٌ. وأشباهَ هذا مِن القولِ.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغيرةَ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: لا بأسَ بالهَدِيَّةِ في تَعريضِ النكاحِ

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرَنا مُغيرةُ،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 257، 259، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 438، من طريق يحيى بن سعيد به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12150) عن ابن جريج به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 258 عن جرير به.

ص: 265

قال: كان إبراهيمُ لا يَرَى بأسًا أن يُهدِيَ لها في العِدَّةِ إذا كانت مِن شأنِه.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عامرٍ في قولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: يقولُ: إنكِ لَنافقةٌ، وإنك لَمُعجِبةٌ، وإنك لَجميلةٌ، وإن قضَى اللَّهُ شيئًا كان

(1)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه قولَه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: كان إبراهيمُ النَّخَعيُّ يقولُ: إنك لمُعجِبةٌ، وإني فيك لَراغبٌ.

حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: وأخْبَرَني - يعني شَبِيبًا - عن سعيدٍ، عن شعبةَ، عن منصورٍ، عن الشعبيِّ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: لا تأْخُذْ

(2)

ميثاقَها ألَّا تَنْكِحَ غيرَك

(3)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: كان أبي يقولُ: كلُّ شيءٍ كان دونَ أن يَعزِما

(4)

عُقدةَ النكاحِ، فهو ما قال اللَّهُ تعالى ذكرُه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 258، 259 عن وكيع به.

(2)

في م: "يأخذ".

(3)

في م: "غيره". والأثر أخرجه البيهقي 7/ 179 من طريق شعبة بنحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 262 من طريق منصور بنحوه.

(4)

في م: "يعزم".

ص: 266

فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، وحدثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ قولَه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} : والتعريضُ فيما سمِعْنا أن يقولَ الرجلُ وهي في عِدَّتِها: إنك لَجميلةٌ، إنك إلى خيرٍ، إنك لَنافقةٌ، إنك لَتُعْجِبِيني. ونحوَ هذا، فهذا التَّعْريضُ

(1)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ سليمانَ، عن خالتِه سُكَيْنةَ ابنةِ حَنْظلةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ حَنْظلةَ، قالت: دخَل عليَّ أبو جعفرٍ محمدُ بنُ عليٍّ وأنا في عِدَّتي، فقال: يا ابنةَ حَنْظلةَ، أنا مَن عَلِمْتِ قَرابتي مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وحقَّ جَدِّي عليٍّ، وقَدَمي في الإسلامِ. فقلتُ: غفَر اللَّهُ لك يا أبا جعفرٍ، أتَخْطُبُني في عِدَّتي وأنتَ يُؤْخَذُ عنك. فقال: أو قد فعلتُ! إنما أخْبَرْتُكِ بقَرابتي مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ومَوْضِعي، قد دخَل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على أمِّ سلمةَ، وكانت عندَ ابنِ عمِّها أبي سلمةَ، فتُوُفِّي عنها، فلم يَزَلْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذكُرُ لها منزلتَه مِن اللَّهِ، وهو مُتَحاملٌ على يدِه، حتى أثَّر الحَصيرُ في يدِه مِن شدةِ تَحامُلِه على يدِه، فما كانت تلك خِطبةً

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، قال: ثنى عُقيلٌ، عن ابنِ شهابٍ:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: لا جناحَ على مَن عَرَّض لهنَّ بالخِطبةِ قبلَ أن يَحْلِلْنَ إذا كَنُّوا في أنفسِهم

(3)

من ذلك

(4)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12159) عن سفيان به.

(2)

أخرجه الدارقطني 3/ 224، والبيهقي 7/ 178، من طريق عبد الرحمن بن سليمان به.

(3)

في النسخ: "أنفسهن". والصواب ما أثبتناه.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 عقب الأثر (2327) معلقًا، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 422.

ص: 267

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: أخْبَرَني مالكٌ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه أنه كان يَقولُ في قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} : أن يَقولَ الرجلُ للمرأةِ وهي في عِدَّةٍ مِن وفاةِ زوجِها: إنك عليَّ لَكريمةٌ، وإني فيك لراغبٌ، وإني سائقٌ إليك خيرًا ورزقًا. ونحوَ هذا مِن الكلامِ

(1)

.

واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في معنى الخِطْبةِ، فقال بعضُهم

(2)

: الخِطْبةُ: الذِّكْرُ. والخِطْبةُ: التَّشَهُّدُ

(3)

.

وكأن قائل هذا القولِ تأوَّل الكلامَ: ولا جناحَ عليكم فيما عرَّضْتُم به مِن ذكرِ النساءِ عندَهن

(4)

.

وقد زعَم صاحبُ هذا القولِ أنه قال: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . لأنه لمَّا قال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . كأنه قال: اذْكُرُوهن، ولكن لا تُواعِدُوهن سرًّا.

وقال آخَرون منهم: الخِطْبةُ من قولِهم: [خطَب فلانٌ فلانةَ يخْطُبُها]

(5)

خِطْبةً وخَطْبًا. قال: وقولُ اللَّهِ تعالى ذكرُه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} [طه: 95] يقالُ: إنه مِن هذا. قال: وأما الخُطْبةُ فهو المخطوبُ، مِن قولِهم: خطَب على المِنْبَرِ واخْتَطَب.

قال أبو جعفرٍ: والخِطْبةُ عندي هي الفِعْلةُ، مِن قولِ القائلِ: خطَبْتُ فلانةَ.

(1)

أخرجه مالك 2/ 524، ومن طريقه الشافعي في مسنده 2/ 19 (58)، والبيهقي 7/ 178.

(2)

هو الأخفش كما في تفسير البغوي 1/ 282.

(3)

في ت 2: "التشهيد".

(4)

في النسخ: "عندهم". والمثبت من تفسير البغوي.

(5)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 268

كالجِلْسةِ، مِن قولِه: جلَس. أو القِعدةِ، مِن قولِه: قعَد.

ومعنى قولِهم: خطَب فلانٌ فلانةَ. سأَلها خَطْبَه إلَيها في نفسِها، وذلك حاجتُه، من قولِهم: ما خطْبُك؟ بمعنى ما حاجتُك، وما أمرُك؟.

وأما التَّعْريضُ فهو ما كان مِن لَحْنِ الكلامِ الذي يَفْهَمُ به السامعُ الفَهِمُ ما يُفْهَمُ بصريحِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} : أو أخْفَيْتُم

(1)

في أنفسِكم فأسْرَرْتُموه مِن خِطْبتِهِن وعَزْمِ نِكاحِهن وهن في عِدَدِهن، فلا جُناحَ عليكم أيضًا في ذلك، إذا لما تَعْزِموا عُقْدةَ النكاحِ حتى يَبْلُغَ الكتابُ أجلَه.

يقالُ منه: أَكَنَّ فلانٌ هذا الأمرَ في نفسِه، فهو يُكِنُّه إكْنانًا، وكنَّه، إذا ستَرَه، يَكُنُّه كَنًّا وكُنونًا، وجلَس في الكِنِّ. ولم يُسْمَعْ: كَنَنْتُه في نفسِي. وإنما يقالُ: كَنَنْتُه في البيتِ، أو في الأرضِ. إذا خبَّأْتَه فيه. ومنه قولُه تعالى ذكرُه:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49]. أي: مَخْبوءٌ. ومنه قولُ الشاعرِ

(2)

:

ثلاثٌ مِن ثلاثِ قُدَامَيَاتٍ

(3)

من اللَّائي تَكُنُّ من الصَّقيعِ

وتُكِنُّ، بالتاءِ المضمومةِ

(4)

، وهو أجودُ، و"تَكُنُّ".

ويُقالُ: أكَنَّتْه ثيابُه مِن البردِ، وأكَنَّه البيتُ مِن الرِّيحِ.

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"أحببتم".

(2)

معاني القرآن للفراء 1/ 152، واللسان (ك ن ن).

(3)

قداميات: يعني بها قوادم ريش الطير، وهي أربع ريشات في مُقَدَّم الجناح. اللسان (ق د م).

(4)

زيادة يقتضيها السياق. وينظر معاني القرآن 1/ 153.

ص: 269

وبنحوِ ما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ:{أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} . قال: الإكْنانُ ذِكْرُ خِطبتِها في نفسِه، لا يُبْدِيه لها، هذا كلُّه حِلٌّ معروفٌ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ قولَه:{أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} . قال: أن يَدْخُلَ فيُسَلِّمَ ويُهْدِيَ إن شاء، ولا يَتَكَلَّمَ بشيءٍ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ الثَّقَفيُّ، قال: سَمِعْتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: أخْبَرَني عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمِ أنه سمِع القاسمَ بنَ محمدٍ يقولُ. فذكَر نحوَه.

حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} . قال: جعَلْتَ في نفسِك نكاحَها، وأضْمَرْتَ ذلك

(3)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن

(1)

تفسير مجاهد ص 238، ومن طريقه البيهقي 7/ 178، 179، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 259 من طريق ابن أبي نجيح به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 (2329) من طريق عمرو به.

(3)

ينظر التبيان 2/ 266.

ص: 270

سفيانَ: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} : أن يُسِرَّ في نفسِه أن يَتَزَوَّجَها.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا هَوْذَةُ، قال: ثنا عَوْفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} . قال: أسْرَرْتُم

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وفى إباحةِ اللَّهِ تعالى ذكرُه ما أباح مِن التَّعْريضِ بنكاحِ المُعْتَدَّةِ لها في حالِ عِدَّتِها وحَظْرِه التصريحَ، ما أبان عن افتراقِ حُكمِ التعريضِ في كلِّ معاني الكلامِ وحُكمِ التصريحِ، منه

(2)

.

وإذا كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ أن التعريضَ بالقَذْفِ غيرُ التصريحِ به، وأن الحدَّ بالتعريضِ بالقذفِ لو كان واجبًا وجوبَه بالتصريح به، لَوجَب مِن الجُناحِ بالتعريضِ بالخِطْبةِ في العِدَّةِ، نظيرُ الذي يَجِبُ بعزمِ عُقدةِ النكاحِ فيها، وفى تفريقِ اللَّهِ تعالى ذكرُه بينَ حُكْمَيْهِما في ذلك، الدلالةُ الواضحةُ على افتراقِ أحكامِ ذلك في القذفِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: علِمَ اللَّهُ أنكم ستَذْكُرون المُعْتَدَّاتِ في عِدَدِهن بالخِطْبةِ في أنفسِكم وبألسنتِكم.

كما حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}. قال: الخِطْبةُ

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 (2328) من طريق هوذة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 291 إلى عبد بن حميد.

(2)

يعني: افتراق حكم التعريض من حكم التصريح.

(3)

أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 291 - ومن طريقه ابن أبي شيبة 4/ 360، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 (2330)، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 366 من طريق وكيع، عن سفيان، عن الحسن. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.

ص: 271

حدَّثني أبو السائبِ سَلْمُ بنُ جُنادةَ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . قال: ذِكرُك إيَّاها في نفسِك. قال: فهو قولُ اللَّهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ في قولِه:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} . قال: هي الخِطبةُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى السرِّ الذي نهَى اللَّهُ تعالى عبادَه عن مواعَدةِ المُعْتدَّاتِ به؛ فقال بعضُهم: هو الزنى.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا همامٌ، عن صالحٍ الدَّهَّانِ، عن جابرِ بنِ زيدٍ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الزنى

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: ثنا المُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، عن أبي مجْلَزٍ قولَه:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الزنى

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال ثنا يحيى، قال: ثنا سليمانُ التَّيْميُّ، عن أبي مِجْلَزٍ مثلَه

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 360، 366، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 (2331)، عن ابن إدريس به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 263 من طريق الأعرج، عن جابر.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12169) عن المعتمر به.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (380 - تفسير)، وابن أبي شيبة 4/ 263، من طريق سليمان التيمي به. وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 263، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 (2333)، والبيهقي 7/ 179، من طريق عمران بن حدير، عن أبي مجلز.

ص: 272

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سليمانَ التَّيْميِّ، عن أبي مِجْلَزٍ مثلَه

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي مِجْلَزٍ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الزنى. قيل لسفيانَ: التَّيْميُّ ذكَره؟ قال: نعم.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قال: ثنا المُعْتَمرُ، عن أبيه، عن رجلٍ، عن الحسنِ في المُواعَدةِ مثلَ قولِ أبي مجْلَزٍ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا يَزيدُ بنُ إبراهيمَ، عن الحسنِ، قال: الزنى.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا أشْعَثُ وعِمْرانُ، عن الحسنِ مثلَه

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ ويحيى، قالا: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، قال: سمِعْتُ إبراهيمَ يقولُ: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الزنى

(4)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، عن إبراهيمَ مثلَه.

حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ في قولِه:

(1)

تفسير سفيان ص 69.

(2)

أخرجه عبد بن حميد في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 414 من طريق سهل بن أبي الصلت، عن الحسن به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 263، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 (2333) والبيهقي 7/ 179، من طريق عمران به.

(4)

تفسير سفيان ص 69، ومن طريقه ابن أبي شيبة 4/ 263، والبيهقي 7/ 179.

ص: 273

{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الزنى

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابنُ أبي زائدةَ، عن يزيدَ بنِ إبراهيمَ، عن الحسنِ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الزنى.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن مَعْمرٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: الفاحشةُ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا: إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جويْبرٍ، عن الضحاكِ، وحدثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخْبَرَنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخْبَرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضَّحَّاكِ:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: السرُّ: الزنى

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: فذلك السرُّ: الزَّنْيَةُ

(3)

، كان الرجلُ يَدْخُلُ مِن أجلِ الزَّنْيةِ

(3)

، وهو يُعَرِّضُ بالنكاحِ، فنهَى اللَّهُ عن ذلك، إلا مَن قال معروفًا

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا منصورٌ، عن الحسنِ، وجُوَيْبرٌ، عن الضحاكِ، وسليمانُ التَّيْميُّ، عن أبي مِجْلَزٍ، أنهم قالوا: الزنى.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه: {وَلَكِنْ

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 عقب الأثر (2333) معلقا، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 422.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (379 - تفسير) من طريق جويبر به.

(3)

في ص: "الريبة".

(4)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 283. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 291 إلى المصنف.

ص: 274

لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}: الفُحْشُ والخَضْعُ مِن القولِ

(1)

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبَرَنا مَعْمرٌ، عن قَتادةَ، عن الحسنِ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: هو الفاحشةُ

(2)

.

وقال آخَرون: بل معنى ذلك: لا تَأْخُذوا مِيثاقَهن وعُهودَهن في عِدَدِهن ألا يَنْكِحْنَ غيرَكم.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . يقولُ: لا تَقُلْ لها: إني عاشقٌ، وعاهِدِيني ألا تَتَزَوَّجي غيري. ونحوَ هذا

(3)

.

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، [عن سلمةَ بنِ كُهَيْلٍ]

(4)

عن مسلم البَطِينِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في قولِه:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: لا تُقَاصَّها

(5)

على كذا وكذا؛ على

(6)

ألا تَتَزَوَّجَ غيرَك

(7)

.

حدَّثنا ابنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عامرٍ ومُجاهدٍ

(1)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 422.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12168).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 (2332) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر.

(4)

سقط من النسخ، والمثبت مما سيأتي في ص 282.

(5)

في م: "يقاصها". ولعلها: "تقاضها" بالضاد، أو أنها هنا بمعنى "تقاصها" على سبيل التوسع والمجاز.

(6)

سقط من: م.

(7)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12167)، وابن أبي شيبة 4/ 262، والبيهقي 7/ 179 - وسقط منه مسلم البطين - من طريق الثوري به.

ص: 275

وعكرمةَ، قالوا: لا يَأْخُذُ مِيثاقَها في عدتِها ألا تَتَزَوَّجَ غيرَه

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، قال: ذُكِر لي عن الشعبيِّ أنه قال في هذه الآيةِ: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: لا تَأْخُذْ ميثاقَها ألا تَنْكِحَ غيرَك

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن الشعبيِّ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: لا يَأْخُذُ ميثاقَها في ألا تَتَزَوَّجَ غيرَه.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرَنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن الشعبيِّ، قال: سمِعْتُه يقولُ في قولِه: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: لا تَأْخُذْ ميثاقَها ألا تَنْكِحَ غيرَك، ولا تُوجِبِ

(3)

العُقْدةَ حتى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ

(4)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن الشعبيِّ:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: لا يَأْخُذُ عليها ميثاقًا أن لا تَتَزَوَّجَ غيرَه.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . يقولُ: أمْسِكي عليَّ نفسَكِ فأنا أَتَزَوَّجُك. ويَأْخُذُ عليها عهدًا؛ ألا تَنْكِحي غيري

(5)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: هذا في الرجلِ يَأْخُذُ عهدَ المرأةِ وهي في عِدَّتِها، ألا تَنْكِحَ

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 439 عقب الأثر (2332) معلقًا.

(2)

تقدم تخريجه في ص 266.

(3)

في م: "يوجب".

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (377 - تفسير) عن هشيم به.

(5)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 283.

ص: 276

غيرَه، فنهَى اللَّهُ عن ذلك، وقدَّم فيه، وأحَلَّ الخِطْبةَ والقولَ المعروفَ

(1)

، ونهَى عن الفاحشةِ والخَضْعِ مِن القولِ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: أن تُواعِدَها سرًّا على كذا وكذا؛ على ألا تَنْكِحي غيري

(2)

.

حدَّثني المثنى: قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المباركِ، عن معمرٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ عن مُجاهِدٍ في قولِه:{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: مُواعَدةُ السرِّ أن يَأْخُذَ عليها عهدًا وميثاقًا أن تَحْبِسَ نفسَها عليه ولا تَنْكِحَ غيرَه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمرٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه

(3)

.

وقال آخرون: بل معنى ذلك أن يقولَ لها الرجلُ: لا تسبقيني بنفسِك.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: قولُ الرجلِ للمرأةِ: لا تَفُوتِيني بنفسِك، فإني ناكحُك. هذا لا يَحِلُّ

(4)

.

(1)

في م: "بالمعروف".

(2)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 422.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 95، وفي مصنفه (12165).

(4)

تفسير مجاهد ص 238، ومن طريقه البيهقي 7/ 178، 179، وابن أبي شيبة 4/ 262.

ص: 277

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: هو قولُ الرجلِ للمرأةِ: لا تَفُوتِيني.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: المُواعَدةُ أن يَقولَ: لا تَفُوتِيني بنفسِك.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُبارَكِ، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} : أن يقولَ: لا تَفُوتِيني بنفسِك

(1)

.

وقال آخَرون: بل معنى ذلك: ولا تَنْكِحوهن في عدَّتِهنَّ سرًّا.

ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . يقولُ: لا تَنْكِحوهن سرًّا، ثم تُمسِكُها، حتى إذا حلَّتْ أظهَرتَ ذلك وأدْخَلْتَها

(2)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . قال: كان أبي يقولُ: لا تُواعِدوهن سرًّا، ثم تُمْسِكُها، وقد ملَكْتَ عُقْدةَ نكاحِها، فإذا حلَّتْ أظْهَرْتَ ذلك وأدْخَلْتَها

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ ذلك تأويلُ مَن قال: السرُّ في هذا الموضعِ الزنى. وذلك أن العربَ تُسَمِّي الجِماعَ وغِشْيانَ الرجلِ المرأةَ: سرًّا؛ لأن

(1)

تفسير سفيان ص 69، ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه (12170).

(2)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 422.

(3)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 283.

ص: 278

ذلك مما يَكونُ بينَ الرجالِ والنساءِ في خَفاءٍ، غيرَ ظاهرٍ مطَّلَعٍ عليه، فسُمِّي لخفائِه سرًّا، مِن ذلك قولُ رُؤْبةَ بنِ العَجَّاجِ

(1)

:

فعَفَّ عن أسْرارِها بعدَ العَسَقْ

(2)

ولم يُضِعْها بينَ فِرْكٍ

(3)

وعَشَقْ

يعني بذلك: عفَّ عن غِشْيانِها بعدَ طولِ مُلازمتِه ذلك. ومنه قولُ الحُطَيْئةِ

(4)

:

ويَحْرُمُ سرُّ جارتِهم عليهمْ

ويَأْكُلُ جارُهم أُنُفَ القِصاعِ

(5)

وكذلك يُقالُ لكلِّ ما أخْفاه المَرْءُ في نفسِه: سرٌّ.

ويُقالُ: هو في سِرِّ قومِه. يعني: في خِيارِهم وشرَفِهم.

فلمَّا كان السرُّ إنما يُوَجَّهُ في كلامِها

(6)

إلى أحدِ هذه الأوجهِ الثلاثةِ، وكان معلومًا أن أحدَهن غيرُ معنيٍّ به قولُه:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} . وهو السرُّ الذي هو معنى الخِيارِ والشرفِ، فلم يَبْقَ إلا الوجهان الآخَران، وهو السرُّ الذي بمعنى ما أخْفَتْه نفسُ المُواعدِين

(7)

، والسرُّ الذي بمعنى الغِشْيانِ والجِماعِ، فلمَّا لم يَبْقَ

(1)

ديوانه ص 104.

(2)

في م: "الغسق".

(3)

الفرك: بِغْضة الرجل لامرأته، أو بغضة امرأته له. اللسان (ف ر ك).

(4)

ديوانه ص 62.

(5)

أُنُف القصاع: أولها، أي: يبدءون به، ولا يؤكل منها قبله. يقال كأس أُنُف: لم يشرب منها. وروضة أنف: لم تُرْعَ. المصدر السابق.

(6)

يعني: في كلام العرب.

(7)

في ص: "المواعد بين المتواعدين"، وفي م:"المواعدين المتواعدين".

ص: 279

غيرُهما، وكانت الدَّلالةُ واضحةً على أن أحدَهما غيرُ معنيٍّ به صحَّ أن الآخرَ هو المعنيُّ به.

فإن قال قائلٌ: فما الدَّلالةُ على أن مُواعَدةَ القولِ سرًّا غيرُ معنيِّ به، على ما قال مَن قال: إن معنى ذلك: أخْذُ الرجلِ مِيثاقَ المرأةِ ألا تَنْكِحَ غيرَه. أو على ما قال مَن قال: قولُ الرجلِ لها: لا تَسْبِقِيني بنفسِك؟

قيل: لأن السرَّ إذا كان بالمعنى الذي تأوَّله قائلو ذلك، فلن يَخْلُوَ ذلك السرُّ مِن أن يَكونَ هو مُواعَدةَ الرجلِ المرأةَ ومسألتَه إياها أن لا تَنْكِحَ غيرَه، أو يَكونَ هو النكاحَ الذي سأَلها أن تُجِيبَه إليه بعدَ انْقضاءِ عدَّتِها، وبعدَ عُقْدةٍ

(1)

له دونَ الناسِ غيرِه. فإن كان السرُّ الذي نهَى اللَّهُ الرجلَ أن يُواعِدَ المُعْتَدَّاتِ هو أخْذَ العهدِ عَلَيهن ألا يَنْكِحْن غيرَه، فقد بَطَل أن يكونَ السرُّ معناه ما أُخفِي من الأمورِ في النفوسِ، أو نُطِق به فلم يُطَّلعْ عليه، وصارتِ العلانيةُ من الأمرِ سرًّا، وذلك خلافُ المعقولِ في لغةِ من نزَل القرآنُ بلسانِه. إلَّا أن يقولَ قائلُ هذه المقالةِ: إنما نهَى اللَّهُ الرجالَ عن مُواعَدتِهن ذلك سرًّا بينَهم وبينَهن، لا أنَّ نفسَ الكلامِ بذلك - وإن كان قد أُعْلِن - سرٌّ.

فيُقالُ له - إن قال ذلك -: فقد يَجِبُ أن تَكونَ جائزةً مُواعَدتُهن النكاحَ والخِطْبةَ صريحًا عَلانيةً، إذ كان المنهيُّ عنه مِن المُواعَدةِ، إنما هو ما كان منها سرًّا. فإن قال: إن ذلك كذلك. خرَج مِن قولِ جميعِ الأُمَّةِ، على أن ذلك ليس مِن قِيلِ أحدٍ ممَّن تأوَّل الآيةَ؛ أن السرَّ ههنا بمعنى المُعاهَدةِ ألا تَنْكِحَ غيرَ المُعَاهَدِ.

وإن قال: ذلك غيرُ جائزٍ. قيل له: فقد بَطَل أن يَكونَ معنى ذلك إسْرارَ الرجلِ إلى المرأةِ بالمُواعَدةِ؛ لأن معنى ذلك لو كان كذلك، لم يُحَرِّمْ عليه مواعدتَها مُجاهَرةً

(1)

في م: "عقده".

ص: 280

وعَلانيةً. وفي كونِ ذلك عليه مُحَرَّمًا سرًّا وعَلانيةً، ما أبان أن مَعنَى السرِّ في هذا الموضعِ غيرُ مَعْنَى إسْرارِ الرجلِ إلى المرأةِ بالمُعاهَدةِ ألا تَنْكِحَ غيرَه إذا انْقَضَت عدتُها، أو يَكونُ - إذا بَطَل هذا الوجهُ - معنى ذلك الخِطْبةَ والنكاحَ الذي وعَدَتِ المرأةُ الرجلَ ألا تَعْدُوَه إلى غيرِه، فذلك إذا كان، فإنما يَكونُ بوليٍّ وشهودٍ عَلانيةً غيرَ سرٍّ، وكيف يَجوزُ أن يُسَمَّى سرًّا وهو عَلانيةٌ لا يَجوزُ إسْرارُه؟

وفي بُطولِ هذه الأوجهِ أن تَكونَ تأويلًا لقولِه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} بما عليه دلَّلْنا مِن الأدلةِ، وضوحُ صحةِ تأويلِ ذلك أنه بمعنى الغِشْيانِ والجِماعِ.

وإذا كان ذلك صحيحًا، فتأويلُ الآيةِ: ولا جُناحَ عليكم أيُّها الناسُ فيما عرَّضْتُم به للمُعْتَدَّاتِ مِن وفاةِ أزْواجِهن، مِن خِطْبةِ النساءِ، وذلك حاجتُكم إليهنَّ، فلم تُصَرِّحوا لهن بالنكاحِ والحاجةِ إليهن، إذ أكْنَنْتُم في أنفسِكم فأسْرَرْتُم حاجتَكم إليهن وخِطْبتَكم إياهن في أنفسِكم، ما دُمْن في عِدَدِهنَّ، علِم اللَّهُ أنكم ستَذْكُرون خِطبتَهن وهن في عِدَدِهن، فأباح لكمُ التَّعْريضَ بذلك لهن، وأسْقَط الحرَجَ عما أضْمَرَتْه نفوسُكم - حُكمٌ

(1)

منه - ولكن حرَّم عليكم أن تُواعِدوهن جِماعًا في عِدَدِهن؛ بأن يقولَ أحدُكم لإحْداهن في عدَّتِها: قد تزَوَّجْتُكِ في نفسي، وإنما أَنْتَظِرُ انْقضاءَ عدتِك. فيَسْأَلُها بذلك القولِ إمكانَه مِن نفسِها الجماعَ والمباضَعةَ، فحرَّم اللَّهُ تعالى ذكرُه ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} .

قال أبو جعفرٍ: ثم قال تعالى ذكرُه: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . فاسْتَثْنَى القولَ المعروفَ مما نهَى عنه مِن مُواعَدةِ الرجلِ المرأةَ السرَّ، وهو مِن غيرِ

(1)

في م: "حلما".

ص: 281

جنسِه، ولكنَّه مِن الاسْتِثْناءِ الذي قد ذكَرْتُ قبلُ، أنه يَأْتِي بمعنًى خلافِ الذي قبلَه في الصفةِ خاصةً، وتَكونُ "إلا" فيه بمعنى "لكن"

(1)

، فقولُه:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} منه، ومعناه: ولكن قولوا قولًا معروفًا. فأباح اللَّهُ تعالى ذكرُه أن يَقولَ لها المعروفَ مِن القولِ في عِدَّتِها، وذلك هو ما أذِن له بقولِه:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} .

كما حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الرحمنِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن سلَمةَ بنِ كُهَيْلٍ، عن مسلمٍ البَطِينِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: يقولُ: إني فيكِ لَراغبٌ، وإني لَأرْجُو أن نَجْتَمِعَ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: هو قولُه: إن رأيْتِ ألا تَسْبِقِيني بنفسِك

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا سُوَيْدٌ، قال: أخْبَرَنا ابنُ المُباركِ، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مُجاهدٍ:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: يعني التَّعْريضَ

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: يعني التَّعْريضَ.

حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السديِّ: {وَلَا

(1)

ينظر ما تقدم في 2/ 159، 686، 687.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 (2337) من طريق عبد الرحمن به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 258، والبيهقي 7/ 179 من طريق سفيان به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 (2336) من طريق عبد الله بن صالح به بنحوه.

(4)

ينظر تفسير ابن كثير 1/ 422.

ص: 282

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: هو الرجلُ يدْخُلُ على المرأةِ وهي في عدَّتِها، فيقولُ: واللهِ إنكم لَأَكْفاءٌ كرامٌ، وإنكم لَرِعَةٌ

(1)

، وإنكِ لَتُعْجِبيني، وإنْ يُقَدَّرْ شيءٌ يَكُنْ. فهذا القولُ المعروفُ

(2)

.

حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: حدَّثنا زيدٌ، قالا: قال سفيانُ: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} قال: يقولُ: إني فيكِ لَراغبٌ، وإني لأَرْجُو إن شاء اللَّهُ أن نَجْتَمِعَ

(3)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: يقولُ: إن لكِ عندي كذا، ولكِ عندي كذا، وأنا مُعْطِيكِ كذا وكذا. قال: هذا كلُّه وما كان قبلَ أن يَعْقِدَ عُقْدةَ النكاحِ، فهذا كلُّه نسَخَه قولُه:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} .

حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخْبَرَنا يَزيدُ، قال: أخْبَرَنا جُوَيْبِرٌ، عن الضحاكِ:{إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: المرأةُ تُطَلَّقُ أو يَموتُ عنها زوجُها، فيَأْتِيها الرجلُ فيقولُ: احْبِسي عليَّ نفسَك، فإن لي بك رغبةً. فتقولُ: وأنا مثلُ ذلك. فتتوقُ

(4)

نفسُه لها، فذلك القولُ المعروفُ

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ

(1)

الرعة: الشأن والأمر والأدب، يقال: هم حسن رعتهم. التاج (و ر ع).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 عقب الأثر (2337) من طريق عمرو به.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12159) عن سفيان به.

(4)

في ص: "فتوتى".

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 440 عقب الأثر (2337) معلقًا. وينظر المحرر الوجيز 2/ 127، والبحر المحيط 2/ 227.

ص: 283

أَجَلَهُ}.

يعني تعالى ذكره بقولِه: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} . ولا تُصَحِّحوا عُقدةَ النكاحِ في عدة المرأةِ المعتدةِ، فتُوجِبُوها بينَكم وبينَهن، وتَعْقِدوها قبلَ انْقضاءِ العدةِ، {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. يعني: يَبْلُغْنَ أجل الكتابِ الذي بيَّنه اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . فجعَل بلوغَ الأجل للكتاب، والمعنى: للمُتناكحين، ألا يَنْكِحَ الرجلُ المرأة المعتدةَ، فيَعْزِمَ عُقْدةَ النكاحِ عليها حتى تَنْقَضِيَ عدتُها، فيَبْلُغَ الأَجلَ الذي أجَّله اللهُ في كتابِه لانقضائِها.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ وعمرُو بنُ عليٍّ، قالا: حدَّثنا عبد الرحمنِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، عن الثوريِّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: حتى تَنْقَضِيَ العدةُ

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ قولَه:{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: حتى تَنْقَضِيَ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: حتى تَنْقَضِيَ العدةُ.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(3)

.

(1)

تفسير سفيان ص 70، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 96، وفي مصنفه (12172)، وابن أبي شيبة 4/ 401.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 441 عقب الأثر (2341) من طريق عمرو به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 441 عقب الأثر (2341) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 284

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمَّي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: حتى تَنْقَضِيَ العدةُ.

حدَّثني القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: حتى تَنْقَضِيَ العدةُ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضَّحّاكِ قولَه:{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: لا يَتَزَوَّجُها حتى يَخْلُو أجلُها

(2)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو قُتَيْبةَ، قال: حدَّثنا يونُسُ بنُ أبي إسحاقَ، عن الشعبيِّ في قولِه:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: مَخافةَ أن تَتَزَوَّجَ المرأةُ قبلَ انقضاءِ العِدَّةِ

(2)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا عبدُ الأعلى، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} : حتى تَنْقَضِيَ العدةُ

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: حدَّثنا مِهْرانُ، وحدَّثني عليٌّ، قال: حدَّثنا زيدٌ، جميعًا عن سُفيانَ قولَه:{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال: حتى تَنْقَضِيَ العدةُ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 441 (2341) من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 291 إلى ابن المنذر.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 441 عقب الأثر (2341) معلقًا.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 401 من طريق عبد الأعلى به.

ص: 285

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: واعْلَموا أيُّها الناسُ أن اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أنفسِكم مِن هَواهُنَّ ونكاحِهن وغيرِ ذلك مِن أمورِكم، {فَاحْذَرُوهُ}. يقولُ: فاحْذَرُوا اللَّهَ واتَّقُوه في أنفسِكم أن تَأْتُوا شيئًا مما نهاكم عنه مِن عزمِ عُقْدَةِ نكاحِهن، أو مُواعَدَتِهِن السرَّ في عِدَدِهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنِهن في حالِ ما هن مُعْتَدَّاتٌ، وفي غير ذلك، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} . يعني أنه ذو سَتْرٍ لذنوبِ عبادِه، وتَغْطيةٍ عليها فيما تُكِنُّه نفوسُ الرجالِ مِن خِطْبةِ المعتداتِ، وذكرِهم إياهن في حالِ عِدَدِهن، وفي غيرِ ذلك مِن خَطاياهم.

وقولُه: {حَلِيمٌ} . يعني أنه ذو أَناةٍ، لا يَعْجَلُ على عبادِه بعقوبتِهم على ذنوبِهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : لا حرَجَ عليكم، {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}. يقولُ: لا حرَجَ عليكم في طلاقِكم نساءَكم وأزواجَكم، {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ

(1)

}. يعني بذلك: ما لم تُجامِعُوهن. والمُماسَّةُ في هذا الموضعِ كنايةٌ عن اسمِ الجماعِ.

كما حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قالا جميعًا: حدَّثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: قال ابن عباسٍ: المسُّ الجماعُ

(2)

، ولكنَّ اللَّهَ يَكْنِي [ما شاء]

(3)

(1)

في ص، م، ت 1، ت 3:"تماسوهن". قراءة، وستأتي.

(2)

في ت 1، ت 2، ت 3:"النكاح".

(3)

في م: "ما يشاء"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"من شاء".

ص: 286

بما شاء

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا أبو صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ، قال: المسُّ النكاحُ

(2)

.

وقد اخْتَلَفت القرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأتْه عامَّةُ قَرَأةِ أهلِ الحجازِ والبصرةِ: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . بفتحِ التاءِ مِن {تَمَسُّوهُنَّ} ، وبغيرِ ألفٍ

(3)

، مِن قولِك: مَسِسْتُه أَمَسُّه مَسًّا ومَسِيسًا ومِسِّيسَى. مقصورٌ مُشَدَّدٌ غيرُ مُجْرًى. وكأنهم اخْتاروا قراءةَ ذلك إلحاقًا منهم له بالقراءةِ المُجْتَمَعِ عليها في قولِه: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47، مريم: 20].

وقرَأ ذلك آخَرون: (ما لم تُماسُّوهُنَّ). بضمِّ التاءِ، والألفِ بعدَ الميمِ

(4)

، إلحاقًا منهم ذلك بالقراءةِ المُجتَمعِ

(5)

عليها في قولِه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]. وجعَلوا ذلك بمعنى فِعْلِ كلِّ واحدٍ مِن الرجلِ والمرأةِ بصاحبِه، مِن قولِك: ماسَسْتُ الشيءَ أُماسُّه

(6)

مُماسَّةً ومِساسًا.

والذي نَرَى في ذلك أنهما قِراءتانِ صَحيحتا المعنى، مُتَّفِقَتا التأويلِ، وإن كان في إحْداهما زيادةُ معنًى غيرُ مُوجِبةٍ اختلافًا في الحكمِ والمفهومِ. وذلك أنه لا يَجْهَلُ ذو فهمٍ إذا قيل له: مَسِسْتُ زوجتي. أن الممسوسةَ قد لاقَى مِن بدنِها بدنُ الماسِّ ما لاقاه مثلُه مِن بدنِ الماسِّ. فكلُّ واحدٍ منهما وإن أُفْرِد الخبرُ عنه

(1)

سيأتي في 7/ 63، 64.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 442 (2346) من طريق أبي صالح به.

(3)

وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر. ينظر حجة القراءات ص 137، 138.

(4)

وهي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المجمع".

(6)

سقط من: م.

ص: 287

بأنه الذي مسَّ

(1)

صاحبَه - معقولٌ بذلك

(2)

الخبرِ نفسِه أن صاحبه الممسوسَ قد ماسَّه. فلا وجهَ للحكمِ لإحدى القراءتين مع اتفاق معانيهما، وكثرةِ القرأةِ

(3)

بكلِّ واحدةٍ منهما بأنها أولى بالصوابِ مِن الأخرى، بل الواجب أن يكونَ القارئُ بأيتِهما قرَأ، مُصيبَ الحقِّ في قراءتهِ.

وإنما عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ

(4)

}. المطلَّقاتِ قبلَ الإفْضاءِ إليهن في نكاحٍ قد سُمِّي لهن فيه الصَّداقُ.

وإنما قلْنا: إن ذلك كذلك، لأن كلَّ مَنْكوحةٍ فإنما هي إحدى اثنتين؛ إما مُسمًّى لها الصداقُ، أو غيرُ مسمًّى لها ذلك، فعلِمْنا بالذي يَتْلُو ذلك مِن قولِه تعالى ذكرُه، أن المعنيةَ بقولِه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . إنما هي المسمَّى لها؛ لأن المعنيةَ بذلك لو كانت غيرَ المَفْروضِ

(5)

لها الصداقُ، لمَا كان لقولِه

(6)

: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . معنًى معقولٌ، إذ كان لا معنَى لقولِ قائلٍ: لا جُناحَ عليكم إنْ طلَّقْتُم النساءَ ما لم تَفْرِضوا لهن فريضةً في نكاحٍ

(7)

لم تُماسُّوهن فيه، أو ما لم تَفْرِضوا لهن فَريضةً. فإذ كان لا معنَى لذلك، فمعلومٌ أن الصحيحَ مِن التأويلِ في ذلك: لا جُناحَ عليكم إن طلَّقْتُم المفروضَ لهن مِن نسائِكم الصَّداقُ قبلَ أن تُماسُّوهن، وغيرَ المَفروضِ لهن قبلَ الفرضِ.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ماس".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فذلك"، وفي م:"كذلك". والمثبت هو الصواب

(3)

في م: "القراءة".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تماسوهن".

(5)

في ص: "المفرض"، وفي ت 2:"المفوضة".

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بقوله".

(7)

بعده في ت 2: "ما".

ص: 288

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ} : أو تُوجِبوا لهن. وبقولِه: {فَرِيضَةً} : صَداقًا واجبًا.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى مُعاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . قال: الفَريضةُ الصَّداقُ

(1)

.

وأصلُ الفرضِ: الواجبُ، كما قال الشاعرُ

(2)

:

كانت فريضةُ ما أَتَيْتَ كما

كان الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ

يعني: كما كان الرجمُ الواجبَ مِن حدِّ الزِّناءِ. ولذلك قيل: فرَض السلطانُ لفلانٍ في

(3)

ألفين. يعني بذلك: أوْجَب له ذلك، ورزَقه مِن الدِّيوانِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} .

يعني تعالى ذكره بقولِه: {وَمَتِّعُوهُنَّ} : وأعْطُوهن ما يَتَمَتَّعْنَ به مِن أموالِكم على أقدارِكم ومنازلِكم من الغِنَى والإقْتارِ.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مَبْلَغِ ما أمَر اللَّهُ به الرجالَ مِن ذلك؛ فقال بعضُهم: أعلاه الخادِمُ، ودونَ ذلك الوَرِقُ، ودونَه الكِسْوةُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 442 (2347) من طريق أبي صالح به.

(2)

هو النابغة الجعدي، وتقدم البيت في 3/ 47، 62.

(3)

سقط من: م.

ص: 289

عِكْرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: مُتْعةُ الطلاقِ أعلاه الخادِمُ، ودونَ ذلك الوَرِقُ، ودونَ ذلك الكِسْوةُ

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بن أميةَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ بنحوِه.

حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن داودَ، عن الشعبيِّ قولَه:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} . قلتُ له: ما أَوْسَطُ متعةِ المُطَلَّقةِ؟ قال: خِمارُها ودِرْعُها وجِلْبابُها ومِلْحَفتُها

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} : فهذا الرجلُ يَتَزَوَّجُ المرأةَ ولم يُسَمِّ لها صَداقًا، ثم يُطَلِّقُها مِن قبلِ أن يَنْكِحَها، فأمَر اللَّهُ سبحانَه أن يُمَتِّعَها على قدرِ عُسْرِه ويُسْرِه، فإن كان مُوسِرًا متَّعها بخادِمٍ أو شِبهِ ذلك، وإن كان مُعْسِرًا متَّعها بثلاثةِ أثوابٍ أو نحوِ ذلك

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن داودَ، عن الشعبيِّ في قولِه:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} . قال: قلتُ للشعبيِّ: ما

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 156، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 443 (2350)، وابن حزم 11/ 607 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 291 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1776) وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 443 (2351) من طريق داود به، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 157 عن عبد الأعلى، عن الشعبي، ولعله سقط منه داود.

(3)

أخرجه البيهقي 7/ 244، 254، 255 من طريق أبي صالح به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 442 (2349) من طريق أبي صالح، عن الليث، عن معاوية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى ابن المنذر.

ص: 290

وسَطُ

(1)

ذلك؟ قال: كِسْوتُها في بيتِها؛ دِرْعُها

(2)

وخِمارُها ومِلْحَفتُها وجِلْبابُها. قال الشعبيُّ: فكان شُرَيْحٌ يُمَتِّعُ بخمسِمائةٍ

(3)

.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، أن شُريحًا كان يُمَتِّعُ بخمسِمائةٍ. فقلتُ لعامرٍ: ما وسَطُ ذلك؟ قال: ثيابُها في بيتِها؛ دِرْعٌ وخِمارٌ ومِلْحَفةٌ وجِلْبَابٌ.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن داودَ، عن عامرٍ الشعبيِّ أنه قال: وَسَطٌ مِن المتعةِ ثيابُ المرأةِ في بيتِها؛ دِرْعٌ وخمارٌ ومِلْحَفَةٌ وجِلْبَابٌ.

حدَّثنا عِمْرانُ بن موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا داودُ، عن الشعبيِّ، أن شُريحًا متَّع بخمسِمائةٍ. وقال الشعبيُّ: وَسَطٌ من المتعةِ؛ درعٌ وخِمارٌ وجِلْبابٌ ومِلْحَفَةٌ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بن أنسٍ في قولِه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . قال: هو الرجلُ يَتَزَوَّجُ المرأةَ ولا يُسَمِّي لها صَداقًا، ثم يُطَلِّقُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فلها مَتاعٌ بالمعروفِ، ولا صَداقَ لها. قال: أدْنَى ذلك ثلاثةُ أثوابٍ؛ دِرْعٌ وخمارٌ وجِلْبَابٌ وإزارٌ.

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"أوسط".

(2)

في النسخ: "ودرعها". والمثبت موافق لما في بقية الآثار عنه ومصادر التخريج.

(3)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة، وقوله: وكان شريح يمتع بخمسمائة. أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1772)، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 234، 262 من طريق عن داود به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12258)، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 262 من طريق جابر، عن الشعبي.

ص: 291

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} حتى بلَغ: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} : فهذا في الرجلِ يَتَزَوَّجُ المرأةَ ولا يُسَمِّي لها صداقًا، ثم يُطَلِّقُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فلها مَتَاعٌ بالمعروفِ، ولا فَريضةَ لها. وكان يُقالُ: إذا كان واجدًا فلا بدَّ مِن مِئْزَرٍ وجِلْبَابٍ ودِرْعٍ وخمارٍ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابن أبي زائدةَ، عن صالحِ بن صالحٍ، قال: سُئِل عامرٌ: بكم يُمَتِّعُ الرجلُ امرأتَه؟ قال: على قدْرِ مالِه.

حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن سعدِ بن إبراهيمَ، قال: سمِعْتُ حميدَ بنَ عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ يُحَدِّثُ عن أمِّه قالت: كأنى أَنْظُرُ إلى جاريةٍ سوداءَ حمَّمَها عبدُ الرحمنِ [أمَّ أبي]

(2)

سلمةَ حينَ طلَّقَها. قيل لشعبةَ: ما حمَّمها؟ قال: متَّعها

(3)

.

حدَّثنا ابن المثنى: قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سعدِ بن إبراهيمَ، عن حميدِ بن عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ، عن أمِّه، بنحوِه عن عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ، عن ابن سِيرينَ، قال: كان يُمَتَّعُ بالخادِمِ أو بالنفقةِ أو الكِسْوةِ. قال: ومتَّع الحسنُ بنُ عليٍّ

(4)

- أحسَبُه قال: بعشَرةِ آلافٍ

(5)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12263) عن معمر، عن قتادة مختصرًا.

(2)

في م: "ابن أم".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1769)، ومن طريقه ابن حزم 11/ 609، من طريق شعبة به.

(4)

بعده في مصنف عبد الرزاق: "بمال".

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12256)، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1763) والبيهقي 7/ 244 من طريق منصور، عن ابن سيرين.

ص: 292

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ، عن سعدِ بن إبراهيمَ، أن عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ طلَّق امرأتَه فمتَّعها بالخادمِ

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عبدِ اللَّهِ بن يَزِيدَ المُقْرِئِ، عن سعيدِ بن أبي أيوبَ، قال: ثنى عُقَيْلٌ، عن ابن شِهابٍ أنه كان يقولُ في متعةِ المطلَّقةِ: أعْلاه الخادمُ، وأدناه الكِسْوةُ والنفقةُ. ويَرَى أن ذلك على ما قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}

(2)

.

وقال آخَرون: مَبْلَغُ ذلك إذا اخْتَلَف الزوجُ والمرأةُ فيه - قدْرُ نصفِ صَداقِ مثلِ تلك المرأةِ المنكوحةِ بغيرِ صَداقٍ مُسَمًّى في عقدِه. وذلك قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله ابن عباسٍ ومَن قال بقولِه مِن أن الواجبَ مِن ذلك للمرأةِ المُطلَّقةِ على الرجلِ، على قَدْرِ عُسْرِه ويُسرِه، كما قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} لا على قَدْرِ المرأةِ. ولو كان ذلك واجبًا للمرأةِ على قدرِ صَداقِ مثلِها إلى قدرِ نصفِه، لم يَكُنْ لقِيلِه تعالى ذكرُه:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} معنًى مفهومٌ، ولَكان الكلامُ: ومَتِّعُوهن على قَدْرِهن وقدرِ نصفِ صَداقِ أمثالِهِن.

وفي إعْلامِ اللَّهِ تعالى ذكرُه عبادَه أن ذلك على قدْرِ الرجلِ في عُسْرِه ويسرِه، لا على قَدْرِها وقدرِ نصفِ صَداقِ مثلِها، ما يُبِينُ عن صحةِ ما قلْنا وفسادِ ما خالَفَه. وذلك أن المرأةَ قد يكونُ صَداقُ مثلِها المالَ العظيمَ، والرجلُ في حالِ طلاقِه إياها

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12253).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 157 عن عبد الله بن يزيد به.

ص: 293

مُقْتِرٌ

(1)

لا يَمْلِكُ شيئًا، فإن قُضِي عليه بقَدْرِ نصفِ صَداقٍ مثلِها، أُلْزِم ما يَعْجِزُ عنه بعضُ مَن قد وُسِّع عليه، فكيف المقدورُ عليه

(2)

! وإذا فُعِل ذلك به، كان الحاكمُ بذلك عليه قد تعدَّى حُكمَ قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} . ولكن ذلك على قَدْرِ عُسْرِ الرجلِ ويُسرِه، لا يُجاوَزُ بذلك خادِمٌ أو قيمتُها، إن كان الزوجُ مُوسِعًا

(3)

، وإن كان مُقتِرًا فأطاق أَدْنَى ما يكونُ كِسْوةً لها، وذلك ثلاثةُ أثوابٍ ونحوُ ذلك، قُضِي عليه بذلك، وإن كان عاجزًا عن ذلك فعلى قدرِ طاقتِه، وذلك على قدرِ اجْتهادِ الإمامِ العادلِ عندَ الخصومةِ إليه فيه.

واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَمَتِّعُوهُنَّ} . هل هو على الوجوبِ أو على الندبِ؟ فقال بعضُهم: هو على الوجوبِ؛ يُقْضَى بالمتعةِ في مالِ المُطَلِّقِ، كما يُقْضَى عليه بسائرِ الدُّيونِ الواجبةِ عليه لغيرِه. وقالوا: ذلك واجبٌ عليه لكلِّ مطلَّقةٍ، كائنةً مَن كانت مِن نسائِه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ وأبو العاليةِ يقولان: لكلِّ مُطَلَّقةِ متاعٌ، دخَل بها أو لم يَدْخُلْ بها، وإن كان قد فرَض لها

(4)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن يونُسَ، أن الحسنَ كان

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3:"فقير".

(2)

المقدور عليه: المضيق عليه. من: قدر عليه رزقه. أي: ضُيِّق. وينظر التاج (ق د ر).

(3)

في ت 2: "الموسر".

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 154، 155 عن يزيد به.

ص: 294

يقولُ: لكلِّ مطلَّقةٍ متاعٌ، وللتي طلَّقها قبلَ أن يَدْخُلَ بها ولم يَفْرضْ لها

(1)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في هذه الآيةِ:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متاعٌ بالمعروفِ حقًّا على المُتَّقِين

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن أيوبَ، قال: سَمِعْتُ سعيدَ بن جبيرٍ يقولُ: لكلِّ مطلَّقةٍ متاعٌ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: كان أبو العاليةِ يقولُ: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ. وكان الحسنُ يقولُ: لكلِّ مُطلَّقةٍ مُتعةُ

(4)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا قُرَّةُ، قال: سُئِل الحسنُ عن رجلٍ طلَّق امرأتَه قبلَ أن يَدْخُلَ بها وقد فرَض لها، هل لها متاعٌ؟ قال الحسنُ: نعم واللَّهِ. فقيل للسائلِ - وهو أبو بكرٍ الهُذَليُّ -: أوَ ما تَقْرَأُ هذه الآيةَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ؟ قال: نعم، واللَّهِ

(5)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1174)، وابن أبي شيبة 5/ 154، وابن حزم 11/ 607 من طريق يونس به.

(2)

أخرجه ابن حزم 11/ 606 من طريق أيوب به، وأخرجه البيهقي 7/ 257 من طريق أبي بشر، عن سعيد.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1784) عن ابن علية به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 154 من طريق أبي جعفر، عن أبي العالية وحده. وسقط منه الربيع بن أنس.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 (2357) من طريق قرة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى عبد بن حميد.

ص: 295

وقال آخَرون: المتعةُ للمطلَّقةِ على زوجِها المطلِّقِها واجبةٌ، ولكنها واجبةٌ لكلِّ مطلَّقةٍ سوى المطلَّقةِ المفروضِ لها الصَّداقُ، فأما المطلَّقةُ المَفْروضُ لها الصداقُ إذا طُلِّقَت قبلَ الدخولِ بها، فإنها لا مُتعةَ لها، وإنما لها نصفُ الصَّداقِ المُسَمَّى.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ، عن نافعٍ، أن ابنَ عمرَ كان يقولُ: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ، إلا التي طلَّقها ولم يَدْخُلْ بها وقد فرَض لها، فلها نصفُ الصَّداقِ، ولا مُتعةَ لها

(1)

.

حدَّثنا تَمِيمُ بنُ المُنْتَصِرِ، قال: أخْبَرَنا عبدُ اللَّهِ بنُ نُمَيْرٍ، عن عُبيدِ اللَّهِ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ بنحوِه.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ وعبدُ الأعْلَى، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ في الذي يُطَلِّقُ امرأتَه وقد فرَض لها، أنه قال في المتاعِ: قد كان لها المتاعُ في الآيةِ التي في "الأحْزابِ"، فلمَّا نزَلَتِ الآيةُ التي في "البقرةِ"، جُعِل لها النصفُ من صَداقِها إذا سَمَّى، ولا متاعَ لها، وإذا لم يُسَمِّ فلها المتاعُ.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ وعبدُ الأعْلَى، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن سعيدٍ نحوَه.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، قتادةَ، قال: كان سعيدُ بنُ المسيَّبِ يقولُ، إذا لم يَدْخُلْ بها: جُعِل لها في سورةِ "الأحزابِ" المتاعُ، ثم أُنْزِلَتِ الآيةُ التي في سورةِ "البقرةِ": {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 154 من طريق عبيد الله به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12224 - 12226)، وسعيد بن منصور في سننه (1773)، وابن أبي شيبة 5/ 155 من طريق نافع به.

ص: 296

فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. فنسَخَت هذه الآيةُ ما كان قبلَها إذا كان لم يَدْخُلْ بها، وكان قد سمَّى لها صَداقًا، فجعَل لها النصفَ، ولا متاعَ لها

(1)

.

حدَّثنا ابن المثنى وابنُ بَشَّارٍ، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قَتادةَ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، قال: نسَخَت هذه الآيةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآيةُ التي في "البقرةِ".

حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُميدٍ، عن مُجاهدٍ، قال: لكلِّ مُطلَّقةٍ مُتعةٌ، إلا التي فارَقَها وقد فرَض لها مِن قبلِ أن يَدْخُلَ بها

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في التي يُفارِقُها زوجُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها وقد فرَض لها، قال: ليس لها متعةٌ

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: إذا تزَوَّج الرجلُ المرأةَ وقد فرَض لها، ثم طلَّقَها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فلها نصفُ الصَّداقِ، ولا مَتاعَ لها، وإذا لم يَفْرِضُ لها، فإنما لها المتاعُ

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 154، 155 من طريق يزيد به، والنحاس في ناسخه ص 255 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12234) عن سفيان به.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12235) عن سفيان به، ولفظه: للمطلقة التي لم يدخل بها متعة.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 155 عن ابن علية به.

ص: 297

حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: سُئلَ ابن أَبي نَجِيحٍ وأنا أسْمَعُ، عن الرجلِ يَتَزَوَّجُ ثم يُطَلِّقُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، وقد فرَض لها، هل لها مَتاعٌ؟ قال: كان عَطاءٌ يقولُ: لا مَتاعَ لها

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا مَعْمرٌ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ في التي فرَض لها ولم يَدْخُلُ بها، قال: إن طُلِّقَت فلها نصفُ الصداقِ، ولا مُتعةَ لها

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن إبراهيمَ، أن شُريحًا كان يقولُ في الرجلِ إذا طلَّق امرأتَه قبلَ أن يَدْخُلَ بها وقد سمَّى لها صَداقًا، قال: لها في النصفِ متاعٌ

(3)

.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن إبراهيمَ، عن شُريحٍ، قال

(4)

: لها في النصفِ متاعٌ.

وقال آخَرون: المتعةُ حقٌّ لكلِّ مطلَّقةٍ، غيرَ أن منها ما يُقْضَى به على المطلِّقِ، ومنها ما لا يُقْضَى به عليه، ويَلْزَمُه فيما بينَه وبينَ اللَّهِ إعطاؤُها.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ، قال: مُتْعَتان، إحداهما يَقْضِي بها السلطانُ، والأخرى حقٌّ على المتَّقِين؛

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1783)، وابن أبي شيبة 5/ 155 عن ابن علية به.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 95، وفي مصنفه (12224، 12226).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12232)، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 282 من طريق شعبة به، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 155، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 282 من طريق شعبة وابن المبارك عن المسعودي عن الحكم به.

(4)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إن".

ص: 298

مَن طلَّق قبلَ أن يَفْرِضَ ويَدخُلَ، فإنه

(1)

يُؤْخَذُ بالمتعةِ؛ فإنه لا صَداقَ عليه، ومَن طلَّق بعدَ ما يَدْخُلُ أو يَفْرِضُ، فالمتعةُ حقٌّ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، عن يونُسَ، عن ابن شِهابٍ: قال اللَّهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . فإذا تزَوَّج الرجلُ المرأةَ ولم يَفْرِضُ لها، ثم طلَّقها مِن قبلِ أن يَمَسَّها، وقبل أن يَفْرِضَ لها، فليس عليه إلا متاعٌ بالمعروفِ، يَفْرِضُ لها السلطانُ بقَدْرٍ، وليس عليها عِدَّةٌ، وقال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . فإذا طلَّق الرجلُ المرأةَ وقد فرَض لها، ولم يَمْسَسْها، فلها نصفُ صَداقِها، ولا عِدَّةَ عليها.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الرحيمِ البَرْقيُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبي سلَمةَ، قال: أَخْبَرَنا زُهَيْرٌ، عن مَعْمرٍ، عن الزهريِّ أنه قال: مُتْعَتان، يَقْضِي بإحداهما السلطانُ، ولا يَقْضِي بالأخرى؛ فالمتعةُ التي يَقْضِي بها السلطان {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، والمتعةُ التي

(3)

لا يَقْضِي بها السلطانُ {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .

وقال آخَرون: لا يَقْضِي الحاكمُ ولا السلطانُ بشيءٍ من ذلك على المطلَّقِ، وإنما ذلك مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه نَدْبٌ وإرشادٌ إلى أن تُمَتَّعَ المطلَّقةُ.

(1)

بعده في تفسير عبد الرزاق: "لم".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 95، وفي مصنفه (12243)، وأخرجه أيضًا (12244) عن ابن جريج، عن الزهري.

(3)

سقط من: م.

ص: 299

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، أن رجلًا طلَّق امرأتَه، فخاصَمَته إلى شُرَيحٍ، فقرَأ هذه الآيةَ:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . قال: إن كنتَ مِن المتقين فعليك المتعةُ. ولم يَقْضِ لها. قال شعبةُ: وجَدْتُه مكتوبًا عندي عن أبي الضُّحَى

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، قال: كان شُريحٌ يقولُ في متاعِ المطلَّقةِ: لا تَأْبَ أن تكونَ مِن المحسنين، لا تَأْبَ أن تَكونَ مِن المتقين

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، أن شُريحًا قال للذي قد دخَل بها: إن كنتَ مِن المتقين فمتِّعْ

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: وكأن قائلي هذا القولِ ذهَبوا في تركِهم إيجابَ المتعةِ فرضًا للمُطلَّقاتِ، إلى أنَّ قولَ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . وقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} دَلالةٌ على أنها لو كانت واجبةً وجوبَ الحقوقِ اللازمةِ الأموالَ بكلِّ حالٍ، لم يُخْصَصِ المتقون والمحسنون بأنها حقٌّ عليهم دونَ غيرِهم، بل كان يكونُ ذلك معمومًا به كلُّ أحدٍ مِن الناسِ.

وأما مُوجِبوها على كلِّ أحدٍ سوى المطلَّقةِ المفروضِ لها الصداقُ، فإنهم اعتلُّوا

(1)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 266، والبيهقي 7/ 257 من طريق شعبة به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12242) من طريق أيوب به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1779)، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 327، 343، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 443 (2355) من طريق محمد به.

(3)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 270 من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.

ص: 300

بأن اللَّهَ تعالى ذكرُه لمَّا قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . كان ذلك دليلًا على أن لكلِّ مطلَّقةٍ متاعًا سوى مَن اسْتَثْناه اللَّهُ تعالى ذكرُه في كتابِه، أو على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فلمَّا قال:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} كان في ذلك دليلٌ عندَهم على أن حقَّها النصفُ مما فرَض لها؛ لأن المتعةَ جعَلها اللَّهُ في الآيةِ التي قبلَها عندَهم لغيرِ المفروضِ لها، فكان معلومًا عندَهم بخصوصِ اللَّهِ بالمتعة غيرَ المفروضِ لها أن

(1)

حُكمَها غيرُ حُكمِ التي لم يَفْرِضْ لها، إذا طلَّقها قبلَ المَسِيسِ، فيما لها على الزوجِ مِن الحقوقِ.

والذي هو أولى بالصوابِ مِن القولِ في ذلك عندي قولُ مَن قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ. لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . فجعَل اللَّهُ تعالى ذكرُه ذلك لكلِّ مطلَّقةٍ، ولم يَخْصُصْ منهن بعضًا دونَ بعضٍ، فليس لأحدٍ إحالةُ ظاهرِ تنزيلٍ عامٍّ إلى باطنٍ خاصٍّ، إلا بحُجَّةٍ يَجِبُ التسليمُ لها.

فإن قال قائلٌ: فإن اللَّهَ تعالى ذكرُه قد خصَّ المطلقةَ قبلَ المَسِيسِ إذا كان مفروضًا لها بقولِه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ

(2)

وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. إذ لم يَجْعَلْ لها غيرَ النصفِ الفَرِيضةِ.

قيل: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه إذا دلَّ على وجوبِ شيءٍ في بعض تنزيلِه، ففي دَلالتهِ على وجوبِه في الموضعِ الذي دلَّ عليه الكفايةُ عن تكريرِه، حتى يَدُلَّ على بُطولِ فرضِه، وقد دلَّ بقولِه:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . على وجوبِ المتعةِ لكلِّ

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(2)

في ص، ت 1، ت 3:"تماسوهن".

ص: 301

مطلَّقةٍ، فلا حاجةَ بالعبادِ إلى تكريرِ ذلك في كلِّ آيةٍ وسورةٍ. وليس في دَلالتِه على أن للمطلَّقةِ قبلَ المَسيسِ المفروضِ لها الصداقُ نصفَ ما فُرِضَ لها، دَلالةٌ على بُطولِ المتعةِ عنه؛ لأنه غيرُ مستحيلٍ في الكلامِ لو قيل: وإن طلَّقْتُموهنَّ من قبلِ أن تمسُّوهنَّ، وقد فَرَضْتُم لهنّ فريضةً فنِصفُ ما فرَضْتُم والمتْعةُ. فلما لم يكنْ ذلك مُحالًا في الكلامِ، كان معلومًا أن نصفَ الفريضةِ إذا وجَب لها، لم يَكُنْ في وجوبِه لها نفيٌ عن حقِّها مِن المتعةِ، ولمَّا لم يكنِ اجتماعُهما للمطلَّقةِ مُحالًا، وكان اللَّهُ تعالى ذكرُه قد دلَّ على وجوبِ ذلك لها، وإن كانت الدَّلالةُ على وجوبِ أحدِهما

(1)

في آيةٍ غيرِ الآيةِ التي فيها الدَّلالةُ على وجوبِ الأخرى - ثبَت وصحَّ وجوبُهما لها.

هذا، إذا لم يكنْ على أن للمطلَّقةِ المفروضِ لها الصداقُ إذا طُلِّقَت قبلَ المَسيسِ دلالةٌ غيرُ قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . فكيف وفي قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} . الدَّلالةُ الواضحةُ على أن المفروضَ لها إذا طُلِّقَت قبلَ المَسِيسِ، لها

(2)

مِن المتعةِ مثلُ الذي لغيرِ المفروضِ لها منها؟ وذلك أن اللَّهَ تعالى ذكرُه لمَّا قال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . كان معلومًا بذلك أنه قد دلَّ به على حكمِ طلاقِ صِنْفين مِن طلاقِ النساءِ؛ أحدُهما المفروضُ له، والآخرُ غيرُ المفروضِ له، وذلك أنه لمَّا قال:{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . عُلِم أن الصنفَ الآخرَ هو المفروضُ له، وأنها المطلَّقةُ المفروضُ لها قبلَ المَسيسِ؛ لأنه قال:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . ثم قال

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أحدها".

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 302

تعالى ذكرُه: {وَمَتِّعُوهُنَّ} . فأوْجَب المتعةَ للصِّنْفَين منهن جميعًا؛ المفروضِ لهن، وغيرِ المفروضِ لهن. فمن ادَّعَى أن ذلك لأحدِ الصِّنْفَين، سُئِل البُرْهَانَ على دَعْواه مِن أصلٍ أو نَظيرٍ، ثم عُكِس عليه القولُ في ذلكَ، فلن يقولَ في شيءٍ منه قولًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.

وأرَى أن المتعةَ للمرأةِ حقٌّ واجبٌ إذا طُلِّقَت، على زوجِها المطلِّقِها - على ما بيَّنا آنفًا - يُؤْخَذُ بها الزوجُ، كما يُؤْخَذُ بصَداقِها، لا يُبْرِئُه منها إلا أداؤُه إليها، أو إلى مَن يَقومُ مَقامَها في قبضِها منه، أو ببراءةٍ تكونُ منها له. وأَرَى أن سبيلَها سبيلُ صَداقِها وسائرِ دُيونِها قِبَلَه، يُحْبَسُ بها

(1)

إن طلَّقَها فيها، إذا لم يكنْ له شيءٌ ظاهرٌ يُباعُ عليه، إذا امْتَنَع مِن إعطائِها ذلك.

وإنما قلْنا ذلك؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ} . فأمَر الرجالَ أن يُمَتِّعُوهن، وأمْرُه فرضٌ، إلا أن يُبَيِّنَ تعالى ذكرُه أنه عنَى به الندبَ والإرْشادَ، لما قد بيَّنّا في كتابِنا المُسَمَّى بـ "لطيفِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ"؛ لقوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . ولا خلافَ بينَ جميعِ أهلِ التأويلِ أن معنى ذلك: وللمطلَّقاتِ على أزواجِهن متاعٌ بالمعروفِ. وإذا كان ذلك كذلك، فلن يَبْرَأَ الزوجُ مما لها عليه إلا بما وصَفْنا قبلُ؛ مِن أداءٍ أو إبْراءٍ

(2)

على ما قد بيَّنّا.

فإن ظن ذو غَباءٍ أن اللَّهَ تعالى ذكرُه إذ قال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . أنها غيرُ واجبةٍ؛ لأنها لو كانت واجبةً لَكانت على المُحْسِنِ

(3)

وغيرِ المُحْسِنِ

(3)

، والمُتَّقِي وغيرِ المُتَّقِي؛ فإن اللَّهَ تعالى ذكرُه قد أمرَ جميعَ خلقِه بأن

(1)

في م: "لها".

(2)

في ص: "براءة".

(3)

في ت 1، ت 2، ت 3:"المحسنين".

ص: 303

يكونوا مِن المحسنين ومِن المتقين، وما وجَب مِن حقٍّ على أهلِ الإحسانِ والتُّقَى، فهو على غيرِهم أَوْجَبُ، ولهم ألْزَمُ.

وبعدُ، فإن في إجماعِ الحُجَّةِ على أن المتعةَ للمطلَّقةِ غيرِ المفروضِ لها قبلَ المَسِيسِ واجبةٌ بقولِه:{وَمَتِّعُوهُنَّ} وجوبَ نصفِ الصَّداقِ للمطلَّقةِ المفروضِ لها قبلَ المَسِيسِ، قال اللَّهُ تعالى ذكرُه فيما أوْجَب لها مِن ذلك الدليلَ الواضحَ أن ذلك حقٌّ واجبٌ لكلِّ مطلَّقةٍ بقولِه:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . وإن كان قال: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .

ومَن أَنْكَر ما قلْنا في ذلك، سُئِل عن المتعةِ للمطلَّقةِ غيرِ المفروضِ لها قبلَ المَسِيسِ، فإن أنْكَر [وجوبَه خرَج]

(1)

من قولِ جميعِ الحُجَّةِ، ونُوظِر مُناظرتَنا المُنْكِرِين في عشرين دينارًا زكاةً، والدافعين زكاةَ العُروضِ

(2)

إذا كانت للتجارةِ، وما أشْبَهَ ذلك. فإن أَوْجَب ذلك لها، سُئِل الفرقَ بينَ وجوبِ ذلك لها والوجوبِ لكلِّ مطلَّقةٍ، وقد شُرِط فيما جعَل لها مِن ذلك بأنه

(3)

حقٌّ على المحسنين

(4)

، كما شُرط فيما جعَل للآخرِ بأنه حقٌّ على المتقين، فلن يقولَ في أحدِهما

(5)

قولًا إلا أُلْزِم في الآخرِ مثلَه.

وأجْمَع الجميعُ على أن المطلَّقةَ غيرَ المفروضِ لها قَبلَ المَسِيسِ، لا شيءَ لها على زوجِها المطلِّقِها غيرُ المتعةِ.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وجوب".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"المفروض".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فإنه".

(4)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المحسنين".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إحداهما".

ص: 304

‌ذكرُ بعضِ مَن قال ذلك مِن الصحابةِ والتابعين رضي الله عنهم

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ ويونُسُ بنُ عبدِ الأعْلَى، قالا: ثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه قبلَ أن يَفْرِضَ لها، وقبلَ أن يَدْخُلَ بها، فليس لها إلا المتاعُ

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن يونُسَ، قال: قال الحسنُ: إن طلَّق الرجلُ امرأتَه ولم يَدْخُلْ بها ولم يَفْرِضْ لها، فليس لها إلا المتاعُ

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، قال: أَخْبَرَنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: إذا تزَوَّج الرجلُ المرأةَ، ثم طلَّقها ولم يَفْرِضُ لها، فإنما لها المتاعُ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، عن يونُسَ، عن ابن شِهابٍ، قال: إذا تزَوَّج الرجلُ المرأةَ ولم يَفْرِضْ لها، ثم طلَّقها قبلَ أَن يَمَسَّها وقبلَ أن يُفْرِضَ لها، فليس لها عليه إلا المتاعُ بالمعروفِ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . قال: ليس لها صَداقٌ إلا متاعٌ بالمعروفِ

(5)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1782)، وابن أبي شيبة 5/ 154، وابن حزم 11/ 604، من طريق سفيان بن عيينة به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 154 من طريق يونس به.

(3)

تقدم تخريجه في ص 297.

(4)

تقدم تخريجه في ص 299.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12235) من طريق ابن أبي نجيح به.

ص: 305

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ بنحوِه، إلا أنه قال: ولا متاعَ إلا بالمعروفِ.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} إلى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} . قال: هذا الرجلُ تُوهَبُ له، فيُطَلِّقُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فإنما عليه المتعةُ.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، قال في هذه الآيةِ: هو الرجلُ يَتَزَوَّجُ المرأةَ ولا يُسَمِّي لها صَداقًا، ثم يُطَلِّقُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فلها مَتاعٌ بالمعروفِ، ولا فَريضةَ لها.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه

(1)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سَمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: [حَدَّثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال]

(2)

: سمِعْتُ الضَّحَّاكَ يقولُ في قولِه: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} : هذا رجلٌ وُهِبَت له امرأتُه، فطلَّقَها مِن قبلِ أن يَمَسَّها، فلها المتعةُ، ولا فَريضةَ لها، وليست عليها عِدَّةٌ

(3)

.

وأما المُوسِعُ، فهو الذي قد صار مِن عيشِه إلى سَعَةٍ وغِنًى، يُقالُ منه: أوْسَع فلانٌ فهو يُوسِعُ إيساعًا، وهو مُوسِعٌ. وأما المُقْتِرُ: فهو المُقِلُّ مِن المالِ، يُقالُ: قد أقْتَر فهو يُقْتِرُ إِقْتارًا، وهو مُقْتِرٌ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 442 عقب الأثر (2348) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

سقط من النسخ، وهو إسناد دائر.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 442 عقب الأثر (2348) معلقًا.

ص: 306

واخْتَلَفت القَرأةُ في قراءةِ "القَدَرِ"؛ فقرَأه بعضُهم: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} . بتحريكِ الدالِ إلى الفتحِ مِن "القَدَرِ"

(1)

، توجيهًا منهم ذلك إلى الاسمِ مِن التقديرِ الذي هو مِن قولِ القائلِ: قدَر فلانٌ هذا الأمرَ.

وقرأ آخَرون بتسكينِ الدالِ منه

(2)

، توجيهًا منهم ذلك إلى المصدرِ مِن ذلك، كما قال الشاعرُ

(3)

:

وما صَبَّ رِجْلِي

(4)

في حديدِ مُجاشِعٍ

مع القَدْرِ إلا حاجةٌ لي أُرِيدُها

والقولُ في ذلك عندي أنهما جميعًا قراءتان قد جاءَت بهما الأُمَّةُ، ولا تُحِيلُ القراءةُ بإحداهما معنًى في الأخرَى، بل هما مُتَّفِقَتا المعنى، فبأيِّ القراءتين قرَأ القارئُ ذلك، فهو للصوابِ مُصِيبٌ. وإنما يَجوزُ اخْتيارُ بعضِ القراءاتِ على بعضٍ؛ لبَيْنونةِ المُخْتارَةِ على غيرِها بزيادةِ معنًى أوْجَبَت لها الصحةَ دونَ غيرِها، وأمّا إذا كانت المعاني في جميعِها متفقةً، فلا وجهَ للحكمِ لبعضِها بأنه أوْلَى أن يكونَ مَقْروءًا به مِن غيرِه.

فتأويلُ الآيةِ إذن: لا حَرَجَ عليكم أيُّها الناسُ لأن طلَّقْتُم النساءَ وقد فرَضْتُم لهن ما لم تُماسُّوهن

(5)

، أو

(6)

أن طلَّقْتُموهن ما لم تُماسُّوهن قبلَ أن تَفْرِضوا لهن، ومتِّعوهن

(1)

وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 184.

(2)

هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم. السبعة ص 184.

(3)

هو الفرزدق كما في اللسان (ص ب ب)، ونقله عنه في شرح ديوانه ص 215، وهو في اللسان أيضًا (ق ر ر). وقال التبريزى في تهذيب إصلاح المنطق 1/ 168: ذكر يعقوب أن هذا البيت للفرزدق، ولم أجده في شعره ولا في أخباره.

(4)

يقال: صُبّ رجلا فلان في القيد: إذا قُيِّد. اللسان (ص ب ب).

(5)

في ت 2: "تمسوهن".

(6)

في م: "و".

ص: 307

جميعًا، على ذي السَّعةِ والغِنَى منكم مِن مَتاعِهن حينَئذٍ بقدْرِ غناه وسَعَتِه، وعلى ذي الإقْتارِ والفاقَةِ منكم منه بقدْرِ طاقتِه وإقْتارِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك: ومتِّعوهن متاعًا. وقد يَجوزُ أن يَكونَ {مَتَاعًا} منصوبًا قطعًا

(1)

مِن "القَدَرِ"؛ لأن "المتاعَ" نكرةٌ، "والقَدَرَ" معرفةٌ.

ويعني بقولِه: {بِالْمَعْرُوفِ} : بما أمَرَكم اللَّهُ به مِن إعطائكموهن

(2)

ذلك بغيرِ ظلمٍ، ولا مُدافعةٍ منكم لهن به.

ويعني بقولِه: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} : متاعًا بالمعروفِ الحقِّ على المحسنين. فلمَّا دلَّ إدخالُ الألفِ واللامِ على "الحقِّ"، وهو مِن نعتِ "المعروفِ"، و"المعروفُ" معرفةٌ، و"الحقُّ" نكرةٌ، نُصِب على القَطْعِ منه، كما يقالُ: أتاني الرجلُ راكبًا. وجائزٌ أن يكونَ نُصِب على المصدرِ مِن جملةِ الكلامِ الذي قبلَه، كقولِ القائلِ: عبدُ اللَّهِ عالمٌ حقًّا. فـ "الحقُّ" منصوبٌ مِن نيةِ كلامٍ المُخْبِرِ، كأنه قال: أُخْبرُكم بذلك حقًّا. والتأويلُ الأولُ هو وجهُ الكلامِ؛ لأن معنى الكلامِ: فمتَّعوهن متاعًا بمعروفٍ حقٍّ على كلِّ مَن كان منكم محسنًا.

وقد زعَم بعضُهم

(3)

أن ذلك منصوبٌ بمعنى: أُحِقُّ ذلك حقًّا. والذي قاله مِن ذلك بخلافِ ما دلَّ عليه ظاهرُ التلاوةِ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه جعَل المتاعَ للمطلَّقاتِ حقًّا لهن على أزواجِهن، فزعَم قائلُ هذا القولِ أن معنى ذلك أن اللَّهَ تعالى

(1)

القطع هو الحال.

(2)

في م: "إعطائكم لهن".

(3)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 154.

ص: 308

ذكرُه أَخْبَر عن نفسِه أنه يُحِقُّ أن ذلك على المحسنين.

فتأويلُ الكلامِ إذن - إذ كان الأمرُ كذلك -: ومَتِّعوهن على المُوسِعِ قَدَرُه، وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه، متاعًا بالمعروفِ الواجبِ على المحسنين.

ويعني بقوله: {الْمُحْسِنِينَ} : الذين يُحْسِنون إلى أنفسِهم في المُسارَعةِ إلى طاعةِ اللَّهِ فيما أَلْزَمَهم به، وأدائِهم ما كلَّفَهم مِن فرائضِه.

فإن قال قائلٌ: إنك قد ذكَرْتَ أن الجُناحَ هو الحرجُ، وقد قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . فهل علينا مِن جُناحٍ لو طلَّقْناهن بعدَ المَسِيسِ فيُوضَعَ عنا بطلاقِناهن

(1)

قبلَ المَسِيسِ؟

قيل: قد رُوِي عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن اللَّهَ لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِين ولا الذَّوَّاقاتِ

(2)

".

حدَّثنا بذلك ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ وعبدُ الأعْلَى، عن سعيد، عن قتادةَ، عن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بالُ أقوامٍ

(4)

يَلْعَبون بحدودِ اللَّهِ، يَقُولون: قد

(1)

في م: "بطلاقنا إياهن".

(2)

قال ابن الأثير في النهاية 2/ 172 يعني السريعي النكاح السريعي الطلاق. وقال الزمخشري في أساس البلاغة (ذ و ق): كلما تزوج أو تزوجت مد عينه أو مدت عينها إلى أخرى أو آخر.

(3)

أخرجه الدارقطني في الأفراد - كما في المقاصد الحسنة (1281) - من طريق سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 253 من طريق ليث، عن شهر بن حوشب مرسلا. وفي الباب عن أبي موسى وعبادة بن الصامت. ينظر مجمع الزوائد 4/ 335، والبزار (1497، 1498 - كشف)، والطبراني في الأوسط (7848)، وكشف الخفا 1/ 304، 2/ 346، وغاية المرام في تخريج الحلال والحرام (255، 256).

(4)

في ص، ت 1، ت 2:"قوم".

ص: 309

طلَّقْتُكِ، قد راجَعْتُكِ، قد طلَّقْتُكِ".

حدَّثنا بذلك ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي بُرْدةَ، عن أبيه، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فجائزٌ أن يَكونَ الجُناحُ الذي وُضِع عن الناسِ في طلاقِهم نساءَهم قبلَ المَسِيسِ، هو الذي كان يَلْحَقُهم منه بعدَ ذوقِهم إياهن، كما رُوي عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقد كان بعضُهم يقولُ: معنى قوله في هذا الموضعِ: {لَا جُنَاحَ} : لا سبيلَ عليكم للنساءِ - إن طلَّقْتُموهن مِن قبلِ أن تَمَسُّوهن، ولم تَكونوا فرَضْتُم لهن فريضةً - في إتْباعِكم بصَداقٍ ولا نفقةٍ. وذلك مذهبٌ، لولا ما قد وصَفْتُ مِن أن المَعْنيَّ بالطلاقِ قبلَ المَسِيسِ في هذه الآيةِ صِنْفان مِن النساءِ؛ أحدُهما المفروضُ لها، والآخرُ غيرُ المفروضِ لها، فإذ كان ذلك كذلك، فلا وجهَ لأن يُقالَ: لا سبيلَ لهن عليكم في صَداقٍ. إذا كان الأمرُ على ما وصَفْنا.

وقد يَحْتَمِلُ ذلك أيضًا وجهًا آخرَ، وهو أن يكونَ معناه: لا جُناحَ عليكم إن طلَّقْتُم النساءَ ما لم تمسُّوهن

(2)

، في أيِّ وقتٍ شئْتُم طلاقَهن؛ لأنه لا سُنَّةَ في طلاقِهن، فللرجلِ أن يُطَلِّقَهن إذا لم يَكُنْ مسَّهن، حائضًا وطاهرًا، في كلِّ وقتٍ أحَبَّ، وليس ذلك كذلك في المدخولِ بها التي قد مُسَّت؛ لأنه ليس لزوجِها طلاقُها إن كانت مِن أهلِ الأقْراءِ إلا للعدةِ طاهرًا، في طهرٍ لم يُجامِعْ فيه. فيكونُ الجُناحُ الذي أُسْقِط عن مطلِّقِ التي لم يَمَسَّها

(3)

في حالِ حيضِها، هو الجُناحَ الذي كان به مأخوذًا المطلِّقُ بعدَ الدخولِ بها في حالِ حيضِها أو في طُهرٍ قد جامَعَها فيه.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2017) عن ابن بشار به. وينظر مسند الطيالسي (529).

(2)

في ص، م، ت 2:"تماسوهن".

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"يمسهن".

ص: 310

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} .

وهذا الحكمُ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه إبانةٌ عن قولِه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . وتأويلُ ذلك: لا جُناحَ عليكم أيُّها الناسُ إن طلَّقْتُم النساءَ ما لم تمسُّوهنَّ

(1)

وقد فرَضْتُم لهن فريضةً، فلهن عليكم نصفُ ما كنتُم فرَضتُم لهن مِن قبلِ طلاقِكم إياهن. يعني بذلك: فلهن عليكم نصفُ ما أَصْدَقْتُموهن.

وإنما قلْنا: إن تأويلَ ذلك كذلك؛ لِما قد قدَّمنا البيانَ عنه مِن أن قولَه: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . بيانٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه لعبادِه حكمَ غيرِ المفروضِ لهن

(2)

إذا طلَّقَهن قبلَ المَسِيسِ. فكان معلومًا بذلك أن حكمَ اللَّواتي عطَف عليهن بـ {أَوْ} غيرُ حكمِ المعطوفِ بهن بها.

وإنما كرَّر تعالى ذكرُه قولَه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} . وقد مضَى ذكرُهن في قولِه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . لِيَزولَ الشكُّ عن سامِعِيه واللَّبْسُ عليهم، مِن أن يَظُنُّوا

(3)

أن التي حكمُها الحكمُ الذي وصَفَه في هذه الآيةِ، هي غيرُ التي ابْتَدَأ بذكرِها وذكرِ حكمِها في الآيةِ التي قبلَها.

وأما قولُه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . فإنه يعني: إلا أن يَعْفُوَ اللَّواتي وجَب لهن عليكم نصفُ تلك الفريضةِ، فيَتْرُكْنه لكم ويَصْفَحْنَ لكم عنه؛ تَفَضُّلًا منهن بذلك

(1)

في ص: "تماسوهن".

(2)

في ص، ت 2:"لمن".

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"من".

ص: 311

عليكم، إن كنَّ ممَّن يَجوزُ حكمُه في مالِه، وهن بَوالغُ رَشِيداتٌ، فَيَجوزُ عَفْوُهن حينَئذٍ عما

(1)

عفَوْن عنكم مِن ذلك، فيَسْقُطُ عنكم ما كنَّ عَفَوْن لكم عنه منه، وذلك النصفُ الذي كان وجَب لهن مِن الفريضةِ بعدَ الطلاقِ وقبلَ العفوِ إن عفَتْ عنه، أو ما عفَتْ عنه.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} : فهذا الرجلُ يَتَزَوَّجُ المرأةَ وقد سمَّى لها صَداقًا، ثم يُطَلِّقُها مِن قبلِ أن يَمَسَّها، فلها نصفُ صَداقِها، ليس لها أكثرُ مِن ذلك

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . قال: إن طلَّق الرجلُ امرأتَه وقد فرَض لها، فنصفُ ما فرَض، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"ما".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 (2356)، والبيهقي 7/ 254، 255 من طريق عبد الله بن صالح به.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2356) معلقًا.

ص: 312

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} : فنسَخَت هذه الآيةُ ما كان قبلَها، إذا كان لم يَدْخُلْ بها، وقد كان سَمَّى لها صَداقًا، فجعَل لها النصفَ، ولا مَتاعَ لها.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . قال: هو الرجلُ يَتَزَوَّجُ المرأةَ، وقد فرَض لها صَداقًا، ثم طلَّقَها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فلها نصفُ ما فرَض لها، ولها المتاعُ، ولا عِدَّةَ عليها.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: حدثني الليثُ، عن يونُسَ، عن ابن شِهابٍ:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . قال: إذا طلَّق الرجلُ المرأةَ، وقد فرَض لها، ولم يَمَسَّها

(1)

، فلها نصفُ صَداقِها، ولا عِدَّةَ عليها.

‌ذكرُ مَن قال في قولِه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} القولَ الذي ذكَرْناه مِن التأويلِ

حدَّثني المثنى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخْبَرَنا ابن المباركِ، قال: أخْبَرنا يحيَى بنُ بشرٍ

(2)

، أنه سمِع عكرمةَ يقولُ: إذا طلَّقَها قبلَ أن يَمَسَّها وقد فرَض لها، فنصفُ الفريضةِ لها عليه، إلا أن تَعْفُوَ عنه فتَتْرُكَه

(3)

.

(1)

في ص، ت 2:"يمسسها".

(2)

في ت 1: "بشير".

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) معلقًا.

ص: 313

حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: حدثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سِمعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: المرأةُ تَتْرُكُ الذي لها

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بن صالحٍ، قال: ثني مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباس:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : هي المرأةُ الثَّيِّبُ أو البِكْرُ يُزَوِّجُها غيرُ أبيها، فجعَل اللهُ العفوَ إليهن؛ إن شِئْن عفوْن فتَرَكُن، وإن شئْن أَخَذْنَ نصفَ الصَّداقِ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مُجاهد:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : تَتْرُكُ المرأةُ شَطْرَ صَداقها، وهو الذي لها كلُّه

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: المرأةُ تَدَعُ لزوجِها النصفَ

(4)

.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنى عبدُ اللَّهِ بنُ عونٍ، عن محمدِ بن سيرينَ، عن شُرَيْحٍ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: إن شاءَت المرأةُ عفَت فترَكَت الصَّداق

(5)

.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) معلقًا. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 426.

(2)

أخرجه البيهقى 7/ 252 من طريق عبد الله بن صالح به.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) معلقًا، وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 426.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 328، والبيهقى 7/ 251 من طريق ابن عون به.

ص: 314

حدَّثنا حميد بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بن المفضَّلِ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عونٍ، عن محمدِ بن سِيرِينَ، عَن شُرَيْحٍ مثلَه.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ، عن نافعٍ قولَه:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : هي المرأةُ يُطَلِّقُها زوجُها قبلَ أَن يَدْخُلَ بها، فتَعْفُو عن النصفِ لزوجِها

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : أما {أَنْ يَعْفُونَ} فالثَّيِّبُ أن تَدَعَ مِن صداقِها أو تَدَعَه كلَّه

(2)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني الليثُ، عن يونُسَ، عن ابن شِهابٍ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: العفوُ إليهن، إذا كانت المرأةُ ثَيِّبًا فهى أولى بذلك، ولا يَمْلِكُ ذلك عليها وليٌّ؛ لأنها قد ملَكَتَ أمْرَها، فإِن أَرادَت أَن تَعْفُوَ فَتَضَعَ له نصفَها الذي لها عليه مِن حقِّها جاز ذلك، وإن أرادَت أَخْذَه فهى أمْلَكُ بذلك

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أَخْبَرَنا ابن المباركِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قال: حدَّثني ابن شِهَابٍ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: النساءُ

(4)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ، عن إسرائيلَ، عن السديِّ، عن أبي صالحٍ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: الثيبُ تَدَعُ صَداقَها

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280، 281 عن عبد الوهاب الثقفى به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) من طريق عمرو به.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) معلقًا.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10854) عن معمر به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 عقب الأثر (2358) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدى، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

ص: 315

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ حمادُ بنُ زيدِ بن أُسامةَ، قال: ثنا إسماعيلُ، عن الشعبيِّ، عن شُرَيْحٍ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: قال: تَعْفُو المرأةُ عن الذي لها كلُّه

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: ما سمِعْتُ أحدًا يقولُ: حمادُ بنُ زيدِ بن أسامةَ. إلا أبا هشامٍ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا عَبْدةُ، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ، قال: إن شاءَت عفَت عن صَداقِها. يعنى في قولِه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}

(3)

.

حدَّثنا أبو

(4)

هشامٍ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن أبي حُصَيْنٍ، عن شُرَيْحٍ، قال: تَعْفُو المرأةُ وتَدَعُ نصفَ الصداقِ

(5)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال الزُّهريُّ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : الثَّيِّبات

(6)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: تَتْرُكُ المرأةُ شَطْرَها

(7)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : يعنى النساءَ

(8)

.

(1)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 248 من طريق يعلى عن إسماعيل به.

(2)

صوابه: حماد بن أسامة بن زيد. ينظر: تهذيب الكمال 7/ 217.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280 عن عبدة به.

(4)

في النسخ: "ابن".

(5)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 288 من طريق إسرائيل به.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282 عن ابن علية به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10855) عن ابن جريج به.

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 4/ 280 عن ابن علية به.

(8)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى المصنف.

ص: 316

حدَّثني يونس، قال: أَخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : إن كانت ثيبًا عفَتْ.

حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ قولَه:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : يعنى المرأة

(1)

.

حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدٌ، وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، جميعًا عن سفيانَ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: المرأةُ إذا لم يَدْخُلْ بها، أن تَتْرُكَ له المهرَ، فلا تَأْخُذُ منه شيئًا.

‌القول في تأويلِ قولِه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مَن عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . فقال بعضُهم: هو وليُّ البِكْرِ. وقالوا: ومعنى الآيةِ: أو يَتْرُكَ الذي يَلِى على المرأةِ عقدَ نكاحِها مِن أوليائِها للزوجِ النصفَ الذي وجَب للمطلَّقةِ عليه قبل مَسِيسه، فيَصْفَحَ له عنه، إن كانت الجاريةُ ممَّن لا يَجوزُ لها أمرٌ في مالِها.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن ابن جُرَيج، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ، قال: قال ابن عباسٍ رضي الله عنه: [أذِن اللهُ في]

(2)

العفوِ وأمرَ به، فإن عفَت فكما عفَت، وإن ضنَّت

(3)

وعفا وليُّها، جاز وإن أبَتْ

(4)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 96 وفى مصنفه (10854).

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"رضيت".

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 444 (2358) من طريق ابن علية به، =

ص: 317

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : وهو أبو الجاريةِ البِكْرِ، جَعَل اللهُ سبحانَه العفوَ إليه، ليس لها معه أمرٌ إذا طُلِّقَت ما كانت في حَجْرِه

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الوليُّ

(2)

.

حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: قال علقمةُ: هو الوليُّ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ أنه قال: هو الوليُّ

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مَعْمَرٌ، عن حَجَّاجٍ، عن النَّخعيِّ، عن علقمةَ، قال: هو الوليُّ

(4)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ، عن شيبانَ

(5)

النَّحْويِّ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ وأصحابِ عبدِ اللهِ، قالوا: هو الوليُّ.

= وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10852) عن ابن جريج به، وأخرجه الدارقطنى 3/ 280 والبيهقي 7/ 252 من طريق عمرو به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(1)

تتمة الأثر المتقدم في ص 314.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282 والبيهقى 7/ 252 من طريق شعبة وعبد الله بن إدريس، عن الأعمش به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (386 - تفسير) عن أبي معاوية وعيسى بن يونس به.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10856) عن سفيان الثورى به.

(5)

في النسخ: "بيان". وينظر: تهذيب الكمال 12/ 592.

ص: 318

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ أنه قال: هو الوليُّ.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مَعْمَرٌ، عن حَجاجٍ، أن الأسودَ بنَ يزيدَ

(1)

قال: هو الوليُّ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ، عن شعبةَ، عن أبي بِشْرٍ، قال: قال طاوسٌ ومجاهدٌ: هو الوليُّ. ثم رجَعا فقالا: هو الزوجُ

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أَخْبَرَنا أبو بشرٍ، قال: قال مجاهدٌ وطاوسٌ: هو الوليُّ. ثم رجَعا فقالا: هو الزوجُ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، قال: هو الوليُّ.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغيرةَ، عن الشعبيِّ، قال: زوَّج رجلٌ أُختَه، فطلَّقها زوجُها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فعفا أخوها عن المَهْرِ، فأجازه شُرَيْحٌ. ثم قال: أنا أَعْفُو عن نساءِ بنى مُرَّةَ. فقال عامرٌ: لا واللهِ، ما قَضَى قَضاءً قطُّ أحمقَ

(3)

منه؛ أن يُجيزَ عفْوَ الأخِ في قولِه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . فقال فيها شُرَيْحٌ بعدُ: هو الزوجُ، إن عفا عن الصداق كلِّه، فسلَّمه إليها كلَّه، أو عفَت هي عن النصفِ الذي سمَّى لها، وإن تَشاحَّا كلاهما، أَخَذَت نصفَ صَداقِها. قال: وأَن تَعْفُوا هو

(4)

أَقرَبُ للتَّقْوَى

(5)

.

(1)

في م: "زيد".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 281 عن أبي خالد به.

(3)

في النسخ: "أحق". والمثبت من مصدرى التخريج.

(4)

سقط من: م، ت 2. على أنه لفظ الآية.

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في (390، 391 - تفسير) - ومن طريقه البيهقى في 7/ 251 عن جرير به.

ص: 319

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، قال: ثنا جَريرُ بنُ حازمٍ، عن عيسى بن عاصمٍ الأسديِّ، أن عليًّا سأَل شُريحًا عن الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ، فقال: هو الوليُّ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: مُغيرةُ أَخْبَرَنَا عَن الشَّعبيِّ، عن شُرَيْحٍ أنه كان يقولُ: الذي يبدهِ عُقْدَةُ النكاحِ هو الوليُّ. ثم ترَك ذلك، فقال: هو الزوجُ

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، عن الشعبيِّ، أن رجلًا تزَوَّج امرأةً فوجَدَها دَمِيمةً، فطلَّقها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فعفا وليُّها عن نصفِ الصداقِ، قال: فخاصَمَتْه إلى شُريحٍ، فقال لها شُريحٌ: قد عفا وليُّك. قال: ثم إنه رجَع بعدَ ذلك، فجعَل الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ الزوجَ.

حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، الحسنِ في {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}. قال: الوليُّ

(3)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن منصورٍ أو غيرِه، عن الحسنِ، قال: هو الوليُّ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، قال: هو الوليُّ

(4)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن أبي رَجاءٍ، قال: سُئِل الحسنُ عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 455 (2360)، والدارقطني 3/ 278، والبيهقى 7/ 251، من طريق جرير بن حازم به.

(2)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 248، 262 من طريق الشعبى به.

(3)

أخرجه البيهقى 7/ 252 من طريق سعيد به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282 عن ابن إدريس به.

ص: 320

{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: هو الوليُّ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن يزيدَ بن إبراهيمَ، عن الحسنِ، قال: هو الذي أَنْكَحَها.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن مُغِيرة، عن إبراهيمَ، قال: الذي بيدِه عُقْدُة النكاحِ هو الوليُّ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكِيعٌ وابنُ مَهْديٍّ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: هو الوليُّ

(3)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن مَهْديٍّ، عن أبي عَوانةَ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ والشعبيِّ، قالا: هو الوليُّ.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: أَخْبَرَنا ابن جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: هو الوليُّ

(4)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ، عن إسرائيلَ، عن السديِّ، عن أبي صالحٍ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: وليُّ العَذْراءِ.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال لى الزهريُّ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : وليُّ البِكْرِ

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282 عن ابن علية به.

(2)

تفسير مجاهد ص 238 من طريق المغيرة به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (387 - تفسير) - ومن طريقه البيهقى 7/ 252 - من طريق منصور به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282 عن ابن علية به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10851) عن ابن جريج به.

(5)

تتمة الأثر المتقدم في ص 316.

ص: 321

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: و ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : هو الوليُّ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبد الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قال: أخْبَرَنا ابن طاوسٍ، عن أبيه، وعن رجلٍ، عن عكرمةَ، قال مَعْمَرٌ: وقاله الحسنُ أيضًا، قالوا: الذي بيدِه عُقدةُ النكاحِ الوليُّ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ، قال: أَخْبَرَنا عبد الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ، قال: الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ الأبُ

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ، قال: هو الوليُّ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن سالِمٍ، عن مجاهدٍ، قال: هو الوليُّ.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، السديِّ:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : هو وليُّ البكرِ.

حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : الوالدُ. ذكَره ابن زيدٍ عن أبيه.

حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرَنا ابن وهبٍ، عن مالكٍ، عن زيدٍ وربيعةَ:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : الأبُ في ابنتِه البكرِ، والسيدُ في أمَتِه.

(1)

تتمة الأثر المتقدم ص 306.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 96، وفى مصنفه (10853).

(3)

تتمة الأثر المتقدم في ص 317، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 282 من طريق معمر به.

(4)

تقدم تخريجه في ص 318.

ص: 322

حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال مالكٌ: وذلك إذا طُلِّقَت قبلَ الدخولِ بها، فله أن يَعْفُوَ عن نصفِ الصداقِ الذي وجَب لها عليه، ما لم يَقَعْ طلاقٌ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى الليثُ، عن يونُسَ، عن ابن شِهابٍ، قال:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : هي البكرُ التي يَعْفُو وليُّها، فيَجوزُ ذلك، ولا يَجوزُ عفوُها هي.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ المباركِ، قال: أَخْبَرَنا يحيى بنُ بشرٍ، أنه سمِع عكرمةَ يقولُ:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : أن تَعْفُو المرأةُ عن نصفِ الفَريضةِ لها عليه فتَتْرُكَه، فإن هي شحَّت إلا أن تَأْخُذَه فلها، ولوليِّها الذي أَنْكَحَها الرجلَ - عمٌّ أو أخٌ أو أبٌ - أن يَعْفُوَ عن النصفِ، فإنه إن شاء فعَل وإن كرِهَت المرأةُ.

حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيعِ الرازيُّ

(2)

، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ، قال: أذِن اللهُ في العفوِ وأمَر به، فإنِ امرأةٌ عفَت جاز عفوُها، وإن شحَّت وضنَّت عفا وليُّها، وجاز عفوُه

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الوليُّ

(4)

.

(1)

بعده بياض في ص. وفى حاشية المطبوعة: قوله: ما لم يقع طلاق. يظهر أنه زيادة من قلم الناسخ، وفى محله بياض في بعضها، أو لعله يريد: ما لم يقع دخول.

وينظر قول مالك في الموطأ 2/ 528 بنحو ما هنا، دون الجملة الأخيرة.

(2)

في النسخ: "المرادى". والمثبت من ذيل المذيل ص 574، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 426.

(3)

في ص، ت 2:"عفوها".

والأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه (389 - تفسير)، ومن طريقه البيهقى 7/ 252، عن سفيان به.

(4)

تقدم تخريجه في ص 321.

ص: 323

وقال آخَرون: بل الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ. قالوا: ومعنى ذلك: أو يَعْفُوَ الذي بيدِه نكاحُ المرأةِ، فيُعْطِيَها الصَّداقَ كاملًا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عَثْمةَ

(1)

، قال: ثنا شُعَيْبٌ

(2)

، عن الليث، عن قَتادةَ، عن خِلاسِ بن عمرٍو، عن عليٍّ، قال: الذي بيده عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: ثنا جَريرُ بنُ حازمٍ، عن عيسى بن عاصمٍ الأسَديِّ، أن عليًّا سأَل شُرِيحًا عن الذي بيدِهِ عُقْدَةُ عُقْدة النكاحِ، فقال: هو الوليُّ. فقال عليٌّ

(3)

: لا، ولكنه الزوجُ

(4)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا إبراهيمُ، قال: ثنا جَريرُ بن حازمٍ، عن عيسى بن عاصمٍ، قال: سمِعْتُ شُرَيحًا قال: قال لى عليٌّ: مَن الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ؟ قلتُ: وليُّ المرأةِ. قال: لا، بل هو الزوجُ.

حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا ابن مَهْديٍّ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن عمارِ بن أبى عمارٍ، عن ابن عباسٍ، قال: هو الزوجُ

(5)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: قلتُ لحمادٍ بن سلمةَ: مَن الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ؟ فذكَر عن عليِّ بن زيدٍ، عن عمارِ بن أبي عمارٍ، عن ابن

(1)

في م: "شحمة". وينظر تهذيب الكمال 25/ 143.

(2)

في النسخ: "حبيب". وقد تقدم.

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"وأين أبو حرو".

(4)

تقدم تخريجه في ص 320.

(5)

أخرجه الدارقطنى 3/ 280 من طريق أبى هشام الرفاعي به.

ص: 324

عباسٍ، قال: الزرجُ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ، قال: أَخْبَرَنا إسرائيلُ، عن خُصيفٍ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: هو الزوجُ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن ابن عباسٍ وشُرَيْحٍ، قالا: هو الزوجُ

(3)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن مَهْديٍّ، عن عبدِ اللهِ بن جعفرٍ، عن واصلِ بن أبى سعيدٍ، عن محمدِ بن جبيرِ بن مُطْعِمٍ، أن أباه تزَوَّج امرأةً، ثم طلَّقها قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فأَرْسَل بالصَّداقِ، وقال: أنا أحَقُّ بالعفوِ

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن صالحِ بن كَيْسانَ، أن جُبيرَ بنَ مطْعِمٍ تَزَوَّج امرأةً، فطلَّقها قبلَ أن يَبْنِىَ

(5)

بها، وأكْمَل لها الصَّداقَ، وتأَوَّل:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}

(6)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن محمدِ بن عمرٍو، عن نافعِ بن

(7)

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 281، والبيهقى 7/ 251، من طريق حماد بن سلمة به.

(2)

أخرجه الدارقطنى 3/ 280 - ومن طريقه البيهقى 7/ 251 - من طريق أبي هشام الرفاعي به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280، 281، والبيهقى 7/ 252 من طريق عبد الله بن إدريس ومروان بن معاوية وشعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم عن شريح وحده.

(4)

أخرجه الدارقطني 3/ 280 من طريق أبى هشام به، وأخرجه الشافعي 2/ 11 من طريق عبد الله بن جعفر به.

(5)

في ت 1: "يدخل".

(6)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10862) عن معمر به، وفيه أن الذي تزوج هو نافع بن جبير، وأخرجه الدارقطنى 3/ 278، 279، والبيهقى 7/ 251 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن جبير بن مطعم.

(7)

في م: "عن".

ص: 325

جُبيرٍ أنه طلَّق امرأتَه قبلَ أن يَدْخُلَ بها، فأتَمَّ لها الصَّداق، وقال: أنا أحَقُّ بالعفوِ

(1)

.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ عَوْنٍ، عن محمدِ بن سِيرينَ، عن شُرَيْحٍ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: إن شاء الزوج أعطاها الصَّداق كاملًا

(2)

.

حدثنا حُميدٌ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ عونٍ، عن محمدِ بن سِيرينَ بنحوِه.

حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن شُرَيْحٍ، قال: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ

(3)

.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، أن شُريحًا قال: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ. فرُدَّ ذلك عليه

(4)

.

حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةً، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن شُرَيْحٍ، قال: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ هو الزوجُ. قال: وقال إبراهيمُ: وما يُدْرِى شُريحًا

(5)

!

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مَعْمَرٌ، قال: ثنا حَجَّاجٌ، [عن الحكمِ]

(6)

، عن شُريحٍ، قال: هو الزوجُ

(7)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280 عن ابن إدريس به، ووقع فيه محمد بن حرب، بدلا من محمد بن عمرو.

(2)

تقدم تخريجه في ص 314.

(3)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 270 من طريق ابن مهدى به، وأخرجه أيضًا 2/ 283، 284 من طريق سفيان به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (385 - تفسير) من طريق أبي إسحاق به.

(4)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 248 من طريق عبد الوهاب به.

(5)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 279 من طريق أبي معاوية به.

(6)

سقط من النسخ. والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة، وهو المحفوظ من إسناد الطبري.

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 281 من طريق حجاج به.

ص: 326

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: أَخْبَرَنا الأعْمشُ، عن إبراهيمَ، عن شُريحٍ، قال: هو الزوجُ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو أسامة حمادُ بنُ زيدِ بن أسامةَ

(2)

، قال: ثنا إسماعيلُ، عن الشعبيِّ، عن شُرَيْحٍ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : وهو الزوجُ

(3)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا عُبيدُ

(4)

اللَّهِ، عن إسرائيلَ، عن أبي حُصَيْنٍ، عن شُرَيْحٍ قال:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: الزوجُ يُتِمُّ لها الصَّداقَ

(5)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن إسماعيلَ، عن الشعبيِّ، وعن الحجاجِ، عن الحكمِ، عن شُرَيْحٍ، وعن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن شُرَيْحٍ، قال: هو الزوجُ

(6)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، قال: ثنا إسماعيلُ، عن الشعبيِّ، عن شُرَيْحٍ، قال: هو الزوجُ، إن شاء أتَمَّ لها الصَّداق، وإن شاءَت عفَت عن الذي لها

(6)

.

حدَّثني يَعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، قال: قال شُرَيْحٌ: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ

(7)

.

(1)

تقدم تخريجه في ص 325، 326.

(2)

صوابه حماد بن أسامة بن زيد. وينظر ما تقدم في ص 316.

(3)

أخرجه الدارقطنى 3/ 281 - ومن طريقه البيهقى 7/ 251 - من طريق أبى هشام به.

(4)

في ص: "عبد".

(5)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 288 من طريق إسرائيل به.

(6)

تقدم تخريجه في ص 316، 325، 326.

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280 عن ابن علية به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10859)، ووكيع في=

ص: 327

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن ابن عَوْنٍ، عن ابن سيرينَ، عن شُرَيْحٍ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: إن شاء الزوجُ عفا، فكمَّل الصَّداقَ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا الثَّورِيُّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن شُرَيْحٍ، قال: هو الزوجُ.

حدَّثنا ابن بَشَّارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا ابن أَبى عَدِيٍّ، عن عبدِ الأعلى، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ، قال:{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: هو الزوجُ

(1)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عَبْدةُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: هو الزوجُ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن مَهْديٍّ، عن حماد بن سلمةَ، عن قيسِ بِن سعدٍ، مُجاهِدٍ، قال: هو الزوجُ.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: الزوجُ

(3)

.

حدَّثني محمد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ: {أَوْ

= أخبار القضاة 2/ 343 من طريق أيوب به.

(1)

أخرجه البيهقى 7/ 251 من طريق عبد الوهاب عن سعيد به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10860، 10861) عن معمر، عن قتادة به.

(2)

تتمة الأثر المتقدم في ص 316، وأخرج هذا الجزء منه الدارقطنى 3/ 281 من طريق عبدة به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 282 عن وكيع به.

ص: 328

يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}: زوجُها، أن يتمَّ لها الصداقَ كاملًا

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ، و

(2)

عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، وعن أيوبَ

(3)

، عن ابن سِيرينَ، عن شُريحٍ، قالوا: الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ

(4)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال مجاهدٌ: الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ الزوجُ، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}: إتمامُ الزوجِ

(5)

الصداقَ كلَّه

(6)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلية، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن أبى مُلَيْكةَ، قال: قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: الذي بيدِه عُقْدَةُ النكاحِ هو

(7)

الزوجُ

(8)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أَخْبَرَنا أبو

(9)

بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ هو الزوجُ. قال: وقال مجاهدٌ وطاوسٌ: هو الوليُّ. قال: قلتُ لسعيدٍ: فإن مجاهدًا وطاوسًا يقولان: هو الوليُّ. قال سعيدٌ: فما تَأْمُرُني إذن؟ قال: أرأَيْتَ لو أن الوليَّ عفا، وأبَتِ المرأةُ، أكان يجوزُ ذلك؟ فرجَعْتُ إليهما فحدَّثْتُهما، فرجَعا عن قولهِما، وتابَعا سعيدًا.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10858)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2366) من طريق أبي أبى نجيج به.

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

بعده في م: "و".

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 96.

(5)

في م: "الزواج".

(6)

تتمة الأثر المتقدم في ص 316.

(7)

سقط من: ص، م، ت 2.

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280 عن ابن علية به.

(9)

في ص، ت 1، ت 2:"ابن".

ص: 329

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا حُميدٌ، عن الحسنِ بن صالحٍ، عن سالمٍ الأفْطَسِ: عن سعيدٍ، قال: هو الزوجُ

(1)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن شعبةَ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدٍ، قال: هو الزوجُ. وقال طاوسٌ ومجاهدٌ: هو الوليُّ. فكلَّمْتُهما في ذلك حتى تابَعا سعيدًا

(2)

.

حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ وطاوسٍ ومُجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو الحسينِ

(3)

- يعنى زيدَ بنَ الحُبابِ - عن أَفْلَحَ بن سعيدٍ

(4)

، قال: سمِعْتُ محمدَ بنَ كعبٍ القُرَضَيَّ قال: هو الزوجُ أعْطَى ما عندَه عفوًا

(5)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا أبو داود الطَّيالسيُّ، عن زُهَيْرٍ، عن أبي إسحاقَ، عن الشعبيِّ، قال: هو الزوجُ

(6)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا عبيد

(7)

اللهِ، عن نافعٍ، قال: الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ الزوجُ، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}. قال: أما قولُه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فهى المرأةُ التي يُطَلِّقُها

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 281 عن حميد به.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 281 عن أبي خالد به.

(3)

في النسخ: "الحسن". وينظر: تهذيب الكمال 10/ 40، 41.

(4)

في ص، ت 1، ت 2:"سعد".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280 عن زيد بن الحباب به.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 281 عن أبي داود به.

(7)

في النسخ: "عبد". والمثبت مما تقدم. وينظر تهذيب الكمال 18/ 505، 29/ 301.

ص: 330

زوجُها قبلَ أن يَدْخُل بها، فإما أن تَعْفُوَ عن النصفِ لزوجِها، وإما أن يَعْفُوَ الزوجُ فيُكَمِّلَ لها صَداقَها

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ: الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ الزوجُ

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن المَسْعوديِّ، عن القاسمِ، قال: كان شُرَيْحٌ يُجاثِيهم على الرُّكَبِ، ويقولُ: هو الزوجُ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا محمدُ بنُ حربٍ، قال: حدَّثنا ابن لَهيعةَ، عن عمرِو بن شعيبٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ، يَعْفُو، أو تَعْفُو"

(4)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرَجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ الفضلَ بنَ خالدٍ، قال: أَخْبَرَنَا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . قال: الزوجُ، وهذا في المرأةِ يُطَلِّقُها زوجُها ولم يَدْخُلْ بها، وقد فرَض لها، فلها نصفُ المهرِ، فإن شاءت ترَكَت الذي لها، وهو النصفُ، وإِن شاءَت قبَضَتْه.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، وحدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن

(1)

تقدم تخريجه في ص 315.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 455 عقب الأثر (2360) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 292 من طريق المسعودى به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 445 (2359)، والطبرانى في الأوسط (6359)، والدارقطني 3/ 279، والبيهقى 7/ 251، من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وينظر تفسير ابن كثير 1/ 425.

ص: 331

سفيانَ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : الزوجُ.

حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، الضحاكِ، قال: الذي بيده عُقْدةُ النكاحِ الزوجُ

(1)

.

حدَّثنا ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا عمرُو بن أبى سلَمةَ، عن سعيدِ بن عبدِ العزيزِ، قال: سمِعْتُ تفسيرَ هذه الآيةِ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} : النساءُ، فلا يَأْخُذْنَ شيئًا، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}: الزوجُ، فيَتْرُكُ ذلك فلا يَطْلُبُ شيئًا.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مَنصورٍ، قال: قال شُرَيْحٌ في قولِه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . قال: يَعْفُو النساءُ. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الزوجُ.

وأولى القولَيْن في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: المعنيُّ بقولِه: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الزوجُ. وذلك لإجماع الجميعِ على أن ولَّى جاريةٍ بكرٍ أو ثَيِّبٍ، صبيةً صغيرةً كانت أو مُدْرِكةً كبيرةً، لو أبْرأ زوجَها مِن مَهْرِها قبلَ طلاقِه إياها، أو وهَبه له، أو عفا له عنه، أن إبراءَه ذلك وعفْوَه له عنه باطلٌ، وأن صَداقَها عليه ثابتٌ ثُبوتَه قبلَ إبرائِه إياه منه، فكان سبيلُ ما أَبْرَأَه من ذلك بعدَ طلاقِه إياها سبيلَ ما أَبْرَأَه منه قبلَ طلاقِه إياها.

وأُخْرَى، أن الجميعَ مُجْمِعون على أن وليَّ امرأةٍ مَحْجورٍ عليها أو غيرِ محجورٍ عليها، لو وهَب لزوجِها المطلِّقِها بعدَ بينونتِها منه درهمًا مِن مالِها على غيرِ وجهِ العفوِ منه عما وجَب لها مِن صَداقِها قِبَلَه، أن هِبَتَه ما وهَب مِن ذلك مَرْدودةٌ باطلةٌ، وهم مع ذلك مُجْمِعون على أن صَداقَها مالٌ مِن مالِها، فحُكْمُه حكمُ سائرِ أموالِها.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 280 من طريق جويبر به.

ص: 332

وأُخْرَى، أن الجميعَ مُجْمِعون على أن بنى أعمام المرأةِ البكرِ وبنى إخوتِها

(1)

مِن أبيها وأمِّها مِن أوليائِها، وأن بعضَهم لو عفا عن مالِها

(2)

، أو بعدَ دخولِه بها، أن عفْوَه ذلك عما عفا له عنه منه باطلٌ، وأن حقَّ المرأةِ ثابتٌ عليه بحالِه، فكذلك سبيلُ عفوِ كلِّ وليٍّ لها كائنًا مَن كان مِن الأولياءِ، والدًا كان أو جَدًّا أو أخًا؛ لأن الله تعالى ذكرُه لم يَخْصُصْ بعضَ الذين بأيديهم عقدُ النكاحِ دونَ بعضٍ في جَوازِ عفوِه، إذا كانوا ممَّن يَجوزُ حكمُه في نفسِه ومالِه.

ويُقالُ لَمن أبَى ما قلْنا ممَّن زعَم أن الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ وليُّ المرأةِ: هل يَخْلُو القولُ في ذلك مِن أحدِ أمْرَين؛ إذ كان الذي بيده عقدةُ النكاحِ هو الوليَّ عندَك؛ إما أن يكونَ ذلك كلَّ وليٍّ جاز له تَزويجُ وليَّتِه، أو يكون ذلك بعضَهم دونَ بعضٍ، فلن يَجِدَ إلى الخروجِ مِن أحدِ هذين القسمَيْن

(3)

سبيلًا.

فإن قال: إن ذلك كذلك. قيل له: فأيُّ ذلك عُنِى به؟

فإن قال: كلُّ

(4)

وليٍّ جاز له تَزْويجُ وليتِه. قيل له: أفجائزٌ للمُعْتِقِ أَمَةً تَزْوِيجُ مولاتِه بإذنِها بعد عتقِه إياها؟

فإن قال: نعم. قيل له: أفجائزٌ عفوُه إن عفا عن صَداقِها لزوجِها بعد طلاقِه إياها قبلَ المَسِيسِ؟

فإن قال: نعم. خرَج مِن قولِ الجميعِ.

وإن قال: لا. قيل له: ولمَ؟ وما الذي حظَر ذلك عليه، وهو وليُّها الذي بيدِه

(1)

في ت 1، ت 2:"أخواتها".

(2)

استظهر الشيخ شاكر أن يكون بعدها: "قبل دخوله بها".

(3)

في ت 1: "الأمرين".

(4)

في م: "لكل".

ص: 333

عقدةُ نكاحِها؟

ثم يُعْكَسُ القولُ عليه في ذلك، ويُسْألُ الفرقَ بينَه وبيَن عفوِ سائرِ الأولياءِ غيرِه.

وإن قال: لبعضٍ دون بعضٍ. سُئِل البُرهانَ على خصوصِ ذلك، وقد عمَّه اللهُ تعالى ذكرُه فلم يَخْصُصْ بعضًا دونَ بعضٍ. ويُقالُ له: مَن المَعْنيُّ به إن كان المرادُ بذلك بعضَ الأولياءِ دونَ بعضٍ؟

فإن أوْمَأ في ذلك إلى بعضٍ منهم، سُئِل البرهانَ عليه، وعُكِس القولُ فيه، وعُورِض في قولِه ذلك بخلافِ دَعواه، ثم لن يقولَ في ذلك قولًا إلا أُلزِم في الآخرِ مثلَه.

فإن ظنَّ ظانٌّ أن المرأةَ إذا فارَقَها زوجُها، فقد بطَل أن يكونَ بيده عُقْدةُ نكاحِها، واللهُ تعالى ذكرُه إنما أجاز عفوَ الذي بيدِه عقدة نكاحِ المطلَّقةِ، فكان معلومًا بذلك أن الزوجَ غيرُ مَعنيٍّ به، وأن المعنيَّ به هو الذي بيدِه عُقْدةُ نكاحِ المطلَّقةِ بعدَ بَيْنونتِها من زوجِها، وفي بُطولِ ذلك أن يَكونَ حينَئذٍ بيدِ الزوجِ صحةُ القولِ أنه بيدِ الوليِّ الذي إليه عقدُ النكاحِ إليها، وإذا كان ذلك كذلك، صحَّ القولُ بأن الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ هو الوليُّ - فقد أغفَل وظنَّ خطأً. وذلك أن معنى ذلك: أو يَعْفُوَ الذي بيدِه عُقدةُ نكاحِه. وإنما أُدْخِلَت الألفُ واللامُ في "النكاحِ" بدلًا مِن الإضافةِ إلى الهاءِ التي كان "النكاح" - لو لم يكونا

(1)

فيه - مضافًا إليها، كما قال اللهُ تعالى ذكرُه:{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. بمعنى: فإن الجنةَ هي

(2)

مأواه. وكما قال نابغةُ بنى ذُبْيانَ

(3)

:

(1)

في م: "تكن أل".

(2)

زيادة من: ت 1.

(3)

ديوانه ص 56.

ص: 334

لهم شِيمةٌ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم

مِن الناسِ فالأحلامُ غيرُ عَوازِبِ

بمعنى: فأحْلامُهم غيرُ عَوازبَ. والشواهدُ على ذلك أكثرُ مِن أن تُحْصَى.

فتأويل الكلامِ: إلا أن يَعْفُونَ، أو يَعْفُوَ الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ، وهو الزوجُ الذي بيدِه عُقْدةُ نكاحِ نفسِه في كلِّ حالٍ، قبلَ الطلاقِ وبعدَه. [لا أنّ]

(1)

معناه: أو يَعْفُوَ الذي بيدِه عُقْدةُ نكاحِهن، فيَكونُ تأويلُ الكلامِ ما ظنَّه القائلون أنه الوليُّ، وليُّ المرأةِ؛ لأن

(2)

وليَّ المرأةِ لا يَمْلِكُ عُقدة نكاحِ المرأةِ بغيرِ إذنِها إلا في حالِ طفولتِها، وتلك حالٌ لا يَمْلِكُ العقدَ عليها إلا بعضُ أوليائِها في قولِ أكثرِ من رأَى أن الذي بيدِه عُقْدةُ النكاحِ الوليُّ، ولم يَخْصُصِ الله تعالى ذكرُه بقولِه:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لله بعضًا منهم فيجوزَ توجيهُ التأويلِ إلى ما تأوَّلُوه، لو كان لِمَا قالوا في ذلك وجهٌ.

وبعدُ، فإن الله تعالى ذكرُه إنما كنَى بقولِه:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عن ذكرِ النساءِ اللاتي قد جرَى ذكرُهن في الآيةِ قبلَها، وذلك قولُه:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . والصَّبايا لا يُسَمَّين نساءً، وإنما يُسَمَّينْ صَبايا أو جَوارىَ، وإنما النساءُ في كلامِ العربِ جمعُ

(3)

اسمِ المرأةِ، ولا تقولُ العربُ للطفلةِ والصبيةِ والصغيرةِ امرأةٌ، كما لا تقولُ للصبيِّ الصغيرِ رجلٌ.

وإذ كان ذلك كذلك، وكان قولُه:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عندَ الزاعِمِين أنه الوليُّ، إنما هو: أو يعفوَ الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ عما وجَب لوليتِه

(1)

في م: "لأن".

(2)

في م: "لا أن".

(3)

في ص، ت 2:"أجمع".

ص: 335

التي تَسْتَحِقُّ أن يُوَلى عليها مالُها، إما لصغرٍ وإما لسَفَهٍ، والله تعالى ذكرُه إنما اقتصَّ في الآيتين قصصَ النساءِ المطلقاتِ، لعمومِ الذكرِ دونَ خصوصِه، وجعَل لهن العفوَ بقولِه:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} - كان معلومًا بقولِه: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أن المَعْنِياتِ منهن بالآيتين اللتين ذكَرهن فيهما جميعهُن دونَ بعضٍ، إذ كان معلومًا أن عفوَ مَن يُولَّى

(1)

عليه مالُه منهن باطلٌ.

وإذ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ أن التأويلَ في قولِه: أو يَعْفوَ الذي بيدِه عُقْدةُ نكاحِهن. يُوجِبُ أن يكونَ لأولياءِ النساءِ

(2)

الرُّشَّدِ البوالغِ من العفوِ عما وجَب

(3)

لهن مِن الصَّداقِ بالطلاقِ قبلَ المَسيسِ، مِثلُ الذي لأولياءِ الأطفالِ الصغارِ المُولَّى عليهن أموالُهن بالسفهِ. وفى

(4)

إنكارِ القائلين: إن الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ الوَليُّ. عفوَ أولياءِ الثيباتِ الرُّشَّدِ البوالغِ على ما وصفنا، وتفريقِهم بينَ أحكامِهم وأحكامِ أولياءِ الأُخرِ - ما أبان عن فسادِ تأويلِهم الذي تأوَّلوه في ذلك. ويُسألُ القائلون بقولِهم في ذلك الفَرْقَ بينَ ذلك مِن أصلٍ أو نَظيرٍ، فلن يقولوا في شيءٍ مِن ذلك قولًا إلا أُلزِموا في خلافِه مِثْلَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ في مَن خُوطِبَ بقولِه: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . فقال بعضُهم: خُوطِبَ بذلك الرجالُ والنساءُ.

(1)

في م، ت 1، ت 2:"تولى".

(2)

في م: "الثيبات".

(3)

في م: "وهب".

(4)

سقط من: م.

ص: 336

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمِعتُ ابنَ جُريجٍ يُحدِّثُ عن عطاءِ بن أبى رباحٍ، عن ابن عباسٍ:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . قال: أقربُهما للتقوى الذي يَعْفو

(1)

.

حدَّثنا ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبى سلمةَ، عن سعيد بن عبدِ العزيزِ، قال: سمِعتُ تفسيرَ هذه الآيةِ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . قال: يَعْفون جميعًا.

فتأويلُ الآيةِ على هذا القولِ: وأن تَعْفوا أيها الناسُ بعضُكم عما وجَب له قِبَلَ صاحبِه مِن الصَّداقِ قَبْلَ الافتراقِ عندَ الطلاقِ، أقربُ له إلى تقوى اللهِ.

وقال آخرون: بل الذين خُوطِبوا بذلك أزواجُ المطلقاتِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن الشعبيِّ:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} : وأن يَعْفوَ هو أقربُ للتَّقْوَى.

فتأويلُ ذلك على هذا القولِ: وأن تَعْفوا أيها المُفارِقون أزواجَهم، فتَتْرُكوا لهن ما وجَب لكم الرجوعُ به عليهن مِن الصَّداقِ الذي سُقْتُموه إليهن، أو

(2)

إليهن: بإعطائِكم إياهن الصَّداق الذي كنتم سَمَّيتُم لهن في عُقدةِ النِّكاحِ، إن لم تكونوا سُقْتُموه إليهن - أقربُ لكم إلى تقوى اللهِ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 455 (2362) عن يونس به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10851) عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

بعده في ص، م بياض بمقدار كلمة، وفى ت 1، ت 2 بمقدار كلمتين. واستظهر الشيخ شاكر أن يكون مكانه:"تتموا"، وفي حاشية المطبوعة:"تسوقوه، أو نحوها"، ولعل العبارة: "أو أن تحسنوا إليهن

".

ص: 337

والذي هو أوْلَى القولين بتأويل الآيةِ عندِى في ذلك ما قاله ابن عباسٍ، وهو أن معنى ذلك: وأن يَعْفوَ بعضُكم لبعضٍ أيُّها الأزواجُ والزوجاتُ بعدَ فِراقِ بعضِكم بعضًا، عما وجَب لبعضِكم قِبَلَ بعضٍ، فيتْرُكَه له إن كان قد بَقِيَ له قِبَلَه، وإن لم يَكُنْ بَقِيَ له فبأن يُوفيَه بتمامِه، أقربُ لكم إلى تقوى اللهِ.

فإن قال قائلٌ: وما في الصفحِ عن ذلك مِن القُربِ مِن تقوى اللهِ فيُقالَ للصافحِ العافِى عما وجَب له قِبَلَ صاحبِه: فِعْلُكَ ما فَعَلْتَ أَقْربُ لك إلى تقوى اللَّهِ؟

قِيلَ له: الذي في ذلك مِن قُربِه من تقوى اللهِ مسارعتُه في عفوِه ذلك إلى ما ندَبه اللهُ إليه، ودعَاه وحضَّه عليه، فكان فِعلُه ذلك، إذا فَعَلَهِ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ وإِيثَارَ ما ندَبه إليه على هَوَى نفسِه، معلومًا به إذ كان مُؤثِرًا فِعْلَ ما ندَبه إليه مما لم يَفْرِضْه عليه على هَوَى نفسِه، أنه لِما فرَضَه عليه وأوْجَبه أشدُّ إيثارًا، ولِما نَهاه أشدُّ له تَجنُّبًا. وذلك هو قُربُه مِن التقوى.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .

يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولا تُغْفِلوا أيُّها الناسُ الأخْذَ بالفضلِ، بعضُكم على بعضٍ، فَتترُكوه، ولكن لِيَتَفضَّلِ الرجلُ المُطلِّقُ زوجتَه قبلَ مسيسِها، فيُكْمِلَ لها تمامَ صداقِها إن كان لم يُعْطِها جميعَه، وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرَض لها فليتفضَّلْ عليها بالعفوِ عما يَجِبُ له ويَجوزُ له الرجوعُ به عليها، وذلك نِصفُه، فإن شحَّ الرجلُ بذلك، وأبَى إلا الرجوعَ بنصفِه عليها، فلتَتفضَّلِ المرأةُ المُطلَّقةُ عليه برَدِّ جميعِه عليه إن كانت قد قَبَضتْه منه، وإن لم تكنْ قَبَضتْه فتَعْفو عن جميعِه. فإن هما لم يَفْعلا ذلك وشَحَّا وترَكا ما ندَبهما اللهُ إليه - مِن أَخْذِ أحدِهما

(1)

على صاحبِه

(1)

سقط من: ص، ت 1.

ص: 338

بالفضلِ - فلها نصفُ ما كان فرَض لها في عقدِ النكاحِ وله نصفُه.

وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عن سعيدِ [بن محمدِ]

(1)

بن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ، عن جدِّه

(2)

جُبيرٍ، أنه دخَل على سعدِ بن أبى وقاصٍ، فعرَض عليه ابنةً له فتَزوَّجها، فلمَّا خرج طَلَّقها، وبَعث إليها بالصَّداقِ. قال: قِيلَ له: فلِمَ تَزَوَّجتها؟ قال: عرَضها عليَّ، فَكَرِهْتُ رَدَّها. قِيلَ: فلِمَ تَبْعَثُ بالصَّداقِ؟ قال: فأين الفضْلُ

(3)

؟

حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن أبى زائدةَ، عن ورقاءَ، عن ابن أبي نجَيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: إتمامُ الزوجِ الصداقَ، أو تركُ المرأةِ الشَّطْرَ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: إتمامُ الصَّداقِ، أو تركُ المرأةِ شَطْرَه.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

(1)

سقط من النسخ، وينظر تهذيب الكمال 24/ 573، 574.

(2)

في م: "أبيه"، وفى ت 1:"عن جده عن".

(3)

تقدم تخريجه في ص 325، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 293 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 446 (2366) من طريق ورقاء به.

ص: 339

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: حدثنا أبى، عن سفيانَ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} : في هذا وفي غيرِه.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: يقولُ: لِيتَعاطَفا.

حدَّثنا بشر بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} : يُرَغِّبُكم اللهُ في المعروفِ، ويَحُثُّكم على الفَضْلِ

(1)

.

حدَّثنا يحيى بنُ أبى طالبِ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: المرأةُ يُطَلِّقُها زوجُها وقد فرَض لها ولم يَدْخُلْ بها، فلها نِصْفُ الصَّداقِ، فأمَر اللهُ أن يَتْركَ لها نصيبَها، وإن [شاء أن يُتِمَّ]

(2)

المهرَ كاملًا، وهو الذي ذَكَر اللهُ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} : حضَّ كلَّ واحدٍ على الصِّلةِ، يعنى الزوجَ والمرأةَ على الصِّلة.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا حِبانُ بنُ موسى، قال: أَخْبَرنا ابن المباركِ، قال: أَخْبَرنا يحيى بنُ بِشْرٍ، أنه سمِع عِكْرمةَ يقولُ في قولِ اللَّهِ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} : وذلك الفَضْلُ هو النِّصْفُ من الصَّداق، وأن تَعْفُوَ عنه المرأةُ للزوجِ، أو يَعْفُوَ عنه وَلِيُّها.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 446 (2368) من طريق شيبان، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى عبد بن حميد.

(2)

في ت 1: "شاءت أتم".

ص: 340

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: يُعْفِى عن نصفِ الصداقِ أو بعضِه.

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، وحدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا زيدٌ، جميعًا عن سفيانَ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: حثَّ بعضَهم على بعضٍ في هذا وفي غيرِه، حتى في عفوِ المرأةِ عن الصَّداق، والزوجِ بالإتمامِ.

حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أَخْبَرنا يزيدُ، قال: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضَّحاكِ:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} قال: المعروف

(1)

.

حدَّثنا ابن البَرْقِيِّ، قال: ثنا عمرٌو، عن سعيدٍ، قال: سمِعتُ تفسيرَ هذه الآيةِ {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . قال: لا تَنْسَوا الإحسانَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} .

يعنى تعالى ذِكْرُه بذلك: إِنَّ الله بما تعملون أيُّها الناسُ، مما نَدَبكم إليه وحضَّضَكم

(2)

عليه؛ مِن عَفْوِ بعضِكم لبعضٍ عما وجَب له قِبَلَه من حقٍّ، بسببِ النكاحِ الذي كان بينَكم وبينَ أزواجِكم، وتَفَضُّلِ بعضِكم على بعضٍ في ذلك، وبغيرِه

(3)

مما تأتون وتَذَرون مِن أمورِكم في أنفسِكم وغيرِكم، مما حثَّكم اللهُ عليه وأمرَكم به أو نهاكم عنه، {بَصِيرٌ} يعنى بذلك: ذو بصرٍ لا يخفَى عليه منه شيءٌ مِن ذلك، بل هو يُحصِيه عليكم ويَحفظُه، حتى يجازىَ ذا الإحسانِ منكم على إحسانِه، وذا الإساءةِ منكم على إساءتِه.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 292 إلى المصنف.

(2)

في م: "حضكم".

(3)

في ص: "لغيره".

ص: 341

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} .

يعنِى تعالى ذِكْرُه بذلك: واظِبوا على الصلواتِ المكتوباتِ في أوقاتِهن، وتَعاهَدوهن والْزَموهن، وعلى الصلاةِ الوسطَى منهن.

وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ بنُ الحَجَّاجِ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ في قولِه:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} . قال: المُحافظةُ عليها المُحافظةُ على وقتِها، وعَدَمُ

(1)

السهوِ عنها

(2)

.

حدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المسعوديُّ، قال: ثنا أبى، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ في هذه الآيةِ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}: فالحِفاظُ عليها الصلاةُ لوقتِها، والسَّهو عنها تركُ وقتِها.

ثم اخْتَلفوا في الصلاةِ الوسطَى؛ فقال بعضُهم: هي صلاةُ العصرِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، جميعًا قالا: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(3)

.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 316، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 447، 4/ 1346 (1370، 7621) من طريق الأعمش به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 5 إلى سعيد بن منصور.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 504 من طريق سفيان به، وأخرجه مسدد في مسنده - كما في المطالب =

ص: 342

حدَّثني محمدُ بنُ عُبيدٍ المُحاربيُّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن أبي إسحاقَ، قال: ثنى مَن سمِع ابن عباسٍ وهو يقولُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قال: العصرُ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا مُصعبُ بنُ سَلَّامٍ، عن أبي حيانَ، عن أبيه، عن عليٍّ، قال: الصلاةُ الوسطَى صلاةُ العصرِ

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أبو حيانَ، عن أبيه، عن عليٍّ مِثلَه.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مُصْعبٌ، عن الأجْلَحِ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، قال: سمعتُ عليًّا يقولُ: الصلاةُ الوسطَى صلاةُ العصرِ

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عَنْبسةَ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، قال: سألتُ عليًّا

(4)

عن الصلاةِ الوسطَى، فقال: صلاةُ العصرِ.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ عبدِ الحكمِ المِصْريُّ، قال: ثنا أبو

= العالية (3905) - وابن أبي شيبة 2/ 505، والطحاوى في شرح المعانى 1/ 175، والدمياطي في الصلاة الوسطى (47، 48) من طريق أبى إسحاق به.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (403 - تفسير) عن أبي الأحوص به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 305 إلى وكيع وسفيان وعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (394 - تفسير) عن ابن علية به. وأخرجه ابن حزم 4/ 370، 371 من طريق أبى حيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 305 إلى وكيع والفريابي وسفيان بن عيينة وعبد بن حميد.

(3)

أخرجه الدمياطى في الصلاة الوسطى (49) من طريق محمد بن كثير الكوفى، عن الأجلح به مرفوعًا، وأخرجه مسدد - كما في المطالب (3905) - من طريق أبى إسحاق به مرفوعا أيضًا.

(4)

في م: "عليها".

ص: 343

زُرْعةَ [وَهْبُ اللهِ]

(1)

بنُ راشدٍ، قال: أَخْبَرَنا حَيْوَةُ بنُ شُريحٍ، قال: أخبرنا أبو صخرٍ، أنه سمِع أبا معاويةَ البَجَليَّ مِن أهلِ الكوفةِ يقولُ: سمِعتُ أبا الصَّهْباءِ البَكْريَّ يقولُ: سألتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ عن الصلاةِ الوسطى، فقال: هي صلاةُ العصرِ، وهي التي فُتِن بها سليمانُ بنُ داودَ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا سليمانُ التَّيميُّ، وحدَّثنا حُميدُ بنُ مسعدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا التَّيْمِيُّ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ أنه قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(3)

.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المباركِ، عن مَعمرٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ

(4)

، عن ابن لَبيبةَ، عن أبي هريرةَ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} : ألا وهى العصرُ، ألا وهى العصرُ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحَكَمِ، قال: ثنا أبي وشعيبُ بنُ الليثِ، عن الليثِ، عن يزيدَ بن الهادِ، عن ابن شهابٍ، عن سالمِ بن عبدِ اللهِ، عن عبدِ اللهِ، قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَن فاتَتْه صلاةُ العصرِ فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه". فكان ابن عمرَ يرَى لصلاةِ العصرِ فضيلةً للذي قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

في م: "وهب".

(2)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 22/ 241 من طريق آخر عن علي.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (395 - تفسير) عن ابن علية به، وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 506، وابن حزم 4/ 369، والبيهقى 1/ 460، 461، والدمياطى في الصلاة الوسطى (43) من طريق التيمي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 305 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(4)

في م: "غنم". وينظر تهذيب الكمال 15/ 279.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2040، 2197) عن معمر به. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (396 - تفسير)، والبخارى في التاريخ الكبير 5/ 357، 358، والطحاوى في شرح المعاني 1/ 175، وابن حزم 4/ 369، والدمياطى في الصلاة الوسطى (44) من طريق عبد الله بن عثمان به.

ص: 344

فيها، أنها الصلاةُ الوسطَى

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا معتمرٌ، عن أبيه، قال: زعَم أبو صالحٍ، عن أبي هريرةَ أنه قال: هي صلاةُ العصرِ.

حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثني عمَّى عبدُ اللَّهِ بنُ وَهْبٍ، قال: أخبرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن ابن شهابٍ، عن سالمٍ، عن أبيه، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه. قال ابن شهابٍ: وكان ابن عمرَ يرَى أنها الصلاةُ الوسطَى

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عفانُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ معمرٍ، قال: ثنا أبو

(4)

عامرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ أبي حُميدٍ، عن حميدةَ ابنةِ أبي يونسَ مولاةِ عائشةَ، قالت: أوْصَت عائشةُ لنا بمتاعِها، فوَجَدتُ في مصحفِ عائشةَ:(حافِظُوا علَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى وهى العصرُ وَقُومُوا للهِ قانتينَ)

(5)

.

حدَّثني سعيدُ بنُ يحيى الأمويُّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن جُرَيجٍ، قال:

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2191) من طريق الزهرى بتمامه، وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني "1/ 170"، والدمياطى في الصلاة الوسطى (56) من طريق الليث به. مقتصرًا على الموقوف. وينظر الطيالسي (1912).

(2)

أخرجه مسلم (626/ 201) من طريق ابن وهب به مقتصرا على المرفوع.

(3)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 175"، والدمياطى في الصلاة الوسطى (56) من طريق عفان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 305" إلى ابن المنذر.

(4)

في النسخ: "ابن". وهو أبو عامر العقدى، وسيأتي على الصواب في ص 351.

(5)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 84 من طريق ابن أبي حميد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 304" إلى وكيع.

ص: 345

أخبرنا عبدُ الملكِ بنُ عبدِ الرحمنِ، أن أمَّه أمَّ حُميدٍ بنتَ

(1)

عبدِ الرحمنِ سَأَلَتْ عائشةَ عن الصلاةِ الوسطَى، قالت: كنا نَقْرؤُها في الحرفِ الأَوَّلِ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (حافِظُوا عَلى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوسْطَى

(2)

صَلاةِ العَصْرِ وَقُومُوا للهِ قانِتِينَ)

(3)

.

حدَّثني عباسُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: أخبرني عبدُ الملكِ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أمِّه أمَّ حُميدٍ ابنةِ عبدِ الرحمنِ، أنها سَأَلتْ عائشةَ. فذكَر نحوَه، إلا أنه قال:(حافِظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطَى وصلاةِ العصرِ)

(4)

.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن محمدِ بن عمرٍو

(5)

أبي سهلٍ الأنصاريِّ، عن القاسمِ بن محمدٍ، عن عائشةَ في قولِه:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قالت

(6)

: صلاةُ العصْرِ

(7)

.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمّادٌ، عن هشامِ بن عُروةَ، عن أبيه، قال: كان في مصحفِ عائشةَ: (حافِظُوا على الصَّلواتِ والصلاةِ الوُسْطَى وهى صلاةُ العصرِ)

(8)

.

(1)

في ص، ت 1:"بن".

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"قال أبو جعفر: إنه قال".

(3)

أخرجه البخارى في التاريخ الكبير "5/ 421، 422" عن سعيد بن يحيى به. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2203)، وابن أبي داود في المصاحف ص 84، وابن حزم "4/ 368" من طريق ابن جريج به.

(4)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 84، والطحاوى في شرح المعانى "1/ 172"، والدمياطي في الصلاة الوسطى (112) من طريق الحجاج بن محمد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 302" إلى ابن المنذر.

(5)

بعده في النسخ: "و". وينظر تهذيب الكمال "26/ 221".

(6)

في م، ت 2:"قال".

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 504" عن وكيع به.

(8)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 83، وابن حزم "4/ 363" من طريق حماد به.

ص: 346

حدَّثنا أبو كرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن داودَ بن قيسٍ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ رافع مولى أمِّ سَلَمةَ، قال: أمَرَتْنى أمُّ سلمةَ أن أكتبَ لها مُصحفًا، وقالت: إذا انتَهيتَ إلى آيةِ الصلاةِ فأعْلِمْنى. فأعلمتُها، فأمْلَت عليَّ:(حافِظُوا علَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى صَلاةِ العَصْرِ)

(1)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، قال: كان الحسنُ يقولُ: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، عن أبيه، قال: ثنا قتادةُ، عن أبي أيوبَ، عن عائشةَ أنها قالت: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سليمانَ التَّيميِّ، عن قتادةَ، عن أبي أيوبَ، عن عائشةَ مثلَه

(3)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، قال: ثنا عَنْبَسَةُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال: كان يقالُ: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(4)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: ذُكِر لنا عن عليّ بن أبي طالبٍ أنه قال: صلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 504"، وابن أبي داود في المصاحف ص 87 من طريق وكيع به بنحوه، وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 87، 88 من طريق داود بن قيس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 303" إلى وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن حزم "4/ 371" من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن.

(3)

أخرجه ابن حزم "4/ 370" من طريق يحيى به، وأخرجه ابن أبي شيبة "2/ 506"، والدمياطي في الصلاة الوسطى (50) من طريق سليمان به.

(4)

ينظر تفسير البغوي "1/ 288"، وتفسير ابن كثير "1/ 429".

ص: 347

جُبيرٍ، قال: صلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سالمٍ، عن حفصةَ أنها أمرَتْ رجلًا يكتُبُ لها مصحفًا، فقالت: إذا بلغتَ هذا المكانَ فأعْلِمْني. فلما بلَغ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} قالت

(2)

: اكتُبْ: (صلاةِ العصرِ)

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا حمّادُ بنُ سَلمةَ، قال: أخبرنا [عُبيدُ اللهِ]

(4)

بنُ عمرَ، عن نافعٍ، عن حفصةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالتْ لكاتبِ مُصحفِها: إذا بلَغتَ مواقيتَ الصلاةِ فَأَخْبِرْنى حتى أُخْبِرَكَ بما سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فلما أخبَرَها قالتْ: اكتُبْ، فإني سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:(حافِظُوا على الصّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَهى صَلاةُ العَصْرِ)

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجّاجُ، قال: ثنا حمّادٌ، عن عاصمِ بن بَهْدَلَةَ، عن زِرِّ بن حُبيشٍ، قال: صلاةُ الوسطَى هي العصرُ

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 505" عن هشيم به.

(2)

في م: "قال".

(3)

أخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 165، وابن أبي شيبة "2/ 503، 504"، عن هشيم عن أبي بشر، عن رجل، عن سالم، عن حفصة بنحوه. وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 85 من طريق شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد، عن سالم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 305" إلى وكيع وعبد بن حميد.

(4)

في ص: "عبد الله".

(5)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف (86) من طريق الحجاج به، وأخرجه أيضًا (ص 85) من طريق حجاج به - بزيادة ابن عمر بين نافع وحفصة - وأخرجه أيضًا (ص 86)، والبيهقى "1/ 462"، وإسماعيل بن إسحاق - كما في التمهيد "4/ 281" - من طريق عبد الوهاب وحماد بن زيد، عن عبيد الله به. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2202) عن ابن جريج، عن نافع به، وعزاه السيوطي في الدر "1/ 305" إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(6)

ينظر: البحر المحيط "2/ 240".

ص: 348

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} : كنا نُحَدِّثُ أنها صلاةُ العصرِ؛ قبلَها صلاتان مِن النهارِ، وبعدَها صلاتان مِن الليلِ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا جُوَيبِرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قال: أُمِروا بالمحافظةِ على الصلواتِ. قال: وخصَّ العصرَ، {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} يعنِى: العصرَ

(2)

.

حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفَرَجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أَخْبَرَنَا عُبَيدُ

(3)

بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} : هي العصرُ.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: ذُكِر لنا عن عليّ بن أبي طالبٍ أنه قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبِي، قال: ثني عمِّي، قال: ثني أبِى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يعنِى: المكتوباتِ، {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} يعنى: صلاةَ العصرِ

(5)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهْوازِيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا قيسٌ، عن أبي

(6)

إسحاقَ، عن رَزِينِ بن عُبيدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: سَمِعتُه يقولُ: {حَافِظُوا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 305" إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 505" من طريق جويبر به.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد"، وفى م:"عبد الله".

(4)

هذا الأثر مكرر تقدم في ص 347.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره "2/ 447"(2372) عن محمد بن سعد به بشطره الأول.

(6)

في م، ت 2:"ابن".

ص: 349

عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. قال: صلاةُ العصرِ

(1)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ثورٍ، عن مجاهدٍ، قال: الصلاةُ الوسطَى صلاةُ العصرِ.

حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرنا جُوَيبرٌ، عن الضحاكِ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ.

حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن رَزينِ بن عُبيدٍ، قال: سمِعتُ ابنَ عباسٍ يقولُ

(2)

: صلاةُ العصرِ

(3)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، قال: أنبأنا إسماعيلُ بنُ مسلمٍ، عن الحسنِ، عَن سَمُرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ"

(4)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا وهبُ بنُ جَرِيرٍ، قال: ثنا أبِي، قال: سمِعتُ يحيى بنَ أيوبَ يُحَدِّثُ عن يزيدَ بن أبي حَبيبٍ، عن مُرَّةَ بن مِخْمَرٍ، عن سعيدِ بن الحكمِ، قال: سمِعتُ أبا أيوبَ يقولُ: صلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ

(5)

.

حدَّثنا ابن سِنانٍ

(6)

، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن مباركٍ، عن الحسنِ، قال: صلاةُ

(1)

أخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 166 من طريق أبي إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 305" إلى عبد بن حميد.

(2)

بعده في م: "هي".

(3)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 172" - ومن طريقه الدمياطى في الصلاة الوسطى (52) - من طريق أبي نعيم به، وأخرجه البخارى في التاريخ "3/ 324" من طريق إسرائيل به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 304" إلى المصنف وعبد بن حميد. وينظر ما سيأتي في ص 357.

(5)

ذكره البخارى في التاريخ "3/ 465" عن وهب بن جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 305" إلى المصنف وابن المنذر.

(6)

في النسخ: "سفيان".

ص: 350

الوسطى صلاةُ العصرِ.

وعلَّةُ مَن قال هذا القولَ ما حدَّثني به محمدُ بنُ معمرٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا محمدٌ - يعنِي ابنَ طلحةَ - عن زُبَيدٍ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: شغَل المشركون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن صلاةِ العصرِ، حتى اصْفَرَّتْ أو احْمَرَّتْ، فقال:"شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى، مَلأَ اللَّهُ أَجْوافَهم وقُبُورَهم نارًا"

(1)

.

حدَّثنى أحمدُ بنُ سنانٍ الواسطيُّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرنا محمدُ بنُ طلحةَ، عن زُبيدٍ عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه، إلا أنه قال:"مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهم وقُبُورَهم نارًا كما شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى"

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى ومحمدُ بنُ بشارٍ، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ قتادةَ يُحَدِّثُ عن أبي حسانَ، عن عَبيدةَ السَّلْمانيِّ، عن عليٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزابِ: "شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطَى حتى آبَتِ الشمسُ، مَلأَ اللهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارا". أوْ "بُطُونَهُمْ نارًا". شَكَّ شعبةُ في البطونِ والبيوتِ

(3)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ،

(1)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 174" من طريق أبي عامر به، وأخرجه أحمد "6/ 378"، "7/ 375"(3829، 4365)، ومسلم (628/ 206)، والترمذى (181، 2985)، وابن ماجه (686) من طريق محمد بن طلحة به، وينظر الطيالسي (364).

(2)

أخرجه أحمد "6/ 256"(3716)، وابن ماجه (686)، والبزار (2022)، وأبو عوانة "1/ 356" من طريق يزيد بن هارون به.

(3)

أخرجه مسلم (627/ 203) عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار به، وأخرجه أحمد "2/ 359"(1150) عن محمد بن جعفر به، وأخرجه أحمد "2/ 359"(1151)، والنسائي (472)، والبزار (555)، والدمياطى في الصلاة الوسطى (10) من طريق شعبة به.

ص: 351

قال: قلتُ لعَبيدةَ السَّلْمانيِّ: سلْ عليَّ بنَ أبي طالبٍ عن الصلاةِ الوسطَى. فسأَله فقال: كنا نراها الصبحَ أو الفجرَ، حتى سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ يومَ الأحزابِ:"شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ، مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهم وأجْوافَهم نارًا"

(1)

.

حدَّثنا ابن بَشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحى، عن شُتَيْرِ بن شَكَلٍ، عن عليٍّ، قال: شَغَلونا يومَ الأحزابِ عن صلاةِ العصرِ، حتى سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"شغَلَونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ، مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارًا". أَوْ "أجْوافَهم نارًا"

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحَكَمِ، عن يحيى بن الجَزَّارِ، عن عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان

(3)

يومَ الأحزابِ على فُرْضَةٍ

(4)

مِن فُرَضِ الخندقِ، فقال:"شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى حتى غَرَبَتِ الشمسُ، مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارًا". أوْ "بُطُونَهم وبُيُوتَهمْ نارًا"

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره "2/ 448"(2374)، وابن حزم "4/ 360، 361"، والدمياطي في الصلاة الوسطى (6، 7، 8) من طريق عبد الرحمن به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2192)، وابن أبي شيبة "2/ 504"، وأحمد "2/ 284"(990)، وأبو يعلى (390)، والطحاوى في شرح المعاني "1/ 174"، والبيهقى "1/ 460" من طريق سفيان به.

(2)

أخرجه أحمد "2/ 304"(1036)، وأبو يعلى (389) من طريق عبد الرحمن بن مهدى به وقرن أبو يعلى بالأعمش منصور بن المعتمر، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2194)، وأحمد "2/ 404"(1246)، والبيهقى "1/ 460" من طريق سفيان به.

(3)

في م، ت 2:"قال".

(4)

فرضة الخندق: المدخل من مداخله والمنفذ إليه. صحيح مسلم بشرح النووى "5/ 130".

(5)

أخرجه البزار في مسنده (787) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد "2/ 432"(1306)، ومن طريقه الدمياطى في الصلاة الوسطى (40). عن محمد بن جعفر به، وأخرجه ابن أبي شيبة "2/ 503"، وأحمد "2/ 349"(1132)، ومسلم (627/ 204) من طريق شعبة به. وينظر الطيالسي (95).

ص: 352

حدَّثني أبو السائبِ [وسعيدُ بنُ نُمَيرٍ]

(1)

، قالا: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن شُتَيْرِ بن شَكَلٍ، عن عليٍّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ، مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارًا". ثم صلَّاها بينَ العِشاءيْن؛ بينَ المغربِ والعشاءِ

(2)

.

حدَّثنا الحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدائيُّ، قال: ثنا عليُّ بنُ عاصمٍ، عن خالدٍ، عن محمدِ بن سِيرينَ، عن عَبيدةَ السَّلْمانيِّ، عن عليٍّ، قال: لم يُصَلِّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم العصرَ يومَ الخندقِ إلَّا بعدَ ما غَرَبتِ الشمسُ، فقال:"ما لَهم! مَلأَ اللَّهُ قُلُوبَهم وبُيُوتَهم نارًا، مَنَعونا عن الصلاةِ الوسطى حتى غَرَبَتِ الشمسُ"

(3)

.

حدَّثنا زكريا بنُ يحيى الضَّريرُ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ، عن إسرائيلَ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، قال: انْطَلَقْتُ أنا وعَبيدةُ السَّلْمانيُّ إلى عليٍّ، فأمَرتُ عَبيدةَ أَن يسألَه عن الصلاةِ الوسطى، فقال: يا أميرَ المؤمنين، ما الصلاةُ الوسطى؟ فقال: كنا نراها صلاةَ الصبحِ، فبينا نحنُ نُقاتِلُ أهلَ خيبرَ، فقاتَلوا حتى أرْهَقونا عن الصلاةِ، وكان قُبيلَ غروبِ الشمسِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ امْلأْ قُلُوبَ هؤلاء القوم الذين شَغلونا عن الصلاةِ الوسطى وأجْوَافَهم نارًا". أو "امْلأُ قُلُوبَهم نارًا". قال: فعَرَفْنا

(1)

في ص: "سعيد بن عمر".

(2)

أخرجه ابن خزيمة (1337) عن أبي السائب سلم بن جنادة، وأخرجه ابن أبي شيبة "2/ 503"، وأحمد "2/ 53، 240"(617، 911)، ومسلم (627/ 205)، وأبو يعلى (392)، والدمياطي في الصلاة الوسطى (1) من طريق أبى معاوية به، وأخرجه أحمد "2/ 429"(1299)، والنسائي في الكبرى (11045)،، وأبو يعلى (391)، وابن خزيمة (1337)، من طريق الأعمش به، وأخرجه الدمياطى في الصلاة الوسطى (2) من طريق شتير به.

(3)

أخرجه الدمياطى في الصلاة الوسطى (11) من طريق على بن عاصم به، وأخرجه أحمد "2/ 287، 392"(994، 1221)، والبخارى (2931، 4533)، ومسلم (627/ 202)، وأبو داود (409)، والبزار (549)، وأبو يعلى (393) من طريق ابن سيرين به.

ص: 353

يومئذٍ أنها الصلاةُ الوسطى

(1)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أبي حسانَ الأعرجِ، عن عَبيدةَ السَّلْمانيِّ، عن عليِّ بن أبِي طالبٍ، أَنَّ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال يومَ الأحزابِ: "اللَّهُمَّ امْلأْ قُبورَهم

(2)

وبُيُوتَهم نارًا، كما شَغَلونا - أو كما حَبَسونا - عن الصلاةِ الوسطى حتى غَرَبَتِ الشمسُ"

(3)

.

حدَّثنا سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: ثنا ثابتُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ طلحةَ، عن زُبيدٍ، عن مُرَّةَ، عن ابن مسعودٍ، قال: حَبَس المشركون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن صلاةِ العصرِ، حتى اصْفَرَّتِ الشمسُ أو احْمَرَّتْ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى، مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهم وقُلُوبَهم نارًا". أو: "حشا اللَّهُ قُلُوبَهم وبُيُوتَهم نارًا".

حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا سهلُ بنُ عامرٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ، قال: سمِعتُ طلحةَ، قال: صَلَّيتُ مع مُرَّةً في بيتِه، فسَها - أو قال: نسِى - فقامَ قائمًا يُحدِّثنُا - وقد كان يُعجِبُنى أن أسْمَعَه مِن ثِقةٍ - قال: لَمَّا كان يومُ الخندقِ - يعنى يومَ الأحزابِ - قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما لهم! شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ، مَلأَ اللهُ أجْوافَهم وقُبُورَهم نارًا"

(4)

.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 303" إلى المصنف.

(2)

في م، ت 1:"قلوبهم".

(3)

أخرجه أحمد 2/ 29، 351، 433 (591، 1134، 1308)، ومسلم (627/ 203)، والترمذى (2984)، وأبو يعلى (384)، والدمياطى في الصلاة الوسطى (9) من طريق سعيد به، وأخرجه أحمد "2/ 436، 443"(1314، 1327)، وابن عبد البر في التمهيد "4/ 290" من طريق قتادة به.

(4)

أخرجه العقيلي "4/ 86" من طريق مالك به نحوه.

ص: 354

حدَّثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ بنُ

(1)

عطاءٍ، عن التَّيْميِّ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ"

(2)

.

حدَّثني عليُّ بنُ مسلمٍ الطُّوسيُّ، قال: ثنا عَبَّادُ بنُ العَوّامِ، عن هلالِ بن خَبَّابٍ

(3)

، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: خَرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ له، فحَبَسه المشركون عن صلاةِ العصرِ حتى مَسَّى

(4)

بها، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ امْلأْ بُيُوتَهم وأجْوافَهم نارًا، كما حَبَسونا عن الصلاةِ الوسطى"

(5)

.

حدَّثنا موسى بنُ سهلٍ الرَّمْليُّ، قال: ثنا إسحاقُ، عن عبدِ الواحدِ المَوْصليِّ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللهِ، عن ابن أبي ليلى، عن الحكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزابِ: "شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى حتى غابَتِ الشمسُ، مَلأَ اللهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارًا".

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: أخبَرَنا خالدٌ، عن ابن أبي ليلى، عن الحكَمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابن عباسٍ، قال: شَغَل الأحزابُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يومَ الخندقِ عن صلاةِ العصرِ حتى غَرَبتِ الشمسُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "شَغَلونا عن الصلاةِ

(1)

في م: "عن ابن".

(2)

أخرجه ابن خزيمة (1338) عن أحمد بن منيع به، والبيهقى "1/ 460"، والدمياطي في الصلاة الوسطى (39) من طريق عبد الوهاب بن عطاء به، وتقدم تخريجه موقوفًا ص 344.

(3)

في ص: "حباب". وينظر تهذيب الكمال "14/ 140".

(4)

في م: "أمسى".

(5)

أخرجه البزار (389 - كشف) عن علي بن مسلم الطوسى به، وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني "1/ 174" من طريق عباد بن العوام به، وأخرجه أحمد "4/ 474"(2745)، والطحاوى "1/ 174"، والطبراني في الكبير (11905)، وفى الأوسط (1995) من طريق هلال به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 303" إلى عبد بن حميد.

ص: 355

الوسطى، مَلأَ اللهُ قُبُورَهم وبُيُوتَهم نارًا". أو "أجْوافَهم نارًا

(1)

".

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سليمانُ بنُ أحمدَ الجُرَشيُّ

(2)

الواسطيُّ، قال: ثنا الوليدُ بن مسلمٍ، قال: أخبرني صَدَقةُ بنُ خالدٍ، قال: حدَّثني خالدُ بنُ دِهْقانَ، عن [خالدٍ سَبَلانَ]

(3)

، عن كُهَيلِ بن حَرْمَلَةَ، قال: سُئِل أبو هريرةَ عن الصلاةِ الوسطى، فقال: اخْتَلَفْنا فيها، كما اختلَفتم فيها، ونحن بفِناءِ بيتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجلُ الصالحُ أبو هاشمِ بنُ عُتبةَ بن رَبيعةَ بن عبدِ شمسٍ، فقال: أنا أعْلَمُ لكم ذلكَ. فقام فاسْتَأْذَن على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فدَخَل عليه، ثم خَرَج إلينا فقال: أَخْبَرَنا أنها صلاةُ العصرِ

(4)

.

حدَّثني الحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدَائيُّ، قال: ثنا أبي، وحدَّثنا ابن إسحاقَ الأهْوازِيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قالا جميعًا: ثنا فُضيلُ بنُ مرزوقٍ

(5)

، عن شَقيقِ بن عُقْبَةَ العَبْديِّ، عن البراءِ بن عازبٍ، قال: نزَلتْ هذه الآيةُ: "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وصلاةِ العَصْرِ". قال: فقَرَأْناها

(6)

على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما شاءَ اللهُ أن نَقْرَأَها، ثم

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (12069) من طريق عمرو بن عون به نحوه. وأخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 174" من طريق ابن أبي ليلى به نحوه، وقرن الطحاوى بمقسم سعيد بن جبير.

(2)

في النسخ: "الحرشي". وينظر الجرح والتعديل "4/ 101"، وتاريخ بغداد "9/ 49".

(3)

في ص، ت 2:"خالد بن سيلان"، وفى م:"جابر بن سيلان"، وفى ت 1:"خالد بن سبيلان". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر التاريخ الكبير "3/ 154"، والإكمال "4/ 250".

(4)

أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (557)، والبزار (391 - كشف)، والطحاوي في شرح المعاني "1/ 174"، والطبراني في الكبير (7198)، وابن حبان في الثقات "5/ 341"، وابن عساكر في تاريخه "16/ 132، 211، 19/ 202"(مخطوط)، والدمياطى في الصلاة الوسطى (45) من طريق صدقة بن خالد به، وأخرجه الطبراني (7198)، والحاكم "3/ 638" من طريق خالد بن دهقان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 304"، "630/ 208" إلى ابن سعد والبغوى في معجمه.

(5)

في النسخ: "مسروق". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال "23/ 305".

(6)

في النسخ: "فقرأتها". والمثبت من مصادر التخريج.

ص: 356

إن الله نَسَخَها، فأنْزَل {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. قال: فقال رجلٌ كان مع شَقيقٍ: فهى صلاةُ العصرِ؟ قال: قد حَدَّثْتُك

(1)

كيف نزَلتْ، وكيفَ نَسَخَها اللهُ، واللهُ أعلمُ

(2)

.

حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، وحدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ ومحمدُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ، قالا جميعًا: ثنا سعيدُ بنُ أبي عَروبةَ، وحدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عَبْدَةُ بنُ سليمانَ ومحمدُ بنُ بشرٍ وعبدُ اللَّهِ بنُ إسماعيلَ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ"

(3)

.

حدَّثني عصامُ بنُ رَوّادِ بن الجُرَّاحِ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سعيدُ بنُ بَشِيرٍ، قتادةَ، عن الحسنِ، عن سَمُرةَ، قال: أنبَأنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ الصلاةَ الوسطى هي العصرُ

(4)

.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ،

(1)

في ص: "حدثك".

(2)

أخرجه الحاكم "2/ 281" - وعنه البيهقى "1/ 459" - من طريق أبي أحمد الزبيرى به، وأخرجه أحمد "30/ 613"(18673)، ومسلم (630/ 208)، وأبو عوانة "1/ 353، 354"، والطحاوى في شرح المعاني "1/ 173"، وفى المشكل (2071)، وابن حزم في المحلى "4/ 368" من طريق فضيل بن مرزوق به، وأخرجه أبو عوانة "1/ 354"، والبيهقى "1/ 459" من طريق شقيق به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 303" إلى عبد بن حميد وأبي داود في ناسخه.

(3)

أخرجه الترمذى (182) من طريق عبدة بن سليمان، عن سعيد به، وأخرجه في (2983) عن حميد بن مسعدة، عن يزيد به، وأخرجه الطبراني في الكبير (6825) من طريق يزيد به، وأخرجه أحمد "5/ 7، 12، 13"(الميمنية)، والطحاوى في شرح المعانى "1/ 174"، والطبرانى في الكبير (6825)، والدمياطي في الصلاة الوسطى (34، 35) من طريق سعيد به، وأخرجه ابن أبي شيبة "2/ 505"، والطبراني في الكبير (6824، 6826)، والبيهقى "1/ 460"، والدمياطى في الصلاة الوسطى (32) من طريق قتادة به.

(4)

أخرجه الطبراني في الكبير (6823) من طريق سعيد بن بشير به.

ص: 357

عن أبي الضُّحَى، عن شُتَيرِ بن شَكلٍ، عن أمِّ حَبيبةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال يومَ الخندقِ:"شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ حتى غَرَبَتِ الشمسُ". قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبى عديٍّ

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حافِظُوا على الصَّلَواتِ والصلاةِ الوسطى، وهى العصرُ"

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا عبدُ السلامِ، عن سالمٍ مولى أبي نصيرٍ، قال: ثنى إبراهيمُ بنُ يزيدَ الدمشقيُّ، قال: كنتُ جالسًا عندَ عبدِ العزيزِ بن مَرْوانَ، فقال: يا فلانُ، اذهَبْ إلى فلانٍ فقلْ له: أَيُّ شيءٍ سَمِعتَ مِن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في الصلاةِ الوسطى؟ فقال رجلٌ جالسٌ: أَرْسَلَنى أبو بكرٍ وعمرُ وأنا غلامٌ صغيرٌ، أسْأَلُه عن الصلاةٍ الوسطى، فأخَذ إصْبَعى الصغيرةَ فقال:"هذه الفجرُ". وقَبَض التي تليها وقال: "هذه الظهرُ". ثم قَبَض الإبهامَ فقال: "هذه المغربُ". ثم قَبَض التي تليها ثم قال: "هذه العشاءُ". ثم قال: "أيُّ أصابعِك بَقِيَتْ؟ ". فقلْتُ: الوسطى. فقال: "أيُّ صلاةٍ بَقِيَتْ؟ " قلتُ: العصرُ. قال: "هي العصرُ"

(3)

.

حُدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: ذُكِر لنا أنّ المشركين شَغَلُوهم يومَ الأحزابِ عن صلاةِ العصرِ حتى غابتِ الشمسُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ، حتى

(1)

ينظر الصلاة الوسطى (150)، وتفسير ابن كثير "1/ 429".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 503" من طريق يونس به.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره "1/ 431" عن المصنف، وعنده: سالم مولى أبي بصير. ولم نجده فيما بين أيدينا من مصادر. وينظر الدر المنثور "1/ 304".

ص: 358

غَرَبَتِ الشمسُ، مَلأَ اللَّهُ بُيوتَهم وقُبُورَهم نارًا".

حدَّثنا ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا عَمرُو بنُ

(1)

أبي سلَمةَ، قال: ثنا صدقةُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن أبي حسانَ، عن عَبيدةَ السَّلْمانيِّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال يومَ الأحزابِ:"اللَّهُمَّ امْلأُ بُيُوتَهم وقُبُورَهم نارًا، كما شَغَلونا عن الصلاةِ الوسطى حتى آبَتِ الشمسُ".

حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ الطائيُّ، قال: ثنِى محمدُ بنُ إسماعيلَ بن عَيَّاشٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ، عن شُريحِ بن عُبيدٍ، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصرِ"

(2)

.

وقال آخرون: بل الصلاةُ الوسطَى صلاةُ الظهرِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: ثنا عفّانُ، قال: ثنا همامٌ، قال: ثنا قتادةُ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، عن ابن عمرَ، عن زيدِ بن ثابتٍ، قال: الصلاةُ الوسطَى صلاةُ الظهرِ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُخَرِّميُّ

(4)

، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، عن ابن عمرَ، عن زيدٍ - يعني ابنَ ثابتٍ - مثلَه

(5)

.

(1)

في النسخ: "عن".

(2)

أخرجه الطبراني (3458) من طريق محمد بن إسماعيل بن عياش به، وذكره ابن كثير في تفسيره "1/ 431" عن المصنف.

(3)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 167"، والبيهقى "1/ 459"، من طريق عفان به.

(4)

في النسخ: "المخزومي". وتقدم في "3/ 494".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 505" من طريق شعبة به.

ص: 359

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سعدِ

(1)

ابن إبراهيمَ، قال: سمِعتُ حفصَ بنَ عاصمٍ يُحَدِّثُ عن زيدِ بن ثابتٍ، قال: الصلاةُ الوسطى الظهرُ.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا سليمانُ بنُ داودَ، قال: ثنا شعبةُ، وحدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن شعبةَ، قال: أخبرني عمرُ بنُ سليمانَ، مِن ولدِ عمرَ بن الخطابِ، قال: سمِعتُ عبدَ الرحمنِ بنَ أبانِ بن عثمانَ يُحَدِّثُ عن أبيه، عن زيدِ بن ثابتٍ، قال: الصلاةُ الوسطَى هي الظهرُ

(2)

.

حدَّثنا زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرَ بن سليمانَ - هكذا قال أبو زائدةَ - عن عبدِ الرحمنِ بن أبانٍ، عن أبيه، عن زيدِ بن ثابتٍ في حديثٍ

(3)

رفَعه: "الصلاةُ الوسطى صلاةُ الظهرِ"

(4)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ يزيدَ، قال: ثنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ وابنُ لَهيعةَ، قالا: ثنا أبو عَقيلٍ زُهْرَةُ بنُ مَعْبَدٍ، أن سعيدَ بنَ المسيَّبِ حَدَّثه أنه كان قاعدًا هو وعروةُ بنُ الزبيرِ وإبراهيمُ بنُ طلحةَ، فقال سعيدُ بنُ المسيّبِ: سمِعتُ أبا سعيدٍ الخُدْرِيَّ يقولُ: الصلاةُ الوسطى هي الظهرُ. فمرَّ علينا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، فقال عروةُ: أرْسِلوا إلى ابن عُمرَ فاسْألوه. فأرْسَلوا إليه غلامًا فسَأَلَه، ثم جاءَنا الرسولُ فقال: يقولُ: هي صلاةُ الظهرِ. فشَكَكْنا في قولِ الغلامِ، فقُمْنا جميعًا فَذَهَبْنا إلى

(1)

في ت 1، ت 2:"سعيد".

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح المعانى "1/ 167" من طريق شعبة به، وعنده: عمرو بن سليمان. وينظر تهذيب الكمال "21/ 380، 381"

(3)

في النسخ: "حديثه". والمثبت هو الصواب.

(4)

أخرجه أحمد "5/ 183" من طريق شعبة به مطولا.

ص: 360

ابن عمرَ فسألناه، فقال: هي صلاةُ الظهرِ

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا العَوَّامُ بنُ حَوْشَبٍ، قال: ثني رجلٌ مِن الأنصارِ، عن زيدِ بن ثابتٍ أنه كان يقولُ: هي الظهرُ

(2)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ، ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا ابن أبي ذِئبٍ، وحدَّثني المثنّى، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عن الزِّبْرِقانِ بن عمرٍو، عن زيدِ بن ثابتٍ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ الظهرِ

(3)

.

حدَّثني المثنّى: قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، قال: أخبرنا عُبيدُ اللَّهِ، عن نافعٍ، عن زيدِ بن ثابتٍ أنه قال: الصلاةُ الوسطى هي صلاةُ الظهرِ.

حدَّثنا ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: أخبرنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: ثنى الوليدُ بنُ أبي الوليدِ أبو عثمانَ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عمرَ، أنه سُئِل عن صلاةِ

(4)

الوسطى، قال: هي التي على أثَرِ الضُّحَى

(5)

.

حدَّثنا ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا ابن أبى مريمَ، قال: ثنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: ثنى الوليدُ بنُ أبي الوليدِ، أنّ سلَمةَ بنَ أبي مريمَ حَدَّثَه أنّ نفرًا من قريشٍ أرْسَلوا إلى عبدِ اللَّهِ بن عمرَ يَسْألونه عن الصلاةِ الوسطَى، فقال له: هي التي على أثَرِ صلاةِ الضُّحَى. فقالوا له: ارْجعْ واسْأَلْه، فما زادَنا إلا عَياءً

(6)

بها، فمرَّ بهم عبدُ الرحمنِ بنُ

(1)

أخرجه البيهقى "1/ 458، 459" من طريق عبد الله بن يزيد عن حيوة - وحده - به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 302" إلى ابن عساكر.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 504" عن هشيم به.

(3)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 167" من طريق ابن أبي ذئب به مطولًا.

(4)

في م، ت 1:"الصلاة".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 302" إلى المصنف وابن المنذر.

(6)

في م: "عيا". وعَيَّ في منطقه عِيًّا وعَياءً: عجز عنه فلم يستطع بيان مراده منه.

ص: 361

أفلحَ مولَى عبدِ اللهِ بن عمرَ، فأَرْسَلوه إليه أيضًا، فقال: هي التي تَوَجَّه فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى القِبْلةِ

(1)

.

حدَّثني ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: أخبرنا نافعٌ، قال: ثني زُهْرَةُ بن مَعْبَدٍ، قال: ثني سعيدُ بنُ المسيَّبِ، أنه كان قاعدًا هو وعُرْوةُ وإبراهيمُ بنُ طلحةَ، فقال له سعيدٌ: سمِعتُ أبا سعيدٍ يقولُ: إنّ صلاةَ الظهرِ هي الصلاةُ الوسطى. فمرَّ علينا ابن عمرَ فقال عُروةُ: أرْسِلوا إليه فاسْألوه. فسألَه الغلامُ فقال: هي الظهرُ. فشَكَكْنا في قولِ الغلامِ، فقُمْنا إليه جميعًا فسَأَلْناه، فقال: هي الظهرُ.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ، قال: ثنا أبو عامرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن قيسٍ، عن ابن أبي رافعٍ، عن أبيه، وكان مولًى لحفصةَ، قال: اسْتَكْتَبَتْنى حفصةُ مُصْحفًا، وقالتْ لي: إذا أتيتَ على هذه الآيةِ فأعْلِمْنِي حتى أُمْلِيَها عليك كما أُقْرِئْتُها

(2)

. فلَمَّا أتيتُ على هذه الآيةِ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} أتيتُها، فقالت: اكْتُبْ: (حافِظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطَى وصلاةِ العصرِ). فلَقِيتُ أُبَيَّ بن كعبٍ أو زيدَ بنَ ثابِتٍ، فقلتُ: يا أبا المُنْذِرِ، إِنَّ حفصةَ قالتْ كذا وكذا. قال: هو كما قالتْ، أوَ ليس أَشْغَلُ ما نكونُ عندَ صلاةِ الظهرِ في غَنَمِنا ونَواضِحِنا

(3)

؟

وعِلَّةُ مَن قال ذلك ما حدَّثنا به محمدُ بنُ المثنّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخبرَني عمرُو بنُ أبى حَكيمٍ، قال: سمِعتُ الزِّبْرِقانَ يُحَدِّثُ

(1)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 167" من طريق الوليد به.

(2)

في ص: "أمر بها"، وفى م، ت 2:"أقرأنيها".

(3)

النواضح: جمع ناضح، وهى الدابة يُستقَى عليها.

والأثر أخرجه البخارى في التاريخ الكبير "5/ 281، 282" من طريق عثمان بن عمر به.

ص: 362

عن عُروةَ بن الزبيرِ، عن زيدِ بن ثابتٍ، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُصلِّي الظهرَ بالهاجِرَةِ، ولم يكنْ يُصلَّى صلاةٌ أشدُّ على أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منها. قال: فنَزَلتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . وقال: إِنَّ قبلَها صلاتَيْنِ وبعدَها صلاتيْن

(1)

.

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرنا ابن أبي ذئبٍ، عن الزِّبْرِقانِ، قال: إنّ رهطًا من قريشٍ مرَّ بهم زيدُ بنُ ثابتٍ، فَأَرْسَلوا إليه رجُلَيْن يَسْأَلانِه عن الصلاةِ الوسطى، فقال زيدٌ: هي الظهرُ. فقام رجلان منهم فأتيا أسامةَ بنَ زيدٍ فسَأَلاه عن الصلاةِ الوسطى، فقال: هي الظهرُ؛ إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي الظهرَ بالهَجيرِ، فلا يكونُ وراءَه إلَّا الصَّفُّ والصَّفانِ، الناسُ يكونون في قائِلَتِهم وفي تجارتِهم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لقد هَمَمْتُ أَنْ أُحَرِّقَ عَلى أَقْوامٍ لا يَشْهَدونَ الصلاةَ بُيُوتَهم". قال: فنَزَلتْ هذه الآيةُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}

(2)

.

وكان آخرون يَقْرءون ذلك: (حافِظُوا على الصلَوَاتِ وَالصلاةِ الوُسْطَى وَصَلاةِ العَصْرِ).

‌ذِكرُ مَن كان يقولُ ذلك كذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، قال: ثنا محمدُ [بنُ جعفرٍ]

(3)

، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي

(1)

أخرجه أبو داود (411)، والنسائى في الكبرى (357) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد "5/ 183"(الميمنية) عن محمد بن جعفر به.

(2)

أخرجه الإمام أحمد "5/ 206"(الميمنية) عن يزيد بن هارون به. وينظر الطيالسي (662).

(3)

في ت 1: "ابن أبي جعفر"، وبعده في ص:"قال حدَّثنا محمد بن جعفر".

ص: 363

بشرٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن يزيدَ الأَزْدِيِّ، عن سالمِ بن عبدِ اللَّهِ، أن حفصةَ أَمَرَتْ إنسانًا فكَتَبَ مُصحفًا، فقالتْ: إذا بَلَغْتَ هذه الآيةَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فَآذِنِّي. فلمَّا بَلَغ، آذَنَها فقالتْ: اكْتُبْ: (حافظوا على الصَّلَواتِ والصلاةِ الوسطى وصلاةِ العصر)

(1)

.

حدَّثنا ابن المثنّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ، عن نافعٍ أن حفصةَ أمَرتْ مولًى لها أن يَكْتُبَ لها مصحفًا، فقالتْ: إذا بَلَغْتَ هذه الآيةَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . فلا تَكْتُبْها حتى أُمْلِيَها عليك كما سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُها. فلمّا بَلَغَها أمَرَتُه فكَتَبها: (حافِظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطَى وصلاةِ العصرِ وقوموا لله قانتينَ). قال نافعٌ: فقَرَأْتُ ذلك المصحفَ فوَجَدتُ فيه الواوُ

(2)

.

حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا أَسَدُ بنُ موسَى، قال: ثنا حمادُ بنُ سَلَمَةَ، عن عُبيدِ اللهِ بن عُمرَ، عن نافعٍ، عن حفصةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالتْ لكاتبِ مُصحفِها: إِذا بَلَغْتَ مواقيتَ الصلاةِ فأخْبِرْنى حتى آمُرَك ما سَمِعتُ مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ. فلمَّا أَخْبَرَها قالت: اكتُبْ، فإنى سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"حافِظُوا على الصَّلَواتِ والصلاةِ الوسطَى وصلاةِ العصرِ"

(3)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عَبْدَةُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنى أبو سلَمةَ، عن عمرِو بن رافعٍ مولَى عمرَ، قال: كان مكتوبًا في مصحفِ حفصةَ:

(1)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 85 عن محمد بن بشار به.

(2)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 86 من طريق عبد الوهاب به، وأخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي - كما في التمهيد "4/ 281"، والبيهقى "1/ 462" من طريق عبيد الله به.

(3)

أخرجه ابن عبد البر في التمهيد "4/ 282" من طريق أسد بن موسى به، وابن أبي داود في المصاحف ص 85، 86 من طريق حماد به.

ص: 364

(حافِظُوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى وصلاةِ العصرِ وقُومُوا للهِ قانِتِينَ)

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ المصريُّ، قال: ثنا أبي وشُعيبٌ، عن الليثِ، قال: ثنا خالدُ بنُ يزيدَ، عن ابن أبي هلالٍ، عن زيدٍ، [عن عمرِو]

(2)

بن رافعٍ، قال: دَعَتْنى حفصةُ فكَتَبْتُ لها مصحفًا، فقالتْ: إذا بَلَغْتَ آيةَ الصلاةِ فأَخْبِرْني. فلمَّا كَتَبْتُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قالت: (وصلاةِ العصرِ). أَشهدُ أنى سَمِعتُها مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنى أبي وشعيبُ بنُ الليثِ، عن الليثِ، قال: أَخْبَرَنى خالدُ بنُ يزيدَ، عن ابن أبي هلالٍ، عن زيدٍ، أنه بَلَغَه عن أبي يونُسَ مولَى عائشةَ مثلُ ذلك.

حدَّثني المثنّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني الليثُ، قال: حدَّثني خالدٌ، عن سعيدٍ، عن زيدِ بن أَسْلَمَ، أنه بَلَغَه عن أبي يونسَ مولى عائشةَ، عن عائشةَ مثلُ ذلك

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنّى، قال: ثنا وهبُ بنُ جَريرٍ، قال: أخبرنا شعبةُ،

(1)

أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 87، والطحاوى في شرح المعانى "1/ 173" من طريق محمد بن عمرو به.

(2)

في ص، ت 2:"بن عمر".

(3)

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 165 من طريق الليث به، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد "4/ 280" من طريق زيد بن أسلم به، وأخرجه الطحاوى "1/ 172" من طريق عمرو بن رافع به، وأخرجه مالك "1/ 139" - ومن طريقه أبو عبيد في الفضائل ص 165 - وابن أبي داود ص 86، 87، والطحاوى "1/ 172" من طريق زيد بن أسلم.

(4)

أخرجه مالك "1/ 138" - ومن طريقه مسلم (629/ 207)، وأبو داود (410)، وابن أبي داود في المصاحف ص 84، والطحاوى في شرح المعانى "1/ 172" - عن زيد، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس به.

ص: 365

عن أبي إسحاقَ، عن [هُبَيرةَ بن يَرِيمَ]

(1)

، عن ابن عباسٍ:(حافِظُوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى وصلاةِ العصرِ)

(2)

.

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرنا عبدُ الملِكِ بنُ أبي سليمانَ، عن عطاءٍ، قال: كان عُبيدُ بنُ عُميرٍ يَقْرَأُ: (حافِظُوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطَى وصلاةِ العصرِ وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)

(3)

.

حدَّثنا ابن بشّارٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ، قال: ثنا أبو عامرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن قيسٍ، عن ابن أبي رافعٍ، عن أبيه - وكان مولَى حفصةَ - قال: اسْتَكْتَبَتْني حفصةُ مصحفًا وقالت: إذا أَتَيْتَ على هذه الآيةِ فأَعْلِمْنى حتى أُمْلِيَها

(4)

عليْك كما أُقْرِئْتُها

(5)

. فلما أتيتُ على هذه الآيةِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، أَتَيْتُها فقالت

(6)

: اكْتُبْ: (حافِظُوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى وصلاةِ العصرِ). فَلقيتُ أُبَيَّ بنَ كعبٍ أو زيدَ بنَ ثابتٍ، فقلتُ: يا أبا المُنذِرِ، إِنّ حفصةَ قالتْ كذا وكذا. قال: هو كما قالتْ، أوَ ليسَ أَشْغَلُ ما نكونُ عندَ صلاةِ الظهرِ في نواضِحِنا وغنمِنا؟.

وقال آخرون: بل الصلاةُ الوسطَى صلاةُ المغربِ.

(1)

في ص: "عمير بن بريم"، وفى م:"عمير بن مريم". والمثبت من السنن الكبرى للبيهقي، وينظر تهذيب الكمال "30/ 150".

(2)

أخرجه البيهقى "1/ 463" من طريق وهب بن جرير به، وأخرجه ابن أبي شيبة "2/ 504، 505"، وابن أبي داود في المصاحف ص 77، من طريق شعبة به، وعند ابن أبي شيبة:"والصلاة الوسطى صلاة العصر".

(3)

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 166، وابن أبي شيبة "2/ 505" عن يزيد به.

(4)

في ص: "أملها". وأمْلَى وأمَلّ بمعنًى.

(5)

في ص: "أقرتها".

(6)

في ص، ت 2:"فقلت".

ص: 366

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا عبدُ السلامِ، عن إسحاقَ بن أبي فَرْوةَ، عن رجلٍ، عن قَبيصةَ بن ذُؤَيْبٍ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ المغربِ، ألا تَرَى أنها ليستْ بأقَلِّها ولا أكثرِها، ولا تُقْصَرُ في السَّفرِ، وأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يُؤَخِّرْها عن وقتِها ولم يُعَجِّلْها

(1)

؟

قال أبو جعفرٍ: ووَجَّه قَبيصةُ بنُ ذُؤيبٍ قولَه: {الْوُسْطَى} إلى معْنى التَّوسُّطِ، الذي يكونُ صفةً للشيءِ، يكونُ عَدْلًا بيَن الأمريْنِ، كالرجلِ المعتدلِ القامةِ، الذي لا يكونُ مُفْرِطًا طولُه ولا قصيرةً قامتُه، ولذلك قال: ألَا تَرَى أنها ليستْ بأقلِّها ولا أكثرِها؟

وقال آخرون: بل الصلاةُ الوسطى التي عناها اللهُ بقولِه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} هي صلاةُ الغَدَاةِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عفانُ، قال: ثنا همامٌ، قال: ثنا قتادةُ، عن صالحٍ أبى

(2)

الخليلِ، عن جابرِ بن زيدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: صلاةُ

(3)

الوسطى صلاةُ الفجرِ

(4)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ وعبدُ الوهابِ ومحمدُ بنُ جعفرٍ، عن عوفٍ، عن أبي رجاءٍ، قال: صَلَّيتُ مع ابن عباسٍ الغداةَ في مسجدِ البصرةِ،

(1)

ينظر التمهيد "4/ 293".

(2)

في م، ت 1:"بن". وينظر تهذيب الكمال "13/ 89".

(3)

في م، ت 1:"الصلاة".

(4)

أخرجه الطحاوى في شرح المعاني "1/ 170"، والبيهقى "1/ 461" من طريق عفان به.

ص: 367

فقَنَتَ

(1)

بنا قبلَ الركوعِ وقال: هذه الصلاةُ الوسطى التي قال اللهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن عوفٍ، عن أبي رجاءٍ العُطارِدِيِّ، قال: صَلَّيتُ خلفَ ابن عباسٍ. فذَكَر نحوَه.

حدَّثنا عَبَّادُ بنُ يعقوبَ الأسَديُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن عوفٍ الأعرابيِّ، عن أبي رجاءٍ العُطارِدِيِّ، قال: صَلَّيتُ خلفَ ابن عباسٍ الفجرَ، فقَنَتَ فيها ورَفَع يديَه، ثم قال: هذه الصلاةُ الوسطى التي أَمَرَنَا اللَّهُ أَن نَقُومَ فيها قانتين.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا عوفٌ، عن أبي رجاءٍ، قال: صلَّى بنا ابن عباسٍ الفجرَ، فلمَّا فرَغ قال: إن الله قال في كتابِه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . فهذه الصلاةُ الوسطَى

(3)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا مَرْوانُ - يعني ابنَ معاويةَ - عن عوفٍ، عن أبي رجاءٍ العُطارِدِيِّ، عن ابن عباسٍ نحوَه.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عوفٌ، عن أبي المِنْهالِ، عن أبي العاليةِ، عن ابن عباسٍ أنه صلَّى الغداةَ

(4)

في مسجدِ البصرةِ، فقَنَت قبلَ الركوعِ

(1)

في ص: "فقلت".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2207)، والطحاوى في شرح المعانى "1/ 170"، والبيهقى "1/ 461" من طريق عوف به، وأخرجه ابن أبي شيبة "2/ 506"، والطحاوى في شرح المعانى "1/ 170"، والبيهقى "1/ 461" من طريق أبى رجاء به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 504" عن هشيم به.

(4)

في ت 1: "صلاة الغداة".

ص: 368

وقال: هذه الصلاةُ الوسطى التي ذَكَر اللَّهُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنّى: قال: ثنا عبدُ الوهاب، قال: ثنا المُهاجِرُ، عن أبي العاليةِ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ بالبصرةِ ههنا، وإنّ فَخِذَه لعلى فَخِذى، فقلتُ: يا أبا فلانٍ، أَرَأَيْتَك صلاةَ الوسطى التي ذَكَر اللهُ في القرآنِ، أَلَا تُحَدِّثُنِى أَيُّ صلاةٍ هي؟ قال: وذلك حينَ انْصَرَفوا من صلاةِ الغداةِ، فقال: أليس قد صَلَّيتَ المغربَ والعِشاءَ الآخِرَةَ؟ قال: قلتُ: بلَى. قال: ثم صَلَّيتَ هذه؟ قال: ثم تُصلِّى الأُولَى والعصرَ؟ قال: قلتُ: بلَى. قال: فهى هذه.

حدَّثنا محمدُ بنُ عيسى الدَّامَغانيُّ، قال: أخبرنا ابن المباركِ، قال: أخبرنا الربيعُ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ، قال: صَلّيتُ خلفَ عبدِ اللهِ بن قيسٍ بالبصرةِ زمنَ عمرَ صلاةَ الغداةِ. قال: فقلتُ لرجلٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى جنبِي: ما الصلاةُ الوسطَى؟ قال: هذه الصلاةُ

(2)

.

حدَّثني المثنّى، قال: ثنا الحَجّاجُ، قال: ثنا حمادٌ، قال: أخبرنا عوفٌ، عن خِلاسِ بن عمرٍو، عن ابن عباسٍ أنه صَلَّى الفجرَ فقَنَتَ قبلَ الركوعِ، ورَفَع إصْبَعَيْه، قال: هذه

(3)

الصلاةُ الوسطى.

حُدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ أنه صَلَّى مع أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الغداةِ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا، قال:

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 301" إلى المصنف.

(2)

أخرجه الطحاوى في شرح المعانى "1/ 170" من طريق ابن المبارك به.

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"هي".

ص: 369

قلتُ لهم: أَيَّتُهنَّ الصلاةُ الوسطى؟ قالوا

(1)

: التي صَلَّيْتَها قَبلُ

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن عَثْمَةَ، قال: ثنا سعيدُ بنُ بَشيرٍ، عن قتادةَ، عن جابرِ بن عبدِ اللهِ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ الصبحِ

(3)

.

حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرنا عبدُ الملكِ بنُ أبي سليمانَ، قال: كان عطاءٌ يَرَى أن الصلاةَ الوسطى صلاةُ الغداةِ

(4)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقِدٍ، عن يزيدَ النَّحْويِّ، عن عِكرمةَ في قولِه:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قال: صلاةُ الغداةِ.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قال: الصبحُ

(5)

.

حدَّثني المثنّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حُدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن حُصَينٍ، عن عبدِ اللهِ بن شدادِ بن الهادِ، قال: الصلاةُ الوسطى صلاةُ الغداةِ

(6)

.

حُدِّثتُ عن عمّارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعٍ في قولِه:

(1)

في ص: "قال".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2208) عن أبي جعفر به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور "1/ 301" إلى المصنف.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 505" عن يزيد بن هارون به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2205) عن ابن جريج، عن عطاء به.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 505" من طريق ابن أبي نجيح به.

(6)

ذكره ابن المنذر في الأوسط "2/ 367".

ص: 370

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} . قال: الصلاةُ الوسطَى صلاةُ الغداةِ.

وعلّةُ مَن قال هذه المقالَةَ أن الله تعالى ذِكرُه قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، بمعْنى: وقُوموا للهِ فيها قانتِين. قال

(1)

: فلا صلاةَ مكتوبةً مِن الصلواتِ الخمسِ فيها قنوتٌ سوى

(2)

صلاةِ الصبحِ، فعُلِم بذلك أنها هي دونَ غيرِها.

وقال آخرون: هي إحدى الصلواتِ الخمسِ، ولا نَعْرِفُها بعينِها.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: ثنى هشامُ بنُ سعدٍ، قال: كنا عندَ نافعٍ ومعَنا رجاءُ بنُ حَيْوَةَ، فقال لنا رجاءٌ: سَلوا نافعًا عن الصلاةِ الوسطى. فسألْناه، فقال: قد سأل عنها عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رجلٌ، فقال: هي فيهنَّ، فحافِظوا عليهنَّ كلَّهنَّ

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، عن قيسِ بن الرَّبيعِ، عن [نُسَيرِ بن ذُعْلُوقٍ أبى طُعْمَةَ]

(4)

، قال: سألتُ الربيعَ بنَ خُثيمٍ

(5)

عن الصلاةِ الوسطى، قال:

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"قالوا".

(2)

في ص: "وسوى".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره "2/ 448"(2376) عن يونس به، وحسن إسناده الحافظ في الفتح "8/ 196".

(4)

في ص، ت 2:"سيرين بن دعلوق عن أبي فطيمة"، وفى م:"نسير بن زعلوق عن أبي فطيمة".

والمثبت من تهذيب الكمال "29/ 339".

(5)

في م، ت 1، ت 2:"خيثم". وينظر تهذيب الكمال "9/ 70".

ص: 371

أَرَأَيْتَ إِن عَلِمْتَها كنتَ محافظًا عليها ومُضَيِّعًا سائِرَهُنَّ؟ قلتُ: لا. فقال: فإنك إن حافَظْتَ عليهنَّ فقد حافَظْتَ عليها.

حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنّى، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمعتُ قتادةَ يُحَدِّثُ عن سعيدِ بن المسيَّبِ، قال: كان أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيه هكذا. يعنى مُختلِفِين في الصلاةِ الوسطى. وشَبَّكَ بينَ أصابِعِه

(1)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما تَظاهَرَتْ به الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التي ذَكَرْناها قبلُ في تأويلِه، وهو أنها العصرُ، والذي حثَّ اللهُ تعالى ذكرُه عليه مِن ذلك نظيرُ الذي رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الحثِّ عليه.

كما حدَّثني به أحمدُ بنُ محمدِ بن حَبيبٍ الطُّوسيُّ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبي، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ أَبي حَبيبٍ، عن خَيْرِ

(2)

بن نُعيمٍ الحَضْرَميِّ، عن عبدِ اللَّهِ بن هُبيرةَ السَّبَئِي

(3)

- قال: وكان ثقةً - عن أبي تَميمٍ الجَيْشانيِّ، عن أبي بصْرَةَ

(4)

الغِفاريِّ، قال

(5)

: صَلَّى بنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ العصرِ، فلمَّا انْصَرَفَ قال:"إن هذه الصلاةَ فُرِضَتْ على مَن كان قبْلَكم، فتَوَانَوْا فيها وتَرَكوها، فمَن صَلَّاها منكم أُضعِفَ أَجْرُه ضِعْفَيْنِ، ولا صلاةَ بعدَها حتى يُرَى الشَّاهدُ". وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ

(6)

.

حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني الليثُ، قال: ثنى

(1)

ينظر الفتح "8/ 197".

(2)

في ص، م، ت 1:"جبر"، وفى ت 2:"جبير". وينظر تهذيب الكمال "8/ 372".

(3)

في ص، م، ت 1:"النسائي". وينظر مصدرى التخريج.

(4)

في ص: "نصرة"، وفى م، ت 1، ت 2 "نضرة". وينظر تهذيب الكمال "7/ 423"، "33/ 81".

(5)

بعده في ت 1: "كان".

(6)

أخرجه أحمد "6/ 396، 397"(الميمنية)، ومسلم (830)، من طريق يعقوب به نحوه.

ص: 372

خَيْرُ

(1)

بنُ نُعيمٍ، عن ابن

(2)

هُبيرةَ، عن أبي تميم الجَيْشانيِّ، أن أبا بصْرةَ

(3)

الغِفاريَّ، قال: صَلَّى بنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ العصرِ بالمُخَمَّصِ

(4)

، فقال:"إنَّ هذه الصلاةَ فُرِضَتْ على مَن كان قَبْلَكم فَضَيَّعُوها وتَرَكُوها، فمَن حافَظَ عليها منكم أُوتِىَ أَجْرَها مرَّتيْنِ"

(5)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "بَكِّرُوا بالصلاةِ في يومِ الغَيْمِ، فإِنَّه مَن فَاتَتْه العصرُ حَبِطَ عَمَلُه".

حدَّثنا بذلك أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، وحدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أيوبُ بن سُوَيدٍ، [قالا: ثنا الأوزاعيُّ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ]

(6)

، عن أبي قِلابةَ، عن أبي المُهاجِرِ، عن بُرَيدةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(7)

.

[وقال صلى الله عليه وسلم]

(8)

: "مَنْ فاتَتْه صلاةُ العصرِ فكأنَّما وُتِرَ أهْلَه ومالَه"

(9)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن صَلَّى قبلَ طُلُوعِ الشمسِ وقبلَ غُرُوبِها لم يَلِجِ النارَ"

(10)

.

(1)

في ص، م، ت 1:"جبر"، وفي ت 2:"جبير".

(2)

في ص، ت 1:"أبى". وينظر تهذيب الكمال "16/ 242".

(3)

في ص: "نصرة"، وفى م:"نضرة".

(4)

في ص: "بالمعمس"، وفى م:"بالمغمس". والمخمص: طريق في جبل عَيْر إلى مكة.

معجم البلدان "4/ 444".

(5)

أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1003)، والطبراني (2165) من طريق عبد الله بن صالح به، وأخرجه مسلم (830/ 292)، والنسائى (520)، وابن أبي عاصم (1004) من طريق الليث به.

(6)

سقط من النسخ، والمثبت موافق لما في مصادر التخريج.

(7)

أخرجه أحمد "5/ 361" عن وكيع به، وأخرجه ابن ماجه (694)، وابن حبان (1470) من طريق الأوزاعي به، وينظر الطيالسي (848)، وابن حبان (1463).

(8)

في م: "قال".

(9)

أخرجه الطيالسي (1912، 1917) من حديث ابن عمر.

(10)

أخرجه مسلم (634/ 213، 214)، والنسائى (470)، وابن خزيمة (318 - 320)، من حديث عمارة بن رُويبة نحوه.

ص: 373

فحثَّ صلى الله عليه وسلم على المحافظةِ عليها حثًّا لم يَحُثُّ مثلَه على غيرِها مِن الصلواتِ، وإن كانتِ المحافظةُ على جميعِها واجبةً، فكان بيِّنًا بذلك أن التي خَصَّ

(1)

اللهُ بالحَثِّ على المحافظةِ عليها، بعدَ ما عَمَّ الأمرَ بها جميع المكتوباتِ، هي التي اتَّبَعَه فيها نبيُّه صلى الله عليه وسلم فخَصَّها مِن الحَضِّ عليها بما لم يَخْصُصْ به غيرَها مِن الصلواتِ، وحَذَّر أُمَّتَه مِن تضييعِها ما حلَّ بمَن قبلَهم مِن الأممِ التي وَصَف أمرَها، ووَعَدهم من الأجرِ على المحافظةِ عليها ضِعْفَيْ ما وَعَد على غيرِها من سائرِ الصلواتِ. وأحْسَبُ أن ذلك كان كذلك لأن الله تعالى ذِكُره جَعَل الليلَ سكنًا، والناسُ مِن شُغْلِهم بطَلَبِ المعاشِ والتَّصرُّفِ

(2)

في أسباب المكاسب هادئون، إلا القليل منهم، وللمحافظةِ على فرائضِ اللهِ وإقامِ الصلواتِ المكتوباتِ فارِغون

(3)

. وكذلك ذلك في صلاةِ الصبحِ؛ لأن ذلك وقتٌ قليلٌ مَن يَتَصَرَّفُ فيه للمكاسبِ والمطالبِ، ولا مُؤنَةَ عليهم في المحافظةِ عليها. وأما صلاةُ الظهرِ، فإن وقتَها وقتُ قائِلَةِ الناسِ واستراحتِهم مِن مطالبِهم، في أوقاتِ شدَّةِ الحرِّ وامتدادِ ساعاتِ النهارِ، ووقتُ توديعِ

(4)

النُّفوسِ، والتَّفرُّغِ لراحةِ الأبدانِ في أوانِ البردِ وأيامِ الشتاءِ. وأن المعروفَ مِن الأوقاتِ لتصرُّفِ الناسِ في مطالبِهم ومكاسبِهم والاشتغالِ بسَعْيِهم لما لا بدَّ منه لهم مِن طَلَبِ أقواتِهم، وقْتانِ مِن النهارِ؛ أحدُهما: أولُ النهارِ بعدَ طُلوعِ الشمسِ إلى وقتِ الهاجِرَةِ، وقد خَفَّف اللهُ تعالى ذِكُره فيه عن عباده عِبْءَ تكليفِهم

(5)

في ذلك الوقتِ، وثِقَلَ ما

(1)

في م: "حض".

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"و".

(3)

في م: "فازعون".

(4)

التوديع: الراحة. تاج العروس (و د ع).

(5)

في ت 1، ت 2:"تكلفهم".

ص: 374

يَشْغَلُهم عن سعيِهم في مطالبِهم ومكاسِبِهم، وإن كان قد حَثَّهم في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه في ذلك الوقتِ على صلاةٍ، ووَعَدهم عليها الجزيلَ مِن ثوابِه، مِن غيرِ أن يَفْرِضَها عليهم، وهى صلاةُ الضُّحى. والآخَرُ منهما: آخِرُ النهارِ، وذلك مِن بعد إبْرادِ الناس وإمكانِ التصرفِ وطَلَبِ المعاشِ صيفًا وشتاءً، إلى وقتِ مَغيبِ الشمسِ، وفَرَض عليهم فيه صلاةَ العصرِ، ثم حَثَّ على المحافظةِ عليها لِئَلّا يُضَيِّعُوها؛ لِمَا عَلِم مِن إيثارِ عبادِه أسبابَ عاجلِ دنياهم وطلبَ معايشِهم فيها، على أسبابِ آجلِ آخرَتِهم، بما حَثَّهم به عليه في كتابِه، وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم. ووَعَدهم مِن جزيلِ ثوابِه على المحافظةِ عليها، ما قد ذَكَرتُ بعضَه في كتابِنا هذا. وسنَذْكُرُ باقِيَه في كتابِنا الأكبرِ إن شاء اللهُ مِن كتاب "أحكامِ الشرائعِ".

وإنما قيل لها: {الْوُسْطَى} . لتَوَسُّطِها الصلواتِ المكتوباتِ الخمسَ، وذلك أن قبلَها صلاتَيْن، وبعدَها صلاتَيْن، وهى بين ذلك وُسْطاهُنَّ.

والوُسْطَى الفُعْلَى، مِن قولِ القائلِ: وسَطْتُ القومَ أَسِطُهم سِطَةً ووُسُوطًا. إذا دَخَلتَ وَسْطَهم. ويقال للذَّكَرِ فيه: هو أوْسَطُنا. وللأنثى: هي وُسْطانا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} .

اختلفَ أهلُ التأويلِ في معنَى قولِه: {قَانِتِينَ} ؛ فقال بعضُهم: معنَى القُنوتِ الطاعةُ. ومعنى ذلك: وقومُوا للهِ في صلاتِكم، مُطِيعِين له فيما أمَرَكم به فيها، ونهاكم عنه.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عليُّ بنُ سعيدٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن ابن عَوْنٍ، عن

ص: 375

الشَّعْبيِّ في قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: مُطِيعين

(1)

.

حدَّثني أبو السائبِ سَلْمُ بنُ جُنادَةَ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ابن عونٍ، عن الشعبيِّ مثلَه.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو المُنيبِ، عن جابرِ بن زيدٍ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . يقولُ: مُطِيعين

(1)

.

حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن عطاءٍ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: مُطِيعين

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ

(2)

، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن [أبي بشرٍ]

(3)

، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِه:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: مُطِيعينَ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الربيعِ بن أبي راشدٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ أنه سُئل عن القنوتِ، فقال: القنوتُ الطاعةُ.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ، قال: القنوتُ الذي ذَكَره الله في القرآنِ، إنما يعنى به الطاعةَ.

حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: إن أهلَ كلِّ دينٍ يقومون للَّهِ عاصِين، فقوموا أنتم للهِ طائعينَ.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 449 عقب الأثر (2378).

(2)

في النسخ: "الحمصي". والمثبت كما سيأتي في سورة النساء الآية 43، وسورة المائدة، الآية 6. وينظر تهذيب الكمال 1/ 397.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 3 "ابن بشر"، وفى ت 2:" ابن بشير"، وينظر تهذيب الكمال 5/ 5.

ص: 376

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: قوموا للهِ مُطيعين في كلِّ شيءٍ، وأطيعوه في صلاتِكم.

حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفَرَجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ قال: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : القُنوتُ الطاعةُ. يقولُ: لكلِّ أهلِ دينٍ صلاةٌ، يقومون في صلاتِهم للهِ عاصِين، فقوموا للهِ مُطيعين.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَانِتِينَ} . يقولُ: مُطيعين

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال

(2)

: مُطيعين

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنى شَريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . يقولُ

(4)

: مُطيعين.

حدَّثني عمرانُ بنُ بَكّارٍ الكَلاعيُّ، قال: ثنا خطابُ بنُ عثمانَ، قال: ثنا أبو رَوْحٍ عبدُ الرحمنِ بنُ سنانٍ السَّكُونيُّ، حِمْصِيٌّ لَقِيتُه بِأَرْمِينِيَّةَ، قال: سمِعتُ الحسنَ بنَ أبي الحسنِ يقولُ في قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: طائعين (3).

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ:

(1)

أخرجه ابن المنذر في الأوسط 3/ 230 (1567) من طريق عبد الله بن صالح به.

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"يقول".

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 449 عقب الأثر (2378) معلقًا.

(4)

في ص، ت 1، ت 2:"قال".

ص: 377

عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: مُطيعين

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(2)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . يقولُ: مُطيعين

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قال: ثنا فُضيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ، قال: كانوا يَأْمُرون في الصلاةِ بحوائجِهم، حتى أُنزِلتُ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، فتَرَكوا الكلامَ. قال: قانِتين: مُطيعين.

حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسَديُّ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبرنا فُضيلٌ، عن عطيةَ في قولِه:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: كانوا يَتَكَلَّمون في الصلاةِ بحوائجِهم، حتى نَزَلَتْ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فتَرَكوا الكلامَ في الصلاةِ

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ في قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: كلُّ أهلِ دينٍ يقومون فيها عاصِين، فقوموا أنتم للَّهِ مُطيعين

(5)

.

حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا أسدُ بنُ موسى، قال: ثنا ابن لَهيعةَ، قال:

(1)

تفسير مجاهد ص 239.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 213 (1129) من طريق أبي حذيفة به.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 96 عن معمر، عن قتادة.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف.

ص: 378

ثنا دَرَّاجٌ، عن [أبي الهيثمِ]

(1)

، عن أبي سعيدٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كُلُّ حرفٍ في القرآنِ فيه القُنُوتُ فإنما هو الطاعةُ"

(2)

.

حدَّثنا العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا سعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ، قال: القنوتُ طاعةُ اللهِ، يقولُ الله تعالى ذِكُره:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : مُطيعين.

حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيعِ، قال: ثنا سفيانُ، قال: قال ابن طاوسٍ، كان أبي يقولُ: القنوتُ طاعةُ اللهِ

(3)

.

وقال آخرون: القنوتُ في هذه الآيةِ السُّكوتُ. وقالوا: تأويلُ الآيةِ: وقوموا للهِ ساكِتين عما نَهاكم اللهُ أن تَتَكَلَّموا به في صلاتِكم.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : القنوتُ في هذه الآيةِ السُّكوتُ

(4)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ في خبرٍ ذَكَره عن مُرَّةَ، عن ابن مسعودٍ، قال

(5)

: كنَّا نَقومُ في الصلاةِ فَنَتَكَلَّمُ، ويسألُ الرجلُ

(1)

في ت 1: "ابن أبي الهيثم".

(2)

أخرجه أحمد 18/ 239 (1171)، وأبو يعلى (1379) من طريق ابن لهيعة به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 213، 2/ 648 (1128، 3492)، وابن حبان (309)، والطبراني في الأوسط (5181)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 325 من طريق دراج به.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 449 بنحوه عقب الأثر (2378) معلقًا.

(4)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 147، والبحر المحيط 2/ 242.

(5)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"قال عبد الله".

ص: 379

صاحبَه عن حاجتِه، ويُخبِرُه، ويَرُدُّون عليه إذا سَلَّم، حتى أتَيتُ أنا فسَلَّمتُ، فلم يَرُدُّوا عليَّ السلامَ، فاشْتَدَّ ذلك عليَّ، فلمَّا قَضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاتَه قال:"إنَّه لم يمْنعْنِي أن أرد عليك السَّلامَ إلَّا أَنَّا أُمِرْنا أن نَقُومَ قانِتِينَ لا نَتَكَلَّمُ في الصلاةِ". والقنوتُ السكوتُ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عُبيدٍ المُحاربيُّ، قال: ثنا الحَكَمُ بنُ ظُهيرٍ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: كنا نَتَكَلَّمُ في الصلاةِ، فَسَلَّمتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلم يَرُدَّ عليَّ، فلمَّا انْصَرَف قال:"قد أَحْدَثَ اللَّهُ ألا تَكَلَّمُوا في الصلاةِ". ونَزَلَتْ هذه الآيةُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(1)

.

حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيانٍ السُّكَّرِيُّ، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ يزيدَ، وحدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن أبى زائدةَ وابنُ تُميرٍ ووكيعٌ

(2)

ويَعْلَى بْنُ عُبيد، جميعًا عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن الحارثِ بن شُبَيْلٍ

(3)

، عن أبي عمرٍو الشَّيْبانيِّ، عن زيدِ بن أرقمَ، قال: كنا نَتَكَلَّمُ في الصلاةِ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُكَلِّمُ أحدُنا صاحِبَه

(4)

في الحاجةِ، حتى نَزَلتْ هذه الآيةُ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . فأُمِرْنا بالسكوتِ

(5)

.

حدَّثنا هَنّادُ بنُ السَّريِّ، قال: ثنا أبو الأحْوَصِ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ في

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف.

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"بنحوه".

(3)

في م: "شبل". وهو مما قيل في اسمه، ينظر تهذيب الكمال 5/ 237.

(4)

في ص، ت 2:"حاجته".

(5)

أخرجه مسلم (539/ 35) مِن طريق ابن نمير ووكيع به، وأخرجه أبو عوانة 2/ 139، وابن المنذر في الأوسط 3/ 229 (1565)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 449 (2377)، والطبراني في الكبير (5064)، من طريق يعلى به. وأخرجه البخارى (1200، 4534) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به.

ص: 380

قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: كانوا يَتَكَلَّمون في الصلاةِ، يَجِيءُ خادمُ الرجلِ إليه وهو في الصلاةِ فيُكَلِّمُه بحاجتِه، فنُهُوا عن الكلامِ

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ، عن عنبسةَ، عن الزبيرِ بن عديٍّ، عن كُلْثومِ بن المُصْطَلِقِ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ

(2)

، قال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان عَوَّدني أن يَرُدَّ عليَّ السلامَ في الصلاةِ، فأتَيْتُه ذاتَ يومٍ فسَلَّمْتُ فلم يَرُدَّ عليَّ، وقال:"إِنَّ الله يُحْدِثُ في أمرِه ما يشاءُ، وإنَّه قد أحْدَّثَ لكم في الصلاةِ ألا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ، وما يَنْبَغِى مِن تَسْبِيحٍ وتَمجِيدٍ، وقُومُوا للهِ قانِتِينَ"

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: إذا قُمْتم في الصلاةِ فاسْكُتُوا، لا تُكَلِّمُوا أحدًا حتى تَفْرُغوا منها. قال: والقانتُ: المُصَلِّي الذي لا يَتَكَلَّمُ

(4)

.

وقال آخرون: القنوتُ في هذه الآية الرُّكُودُ

(5)

في الصلاةِ والخشوعُ فيها. وقالوا

(6)

: تأويلُ الآيةِ: وقوموا للهِ في صلاتِكم خاشِعين، خافِضِى الأجنحةِ، غير عابثِين ولا لاعِبِين.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنى سَلْمُ بنُ جُنادةَ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف وابن المنذر، وأخرجه الطبراني في الكبير (11776) من طريق أبى الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله.

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"أتاني عائدا و".

(3)

أخرجه النسائي (1219)، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 355 من طريق الزبير بن عدى به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف.

(5)

في م، ت:"الركوع". والركود: السكون والثبات. ينظر التاج (ر ك د).

(6)

بعده في م، ت 1، ت 2:"في".

ص: 381

{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: فمِن القنوتِ طولُ الركوعِ وغَضُّ البصرِ، وخَفْضُ الجَناحِ، والخشوعُ مِن رهبةِ اللهِ، كان العلماءُ إذا قام أحدُهم يُصلِّي، يهابُ الرحمنَ أن يَلْتَفِت، أو أن يُقَلِّبَ الحَصى، أو يَعْبَثُ بشيءٍ، أو يُحَدِّثَ نفسَه بشيءٍ مِن أمرِ الدنيا إلا ناسيًا

(1)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ نحوَه، إلا أنه قال: فمِن القنوتِ الركودُ والخشوعُ

(2)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: مِن القنوتِ الخشوعُ وخَفضُ الجَناحِ مِن رهبةِ اللهِ، وكان الفقهاءُ مِن أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما إذا قام أحدُهم إلى الصلاةِ لم يَلْتَفِتْ، ولم يُقلِّبِ الحصى، ولم يُحَدِّثُ نفسَه بشيءٍ مِن أمرِ الدنيا إلا ناسيًا، حتى يَنْصَرِفَ.

حُدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: إِنَّ مِن القنوتِ الركودَ

(3)

. ثم ذَكَر نحوَه

(4)

.

حُدِّثتُ عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 449 (2381) من طريق ابن إدريس به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (406 - تفسير) - ومن طريقه البيهقى في الشعب (3152) - والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 171، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 449 (2381) من طريق الليث به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة 1/ 188 (138) من طريق جرير به.

(3)

في ت 2: "الركوع".

(4)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (1077)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 282، والأصبهاني في الترغيب 2/ 765 (1867) من طريق أبي جعفر به.

ص: 382

{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: القنوتُ الرُّكودُ. يعنى القيامَ في الصلاةِ والانْتصابَ له.

وقال آخرون: بل القنوتُ في هذا الموضعِ الدعاءُ. قالوا: تأويلُ الآيةِ: وقوموا للهِ راغِبِين في صلاتِكم.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، وثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى عَدِيٍّ وعبدُ الوَهَّابِ ومحمدُ بنُ جعفرٍ، جميعًا عن عوفٍ، عن أبي رجاءٍ، قال: صَلَّيتُ مع ابن عباسٍ الغَداةَ في مسجدِ البصرةَ، فقَنَت بنا قبلَ الركوعِ، وقال: هذه الصلاةُ الوسطى التي قال اللهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى هذه الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ قولِه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قولُ مِن قال: تأويلُه: مُطيعينَ. وذلك أن أصلَ القنوتِ الطاعةُ. وقد تكونُ الطاعةُ للهِ في الصلاةِ بالسكوتِ عما نهاه

(2)

اللهُ مِن الكلامِ فيها؛ ولذلك وَجَّه مَن وَجَّه تأويلَ القنوتِ في هذا الموضعِ إلى السكوتِ في الصلاةِ - أحدِ المعاني التي فَرَضَها اللهُ على عبادِه فيها - إلا عن قراءة قرآنٍ، أو ذِكرٍ له بما هو أهْلُه.

ومما يَدُلُّ على أنهم قالوا ذلك كما وَصَفْنا، قولُ النَّخَعيِّ ومجاهدٍ الذي حدَّثنا به أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوازِيُّ

(3)

، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ ومجاهدٍ، قالا: كانوا يَتَكَلَّمون في الصلاةِ، يَأْمُرُ الرجلُ

(4)

أخاه بالحاجةِ، فنَزَلتْ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . قال: فقَطَعوا الكلامَ. والقنوتُ

(1)

تقدم تخريجه ص 367، 368.

(2)

في م: "نهى".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عن الأهوازي".

(4)

في م، ت 1:"أحدهم".

ص: 383

السكوتُ، والقنوتُ الطاعةُ

(1)

.

فجَعَل إبراهيم ومجاهدٌ القنوتَ سكوتًا في طاعةِ اللهِ، على ما قُلْنا في ذلك مِن التأويلِ. وقد تكونُ الطاعةِ للهِ فيها بالخشوعِ وخفضِ الجَناحِ، وإطالةِ القيامِ، وبالدعاءِ؛ لأن كُلًّا

(2)

غيرُ خارج مِن أحدِ مَعْنَيَين؛ مِن أن يكونَ مما أُمِر به المُصَلِّى، أو مما نُدِب إليه. والعبدُ بكلِّ ذلك للهِ

(3)

مطيعٌ، وهو لربِّه فيه قانِتٌ. والقنوتُ أصْلُه الطاعةُ للهِ، ثم يُسْتَعْمَلُ في كلِّ ما أطاع الله به العبدُ.

فتأويلُ الآيةِ إذن: حافِظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوُسْطَى، وقُوموا للهِ فيها مُطيعين، بتَرْكِ بعضِكم

(4)

فيها كلامَ بعضٍ وغيرِ ذلك مِن معاني الكلامِ، سوى قراءةِ القرآنِ فيها، أو ذِكِر اللهِ بالذي هو أهلُه، أو دُعائِه فيها، غيرَ عاصِين للَّهِ فيها بتَضْييعِ حُدودِها، والتفريطِ في الواجبِ للهِ عليكم فيها، وفى غيرِها مِن فرائضِ اللهِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .

يعنى تعالى ذِكُره بذلك: وقُوموا للهِ في صلاتِكم مُطيعين له - لما قد بَيَّنَّاهُ من معناه - فإِنْ خِفْتُمْ مِن عدوٍّ لكم أيها الناسُ، تَخشَوْنَهم على أنفسِكم في حالِ التقائِكم معهم، أن تُصَلُّوا قيامًا على أرجلِكم بالأرضِ قانتينَ للَّهِ، فَصَلُّوا رجالًا مُشاةً على أرجُلِكم، وأنتم في حربِكم وقتالِكم وجهادِ عدوِّكم، أو رُكْبانًا على ظُهورِ دَوابِّكم، فإن ذلك يَجزيكُم حينئذٍ مِن القيامِ منكم

(5)

قانتينَ.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر من قول مجاهد وحده، وهو عند عبد الرزاق في مصنفه (3574) عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كل".

(3)

سقط مِن: ص، ت 2 ت 3.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بعضهم".

(5)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أو"

ص: 384

ولما قلنا مِن أن معنَى ذلك كذلك، جازَ نصبُ "الرجالِ" بالمعنى المحذوفِ، وذلك أن العربَ تفعَلُ ذلك في الجزاءِ خاصةً؛ لأن ثانيه شبيهٌ بالمعطوفِ على أوَّلِه، ويُبَيِّنُ ذلك أنهم يقولون: إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. بمعنى: إن تفعَل خيرًا تُصِبْ خيرًا، وإن تفعَلْ شَرًّا تُصِبْ شرًّا. فيَعْطِفون

(1)

الجوابَ على الأولِ لانجزامِ الثاني بجزمِ الأولِ، فكذلك قولُه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، بمعنى: إنْ خِفْتُم أن تُصلُّوا قيامًا بالأرضِ، فصلُّوا رِجالًا.

والرِّجالُ جمعُ رَاجلٍ ورَجُلٍ. وأما أهلُ الحجازِ فإنهم يقولون لواحدِ الرِّجالِ: رَجُلٌ. مسموعٌ منهم: مَشَى فلانٌ إلى بيتِ اللهِ حافيًا رَجُلًا. وقد سُمِعَ مِن بعضِ أحياءِ العربِ في واحدِهم: رَجُلانُ، كما قال بعضُ بني عُقَيْلٍ

(2)

:

عليَّ إذَا أَبْصَرْتُ لَيْلَى بخَلْوَةٍ

أن ازْدَارَ

(3)

بَيْتَ اللَّهِ رَجْلانَ حافِيا

فمَن قال: رَجْلان. للذكَرِ، قال للأنثى: رَجْلَى. وجاز في جمعِ المذكرِ والمؤنَّثِ فيه أن يُقالَ: أتى القومُ رُجالَى ورَجالى. مثلُ كُسالى وكَسَالَى.

وقد حُكِىَ عن بعضِهم أنه كان يقرأُ ذلك: (فإنْ خِفْتُمْ فَرجَالًا)

(4)

مشدَّدةً. وعن بعضهم أنه كان يقرأُ: (فَرجَالًا)

(5)

. وكلتا

(6)

القراءتَيِن غيرُ جائزةٍ القراءةُ بها عندنا؛ لخلافِها

(7)

القراءةَ الموروثةَ المستفيضةَ

(8)

في أمصارِ المسلمين.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فيعطون".

(2)

البيت المجنون ليلى قيس بن الملوح، وهو في ديوانه ص 301.

(3)

في ص: "ازوار". وازدار، افتعل مِن الزيارة.

(4)

وبها قرأ ابن محيصن وعكرمة وأبو مجلز. البحر المحيط 2/ 243.

(5)

رويت هذه القراءة عن عكرمة. المصدر السابق.

(6)

في ص، ت 1، ت 2:"كلا".

(7)

في م: "بخلاف"، وفى ت 2:"لخلاف".

(8)

في ص، ت 1، ت 2:"مستفيضة".

ص: 385

وأما الركبانُ، فجمعُ راكبٍ، يقالُ: هو راكبٌ، وهم رُكبانٌ ورَكْبٌ ورَكْبَةٌ ورُكَابٌ وأَرْكُبٌ وأُرْكوبٌ. يقالُ: جاءنا أُرْكوبٌ مِن الناسِ وأراكيبُ.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: سألته عن قولِه: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: عندَ المطاردةِ يُصلِّى حيثُ كانَ وجهه؛ راكبًا أو رَاجِلًا، ويجعَلُ السجودَ أخفضَ مِن الركوعِ، ويُصلِّي ركعتيْن، يُومئُ إيماءً

(1)

.

حدَّثنا ابن بشّارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: صلاةُ الضِّرابِ ركعتَينِ، يُومئُ إيماءً.

حدَّثني أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، عن سفيانَ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ قوله:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: يُصلِّى ركعتَينِ حيثُ كان وجْهُه، يُومئُ إيماءً

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلَ، عن سالمٍ: عن سعيدِ بن جُبيرٍ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: إِذا طَرَدَتِ الحَيلُ فأَوْمِئْ إيماءً

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن مالكٍ، عن سعيدٍ،

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2513)، (410 - تفسير) عن هشيم به.

(2)

تفسير سفيان ص 70، ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه 2/ 514 (4260). والدولابي في الكني 2/ 153، 154.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 466، وابن حزم في المحلى 5/ 53 من طريق سالم به بنحوه.

ص: 386

قال: يُومئُ إيماءً.

حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن يونسُ، عن الحسنِ:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: إذا كان عندِ القتالِ صلَّى راكبًا أو ماشيًا حيثُ كان وجْهُه، يُومئُ إيماءً

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} : أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في القتالِ على الخيلِ، فإذا وقَع الخوفُ، فلْيُصَلِّ الرجلُ على كلِّ جهةٍ؛ قائمًا أو راكبًا، أو كما قَدَرَ على أن يومئَ برأسِه أو يتكلَّمَ بلسانِه

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، إلا أنه قال: أو راكبًا. لأصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقال أيضًا: أو راكبًا، أو ما قدَرَ أنْ يُومئَ برأسِه. وسائرُ الحديثِ مثلُه.

حدَّثنا يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضّحاكِ في قولِه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: إذا التقَوْا عندَ القتالِ وطَلَبوا، أو طُلِبوا، أو طلَبهم سَبْعٌ، فصلاتُهم تكبيرتانِ إيماءً أيَّ جهةٍ كانت.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عَمرُو بنُ عَونٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرنا جُوَيْبِرٌ، عن الضَّحاكِ في قولِه:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: ذلك عندَ القتالِ، يُصَلِّي حيثُ كان وجهُه؛ راكبًا أو راجلًا، إذا كان يُطْلَبُ، أو يَطْلُبُه سَبْعٌ، فَلْيُصَلِّ ركعةً يُومِئُ إيماءً، فإن لم يَسْتَطِعْ فَلْيُكَبِّرُ تكبيرتَين

(3)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2514)، (411 - تفسير) عن هشيم به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 308 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2515)، (412 - تفسير) عن هشيم به، وأخرجه ابن المبارك =

ص: 387

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن الفضلِ بن دَلْهَمٍ، عن الحسنِ:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: ركعةً وأنت تَمْشِى، وأنت يُوضِعُ

(1)

بك بعيرُك ويَرْكُضُ بك فرسُك، على أيِّ جهةٍ كان

(2)

.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} : أمَّا "رِجالًا"، فعلى أرجلِكم إذا قاتلْتُم، يُصَلِّي الرجلُ يُومِئُ برأسِه أيَنْما توجَّه، و

(3)

الراكبُ على دابَّتِه يُومِئُ برأسِه أيْنما توجَّه

(4)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} الآية: أحلَّ اللهُ لك إذا كنتَ خائفًا عندَ القتالِ أن تُصَلِّيَ وأنت راكبٌ، وأنت تَسْعَى، تُومِئُ برأسِك مِن حيثُ كان وجهُك، إن قدَرتَ على ركعتَيْنِ، وإلا فواحدةً

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: ذاك عندَ المُسايَفَةِ

(6)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدٌ، قال: أخبَرنا ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ في قولِه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: إذا طلَب الأعداءُ فقد

= في الجهاد (251)، وعبد الرزاق في مصنفه (4263)، وابن أبي شيبة 2/ 461، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 1052 (5893) من طريق جويبر به بنحوه.

(1)

أي: يسرع. التاج (و ض ع).

(2)

أخرجه ابن المبارك في الجهاد (249) عن الفضل بن دلهم به.

(3)

سقط من: ص، ت 2.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 450 عقب الأثر (2382) من طريق عمرو بن حماد به.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 308 إلى عبد بن حميد.

(6)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4265) ومن طريقه ابن حزم في المحلى 5/ 52.

ص: 388

حَلَّ لهم أن يُصَلُّوا قِبَلَ أَي جهةٍ كانوا؛ رجالًا أو رُكبانًا، يُومِئون إيماءً ركعتَين. وقال قتادَةُ: تُجزئُ ركعةٌ

(1)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: كانوا إذا خَشُوا العدوَّ صَلَّوا ركعتَين، راكبًا كان أو راجلًا

(2)

.

حدَّثنا ابن حُميد، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغِيرَةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: يُصَلِّي الرجلُ في القتالِ المكتوبةَ على دابَّتِه وعلى راحلتِه حيثُ كان وجْهُه، يُومِئُ إيماءً عندَ كلِّ ركوعٍ وسجودٍ، ولكنَّ السجودَ أخفضُ مِن الركوعِ. [قال: هذا]

(3)

حين تأخُذُ السيوفُ بعضُها بعضًا، هذا في المطاردةِ

(4)

.

حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا مُعاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنى أبي، قال: كان قتادةُ يقولُ: إن استطاع ركعتَيْن وإلا فواحدةً، يُومئُ إيماءً، إن شاء راكبًا أو راجلًا، قال اللهُ تعالى ذِكُره:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}

(5)

.

حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا مُعاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال في الخائفِ الذي يَطْلُبُه العدوُّ، قال: إن استطاع أن يُصَلِّي ركعتين،

(1)

أخرجه ابن المبارك في الجهاد (254)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4259) - ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط 5/ 28 (2342) - عن معمر دون ذكر قول قتادة.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 450 عقب الأثر (2385) مِن طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

في م، ت 1: فهذا".

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 460 عن جرير به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2517)، (409 - تفسير) عن أبي الأحوص، عن مغيرة به، وينظر تفسير مجاهد ص 239.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4262) عن معمر، عن قتادة.

ص: 389

وإلا صلَّى ركعةً

(1)

حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قال: ركعةً

(2)

.

حدَّثنا ابن بشّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سألتُ الحكمَ وحمادًا وقتادَةَ عن صلاةِ المُسايَفةِ، فقالوا: ركعةً

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى

(4)

، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سألتُ الحكمَ وحمادًا وقتادةَ عن صلاةِ المسايفَةِ، فقالُوا: يُومِئُ إيماءً حيثُ كان وجْهُه.

حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال:[ثنا شعبةُ]

(5)

، عن حمادٍ والحكَمِ وقتادةَ، أنهم سُئِلوا عن الصلاةِ عندَ المسايفةِ، فقالوا: ركعةً حيثُ وجْهُكَ.

حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن أَشْعَثَ بن سَوَّارٍ، قال: سألتُ ابن سِيرِينَ عن صلاةِ المنهزِم، فقال: كيف استطاعَ

(6)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن سعيدِ بن يزيدَ، عن أبي نَضْرَةَ، عن جابرِ بن غُرابٍ

(7)

، قال: كنَّا نُقَاتِلُ القومَ وعلينا هَرِمُ بنُ حَيَّانَ، فحضرتِ

(1)

أخرجه ابن المبارك في الجهاد (248)، وابن أبي شيبة 2/ 460 من طرق عن الحسن.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4261)، وابن أبي شيبة 2/ 461، وابن حزم في المحلى 5/ 52 من طريق الثورى به.

(3)

أخرجه ابن حزم في المحلى 5/ 53 من طريق عبد الرحمن بن مهدى به. وأخرجه ابن المبارك في الجهاد (250)، وابن أبي شيبة 2/ 460 من طريق شعبة به وليس عند ابن أبي شيبة ذكر قتادة.

(4)

في م: "بشار".

(5)

سقط من النسخ.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 461 من طريق أشعث به بنحوه.

(7)

في النسخ: "عرب". والمثبت مِن مصدرى التخريج، وينظر المؤتلف والمختلف للدارقطني 4/ 1769.

ص: 390

الصلاةُ، فقالوا: الصلاةَ الصلاةَ. فقال هَرِمٌ: يَسْجُدُ الرجلُ حيثُ كان وجْهُه سجدةً. قال: ونحن مُستقبِلو المشرقِ

(1)

.

حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن الجُرَيْرِيِّ، عن أبي نَضْرَةَ، قال: كان هَرِمُ بنُ حَيَّانَ على جيشٍ، فحضروا العدوُّ، فقال: يَسْجُدُ كلُّ رجلٍ منكم تحتَ جُنَّتِه

(2)

حيثُ كان وجْهُه، سجدةً أو ما اسْتَيْسَر. فقلتُ لأبي نَضْرَةَ: ما: ما استيسَرَ؟ قال: يُومِيُّ.

حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أبو مَسْلَمةَ، عن أبي نَضْرَة، قال: ثني جابرُ بنُ غُرابٍ

(3)

، قال: كنَّا مَعَ هَرِمِ بن حَيَّانَ نُقاتِلُ العدوَّ مستقبِلى المشرقِ، فحضرتِ الصلاةُ، فقالوا: الصلاةَ. فقال: يَسْجُدُ الرجلُ تحتَ جنَّتِه (2) سجدةً.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سُوَيْدُ بن نصرٍ، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، عن عبدِ الملكِ بن أبي سليمانَ، عن عطاءٍ في قولِه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: تُصَلِّي حيثُ توجَّهتَ؛ راكبًا، وماشيًا، وحيثُ توجَّهتْ بك دابَّتُك، تُومئُ إيماءً للمكْتوبةِ

(4)

.

حدَّثني سعيدُ بنُ عَمرٍو السَّكُونيُّ، قال: ثنا بقيَّةُ

(5)

بنُ الوليد، قال: ثنا

(1)

في ت 1، ت 2:"الشرق".

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 460، وابن حزم 5/ 53، من طريق سعيد بن يزيد به نحوه.

(2)

في م: "جيبه". وفى ت 1، ت 2، ت 3:"جنبه"، وغير منقوطة في ص. والمثبت من المحلى 5/ 53.

والجُنَّة: ما واراك مِن السلاح واستترت به منه. اللسان (ج ن ن).

(3)

في النسخ: "عرب".

(4)

أخرجه ابن المبارك في الجهاد (257) من طريق خالد بن أبي نوف، عن عطاء بنحوه.

(5)

في م: "هبة".

ص: 391

المسْعُوديُّ، قال: ثنى يزيدُ الفقيرُ، عن جابرِ بن عبدِ اللهِ، قال: صلاةُ الخوفِ ركعةٌ

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا موسى بنُ محمدٍ الأنصاريُّ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ في هذه الآيةِ، قال: إذا كان خائفًا صلَّى على أيِّ حالٍ كان.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال مالكٌ، وسألته

(2)

عن قولِ اللهِ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . قال: راكبًا وماشيًا، لو كانت إنَّما عنَى بها الناسَ، لم يَأتِ إلا رجالًا، وانقطعتِ الآيةُ

(3)

، إنما هي رجالٌ مُشاةٌ. وقرَأ

(4)

: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]. قال: يَأْتُون مشاةً وركبانًا.

قال أبو جعفرٍ: والخوفُ الذي للمصلِّى أن يُصَلِّيَ مِن أجْلِه المكتوبةَ ماشيًا راجلًا وراكبًا جائلًا

(5)

: الخوفُ على المُهْجَةِ

(6)

عند السَّلَّةِ

(7)

والمسايفةِ في قتالِ مَن أُمِر بقتالِه مِن عدوٍّ للمسلمين، أو محاربٍ، أو طلَبِ سَبُعٍ، أو جملٍ صائلٍ، أو سيلٍ سائلٍ،، فخاف الغرَقَ فيه. وكلُّ ما الأغلبُ مِن شأنه هلاكُ المرءِ منه إن صلَّى صلاةَ الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك، فله أن يُصلِّيَ صلاةَ شَدَّةِ الخوفِ حيثُ

(1)

أخرجه ابن المبارك في الجهاد (252)، والطيالسي (1898)، وابن أبي شيبة 2/ 463، والبيهقى 3/ 257، 263 من طريق المسعودى، بنحوه.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سألت".

(3)

في النسخ: "الألف". وما أثبتناه هو الصواب.

(4)

في ص، ت 2:" ومن إنا ترك"، وفى م:"عن"، وفى ت:1"ومن إلى ترك". والمثبت كما عند الشيخ شاكر.

(5)

في ص: "حائلًا"، والجائل والحائل كلاهما بمعنى، وهو الزائل عن مكانه. اللسان (ج) و ل).

(6)

في م، ص:"المهمة"، وفى ت 2:"المسلة". والمهجة: الروح. اللسان (م هـ ج).

(7)

في م: "السلمة"، وفى ت 2:"المسلة". والسَّلَّة: استلال السيوف عندَ القتالِ. اللسان (س ل ل).

ص: 392

كان

(1)

وجْهُه، يُومِيُّ إيماءً؛ لعمومِ كتابِ اللهِ:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، ولم يَخُصَّ الخوفَ على ذلك على نوعٍ مِن الأنواعِ، بعد أن يكونَ الخوفُ صفتُه ما ذكَرتُ.

وإنما قلنا: إن الخوفَ الذي يُجَوِّزُ للمصلِّى أن يُصَلِّيَ كذلك هو الذي الأغلبُ منه الهلاكُ بإقامةِ الصلاةِ بحدودِها، وذلك حال شدَّةِ الخوفِ؛ لأن محمدَ بنَ حُميدٍ وسفيانَ بنَ وكيعٍ حدثاني، قالا: ثنا جريرٌ، عن عبدِ اللهِ بن نافعٍ، عن أبيه، عن ابنَ عمر، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الخوفِ: "يَقُومُ الأميرُ وطائفةٌ مِن الناسِ معَه، فَيَسْجُدون سجدةً واحدةً، ثم تكونُ طائفةٌ مِنهم بينَهم وبينَ العدوِّ، ثم يَنْصَرِفُ الذين سجَدوا سجدةً معَ أميرِهم، ثم يكونون مكانَ الذين لم يُصَلُّوا، ويَتَقَدَّمُ الذين لم يُصَلُّوا فيُصَلُّون معَ أميرِهم سجدةً واحدةً، ثم يَنْصَرِفُ أميرُهم وقد قضَى صلاته، ويُصَلِّي بصلاتِه

(2)

كلُّ واحدٍ مِنَ الطائفتَيْن سجدةً لنفسِه، وإن كان خوفٌ أَشدُّ مِن ذلك فرِجالًا أو رُكبانًا"

(3)

.

حدَّثني سعيدُ بنُ يحيى الأُموَيُّ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا ابن جُريجٍ، عن موسى بن عُقبةَ، عن نافعٍ، عن ابن عُمرَ، قال: إذا اخْتَلطوا

(4)

- يعني في القتالِ - فإنّما هو الذِّكرُ. وأشار بالرأسِ، قال ابن عُمرَ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وإن كانوا أكثرَ مِن ذلك فيُصَلُّون قيامًا ورُكبانًا

(5)

.

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"من".

(2)

في م: "بعد صلاته".

(3)

أخرجه ابن ماجه (1258) من طريق جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به، وأخرجه مالك في الموطأ 1/ 184 - ومن طريقه البخارى (4535) - من طريق نافع به.

(4)

في النسخ: "اختلفوا" والمثبت مِن مصدر التخريج.

(5)

أخرجه البخارى (943) عن سعيدٍ بن يحيى به، وأخرجه أحمد 10/ 471 (6431)، ومسلم (839/ 306) من طريق موسى بن عقبة به.

ص: 393

ففصَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَ حكمِ صلاةِ الخوفِ في غيرِ حالِ المسايفةِ والمطاردةِ، وبينَ حكمِ صلاةِ الخوفِ في حالِ شدَّةِ الخوفِ والمسايفةِ، على ما روَيْنا عن ابن عُمرَ، فكان معلومًا بذلك أن قولَه تعالى ذِكُره:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . إنما عنَى به الخوفَ الذي وصَفْنا صفتَه.

وبنحوِ الذي روَى ابن عُمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رُوِى عن ابن عُمَرَ أنه كان يقولُ. حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، عن ابن عُمرَ أنه قال في صلاةِ الخوفِ: يُصَلِّي بطائفةٍ مِن القومِ ركعةً، وطائفةٌ تَحْرُسُ، ثم يَنْطَلِقُ هؤلاءِ الذين صلَّى بهم ركعةً حتى يقوموا مَقامَ أصحابهم، ثم يَجِيءُ أولئك، فيُصَلِّي بهم ركعةً، ثم يُسلِّمُ، وتقومُ كلُّ طائفةٍ فتُصَلِّى ركعةً. قال: فإن كان خوفٌ أشدُّ مِن ذلك فرجالًا أو ركبانًا

(1)

.

وأمَّا عددُ الركَعاتِ في تلك الحالِ مِن الصلاةِ، فإنى أُحِبُّ أَلا يَقْصُرَ

(2)

مِن عددِها في حالِ الأمنِ، وإن قصَر عن ذلك فصلَّى ركعةً، رأيتُها مُجزئةً؛ لأن بشرَ بنَ مُعاذٍ حدَّثني، قال: ثنا أبو عَوَانةَ، عن بُكيرِ

(3)

بن الأخنسِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: فرَض اللهُ الصلاةَ على لسانِ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم في الحضَرِ أربعًا، وفي السفرِ ركعتَينِ، وفى الخوفِ ركعةً

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4258) عن ابن جريج نافع به.

(2)

في م، ت 1:"يقتصر".

(3)

في النسخ: "بكر". وينظر تهذيب الكمال 4/ 235.

(4)

أخرجه أحمد 4/ 28، 144 (2124، 2293)، ومسلم (5/ 687)، وأبو داود (1248)، والنسائي (454)، وابن ماجه (1068)، وابن حبان 7/ 119 (2868)، والبيهقى 3/ 135 من طريق أبي عوانة به.

ص: 394

تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}

وتأويلُ ذلك: فإذا أمِنْتُم، أيُّها المؤمنون مِن عدوِّكم أن يَقْدِرَ على قتلِكم في حالِ اشتغالِكم بصلاتِكم التي فرَضها عليكم، ومِن غيرِه ممن كنتم تَخافونَه على أنفسِكم في حالِ صلاتِكم، فاطْمَأَنتُم، فاذْكُرُوا الله، في صلاتِكم وفي غيرِها، بالشُّكرِ له والحمدِ والثناءِ عليه، على ما أَنْعَم به عليكم مِن التوفيقِ لإصابةِ الحقِّ الذي ضلَّ عنه أعداؤكم مِن أهلِ الكفرِ باللهِ، كما ذكَركم بتعليمه إيَّاكم مِن أحكامِه، وحلالِه وحرامِه، وأخبارِ مَن قبلَكم مِن الأممِ السالفةِ، والأنباءِ الحادثةِ

(1)

بعدَكم في عاجلِ الدنيا وآجلِ الآخرةِ، التي جهِلها غيرُكم، وبصَّركم مِن ذلك وغيره؛ إنعامًا منه عليكم بذلك، فعلَّمكم منه ما لم تكونوا مِن قبل تعليمِه إيَّاكم، تَعْلَمون.

وكان مجاهدٌ يقولُ في قولِه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيع، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . قال: خرَجتُم مِن دارِ السفرِ إلى دارِ الإقامةِ

(2)

.

وبمثلِ الذي قلنا مِن ذلك قال ابن زيدٍ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} . قال: فإذا أمِنتُم فصلُّوا الصلاةَ كما افتَرَض اللهُ عليكم، إذا جاء الخوفُ كانت لهم رخصةً

(3)

.

وقولُه ههنا: {فَاذْكُرُوا

(4)

اللَّهَ}. قال: الصلاةُ، {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ

(1)

في ت 2: "السالفة".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 451 (2378) من طريق وكيع به، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 309 إلى المصنف.

(4)

في ص، ت 1، ت 2:"اذكروا".

ص: 395

تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.

وهذا القولُ الذي ذكَرناه عن مجاهدٍ قولٌ غيرُه أوْلَى بالصوابِ منه؛ لإجماع الجميعِ على أن الخوفَ متى زال فواجبٌ على المصلِّى المكتوبةَ - وإن كان في سفرٍ - أداؤُها بركوعِها وسجودِها وحدودِها، وقائمًا بالأرضِ غيرَ ماشٍ ولا راكبٍ، كالذى يجِبُ عليه مِن ذلك إذا كان مقيمًا في مصرِه وبلدِه، إلا ما أُبيحَ له مِن القصرِ فيها في سفرِه، ولم يَجْرِ في هذه الآية للسفرِ ذكرٌ فيَتَوَجَّهَ قولُه:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} إليه. وإنما جرَى ذكرُ الصلاةِ في حالِ الأمنِ وحالِ شدَّةِ الخوفِ، فعرَّف اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه صفةَ الواجبِ عليهم مِن الصلاةِ فيهما، ثم قال:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فزالَ الخوفُ، فأَقِيموا صلاتَكم وذِكرِى فيها وفي غيرِها، مثلَ الذي أوجبْتُه عليكم قبلَ حدوثِ حالِ الخوفِ.

وبعدُ

(1)

، فلو

(2)

كان جرَى للسفرِ ذِكرٌ، ثم أرادَ اللهُ تعالى ذِكُره تعريفَ خلقِه صفةَ الواجبِ عليهم مِن الصلاةِ بعدَ مُقامِهم لقال: فإِذا أَقَمْتم فاذْكُرُوا الله كما علَّمكم ما لم تكونوا تَعْلَمون. ولم يَقُلْ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . وفي قولِه تعالى ذِكُره: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} . الدَّلالة الواضِحةُ على صحةِ قولِ مِن وجَّه تأويلَ ذلك إلى الذي قلنا فيه، [وخلافِ]

(3)

قول مُجاهد.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} .

(1)

في م: "بعده".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"فإن".

(3)

في م: "وإلى خلاف".

* من هنا يبدأ الجزء الأول من المخطوط س.

ص: 396

يعنى تعالى ذِكُره بذلك: والذين يُتَوَّفون منكم أيُّها الرجالُ، {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} يعني زوجاتٍ كُنَّ له نساءً في حياتِه، بنكاحٍ لا مِلْكِ يمينٍ. ثم صُرِف الخبرُ عن ذكرِ مَن ابْتَدأ الخبرُ بذكرِه، نظير الذي مضَى مِن ذلك في قولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى الخبرِ عن ذكرِ أزواجِهم. وقد ذكَرنا وجهَ ذلك، ودلَّلْنا على صحةِ القولِ فيه في نظيرِه الذي قد تقدَّم قبلَه، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

ثم قال تعالى ذِكُره: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} فَاخْتَلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأ بعضُهم: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بنصبِ "الوصيةِ"، بمعنى: فَلْيُوصوا وصيةً لأزواجِهم، أو عليهمْ وصيةً لأزواجِهم

(2)

.

وقرَأ آخَرون: (وصيةٌ لأزواجهم) برفعِ "الوصيةِ"

(3)

.

ثم اخْتَلف أهلُ العربيةِ في وجهِ رفعِ "الوصية"؛ فقال بعضُهم: رُفِعت بمعنى: كُتبِتْ عليهم الوصيةُ. واعتلَّ في ذلك بأنها كذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ

(4)

.

فتأويلُ الكلامِ على ما قاله هذا القائلُ: والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويَذَرُون أزواجًا، كُتِب عليهم وصيةٌ لأزواجِهم. ثم تُرك ذكرُ "كُتِبَ"، ورُفِعت "الوصيةُ" بذلك المعنى، وإن كان متروكًا ذِكرُه.

وقال آخَرون منهم: بل "الوصيةُ" مرفوعةٌ بقولِه: {لِأَزْوَاجِهِمْ} فتأوَّل

(5)

:

(1)

ينظر ما تقدم في ص 247.

(2)

كذا وردت هذه العبارة، والظاهر أن فيها سقطا تقديره:"عليهم أن يوصوا وصية". أو: "كتب الله عليهم وصية". أو أن يكونَ مكانها شاهدا لقراءة من قرأ بالرفع.

(3)

قرأ بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص. وقرأ الباقون بالرفع. ينظر حجة القراءات ص 138.

(4)

معاني القرآن للفراء 1/ 156، والبحر المحيط 2/ 245.

(5)

في ص: "فتأويل".

ص: 397

لأزواجِهم وصيَّةٌ.

والقولُ الأولُ أوْلَى بالصوابِ في ذلك، وهو أن تكونَ الوصيةُ - إذا رُفِعت - مرفوعةً بمعنى: كُتِب عليكم وصيةٌ لأزواجِكم. لأن العربَ تُضْمِرُ النكراتِ مرافعَها قبلَها إِذا أَضْمَرت، فإذا أظهرت بدأَت به قبلَها فتقولُ: جاءني رجلٌ اليومَ. وإذا قالوا: رجلٌ جاءنى اليومَ. لم يكادُوا أن يقولوه إلّا والرجلُ حاضرٌ يُشيرون إليه بـ "هذا"، أو غائبٌ قد علِم المخبَرُ عنه خبره، أو بحذفِ "هذا"، وإضمارِه، وإن حذَفوه لمعرفةِ السامعِ بمعنى المتكلِّمِ، كما قال اللهُ تعالى ذِكُره:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1]. {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]. فكذلك ذلك في قولِه: (وَصِيَّةٌ لأَزْوَاجِهِمْ).

وأَولى القراءتينِ بالصوابِ في ذلك عندنا قراءةُ مَن قرأَهُ رفعًا

(1)

؛ لدَلالةِ ظاهرِ القرآن على أن مُقامَ المتوفَّى عنها زوجُها في بيتِ زوجهِا المتوفَّى حولًا كاملًا، كان حقًّا لها قبلَ نزولِ قولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . وقبلَ نزُولِ آية الميراثِ، ولتظاهُرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِ الذي دَلَّ عليه الظاهرُ مِن ذلك، أوصى لهنَّ أزواجُهنَّ بذلك قبلَ وفاتهنَّ أو لم يُوصوا لهنَّ به.

فإن قال قائلٌ: وما الدَّلالةُ على ذلك؟ قيل: لمَّا قال اللهُ تعالى ذكرُه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} وكان الموصِى لا شَكَّ إِنما يُوصِى في حياتِه بما يَأْمُرُ

(2)

بإنْفاذه بعدَ وفاتِه، وكان مُحالًا أن يُوصِيَ بعدَ وفاتِه، وكان تعالى ذِكُره إنما جعَل لامرأةِ الميتِ سكنَ الحولِ بعد وفاتِه، [عُلِم أنه]

(3)

حقٌّ

(1)

القراءتان كلتاهما صواب مقروء بهما.

(2)

في م: "يؤمر".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س:"علما به".

ص: 398

لها وجَب لها

(1)

في مالِه بغيرِ وصيةٍ منه لها، إذْ

(2)

كان الميتُ مُستحيلًا أن يكونَ منه وصيةٌ بعدَ وفاتِه.

ولو كان معنَى الكلامِ على ما تأوَّله مَن قال: فلْيُوصِ وصيةً. لكان التنزيلُ: والذين يَحْضُرُهم الوفاةُ، ويَذَرُونَ أزواجا وصيةً لأزواجهم، كما قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180].

وبعدُ، فلو كان ذلك واجبًا لهنَّ بوصية مِن أزواجهنَّ المتوفَّينَ، لم يكن ذلكَ حقًّا لهنَّ إذا لم يُوصِ أزواجُهنَّ لهنَّ به

(3)

قبلَ وفاتهم، ولكان [قد كان لورثتِهم]

(4)

إخراجهنَّ قبلَ الحوْلِ، وقد قال اللهُ تعالى ذِكُره:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ولكن الأمرَ في ذلك بخلافِ ما ظنَّه في تأويلِه قارتُه: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بمعنى: أن الله تعالى كان أمَر أزواجهنَّ بالوصية لهنَّ، وإنما تأويلُ ذلك: والذين يُتَوفَّون منكم ويَذَرون أزواجًا كَتب اللهُ لأزواجِهم عليكُم وصيةً منه لهنَّ أيُّها المؤمنون، ألا تُخْرِجُوهُنَّ مِن منازلِ أزواجهنَّ حوْلًا. كما قال تعالى ذِكُره في سورِة "النساءِ":{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]. ثم ترَكَ ذكرَ "كتب اللهُ" اكتفاءً بدَلالةِ الكلامِ عليه، ورُفِعت الوصيةُ بالمعنى الذي قلنا قبلُ.

فإن قال قائلٌ: فهل يجوزُ نصبُ الوصيةِ [على الحالِ، بمعنى: مُوصِين]

(5)

لهنَّ وصيةً؟

(1)

سقط من: م.

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"إن".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م: لورثتهم، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"لورثتهم قد كان"، والمثبت هو الصواب.

(5)

مكانه بياض في النسخ، والمثبت كما أثبته الشيخ شاكر.

ص: 399

قيل: لا؛ لأن ذلك إنما كانَ يكونُ جائزا لو تقدَّم الوصيةَ مِن الكلامِ ما يَصْلُحُ أن تكونَ الوصيةُ خارجةً منه، فأَمَّا ولم يَتَقَدَّمه ما يَحْسُنُ أن تكون منصوبةً بخروجِها منه، فغيرُ جائزٍ نصبُها بذلك المعنَى.

‌ذكرُ بعض مَن قال: إِنَّ سُكنَى حوْلٍ كامل كان حقًّا لأزواج المتوفِّين بعدَ موتِهم على ما قُلنا، أوصَى بذلك أزواجُهنَّ لهنَّ أو لم يُوصُوا لهنَّ به، وأن ذلك نُسِخ بما ذكَرنا مِن الأربعةِ الأشهرِ والعشرِ والميراثِ

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجَّاجُ بنُ مِنهالٍ، قال: ثنا هَمَّامُ بن يحيى، قال: سألتُ قتادة عن قولِه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . فقال: كانت المرأةُ إذا تُوفِّى عنها زوجُها، كان لها السُّكْنَى والنفقةُ حَوْلًا في مالِ زوجِها ما لم تَخْرُجُ، ثم نسخ ذلك بعدُ في سورةِ "النساء"، فجعَل لها فريضةً معلومةً؛ الثمن إن كان له ولدٌ، والرُّبُع إن لم يكن له ولدٌ، وعِدَّتَها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فقال تعالى ذِكُره:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . فنسَختْ هذه الآيةُ ما كان قبلَها مِن أمرِ الحوْلِ

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية. قال: كان هذا مِن قبل أن تَنْزِل آيةُ الميراثِ، فكانت المرأةُ إذا تُوفِّى عنها زوجُها، كان لها السُّكْنَى والنفقةُ حولًا إن شاءَت، فنسَخ ذلك

(1)

أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 215 من طريق همام به، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 96 - ومن طريقه النحاس في ناسخه ص 240 - عن معمر، عن قتادة.

ص: 400

في سورةِ "النساءِ"، فجعَل لها فريضةً معلومةً، جعل لها الثُّمُنَ إن كان

(1)

له ولدٌ، وإن لم يكن له ولدٌ فلها الرُّبُعُ، وجعَل عدَّتَها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فقال:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} : فكان الرجلُ إذا مات وترَك امرأتَه، اعتدَّتْ سنةً في بيتِه، يُنْفَقُ عليها مِن مالِه، ثم أَنْزَلَ اللهُ تعالى ذِكُره بعد:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، فهذه عِدّةُ المُتوفَّى عنها زوجُها

(3)

، إلا أن تكونَ حاملًا، فعدّتُها أن تَضَعَ ما في بطنِها، وقال في ميراثِها:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} [النساء: 12]. فبيَّن اللهُ ميراثَ المرأةِ، وتَرك الوصيةَ والنفقةَ

(4)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: حدَّثنا عُبيدُ

(5)

بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ف} : كان الرجلُ إِذا تُوفِّى أَنْفِقَ على امرأتِه في عامِه إلى الحَوْلِ،

(1)

في س: "لم يكن".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 451 عقب الأثر (2390) مِن طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

سقط من: ص، ت 2، ت 3.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 452 (2391)، والنحاس في ناسخه ص 240، 241، والبيهقى 7/ 427 من طريق عبد الله بن صالح به.

(5)

في م، ت 1:"عبيد الله".

ص: 401

ولا تُزوَّجُ حتى تَسْتَكْمِلَ الحوْلَ، وهذا مَنسوخٌ، نسَخ

(1)

النفقةَ عليها الرُّبُعُ أو

(2)

الثمنُ مِن الميراثِ، ونسَخ الحولَ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ

(3)

.

وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحَّاكِ في قولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . قال: الرجل إذا تُوفِّي أَنْفِقَ على امرأتِه إلى الحوْلِ، ولا تُزَوَّجُ حتى يَمْضِيَ الحَوْلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى ذكرُه وَالَّذِينَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . فنسَخ الأجلُ الحولَ، ونسَخ النفقةَ الميراثُ؛ الرُّبعُ والثُّمنُ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سألتُ عطاءً عن قولِه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . قال: كان ميراثُ المرأةِ مِن زوجِها مِن رَبْعِه

(4)

أن تَسْكُنَ إن شاءتْ مِن يومِ يموتُ زوجُها إلى الحولِ، يقولُ {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية. ثم نسَخها ما فرَض اللهُ مِن الميراثِ. قال: وقال مجاهدٌ: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} . سُكْنَى الحوْلِ، ثم نسخ هذه الآيةَ الميراثُ

(5)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: كان لأزواجِ الموتى - حينَ كانت الوصيةُ - نفقةُ سنةٍ، فنسَخ اللهُ ذلك الذي كتَب للزوجةِ مِن

(1)

في ص: "لنسخ".

(2)

في م: "و".

(3)

في م: "عشرا".

والأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه (415) - تفسير مِن طريق جويبر به بنحوه.

(4)

في م: "ريعه". والربع: المنزل، والدار، والمسكن. ينظر اللسان (ر ب ع).

(5)

أخرجه ابن الجوزى في نواسخه ص 215، 216 مِن طريق ابن جريج به.

ص: 402

نفقةِ السنةِ بالميراثِ، فجعَل لها الرُّبعَ أو الثَّمن. وفي قولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . قال: هذه الناسخةُ

(1)

.

‌ذكرُ مَن قال: كان ذلك يكونُ لهنَّ وصيةً

(2)

مِن أزواجهنَّ لهنَّ به

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} الآية. قال: كانت هذه مِن قبلِ الفرائضِ، فكان الرجلُ يُوصِى لامرأته ولمن شاءَ، ثم نُسِخ ذلك بعد، فألْحَق الله تعالى بأهلِ المواريثِ مِيراثَهم، وجعَل للمرأةِ إنْ كان له ولدٌ الثمنَ، وإن لم يكنْ له ولدٌ فلها الربعُ، وكان يُنْفَقُ على المرأةِ حوْلًا مِن مالِ زَوجِها، ثم تُحوَّلُ مِن بيتِه، فنسَخت

(3)

العدَّةُ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، ونسَخ الربعُ أو الثمنُ الوصيةَ لهنَّ، فصارت الوصيةُ لذَوِى القرابةِ الذين لا يَرِثون

(4)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} إلى: {مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} : يوم نزلت هذه الآيةُ كان الرجلُ إِذا مات أوْصَى لامرأتِه بنفقتِها وسُكناها سنةً، وكانت عِدّتُها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فإن هي خرَجت حينَ تَنْقَضى أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ انْقَطعت عنها النفقةُ، فذلك قولُه:{فَإِنْ خَرَجْنَ} . وهذا قبل أن تَنْزِلَ آيةُ الفرائضِ، فنسَخه الرُّبعُ والثُّمنُ، فأَخَذتْ نصيبَها، ولم يكن

(1)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 153.

(2)

في م: "بوصية".

(3)

في م: "فنسخته".

(4)

أخرجه ابن الجوزى في نواسخه ص 216 من طريق سعيد به.

ص: 403

لها سُكنى ولا نفقةٌ

(1)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ المقدام، قال: ثنا المُعْتَمِرُ، قال: سمِعتُ أبي، قال: يَزْعُمُ قتادةُ أنه كان يُوصَى للمرأةِ بنفقتها إلى رأسِ الحَوْلِ

(2)

.

‌ذِكرُ مَن قال: نسَخ ذلك ما كان لهنَّ مِن المتاعِ إلى الحَوْلِ. مِن غيرِ تنبيهٍ

(3)

على أيِّ وجهٍ كان ذلك لهنَّ

حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن حبيبٍ، عن إبراهيم في قوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} . قال: هي منسوخةٌ

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بن الزِّبْرقانِ النَّخَعيُّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، قال: سمعتُ إبراهيمَ يقولُ. فذكَر نحوه.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن حُصَيْنٍ، عن يزيد النحويِّ، عن عكرمة والحسن البصريِّ، قالا: قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} : فنَسَخ ذلك بآية الميراث، وما فرض لهنَّ فيها من الربع والثمن، ونَسَخ أجَلَ الحَوْلِ أن جعل أجَلَها أربعة أشهرٍ وعشرًا

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 451 عقب الأثر (2390) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 153.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3 س:"بينة". وغير منقوطة في ص، والمثبت هو الصواب.

(4)

أخرجه ابن الجوزى في نواسخه ص 216 من طريق سفيان به.

(5)

أخرجه النسائي (3546)، وابن الجوزى في نواسخه ص 215 من طريق سماك، عن عكرمة. وهو مختصر عند النسائي.

ص: 404

حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباسٍ أنه قام يَخْطُبُ الناسَ هَهُنا، فقرأ لهم سورة "البقرة"، فبيَّن لهم منها، فأتى على هذه الآية:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180].

قال: فنُسِخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فقال: وهذه

(1)

.

وقال آخرون: هذه الآيةُ ثابتةُ الحكمِ لم يُنْسَخْ منها شيءٌ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} قال: كانت هذه للمعتدَّةِ، تَعْتَدُّ عند أهل زوجها واجبًا ذلك عليها، فأنزل الله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} إلى قوله: {مِنْ مَعْرُوفٍ} . قال: جعل الله لهم

(2)

تمامَ السنة سبعة أشهرٍ وعشرين ليلةً وصيَّةً، إن شاءتْ سكنتْ في وصيَّتِها، وإن شاءت خرَجتْ، وهو قولُ الله تعالى ذكرُه:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . قال: والعدَّةُ كما هي واجبةٌ.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(3)

.

(1)

أخرجه البيهقى 7/ 427 من طريق يعقوب به، وأخرجه الحاكم 2/ 273، والبيهقى 6/ 265 من طريق ابن علية به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (416 - تفسير) من طريق يونس به، وأصله في البخاري (2747، 4578، 6739).

(2)

في البخاري: "لها".

(3)

أخرجه البخارى (4531) من طريق شبل به.

ص: 405

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيح، عن عطاءٍ، عن ابن عباس أنه قال: نسَخت هذه الآية عدَّتَها عند أهلها

(1)

، تَعْتَدُّ حيثُ شاءت، وهو قولُ اللهِ:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . قال عطاءٌ: إن شاءت اعتدَّت عند أهلِه وسكَنت في وَصيَّتها

(2)

، وإن شاءت خرَجتْ لقول الله تعالى ذكره:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} . قال عطاءٌ: جاء الميراثُ بنسخِ السُّكنَى، تَعْتَدُّ حيثُ شاءتْ، ولا سُكنَى لها

(3)

.

وأوْلَى هذه الأقوالِ عندى في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكرُه كان جعَل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم سُكنَى حَولٍ في منزله، ونفقتَها في مال زوجها الميِّتِ إلى انقضاءِ السنَةِ

(4)

، ووجب على ورثةِ الميت ألا يُخْرِجُوهُنَّ قبل تمام الحول من المسكن الذي يَسْكُنَّه، وإن هنَّ ترَكنَ حقَّهنَّ مِن ذلك وخرَجْنَ لم تَكُنْ ورثةُ الميت من خروجهنَّ في حَرَج، ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث، وأبْطَل مما كان جعَل لهنَّ مِن سُكْنَى حَوْلٍ سبعة أشهرٍ وعشرين ليلةً، وردَّهنَّ إلى أربعة أشهرٍ وعَشْرٍ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم [بحكمه في [حديث أختِ]

(5)

سعد

(6)

ابن مالكٍ، وذلك ما حدَّثني به]

(7)

محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكم، قال: ثنا

(1)

في م: "أهله".

(2)

في م: "وصية".

(3)

أخرجه البخارى (4531)، وأبو داود (2301) من طريق شبل به، وأخرجه النسائي (3531) من طريق ابن أبي نجيح به دون قول عطاء.

(4)

بياض في ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفى س:"عدتها".

(5)

في س: "حديث". ومكانه بياض في باقي النسخ، وما أثبتناه أشبه بالصواب واستظهرناه من الحديث التالى.

(6)

في النسخ: "كعب". وسعد بن مالك هو أبو سعيد الخدرى.

(7)

في م: "حدثني".

ص: 406

حجَّاجُ [ابن رِشدين]

(1)

، قال: [أخبرنا حَيْوَةُ بْنُ شُرِيحٍ، عن ابن عَجْلانَ، عن سعد

(2)

بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَةَ]

(3)

، أخبَره عن عمَّتِه زينب ابنة كعبِ بن عُجْرَةَ، عن الفارعة

(4)

أخت أبي سعيد الخُدْرِيِّ، أنّ زوجها خرج في طلب عبد له، فلحِقه بمكانٍ قريبٍ، فقاتَلَه وأعانَه عليه أَعْبُدٌ معَه، فقتلوه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجَها خرج في طلب عبد له، فلقِيَه عُلوجٌ فقَتلوه، وإني في مكانٍ ليس فيه أحدٌ غيرى، وإنَّ أجمع لأمرى أن أنْتَقِلَ إلى أهْلِى، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بل امْكُثِى مكانَكِ حتى يَبْلُغَ الكتابُ أجَلَه"

(5)

.

وأمَّا قوله: {مَتَاعًا} . فإن معناه: جعل ذلك لهنَّ متاعًا. أي الوصية التي كتبها الله لهنَّ.

وإنما نصب المتاع لأن في قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} . معنى: متَّعهِنَّ اللَّهُ.

فقيل: {مَتَاعًا} مصدرًا مصدرًا مِن معناه لا من لفظه.

وقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فإن معناه أن الله تعالى ذكرُه جعل ما جعل لهنَّ مِن الوصية متاعًا منه لهنَّ إلى الحَوْلِ، لا إخراجًا مِن مَسكن زوجها. يعنى: لا إخراج فيه

(6)

منه حتى يَنْقَضِيَ الحَوْلُ. فنصب {غَيْرَ} على النعت للمتاع؛ كقول القائل: هذا قيامٌ غير قعودٍ. بمعنى: هذا قيامٌ لا قعود معه، أو: لا قعود فيه.

(1)

في س: "عبد الرحمن".

(2)

في النسخ: "سعيد". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر: تهذيب الكمال 10/ 248.

(3)

سقط من (س).

(4)

في م: "فريعة".

(5)

أخرجه أبو داود (2301)، والترمذى (1204) وابن ماجه (2031) من طريق سعد به، وينظر الطيالسي (1769).

(6)

سقط من: س. وفيه: أي في الحول.

ص: 407

وقد زعم بعضُهم أنه منصوبٌ بمعنى: لا تُخْرِجُوهُنَّ إخراجًا. وذلك خطأٌ من القول؛ لأنّ ذلك إذا نُصب على هذا التأويل، كان نصبُه من كلامٍ آخر غير الأولِ، وإنما هو منصوبٌ بما نصَب "المتاعَ" على النعتِ له.

‌القولُ في تأويل قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)} .

يعني تعالى ذكرُه بذلك أن المتاعَ الذي جعله الله لهنَّ إلى الحولِ في مالِ أزواجهنَّ بعد وفاتِهم

(1)

وفى مساكنهم

(2)

، ونهى ورثته عن إخراجهنَّ، إنما هو لهنَّ ما أقمْنَ في مساكن أزواجهنَّ، وأن حقوقهنَّ مِن ذلك تَبْطُلُ بِخُروجهنَّ إِن خَرَجْنَ من منازل أزواجهنَّ قبل الحول من قبل أنفسهنَّ بغير إخراج من ورثة الميِّتِ، ثم أخبر تعالى ذكرُه أنه لا حَرَجَ على أولياءِ الميتِ في خروجهنَّ، وتركهنَّ الحداد على أزواجهنَّ؛ لأن المُقام حوْلًا في بيوت أزواجهنَّ والحداد عليه تمام حولٍ كامل لم يكن فرضًا عليهنَّ، وإنما كان ذلك إباحةً مِن الله تعالى ذكرُه لهنَّ إن أقمْنَ تمامَ الحَوْلِ مُحِدَّاتٍ، فأَمَّا إِن خَرَجْنَ، فلا جُناحَ على أولياء الميت ولا عليهنَّ فيما فعَلْنَ في أنفسهنَّ من معروفٍ، وذلك تركُ الحداد. يقولُ: فلا حرج عليكم في التزيُّن إن تَزَيَنَّ وتَطيَّبْنَ وتَزَوَّجْنَ؛ لأن ذلك لهنَّ.

وإنما قلنا: لا حرج عليهنَّ في خُروجهنَّ. وإن كان إنما قال تعالى ذكرُه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . لأن ذلك لو كان عليهنَّ فيه جناحٌ، لكان على أولياء الرجل فيه جُناحٌ بتركهم إياهنَّ والخروج، مع قدرتهم على منعهنَّ من ذلك، ولكن لما لم

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وفاتهن".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مساكنهن".

ص: 408

يكُن عليهنَّ جُناحٌ في خُروجهنَّ وترْكِ الحدادِ، وضع عن أولياء الميت وغيرِهم الحرجُ فيما فعَلْنَ من معروفٍ، وذلك في أنفسهنَّ. وقد مضَت الروايةُ عن أهل التأويل بما قلنا في ذلك قبلُ.

وأمَّا قولُه {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإنه يعنى تعالى ذكرُه: والله عزيزٌ في انتقامه ممن خالَف أمرَه ونهيَه وتعدَّى حدودَه مِن الرجال والنساء، فمنَع مَن كان مِن الرجال نساءَهم وأزواجهم ما فُرِض لهنَّ عليهم في الآيات التي مضَتْ قبلُ من المتعة والصَّدَاقِ والوصية، وإخراجهنَّ قبل انقضاء الحولِ، وترْك المحافظة على الصلوات وأوقاتها، ومنع من كان من النساء ما ألزمَهنَّ

(1)

الله من التربُّص عند وفاة أزواجهنَّ عن الأزواج، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات، حكيمٌ فيما قضَى بينَ عباده من قضاياه التي قد تقدَّمت في الآياتِ قَبلَ قوله:{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وفى غير ذلك من أحكامه وأقضيته.

‌القولُ في تأويل قوله جلَّ ذكرُه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: ولمن طُلِّق مِن النساء على مُطلِّقِه

(2)

من الأزواج متاعٌ. يعنى بذلك: ما تَسْتَمْتِعُ به من ثيابٍ وكِسوة أو نفقةٍ أو خادمٍ وغير ذلك مما يُسْتَمْتَعُ به.

وقد بيَّنَّا فيما مضَى قبلُ معنى ذلك، واختلاف أهل العلم فيه، والصواب من القول في ذلك عندنا بما فيه الكفايةُ مِن إعادتِه

(3)

.

(1)

في ص: "ألزمهم".

(2)

في م: "مطلقها".

(3)

تقدم في ص 288 وما بعدها.

ص: 409

وقد اخْتَلَف أهل العلم في المعنيَّةِ بهذه الآية من المطلقات؛ فقال بعضُهم: عُنى بها الثَّيِّباتُ اللّواتي قد جُومِعْنَ. قالوا: وإنما قلنا ذلك لأن أحكام

(1)

غير المدخول بهنَّ في المتعة قد بيَّنَها اللهُ تعالى ذكرُه في الآياتِ قبلَها، فعلمْنا بذلك أن في هذه الآية بيانَ أمر المدخول بهنَّ في ذلك.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى بنُ ميمونٍ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ في قوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} قال: المرأةُ الثَّيِّبُ يُمتِّعُها زَوْجُها إذا جامعها بالمعروفِ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله، وزاد فيه: ذكره شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ

(3)

.

وقال آخرون: بل في هذه الآية دَلالةٌ على أن لكلِّ مُطلَّقةٍ مُتعةً، وإنما أنْزَلها الله تعالى ذكرُه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم لما فيها من زيادة المعنَى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة، إذْ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيانُ حكم غير الممْسوسة إذا طُلِّقت، وفى هذه بيانُ حُكم جميع المطلقات في المتعة.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن بشَّار، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن سعيد بن جُبيرٍ في

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ومكانه بياض في: ص، وجعله الشيخ شاكر:"الحقوق اللازمة للمطلقات".

(2)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 156.

(3)

تقدم في ص 298.

ص: 410

هذه الآية: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتقين

(1)

.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا يونسُ، عن الزُّهْريِّ في الأمَةِ يُطلِّقُها زوجُها وهى حُبْلَى، قال: تَعْتَدُّ في بيتها، وقال: لم أَسْمَعْ في متعة المملوكة شيئًا أَذْكُرُه، وقد قال الله تعالى ذكره:{مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . ولها المتعهُ حتى تَضَعَ.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حبّانُ

(2)

بنُ موسى، قال: أخبَرنا ابن المبارك، قال: أخبَرنا ابن جُريج، عن عطاءٍ، قال: قلتُ له: أَلِلْأَمةِ مِن الحُرِّ مُتعةٌ؟ قال: لا. قلتُ: فالحُرَّةُ عند العبد؟ قال

(3)

: لا. وقال عَمرُو بنُ دينارٍ: نعم، {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

(4)

.

وقال آخَرون: إنما نزَلت هذه الآية لأن الله تعالى ذكره لما أَنْزَل قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . قال رجلٌ من المسلمين: فإنا لا نفعلُ إن لم يُرِدْ أَن نُحْسِنَ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} فوجَب ذلك عليهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ بنُ عبد الأعلى، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى

(1)

تقدم تخريجه ص 295.

(2)

في النسخ: "هناد".

(3)

في م: "قالا".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13147، 13150) عن ابن جريج به.

ص: 411

الْمُحْسِنِينَ}. فقال رجلٌ: فإن أحسنتُ فعَلتُ، وإِن لم أُرِدْ ذلك لم أَفْعَلْ، فَأَنْزَل الله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

(1)

.

والصوابُ من القول في ذلك ما قاله سعيدُ بنُ جُبيرٍ، مِن أن الله تعالى ذكرُه أنْزَلها دليلًا لعباده على أن لكلِّ مُطلَّقةٍ متعةً؛ لأن الله تعالى ذكرُه ذكر في سائر أي القرآن التي فيها ذكرُ متعة النساءِ خصوصًا من النساءِ، فبيَّن في الآية التي قال فيها:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . وفى قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. ما لهنَّ مِن المتعة إذا طُلِّقن قبل المسيس، وبقولِه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] حكم المدخول بهنَّ، وبقى حكمُ الصبايا إذا طُلِّقن بعد الابتناءِ بهنَّ، وحكمُ الكوافر والإماء، فعمَّ الله تعالى ذكرُه بقوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} . ذكرَ جميعهنَّ، وأخبَر بأنَّ لهنَّ المتاع، كما أبان

(2)

المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، ولذلك كرَّر ذكرَ جميعهنَّ في هذه الآية.

وأمَّا قولُه: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . فإنَّا قد بينَّا معنى قوله: {حَقًّا} . ووجه نصبه، والاختلاف مِن أهل العربية فيه في قوله:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . ففى ذلك مُسْتَغْنى عن إعادته في هذا الموضع

(3)

.

فأَمَّا "المُتَّقون"، فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 310 إلى المصنف.

(2)

في ص: "أ" وبعده بياض، وأثبتها الشيخ شاكر:"خص".

(3)

ينظر ما تقدم في ص 308.

ص: 412

ما كلَّفهم القيام به؛ خشيةً منهم له، ووَجَلًا منهم من عقابه. وقد تقدَّم بيانُ تأويل ذلك أيضًا

(1)

بالرواية.

‌القولُ في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} .

يقول تعالى ذكرُه: كما بيَّنتُ لكم ما يَلْزَمُكم لأزواجكم، ويَلْزَمُ أزواجكم لكم أيُّها المؤمنون، وعرَّفتُكم أحكامي، والحقَّ الواجب لبعضكم على بعضٍ في هذه الآيات، فكذلك أُبَيِّنُ لكم سائرَ الأحكام في آياتي التي أنْزَلتُها على نبيِّى محمدٍ في هذا الكتابِ؛ لِتَعْقِلوا أيُّها المؤمنون بى وبرسولى حُدُودى، فَتَفْهَموا اللازم لكم مِن فرائضى، وتَعْرِفوا بذلك ما فيه صلاحُ دينِكم ودنياكم، وعاجِلِكم وآجلِكم، فَتَعْمَلُوا به؛ ليصْلُحَ ذاتُ بينكم، وتَنَالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.

‌القولُ في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} .

يعني تعالي ذكرُه: {أَلَمْ تَرَ} : ألم تَعْلَمْ يا محمدُ. وهو من رؤية القلب لا رؤية العين؛ لأن نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يُدْرِك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر. ورُؤيةُ القلب ما رآه: عِلْمُه

(2)

به. فمعنى ذلك: ألم تَعْلَمُ يا محمدُ الذين خرَجوا من ديارهم وهم ألوفُ.

ثم اخْتَلفَ أهلُ التأويل في تأويل قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} . فقال بعضُهم: في العدَدِ، بمعنى جماع "ألفٍ".

(1)

في م: "نصًّا". وينظر ما تقدم في 1/ 237 - 239.

(2)

في م: "وعلمه".

ص: 413

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، وحدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن مَيْسرةَ النَّهْدِيِّ، عن المِنْهالِ بن عَمرو، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} . قال: كانوا أربعة آلافٍ خرَجوا فرارًا من الطاعون، قالوا: نأتى أرضًا ليس فيها موتٌ. حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: موتوا. فمرَّ عليهم نبيٌّ من الأنبياء، فدعا ربَّه أن يُحْيِيَهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن مَيْسَرَةَ النَّهْدِيِّ، عن المِنْهَالِ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} . قال: كانوا أربعة آلاف خرَجوا فرارًا من الطاعون، فأماتهم الله، فمرَّ عليهم نبيٌّ من الأنبياء، فدعا ربَّه أن يُحْيِيَهم حتى يَعْبُدوه، فأحياهم.

حدَّثنا محمدُ بنُ سهل بن عَسْكَرٍ، قال: أخبرنا إسماعيلُ بن عبد الكريم، قال: ثنى عبدُ الصمد أنه سمع وهبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ: أصاب ناسًا من بني إسرائيل بلاءٌ وشدةٌ من الزمان، فشكَوْا ما أصابهم، فقالوا: يا ليتنا قد مُتْنا فاسْتَرحنا مما نحن فيه. فأوحى الله إلى حِزْقِيلَ: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم وَدُّوا لو ماتوا فاسْتَراحوا، وأيُّ راحةٍ لهم في الموتِ؟ أَيَظُنُّون أنى لا أَقْدِرُ أن أبعثهم بعد الموت؟ فانْطَلِقْ إلى جَبَّانة كذا وكذا، فإن فيها أربعة آلافٍ - قال وهبٌ: وهم الذين قال

(1)

أخرجه الحاكم 2/ 281 من طريق وكيع به.

ص: 414

اللهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} - فقُمْ فيهم فنادهم. وكانت عظامُهم قد تفرَّقتْ، فرَّقَتْها الطيرُ والسِّبَاعُ، فناداهم حِزْقيلُ، فقال: يا أيَّتُها العظامُ، إن الله يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعي. فاجتَمع عظامُ كلِّ إنسانٍ منهم معًا، ثم نادى ثانيةً حِزْقِيلُ، فقال: يا أَيَّتُها العظامُ، إن الله يَأْمُرُك

(1)

أن تَكْتَسِى اللحم. فاكْتَستِ اللحم، وبعد اللحم جلدًا، فكانت أجسادًا، ثم نادَى حِزْقِيلُ الثالثة فقال: أيَّتُها الأرواحُ، إن الله يأمُرُكِ أن تعودى في

(2)

أجسادِك. فقاموا بإذن الله، وكبَّروا تكبيرةً واحدةً

(3)

.

حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} . يقولُ: عددٌ كثيرٌ خرَجوا فِرارًا مِن الجهاد في سبيل الله، فأماتَهم الله، ثم أحياهم، وأمَرهم أن يُجَاهِدوا عدوَّهم، فذلك قوله:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(4)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عن [أَشْعَثَ بن أَسْلَمَ عن البصريِّ]

(5)

، قال: بينما عمرُ يصلِّى ويهوديَّان خلفَه - وكان عمرُ إذا أراد أن يركع خوَّى

(6)

- فقال أحدُهما

(7)

لصاحبه: أهو هو؟ فلمَّا انْفَتل عمرُ قال: رأيت قولَ

(1)

في ص: "أمرك".

(2)

في م: "إلى".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 457، 458، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (235) من طريق إسماعيل به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 456 (2417) عن محمد بن سعد به.

(5)

في تاريخ المصنف: "أشعث، عن سالم النصري". وفى نسختين منه كما عندنا. تنظر ترجمته في الجرح والتعديل 2/ 268.

(6)

خوَّى الرجل: تجافى في سجوده وفرّج ما بين عضديه وجنبيه. اللسان (خ و ى).

(7)

في م، ت 2:"أحدهم".

ص: 415

أحد كما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنَّا نَجِدُه

(1)

في كتابنا: قَرْنًا

(2)

من حديد يُعْطَى ما يُعْطَى حِزْقِيلُ الذي أحيا الموتى بإذنِ اللهِ. فقال عمرُ: ما نَجِدُ في كتابِ اللهِ حِزْقِيلَ، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى. فقالا: أمَّا تَجِدُ في كتابِ اللهِ: {[وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ]

(3)

} [النساء: 164]؟ فقال عمرُ: بلى. قالا: وأمَّا إحياءُ الموتى فَسَنُحَدِّثُك؛ إن بني إسرائيل وقَع عليهم الوباءُ، فخرج منهم قومٌ، حتى إذا كانوا على رأس ميلٍ، أماتهم الله، فبنَوْا عليهم حائطًا، حتى إذا بَليت عظامُهم، بعث اللهُ حزْقيلَ، فقام عليهم فقال

(4)

ما شاء الله، فبعثهم الله له، فأَنْزَل الله في ذلك:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} الآية

(5)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عَن الحَجَّاجِ بن أَرْطَاةَ، قال: كانوا أربعة آلافٍ

(6)

.

حدَّثني موسى بن هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} . إلى قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} . قال: كانت قريةٌ يقالُ لها: داوَرْدانُ

(7)

. قِبَل واسط، وقَع بها الطاعونُ، فهرب عامَّةُ أهلها، فنزَلوا ناحيةً منها، فهلك من بقى في القرية وسلم الآخرون، فلم يَمُتْ منهم كبيرٌ، فلما ارتفع الطاعونُ رجَعوا سالمين، فقال الذين بَقُوا: أصحابُنا هؤلاء

(1)

في م: "نجد".

(2)

القرن: الجبيل المنفرد. اللسان (ق ر ن).

(3)

في م: "ورسلًا لم يقصصهم".

(4)

سقط من: م.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 459.

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 311 إلى المصنف.

(7)

في ص: "دار وردان". وينظر معجم البلدان 2/ 541.

ص: 416

كانوا أحزَمَ منَّا، لو صنَعْنا كما صنَعوا بقِينا، ولئن وقَع الطاعونُ ثانيةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهم. فوقع في قابلٍ فهربوا، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفًا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو وادٍ أفيحُ

(1)

، فناداهم ملَكٌ من أسفل الوادى، وآخَرُ مِن أعلاه: أن موتوا. فماتوا، حتى إذا هلَكوا وبَليت

(2)

أجسادُهم، مرَّ بهم نبيٌّ يقالُ له: حِزْقيلُ. فلما رآهم وقف عليهم، فجعَل يَتَفَكَّرُ فيهم ويَلْوِى شِدْقَيه

(3)

وأصابعَه، فأوحى الله إليه: يا حِزْقِيلُ، أَتُرِيدُ أن أُرِيَك فيهم كيف أُحْيِيهم؟ [قال: نعم]

(4)

. قال: وإنما كان تَفَكُّرُه أنه تعجَّب من قدرةِ الله عليهم فقال: نعم. فقيل له: نادِ. فنادَى: يا أيَّتُها العظامُ، إن الله يَأْمُرُكِ أن تجتمعي. فجعلت تطيرُ العظام بعضُها إلى بعضٍ حتى كانت أجسادًا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن نادِ: يا أَيَّتُها العظام، إن الله يأمُرُكِ أن تكْتَسى لحمًا. فاكْتَست لحمًا ودمًا وثيابَها التي ماتت فيها وهى عليها، ثم قيل له: نادِ. فنادَى: يا أَيَّتُها الأجسادُ، إن الله يأمُرُكِ أن تقومى. فقاموا

(5)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عَمرُو، قال: ثنا أسباطُ، فزعم منصورُ بنُ المُعْتَمِرِ، عن مجاهدٍ أنهم قالوا حين أُحْيُوا: سبحانَك ربَّنا وبحمدك، لا إلهَ إلا أنت. فرجَعوا إلى قومهم أحياءً، يَعْرِفون أنهم كانوا موتى، سَحْنَةٌ

(6)

الموت على وجوههم، لا يَلْبَسون ثوبًا إِلَّا عاد

(7)

دَسِمًا

(8)

مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم

(1)

أفيح: واسع. تاج العروس (ف و ح).

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"بقيت".

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"شدقته".

(4)

سقط من: م.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 458 (2422) من طريق عمرو به. وينظر تاريخ المصنف 1/ 458، وتفسير ابن أبي حاتم 2/ 455 (2420).

(6)

السحنة: الهيئة واللون والحال. اللسان (س ح ن).

(7)

بعده في النسخ: "كفنا". والمثبت كما في تاريخ المصنف.

(8)

يقال: ثياب دُسْم، يعنى وسخة. الصحاح (د س م).

ص: 417

التي كُتبت لهم

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ عَوْسَجَةَ، عن عطاءٍ الخُرَاسانيِّ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} . قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: كانوا أربعين ألفًا أو ثمانية آلافٍ، حُظِر عليهم حظائرُ، وقد أَرْوَحت أجسادُهم وأنْتَنوا، فإنها لتُوجَدُ اليوم في ذلك السِّبْطِ من اليهودِ تلك الريحُ، وهم ألوفٌ، فرارًا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم، فأمرهم بالجهادِ، فذلك قوله:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاق، عن وهب بن مُنَبِّه، أن كالبَ بنَ يُوفنَّا

(3)

لما قبَضه اللهُ بعدَ يُوشَعَ، خلَف فيهم - يعني: في بني إسرائيل - حِزْقِيلُ بن بوزى

(4)

، وهو ابن العجوز. وإنما سُمِّى ابنَ العجوز أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فلذلك قيل له: ابن العجوز. وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما بلغنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 459، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 458 (2421) من طريق أسباط به ببعضه.

(2)

ينظر تفسير البغوي 1/ 293، والبحر المحيط 2/ 250.

(3)

في م: "يوقنا". وهو مما قيل في اسمه، وقيل: أيضًا: يا فنة، وقيل: يفنة. وأما كالب فقد قيل فيه: كلاب وكالوب. وقيل غير ذلك. ينظر فهارس تاريخ المصنف، وعرائس المجالس ص 213، وجمهرة أنساب العرب ص 505، 507. وينظر سفر العدد الأصحاح الثالث عشر. وينظر ما سيأتي في تفسير الآية 12، 22 من سورة المائدة.

(4)

في ت 1: "دورى"، وفى تاريخ المصنف:"بوذى".

ص: 418

خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}

(1)

.

حدَّثني ابن حُميدٍ، قال: حدَّثنا سلَمةُ، قال: حدَّثني محمدُ بن إسحاق، قال: بلَغني أنه كان من حديثهم أنهم خرَجوا فرارًا من بعض الأوباء؛ من الطاعون، أو مِن سَقَمٍ كان يُصِيبُ الناسَ، حذرًا من الموت، وهم ألوفٌ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد، قال لهم الله: موتوا. فماتوا جميعًا، فعمد أهلُ تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرةً دونَ السِّباع، ثم ترَكوهم فيها، وذلك أنهم كثُروا عن أن يُغَيَّبوا، فمرَّت بهم الأزمانُ والدهورُ، حتى صاروا عظامًا نَخِرَةً، فمرَّ بهم حِزْقِيلُ بنُ بوزى، فوقَف عليهم فتعجَّب لأمرهم، ودخله رحمةٌ لهم، فقيل له: أَتُحِبُّ أَن يُحْيِيَهم الله؟ فقال: نعم. فقيل له: نادِهم. فقال

(2)

: أيَّتُها العظامُ الرميمُ التي قد رَمَّت وبَليت، ليَرْجِعْ كلُّ عظمٍ إلى صاحبه. فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تَوَاثَبُ يَأْخُذُ بعضُها بعضًا، ثم قيل له: قل: أيُّها اللحمُ والعصَبُ والجلدُ، اكْسُ العظام بإذنِ رَبِّك. قال: فنظر إليها والعصَبُ يَأْخُذُ العظامَ ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استَوَوْا خلقًا ليست فيهم الأرواحُ، ثم دعا لهم بالحياةِ، فتغشَّاه

(3)

من السماء [شيءٌ كَرَبه]

(4)

، حتى غُشِى عليه منه، ثم أفاق والقومُ جلوسٌ يقولون: سبحان الله! سبحان الله! قد أحياهم الله

(5)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 459، 460.

(2)

في تاريخ المصنف: "فقل".

(3)

في م: "فتغشاهم"، و في ت 2:"فبعثناهم".

(4)

في ص: "كربه"، وفى م، ت 2، ت 3، س:"كدية"، وفى ت 1:"كدمة". والمثبت من تاريخ المصنف.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 460.

ص: 419

وقال آخرون: معنى قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} . وهم مُؤْتَلِفون.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} . قال: قريةٌ كانت نزل بها الطاعونُ، فخرَجت طائفةٌ منهم وأقامت طائفةٌ، فألحَّ الطاعونُ بالطائفة التي أقامت، والتي خرجت لم يُصبْها

(1)

شيءٌ، ثم ارتفع، ثم نزل العام القابل، فخرجت طائفةٌ أكثرُ من التي خرجت أوَّلًا، فاستحَرَّ الطاعونُ بالطائفة التي أقامت، فلمَّا كان العامُ الثالثُ نزل، فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارَهم، فقال الله تعالى ذكرُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} . ليست الفُرقةُ أخرجتهم كما يُخْرَجُ للحرب والقتال، قلوبُهم مؤتلفةٌ، إنما خرَجوا فِرارًا، فلمَّا كانوا حيثُ ذهَبوا يبتَغون الحياةَ، قال لهم الله: موتوا. في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياةَ، فماتوا، ثم أحياهم الله، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. قال: ومرَّ بها رجلٌ وهى عظامٌ تلوحُ، فوقَف يَنْظُرُ، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ}

(2)

.

‌ذكرُ هذه

(3)

الأخبار عمَّن قال: كان خروجُ هؤلاء القوم من ديارهم فرارًا من الطاعون

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: حدَّثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن الأشعثِ، عن الحسن

(1)

في ص، ت 1:"يصبهم".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 311 إلى المصنف.

(3)

سقط من: م، ت 2، ت 3، س.

ص: 420

في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} . قال: خرَجوا فِرارًا من الطاعون، فأماتهم الله

(1)

قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن الحسن في قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} . قال: فرُّوا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا. ثم أحياهم ليُكملوا بقيَّة أجالهم

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عَمرِو بن دينارٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} . قال: وقَع الطاعونُ في قريتهم، فخرج أُناسٌ وبقى أناسٌ، فهلك الذين بَقُوا في القرية، وبقى الآخرون، ثم وقَع الطاعونُ في قريتهم الثانيةَ، فخرَج أناسٌ وبقى أناسٌ، ومَن خرج أكثرُ ممَّن بقي، فنجَّى الله الذين خرَجوا وهلك الذين بَقُوا، فلمَّا كانت الثالثةُ خرَجوا بأجمعهم إلا قليلًا، فأماتهم الله ودوابَّهم، ثم أحْياهم، فرجعوا إلى بلادهم [وقد توالدت ذُريتُهم ومن تركوا]

(3)

، وكثُروا

(4)

بها، حتى يقول بعضُهم لبعضٍ: من أنتم

(5)

؟

(1)

زيادة من: ت 2.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 311 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 97 عن معمر، عن قتادة.

(3)

سقط من: م، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3: "وقدر

قريتهم ومن تركوا" هكذا، والمثبت من تفسير مجاهد.

(4)

في ت 1، ت 2:"كبروا".

(5)

تفسير مجاهد ص 240.

ص: 421

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: حدَّثنا شبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، قال: سمِعتُ عَمرو بن دينارٍ يقولُ: وقع الطاعونُ في قريتهم. ثم ذكر نحوَ حديثِ محمدِ بن عَمرٍو، عن أبي عاصمٍ

(1)

.

حدَّثنا بشرُ بن مُعاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ

(2)

، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادة:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} الآية: مقتهم الله على فرارهم من الموتِ، فأماتهم الله عقوبةً ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم ليَسْتَوْفوها

(3)

، ولو كانت أجالُ القوم جاءت ما بُعثوا بعد موتهم

(4)

.

حدِّثتُ عن عمَّار بن الحسن، قال: حدَّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن حُصَيْنٍ، عن هلال بن يسَافٍ في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} الآية. قال: كان هؤلاء القوم

(5)

من بني إسرائيل، كان

(6)

إذا وقَع فيهم الطاعونُ خرَج أغنياؤُهم وأشرافُهم، وأقام فقراؤُهم وسَفِلَتُهم، قال: فاسْتَحَرَّ الموتُ على المقيمين منهم، ونجا من خرج منهم، فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلَكْنا كما هلَكوا. وقال المقيمون: لو ظعَنَّا كما ظعن هؤلاء لنجَونا كما نجَوْا. فطعَنوا جميعًا في عامٍ واحدٍ؛ أغنياؤهم وأشرافُهم، وفقراؤهم

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 458 (2423) من طريق ابن أبي نجيح به، عن مجاهد، عن عمرو بن دينار.

(2)

في النسخ: "سويد"، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 457 (2419) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة بلفظ آخر.

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"ليتوفوها".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 310، 311 إلى عبد بن حميد.

(5)

في ص، ت 1:"قوم".

(6)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 422

وسَفِلَتُهم، فأُرْسِل عليهم الموتُ، فصاروا عظامًا تَبْرُقُ. قال: فجاءهم أهلُ القُرَى فجمَعوهم في مكان واحدٍ، فمرَّ بهم نبيٌّ، فقال: يا ربِّ، لو شئتَ أحييتَ هؤلاءِ فَعَمَروا بلادَك وعبَدوك! قال: أَوَ أَحَبُّ إليك أن أفْعَلَ؟ قال: نعم. قال: فقل كذا وكذا. فتكلَّم به، فنظر إلى العظام وإن العظمَ لَيَخْرُجُ من عندِ العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه، ثم تكلَّم [بما أُمِرَ]

(1)

، فإذا العظامُ تُكْسَى لحمًا، ثم أُمر بأمرٍ فتكلَّم به، فإذا هم قعودٌ يُسبِّحون ويُكَبِّرون، ثم قيل لهم:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني سعيدُ بنُ أيوب، عن حمادِ بن عثمانَ، عن الحسن أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم، قال: هم قومٌ فرُّوا من الطاعون، فأماتهم الله عقوبةً ومقتًا، ثم أحياهم لآجالهم.

وأَوْلَى القولين في تأويل قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} . بالصواب، قولُ مَن قال: عنى بالألوف كثرة العددِ. دونَ قول مَن قال: عنَى به الائتلاف. بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرَجوا من ديارهم من غيرِ افتراقٍ كان منهم ولا تباغُضٍ، ولكن فرارًا؛ إِمَّا مِن الجهاد، وإما من الطاعون - لإجماع الحُجَّةِ على أن ذلك تأويل الآية، ولا يُعارَضُ بالقول الشاذِّ ما استفاض به القولُ من الصحابة والتابعين.

وأَوْلَى الأقوال في مبلغ عددِ القوم الذين وصف الله خروجَهم من ديارهم، بالصواب، قولُ مَن حدَّ عددهم بزيادة عن

(3)

عشرة آلافٍ - دونَ مَن حدَّه بأربعةِ

(1)

في ص، ت 1:"بأمر".

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في من عاش بعد الموت (51)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 457 (2418) من طريق حصين به. وينظر تفسير مجاهد ص 240.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

ص: 423

آلافٍ وثلاثة آلافٍ وثمانية آلاف - وذلك أن الله تعالى ذكرُه أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفًا، وما دون العشَرة آلاف لا يقالُ لهم: ألوفٌ. وإنما يقالُ: هم آلافٌ. إذا كانوا ثلاثة آلافٍ فصاعدًا، إلى العشرة آلافٍ. وغيرُ جائزٍ أن يقال: هم خمسةُ ألوفٍ. أو: عشرة ألوفٍ.

وإنما جُمع قليلُه

(1)

على "أفعال" ولم يُجْمَعْ على "أَفْعُل"[مثل سائر]

(2)

الجمع القليل الذي يكونُ [ثاني مفرده]

(3)

ساكنًا للألف التي في أوَّلِه، وشأنُ العرب في كلِّ حرفٍ كان أوَّلُه ياءً أو واوًا أو ألفًا، اختيارُ جمع قليله على "أفعال"، كما جمعوا الوقتَ أوقاتًا، واليوم أيامًا، واليَسَرَ أيسارًا

(4)

، للواوِ والياء اللتين في أول ذلك، وقد يُجْمَعُ ذلك أحيانًا على "أفعُل"، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا، ومنه قولُ الشاعر

(5)

:

كانوا

(6)

ثلاثةَ آلُفٍ وَكَتِيبَةً

أَلْفَيْنِ

(7)

أَعْجَمَ مِن بَنِي الفَدَّامِ

(8)

وأمَّا قولُه: {حَذَرَ الْمَوْتِ} . فإنه يعنى أنهم خرَجوا من حَذَرِ الموتِ فرارًا منه.

كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"أو كثيره".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"وعلى سائر مثل".

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"ثانيه".

(4)

الأيسار: واحدهم يسر، وهم الذين يتقامرون. اللسان (ى س ر).

(5)

هو بكيرٌ أصم بني الحارث بن عباد، والبيت في النقائض ص 645، واللسان (أ ل ف).

(6)

في النقائض واللسان: "عربًا".

(7)

في ص، ت 1:"ألفان".

(8)

الفَدَّام: شيء تمسح به الأعاجم عند السقى، واحدته فَدّامة، ويقصد بينى الفدام: المجوس. اللسان (ف د م).

ص: 424

أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{حَذَرَ الْمَوْتِ} : فرارًا من عدوِّهم، حتى ذاقوا الموت الذي فرُّوا منه، فأمَرهم فرجعوا، وأمَرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيِّهم:{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(1)

.

وإنما حثَّ الله تعالى ذكرُه عباده بهذه الآية على المواظبةِ على الجهاد في سبيله، والصبر على قتال أعداء دينِه، وشجَّعهم بإعلامه إيَّاهم، وتذكيره لهم أن الإماتة والإحياء بيديه، وإليه دونَ خلقِه، وأن الفرار من القتال والهربَ من الجهادِ ولقاء الأعداء إلى التحصُّن في الحصونِ، والاختباء في المنازل والدورِ، غيرُ مُنْجٍ أحدًا من قضائِه إذا حلَّ بساحته، ولا دافعٍ

(2)

عنه أسبابَ مَنيَّتِهِ إِذَا نَزَلَ بِعَقُوتِه

(3)

، كما لم يَنْفَعِ الهاربين من الطاعون الذين وصف الله تعالى ذكرُه صفتهم في قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} - فرارُهم من أوطانهم، وانتقالُهم من منازلهم إلى الموضع الذي أمَّلُوا بالمصير إليه السلامة، وبالموْئِل النجاة من المنيَّة، حتى أتاهم أمرُ اللهِ، فتركهم جميعًا خُمودًا صَرْعَى، وفى الأرضِ هَلْكَى، ونجا مما حلَّ بهم الذين باشَروا كرْبَ الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيمَ البلاء.

‌القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: إن الله لذو فضلٍ ومَنْ على خلقه؛ بتبصيره إياهم سبيلَ الهُدَى، وتحذيره لهم طرق الرَّدَى، وغير ذلك مِن نِعَمِه التي يُنْعِمُها عليهم في

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 456 (2417) عن محمد بن سعد به مقتصرا على قوله: فرارا من عدوهم.

(2)

في س: "مانع".

(3)

في م: "بعقوبته". وعقوة الدار: ساحتها. اللسان (ع ق و).

ص: 425

دُنياهم ودينِهم وأنفسِهم وأموالهم، كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حَذَرَ الموتِ بعد إمانَتِه إياهم، وجعَلهم لخلقِه مَثَلًا، وعِظَةً يَتَّعِظُون بهم، وعِبْرةً يَعْتَبرون بهم، وليَعْلَمُوا أن الأمورَ كلَّها بيدِه، فيَسْتَسْلِمُوا لقضائه، ويَصْرِفُوا الرغبةَ كلَّها والرهبة إليه.

ثم أخبرَ تعالى ذكرُه أن أكثرَ

(1)

مَن يُنْعِمُ عليه من عباده بنِعَمِه الجليلة، ويَمُنُّ عليه بمننه الجسيمةِ، يَكْفُرُ به، ويَصْرِفُ الرغبة والرهبة إلى غيره، ويَتَّخِذُ إلهًا مِن دونِه؛ كُفْرانًا منه لنِعَمِه التي يُوجِبُ أصغرُها عليه من الشكرِ ما يَفْدَحُه

(2)

، ومِن الحَمْدِ ما يُثْقِلُه، فقال تعالى ذكره:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} . يَقُولُ: لا يَشْكُرون نِعْمَتىَ التي أَنْعَمْتُها عليهم، وفَضْلِيَ الذي تَفَضَّلْتُ به عليهم؛ بعبادتِهم غيرى وصَرْفهم رغبتَهم ورهبتَهم إلى مَن دُونِى ممن لا يَمْلِكُ لهم ضرًّا ولا نَفْعًا، ولا يَمْلِكُ موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: وقاتلوا أيُّها المؤمنون في سبيل الله - يعني: في دينه الذي هَدَاكم له، لا في طاعةِ الشيطانِ - أعداءَ دينِكم الصَّادِّين عن سبيل ربِّكم، ولا [تحتَموا عن قتالِه عندَ]

(3)

لقائِهم، ولا تَجبُنُوا

(4)

عن حربهم، فإنَّ بيدى حياتكم وموتَكم، ولا يَمْنَعنَّ أحدَكم مِن لقائِهم وقتالِهم حَذَرُ الموتِ وخَوْفُ المنية على نفسه

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"كل".

(2)

يفدحه يعنى: يثقله. اللسان (ف د ح).

(3)

في م، ت 1:"تجبنوا عن".

(4)

في م، ت 1:"تقعدوا".

ص: 426

بقتالهم، فيَدْعوه ذلك إلى التَّعْريدِ

(1)

عنهم والفرارِ منهم، فتَذِلُّوا، ويَأْتيَكم الموتُ الذي خِفْتُموه في مَأْمَنِكم الذي وَأَلْتُم إليه، كما أتى الذين خرَجوا من ديارهم فرارًا من الموتِ؛ الذين قصَصت عليكم قصتَهم، فلم يُنْجِهم فِرارُهم منه من نزوله بهم، حين جاءَهم أمرى، وحلَّ بهم قضائى، ولا ضرَّ المتُخَلَّفين وراءَهم ما كانوا لم يَحْذَرُوه إذ دافعتُ عنهم مناياهم، وصرَفتُها عن حوبائِهم

(2)

، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتُكم بقتالِه من أعدائى وأعداءِ دينى، فإن من حَبىَ منكم فأنا أَحْيَيْتُه

(3)

، ومن قُتِل منكم فبقَضائى كان قتلُه

(4)

.

ثم قال تعالى ذكرُه لهم: واعلَموا أيها المؤمنون أن ربَّكم سميعٌ لقول مَن يَقُولُ من منافقيكم لمن قُتل منكم في سبيلى: لو أطاعونا فجلَسوا في منازِلِهم ما قتلوا. عليمٌ بما تُجِنُّه

(5)

صدورُهم من النفاقِ والكفر، وقلَّةِ الشُّكْرِ لنِعْمَتى عليهم، وآلائى لَدَيْهم في أنفسِهم وأهليهم، ولغير ذلك مِن أمورِهم وأمورِ عبادى. يقولُ تعالى ذكرهُ لعبادِه المؤمنين: فاشكرُونى أنتم بطاعتِى فيما أمَرتُكم من جهادِ عدوِّكم في سبيلى: وغير ذلك مِن أمْرِى ونَهْيِى، إذ كفَر هؤلاء نِعَمِى، واعلَموا أن الله سميعٌ لقولِهم، وعليمٌ بهم وبغيرهم، وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، محيطٌ بذلك كلِّه، حتى أُجازي كلا بعمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًا.

ولا وجه لقولِ مَن زعم أن قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَمرٌ مِنَ اللَّهِ الذين خرَجوا من ديارهم وهم ألوفٌ، بالقتال بعدَ ما أحياهم؛ لأن قوله: {وَقَاتِلُوا فِي

(1)

في م: "التفريد". والتعريد: سرعة الفرار من الهزيمة، من: عرَّد الرجل عن قرنه، إذا أحجم ونكل.

(2)

الحوباء: النفس.

(3)

في م، ت 1:"أحييه".

(4)

في ت 1، ت 2:"قبله".

(5)

في م، ت:1: "تخفيه" وكلاهما بمعنى.

ص: 427

سَبِيلِ اللَّهِ} لا يخلو إن كان الأمرُ على ما تَأَوَّلوه مِن أحدٍ أمورٍ ثلاثة؛ إما أَن يَكُونَ عطفًا على قوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} . وذلك من المُحالِ أن يميتَهم ويأمرَهم وهم موتى بالقتال في سبيلِه. أو يَكونَ عطفًا على قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} . وذلك أيضًا مما لا معنى له؛ لأن قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . أمرٌ مِن الله بالقتال، وقوله:{ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} خبرٌ عن فعلٍ قد مضَى. وغيرُ فصيحٍ العطفُ بخبر مستقبَلٍ على خبرٍ ماضٍ، لو كانا جميعًا خَبَرين، لاختلافِ معنَيَيْهما، فكيف عطفُ الأمرِ على خبرٍ ماضٍ؟ أو يَكُونَ معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله. ثم أسقَط القول، كما قال تعالى ذكرُه:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12]. بمعنى: يقولون: ربَّنا أبصَرْنا وسمِعْنا. وذلك أيضًا إنما يَجُوزُ في الموضع الذي يَدُلُّ ظاهرُ الكلام على حاجته إليه، ويَفْهَمُ السامعُ أنه مرادٌ به الكلامُ وإن لم يُذْكَرْ، فأما في الأماكن التي لا دَلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدَّعٍ أنه مرادٌ فيها.

‌القولُ في تأويل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} .

يعني تعالي ذكرُه بذلك: مَن هذا الذي يُنْفِقُ في سبيل الله، فيُعِينُ مُضْعِفًا

(1)

، أو يُقَوِّى ذا فاقةٍ أراد الجهادَ في سبيل اللهِ، ويُعْطى منهم مُقْتِرًا. وذلك هو القَرْضُ الحسَنُ الذي يُقْرِضُ العبدُ ربَّه.

وإنما سمّاه الله تعالى ذكرُه قرضًا؛ لأن معنى [القرض إعطاءُ]

(2)

الرجل غيرَه مالَه مُملِّكًا له ليَقْضِيَه مثله إذا اقتضاه، فلما كان إعطاءُ

(3)

من أعطَى أهل الحاجة والفاقة في

(1)

المضعف: الذي ضعفت دابته. اللسان (ض ع ف).

(2)

في ص، ت 1:"من أعطى".

(3)

في ص، ت 1:"أعطى".

ص: 428

سبيل الله، إنما يُعْطِيهم ما يُعْطيهم من ذلك ابتغاءَ ما وعدَه الله عليه من جزيل الثواب عندَه يومَ القيامة، سماه قرضًا، إذ كان معنى القرض في لغة العرب ما وصَفْنا.

وإنما جعَله تعالى ذكرُه حَسَنًا؛ لأن المُعْطِيَ يُعْطِي ذلك عن نَدْبِ اللَّهِ إِياه، وحثِّه له عليه احتسابًا منه، فهو لله طاعةٌ، وللشياطين

(1)

معصيةٌ، وليس ذلك لحاجةٍ بالله إلى أحدٍ من خلقِه، ولكنَّ ذلك كقول العرب: عندى لك قرضُ صدقٍ وقرضُ سوءٍ. للأمر تأتى فيه الرجلَ مَسرَّتُه أو مَساءتُه، كما قال الشاعرُ

(2)

:

كلُّ امرئٍ سوفَ يُجْزَى قرضَه حَسَنًا

أو سَيِّئًا ومَدِينًا بالذِي دَانا

فقرضُ المرء: ما سلف من صالح عملِه أو سيِّئِه.

وهذه الآية نظيرةُ الآية التي قال

(3)

فيها تعالى ذِكرُه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وبنحو الذي قُلْنا في ذلك كان ابن زِيدٍ يَقُولُ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . قال: هذا في سبيلِ اللَّهِ، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. قال: بالواحد سبعُمائة ضِعْفٍ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن زيد بن أسلمَ، قال: لما نزَلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"للسلطان".

(2)

هو أمية بن أبي الصلت، والبيت في ديوانه ص 47.

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2:"الله".

ص: 429

أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. قال: [جاء ابن الدحداحة]

(1)

إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيَّ الله، أَلَا أَرَى ربَّنا يَسْتَقْرِضُنا مما أعطانا لأنفسنا، وإن لى أرضَيْنِ؛ إحدَاهما بالعالية، والأُخرَى بالسافلِة، وإنِّي قد جعَلتُ خيرَهما صدقةً. قال: فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "كم من عَذْقٍ مُذَلَّلٍ [لابنِ الدَّحْداحةِ]

(2)

في الجَنَّةِ"

(3)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ أن رجلًا على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية، قال: أنا أُقْرِضُ اللَّهَ. فعمد إلى خير حائطٍ له فتصدَّق به. قال: وقال قتادةُ: يَسْتَقْرِضُكم ربُّكم كما تَسْمَعون وهو الوَلِيُّ الحميدُ، ويَسْتَقْرِضُ

(4)

عبادَه

(5)

!

حدَّثنا محمدُ بن معاويةَ الأنماطيُّ النيسابوريُّ، قال: حدَّثنا خلَفُ بن خليفةَ، عن حميدٍ الأعرج، عن عبدِ اللهِ بن الحارث، عن عبدِ الله بن مسعودٍ، قال: لما نزَلَت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . قال أبو الدَّحْداحِ: يا رسولَ اللهِ، أوَ إِنَّ الله يُريدُ منا القرضَ؟ قال:"نعَمْ يا أبا الدَّحْدَاحٍ". قال: يدَكَ. قال

(6)

: فناوَله يدَه. قال: فإني قد أَقْرَضْتُ رَبِّي حائطى؛ حائطًا فيه ستُّمائة نخلةٍ. ثم جاء يَمْشي حتى أتى الحائط وأمُّ الدَّحْداحِ فيه في عيالِها، فناداها: يا أمَّ الدحداحِ. قالت: لبَّيْك. قال: اخْرُجي، قد أَقْرَضْتُ رَبِّي حائطًا فيه ستُّمائِةِ نخلةٍ

(7)

.

(1)

في م: "جاء أبو الدحداح". وهو ثابت بن الدحداح - وقيل: الدحداحة - بن نعيم، أبو الدحداح، وأبو الدحداحة، حليف الأنصار. ينظر أسد الغابة 1/ 267، والإصابة 1/ 386.

(2)

في م: "لأبي الدحداح".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 98.

(4)

في ص ت 1: "يستنصر".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 312 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(6)

في م، ت 1، ت 2:"قبل".

(7)

أخرجه البزار في 5/ 402 (2033) عن محمد بن معاوية به، وأخرجه سعيد بن منصور (417) - تفسير)، وأبو يعلى (4986)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 460 (2430)، والطبرانى في الكبير =

ص: 430

وأما قوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} . فإنه عِدَةٌ مِن الله تعالى ذكرُه مُقْرِضَه ومُنْفِقَ ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قَرْضِه ونَفَقَتِه ما لا حدَّ له ولا نهاية.

كما حدَّثني موسى بنُ هارون، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} . قال: هذا التَّضْعِيفُ لا يَعْلَمُ أحدٌ ما هو

(1)

.

وقد حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا سُويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابن المباركِ، عن ابن عُيَيْنةً، عن صاحبٍ له يَذْكُرُ عن بعضِ العلماء، قال: إن الله أعطاكم الدنيا قرضًا، وسألَكُمُوها قرضًا، فإن أعطَيْتُمُوها طيِّبةً بها أنفُسُكم، ضاعَف لكم ما بينَ الحسنةِ إلى العَشْرِ إلى السبعِمائة، إلى أكثرَ من ذلك، وإن أخَذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتُم وأحسنتم، كانت لكم الصلاةُ والرحمةُ، وأوجَب لكم الهُدَى

(2)

.

وقد اختلَفت القرأةُ في قراءة قوله: (فَيُضَاعِفُهُ). بالألف ورفعه

(3)

، بمعنى: الذي يُقْرِضُ الله قرضًا حَسَنًا فيُضَاعِفُه

(4)

له. [نَسَقًا بـ "يُضاعِفُ"]

(5)

على قوله: "يُقْرِضُ".

= 22/ 301 (764)، والبيهقى في شعب الإيمان 3/ 249، 250 (3452) من طريق خلف بن خليفة به، وأخرجه ابن منده - كما في الإصابة 7/ 120 - من طريق عبد الله بن الحارث به. وأصله في مسلم (965) من حديث جابر بن سمرة.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 462 (2436) من طريق عمرو به.

(2)

الزهد لابن المبارك (642).

(3)

هي قراءة نافع وأبى عمرو وحمزة والكسائي، ينظر حجة القراءات ص 139.

(4)

في ص، ت 1:"يضاعفه".

(5)

في م: "نسق يتضاعف".

ص: 431

وقرأه آخرون بذلك المعنى (فيُضَعِّفُه). غير أنَّهم قرَءوه بتشديدِ العَين وإسقاطِ الألفِ

(1)

.

وقرأه آخرون {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . بإثباتِ الألف في "يُضَاعِفَ" ونَصْبِه، بمعنى الاستفهام

(2)

، فكأنهم تأوَّلوا الكلامَ: مَن المُقْرِضُ الله قرضًا حَسَنًا فيضاعفه له؟ فجعَلوا قولَه: {فَيُضَاعِفَهُ} جوابًا للاستفهام، وجَعَلُوا {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} اسمًا؛ لأنَّ "الذي" وصِلَتَه بمنزلِة "عمرٍو "و" زيدٍ"، فكأنهم وجَّهوا تأويل الكلام إلى قولِ القائلِ: مَن أخوك فنُكْرِمَه. لأن الأفصَحَ في جوابِ الاستفهام بالفاء - إذا لم يَكُنْ قبله ما يُعْطَفُ به عليه من فعلٍ مستقبلٍ - نَصْبُه.

وأولى هذه القراءاتِ عندنا بالصواب

(3)

قراءةُ مَن قرأَ: (فَيُضَاعِفُه له).

بإثباتِ الألفِ ورفع "يُضَاعِفُ"؛ لأنَّ في قوله: (من ذا الذي يُقْرِضُ اللهُ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفُه). [معنى الجزاء]

(4)

، والجزاءُ إذا دخَل في جوابِه "الفاءُ"، لم يَكُنْ جوابُه بالفاء إلا

(5)

رَفْعًا، فلذلك كان الرفْعُ في "يُضَاعَفُه" أولى بالصوابِ عندَنا من النَّصْبِ، وإنما اختَرْنا الألفَ في "يُضَاعِفُ"، مِن حذفها وتشديد العين؛ لأن ذلك أفصَحُ اللُّغَتَين، وأكثرُهما على ألسنة العرب.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} .

يعني تعالي ذكرُه بذلك أنه الذي يبدِه قبْضُ أرزاق العبادِ وبَسْطُها دون غيره ممن

(1)

وهى قراءة ابن كثير المكى. المصدر السابق ص 138.

(2)

وهي قراءة عاصم، ولم يذكر المصنف قراءة:"فَيُضعفَه" بالتشديد والنصب وإسقاط الألف، وهى قراءة ابن عامر الشامي. المصدر السابق.

(3)

هذه القراءات متواترة مقروء بها، وليست إحداها أولى من غيرها بالصواب.

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(5)

في م، ت 1، ت 2:"لا".

ص: 432

ادَّعى أهلُ الشرك به أنهم آلهةٌ واتَّخَذوه ربًّا دونَه يَعْبُدُونَه، وذلك نظيرُ الخبر الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدَّثنا به محمدُ بنُ المثنى ومحمدُ بن بشارٍ، قالا: ثنا حجاجٌ، وحدَّثني عبدُ الملك بنُ محمدٍ الرَّقاشيُّ، قال: ثنا حجاجٌ وأبو ربيعة، قالا: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثابتٍ وحميدٍ وقتادةَ، عن أنسٍ، قال: غلا السِّعْرُ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقالوا: يا رسول الله، غلا السِّعرُ فَأَسْعِر لنا. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إن الله الباسِطُ القابِضُ الرازقُ، وإني لأرجو أن أَلْقَى الله ليس أحدٌ يَطْلُبُنى بمظلِمةٍ في نَفْس ومالٍ"

(1)

.

قال أبو جعفر: يعنى بذلك صلى الله عليه وسلم أن الغَلاءَ والرُّخْصَ والسَّعةَ والضِّيقَ بيدِ اللهِ دونَ غيره، فكذلك قوله تعالى ذكرُه:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} . يعنى بقوله: {يَقْبِضُ} : يُقْتِرُ بِقَبْضِه الرِّزْقَ عمن يَشاءُ من خلقه. ويَعْنى بقوله: {وَيَبْسُطُ} : يُوَسِّعُ ببسطِه الرزقَ على مَن يشاءُ منهم.

وإنما أراد تعالى ذكرُه بقيلِه ذلك حثَّ عبادِه المؤمنين الذين قد بسَط عليهم من فضلِه، فوسَّع عليهم مِن رزقِه على تَقْوية ذوِى الإقتارِ منهم بمالِه، ومعونتِه بالإنفاقِ عليه وحمولته على النُّهوض لقتال عدوِّه من المشركين في سبيلِه، فقال تعالى ذكرُه: مَن يُقَدِّمْ لنفسِه ذُخْرًا عندى بإعطائه ضعفاءَ المؤمنين وأهل الحاجة منهم، ما يَستَعينُ به على القتال في سبيلى، فأضاعف له من ثوابى أضْعافًا كثيرةً مما

(2)

أعطاه وقوَّاه به؟

(1)

أخرجه ابن ماجه (2200) عن ابن المثنى به، وأخرجه الترمذى (1314) عن ابن بشار به، وأخرجه البيهقى 6/ 29 من طريق حجاج به، وأخرجه أحمد 20/ 46، 21/ 444 (12591، 14057)، وأبو داود (3451)، وأبو يعلى (2861)، وابن حبان (4935)، والبيهقى في الأسماء والصفات (111) من طريق حماد به.

(2)

في ص، ت 2:"ما".

ص: 433

فإني أيُّها

(1)

الموسِعُ، الذي قبَضتُ الرزقَ عمن ندبتُك إلى معونَتِه وإعطائِه؛ لأبتلِيَه بالصبرِ على ما ابْتَلَيْتُه به، والذي بسَطْتُ عليك لأمتحنَك بعمَلِك فيما بسَطتُ عليك، فأنظرَ كيف طاعتُك إيَّايَ فيه، فأُجازِىَ كلَّ واحدٍ منكما

(2)

على قدرِ طاعتِكما لي فيما ابتَلَيْتُكما فيه، وامْتَحَنْتُكما به مِن غِنًى وفاقةٍ، وسَعَةٍ وضيقٍ، عندَ رُجوعِكما إليَّ في آخِرَتِكما ومصيرِ كما إليَّ في مَعادِكما.

وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال من بلَغنا قولُه مِن أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الآية. قال: علم أن في من يُقَاتِلُ في سبيلِه مَن لا يَجدُ قوةً، وفى من لا يُقَاتِلُ في سبيلِه [من يَجِدُ غِنًى]

(3)

، فندَب هؤلاءِ فقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} . قال: يَبْسُطُ عليك وأنت ثَقِيلٌ عن الخُروجِ لا تُرِيدُه، وقبَض عن هذا وهو يَطِيبُ نفسًا بالخُروجِ ويَخِفُّ له، فقوِّه مما في يَدِكَ يَكُنْ لك في ذلك حَظٌّ.

‌القولُ في تأويلِ قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} .

يَعْنى تعالى ذكرُه بذلك: وإلى اللهِ معادُكم أيها الناسُ، فاتَّقُوا الله في أنفسِكم أن تُضَيِّعوا فرائضَه وتَتَعدَّوا حُدودَه، وأن يعمَلَ مَن بُسِطَ عليه منكم في رِزْقِه بغيرِ ما أَذِن له بالعملِ فيه ربُّه، وأن يَحْمِلَ المُقْتِرَ منكم، فقُبِض عنه رِزقُه، إقتارُه على

(1)

في م: "أنا".

(2)

في ص، ت 1:"منكم".

(3)

سقط من: ص، س.

ص: 434

معصيتِه والتَّقَدُّمِ على ما نهاه، فيَسْتَوجِبَ بذلك [منه بمصيرِه]

(1)

إلى خالقه ما لا قِبَلَ له به من أليمِ عقابِه.

وكان قتادةُ يَتَأَوَّلُ قولَه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : وإلى الترابِ تُرْجَعون.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : مِن الترابِ خلَقهم، وإلى الترابِ يَعُودون

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {أَلَمْ تَرَ} : ألم ترَ يا محمدُ بقلبِك، فتعلمَ بخبرى إياك يا محمدُ {إِلَى الْمَلَإِ}. يعنى: إلى وُجوهِ بني إسرائيلَ وأشرافِهم ورؤسائِهم. {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} . يَقُولُ: مِن بعدِ ما قُبِضَ موسى فمات. {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فذُكِر لي أن النبيَّ الذي قال لهم ذلك، شَمْوِيلُ بنُ بالى بن علقمةَ بن يرخامَ

(3)

بن أبيهو بن تهو بن صوفَ بن علقمةَ بن ماحثَ بن عموصا بن عزريا بن صفنيةَ

(4)

بن علقمةَ بن أبي ياسفَ

(5)

بن قارونَ بن يصهرَ بن قاهتَ بن لاوى بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ.

حدَّثنا بذلك ابن حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ، عن ابن

(6)

إسحاقَ، عن وهبِ بن منبهٍ.

(1)

في ص، ت 1:"عنه مصيره".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 462 (2439) من طريق يزيد بن رزيع به.

(3)

في م: "برحام". وينظر تاريخ المصنف 1/ 467.

(4)

في النسخ: "صفية"، وفى كتاب القوم:"صَفْيا". أخبار الأيام الأول، الأصحاح السادس.

(5)

في م: "ياسق".

(6)

في النسخ: "أبي".

ص: 435

وحدَّثني أيضًا المثنى بنُ إبراهيم، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بن عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثني عبدُ الصمدِ بنُ معقلٍ أنه سمِع وهبَ بنَ منبهٍ يَقُولُ: هو شمويلُ

(1)

. ولم يَنْسِبْه كما نسبَه ابن

(2)

إسحاقَ.

وقال السديُّ: بل اسمُه شمعونُ. وقال: إنما سُمَّي شمعونَ لأَنَّ أُمَّه دَعَتِ اللهِ أن يَرْزُقَها غلامًا، فاستجَاب اللهُ لها دعاءَها فرزَقها، فولَدت غلامًا فسمَّته شمعونَ، تَقُولُ: اللهُ تعالى سمِع دعائىَ.

حدَّثني بذلك

(2)

موسى، قال: حدَّثنا عمرو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ

(3)

.

فكأن "شمعون" فعلُون عندَ السُّدِّيِّ مِن قولِها

(4)

: سمِع اللهُ دعاءَها.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} . قال: شمؤلُ

(5)

.

وقال آخرون: بل الذي سأَله قومُه من بنى إسرائيلَ أن يَبْعَثَ لهم ملِكًا يُقَاتِلون

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه مطولًا 1/ 469، 470، وأخرجه ابن أبي حاتم 2/ 463 (3443) من طريق إسماعيل به وعنده أشمويل.

(2)

سقط من النسخ.

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه مطولا 1/ 467، وأخرجه ابن أبي حاتم 2/ 463 (2447) من طريق عمرو به.

(4)

بعده في ص: "إنه".

(5)

في م، س:"شمعون".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 315 إلى المصنف.

ص: 436

في سبيلِ اللهِ يوشعُ بنُ نونِ بن أفرائيمَ

(1)

بن يوسفَ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ.

حدَّثني بذلك الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} . قال: كان نبيُّهم الذي بعدَ موسى يوشعَ بنَ نونِ، قال: وهو أحدُ الرجلين اللذين أنعَم اللهُ عليهما

(2)

.

وأما قولُه: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فاختلَف أهلُ التأويلِ في السببِ الذي مِن أجلِه سأَل الملأُ من بني إسرائيلَ نبيَّهم ذلك؛ فقال بعضُهم: كان سببَ مسألتِهم إياه ما حدَّثنا به محمدُ بنُ حميدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثني محمدُ بن إسحاقَ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ قال: خلَف بعدَ موسى في بني إسرائيلَ يوشَعُ بنُ نونٍ يُقِيمُ فيهم التوراةَ وأَمْرَ اللهِ قبَضَه اللهُ، ثم خلَف فيهم كالبُ بنُ يوفنَّا

(3)

يُقِيمُ فيهم التوراةَ وأمْرَ اللهِ حتى قبَضه اللهُ تعالى، ثم خلَف فيهم حزقيلُ بنُ بوزى، وهو ابن العجوزِ، ثم إن الله قبَض حزقيلَ، وعظُمت في بني إسرائيلَ الأحداثُ، ونسُوا ما كان مِن عهدِ اللهِ إليهم، حتى نصَبوا الأوثانَ وعبدوها منَ دونِ اللهِ، فبعَث اللهُ إليهم إلياسَ ابنَ تَسبى

(4)

بن فِنحاصَ بن العيزارِ بن هارونَ بن عمرانَ نبيًّا، وإنما كانت الأنبياءُ من بنى إسرائيلُ بعدَ موسى يُبْعَثون إليهم بتجديدِ ما نَسُوا مِن التوراةِ، وكان إلياسُ مع ملِكٍ من ملوكِ بني إسرائيلَ يُقالُ له:

(1)

في م: "أفراثيم".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 97 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 24/ 440 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 463 (2442) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

في م، س:"يوقنا".

(4)

في م، س:"يسى". وينظر البداية والنهاية 2/ 272.

ص: 437

أحابُ

(1)

. وكان يَسْمَعُ منه ويُصَدِّقُه، فكان إلياسُ يُقِيمُ له أمرَه، وكان سائرُ بنى إسرائيلَ قد اتَّخَذُوا صنمًا يَعْبُدونَه مِن دونِ اللهِ، فجعَل إِلياسُ يَدْعُوهم إلى اللهِ، وجعَلوا لا يَسْمَعُون منه شيئًا، إلا ما كان مِن ذلك الملكِ، والملوكُ مُتَفَرِّقةٌ بالشامِ، كلُّ مَلِكٍ له ناحيةٌ منها يَأْكُلُها، فقال ذلك الملكُ الذي كان إلياسُ معه يُقَوِّمُ له أمرَه، ويَرَاه على هُدًى مِن بين أصحابهِ، يومًا: يا إلياسُ، واللهِ ما أَرَى مَا تَدْعُو إليه الناسَ إِلا باطلًا، واللهِ ما أرى فلانًا وفلانًا - يُعَدِّدُ مُلوكًا مِن ملوكِ بني إسرائيلَ قد عبَدوا الأوثانَ من دونِ اللهِ - إلَّا على مثلِ ما نحن عليه، يَأْكُلُون ويَشْرَبُون ويَتَنَعَّمُون، مُمَلَّكين

(2)

، ما يَنْقُصُ مِن دنياهم [أمرُهم الذي تَزْعُمُ أنه باطلٌ]

(3)

، وما نَرَى لنا عليهم مِن فضلٍ. فيَزْعُمون - واللهُ أعْلمُ - أن إلياسَ اسْتَرجع، وقام شعرُ رأسِه وجلدِه، ثم رفَضه وخرَج عنه، ففعَل ذلك الملكُ فِعْلَ أصحابِه، عبَد الأوثانَ، وصنَع ما يَصْنَعون. ثم خَلَف من بعده فيهم اليَسَعُ، فكان فيهم ما شاء اللهُ أَن يَكُونَ، ثَم قبَضه اللهُ إليه، وخلَفت فيهم الخُلوفُ، وعظُمت فيهم الخطايا، وعندَهم التابوتُ يَتَوارثونه كابرًا عن كابرٍ، فيه السَّكينةُ وبقيةٌ مما ترَك آلُ موسى وآلُ هارونَ، وكانوا لا يلقاهم عدوٌّ، فيُقَدِّمُون التابوتَ ويَزْحَفُون به معهم، إلا هزَم اللهُ ذلك العدوَّ. ثم خلَف فيهم ملِكٌ يُقالُ له: إيلاءُ

(4)

. وكان اللهُ قد بارَك لهم في جبَلِهم مِن إيلياءَ، لا يَدْخُلُه عليهم عدوٌّ، ولا يحتاجون معه إلى غيرِه، وكان أحدُهم فيما يَذْكُرُون يَجْمَعُ الترابَ على الصخرةِ، ثم يَنْبِذُ فيه الحبَّ، فيُخْرِجُ اللهُ له ما يَأْكُلُ سنتَه هو وعيالُه، ويَكُونُ لأحدِهم الزيتونةُ فيَعْتَصِرُ منها ما يَأْكُلُ هو وعيالُه سنتَه، فلما عظُمت

(1)

في م: "أخاب"، وفى س:"أجاب".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س: ملكين، وفى م:"مالكين". والمثبت من تاريخ المصنف.

(3)

سقط من النسخ، والمثبت من تاريخ المصنف.

(4)

في تاريخ المصنف: "إيلاف".

ص: 438

أحداثُهم، وترَكوا عهدَ اللهِ إليهم، نزَل بهم عدوٌّ، فخرَجوا إليه، وأخرَجوا معهم

(1)

التابوتَ كما كانوا يُخْرِجُونه، ثم زحَفوا به، فقُوتِلوا حتى اسْتُلِب مِن بين أيدِيهم، فأتى مَلِكُهم إيلاءُ، فأُخبِر أن التابوتَ قد أُخِذ واسْتُلِب، فمالت عنقُه، فمات كَمَدًا عليه، فمرَج أمرُهم عليهم، ووَطِئَهم عدوُّهم حتى أُصِيبَ مِن أبنائِهم ونسائِهم، وفيهم نبيٌّ لهم قد كان اللهُ بعَثه إليهم - فكانوا لا يَقْبَلون منه شيئًا - يقالُ له: شَمْوِيلُ، وهو الذي ذكَر الله لنبيِّه محمدٍ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . إلى قوله: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} . يَقولُ اللهُ: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} إلى قولِه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} :

قال ابن إسحاقَ: فكان مِن حديثِهم فيما حدَّثني به بعضُ أهلِ العلمِ عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، أنه لما نزَل بهم البلاءُ، ووُطِئَتْ بلادُهم، كلَّموا نبيَّهم شَمْوِيلَ بنَ بالى، فقالوا: ابْعَثْ لنا ملِكًا نُقَاتلْ في سبيلِ اللهِ. وإنما كان قِوامُ بني إسرائيلَ الاجتماعَ على الملوكِ، وطاعةَ الملوكِ أنبياءَهم، وكان الملِكُ هو يَسيرُ بالجموعِ والنبيُّ يُقَوِّمُ له أمرَه، ويَأْتيه بالخبرِ من ربِّه، فإذا فعَلوا ذلك صلَح أمرُهم، فإذا عَتَتْ مُلوكُهم وترَكوا أمرَ أنبيائِهم فسَد أمرُهم، فكانت الملوكُ إذا تابَعتها الجماعةُ على الضلالةِ تركوا أمرَ الرسلِ؛ ففريقًا يُكَذِّبون فلا يَقْبَلون منه شيئًا، وفريقًا يَقْتُلون، فلم يَزَلْ ذلك البلاءُ بهم حتى قالوا له: ابْعَثْ لنا مَلِكًا نُقَاتِلْ في سبيلِ اللهِ. فقال لهم: إنه ليس عندَكم وفاءٌ ولا صِدقٌ ولا رَغْبةٌ في الجهادِ. فقالوا: إنما كنا نَهابُ الجهادَ ونَزْهَدُ فيه أنا كنا ممنوعِين في بلادِنا، لا يَطُؤُها أحدٌ، فلا يَظْهَرُ علينا فيها عدوٌّ، فأما إذ بلَغ

(1)

سقط من: ص، س.

ص: 439

ذلك، فإنه لابُدَّ من الجهادِ، فنُطِيعُ ربَّنا في جهادِ عدوِّنا، ونَمْنَعُ أبناءَنا ونساءَنا وذرارِيَّنا

(1)

.

حدِّثت عن عمارِ بن الحسنِ، قال: حدَّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . قال الربيعُ: ذكرِ لنا - والله أعلم - أن موسى لما حضَرته الوفاةُ، استخلَف فتاه يُوشَعَ بنَ نونٍ على بنى إسرائيلَ، وأن يُوشَعَ بنَ نونٍ سار فيهم بكتابِ اللهِ - التوراةِ - وسُنَّةِ نبيِّه موسى، ثم إن يُوشعَ بنَ نونٍ تُوفِّى، واستُخْلِفَ فيهم آخرُ، فسار فيهم بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه موسى صلى الله عليه وسلم، ثم استُخْلِف آخرُ، فسار فيهم بسيرةِ صاحبيه، ثم اسْتُخْلِف آخرُ فعرَفوا وأنكَروا، ثم اسْتُخْلِف آخرُ فأنكرَوا عامةَ أمرِه، ثم اسْتُخْلِف آخرُ فأنكروا أمرَه كلَّه، ثم إن بني إسرائيلَ أتَوا نبيًّا مِن أنبيائِهم حينَ أُوذُوا في نْفُسِهم

(2)

وأموالِهم، فقالوا له: سل ربَّك أن يَكْتُبَ علينا القتالَ. فقال لهم ذلك النبيُّ: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} إلى قولِه: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} . قال: قال ابن عباسٍ: هذا حينَ رُفِعَت التوراةُ واسْتُخْرِجَ أَهلُ الإيمانِ، وكانت الجَبَابرةُ قد أخْرَجَتْهم مِن ديارِهم وأبنائِهم

(4)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 459، 460، 461 - 464.

(2)

في م: "نفوسهم".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 313، 314 إلى المصنف.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 314 إلى المصنف وابن المنذر.

ص: 440

حدِّثت عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضَّحاك يَقُولُ في قولِه: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} . قال: هذا حينَ رُفِعَت التَّوْراةُ واسْتُخْرِج أَهلُ الإيمانِ

(1)

.

وقال آخرون: كان سببَ مسألتِهم نبيَّهم ذلك ما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: كانت بنو إسرائيلَ يُقَاتِلون العمالقَةَ، وكان ملِكَ العمالقةِ جالوتُ، وأنهم ظهَروا على بني إسرائيلَ، فضرَبوا عليهم الجزيةَ، وأخَذوا توراتَهم، وكانت بنو إسرائيلَ يَسْأَلُون الله أن يَبْعَثَ لهم نبيًّا يُقَاتِلون معه، وكان سِبْطُ النبوَّة قد هلَكوا، فلم يَبْقَ منهم إلا امرأةٌ حُبْلَى، فأخَذوها فحبسوها في بيتٍ؛ رهبةَ أن تَلِدَ جاريةً فتُبْدِلَها

(2)

بغلامٍ؛ لما تَرَى مِن رغبةِ بني إسرائيلَ في ولَدِها، فجعَلت المرأةُ تَدْعو الله أن يَرْزُقَها غلامًا، فولَدت غُلامًا فسمَّتْه شمعونَ، فكبِر الغلامُ، فَأَسْلَمَتْه

(3)

يَتَعَلَّمُ التوراةَ في بيتِ المقدسِ، وكفَله شيخٌ مِن علمائِهم وتَبَنّاه، فلما بلَغ الغلامُ أَن يَبْعَثَهُ اللهُ نبيًّا أتاه جبريلُ والغلامُ نائمٌ إلى جَنْبِ الشيخِ، وكان لا يَتَّمِنُ

(4)

عليه أحدًا غيرَه، فدعاه بلَحْنِ الشيخِ: يا شماولُ. فقام الغلام فزِعًا إلى الشيخِ، فقال: يا أَبَتاه، دعوتَني؟ فكرِه الشيحُ أن يَقُول: لا، فيَفْزَعَ الغلامُ، فقال: يا بُنيَّ، ارْجِعُ فنَمْ. فرجَع فنام، ثم دعاه الثانيةَ، فأتاه الغلامُ أيضًا، فقال: دعوتَنى. فقال: ارْجِعْ فنَم، فإن دعوتُك الثالثةَ فلا تُجِبْنى. فلما كانت الثالثةَ ظهرَ له جبريلُ، فقال: اذْهَبْ إلى قومِك فبلِّغْهم

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 263 (2445) من طريق أبي معاذ به.

(2)

في س، وتاريخ المصنف:"فتبدله".

(3)

في م: "فأرسلته"، وفى س:"فسلمته".

(4)

في م: "يأتمن"، وفى نسخة من تاريخ المصنف:"يأمن".

ص: 441

رسالةَ ربِّك، فإِنَّ الله قد بعثَك فيهم نبيًّا. فلما أتاهم كذَّبوه وقالوا: اسْتَعْجَلْت بالنبوَّةِ ولم تَئِنْ لك. وقالوا: إن كنْت صادقًا فابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ في سبيلِ اللهِ، آيةً من نبوَّتِك، فقال لهم شمعونُ: عسَى إن كُتِبَ عليكم القتالُ ألا تُقَاتِلوا

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وغيرُ جائزٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: (نُقَتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ). إذا قُرِئَ بالنونِ غيرُ الجزمِ، على معنى المجازاةِ وشرْطِ الأمرِ. فإن ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرَفْعَ فيه جائزٌ وقد قُرِئَ بالنونِ، بمعنى الذي نُقاتِلُ به

(2)

في سبيلِ اللهِ. فإن ذلك غيرُ جائزٍ؛ لأن العرب لا تُضْمِرُ حرفين، ولكنْ لو كان قُرِئ ذلك بالياءِ لجازَ رفعُه؛ لأنه يكونُ لو قُرئَ كذلك صلة لـ "الملكِ"، فيصيرُ تأويلُ الكلامِ حينئذٍ: ابْعَثْ لنا الذي يُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ. كما قال تعالى ذكرُه: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} . لأن قولَه: {يَتْلُو} مِن صلةِ "الرسولِ".

‌القول في تأويلِ قولِه: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} .

يَعْنى تعالى ذكرُه بذلك: قال النبيُّ الذي سألوه أن يَبْعَثَ لهم ملِكًا يُقَاتِلُوا في سبيلِ اللهِ: {هَلْ عَسَيْتُمْ} : هل تَعِدُون {إِنْ كُتِبَ} يعنى:: إِن فُرِض عليكم القتالُ، {أَلَّا تُقَاتِلُوا} يعنى: ألا تَفُوا بما تعِدون الله من

(3)

أنفسِكم مِن

(1)

بعده في م: "والله أعلم".

والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 467، 468 مطولًا بإسناد السدى المعروف، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 463 (2446، 2447) من طريق عمرو به مقتصرا على آخره.

(2)

سقط من النسخ، وينظر معاني القرآن 1/ 157.

(3)

في س: "في".

ص: 442

الجهادِ في سبيلِه، فإنكم أهلُ نُكْثٍ وغَدْرٍ، وقلَّةِ وفاءٍ بما تَعِدُونَ. {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. يعنى: قال الملأُ مِن بني إسرائيلَ لنبيِّهم ذلك: وأيُّ شيءٍ يمنعُنا أن نُقَاتِلَ في سبيلِ اللهِ عدوَّنا وعَدُوَّ اللهِ، {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} بالقهرِ والغلبةِ؟.

فإن قال لنا قائلٌ: وما وجهُ دخولِ "أَنْ" في قولِه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؟ وحَذْفِه مِن قولِه: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} ؟ [الحديد: 8].

قيل: هما لُغتان فصيحتان للعرب، تَحْذِفُ "أن" مرةً مع قولِها

(1)

: ما لك؟ فتقولُ: ما لك لا تَفْعَلُ كذا؟ بمعنى: ما لك غيرُ فاعلِه؟ كما قال الشاعرُ

(2)

:

ما لَكِ تَرْغِينَ ولا تَرْغُو الخَلِفْ

(3)

وذلك هو الكلامُ الذي لا حاجةَ بالمتكلمِ به إلى الاستشهادِ على صحتِه لفُشُوِّ ذلك على ألسنِ العربِ.

وتُثْبِتُ "أن" فيه أُخرى؛ توجيهًا لقولِها: ما لك؟ إلى معناه

(4)

، إذ كان معناه: ما منَعك؟ كما قال تعالى ذكرُه: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]. ثم قال في سورةٍ أُخرى في نظيرِه: {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 32]. فوضَع {مَا مَنَعَكَ} موضعَ {مَا لَكَ} ، و {مَا لَكَ} موضعَ {مَا مَنَعَكَ} ؛ لاتِّفاقِ

(1)

في النسخ: "قولنا". والمثبت يوافق ما سيأتي في كلام المصنف.

(2)

معاني القرآن للفراء 1/ 163، واللسان (خ ل ف).

(3)

الخلف: جمع خلفة، والخلفة: الناقة الحامل، وقيل: هي التي استكملت سنة بعد النتاج ثم حمل عليها فلقحت. اللسان (خ ل ف).

(4)

أي أن معناه المنع.

ص: 443

مَعْنَيَيْهما وإن اختلَفت ألفاظُهما، كما تَفْعَلُ العربُ ذلك في نظائرِه مما تَتَّفِقُ معانيه وتَخْتَلِفُ ألفاظُه، كما قال الشاعرُ

(1)

:

يَقُولُ إذا اقْلَوْلَى

(2)

عليها وأَقْرَدَتْ

(3)

أَلَا هَلْ أَخو عَيشٍ لَذِيذٍ بدَائمِ؟

فأَدْخَل في "دائم" الباءَ مع "هل" وهى استفهامٌ، وإنما تَدْخُلُ في خبرِ "ما" التي في معنى الجَحْدِ؛ لتقاربِ معنى الاستفهامِ والجَحْدِ.

وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يَقُولُ

(4)

: أُدخِلَت "أنْ" في: {أَلَّا تُقَاتِلُوا} ؛ لأنه بمعنى قولِ القائلِ: ما لك في ألا تُقاتِلَ؟ ولو كان ذلك جائزًا لجاز أن يقالَ: ما لك أن قُمْتَ؟ وما لك أنك قائمٌ؟ وذلك غيرُ جائزٍ؛ لأَنَّ المنعَ إِنما يَكُونُ للمُسْتَقْبَلِ مِن الأفعالِ، كما يقالُ: منَعتُك أن تقومَ. ولا يقالُ: منَعتُك أن قمتَ. فلذلك قيل في ما لك: ما لك ألا تَقُومَ؟ ولم يُقَلْ: مالك أن قُمْتَ؟

وقال آخرون منهم

(5)

: "أن" ههنا زائدةٌ بعد ["ما لنا" كما تزادُ]

(6)

"لما" و "لو" وهى تُزادُ في هذا المعنى كثيرًا. قال: ومعناه: وما لنا لا تُقَاتِل في سبيلِ اللهِ؟ فأعمَل "أن"، وهى زائدةٌ، وقال الفرزدَقُ

(7)

:

(1)

هو الفرزدق، والبيت في ديوانه ص 863.

(2)

اقلولي: ارتفع وعلا. اللسان (ق ل و).

(3)

أقردت: ذلَّت. اللسان (ق ر د).

(4)

هو الكسائي، كما ذكر الفراء في معاني القرآن 1/ 165.

(5)

هو أبو الحسن الأخفش. ينظر مغني اللبيب ص 33.

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فلما و"، وفى م:"ما فلما و". والمثبت كما أثبته الشيخ شاكر.

(7)

ديوانه ص 283، ورواية الشطر الثاني:

إليَّ لام ذوو أحلامهم عمرا

ص: 444

لو لم تَكُنْ غَطَفانٌ لا ذُنوبَ لها

[إليَّ لَامَتْ]

(1)

ذَوُو أَحْسَابِها عُمَرا

والمعنى: لو لم تَكُنْ غَطَفانُ لها ذَنوبٌ، و "لا" زائدةٌ فأعمَلها.

وأنكَر ما قال هذا القائلُ مِن قولِه الذي حكَينا عنه آخرون، وقالوا: غيرُ جائزٍ أن تجعَلَ "أن" زائدةً في الكلامِ وهو صحيحٌ في المعنى، وبالكلامِ إليه الحاجةُ؛ قالوا: والمعنى: ما يمنعُنا ألا تُقَاتِلَ. فلا وجهَ لدعوى مدَّعٍ أنَّ "أنْ" زائدةٌ وله معنىً مفهومٌ صحيحٌ.

قالوا: وأما قولُه:

*لو لم تَكُنْ غَطَفَانٌ لا ذُنوبَ لها*

فإنَّ "لا" غيرُ زائدةٍ في هذا الموضِعِ؛ لأنّه جَحْدٌ، والجَحْدُ إذا جُحِد صار إثباتًا. قالوا: فقولُه: لو لم تَكُنْ غَطَفانٌ لا ذنوبَ لها. إثباتُ الذنوبِ لها، كما يُقالُ: ما أخوك ليس يقومُ. بمعنى: هو يقومُ.

وقال آخرون: معنى قولِه: {مَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} : مالنا ولأن لا نُقَاتلَ. ثم حُذِفت الواوُ فتُرِكت، كما يُقالُ في الكلامِ: ما لك ولأنْ تذهبَ إلى فلانٍ. فأُلْقِى منها الواوُ؛ لأن "أنْ" حرفٌ غيرُ مُتَمَكنٍ في الأسماءِ، وقالوا: يُجيرُ أَن يُقالَ: ما لك أن تَقُومَ. ولا تُجيزُ: ما لك القيامُ؛ لأن القيامَ اسمٌ صحيحٌ. و "أنْ" اسمٌ غيرُ صحيحٍ، وقالوا: قد تقولُ العربُ: إياك أن تتكلَّمَ. بمعنى: إياك وأن تَتَكَلَّمَ.

(1)

في م: "إذن للام".

ص: 445

وأنكَر ذلك مِن قولِهم آخرون، وقالوا: لو جاز أن يُقَالَ ذلك على التأويلِ الذي تأوَّله قائلُ مَن حكينا، قولَه، لوَجَب أن يَكُونَ جائزًا: ضرَبتُك بالجاريةِ وأنت كفيلٌ

(1)

. بمعنى: وأنت كفيلٌ بالجاريةِ. وأن تَقُولَ: رأيتُك [إيَّانا وتريدُ]

(2)

. بمعنى: رأيتُك وإيَّانا تُريدُ. لأن العربَ تَقُولُ: إياك بالباطلِ أن تَنْطِقَ. قالوا: فلو كانت الواوُ مُضْمَرةً في "أن" الجاز جميعُ ما ذكَرنا، ولكنَّ ذلك غيرُ جائزٍ؛ لأن ما بعدَ الواوِ مِن الأفاعيلِ غيرُ جائزٍ له أن يَقَعَ على ما قبلَها، واسْتَشْهَدُوا على فسادِ قولِ مَن زعَم أن الواوَ مُضْمَرَةٌ مع "أن" بقولِ الشاعرِ

(3)

:

فَبُحْ بالسَّرائرِ في أهلِها

وإياك في غيرِهم أن تَبُوحا

وأنَّ "أنْ تَبوحا" لو كان فيها واوٌ مُضْمَرةٌ لم يَجُزْ تَقْدِيمُ "في

(4)

غيرِهم" عليها.

وأما تأويلُ قولِه: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} . فإنه يعنى: وقد أُخْرِجَ مَن غُلِب عليه مِن رجالِنا ونسائنا مِن ديارِهم وأولادِهم، ومَن سُبِىَ. وهذا الكلامُ ظاهرُه العمومُ، وباطنُه الخصوصُ؛ لأن الذين قالوا لنبيِّهم:{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . كانوا في ديارِهم وأوطانِهم، وإنما كان أُخْرِج مِن دارِه وولده مَن أُسِر وقُهِر منهم.

وأما قولُه: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} يَقولُ: فلما فُرِض عليهم قتالُ عدوِّهم والجهادُ في سبيلِه، {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} .

(1)

في س: "قبيل". والكفيل والقبيل واحد.

(2)

في م: "أبانا ويزيد".

(3)

البيت في معاني القرآن للفراء 1/ 165.

(4)

سقط من النسخ، والمثبت من معاني القرآن للفراء 1/ 166.

ص: 446

يقولُ: أدبَروا مُوَلِّين عن القتالِ، وضيَّعوا ما سأَلوه نبيَّهم مِن فرضِ الجهادِ. والقليلُ الذي اسْتَثْناهم اللهُ منهم هم الذين عَبروا النهرَ مع طالوتَ، وسَنَذْكُرُ سببَ تَوَلِّى مَن تَوَلَّى منهم، وعبورِ مَن عبرَ منهم النهرَ بعدُ إن شاءَ اللهُ إذا أتَيْنا عليه.

يقولُ الله تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . يعنى: واللهُ ذو علمٍ بمَن ظلَم منهم نفسَه، فأخلَف الله ما وعَده من نفسِه، وخالَف أمرَ ربِّه فيما سأله ابتداءً أن يُوجِبَه عليه.

وهذا من اللهِ تعالى ذكرُه تقريعٌ لليهودِ الذين كانوا بينَ ظَهْرَانَيْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في تكذيبِهم نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومخالفتِهم أمرَ ربِّهم. يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه لهم: إنكم يا معشرَ اليهودِ عصَيتم الله وخالَفتم أمرَه فيما سألتموه أن يفرِضَه عليكم ابتداءً من غيرِ أن يبتدئَكم ربُّكم بفرضِ ما عصَيتموه فيه، فأنتم بمعصيتِه فيما ابتدأكم به من إلزامِ فرضِه أحْرَى.

وفي هذا الكلامِ متروكٌ قد استُغنى بذكرِ ما ذُكِر عما تُرِك منه؛ وذلك أن معنى الكلامِ: قالوا: وما لنا ألا نقاتِلَ في سبيلِ اللهِ وقد أُخْرِجنا من ديارِنا وأبنائِنا. فسأل نبيُّهم ربَّهم أن يبعَثَ لهم مَلِكًا يقاتِلون معه في سبيلِ اللهِ، فبعث لهم مَلِكًا، وكتَب عليهم القتالَ، فلما كُتبِ عليهم القتالُ تولَّوْا إلا قليلًا منهم، واللهُ عليمٌ بالظالمين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} .

يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملإِ من بني إسرائيل نبيُّهم شَمْوِيلُ

(1)

: إِن الله

(1)

في س: "سمويل".

ص: 447

قد أعطاكم ما سألتم، وبعَث لكم طالوتَ مَلِكًا. فلما قال لهم نبيُّهم شَمْوِيلُ ذلك، قالوا: أنَّى يكونُ لطالوتَ المُلْكُ علينا، وهو من سِبْط بنيامينَ بن يعقوبَ، وسِبْطُ بِنْيامينَ سِبْطٌ لا مُلْكَ فيهم ولا نُبوَّةَ، ونحن أحقُّ بالمُلْكِ منه؛ لأَنَّا من سِبْطِ يَهوذا بن يعقوبَ. {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} يعنى: ولم يؤتَ طالوتُ كثيرًا من المالِ؛ لأنه سَقَّاءٌ، وقيل: كان دبَّاغًا.

وكان سببَ تمليكِ اللهِ طالوتَ على بنى إسرائيلَ، وقولِهم ما قالوا لنبيِّهم شَمْوِيلَ:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ما حدَّثنا به ابن حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: حدَّثني محمدُ بنُ إسحاق، قال: حدَّثني بعضُ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: لما قال الملأُ من من بني إسرائيلَ لشَمْوِيلَ بن بالى ما قالوا له، سأل الله نبيُّهم شَمْوِيلُ أن يبعثَ لهم مَلِكًا، فقال اللهُ له: انظرِ القَرْنَ الذي فيه الدُّهْنُ في بيتِك، فإذا دخَل عليك رجلٌ، فَنَشَّ

(1)

الدُّهْنُ الذي في القَرْنِ، فهو مَلِكُ بني إسرائيلَ، فَادْهُنْ رأسَه منه، وملِّكْه عليهم، وأخبِرْه بالذي جاءه. فأقام يَنتظرُ متى ذلك الرجلُ داخِلًا عليه، وكان طالوتُ رجلًا دبَّاغًا يعمَلُ الأدَمَ، وكان من سِبْطِ بِنْيامينَ بن يعقوبَ، وكان سِبْطُ بِنْيامينَ سِبْطًا لم يكُنْ فيهم نُبَوَّةٌ ولا مُلْكٌ، فخرج طالوتُ في طلبِ دابةٍ له أضَلَّته، ومعه غلامٌ له، فمرَّا ببيتِ النبيِّ عليه السلام، فقال غلامُ طالوتَ لطالوتَ: لو دخلتَ بنا على هذا النبيِّ، فسألناه عن أمرِ دابتِنا فيُرشِدَنا، ويدعوَ لنا فيها بخيرٍ؟ فقال طالوتُ: ما بما قلتَ من بأسٍ. فدخَلا عليه، فبينما هما عندَه يذكُران له شأنَ دابتِهما، ويسألانه أن يدعوَ لهما فيها، إذ نَشَّ الدُّهْنُ الذي في القَرْنِ، فقام إليه النبيُّ عليه السلام فأخَذه، ثم قال لطالوتَ: قرِّبْ رأسَك. فقرَّبه، فدهَنه منه، ثم قال: أنت ملكُ بنى إسرائيلَ الذي أمَرنى اللهُ أن أُمَلِّكَكَ عليهم. وكان اسمُ طالوتَ

(1)

النش: صوت الماء وغيره إذا غلى. التاج (ن ش ش).

ص: 448

بالسُّرْيانيَّةِ شاولَ

(1)

بن قيسِ بن أبيالِ بن صرارِ بن يحربَ

(2)

بن أفيحَ بن آيسَ

(3)

بن بنيامينَ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ، فجلَس عندَه، وقال الناسُ: مُلِّكَ طالوتُ. فأتَتْ عظماءُ بنى إسرائيلَ نبيَّهم وقالوا له: ما شأنُ طالوتَ يُمَلَّكُ علينا وليس في بيتِ النبوَّةِ ولا المملكةِ؟ قد عرَفْتَ أن النبوَّةَ والمُلْكَ في آلِ لاوِى وآلِ يَهوذا. فقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}

(4)

.

حدَّثنا المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ

(5)

عبد الكريمِ، عن عبدِ الصمدِ بن مَعْقِلٍ، عن وهبِ بن مُنبِّهٍ، قال: قالت بنو إسرائيلَ لشْمَويلَ

(6)

: ابعَثْ لنا مَلِكًا نقاتِلْ في سبيلِ اللهِ. قال: قد كفاكم اللهُ القتالَ. قالوا: إنا نتخوَّفُ مَن حولَنا، فيكونُ لنا مَلِكٌ نفزَعُ إِليه. فأوحَى اللهُ إلى شَمْويلَ، أن ابعثْ لهم طالوتَ مَلِكًا، وادهُنْه بدُهْنِ القُدُسِ. فضلَّت حُمُرٌ لأبي طالوتَ، فأرسَله وغلامًا له يطلُبانها، فجاءوا إلى شَمْويلَ يسألونه عنها، فقال: إن الله قد بعَثك مَلِكًا على بني إسرائيلَ. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: و

(7)

ما عَلِمتَ أن سِبْطى أدنى أسْباطِ بنى إسرائيلَ؟ قال: بلى. قال: أفما عَلِمتَ أن قبيلتي أدنى قبائلِ سبْطى؟ قال: بلى. قال: أما علِمتَ أن بيتى أدنى بيوتِ قبيلتي؟ قال: بلى. قال: فبأيَّة آيةٍ؟ قال: بآيَةِ أنك ترجِعُ وقد وجَد أبوك حُمُرَه، وإذا كنتَ بمكانِ كذا وكذا نزَل عليك الوَحْيُ. فدهَنه بدُهْنِ القُدُسِ، فقال لبني إسرائيلَ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ

(1)

في ص، ت 2:"شادك"، وفى س:"شاءول". وينظر تاريخ المصنف 1/ 475.

(2)

في تاريخ المصنف: "بحرت". وفى نسخة منه كالمثبت.

(3)

في تاريخ المصنف: "أيش".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 314 إلى المصنف وابن إسحاق.

(5)

في النسخ: "عن".

(6)

في ص: "لأشمويل".

(7)

في تاريخ المصنف: "أو".

ص: 449

يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرُو بنُ حَمَّادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لمَّا كذّبت بنو إسرائيلَ شَمْعونَ، وقالوا له: إن كنتَ صادِقًا فابَعثْ لنا مَلِكًا نقاتِلْ في سبيلِ اللهِ آيةً من نبوَّتِك. قال لهم شمعونُ: عسى إن كُتِب عليكم القتالُ ألَّا تقاتِلوا. {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. دعا الله، فأُتِى بعضًا تكونُ مقدارًا على طولِ الرجلِ الذي يُبْعَثُ فيهم ملكًا، فقال: إن صاحِبَكم يكونُ طولُه طولَ هذه العصا. فقاسُوا أنفسَهم بها، فلم يكونوا مثلَها، وكان طالوتُ رجلًا سقَاءً يَسْقى على حمارٍ له، فضَلَّ حِمارُه، فانطلَق يطلُبُه في الطريقِ، فلما رأَوْه دعَوه فقاسُوه بها، فكان مثلَها، فقال لهم نبيُّهم:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} . قال القومُ: ما كنتَ قطُّ أكذبَ منك الساعةَ، ونحن من سِبْطِ المملكةِ وليس هو من سِبْطِ المملكةِ، ولم يؤتَ سعةً من المالِ فنتَّبِعَه لذلك. فقال النبيُّ:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأهوازيُّ، قال: حدَّثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِيُّ، قال: حدَّثنا شَريكٌ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عِكْرمةَ، قال: كان طالوتُ سقَاءٌ يبيعُ الماءَ

(3)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال:

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 469 - 472 مطولا، وأخرج بعضه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 463 (2443)، من طريق إسماعيل بن عبد الكريم به.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 467 بإسناد السدى المعروف، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 463، 466 (2446، 2447، 2461) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 24/ 440 من طريق أبي أحمد به، وعنده: عمران. بدلا من: عمرو بن دينار.

ص: 450

بعَث اللهُ طالوتَ مَلِكًا، وكان من سِبْطِ بِنْيامينَ سِبْطٌ لم يكنْ فيهم مملكةٌ ولا نبوةٌ، وكان في بنى إسرائيلَ سِبْطان؛ سِبْطُ نُبُوَّةٍ، وسِبْطُ مملكةٍ، وكان سِبْطُ النبوةِ سِبْطَ لاوِى، إليه موسى، وسِبْطُ المملكةِ يهوذا، إليه داودُ وسليمانُ، فلما بُعِث من غيرِ سِبْطِ النبوةِ والمملكةِ أنكَروا ذلك، وعجِبوا منه وقالوا:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} ؟ قالوا: كيف يكونُ له الملكُ علينا، وليس من سِبْطِ النبوةِ ولا من سِبْطِ المملكةِ؟ فقال اللهُ تعالى ذكرُه:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ}

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . قال لهم نبيُّهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} . قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} . قال: وكان من سِبْطٍ لم يكنْ فيهم مُلْكٌ ولا نبوةٌ، فقال:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} : وكان في بنى إسرائيلَ سِبْطان؛ سبْطُ نُبُوَّةٍ، وسِبْطُ خلافةٍ، فلذلك قالوا:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} ؟ يقولون: ومن أين يكونُ له المُلْكُ علينا، وليس من سِبْطِ النبوةِ ولا سِبْطِ الخلافةِ؟ قال:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} .

حدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ، قال: حدَّثنا عُبَيدُ بنُ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 316 إلى عبد بن حميد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 97، ومن طريقه ابن عساكر 24/ 439، 440.

ص: 451

سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاكَ بن مُزاحِمٍ يقولُ في قولِه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} . فذكَر نحوَه.

حُدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: حدَّثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: لمَّا قالت بنو إسرائيلُ لنبيِّهم: سَلْ رَبَّك أن يكتُبَ علينا القتالَ. فقال لهم ذلك النبيُّ: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية. قال: فبعَث اللهُ طالوتَ مَلِكًا. قال: وكان في بني إسرائيلَ سِبْطان؛ سِبْطُ نُبوَّةٍ وسِبْطُ مملكةٍ، ولم يكنْ طالوتُ

(1)

من سِبْطِ النبوَّةِ ولا من سِبْطِ المملكةِ، فلما بُعِث لهم مَلِكًا أنكَروا ذلك، وعجِبوا وقالوا:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ؟ قالوا: وكيف يكونُ له المُلْكُ علينا وليس من سِبْطِ النبوةِ ولا من سِبْطِ المملكةِ؟ فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} الآية

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: أما ذكْرُ طالوت إذ قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بنى إسرائيل سِبْطان؛ كان في أحدِهما النبوةُ، وكان في الآخرِ المُلْكُ، فلا يُبْعَثُ إلا من كان من سِبْطِ النبوةِ، ولا يُمَلَّكُ على الأرضِ أحدٌ إلا مَن كان مِن سِبْطِ المُلْكِ، وإنه ابتَعَث طالوتَ حينَ ابتَعَثه وليس من أحدِ السِّبْطَين، واختاره عليهم، وزادَه بَسْطَةً في العلمِ والجسمِ، ومن أجلِ ذلك قالوا:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} ، وليس من واحدٍ من السِّبْطَين؟ قال:

(1)

سقط من: ص.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 465 (2455) من طريق ابن أبي جعفر به، مختصرًا.

ص: 452

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} إلى {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجَّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية: هذا حينَ رُفِعت التوراةُ واستُخرج أهلُ الإيمانِ، وكانت الجبابرةُ قد أخرَجتهم من ديارِهم وأبنائِهم، فلما كُتِب عليهم القتالُ، وذلك حينَ أتاهم التابوتُ، قال: وكان من بني إسرائيلَ سِبْطان؛ سِبْطُ نُبُوَّةٍ وسِبْطُ خلافةٍ، فلا تكونُ الخلافةُ إلا في سِبْطِ الخلافةِ، ولا تكونُ النبوةُ إلا في سِبْطِ النبوةِ، فقال لهم نبيُّهم:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} . وليس من أحدِ السِّبْطَين؛ لا سِبْطِ النبوةِ ولا سِبْطِ الخلافةِ. قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} الآية

(2)

.

وقد قيل: إن معنى المُلْكِ في هذا الموضعِ الإمرةُ على الجيشِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ قولَه: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} . قال: كان أميرَ الجيشِ.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ بمثلِه، إلا أنه قال: كان أميرًا على الجيشِ

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 465 (2456)، عن محمد بن سعد به.

(2)

تقدم تخريجه في ص 440.

(3)

تفسير مجاهد ص 241، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 464 (2451).

ص: 453

وقد بيَّنا معنى "أَنَّى"

(1)

، ومعنى "المُلْكِ" فيما مضَى

(2)

، فأغنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} : قال نبيُّهم شَمْوِيلُ لهم: إن الله اصطَفاه عليكم. يعني: اختَاره عليكم.

كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثنا أبى، قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} : اختارَه عليكم

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} . قال: اختاره عليكم.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} : اختاره

(4)

.

وأما قولُه: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} فإنه يعنى بذلك: إن الله بسَط له في العلمِ والجسمِ، وآتاه من العلمِ فضلًا على ما آتَى غيرَه من الذين خُوطِبوا بهذا الخطابِ، وذلك أنه ذكَر أنه أتاه وحْيٌ من اللهِ، وأما في الجسمِ، فإنه

(1)

ينظر ما تقدم في 3/ 745 - 761.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 150، 2/ 407.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2 ت 3.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 465 (2457) عن محمد بن سعد به.

(4)

ينظر التبيان 2/ 291.

ص: 454

أُوتى من الزيادةِ في طولِه عليهم ما لم يُؤْتَه غيرُه منهم.

كما حدَّثني المثنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثني عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: لمَّا قالت بنو إسرائيلَ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} . قال: واجتمَع بنو إسرائيلَ، فكان طالوتُ فوقَهم من مِنْكَبَيه فصاعدًا

(1)

.

وقال السُّدَّيُّ: أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعَصًا تكونُ مقدارًا على طولِ الرجلِ الذي يُبْعَثُ فيهم مَلِكًا، فقال: إن صاحِبَكم يكونُ طولُه طولَ هذه العصا. فقاسُوا أنفسَهم بها، فلم يكونوا مثلَها، فقاسُوا طالوتَ بها، فكان مثلَها.

حدَّثني بذلك موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ

(2)

.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الله اصطفاه عليكم وزاده مع اصطفائِه إيَّاه {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} . يعنى بذلك: بَسَط له مع ذلك في العلمِ والجسمِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} : بعدَ هذا

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 466 (2462) من طريق إسماعيل بن عبد الكريم به.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه مطولًا 1/ 467، 468، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 466 (2461) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 258 بنحوه.

ص: 455

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك أن المُلْكَ للهِ وبيدِه دونَ غيرِه، يؤتيه. يقولُ: يؤْتِي ذلك من يشاءُ، فيَضَعُه عندَه، ويَخُصُّه به، ويمنَحُه مَن أحبَّ من خلقِه. يقولُ: فلا تَسْتَنكِروا يا معشرَ الملأ من بنى إسرائيلَ أن يبعَثَ اللهُ طالوتَ مَلِكًا عليكم، وإن لم يكنْ من أهلِ بيتِ المملكةِ، فإن المُلْكَ ليس بميراثٍ عن الآباءِ والأسْلافِ، ولكنه بيَدِ اللهِ، يُعطِيه مَن يشاءُ من خلقِه، فلا تتخيَّروا على اللهِ.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، قال: حدَّثني ابن إسحاقَ، قال: حدَّثني بعضُ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ:{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} : المُلْكُ بيَدِ اللهِ يَضَعُه حيثُ يشاءُ، ليس لكم أن تختاروا فيه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قال مجاهدٌ: مُلْكُه سلطانُه.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} : سلطانَه

(1)

.

وأما قولُه: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . فإنه يعنى بذلك: واللهُ واسعٌ بفضلِه،

(1)

تفسير مجاهد ص 242، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 467 (2464).

ص: 456

فيُنْعِمُ به

(1)

على مَن أحبَّ، [ويَزِيدُ فيه]

(2)

من يشاءُ، عليمٌ بمَن هو أهلٌ لمُلْكِه الذي يؤتيه، وفضْلِه الذي يُعْطِيه، فيُعْطِيه ذلك لعلمِه به، وبأنه لِما أعطاه أهلٌ؛ إما للإصلاحِ به، وإما [لأن يَنْتَفِعَ هو به]

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} .

وهذا الخبرُ من اللهِ تعالى ذكرُه عن نبيِّه الذي أخبَر عنه به

(4)

دليلٌ على أن الملأَ من بني إسرائيلَ الذين قيل لهم هذا القولُ، لم يُقِرُّوا ببعثةِ اللهِ طالوتَ عليهم مَلِكًا إذ أخبرَهم نبيُّهم بذلك، وعرَّفهم فَضيلتَه التي فضَّله اللهُ بها، ولكنهم سألوه الدَّلالةَ على صدقِ ما قال لهم من ذلك وأخبرَهم به.

فتأويلُ الكلامِ إذ كان الأمرُ على ما وصَفْنا: والله يُؤتى مُلْكَه مَن يَشَاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ. فقالوا له: [انْتِ بآيةٍ على ذلك]

(5)

إن كنتَ من الصادقين. قال لهم نبيُّهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} .

وهذه القصةُ، وإن كانت خبرًا من اللهِ تعالى ذكرُه عن الملأ من بنى إسرائيلَ ونبيِّهم، وما كان من ابتدائِهم نبيَّهم بما ابتدَءوا به من مسألتِه أن يسألَ الله لهم أن يبعَثَ لهم مَلِكًا يقاتِلون معه في سبيلِه، [ونبأ]

(6)

عما كان منهم من تكذيبِهم نبيَّهم بعدَ علمِهم بنُبوَّتِه، ثم إخلافِهم الموعدَ الذي وعَدوا الله ووَعدوا رسولَه من

(1)

في ص: "له".

(2)

في م: "ويريد به".

(3)

في ص: "لانه" بينهما بياض بقدر كلمة، وفى ت 1، ت 2، ت 3، س:"لا".

(4)

سقط من: م، س.

(5)

في ص، ت 1، ت 3:"مما أتى به ذلك"، وفى ت 2، س:"بما أتى به ذلك".

(6)

في م: "بناء". وزيادو الواو لضرورة السياق.

ص: 457

الجهادِ في سبيلِ اللهِ، بالتخلُّفِ عنه حينَ استُنْهِضوا لحربِ مَن استُنْهِضُوا لحربِه، وفتْحِ اللهِ على القليلِ من الفئةِ، مع تخذيلِ الكثيرِ منهم عن مَلِكِهم، وقُعودِهم عن الجهادِ معه؛ فإنه تأديبٌ لمَن كان بينَ ظَهْرانَيْ مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من ذَرارِيِّهم وأبنائِهمِ يهودِ قُرَيْظَةَ والنَّضيرِ، وأنهم لن يَعْدُوا في تكذيبِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما أمَرهم به ونَهاهم عنه، مع علْمِهم بصدقِه، ومَعْرِفتِهم بحقيقةِ نُبوَّتِه، بعدَ ما كانوا يَستَنصرون الله به على أعدائِهم قبلَ رسالتِه، وقبلَ بعثةِ اللهِ إِيَّاه إليهم، وإلى غيرِهم أن يكونوا كأسلافِهم وأوائلِهم الذين كذَّبوا نبيَّهم شَمْويلَ بنَ بالى، مع عِلْمِهم بصدقِه، ومعرفتِهم بحقيقةِ نبوَّتِه، وامتناعِهم من الجهادِ مع طالوتَ لمَّا ابتَعَثه اللهُ مَلِكًا عليهم، بعدَ مسألتِهم نبيَّهم ابتعاثَ مَلِكٍ يُقاتِلون معه عدوَّهم، ويجاهِدون معه في سبيلِ ربِّهم، ابتداءً منهم بذلك نبيَّهم، وبعدَ مراجعةِ نبيِّهم شَمْويلَ إياهم في ذلك، وحضٌّ لأهلِ الإيمانِ باللهِ وبرسولِه من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على الجهادِ في سبيلِه، وتحذيرٌ منه لهم أن يكونوا في التخلُّفِ عن نبيِّهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم عندَ لقائِه العدوَّ، ومناهضتِه أهلَ الكفرِ باللهِ وبه، على مِثْلِ الذي كان عليه الملأُ من بني إسرائيلَ في تَخَلُّفهم عن مَلِكهم طالوتَ، إذ زحَف لحربِ عدوِّ اللهِ جالوتَ، وإيثارِهم الدَّعَةَ والخفضَ

(1)

على مباشرةِ حَرِّ الجهادِ، والقتالِ في سبيلِ اللهِ، وشَحْذٌ منه لهم على الإقدامِ على مُناجزة أهلِ الكفرِ به الحربَ، وتَرْكِ تهيُّبِ قتالِهم أن قلَّ عددُهم، وكَثُر عددُ أعدائِهم، واشتدَّت شَوكتُهم بقولِه:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وإعلامٌ منه تعالى ذكرُه عبادَه المؤمنين به أن بيدِه النصرَ والظَّفَرَ والخيرَ والشرَّ.

(1)

الخفض: العيش الطيب. اللسان (خ ف ض).

ص: 458

وأما تأويلُ قولِه: {قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} فإنه يعنى: للملإِ من بني إسرائيلَ الذين قالوا لنبيِّهم: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

وقولُه: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} : إن علامةَ مُلْكِ طالوتَ التي سأَلْتُمونيها دَلالةً على صدقي في قوله: إن الله بعَثه عليكم مَلِكًا، وإن كان من غير سِبْطِ المملكةِ {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} وهو التابوتُ الذي كانت بنو إسرائيل إذا لَقُوا عدوًّا لهم قَدَّمُوه أمامَهم، وزحَفوا معه، فلا يَقومُ لهم معه عدوٌّ، ولا يَظهَرُ عليهم أحدٌ ناوَأَهم، حتى منَعوا أمرَ اللهِ، وكَثُر اختلافُهم على أنبيائِهم، فسَلَبهم اللهُ إِيَّاه مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، يَرُدُّه إليهم في كلِّ ذلك، حتى سَلَبَهم آخِرَ مرَّةٍ، فلم يرُدَّه عليهم، [ولن يُرَدَّ]

(1)

إليهم آخرَ الأبدِ.

ثم اختَلف أهلُ التأويلِ في سَببِ مجئِ التابوتِ الذي جعَل اللهُ مَجيئَه إلى بني إسرائيلَ آيةً لصدقِ نبيِّهم شَمْويلَ على قولِه: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} . وهل كانت بنو إسرائيلَ سُلِبُوه قبلَ ذلك فردَّه اللهُ عليهم حينَ جعَل مجيئَه آيةً لمُلْكِ طالوتَ؟ أولم يكونوا سُلِبوه قبلَ ذلك، ولكنَّ الله ابتَدَأهم به ابتداءً؟ فقال بعضُهم: بل كان ذلك عندَهم من عهدِ موسى وهارونَ يَتَوارثونه، حتى سَلَبهم إياه مُلوكٌ من أهلِ الكفرِ به، ثم ردَّه اللهُ عليهم آيةً لمُلْكِ طالوتَ. وقال في سببِ ردِّه عليهم ما أنا ذاكِرُه، وهو ما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: حدَّثني عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ قال: كان لعيلى الذي ربَّى شَمْويلَ ابنان شابان أحدَثا في القُربانِ شيئًا لم يكنْ فيه، كان مِسْوَطُ

(2)

القُرْبانِ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ولم يرده".

(2)

في ص: "يشرط"، وفى م، س:"شرط"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"بشرط". والمثبت من تاريخ المصنف. والمسوط: خشبة أو غيرها يحرَّك بها ما في القدر وغيرها ليختلط. ينظر اللسان (س و ط). وقربان اليهود هو التقدمة - كما في سفر صموئيل الأول، العهد القديم، أصحاح 3/ 14 - وكانت من دقيق مع =

ص: 459

الذي كانوا يَسُوطونه

(1)

به كُلَّا بَيْن

(2)

، فما أخرَجا كان للكاهنِ الذي يسُوطُه

(3)

، فجعَل ابناه كَلاليبَ، وكانا إذا جاء النساءُ يُصَلِّينَ فِي القُدْسِ يَتَشَبَّثان بهن، فبينا شَمْويلُ نائمٌ قِبَلَ البيتِ الذي كان ينامُ فيه عيلى، إذ سمع صوتًا يقولُ: أشَمْويلُ. فوَثَب إلى عِيلى، فقال: لبَّيك، ما لَكَ دعَوتَني؟ فقال: لا، ارجِعْ فنَمْ. فرجَع فنام، ثم سمِع صوتًا آخَرَ يقولُ: أَشَمُويلُ. فَوَثَب إلى عِيلى أيضًا، فقال: لبيك، ما لَكَ دعوتَنى؟ فقال: لم أفعلْ، ارجِعْ فنَم، فإن سمِعتَ شيئًا فقل: لبَّيك، مكانَك، مُرْنى فأفعلَ. فرجَع فنام، فسمع صوتًا أيضًا يقولُ: أَشَمُويلُ. فقال: لبَّيك، أنا هذا، مُرْنى أَفعَلْ. قال: انطلِقْ إلى عِيلى، فقُلْ له: مَنَعه حُبُّ الولدِ أَن يَرْجُرَ ابنَيْه أَن يُحْدِثا في قُدْسى وقُرْبانى، وأن يَعصِيَانى، فلأنزِعَنَّ منه الكِهانة ومِن وَلدِه، ولأُهلِكنَّه وإياهما. فلما أصبَح سأله عيلى، فأخبرَه، ففزِع لذلك فَزَعًا شديدًا. فسار إليهم عدوٌّ مِمَّن حولَهم، فأمَر ابنَيه أن يخرُجا بالناسِ فيُقاتلا ذلك العدوَّ، فخَرَجا وأخرَجا معهما التابوتَ الذي كان فيه اللَّوْحان وعصا موسى ليُنْصَرُوا به، فلما تهَيَّئوا للقتالِ هم وعدوُّهم، جعَل عيلى يتوقَّعُ الخبرَ؛ ماذا صنَعوا؟ فجاءه رجلٌ يخبِرُه وهو قاعدٌ على كُرسيِّه: إن ابنَيك قد قُتِلا، وإن الناسَ قد انهزَموا. قال: فما فعل التابوتُ؟ قال: ذهَب به العدوُّ. قال: فشَهِق ووقَع على قَفاه من كُرسيِّه فمات. وذهَب الذين سَبَوا التابوتَ حتى وضَعوه في بيتِ آلهتِهم ولهم صَنمٌ

= زيت ولبان، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل اللبان ويوقد على المذبح أو يعمل منه قطائف على صاج. كما أشار بذلك الشيخ شاكر في التفسير 5/ 318 نقلا عن (قاموس الكتاب المقدس).

(1)

في النسخ: "يشرطونه". والمثبت من تاريخ المصنف.

(2)

الكُلَّاب: حديدة معطوفة كالخطاف، أو خشبة في رأسها عُقَّافة منها، أو من حديد. وجمعه كلاليب. ينظر اللسان (ك ل ب).

(3)

في النسخ: "يستوطنه" والمثبت من تاريخ المصنف.

ص: 460

يعبُدُونه، فوضَعوه تحتَ الصَّنمِ، والصَّنمُ من فَوقِه، فأصبَح من الغدِ والصَّنمُ تحتَه وهو فوقَ الصَّنَمِ، ثم أخَذوه فوضَعوه فوقه وسمَّروا قدَمَيْه في التابوتِ، فأصبَح من الغدِ قد قُطِعت يدَا الصنمِ ورجلاه، وأصبَح ملقًى تحتَ

(1)

التابوتِ، فقال بعضُهم لبعضٍ: قد عَلِمتُم أن إلهَ بنى إسرائيلَ لا يقومُ له شيءٌ، فأخرِجوه من بيتِ آلهِتَكم. فأخرَجوا التابوتَ فوضَعوه في ناحيةٍ من قريتِهم، فأخَذ أهلَ تلك الناحيةِ التي وضَعوا فيها التابوتَ وجَعٌ في أعناقِهم، فقالوا: ما هذا؟ فقالت لهم جاريةٌ كانت عندَهم من سَبْيِ بنى

(2)

إسرائيلَ: لا تزالون ترَون ما تكرَهون ما كان هذا التابوتُ فيكم، فأخرِجُوه من قريتِكم. قالوا: كَذَبْتِ. قالت: إن آيةَ ذلك أن تأتُوا ببقَرَتَين لهما أولادٌ، لم يُوضَعْ عليهما نِيرٌ

(3)

قطُّ، ثم تضَعوا وراءَهما

(4)

العَجَلَ، ثم تضَعوا التابوتَ على العَجَلِ وتُسَيِّروهما، وتحبِسوا أولادَهما؛ فإنهما تنطلِقان به مُذْعِنَتَين، حتى إذا خرَجتا من أرضِكم ووَقَعتا في أرضِ بني إسرائيلَ، كسَرَتا نِيرَهما، وأقبَلتا إلى أولادِهما. ففعَلوا ذلك، فلما خرَجتا من أرضِهم ووَقَعَتا في أدنى أرضِ بنى إسرائيلَ، كسَرَتا نِيرَهما، وأقبَلتا إلى أولادِهما، ووَضَعَتاه في خَرِبةٍ فيها حَصادٌ

(5)

من بني إسرائيلَ، ففَزِع إليه بنو إسرائيلَ وأقبَلوا إليه، فجعَل لا يدنو منه أحدٌ إلا مات، فقال لهم نبيُّهم شَمْوِيلُ: اعترِضُوا، فمن آنَس من نفسه قوَّةً فليَدْنُ منه. فعرَضوا عليه الناسَ، فلم يَقدِرْ أحدٌ يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل أُذِن لهما بأن يحمِلاه إلى بيتِ أمِّهما، وهى أرْمَلَةٌ، فكان في بيتِ أمِّهما حتى مَلَك طالوتُ،

(1)

في ص: "تحته".

(2)

سقط من: ص.

(3)

النيِّر: الخشبة المعترضة التي تكون على عنق الثور بأداتها. تاج العروس (ن ى ر).

(4)

في م: "وراءهم".

(5)

في م: "حضار".

ص: 461

فصَلَح أمرُ بنى إسرائيلَ مع شَمْويلَ

(1)

.

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حدَّثني بعضُ أهلِ العِلمِ، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: قال شَمْويلُ لبنى إسرائيلَ لمَّا قالوا له: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} . قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ، و {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}: وإن تَمْليكَه من قِبَلِ اللهِ، {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} ، فيَرِدَ عليكم الذي فيه من السكينةِ، وبقية مما ترَك آل موسى وآلُ هارونَ، وهو الذي كنتم تَهْزِمون به مَن لَقِيَكم

(2)

من العدوِّ، وتَظْهَرُون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوتُ، فقد رضِينا وسلَّمنا. وكان العدوُّ الذين أصابوا التابوتَ أسفلَ من الجبلِ، جبل إيلِيَا. فيما بينَهم وبينَ مصرَ، وكانوا أصحابَ أوثانٍ، وكان فيهم جالوتُ، وكان جالوتُ رجلًا قد أُعْطِيَ بسطةً في الجسمِ، وقوةً في البَطْشِ، وشدَّةً في الحربِ، مَذكورًا بذلك في الناس، وكان التابوتُ حينَ اسْتُبِى قد جُعِل في قريةٍ من قُرَى فِلَسْطينَ، يقالُ لها: أزدودَ

(3)

. فكانوا قد جعَلوا التابوتَ في كنيسةٍ فيها أصنامُهم، فلما كان من أمر النبيِّ عليه السلام ما كان من وعْدِ بنى إسرائيلَ أن التابوتَ سيأتِيهم، جَعَلت أصنامُهم تُصبِحُ في الكنيسةِ مُنَكَّسَةً على رءوسِها، وبعَث اللهُ على أهلِ تلك القريةِ فَأْرًا

(4)

، تُبَيِّتُ

(5)

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 469 - 471.

(2)

في ص، س:"لقيتم".

(3)

في ص، ت 2:"أردوذ"، وفى م:"أردن"، وفى س، ت 1، ت 3:"أردود"، والمثبت من تفسير البغوي، وينظر تفسير ابن كثير 1/ 446، ونقل الشيخ شاكر عن صاحب قاموس الكتاب المقدس أنها إحدى مدن فلسطين الخمس المتحالفة، وأنها على ثلاثة أميال من البحر المتوسط، بين غزة ويافا.

(4)

في س: "نارًا".

(5)

في م: "تثبت".

ص: 462

الفَأرةُ الرجلَ، فيُصبِحُ مَيِّتًا قد أكَلَت

(1)

في جوفِه من دُبُرِه. قالوا: تعلَمون واللهِ، لقد أصابَكم بلاءٌ ما أصاب أُمَّةً من الأممِ قبلَكم

(2)

، وما نعلَمُه أصابنا إلا مُذْ كان هذا التابوتُ بينَ أظْهُرِنا، مع أنكم قد رأيتُم أصنامَكم تُصْبِحُ كلَّ غداةٍ مُنَكَّسَةً، شيءٌ

(3)

لم يكُنْ يُصنَعُ بها حتى كان هذا التابوتُ معها، فأخرِجُوه من بين أظْهُرِكم. فدَعَوا بعَجَلةٍ، فحمَلوا عليها التابوتَ، ثم علَّقُوها بثَوْرين، ثم ضَرَبوا على جُنوبِهما، وخرَجَت الملائكةُ بالثَّوْرَين تسوقُهما، فلم يَمُرَّ التابوتُ بشيءٍ من الأرضِ إلا كان قُدْسًا، فلم يَرُعْهم إلا التابوتُ على عجلةٍ يَجُرُّها الثَّوْرَان، حتى وقَف على بنى إسرائيلَ، فكبَّروا وحمِدوا الله، وجَدُّوا في حربِهم واسْتَوسَقوا

(4)

على طالوتَ

(5)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: لمَّا قال لهم نبيُّهم: إن الله اصْطَفَى طالوتَ عليكم، وزادَه بَسْطةً في العلمِ والجسمِ

(6)

. أبوا أن يُسَلِّموا له الرِّياسةَ، حتى قال لهم:{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فقال لهم: أرأيتُم إن جاءَكم التابوتُ فيه سكينةٌ مِن ربِّكم وبقيَّةٌ مما ترك آل موسى وآلُ هارونَ تحمِلُه الملائكةُ؟ وكان موسى حينَ ألْقَى الألواحَ تَكسَّرَت ورُفِع منها، فنزَل فجمع ما بَقِى فجعَله في ذلك التابوتِ.

قال ابن جُرَيجٍ: أخبرَنى يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ،

(1)

بعده في م: "ما".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قبله".

(3)

في ت 2، ت 3، س:"على رءوسها".

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3، س:"استوثقوا". واستوسقوا: اجتمعوا. اللسان (و س ق).

(5)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 300.

(6)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الآية".

ص: 463

أنه لم يَبْقَ من الألواحِ إلا سُدُسَها. قال: وكانت العمالِقةُ قد سَبَت ذلك التابوتَ - والعمالِقَةُ فِرْقةٌ من عادٍ كانوا بأريحا

(1)

- فجاءت الملائكةُ بالتابوتِ تحمِلُه بينَ السماءِ والأرضِ، وهم ينظُرُون إلى التابوتِ حتى وضَعَته عندَ طالوتَ، فلما رَأَوا ذلك قالوا: نعم. فسلَّموا له ومَلَّكوه، قال: وكانت الأنبياءُ إذا حضَروا قِتالًا، قدَّموا التابوتَ بين أيديهم ويقولون: إن آدَمَ نزل بذلك التابوتِ وبالرُّكْنِ. وبلَغنى أن التابوتَ وعصا موسى في بُحَيرةِ طَبَرِيَّةَ، وأنهما يَخْرُجان قبل يومِ القيامةِ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا عبدُ الصَّمَدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سَمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ: إن أرميا لمَّا خُرِّب بيتُ المَقدسِ، وحُرِّقَتِ

(2)

الكُتُبُ، وقَف في ناحية الجَبلِ، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ} [البقرة: 259]. ثم ردَّ اللهُ مَن ردَّ من بني إسرائيلَ على رأسِ سبعين سنةً من

(3)

حينَ أماته، يَعْمُرونها ثلاثين سنةً تمامَ المائةِ، فلما ذهَبَت المائةُ، ردَّ اللهُ إليه روحَه وقد عَمَرَت، فهى على حالِها الأولى. [قال: فجعَل يَنْظُرُ إلى العظام كيف يَلْتَئِمُ بعضُها إلى بعضٍ، ثم نظَر إلى العظامِ تُكْسَى عَصَبًا ولحمًا، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259]. فقال: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]. قال: وكان طعامُه تِينًا فِي مِكْتَلِ، وقُلَّةً فيها ماءٌ. قال: ثم سلَّط الله عليهم الوَصَبَ]

(4)

، فلما أراد أن يَرُدُّ عليهم التابوتَ، أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائهم - إمَّا دانيالُ وإما غيرُه -: إن كنتم تُريدون أن يُرْفَعَ عنكم

(1)

أريحا: مدينة قديمة جدًّا في غور الأردن شمالى شرقى القدس على مسافة ثمانية عشر ميلًا منها. ينظر دائرة المعارف للبستاني 3/ 277.

(2)

في النسخ وتاريخ دمشق: "حرق". والمثبت من تفسير عبد الرزاق.

(3)

سقط من: س.

(4)

سقط من: النسخ. واستدركناه من مصدرى التخريج. ومما سيأتي في ص 594.

ص: 464

المرضُ، فأَخْرِجُوا عنكم هذا التابوتَ. قالوا: بآيةِ ماذا؟ قال: بآيةِ أنكم تأتون ببقَرَتَين صَعْبَتين

(1)

لم تَعْمَلا عملًا قطُّ، فإذا نظَرَنا إليه وضَعَتا أعناقَهما للنِّيرِ حتى يُشَدَّ عليهما، ثم يُشَدُّ التابوتُ على عَجَلٍ، ثم يُعَلَّقُ على البقرتَين، ثم تُخَلَّيان، فتَسيران حيثُ يريدُ اللهُ أن يبلِّغهما. ففَعَلوا ذلك، ووَكَّل الله بهما أربعةً من الملائكةِ يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرًا سريعًا، حتى إذا بلَغَتا طَرْفَ القُدْسِ، كَسَرَتا نيرهما، وقَطَعَنا حِبالَهما، وذهَبَتا، فنزل إليهما داودُ ومَن معه، فلما رأى داودُ التابوتَ، حَجَلَ إليه فَرَحًا به. فقلنا لوَهْبٍ: ما: حَجَل إليه؟ قال: شَبيهٌ بالرَّقْصِ. فقالت له امرأتُه: لقد خَفِفْتَ حتى كاد الناسُ يَمْقُتونك لِما صنَعتَ. قال: أتُبَطِّئِينى عن طاعةِ ربِّي، لا تكُونين لى زوجةً بعدَ هذا. ففارقها

(2)

.

وقال آخرون: بل التابوتُ الذي جعله الله آيةٌ لمُلْكِ طالوتَ كان في البَرِّيَّة، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلَّفَه عند فتاه يُوشَعَ، فحملَته الملائكة حتى وضَعَته في دارِ طالوتَ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية: كان موسى ترَكه عند فتاه يُوشَعَ بن نُونٍ، وهو بالبَرِّيَّةِ، وأقبلت به الملائكةُ تحمِلُه حتى وضَعَته في دارِ طالوتَ، فأصبح في دارِه

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ

(1)

صعبتين: صعبتا الانقياد. تاج العروس (ص ع ب).

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 99، 100، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 8/ 28.

(3)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 169.

ص: 465

في قولِه: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الآية. قال: كان موسى فيما ذُكر لنا ترك التابوتَ عند فتاه يُوشَعَ بن نُونٍ وهو في البَرِّيَّةِ، فذُكر لنا أن الملائكةَ حملته من البرِّيَّة حتى وضَعَته في دارِ طالوتَ، فأصبح التابوتُ في داره

(1)

.

وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباسٍ ووَهَبُ بنُ مُنَبِّهٍ، من أن التابوتَ كان عند عدوٍّ لبنى إسرائيلَ كان سلَبَهموه، وذلك أن الله تعالى ذكرُه قال مُخْبِرًا عن نبيِّه في ذلك الزمانِ قولَه لقومِه من بنى إسرائيلَ:{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} والألفُ واللامُ لا تَدْخُلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المُتخاطبين به، وقد عَرَفه المُخبَرُ والمُخبَرُ، فقد عُلِم بذلك أن معنى الكلام: إن آيَةَ مُلْكِه أن يأتِيَكم التابوتُ الذي قد عَرَفْتُموه، الذي كنتم تَستَنصرون به، فيه سكينةٌ من ربِّكم. ولو كان ذلك تابوتًا من التوابيت غيرَ معلوم عندَهم قَدْرُه، ومَبْلَغُ نَفْعِه قبل ذلك، لقيلَ: إن آيةَ مُلْكِه أن يأتِيَكم تابوتٌ فيه سَكِينةٌ من ربِّكُم.

فإن ظنَّ ذو غفلةٍ أنهم كانوا قد عَرَفوا ذلك التابوت، وقَدْرَ نَفْعِه وما فيه وهو عند موسى ويُوشَعَ، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤُه، وذلك أنه لم يَبلُغنا أن موسى لاقَى عدوًّا قطُّ بالتابوتِ، ولا فتاه يُوشَعَ، بل الذي يُعرَفُ من أمر موسى وأمرِ فرعونَ، ما قصَّ اللهُ من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الجبَّارين، وأما فتاه يُوشَعُ، فإن الذين قالوا هذه المقالةَ، زعموا أن يُوشَعَ خلفَه في التِّيهِ حتى رُدَّ عليهم

(2)

حين ملك طالوتُ، فإن كان الأمرُ على ما وصَفوه، فأيُّ الأحوالِ للتابوتِ الحالُ التي عَرَفوه فيها فجاز أن يقالَ: إن آيَةَ مُلْكه أن يأتيَكم التابوتُ الذي قد عَرَفْتُموه، وعَرَفتم أمره؟ وفى فَسادِ هذا القول بالذي ذكَرنا، أبْيَنُ الدَّلالة على صحةِ القولِ الآخَرِ، إذ لا قولَ في ذلك

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 467 (2470) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

في ص، ت 1، س:"عليه".

ص: 466

لأهل التأويل غيرُهما.

وكانت صفةُ التابوتِ فيما بلَغَنا كما حدَّثنا محمدُ بنُ عَسْكَرِ والحسنُ بنُ يحيى، قالا: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا بَكَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: سَأَلْنَا وَهْبَ بن مُنبِّهٍ عن تابوتِ موسى ما كان؟ قال: كان نحوًا من ثلاثةِ أذرعٍ في ذراعين

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {فِيهِ} : في التابوتِ {سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .

واختلف أهلُ التأويل في "معنى السكينة"؛ فقال بعضُهم: هي ريحٌ هَفَّافةٌ لها وَجْهُ كوَجْهِ الإِنسان.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارث بنُ سعيدٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جُحَادَةً، عن سَلَمَةَ بن كُهَيلٍ، عن أبي وائلٍ، عن عليِّ بن أبى طالبٍ، قال: السكينةُ ريحٌ هَفَّافةٌ لها وجهٌ كوجهِ الإنسانِ.

حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ مَهْدِيٍّ، قال: ثنا سفيانُ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا سفيانُ، عن سَلَمَةَ بن كُهيلٍ، عن أبي الأحوصِ، عن عليٍّ، قال: السكينةُ لها وَجْهٌ كوجهِ الإنسان، ثم هي ريحٌ هَفَّافةٌ

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن العوَّامِ بن حَوْشَبٍ، عَن سَلَمَةَ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 100، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 467 (2468) عن الحسن بن يحيى به.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 100، 101، وأخرجه سفيان بن عيينة - كما في الدر المنثور 1/ 317 - ومن طريقه، والحاكم 2/ 460، والبيهقى الدلائل 4/ 167، وابن عساكر 24/ 441 من طريق سفيان به.

ص: 467

ابن كُهَيلٍ، عن عليِّ بن أبى طالبٍ في قولِه:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: ريحٌ هَفَّافةٌ لها

(1)

صورةٌ. قال يعقوبُ في حديثِه: لها

(2)

وَجْهٌ. وقال ابن

(3)

المثنَّى: كوَجْهِ الإنسانِ.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن سَلَمَةَ بن كُهَيلٍ، قال: قال عليٌّ: السكينةُ لها وجهٌ كوجهِ الإنسانِ، وهى ريحٌ هَفَّافةٌ.

حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكِ بن حربٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، قال: قال عليٌّ: السكينةُ ريحٌ خَجُوجٌ ولها رأسان

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بن المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، قال: سمعتُ خالدَ بنَ عرعرةَ يُحَدِّثُ عَن عليٍّ نحوَه

(5)

.

حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شُعْبَةُ وحمادُ بنُ سَلَمَةَ وأبو الأَحْوَصِ، كلُّهم عن سِمَاكٍ، عن خالدِ بن عرعرَةَ، عن عليٍّ نحوَه (4).

وقال آخرون: لها رأسٌ كرأسِ الهِرَّة وجَناحان.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ: عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . قال:

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فيها".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كما"، وبعده في ص بياض بقدر كلمة، وبعده في ت 1 بقدر أربع كلمات، وبعده في ت 2 بقدر كلمتين، وبعده في ت 3 بقدر ست كلمات.

(3)

ليس في: ص، ت 1، ت 3، وليس لابن المثنى أو المثنى ذكر في هذا الإسناد.

(4)

تقدم تخريجه في 2/ 562.

(5)

أخرجه الطبراني في الأوسط (6941) من طريق شعبة به مرفوعًا، وتقدم في 2/ 562.

ص: 468

أقبَلَت السكينةُ [والصُّرَدُ]

(1)

وجبريلُ مع إبراهيمَ من الشامِ. قال ابن أَبي نجيحٍ: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ: السكينةُ لها رَأْسٌ كرأسِ الهِرَّةِ وجَناحان

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: السكينةُ لها جَناحان وذَنَبٌ

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا الثَّوْرِيُّ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: لها جَناحان وذَنَبٌ مثلُ ذَنَبِ الهِرَّةِ

(5)

.

وقال آخرون: بل هي رأسُ هِرَّةٍ مَيِّتَةٍ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عَن وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عن بعضِ أهلِ العلمِ من بني إسرائيلَ، قال: السكينةُ رأسُ هِرَّةٍ مَيِّتةٍ، كانت إذا صَرَخت في التابوتِ بصُرَاخِ هِرٍّ أيقَنُوا بالنصرِ وجاءهم الفتحُ

(6)

.

(1)

مكانه بياض في النسخ، والمثبت من تفسير مجاهد، والصُّرَد: طائر فوق العصفور، أبقع ضخم الرأس، يصطاد العصافير، ويكون في الشجر، نصفه أبيض ونصفه أسود، ضخم المنقار له بُرثُن عظيم. تاج العروس (ص ر د).

(2)

تفسير مجاهد ص 242، ومن طريقه البيهقى في الدلائل 4/ 168 دون أوله.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 469 (2476) من طريق ابن أبي نجيح به.

(4)

أخرجه أبو الشيخ في العظمة (801) من طريق سفيان به.

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 101، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 24/ 441.

(6)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 464.

ص: 469

وقال آخرون: إنما هي طَسْتُ من ذهبٍ من الجنةِ، كان يُغْسَلُ فيها قلوبُ الأنبياءِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا الحَكَمُ بنُ ظُهَيرٍ عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عباسٍ:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: طَسْتٌ من ذهبٍ من الجنةِ، كان يُغْسَلُ فيها قلوبُ الأنبياءِ

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} : السكينةُ طَسْتُ من ذهبٍ، يُغْسَلُ فيها قلوبُ الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضَع الألواحَ، وكانت الألواحُ - فيما بَلَغنا - من دُرٍّ

(2)

وياقوتٍ وزبرجدٍ

(3)

.

وقال آخرون: السكينةُ رُوحٌ من الله يتكلَّم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يَحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرنا بَكَّارُ بنُ عبدِ الله، قال: سأَلْنا وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ، فقلنا له: السَّكينةُ؟ قال: روحٌ من الله يتكلَّمُ، إذا اختلفوا في شيءٍ تكلَّمَ، فأخبَرهم ببيان ما يُريدون

(4)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور (421 - تفسير) من طريق الحكم بن ظهير به. وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 467، 468 من طريق السدى به.

(2)

في س: "زمرد".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (420 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 469 (2478) من طريق عيسى بن عمر، عن السدى بشطره الأول.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 100، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 469 (2479) عن الحسن بن يحيى به.

ص: 470

حدَّثنا محمدُ بنُ عَسْكَرٍ، قال: ثنا عبدُ الرزاق، قال: ثنا بَكَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ، أَنه سَمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ. فَذَكَر نحوه.

وقال آخرون: السكينةُ ما تعرِفون من الآياتِ فتسكُنون إليها.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: سألتُ عَطاءَ بن أبى رباحٍ عن قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، قال: أمَّا السَّكينةُ، فما تعرفون من الآياتِ تسكُنون إليها

(1)

.

وقال آخرون: السكينةُ الرحمةُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدِّثتُ عن عَمَّارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: رَحْمَةٌ من ربِّكم

(2)

.

وقال آخرون: السكينةُ هي الوقارُ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قوله:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: وَقارٌ

(3)

.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 469 عقب الأثر (2480) معلقا.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470 عقب الأثر (2481) معلقا.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 98، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470 (2482) عن الحسن بن يحيى به، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 24/ 441 من طريق عبد الرزاق، عن معمر قوله.

ص: 471

وأولى هذه الأقوال بالحقِّ في معنى "السَّكِينَةِ"، ما قاله عطاءُ بن أبى رباحٍ، من الشئِ تَسْكُنُ إليه النُّفوسُ من الآياتِ التي تَعرِفونها، وذلك أن السَّكينةَ في كلامِ العربِ الفَعِيلةُ من قولِ القائلِ: سَكَن فلانٌ إلى كذا وكذا. إذا اطمأنَّ إليه وهَدَأت عندَه نَفْسُه، فهو يسكُنُ سُكُونًا وسَكِينةً، مثل قولك: عَزَم فلانٌ على هذا الأمرِ عَزْمًا وعزيمةً، وقضَى الحاكمُ بين القوم قضاءً وقضيَّةٌ. ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

للهِ قَبْرٌ غالَها ماذا يُجِنُّ؟

لقد أجَنَّ سَكِينةً ووَقارَا

وإذا كان معنى السَّكينة ما وصَفتُ، فجائزٌ أن يكون ذلك على ما قاله عليُّ بنُ أبى طالبٍ على ما رَوَينا عنه، وجائزٌ أن يكونَ ذلك على ما قاله مجاهدٌ على ما حَكَينا عنه، وجائزٌ أن يكون ما قاله وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ، وما قاله السُّدِّيُّ؛ لأن كلَّ ذلك آياتٌ كافياتٌ تَسْكُنُ إليهنَّ النُّفوسُ، وتَثْلَجُ بهنَّ الصدورُ، وإذا كان معنى السَّكينة ما وصَفنا، فقد اتَّضَح أن الآيةَ التي كانت في التابوتِ التي كانت النفوسُ تَسكُنُ إليها لمعرفتِها بصِحَّةِ أمْرِها إنما هي مُسَمَّاةٌ بالفعلِ وهى غيرُه، لدَلالة الكلام عليه.

‌القولُ في تأويلِ قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} .

يعني تعالى ذكرُه بقوله: {وَبَقِيَّةٌ}

(2)

: الشئُ الباقى، من قولِ القائلِ: قد بقِى من هذا الأمر بَقِيَّةٌ. وهى فَعِيلةٌ منه، نظيرُ السَّكِينَةِ مِن "سَكَن".

وقولُه: {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . يعني به: مِن تَرِكَةِ آلِ موسى وآلِ هارونَ.

(1)

أنشده ابن برى لأبى عُرَيف الكُلَيبى. اللسان (س ك ن).

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 3:"وبقية".

ص: 472

واختلف أهلُ التأويلِ في البَقِيَّةِ التي كانت بَقِيَت من تَرِكتِهم؛ فقال بعضُهم: كانت تلك البقيةُ عصا موسى ورُضَاضَ الألواحِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا حُمَيدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا داودُ، عن عِكْرِمَةَ، قال: - أحسَبُه عن ابن عباسٍ - أنه قال في هذه الآيةِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: رُضَاضُ الألواح

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا بِشرٌ، قال: ثنا داودُ، عن عِكْرِمة. قال داودُ: وأحسبُه عن ابن عباسٍ. مثلَه.

حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا أبو الوليدِ، قال: ثنا حَمَّادٌ، عن داودَ بن أبى هندٍ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ في هذه الآية:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: عصا موسى ورُضَاضُ الألواحِ

(2)

.

حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: فكان في التابوتِ عصا موسى ورُضَاضُ الألواحِ، فيما ذُكِر لنا.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبد الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادة في قوله:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: البَقِيَّةُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470 (2484) من طريق داود به.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 445 عن المصنف.

ص: 473

عصا موسى ورضاضُ الألواح

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . أما البَقِيَّة فإنها عصا موسى ورُضَاضَةُ الألواح

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} : عصا موسى وأمورٌ من التوراة

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن عِكْرمةَ في هذه الآيةِ:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: التوراة ورُضَاضُ الألواحِ والعصا. قال إسحاقُ: قال وكيعٌ: ورُضَاضُه كِسَرُه.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن خالدٍ، عن عِكْرِمةَ في قوله:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: رُضَاضُ الألواحِ

(4)

.

وقال آخرون: بل تلك

(5)

البقيَّةُ عصا موسى، وعصا هارونَ، وشيءٌ من الألواح.

(1)

تقدم تخريجه عند عبد الرزاق وابن عساكر في ص 476.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470 عقب الأثر (2484) من طريق عمرو به.

وهو من تمام الأثر المتقدم في صفحة 441، 442.

(3)

ذكره ابن عطية في تفسيره 2/ 171.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470 (2484) معلقا.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ذلك".

ص: 474

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن إسماعيل

(1)

بن أبى خالدٍ، عن أبى صالحٍ:{أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: كان فيه عصا موسى، وعصا هارونَ، ولَوحان من التوراة، والمنُّ

(2)

.

حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ أبى، عن عطيةَ بن سعدٍ في قوله:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثيابُ موسى، وثيابُ هارونَ، ورُضَاضُ الألواحِ

(3)

.

وقال آخرون: بل هي العصا والنَّعْلان.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: سألتُ الثَّورِيَّ عن قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: منهم من يقولُ: البَقِيةُ قفيزٌ مِن مَنٍّ، ورُضَاضُ

(4)

الألواحِ، ومنهم مَن يقولُ: العصا والنَّعْلان

(5)

.

وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدَها.

(1)

بعده في النسخ: "عن". والمثبت من مصدرى التخريج، وانظر تهذيب الكمال 3/ 69.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (422 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470، من طريق إسماعيل به، وزادا وثياب موسى، وثياب هارون.

(3)

ذكره ابن عطية في تفسيره 2/ 172.

(4)

في تفسير عبد الرزاق: "رضراض".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 101، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 24/ 441.

ص: 475

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا بَكَّارُ بنُ

(1)

عبدِ اللهِ، قال: قلنا لوَهْب بن مُنَبِّهٍ: ما كان فيه؟ - يعني في التابوتِ - قال: كان فيه عصا موسى والسَّكينةُ

(2)

.

وقال آخرون: بل كان ذلك رُضَاضَ الألواح وما تكسَّر منها.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، [قال: حدَّثنا الحُسينُ]

(3)

، قال: ثنى حَجّاجٌ، قال: قال ابن جُرَيجٍ، قال ابن عباسٍ في قولِه:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال: كان موسى حينَ ألقَى الألواحَ تَكَسَّرَت ورُفع منها، [فجَعَل الباقى]

(4)

في ذلك التابوتِ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: سألتُ عطاءَ بن أبى رَباحٍ عن قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قال: العلمُ [والتوراة]

(5)

.

وقال آخرون: بل ذلك الجهادُ في سبيل الله.

(1)

في النسخ: "عن". وتقدم في صفحة 470، 471. وينظر التاريخ الكبير 2/ 121.

(2)

تقدم تخريجه عند عبد الرزاق في ص 470.

(3)

سقط من: م.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فجعله".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"التوراة". والأثر ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 262.

ص: 476

‌ذكرُ من قال ذلك

حُدثت عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخْبرَنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} : يعني بالبَقِيَّةِ القتالَ في سبيل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أُمروا

(1)

.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أخبرَ عن التابوتِ الذي جعَله آيةً لصدقِ قول نبيِّه عليه السلام [الذي قال]

(2)

لأُمَّتِه: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} . أن فيه سَكِينةً منه، وبَقِيةٌ [مِن تَرَكَةِ]

(3)

آلِ موسى وآل هارونَ. وجائزٌ أن [تكون تلك]

(4)

البَقيةُ العصا، وكِسَرَ الألواحِ، والتوراةَ أو بعضَها، والنَّعْلَين، والثيابَ، والجهادَ في سبيل الله. وجائزٌ أن يكونَ بعضَ ذلك، وذلك أمرٌ لا يُدْرَكُ عِلْمُه من جهةِ الاستخراج ولا اللغة

(5)

، ولا يُدْرَكُ علمُ ذلك إلا بخَبرٍ يوجِبُ عنه العِلمَ، ولا خبرَ عندَ أهلِ الإسلامِ في ذلك للصِّفة

(6)

التي وصَفنا. وإذ كان كذلك

(7)

، فغير جائزٍ فيه تصويبُ قولٍ وتضعيفُ آخَرَ غيرِه، إذ كان جائزًا فيه ما قلنا من القولِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} .

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 471 (2487) من طريق عبيد بن سليمان به.

(2)

سقط من: م.

(3)

في م: "مما تركه".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يكون ذلك".

(5)

في س: "الأمة".

(6)

في ص، ت 2، س:"لصفة"، وفى ت 1:"بصفة".

(7)

في س: "ذلك".

ص: 477

اختلَف أهلُ التأويل في صفةِ حَمْلِ الملائكةِ ذلك التابوتَ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: تَحْمِلُه بين السماءِ والأرضِ حتى تَضَعَه بينَ أَظْهُرِهم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: جاءت الملائكةُ بالتابوتِ تحمِلُه بين السماءِ والأرضِ وهم ينظُرون إليه، حتى وضَعَته عندَ طالوتَ

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: لمَّا قال لهم - يعنى النبيُّ لبنى إسرائيل -: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} . قالوا: فمَن لنا بأن الله هو آتاه هذا؟ ما هو إلا لهَواكَ فيه. قال: إن كنتم قد كذَّبتمونى واتَّهَمْتمونى فَإِنَّ {آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية. قال: فنزلت الملائكةُ بالتابوتِ نهارًا ينظُرون إليه عيانًا، حتى وضَعوه بين أظهُرِهم، فأقرُّوا غيرَ راضين، وخرَجوا ساخِطين. وقرَأ حتى بلَغ:{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لمَّا قال لهم نبيُّهم [ما قال لهم]

(2)

: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} . قالوا: فإن كنتَ صادِقًا، فأتِنا بآيةٍ أن هذا مَلِكٌ. قال:{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} . وأصبح التابوتُ وما فيه في

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 469.

(2)

سقط من: م.

ص: 478

دارِ طالوتَ، فَآمَنوا بنبوَّة شمعونَ

(1)

، وسَلَّموا مُلْكَ طالوتَ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قوله:{تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} . قال: تَحمِلهُ حتى تضَعَه في بيتِ طالوتَ

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: تسوقُ الملائكةُ الدوابَّ التي تحملُه.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا الثوريُّ، عن بعض أشياخهم

(4)

، قال: تَحمِلُه الملائكةُ على عَجَلةٍ، على بقرةٍ

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ: وُكِّل بالبقرتَينِ اللَّتين سارَتا بالتابوت أربعةٌ من الملائكة يسوقونهما، فسارَت البقرتان بهما سيرًا سريعًا، حتى إذا بَلَغَنَا طَرَفَ القُدْسِ ذَهَبَنَا

(6)

.

وأولى القولَين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: حمَلَت التابوتَ الملائكةُ حتى وضَعَته نهارًا

(7)

في دارِ طالوت

(8)

بينَ أظْهُرِ بنى إسرائيلَ. وذلك أن الله تعالى ذكرُه

(1)

في ت 1: "شمويل"، وفى تاريخ المصنف:"سمعون".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 467 (2466، 2469) من طريق عمرو بن حماد به. وهو جزء من الأثر المتقدم في ص 450.

(3)

تقدم تخريجه عند عبد الرزاق وابن عساكر في ص 476. وأخرج هذا الجزء أيضًا ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 472 (2490) عن الحسن به.

(4)

في م: "أشياخه".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 99، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 472 عقب الأثر (2490) عن الحسن به.

(6)

تقدم تخريجه في ص 464، 465، وأخرج هذا الجزء أيضًا ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 470 (2489) عن الحسن به.

(7)

سقط من: م، وفى ص، ت 2:"لها"، وفى ت 1:"أما".

(8)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وأما". واستظهرها الشيخ شاكر: "قائما".

ص: 479

قال: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} . ولم يَقُلْ: تأتى به الملائكةُ. وما جرَّتْه البَقَرُ

(1)

على عَجَلٍ، وإن كانت الملائكةُ هي سائِقَتَها، فهي غيرُ حاملته؛ لأن الحملَ المعروفُ هو مباشرةُ الحاملِ بنفسِه حَمْلَ ما حمَل، فأما ما حمَله على غيرِه، وإن كان جائزًا في اللغةِ أن يقال

(2)

: حَمَلَه، بمعنى مَعونتِه الحاملَ، أو بأنّ حَمْلّه كان عن سبِبِه، فليس سبيلُه سبيلَ ما باشَر حَمْلَه بنفسِه في تَعارُفِ الناسِ إِيَّاه بينَهم. وتوجيهُ تأويلِ القرآنِ إلى الأشْهَرِ من اللغاتِ، أولى من توجيهِه إلى الأنكرِ

(3)

، ما وُجِد إلى ذلك سبيلٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك أن نبيَّه شَمْوِيلَ قال لبني إسرائيلَ: إن في مَجِيئِكم التابوتُ فيه سكينةٌ من ربِّكم، وبَقِيةٌ مما ترَك آلُ موسى وآلُ هارونَ، حامِلَته الملائكةُ {لَآيَةً لَكُمْ} يعنى: لعلامةً لكم ودَلالةً أيُّها الناسُ على صدْقى فيما أخبَرْتُكم، أن الله بعث لكم طالوتَ مَلِكًا، أن كنتم قد كذَّبتمونى فيما أخبَرْتُكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتَّهَمْتمونى في خبرى إياكم بذلك، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. يعنى بذلك: إن كنتم مُصَدِّقيَّ عند مجئ الآية التي سألتُمونيها على صدقى فيما أخبرتكم به من أمر طالوت ومُلكه.

وإنما قلنا: ذلك معناه؛ لأن القومَ قد كانوا كفَروا بالله في تكذيبهم نبيَّهم، وردِّهم عليه قوله:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} بقولهم: هو {أَنَّى

(1)

في س: "الملائكة".

(2)

بعده في النسخ: "في".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أن لا يكن"، وفى م:"أن لا يكون الأشهر". والمثبت هو الصواب، ورسمه في ص يحتمل ما أثبتناه.

ص: 480

يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}. وفى مسألِتهم إيّاه الآيةَ على صِدْقِه. فإذ

(1)

كان ذلك منهم كُفْرًا، فغيرُ جائزٍ أن يقالَ لهم وهم كفارٌ: لكم في مَجِيءِ التابوتِ آيةٌ إن كنتم من أهلِ الإيمان بالله ورسولِه. وليسوا من أهلِ الإيمانِ بالله ولا برسولِه. ولكنَّ الأمرَ في ذلك على ما وصَفنا من معناه؛ لأنهم سألوا الآية على صدقِ خبرهِ إياهم ليُقِرُّوا بِصِدْقِه، فقال لهم: في مجئِ التابوتِ - على ما وصَفَه لهم - آيةٌ لكم إن كنتم عندَ مجيئِه كذلك مُصَدِّقيَّ بما قلتُ لكم وأخبَرْتكم به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} .

وفى هذا الخبرِ من اللهِ تعالى ذكرُه متروكٌ قد استُغْنِي [بدَلالتِه على]

(2)

ما ذُكِر عليه عن ذكرِه. ومعنى الكلامِ: إن في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين، فأتاهم التابوتُ فيه سَكِينةٌ من ربِّهم و بَقِيَّةُ مما ترَك آلُ موسى وآلُ هارونَ، تَحمِلُه الملائكةُ، فصدَّقوا عندَ ذلك نبيَّهم، وأَقَرُّوا بأن الله قد بعَث طالوتَ مَلِكًا عليهم، وأَذْعَنوا له بذلك. يَدُلُّ على ذلك قولُه:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} . وما كان ليَفصِلَ بهم إلا بعدَ رضاهم به، وتَسْليمِهم الملُكَ له؛ لأنه لم يكنْ مِمَّن يقدِرُ

(3)

على إكْراهِهم على ذلك، فيُظَنَّ به أنه حَمَلهم على ذلك كرْهًا.

وأما قولُه: {فَصَلَ} . فإنه يعنى به: شخَص بالجُنُدِ ورحَل بهم.

وأصلُ الفصْلِ القَطْعُ، يقالُ منه: فَصَل الرجل من موضعِ كذا وكذا - يعنى

(1)

في م، س:"فإن".

(2)

في م: "بدلالة".

(3)

في م: "يقدرون".

ص: 481

به: قَطَعَ ذلك فجَاوَزه شاخِصًا إلى غيره - يفصِلُ فصولًا، وفَصَل العَظْمَ والقولَ من غيرِه، فهو يفصِلُه فَصْلًا، إذا قَطَعه فأبانه. وفصَل الصبيَّ فِصالًا: إذا قطَعه عن اللبنِ. وقولٌ فَصْلٌ، يقطَعُ فيُفَرِّقُ بينَ الحقِّ والباطلِ لا يُرَدُّ.

وقيل: إن طالوتَ فَصَل بالجنودِ يومئذٍ من بيتِ المَقْدسِ، وهم ثمانون ألفَ مقاتلٍ، لم يتَخَلَّفُ من بنى إسرائيلَ عن الفصولِ معه إلا ذو عِلَّةٍ لعلَّتِه، أو كبيرٌ لهَرَمِه، أو معذورٌ لا طاقةَ له بالنهوضِ معه.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حدَّثني بعضُ أهلِ العلمِ، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: خرَج بهم طالوتُ حيَن استَوسَقوا له، ولم يتَخَلَّفْ عنه إلا كبيرٌ ذو عِلَّةٍ، أو ضَريرٌ

(1)

معذورٌ، أو رجلٌ في ضَيْعةٍ

(2)

لا بدَّ له من تَخَلُّفٍ

(3)

فيها.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ. عن السُّدِّيِّ، قال: لمَّا جاءهم التابوتُ آمَنوا بنُبوَّة شمعونَ

(4)

، وسَلَّموا مُلْكَ طالوتَ، فخَرَجوا معه وهم ثمانون ألفًا

(5)

.

قال أبو جعفرٍ: فلمَّا فَصَل بهم طالوتُ على ما وصَفنا قال: {إِنَّ اللَّهَ

(1)

الضرير: الذاهب البصر، وهو أيضا المريض المهزول، قد أضر به المرض. ينظر التاج (ض ر ر).

(2)

في ت 2: "صنعة".

(3)

في س: "أن يتخلف".

(4)

في ت 1: "شمويل".

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 467 - 469، وأخرجه ابن أبي حاتم 2/ 467، 472 (2469، 2495) من طريق عمرو به. وقال ابن كثير: وقول السدى: إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا. فيه نظر؛ =

ص: 482

مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}. يقولُ: إن الله مُخْتَبِرُكم بنَهَرٍ، ليَعْلَمَ كيف طاعتُكم له.

وقد دلَّلنا على أن معنى الابتلاء الاختبارُ فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادته

(1)

.

وبما قلنا في ذلك كان قتادةُ يقولُ.

حدَّثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِ اللَّهِ تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . قال: إن الله يَبْتلى خلْقَه بما يشاءُ؛ ليَعْلَمَ مَن يطيعُه مِمَّن يَعْصِيه

(2)

.

وقيل: إن طالوتَ قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . لأنهم شكَوا إلى طالوتَ قلةَ المياهِ بينَهم وبيَن عدوِّهم، وسألوه أن يدعوَ اللَّهَ لهم أن يُجْرِيَ بينَهم وبينَ عدوِّهم نَهَرًا. فقال لهم طالوتُ حينَئذٍ ما أخبَر الله عنه أنه قاله مِن قولِه:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} .

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حدَّثني بعضُ أهلِ العلمِ، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: لمَّا فَصَل طالوتُ بالجنودِ قالوا

(3)

: إن المياهَ لا تحمِلُنا، فادْعُ الله لنا يُجْرِى لنا نَهَرًا. فقال لهم طالوتُ:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} الآية

(4)

.

= لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلته يبلغون ثمانين ألفا. البداية والنهاية 2/ 295.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 677.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 473 (2498) من طريق يزيد به.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".

(4)

ذكره ابن عطية في تفسيره 2/ 173.

ص: 483

والنَّهَرُ الذي أخبرَهم طالوتُ أن الله مُبْتَلِيهم به، قيل: هو نهرٌ بينَ الأُرْدُنِّ وفِلَسْطيَن.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . قال الربيعُ: ذُكِر لنا، والله أعلمُ، أنه نهرٌ بينَ الأُردُنِّ وفِلَسْطينَ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . قال: ذُكِر لنا أنه نَهرٌ بينَ الأُرْدُنِّ وفِلَسْطينَ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . قال: هو نَهَرٌ بينَ الأُردُنِّ وفِلَسطيَن

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن ابن عباسٍ:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} : غازيًا إلى جالوتَ، قال طالوتُ لبنى إسرائيل:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . قال: نَهَرٌ بينَ فِلَسْطيَن والأُرْدُنِّ، نَهَرٌ عَذْبُ المَاءِ طَيِّبُه

(3)

.

وقال آخرون: بل هو نهرُ فِلَسْطينَ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 473 عقب الأثر (2501) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 101. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 473 (2501) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 318 إلى المصنف. وينظر ابن أبي حاتم 2/ 473 (2500).

ص: 484

أبيه، عن ابن عباسٍ:{قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} : فالنهرُ الذي ابتُلِى به بنو إسرائيلَ نَهَرُ فِلَسْطِينَ

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} : هو نَهَرُ فِلَسْطِينَ

(2)

.

وأما قولُه: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا} فإنه خيرٌ من الله تعالى ذكرُه عن طالوتَ أنه قال لجنودِه، إذ شَكَوا إليه العَطَشَ، فَأَخْبَرهم

(3)

أَن اللَّهَ مُبْتَلِيهِم بِنَهَرٍ، ثم أعلَمَهم أن الابتلاءَ الذي أخبرَهم عن الله به مِن ذلك النَّهَرِ، هو أن مَن شَرِب مِن مائِه فليس هو منه، يعنى بذلك أنه ليس من أهلِ ولايتِه وطاعتِه، ولا من المؤمنين بالله وبلقائِه. ويدُلُّ على أن ذلك كذلك قولُ اللهِ تعالى ذكرُه:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} . فَأَخرَجَ مَن لم يجاوزِ النهرَ من الذين آمنوا، ثم أخْلَص ذكرَ المؤمنين بالله ولقائِه عندَ دُنُوِّهم

(4)

من جالوتَ وجنودِه بقولِه: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} وأخبَرهم أنه مَن لم يَطْعَمُه؛ يعنى: مَن لم يَطْعَمِ الماءَ من ذلك النهرِ.

والهاءُ في قولِه: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} . وفى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} . عائدةٌ على النَّهَرِ، والمعنى لمائِه. وإنما تَرَك ذكرَ الماءِ اكِتفاءً بفَهْمِ السامِعِ بذكْرِ النَّهَرِ كذلك، أن المرادَ به الماءُ الذي فيه.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 473 (2499) عن محمد بن سعد به.

(2)

تقدم تخريجه بتمامه في صفحة 435، وأخرج هذا الجزء ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 473 (2502) وعقب (2499) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

في ص، م، ت 2، س:"فأخبر".

(4)

في س: "دفعهم".

ص: 485

ومعنى قولِه: {لَمْ يَطْعَمْهُ} : لم يَذُقْه. يعنى: ومَن لم يَذُقْ ماءَ ذلك النَّهَرِ فهو مِنِّى. يقولُ: هو من أهلِ ولايتى وطاعتى، والمؤمنين بالله وبلقائِه. ثم استَثْنَى من قولِه:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} . المُغْتَرِفِين بأيديهم غُرْفَةً، [فقال: و]

(1)

مَن لم يَطْعَمْ

(2)

ماءَ ذلك النهرِ إِلا غُرْفَةً يَغْتَرفُها بيدِه، فإِنه مِنِّي.

ثم اختلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . فقرَأه عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ: (غَرْفَةً) بِنَصْبِ الغَيْنِ من الغَرْفِةِ، بمعنى الغَرْفَةِ الواحدةِ، من قولِك: اغتَرفتُ غَرْفَةً. والغَرْفَةُ هي الفعلُ بعينِه من الاغْتِرافِ.

وقرَأه آخرون بالضَّمِّ، بمعنى الماءِ الذي يَصِيرُ في كَفِّ المُغْتَرِفِ، فالغُرْفةُ الاسمُ، والغَرْفةُ المصدرُ

(3)

.

وأعجبُ القراءتين في ذلك إليَّ ضَمُّ الغَيْنِ في "الغُرْفَةِ" بمعنى: إلا مَنِ اعْتَرَف كَفًّا من ماءٍ. لاختلافِ"غرْفة" إذا فُتِحَت غَيْنُها، وما هي له مصدرٌ. وذلك أن مصدرَ "اعْتَرَف""اغتِرافةٌ"، وإنما "غَرْفَةٌ" مصدرُ "غَرَفْت"، فلما كانت "غَرْفةٌ" مُخالِفةً مصدرَ "اغتَرَف"، كانت الغُرْفةُ التي بمعنى الاسمِ على ما قد وصَفْنا أشبهَ منها بالغَرْفةِ التي هي بمعنى الفعلِ.

وذُكرِ لنا أن عامَّتَهم شَرِبوا مِن ذلك الماءِ، فكان مَن شَرِب منه عَطِش، ومَن اعْتَرَف غُرْفَةً رَوِى.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فقالوا".

(2)

بعده في ص: "ومن لم يطعم" وفى ت 1، ت 3، س:"ومن يطعم"، وفى ت 2:"وإن لم يطعم".

(3)

والقراءة الأولى - بنصب الغين - قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو، وقراءة الباقين بضم الغين. حجة القراءات ص 140.

ص: 486

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} : فشَرِب القومُ على قَدْرِ يَقينِهم

(1)

، فأمَّا الكفارُ فجعَلوا يشرَبون فلا يَرْوَوْن، وأما المؤمنون فجعَل الرجلُ يغتَرِفُ غُرْفَةٌ بيدِه، فتَجْزِيه وتُرْوِيه

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . قال: كان الكفارُ يشرَبون فلا يَرْوَوْن، وكان المسلمون يغتَرِفون غُرْفةٌ فيَجْزيِهم ذلك

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} : يعنى المؤمنين منهم، وكان القومُ كثيرًا، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} ، يعنى المؤمنين منهم، كان أحدُهم يغتَرِفُ الغُرْفَةَ فيَجْزِيه ذلك ويُرْوِيه

(4)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمروٌ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لمَّا أصبَح التابوتُ وما فيه في دارِ طالوتَ، آمَنوا بِنُبُوَّةِ شَمْعونَ، وسَلَّموا مُلْكَ طالوتَ،

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بقيتهم"، وفى س:"نيتهم".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 474 (2503) من طريق يزيد به إلى قوله: يقينهم. ثم أخرجه (2508) من طريق شيبان النحوى، عن قتادة، وفيه: تعبهم. بدلا من: يقينهم.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 101، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 474 (2506) عن الحسن به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 474 (2508، 2509) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 487

فخرَجوا معه وهم ثمانون ألفًا، وكان جالوتُ من أعظمِ الناسِ وأشدِّهم بأسًا، فَخَرَج يسيرُ بينَ يَدَى الجندِ، ولا تجتمِعُ إليه أصحابُه حتى يَهْزِمَ هُو مَن لَقِى، فلما خرَجوا قال لهم طالوتُ:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} فشَرِبوا منه هَيبةً من جالوتَ، فعَبَر منهم أربعةُ آلافٍ، ورجَع ستةٌ وسبعون ألفًا، فمَن شرِب منه عَطِش، ومَن لم يشرَبُ منه إلا غُرْفَةً رَوِى

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: أَلقَى الله على لسانِ طالوتَ حينَ فَصَل بالجنودِ، فقال: لا يَصْحَبْنى أحدٌ إلا أحدٌ له نِيَّةٌ في الجهادِ. فلم يَتَخلَّفْ عنه مُؤْمنٌ، ولم يَتْبَعْه

(2)

منافِقٌ؛ [رجَعوا كفَّارًا]

(3)

، فلما رأى قِلَّتَهم قالوا: لن نَمَسَّ

(4)

هذا الماءَ غُرْفةً ولا غيرَها. وذلك أنه قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} الآية. فقالوا: لن نَمَسَّ

(4)

هذا، لا

(5)

غُرْفةً ولا غيرَ غُرْفَةٍ. قال: وأَخَذَ البَقِيةُ الغُرْفَةَ، فشَرِبوا منه

(6)

حتى كَفَتْهم وفَضَل منهم. قال: والذين لم يأخُذوا الغُرْفَةَ أَقوَى من الذين أخَذوها.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ في قولِه: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ

(1)

تقدم تخريجه بتمامه في صفحة 435، وأخرجه مفرقا ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 467، 472، 473، 475، 476، (2469، 2495، 2502، 2511، 2516) من طريق عمرو بن حماد به. وينظر ما تقدم في ص 482.

(2)

في س: "يعقبه".

(3)

سقط من: م.

(4)

بعده في م: "من".

(5)

سقط من: م، ت 2، س.

(6)

في ص، س:"منها".

ص: 488

اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}: فشَرِب كلُّ إنسانٍ كَقَدْرِ

(1)

الذي في قلبهِ، فمَن اعْتَرَف غُرْفةً وأطاعَه رَوى بطاعتِه، ومَن شَرِب فأكثَر عَصَى، فلم يَرْوَ لمعصيتِه

(2)

.

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، في حديثٍ ذكَره عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ في قولِه:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . يقولُ الله تعالى ذكرُه: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وكان - فيما يزعُمون - من تَتَابَعَ منهم في الشُّرْبِ الذي نُهِي عنه لم يُرْوِه، ومَن لم يَطْعَمُه إلا كما أُمِر غُرْفَةً بيدِه، أجْزأه وكَفاه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ} : فلما جاوَز النَّهَرَ طالوتُ. والهاءُ في: {جَاوَزَهُ} عائدةٌ على النَّهَرِ. و {هُوَ} كنايةُ اسمِ طالوتَ. وقولُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} . يعني: وجاوَز النَّهَرَ معه الذين آمنوا، {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} .

ثم اخْتُلِف في عِدَّةِ مَن جاوَز النَّهَرَ معه يومَئِذٍ، ومَن قال منهم: لا طاقةَ لنا اليومَ بجالوتَ وجنودِه؛ فقال بعضُهم: كانت عِدَّتُهم عِدَّةَ أَهلِ بدرٍ؛ ثلاثَمائةِ رجلٍ وبِضْعةَ عشَرَ رجلًا.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الهَمْدَانِيُّ، قال: ثنا مُصْعَبُ بنُ المِقْدام، وحدَّثنا

(1)

في ت 1: "بقدر".

(2)

تقدم تخريجه في صفحة 440.

ص: 489

أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمد الزُّبيرِيُّ، قالا جميعًا: ثنا إسرائيلُ، قال: ثنا أبو إسحاق، عن البراءِ، قال: كُنَّا نتحدَّثُ أن عِدَّةَ أصحاب بدرٍ على عِدَّةِ أصحابِ طالوتَ الذين جاوَزوا النَّهَر معه، ولم يجز

(1)

معه إلا مؤمنٌ، ثلاثُمائةٍ وبِضعةَ عشَرَ رجلًا

(2)

.

حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن البراءِ، قال: كُنَّا نتحدَّثُ أن أصحابَ بدر يومَ بدرٍ كعِدَّةِ أصحاب طالوت؛ ثلاثُمائةِ رجلٍ وثلاثةَ عشَرَ رجلًا الذين جاوَزوا النَّهَرَ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ، قال: كُنَّا نتحدَّثُ أن أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يومَ بدرٍ ثلاثمائة وبضعَةَ عَشَرَ رجلًا على عدةِ أصحابِ طالوتَ مَن جاز معه، وما جاز معه إلا مؤمنٌ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن البراء بنحوه

(5)

.

حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كُنَّا نتحدَّثُ أن أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يومَ بدرٍ على عِدَّة أصحابِ طالوتَ يومَ جاوزوا النَّهَرَ، وما جاوَز معه إلا مسلمٌ

(6)

.

(1)

في س: "يخرج".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 432، وأخرجه ابن سعد 2/ 19، والبخارى (3958)، والبغوى في تفسيره 1/ 302 من طريق إسرائيل به.

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فسكت". والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 431، وأخرجه الترمذى (1598) من طريق أبى بكر بن عياش به.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 432، وأخرجه ابن ماجه (2828) عن محمد بن بشار به.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 432، وأخرجه ابن سعد 2/ 19، وابن أبي شيبة 14/ 383، وأحمد 3/ 524 (18555) عن وكيع به.

(6)

أخرجه البخارى (3959)، وابن حبان (4796)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 475 (2513)، والبيهقى في دلائل النبوة 3/ 36، 37 من طريق سفيان به.

ص: 490

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ مثله

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومَ بدرٍ: "أنتم بعِدَّةِ أصحاب طالُوتَ يومَ لَقِى". وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ثلاثمائةٍ وبضعةَ عشَرَ رجلًا

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: مَحَّصَ الله الذين آمنوا عندَ النَّهَرِ، وكانوا ثلاثمائةٍ وفوقَ العشَرَةِ ودونَ العشرين، فجاء داودُ عليه السلام فأكمَلَ به العِدَّةَ.

وقال آخرون: بل جاوَز معه النَّهَرَ أربعةُ آلافٍ، وإنما خلَص أهلُ الإيمانِ منهم من أهل الكفر والنِّفاق حينَ لقُوا جالوتَ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، السُّدِّيِّ، قال: عبر مع طالوت النهَرَ من بنى إسرائيل أربعةُ آلافٍ، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ، فنَظَروا إلى جالوت رجعوا أيضًا وقالوا:{قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} . فرجع عنه أيضًا ثلاثةُ آلاف وستُّمائة وبضعةٌ

(3)

وثمانون، وخلَص في ثلاثمائةٍ وبضْعَةَ عَشَرَ، عِدَّةِ أَهلِ بدرٍ

(4)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 433، وأخرجه ابن سعد 2/ 19 عن أبي أحمد الزبيرى به، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 432 من طريق مسعر به.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 433.

(3)

في بعض نسخ التاريخ: "تسعة".

(4)

تقدم تخريجه بتمامه في ص 442، وأخرج هذا الجزء ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 475، 477 (2511، 2522) من طريق عمرو به.

ص: 491

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباس: لمَّا جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شَرِبوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} .

وأولى القولين في ذلك بالصواب ما رُوى عن ابن عباس وقاله السُّدِّيُّ، وهو أنه جاوَز النَّهَرَ مع طالوت المؤمنُ الذي لم يَشْرَبْ من النهر إلا الغُرْفةَ، والكافرُ الذي شَرِب منه الكثيرَ، ثم وقع التمييزُ بينَهم بعدَ ذلك برؤية جالوتَ ولقائه، وانخَزَل

(1)

عنه أهلُ الشِّرْكِ والنِّفاقِ، وهم الذين قالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} . ومضى أهلُ البصيرةِ بأمرِ اللَّهِ على بصائِرِهم، وهم أهلُ الثَّباتِ على الإيمان، فقالوا:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

فإِن ظَنَّ ذو غَفْلَةٍ أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ جاوَز النَّهَرَ مع طالوتَ إِلا أَهلُ الإيمانِ الذين ثبتوا معه على إيمانِهم، ومَن لم يشرَب من النهر إلا الغُرْفَةَ؛ لأن الله تعالى ذكرُه قال:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} . فكان معلومًا أنه لم يجاوِزْ معه إلا أهلُ الإيمانِ، على ما رُوى به الخبرُ عن البَرَاءِ بن عازبٍ، ولأن أهلَ الكفرِ لو كانوا جاوزوا النهَرَ كما جاوَزه أهلُ الإيمانِ، لما خَصَّ الله بالذِّكْرِ في ذلك أهلَ الإيمانِ. فإن الأمر في ذلك بخلافِ ما ظنَّ، وذلك أنه غيرُ مُسْتَنكرٍ أن يكونَ الفريقان - أعنى فريق الإيمان وفريق الكُفْرِ - جاوزوا النَّهَرَ، وأخبر الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن المؤمنين بالمُجاوزة؛ لأنهم كانوا من الذين جاوَزوه مع مَلِكِهم، وتَرَك ذكرَ أهلِ الكفرِ، وإن كانوا قد جاوَزوا النَّهَرَ مع المؤمنين.

(1)

في م: "انخذل". وانخزل: انفرد. ينظر النهاية 2/ 29.

ص: 492

والذي يَدُلُّ على صحةِ ما قلنا في ذلك قولُ اللهِ تعالى ذكرُه: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} . فأوجب الله تعالى ذكرُه أن الذين يَظُنُّون أنهم ملاقو اللَّهِ هم الذين قالوا عند مجاوزة النهرِ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} . دون غيرهم الذين لا يَظُنُّون أنهم ملاقُو الله، وأن الذين لا يظُنُّون أنهم ملاقُو الله هم الذين قالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} . وغيرُ جائزٍ أن يُضافَ الإيمانُ إلى مَن جَحَد أنه مُلاقى الله، أو شَكَّ فيه.

‌القولُ في تأويل قوله: {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} .

اختلف أهل التأويل في أمْرِ هذين الفريقين، أعنى القائلين:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} . والقائلين: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} من هما؟ فقال بعضُهم: الفريقُ الذين قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} . هم أهلُ كُفْرٍ باللهِ ونِفاقٍ، وليسوا ممن شهِد قتالَ جالوت وجنوده؛ لأنهم انصرَفوا عن طالوتَ ومَن ثبت معه لقتالِ عدوٍّ الله جالوت ومن معه، وهم الذين عَصَوا أمرَ اللَّهِ لشُرْبهم من النَّهَرِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ بذلك

(1)

. وهو

(1)

تقدم تخريجه في ص 491.

ص: 493

قولُ ابن عباسٍ، وقد ذكَرنا الروايةَ بذلك عنه آنِفًا

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: الذين يظُنُّون أنَّهم ملاقُو اللَّهِ، الذين اغتَرَفوا وأطاعوا، الذين مَضَوا مع طالوتَ المؤمنون، وجلَس الذين شَكُّوا.

وقال آخرون: كلا

(2)

الفريقَين كان أهلَ إيمانٍ، ولم يكنْ منهم أحدٌ شرِب مِن الماءِ إلا غُرْفةً، بل كانوا جميعًا أهلَ طاعةٍ، ولكنَّ بعضَهم كان أصحَّ يَقِينًا من بعضٍ، وهم الذين أخبَر اللهُ عنهم أنهم قالوا:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} . والآخرون كانوا أضعفَ يَقِينًا منهم

(3)

، وهم الذين قالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} .

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} : ويكونُ، [واللهِ]

(4)

، المؤمنون بعضُهم أفضلَ جِدًّا وعَزْمًا من بعضٍ، وهم مؤمنون كلُّهم

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يَحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن

(1)

تقدم ص 492.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كل".

(3)

زيادة من: س.

(4)

سقط من: م، س.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 476 (2520) من طريق شيبان، عن قتادة نحوه.

ص: 494

قتادةَ في قولِه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} : إِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابِه يومَ بدرٍ: "أنتم بعِدَّةِ أصحابِ طالوتَ ثَلاثُمائةٍ". قال قتادةُ: وكان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ بدرٍ ثلاثُمائةٍ وبضعَةَ عشَرَ

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: الذين لم يأخُذوا الغُرْفةَ أقوى من الذين أخَذوا، وهم الذين قالوا:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

ويجِبُ على القولِ الذي رُوِى عن البَراءِ بن عازبٍ أنه لم يُجاوزِ النَّهَرَ مع طالوتَ إلا عدةُ أصحابِ بدرٍ، أن يكونَ كلا الفريقَين اللذَين وصَفَهما اللهُ بما وصَفهما به، أمرُهما على نحوِ ما قال فيهما قتادةُ وابنُ زيدٍ.

وأولى القولَين في [ذلك بتأويلِ الآيةِ]

(2)

، ما قاله ابن عباسٍ والسُّدِّيُّ وابنُ جُرَيجٍ. وقد ذكَرنا الحُجَّةَ في ذلك فيما مَضَى قبلُ آنِفًا.

وأما تأويلُ قولِه: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} . فإنه يعنى: قال الذين يعلَمون ويَسْتيقِنون أنهم ملاقو اللَّهِ.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} : الذين يَسْتيقِنون

(3)

:

فتأويلُ الكلامِ: قال الذين يُوقِنون بالمَعادٍ، ويُصَدِّقون بالمَرْجِعِ إلى اللهِ، للذين قالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 101. وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 433 سندًا ومتنًا مختصرًا.

(2)

في م: "تأويل الآية"، وفى س:"ذلك بالتأويل".

(3)

تقدم تخريجه بتمامه في ص 442، أخرج هذا الجزء ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 476 (2518) من طريق عمرو به.

ص: 495

قَلِيلَةٍ}. يعنى بـ {كَمْ} كثيرًا، غلَبَت فئةٌ قليلةٌ فئةً كثيرةً {بِإِذْنِ اللَّهِ}. يعنى: بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. يقولُ: مع الحابِسِين أنفسَهم على رضاه وطاعتِه.

وقد أتَينا على البَيانِ عن وجوهِ الظَّنِّ، وأن أحدَ معانيه العلمُ اليقينُ، بما يدُلُّ على صحةِ ذلك فيما مَضَى، فكَرِهنا إعادتَه

(1)

.

وأما الفِئَةُ فإنهم الجماعةُ من الناسِ، لا واحدَ له من لفظِه، وهو مثلُ الرَّهْطِ والنَّفَرِ، يُجْمَعُ

(2)

"فِئات"، و"فِئونَ" في الرفعِ، و"فِئينَ" في النصبِ والخَفضِ، بفتحِ نونِها في كلِّ حالٍ، و"فِتينُ" بالرفعِ بإعرابِ نونِها بالرفعِ، وتَرْكِ الياءِ فيها، وفى النصبِ "فِئينًا"، وفى الخَفْضِ "فِئينٍ"، فيكونُ الإعرابُ في الخفضِ والنصبِ في نونِها، وفى كلِّ ذلك مُقَرَّةٌ فيها الياءُ على حالِها، فإن أُضِيفت قيل: هؤلاء [فِئينُك. بإقرارِ]

(3)

النونِ وحَذْفِ التنوينِ، كما قال الذين لغتُهم: هذه سنينٌ، في جميعِ السنةِ: هذه سنينُك. بإثباتِ النونِ وإعرابِها، وحَذْفِ التنوينِ منها للإضافةِ، وكذلك العملُ في كلِّ منقوصٍ، مثلَ: مائةٌ وثُبَةٌ وقُلَةٌ

(4)

وعِزَةٌ. فأما ما كان نقصُه من أولِه، فإن جَمْعَه بالتاءِ، مثلَ: عِدَةٌ وعداتٌ، وصِلةٌ وصِلاتٌ.

وأما قولُه: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . فإنه يعنى: واللَّهُ مُعِينُ الصَّابِرين على الجهادِ في سبيلِه، وغيرِ ذلك من طاعتِه، وظهورِهم

(5)

ونصْرِهم على أعدائِه

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 623 وما بعدها.

(2)

في م: "جمعه".

(3)

في س: "فيئك بإضمار".

(4)

القلة: عود صغير غليظ الوسط دقيق الطرفين يرمى على الأرض ثم يهمز بالمقلى فيرتفع في الهواء قليلا، فيضرب بالمقلى ضربة قوية، فينطلق كالسهم ويجرى الصبيان وراءه.

(5)

في ص: "ظهيرهم"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"طهرهم"، وفى س:"ظهرهم".

ص: 496

الصَّادِّين عن سبيلِه، المخالِفين مِنْهاجَ دينِه. وكذلك يقالُ لكلِّ مُعينٍ رجلًا على غيره: هو معه. بمعنى: هو معه بالعَوْنِ له والنصرةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} : ولمَّا برَز طالوتُ وجنودُه لجالوتَ وجنودِه.

ومعنى قولِه: {بَرَزُوا} : صاروا بالبَرَازِ من الأرضِ، وهو ما ظهَر منها واستَوى، ولذلك قيل للرجلِ القاضي حاجتَه: تَبَرَّزَ؛ لأنَّ الناسَ قديمًا في الجاهليةِ إنما كانوا يَقْضُون حاجتَهم في البرَازِ من الأرضِ، فقيل: قد تَبرَّزَ فلانٌ. إذا خرَج إلى البَرَازِ من الأرضِ لذلك، كما قيل: تَغَوَّط. لأنهم كانوا يَقْضُون حاجتَهم في الغائطِ من الأرضِ، وهو المُطْمَئِنُّ منها، فقيل للرجلِ: تَغَوَّط. أي: صار إلى الغائطِ من الأرضِ.

وأما قولُه: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} . فإنه يعنى أن طالوتَ وأصحابَه قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} . يعنى: أنزِلْ علينا صبرًا.

وقولُه: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} . يعنى: وقَوِّ قلوبَنا على جهادِهم؛ لتَثْبُتَ أقدامُنا فلا نَنْهِزِمَ عنهم، {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الذين كفَروا بك فجَحَدوك إلهًا، وعَبَدوا غيرَك، واتَّخَذوا الأوثانَ أرْبابًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} .

يعنى

(1)

تعالى ذكرُه بذلك

(2)

: فهَزَم طالوتُ وجنودُه أصحابَ جالوتَ، وقتَل

(1)

في س: "يبين".

(2)

سقط من: م.

ص: 497

داودُ جالوتَ.

وفى هذا الكلامِ متروكٌ، تُرِك ذكرُه اكتفاءً بدلالةِ ما ظهَر منه عليه، وذلك أن معنى الكلامِ: ولمَّا برَزوا لجالوتَ وجنودِه، قالوا: ربَّنا أفرِغْ علينا صبرًا وثبِّتْ أقدامَنا وانصُرْنا على القومِ الكافرين، فاستجاب لهم ربُّهم، فأفرَغ عليهم صبرَه، وثبَّتَ أقدامَهم ونصَرهم على القومِ الكافرين، فهَزَموهم بإذنِ اللهِ. ولكنه ترَك ذكْرَ ذلك اكتفاءً بدلالةِ قولِه:{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} . على أن الله قد أجاب دعاءَهم الذي دَعَوه به.

ومعنى قولِه: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} : قتَلوهم

(1)

بقضاءِ اللَّهِ وقَدَرِه، يقالُ منه: هزَم القومُ الجيشَ هزيمةً وهِزِّيمَى. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} . وداود هذا، هو داودُ بنُ إيشى

(2)

نبيُّ اللهِ عليه السلام.

وكان سببَ قتلِه إياه كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا بَكَّارُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: سمِعتُ وهبَ بنَ منبهٍ يُحدِّثُ، قال: لمَّا خرَج - أو قال: لمَّا بَرَز - طالوتُ الجالوتَ، قال جالوتُ: أبْرِزوا لى مَن يُقاتِلُنى، فإن قتَلنى فلكم مُلْكِى، وإن قتَلْتُه فلى مُلْكُكم. فأُتِى بداودَ إلى طالوتَ، فَقاضاه إن قتَله أن يُنكِحَه ابنتَه، وأن يُحَكِّمَه في مالِه، فألبَسه طالوتُ سلاحًا، فكَرِه داودُ أن يقاتِلَه بسلاحٍ

(3)

، وقال: إنِ اللهُ لم يَنصُرْنى عليه لم يُغْنِ السلاحُ. فخرَج إليه بالمِقْلاعِ وبمِخْلاةٍ فيها أحجارٌ، ثم برَز له، قال له جالوتُ: أنت تُقاتِلُنى؟ قال داود: نعم.

(1)

كذا في النسخ، ولعل الصواب: فلُّوهم. فالهزيمة في الحرب لغة: الكسر والفَلُّ لا القتل. ينظر اللسان (ف ل ل، هـ ز م). وكذا غيّرها الشيخ شاكر.

(2)

وهو كذلك في تاريخ الطبرى 1/ 476. وفى الأصحاح السابع عشر من سفر صموييل: يَسَّى.

(3)

سقط من النسخ، والمثبت من مصدرى التخريج.

ص: 498

قال: وَيْلَك، [ما خرَجتَ إليَّ]

(1)

إلا كما يُخرَجُ إلى الكلب بالمِقْلاعِ والحِجارةِ! لأُبَدِّدَنَّ

(2)

لَحْمَك، ولأُطْعِمَنَّه اليومَ الطيرَ والسِّباعَ. فقال له داودُ: بل أنت عدوُّ اللهِ شرٌّ من الكلبِ. فأخَذ داودُ حجرًا ورماه بالمِقْلاعِ، فأصابه

(3)

بينَ عَيْنَيه حتى نفَذ

(4)

في دِماغِه، فصَرَع جالوتَ، وانهزَم مَن معه، واحتَزَّ داودُ رأسَه، فلما رجَعوا إلى طالوتَ ادَّعى الناسُ قتلَ جالوتَ؛ فمنهم مَن يأتى بالسيفِ وبالشئِ من سلاحِه أو جسدِه، وخَبَّأ داودُ رأسَه، فقال طالوتُ: مَن جاء برأسِه فهو الذي قتَله. فجاء به داودُ، ثم قال لطالوتَ: أعْطِنى ما وعَدْتَنى. فندِم طالوتُ على ما كان شرَط له وقال: إن بناتِ الملوكِ لابدَّ لهنَّ من صَداقٍ، وأنت رجلٌ جَرِئٌ شجاعٌ، فاحتَمِلْ صداقَها ثلاثَمائةِ غُلْفةٍ

(5)

من أعدائِنا. وكان يرجو بذلك أن يُقْتَلَ داودُ، فغَزا داودُ، وأسَر منهم ثلاثَمائةٍ، وقطَع غُلَفَهم وجاء بها، فلم يَجِدْ طالوتُ بُدًّا من أن يُزَوِّجَه، ثم أدرَكَته النَّدامةُ، فأراد قتلَ داودَ حتى هرَب منه إلى الجبلِ، فنهَض إليه طالوتُ فحاصَره، فلما كان ذاتَ ليلةٍ سُلِّط النومُ على طالوتَ وحَرَسِه، فهَبَط إليهم داودُ، فأخَذ إبريقَ طالوتَ الذي كان يشرَبُ منه ويَتوضَّأُ، وقطَع شَعَراتٍ من لحيتِه وشيئًا من هُدْبِ ثيابِه، ثم رجَع داودُ إلى مكانِه، فناداه:[أنْ تَعاهَدْ]

(6)

حرَسَك، فإنى لو شئتُ أن

(7)

أقتُلَك البارحةَ فعلتُ، [وإنَّ]

(8)

هذا إبْرِيقُك، وشيءٌ من شَعَرِ لحيتِك

(1)

في ص، س:"أما وجب"، وفى م:"أما تخرج إلى". والمثبت من مصدرى التخريج.

(2)

في س: "لأذوق".

(3)

في م: "فأصابت".

(4)

في م، ونسخة من تفسير عبد الرزاق:"نفذت".

(5)

الغلفة والقُلْفة: جلدة الذكر التي ألبستها الحشفة، وهى التي تقطع من ذكر الصبى. ينظر التاج (غ ل ف، ق ل ف).

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أن" وبعدها بياض بمقدار كلمة، وفى س:"أن أين". والمثبت من تفسير عبد الرزاق.

(7)

ليست في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(8)

في ص، ت 2، م:"فإنه"، وفى ت 1، ت 3:"فإن"، وفى تفسير عبد الرزاق:"بآية أن".

ص: 499

وهُدْبِ ثيابِك. وبعَث به

(1)

إليه، فعلِم طالوتُ أنه لو شاء قتَله، فعطَفه ذلك عليه، فأمَّنَه وعاهَده باللهِ لا يرَى منه بأسًا، ثم انصرَف، ثم كان في آخِرِ أمرِ طالوتَ أنه كان يَدُسُّ لقتْلِه، وكان طالوتُ لا يقاتِلُ عدوًّا إِلا هُزِم، حتى مات.

قال بَكَّارٌ: وسُئِل وَهْبٌ وأنا أسمَعُ، أنَبِيًّا كان طالوتُ يُوحَى إليه؟ فقال: لم يأتِه وَحْيٌ، ولكن كان معه نبيٌّ يقالُ له: أشمويلُ

(2)

. يُوحَى إليه، وهو الذي مَلَّك طالوتَ

(3)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: كان داودُ النبيُّ وإخوةٌ له أربعةٌ، معهم أبوهم شيخٌ كبيرٌ، فتَخَلَّف أبوهم وتَخلَّف معه داودُ من بين إخوتِه في غَنَمِ أبيه يَرْعاها له، وكان من أصْغرِهم، وخرَج إخوتُه الأربعةُ مع طالوتَ، فدَعاه أبوه وقد تقارَب الناسُ ودنا بعضُهم من بعضٍ - قال ابن إسحاقَ: وكان داودُ، فيما ذكَر لى بعضُ أهلِ العلمِ، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، رجلًا قصيرًا أزرقَ

(4)

، قليلَ شعرِ الرأسِ، وكان طاهرَ القلبِ نَقِيَّه

(5)

- فقال له أبوه: يا بُنَيَّ، إنا قد صنَعنا لإخوتِك زادًا يَتَقَوَّوْن به على عدوِّهم، فاخرُجْ به إليهم، فإذا دفَعتَه إليهم، فأقبِلْ إليَّ سريعًا. فقال: أفعَلُ. فخرَج وأخَذ معه ما عُمِل

(6)

لإخوتِه، ومعه مِخْلاتُه التي يَحْمِلُ فيها الحجارةَ، ومِقْلاعُه الذي كان يَرْمى به عن غَنَمِه، حتى إذا فصَل من عندِ

(1)

زيادة من تفسير عبد الرزاق.

(2)

في ص، وتفسير عبد الرزاق:"اسمويل"، وفى ت 1:"شمويل".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 103 - 105، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير 2/ 477، 478 (2526) عن الحسن بن يحيى به ببعضه.

(4)

يريد: أزرق العينين، كما في قصص الأنبياء للثعالبى ص 244، وينظر الحيوان 5/ 331 - 333.

(5)

أخرج هذه الفقرة المصنف في تاريخه 1/ 476.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حمل".

ص: 500

أبيه، فمرَّ بحَجَرٍ، فقال: يا داودُ، خُذْنى فاجعَلْنى في مِخْلاتِك تقتُلْ بى جالوتَ، فإنى حَجَرُ يعقوبَ. فأخَذه فجعَله في مِخْلاتِه، [ثم مضَى]

(1)

، فبَيْنا هو يمشِى إذ مرَّ بحجَرٍ آخَرَ، فقال: يا داودُ، خُذْنى فاجعَلْنى في مِخْلاتِك تقتُلْ بى جالوتَ، فإنى حجرُ إسحاقَ. فأخَذه فجعَله في مِخْلاتِه، ثم مضَى، فبَيْنا هو يمشى إذ مرَّ بحجرٍ، فقال: يا داودُ، خُذْنى فاجعَلْنى في مِخْلاتِك تقتُلْ بى جالوتَ، فإنى حجرُ إبراهيمَ. فأخَذه فجعَله في مِخْلاتِه، ثم مضَى بما معه حتى انتهى إلى القومِ، فأعطَى إخوتَه ما بُعِث إليهم معه، وسَمِع في العسكرِ خَوْضَ

(2)

الناسِ بذكرِ جالوتَ، وعِظَمِ شأنِه فيهم، وبهيبةِ الناسِ إيَّاه، ومما يُعَظِّمُون من أمرِه، فقال لهم: واللهِ إنكم لتعظِّمون من أمرِ هذا العدوِّ شيئًا ما أدرى ما هو، واللهِ لو أراه لقتَلتُه، فأدْخِلونى على المَلِكِ. فأُدْخِل على الملكِ طالوتَ، فقال: أيُّها الملِكُ، إنى أراكم تُعَظِّمون شأنَ هذا العدوِّ، واللَّهِ إنى لو أراه لقتَلْتُه. فقال: فآتِنى

(3)

ما عندَك من القوَّةِ على ذلك، وما

(4)

جرَّبْتَ من نفسِك. قال: قد كان الأسدُ يَعْدُو على الشاةِ من غَنِمى، فأُدْرِكُه فآخُذُ برأسِه، فأفُكُّ لَحْيَيهِ عنها، فآخُذُها مِن فِيه، فادْعُ لى بدِرْعٍ حتى أُلْقِيَها عليَّ. فأُتِى بدِرْعٍ فقَذَفها على

(5)

عُنُقِه، ومَثَل

(6)

فيها فملأَ

(7)

عينَ طالوتَ ونفسَه ومَن حضَره من بنى إسرائيلَ، فقال طالوتُ: واللهِ، لعسى اللهُ أن يُهْلِكَه به. فلما أصبَحوا رجَعوا إلى جالوتَ

(8)

، فلما التقَى الناسُ قال داودُ: أَرُونى جالوتَ. فأرَوه

(1)

سقط من: ت 1، وفى ص، م، ت 2، ت 3:"ومشى".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بوحوص".

(3)

في ت 2: "فإنى"، وفى س:"فأتى". وأثبتها الشيخ شاكر: "يا بنى"، وفى حاشية المطبوعة:"لعله: فأرنى".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مما".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سل".

(7)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مل".

(8)

في ت 1: "طالوت".

ص: 501

إيَّاه على فرسٍ عليه لأْمَتُه، فلما رَآه جعَلَت الأحجارُ الثلاثةُ تَواثبُ مِن مِخْلاتِه، فيقولُ هذا: خُذْنى. ويقولُ هذا: خُذْنى. ويقولُ هذا: خُذْنى. فأخَذ أحدَها، فجعَله في مِقلاعِه

(1)

، ثم فَتَله به، ثم أرسَله فصَكَّ به بينَ عَيْنَى جالوتَ، فَدَمَغه، وتَنَكَّس عن دابتِه فقَتَله، ثم انهزَم جندُه، وقال الناسُ: قتَل داودُ جالوتَ. وخُلِع طالوتُ، وأقبَل الناسُ على داودَ مكانَه، حتى لم يُسْمَعْ لطالوتَ بذكرٍ، إلا أن أهلَ الكتابِ يزعُمون أنه لمَّا رأى انصرافَ بنى إسرائيلَ عنه إلى داودَ، هَمَّ بأن يَغْتالَ داودَ، وأراد

(2)

قتلَه، فصَرَف اللهُ ذلك عنه وعن داودَ، وعَرَف خطيئتَه، والتَمَس التوبةَ منها إلى اللهِ

(3)

.

وقد رُوِى عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ في أمرِ طالوتَ وداودَ قولٌ خلافُ الرِّوايتَين اللَّتين ذكَرتُ قبلُ، وهو ما حدَّثني به المُثَنَّى، قال: حدثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: ثنى عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقلٍ، أنه سمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ، قال: لمَّا سَلَّمَت بنو إسرائيلَ المُلْكَ لطالوتَ، أوحَى اللهُ إلى نبيِّ بنى إسرائيلَ: أن قُلْ لطالوتَ: فلْيَغْزُ أهلَ مَدْينَ، فلا يَترُكْ فيها حَيًّا إلا قتَله، فإنى سأُظهِرُه عليهم. فخَرَج بالناسِ حتى أتَى مَدْينَ، فقتَل مَن كان فيها إلا مَلِكَهم، فإنه أسَرَه، وساق مواشِيَهم، فأوحَى اللهُ إلى أشمويلَ: ألا تَعْجَبُ من طالوتَ إذ أمَرتُه بأمرِى

(4)

فاختار

(5)

فيه، فجاء بمَلِكِهم أسيرًا، وساق مواشِيَهم، فالْقَه فقلْ له: لأَنزِعَنَّ المُلْكَ من بيتِه، ثم لا

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مقذافه".

(2)

في س: "وأرادوا".

(3)

أخرجه ابن عساكر 17/ 81، 82 من طرق عن وهب بن منبه ببعضه.

(4)

زيادة من تاريخ المصنف.

(5)

في م: "فاختان"، وفى التاريخ:"فاختلَّ"، وفى نسخة منه كالمثبت.

ص: 502

يعودُ فيه إلى يومِ القيامةِ؛ فإنى إنما أُكْرِمُ مَن أطاعنى، وأُهِينُ مَن هانَ عليه أمرى. فلَقِيه، فقال له: ما صنَعتَ! لِمَ جِئْتَ بمَلِكِهم أسيرًا، ولِمَ سُقْتَ مواشِيَهم؟ قال: إنما سُقْتُ المواشىَ لأُقرِّبَها. قال له أشمويلُ: إن اللَّهَ قد نزَع من بيتِك المُلْكَ، ثم لا يعودُ فيه إلى يومِ القيامةِ. فأوحَى اللهُ إلى أشمويلَ أَن انطلِقْ إلى إيشَى، فيَعْرِض عليك بَنِيه، فادْهُنِ الذي آمُرُك بدُهْنِ القُدْسِ، يكنْ مَلِكًا على بنى إسرائيلَ. فانطلَق حتى أتَى إيشى، فقال: اعرِضْ عليَّ بَنِيك. فدَعا إيشى أكبرَ ولدِه، فأقبَل رجلٌ جَسيمٌ، حسنُ المنظرِ، فلما نظَر إليه أشمويلُ أعجَبه، فقال: الحمدُ للهِ، إن الله بصيرٌ بالعبادِ. فأوحَى اللهُ إليه: إن عَيْنَيك تُبْصِران ما ظهَر، وإنى أَطَّلِعُ على ما في القلوبِ، ليس بهذا. [فقال: ليس بهذا]

(1)

، اعرِضْ عليَّ غيرَه. فعَرَض عليه ستةً

(2)

، في كلِّ ذلك يقولُ: ليس بهذا. فقال: هل لك من ولدٍ غيرُهم. فقال: بلى

(3)

، لى غلامٌ أمغَرُ

(4)

، وهو راعٍ في الغنمِ. فقال: أرسِلْ إليه. فلما أن جاء داودُ جاء غلامٌ أمغرُ

(5)

، فدَهَنه بدُهْنِ القُدْسِ، وقال لأبيه: اكتُمْ هذا، فإن طالوتَ لو يطَّلِعُ عليه قتَله. فسار جالوتُ في قومِه إلى بنى إسرائيلَ فعسكَر، وسار طالوتُ بينى إسرائيلَ وعسكَر، وتهيَّئُوا للقتالِ، فأرسَل جالوتُ إلى طالوتَ: لم يُقْتَلُ قومى

(6)

وقومُك؟ ابرُزْ لى، أو أبرِزْ لى مَن شئتَ، فإن قتَلتُك كان المُلْكُ لى، وإن قتَلْتَنى كان المُلْكُ لك. فأرسَل طالوتُ في عسْكرِه صائحًا: مَن يبرُزُ لجالوتَ، فإن قتَله فإن المَلِكَ يُنْكِحُه ابنتَه، ويُشْرِكُه في

(1)

سقط من النسخ، والمثبت من التاريخ.

(2)

في س: "بنيه".

(3)

في النسخ: "بنى". والمثبت من التاريخ، وفى نسخة منه:"بقى".

(4)

زيادة من التاريخ، والأمغر: الأحمر الشعر والجلد. التاج (م غ ر).

(5)

في النسخ: "أمعر".

(6)

بعده في م: "وأقتل".

ص: 503

مُلْكِه؟ فأرسَل إيشى

(1)

داودَ إلى إخوتِه - [قال الطبَريُّ: هو إيشى، ولكن قال المحدِّثُ: إيشى]

(2)

- وكانوا في العسكرِ، فقال: اذهَبْ فزوِّدْ

(3)

إخوتَك، وأخِبرْنى خبرَ الناسِ ماذا صنَعوا. فجاء إلى إخوتِه، وسمِع صوتًا: إن المَلِكَ يقولُ: مَن يَبْرُزُ لجالوتَ، فإن قتَله أنكَحَه المَلِكُ ابنتَه؟ فقال داودُ لإخوتِه: ما منكم رجلٌ يبرُزُ لجالوتَ فيقتُلَه ويَنكِحَ ابنةَ المَلِكِ؟ فقالوا: إنك غلامٌ أحمقُ، ومَن يُطِيقُ جالوتَ، وهو من بقيِة الجبَّارِين! فلما لم يَرَهم رَغِبوا في ذلك، قال: فأنا أذهَبُ فأقتُلُه. فانتَهَروه وغَضِبوا عليه، فلما غَفَلوا عنه، ذهَب حتى جاء الصائحَ، فقال: أنا أبرُزُ لجالوتَ. فذَهَب به إلى المَلِكِ، فقال له: لم يُجِبْنى أحدٌ إلا غلامٌ مِن بنى إسرائيلَ هو هذا. قال: يا بُنَيَّ، أنت تَبْرُزُ لجالوتَ فتُقاتِلُه؟ قال: نعم. قال: وهل آنَسْت من نفسِك شيئًا؟ قال: نعم، كنتُ راعيًا في الغنمِ، فأغارَ عليَّ الأسدُ، فأخَذتُ بلَحْيَيْه ففَكَكْتُهما. فدَعا له بقوسٍ وأداةٍ كاملةٍ، فلَبِسها وركِب الفرسَ، ثم سار منهم قريبًا، ثم صرَف فرسَه، فرَجَع إلى المَلِكِ، فقال الملكُ ومَن حولَه: جَبُن الغلامُ. فجاء فوَقَف على المَلِكِ، فقال: ما شأنُك؟ قال داودُ: إِنْ لم يقتُلْه اللهُ لى، لم يَقتُلْه هذا الفرسُ وهذا السلاحُ، فدَعْنى فأقاتِلَ كما أريدُ. فقال: نعم يا بُنَيَّ. فأخَذ داودُ مِخْلاتَه فتقَلَّدها، وألقَى فيها أحجارًا، وأخَذ مِقْلاعَه الذي كان يَرْمى

(4)

به، ثم مضَى نحوَ جالوتَ، فلما دَنا من عسكرِه قال: أين جالوتُ يبرُزُ لى؟ فبرَز له على فرسٍ عليه السلاحُ كلُّه، فلما رآه جالوتُ قال: إليك أبرُزُ؟ قال: نعم. قال: فأتَيتَنى

(1)

في ص: "إشى".

(2)

سقط من: م.

(3)

في ص، م، ت 2، س:"فرد"، وفى ت 1، ت 3:"ورد". والمثبت موافق لما تقدم في الآثار السابقة ولما سيأتي.

(4)

في النسخ: "يرعى".

ص: 504

بالمِقْلاعِ والحَجَرِ كما يُؤتَى إلى الكلبِ! قال: هو ذاك. قال: لا جَرَمَ أنى سوف أُقسِّمُ لحمَك بينَ طيرِ السماءِ وسباعِ الأرضِ. قال داودُ: أو يُقَسِّمُ اللَّهُ لحمَك. فوَضَع داودُ حجرًا في مِقْلاعِه، ثم دوَّره، فأرسَله نحوَ جالوتَ، فأصابَ أنفَ البَيْضةِ التي على جالوتَ حتى خالَط دماغَه، فوقَع من فرسِه، فمضَى داودُ إليه، فقطَع رأسَه بسيفِه، فأقبَل به في مِخْلاتِه، وبسَلَبِه يجُرُّه حتى ألقاه بينَ يَدَى طالوتَ، ففَرِحوا فرحًا شديدًا، وانصرَف طالوتُ، فلما كان داخلَ المدينةِ، سمِع الناسَ يذكُرون داودَ، فوَجَد في نفسِه، فجاءه داودُ، فقال: أعطِنى امْرأتى. فقال: أتريدُ ابنةَ المَلِكِ بغيرِ صَداقٍ؟ فقال داودُ: ما اشتَرطْتَ عليَّ صَداقًا، وما لي من شيءٍ. قال: لا أكلِّفُك إلا ما تُطِيقُ، أنت رجلٌ جرئٌ، وفى جبالِنا هذه جَراجِمةٌ يَحْتَرِبون الناسَ

(1)

وهم غُلْفٌ، فإذا قتلتَ منهم مائتى رجلٍ، فائْتِنى بغُلَفِهم. فجعَل كلما قتَل منهم رجلًا نظَم غُلْفَتَه في خيطٍ، حتى نظَم مائتى غُلْفةٍ، فأَتَى

(2)

إلى طالوتَ، فألقَى

(3)

إليه، فقال: ادفَعْ إلى امرأتى، قد [جئتُ بما اشتَرطْتَ. فزوَّجه ابنتَه]

(4)

. وأكثَر الناسُ ذكرَ داودَ، وزادَه

(5)

عندَ الناسِ عَجَبًا، فقال طالوتُ لابنِه: لَتَقْتُلَنَّ داودَ. قال: سبحانَ اللهِ، ليس بأهلٍ لذلك منك. قال: إنك غلامٌ أحمقُ، ما أُرَاه إلا سوف يُخرِجُك وأهلَ بيتِك من المُلْكِ. فلما سمِع ذلك مِن أبيه، انطَلَق إلى أختِه، فقال لها: إنى قد خِفْتُ أباك أن يقتُلَ زوجَك داودَ، فمُرِيه أن

(6)

يأخُذَ حِذْرَه، ويَتغيَّبَ منه. فقالت له امرأتُه ذلك فتَغيَّبَ، فلما أصبَح أرسَل طالوتُ مَن يدعو له

(1)

جراجمة يحتربون الناس: أي لصوص يستلبون الناس وينهبونهم. النهاية 1/ 255.

(2)

بياض في ص بمقدار كلمتين، وفى م:"ثم جاء بهم".

(3)

كذا في النسخ، ولعلها: فألقى بها إليه.

(4)

مكانه بياض في النسخ، والمثبت من المطبوعة.

(5)

في س: "رواه".

(6)

زيادة من: ص، م، ويصح حذفها.

ص: 505

داودَ، وقد صنَعَت امرأتُه على فِراشِه كهيئةِ النائمِ ولَحَّفَتْه، فلما جاء رسولُ طالوتَ قال: أين داودُ؟ ليُجِبِ

(1)

المَلِكَ. فقالت له: باتَ شاكِيًا ونام الآنَ، تَرَوْنه على الفراشِ. فرجَعوا إلى طالوتَ، فأخبرُوه ذلك، فمكَث ساعةً، ثم أرسَل إليه، فقالت: هو نائمٌ لم يستيقِظْ بعدُ. فرَجَعوا إلى المَلِكِ فقال: ائتونى به وإن كان نائمًا. فجاءوا إلى الفِراشِ، فلم يَجِدوا عليه أحدًا، فجاءوا

(2)

المَلِكَ فأخبَروه، فأرسل إلى ابنتِه فقال: ما حَمَلك على أن تكْذِبينِ

(3)

؟ قالت: هو أمَرنى بذلك، وخِفْتُ إن لم أفعَلْ أمرَه أن

(4)

يقتُلَنى. وكان داودُ فارًّا في الجبلِ حتى قُتِل طالوتُ، ومُلِّك داودُ بعدَه

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان طالوتُ أميرًا على الجيشِ، فبَعَث أبو داودَ مع داودَ بشيءٍ إلى إخوتِه، فقال داودُ لطالوتَ:[ماذا لى فأقتُلَ]

(6)

جالوتَ؟ قال: لكَ ثُلُثُ مالى

(7)

، وأُنكِحُك ابنتى. فأخَذ مِخْلاتَه، فجعَل فيها ثلاثَ مَرَواتٍ، ثم سَمَّى حجارتَه تلك إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، ثم أدخَل يدَه فقال: باسمِ إلهى وإلِه آبائى إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ. فخَرَج على إبراهيمَ، فجعَله في مِرْجمتِه، فخَرَقَت ثلاثًا وثلاثين بَيْضةً عن رأسِه، وقتَلَت ثلاثين ألفًا من ورائِه

(8)

.

(1)

في س: "ليجيب".

(2)

بعده في س: "إلى".

(3)

في م: "تكذبينى".

(4)

ليس في ت 2، س، وهو صحيح أيضا.

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 477، 478 ببعضه.

(6)

في س: "ما لى إن قتلت".

(7)

في تفسير مجاهد: "ملكى".

(8)

تفسير مجاهد ص 241، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 464 (2451).

ص: 506

حدَّثني موسى، قال: حدثنا عمرٌو، قال: حدثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: عَبَر يومَئذٍ النهرَ مع طالوتَ أبو داودَ في مَن عَبَر، مع ثلاثةَ عشَرَ ابنًا له، وكان داودُ أصغرَ بَنِيه، فأتاه ذاتَ يومٍ، فقال: يا أبتاه، ما أرْمى بقَذَّافتى شيئًا إلا صرَعتُه، فقال: أبشِرْ يا بُنَيَّ، فإن الله قد جعَل رزقَك في قَذَّافتِك. ثم أتاه مرةً أخرى، فقال: يا أبتاه، لقد دخَلتُ بينَ الجبالِ، فوجَدتُ أسدًا رابِضًا، فركِبتُ عليه، فأخَذتُ بأُذُنَيه، فلم يَهِجْنى. فقال: أبشِرْ يا بُنَيَّ، فإن هذا خيرٌ يُعْطِيكَه اللهُ. ثم أتاه يومًا آخَرَ، فقال: يا أبَتاه، إنى لأمشى بينَ الجبالِ فأُسَبِّحُ، فما يبقَى جبلٌ إلا سَبَّح معى. فقال: أبشِرْ يا بُنَيَّ، فإن هذا خيرٌ أعطاكَهُ اللهُ. وكان داودُ راعِيًا، وكان أبوه خلَّفَه يأتى إليه وإلى إخوتِه بالطعامِ، فأتَى النبيُّ بقَرْنٍ فيه دُهْنٌ وثوبٍ

(1)

من حديدٍ، فبعَث به إلى طالوتَ، فقال: إن صاحِبَكم الذي يقتُلُ جالوتَ يُوضَعُ هذا القَرْنُ على رأسِه، فيَغْلى حتى يَدَّهِنَ منه، ولا يسيلُ على وجهِه، يكونُ على رأسِه كهيئةِ الإكليلِ، ويدخُلُ في هذا الثوبِ فيَمْلؤُه. فدَعَا طالوتُ بنى إسرائيلَ فجرَّبَهم، فلم يوافِقْه منهم أحدٌ، فلما فرَغوا قال طالوتُ لأبى داودَ: هل بَقِى لك من ولدٍ لم يَشْهَدْنا؟ قال: نعم، بَقِى ابنى داودُ، وهو يأتِينا بطعامٍ

(2)

. فلما أتاه داودُ، مَرَّ في الطريقِ بثلاثةِ أحجارٍ، فكَلَّمَنه وقُلْنَ له: خُذْنا يا داودُ تقتُلْ بنا جالوتَ، قال: فأخَذَهن فجَعَلهن في مِخْلاتِه. وكان طالوتُ قال: مَن قتَل جالوتَ زوَّجتُه ابنتى، وأجرَيتُ خاتمَه في مُلْكِى. فلما جاء داودُ وضَعوا القَرْنَ على رأسِه، فَغَلى حتى ادَّهَن منه، ولبِس الثوبَ فملأه، وكان رجلًا مِسْقامًا

(3)

مُصْفارًّا

(4)

، ولم يَلبَسْه أحدٌ إلا تَقَلْقَل فيه، فلما لَبِسه داودُ تَضايقَ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، وتاريخ المصنف، والكامل 1/ 220:"تنور". وكذا فيما سيأتي، والمثبت من المطبوعة، وهو موافق لما في تفسير ابن أبي حاتم والدر المنثور.

(2)

في م، وتفسير ابن أبي حاتم، والدر المنثور:"بطعامنا".

(3)

المسقام: السقيم، وقيل: الكثير السقم. اللسان (س ق م).

(4)

في م: "مصغارًا". والمُصْفارّ: من اصفارّ لونه.

ص: 507

الثوبُ عليه حتى تَنَقَّضَ

(1)

، ثم مشى إلى جالوتَ، وكان جالوتُ من أجسمِ الناس وأشَدِّهم

(2)

، فلما نظَر إلى داودَ قُذِف في قلبِه الرُّعْبُ منه، فقال له: يا فتى، ارجِعْ، فإنى أرحَمُك أن أقتُلَك. قال داودُ: لا، بل أنا أقتُلُك. فأخرَج الحجارةَ، فجعَلها في القَذَّافةِ، كلما رفَع حجرًا سمَّاه، فقال: هذا باسمِ أبى إبراهيمَ، والثانى باسمِ أبى إسحاقَ، والثالثُ باسمِ أبى إسرائيلَ. ثم أدار القَذَّافةَ، فعادَت الأحجارُ حَجَرًا واحدًا، ثم أرسَله فصَكَّ به بينَ عَيْنَى جالوتَ، فنَقَبت رأسَه فقتَله، ثم لم تَزَلْ تقتُلُ كلَّ إنسانٍ تُصِيبُه، تَنْفُذُ منه حتى لم يكُنْ بحيالِها أحدٌ، فهزَموهم عندَ ذلك، وقتَل داودُ جالوتَ، ورجَع طالوتُ، فأنكَح داودَ ابنتَه، وأجرَى خاتَمه في مُلْكِه، فمال الناسُ إلى داودَ فأحَبُّوه، فلما رأى ذلك طالوتُ وجَد في نفسِه وحسَده، فأراد قتْلَه، فعلِم به داودُ أنه يُريدُ به ذلك، فسَجَّى له زِقَّ

(3)

خَمرٍ في مَضْجَعِه، فدَخَل طالوتُ إلى منامِ داودَ وقد هرَب داودُ، فضرَب الزِّقَّ ضرْبةً فخرَقه، فسالَت الخمرُ منه، فوقَعَت قطرةٌ من خمرٍ في فِيه، فقال: يَرحَمُ اللَّهُ داودَ، ما كان أكثرَ شربِه للخمرِ! ثم إن داودَ أتاه من القابلةِ في بيتِه وهو نائمٌ، فوضَع سهمَين عندَ رأسِه، وعندَ رجلَيه وعن يمينِه وعن شمالِه سهمَين

(4)

، فلما استيقظ طالوتُ بَصُر بالسهامِ فعرَفها، فقال: يرحَمُ اللهُ داودَ، هو خيرٌ مِنِّي، ظَفِرتُ به فقتَلتُه، وظَفِر بى فكَفَّ عنى. ثم إنه ركِب يومًا فوجَده يمشى في البَرِّيَّةِ، وطالوتُ على فرسٍ، فقال طالوتُ: اليومَ أقتُلُ داودَ. وكان داودُ إذا فَزِع لا يُدرَكُ، فركَض على أثرِه طالوتُ، ففَزِع داودُ، فاشتدَّ، فدخَل غارًا، وأوحَى اللهُ إلى العنكبوتِ، فضرَبَت عليه بيتًا، فلما انتهى طالوتُ إلى الغارِ، نظَر إلى بناءِ العنكبوتِ،

(1)

التَّنقُّض: صوت التشقق والتكسر.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أشدهم".

(3)

الزق: كل وعاء اتخذ للشراب وغيره. تاج العروس (ز ق ق).

(4)

بعده في التاريخ: "سهمين ثم نزل".

ص: 508

فقال: لو كان دخَل

(1)

ههنا لخرَق بيتَ العنكبوتِ. فخُيِّل إليه فترَكَه

(2)

.

حدِّثتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: حدثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: ذُكِر لنا أن داودَ حينَ أتاهم كان قد جعَل معه مِخْلاةً فيها ثلاثةُ أحجارٍ، وأن جالوتَ برَز لهم فنادَى: ألا رجلٌ لرجلٍ؟ فقال طالوتُ: مَن يبرُزُ له، وإلا برَزتُ له؟ فقام داودُ فقال: أنا. فقال

(3)

له طالوتُ فشَدَّ عليه درعَه، فجعَل يراه يشخَصُ فيها ويرتفِعُ، فعجِب من ذلك طالوتُ، فشَدَّ عليه أداتَه كلَّها، وأن داودَ رماهم بحَجَرٍ من تلك الحجارةِ، فأصاب في القومِ، ثم رمَى الثانيةَ بحَجَرٍ، فأصاب فيهم، ثم رمَى الثالثةَ فقتَل جالوتَ، فآتاه اللهُ المُلْكَ والحكمةَ، وعلَّمه مما يشاءُ، وصار هو الرئيسَ عليهم، وأعطَوه الطاعةَ

(4)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: حدثني ابن زيدٍ، في قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فقَرأ حتى بلَغ: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . قال: أوحَى اللهُ إلى نبيِّهم أن في ولدِ فلانٍ رجلًا يَقتُلُ اللهُ به جالوتَ، ومن علامتِه هذا القَرْنُ، تَضَعُه على رأسِه فيَفِيضُ ماءً. فأتاه فقال: إن الله أو حَى إليَّ أنَّ في ولدِك

(5)

رجلًا يقتُلُ اللهُ به جالوتَ. فقال: نعم يا نبيَّ اللهِ. قال: فأخرَج له اثنى عشَرَ رجلًا أمثالَ السَّوارى،

(1)

في ص، س، ت 1:"رجل".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 472 - 475، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 478 (2530) من طريق عمرو به إلى قوله: وأجرى خاتمه في ملكه. وينظر الكامل لابن الأثير 1/ 220، والدر المنثور 1/ 319.

(3)

في م: "فقام". وقال ابن الأثير: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان. النهاية 4/ 124.

(4)

أخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 480 (2534) من طريق ابن أبي جعفر به مختصرًا.

(5)

في م: "ولد فلان".

ص: 509

وفيهم رجلٌ بارعٌ

(1)

عليهم، فجَعَل يَعْرِضُهم على القَرْنِ فلا يَرى شيئًا، فيقولُ لذلك الجَسيمٍ: ارجِعْ. فيُردِّدُه عليه. فأوحَى اللهُ إليه: إنا لا نأخُذُ الرجالَ على صُوَرِهم، ولكنًّا نأخُذُهم على صَلاحِ قلوبِهم. قال: يا ربِّ، قد زعَم أنه ليس له ولدٌ غيرُه. فقال: كذَب. فقال: إن ربى قد كذَّبَك، وقال: إن لك ولدًا غيرَهم. فقال: قد صدَق يا نبيَّ اللهِ، لى ولدٌ قصيرٌ، استَحْييتُ أن يَراه الناسُ، فجعَلتُه في الغنمِ. قال: فأين هو؟ قال: في شِعْبِ كذا وكذا، من جبل كذا وكذا. فخرَج إليه، فوجَد الوادىَ قد سال بينَه وبينَ البقعةِ

(2)

التي كان يُرِيحُ

(3)

إليها، قال: وَوَجَده يحمِلُ شاتَيْنِ شاتَين

(4)

يُجِيزُ بهما، ولا يخوضُ بهما السَّيلَ، فلما رآه قال: هذا هو لا شكَّ فيه، هذا يرحَمُ البهائمَ، فهو بالناسِ أرحمُ. قال: فوضَع القرنَ على رأسِه ففاض. فقال له: ابنَ أخى، هل رأيتَ ههنا من شيءٍ يُعْجِبُك؟ قال: نعم، إذا سبَّحتُ سبَّحَت معى الجبالُ، وإذا أتَى النَّمِرُ أو الذئبُ أو السَّبُعُ أخَذ شاةً، قُمْتُ إليه، فأفتَحُ لَحْيَيه عنها، فلا يَهِيجُنى. قال: وألفَى معه صُفْنَه

(5)

. قال: فمر بثلاثةِ أحجارٍ يَنْتَزى

(6)

بعضُها على بعضٍ، كلُّ واحدٍ منها يقولُ: أنا الذي يأخُذُ. ويقولُ هذا: لا، بل إياى يأخُذُ. ويقولُ الآخرُ مثلَ ذلك. قال: فأخَذهنَّ جميعًا، فطَرَحهن

(7)

في صُفْنِه، فلما جاء مع النبيِّ عليه السلام وخرَجوا، قال لهم نبيُّهم:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} . فكان من

(1)

بارع: تم في كل فضيلة وجمال وفاق أصحابه في العلم وغيره. اللسان (ب ر ع).

(2)

سقط من النسخ. والمثبت من تاريخ المصنف.

(3)

الإراحة: رد الإبل والغنم من العشى إلى مُرَاحها، والمراح: المناخ والمأوى. تاج العروس (ر و ح).

(4)

سقط من النسخ. والمثبت من تاريخ المصنف.

(5)

الصفن: خريطة يكون للراعى فيها طعامه وزناده وما يحتاج إليه. اللسان (ص ف ن).

(6)

في م: "يأثر"، وفى س:"يدير". ورسمت في بقية النسخ كما أثبتناها إلا أنها غير منقوطة، وينتزى: يثب. وقد تكون ينبرى، من: انبرى؛ إذا عرض له.

(7)

في س: "فوضعهن".

ص: 510

قصةِ نبيِّهم وقصتِهم ما ذكَر اللهُ في كتابِه. وقرَأ حتى بلَغ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . قال: واجتَمع أمرُهم وكانوا جميعًا. وقرَأ: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . وبرَز جالوتُ على بِرْذَونٍ له أبْلَقَ، في يدِه قوسُ

(1)

نُشَّابٍ، فقال: مَن يَبْرُزُ؟ أبْرِزوا إليَّ رأسَكم. قال: ففَظِع به طالوتُ. قال: فالتَفَت إلى أصحابِه فقال: مَن رجلٌ يكفِينى اليومَ جالوتَ؟ فقال داودُ: أنا. فقال: تعال. قال: فنزَع دِرْعًا له، فألبَسه إياها. قال: ونفَخ اللهُ من

(2)

روحِه فيه حتى ملأه، قال: فرمَى بنُشَّابَةٍ فوضَعها في الدِّرعِ. قال: فكسَرها داودُ ولم تَضُرَّه شيئًا، ثلاثَ مراتٍ، ثم قال له: خُذِ الآنَ. فقال داودُ: اللهمَّ اجعَلْه حجرًا واحدًا. قال: وسَمَّى واحدًا إبراهيمَ، وآخرَ إسحاقَ، وآخَرَ يعقوبَ. قال: فجَمَعهنَّ جميعًا فكُنَّ حجرًا واحدًا. قال: فأخَذَهنَّ، وأخَذ مِقْلاعًا، فأدارَها ليَرمىَ بها، فقال: أتَرْمِينى كما يُرْمَى السَّبُعُ والذئبُ؟ ارْمِنى بالقوسِ. فقال: لا أرْمِيك اليومَ إلا بها. فقال له مثلَ ذلك أيضًا، فقال: نعم، وأنت أهونُ عليَّ من الذئب. فأدارها وفيها أمرُ اللهِ وسلطانُ اللَّهِ. قال: فخَلَّى سبيلَها مأمورةً، قال: فجاءت مُظِلَّةً

(3)

، فضرَبت بينَ عينَيه حتى خرَجت من قَفاه، ثم قتَلَت من أصحابِه وراءَه كذا وكذا، وهزَمهم اللهُ

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: لما قطَعوا ذلك يعنى النهرَ الذي قال اللهُ فيه مُخْبِرًا عن قِيلِ طالوتَ لجنودِه

(5)

: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} . وجاء جالوتُ، وشقَّ على طالوتَ قِتالُه، فقال طالوتُ

(1)

بعده في م، س:"و".

(2)

في س: "فيه".

(3)

مظلة: مقبلة دانية.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 476 مختصرا.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بجنوده"، وفى س:"وجنوده".

ص: 511

للناسِ: لو أن جالوتَ قُتِل أعطَيتُ الذي يقتُلُه نِصْفَ مُلْكى، وناصَفتُه كلَّ شيءٍ أملِكُه. فبعَث اللهُ داودَ، وداودُ يومَئذٍ في الجبلِ رَاعِى غنمٍ، وقد غَزا مع طالوتَ تسعةُ إخوةٍ لداودَ، وهم أبدُّ

(1)

منه، وأغْنى

(2)

منه، وأعرَفُ في الناسِ منه، وأوْجَهُ عندَ طالوتَ منه، فغزوا

(3)

وترَكوه في غنمِهم، فقال داودُ حينَ ألقَى اللَّهُ في نفسِه ما ألقَى وأكرَمه: لأستَودِعنَّ ربِّي غَنمى اليومَ، ولآتينَّ الناسَ، فلأنظُرَنَّ ما الذي بلَغنى من قولِ المَلِكِ لَمن قتَل جالوتَ. فأتَى داودُ إخوتَه، فلامُوه حين أتاهم، فقالوا: لِمَ جئتَ؟ قال: لأقتُلَ جالوتَ، فإن

(4)

الله قادرٌ أن أقتُلَه. فسَخِروا منه، قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ: كان بعَث أبو داودَ مع داودَ بشيءٍ إلى إخوتِه، فأخَذ مِخْلاةً، فجعَل فيها ثلاثَ مَرَواتٍ، ثم سمَّاهن إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ. قال ابن جريجٍ: قالوا: وهو ضعيفٌ رثُّ الحالِ. فمَرَّ بثلاثةِ أحجارٍ فقُلْنَ له: خُذْنا يا داودُ فقاتِلْ بنا جالوتَ. فأخَذهنَّ داودُ وألْقاهُنَّ في مِخْلاتِه، فلما ألْقاهُنَّ سمِع حجرًا منهنَّ يقولُ لصاحبِه: أنا حجرُ هارونَ الذي قتَل بى مَلِكَ كذا وكذا. وقال الثاني: أنا حجرُ موسى الذي قتَل بى مَلِكَ كذا وكذا. وقال الثالثُ: أنا حجرُ داودَ الذي أقتُلُ جالوتَ. فقال الحجران: يا حجرَ داودَ، نحن أعوانٌ لك. فصِرْنَ حجرًا واحدًا. وقال الحجرُ: يا داودُ، اقذِفْ بى، فإنى سأستَعينُ بالريحِ - وكانت بَيضتُه فيما يقولون واللهُ أعلمُ فيها ستُّمائةِ رَطْلٍ - فأقَع في رأسِ جالوتَ فأقتُلُه - قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: سَمَّى واحدًا إبراهيمَ، والآخرَ إسحاقَ، والآخرَ يعقوبَ. وقال: باسمِ إلهى وإلهِ آبائى إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، وجعَلهنَّ في مِرْجَمتِه. قال ابن جريجٍ: فانطلَق حتى نفَذ إلى طالوتَ، فقال: إنك قد

(1)

في م، ت 2:"أند"، وفى س:"أشد". والأبد: العظيم الخلق المتباعد بعضه من بعض. التاج (ب د د).

(2)

في م: "أعتى".

(3)

في م: "فغزا".

(4)

في ص، ت 2، س:"قال".

ص: 512

جعَلت لمَن قتلَ جالوت نصفَ مُلْكِك، ونصفَ كلِّ شيءٍ تَملِكُه، أفَلِى ذلك إن قتَلتُه؟ قال: نعم. والناسُ يستهزئون بداودَ، وإخوةُ داودُ أشدُّ مَن هنالك عليه، وكان طالوتُ لا يَنتَدِبُ إليه أحدٌ زعَم أنه يقتُلُ جالوتَ إلا ألبَسه دِرْعًا عندَه، فإذا لم تكنْ قَدْرًا عليه نزَعها عنه، وكانت دِرْعًا سابِغةً من دورعِ طالوتَ، فألبَسها داودَ، فلما رأى قَدْرَها عليه أمَره أن يتقدَّمَ، فتقدَّم داودُ، فقام مَقامًا لا يقومُ فيه أحدٌ، وعليه الدِّرْعُ، فقال له جالوتُ: وَيُحك، مَن أنتَ؟ إنى أرحَمُك، ليَتقدَّمْ إليَّ غيرُك من هذه الملوكِ، أنتَ إنسانٌ ضعيفٌ مسكينٌ، فارجِعْ. فقال داودُ: أنا الذي أقتُلُك بإذنِ اللَّهِ، ولن أرجِعَ حتى أقتُلَك. فلما أبَى داودُ إلا قتالَه، تقدَّم جالوتُ إليه ليأخُذه بيدِه مُقْتدِرًا عليه، فأخرَج الحجَرَ من المِخْلاةِ، فدَعا ربَّه، ورَماه بالحجرِ، فألقَت الريحُ بَيضتَه عن رأسِه، فوقَع الحجرُ في رأسِ جالوتَ حتى دخَل في جوفِه، فقتَله. قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: لمَّا رمَى جالوتَ بالحجَرِ، خرَق ثلاثًا وثلاثين بيضةً عن رأسِه، وقتَلَت من ورائِه ثلاثين ألفًا. قال اللهُ تعالى:{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} . فقال داودُ لطالوتَ: وفِّ لى بما جعلْتَ. فأبَى طالوتُ أن يُعطِيَه ذلك، فانطلَق داودُ فسكَن مدينةً من مدائنِ بنى إسرائيلَ، حتى مات طالوتُ، فلما مات عمَد بنو إسرائيلَ إلى داودَ، فجاءوا به، فمَلَّكوه وأعطَوه خزائنَ طالوتَ، وقالوا: لم يقتُلْ جالوتَ إلا نبيٌّ. قال اللهُ: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: وأعطَى اللَّهُ داودَ المُلْكَ والحكمةَ، وعلَّمه مما يشاءُ. والهاءُ في قولِه:{وَآتَاهُ اللَّهُ} . عائدةٌ على داودَ. والمُلْكُ السلطانُ، والحكمةُ النبوَّةُ.

ص: 513

وقولُه: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} . يعنى: عَلَّمه صَنعةَ الدروعِ والتقديرَ في السَّرْدِ، كما قال اللهُ تعالى ذكرُه: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لكُمْ لِتُحْصِنَكُم

(1)

مِنْ بَأْسِكُمْ) [الأنبياء: 80].

وقد قيل: إن معنى قولِه: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} . أن اللَّهَ آتَى داودَ مُلْكَ طالوتَ، ونبوَّةَ أشمويلَ

(2)

.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: مُلِّك داودُ بعدَ ما قُتِل طالوتُ، وجعَله اللهُ نبيًّا، وذلك قولُه:{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} . قال: الحكمةُ هي النبوَّةُ، آتاه نبوَّةَ شَمعونَ

(3)

ومُلْكَ طالوتَ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: ولولا أن الله يدفَعُ ببعضِ الناسِ - وهم أهلُ الطاعةِ له والإيمانِ به - بعضًا - وهم أهلُ المعصيةِ للهِ والشركِ به - كما دفَع عن المتخلِّفين عن طالوتَ يومَ جالوتَ من أهلِ الكفرِ باللهِ والمعصيةِ له، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً من بَعْثةِ مَلِكٍ عليهم؛ ليجاهِدوا معه في سبيلِه، بمَن جاهَد معه من أهلِ الإيمانِ باللهِ واليقينِ والصبرِ، جالوتَ وجنودَه {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}. يعنى: لهلَك

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ليحصنكم". وهما قراءتان، كما سيأتي في موضعه من التفسير.

(2)

في ص: "سمويل"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"شمويل".

(3)

في ص: "سمعون".

(4)

جزء من الأثر المتقدم في ص 441، 442، وأخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 480 (2533) من طريق عمرو به.

ص: 514

أهلُها بعقوبةِ اللَّهِ إيَّاهم، ففَسَدَت بذلك الأرضُ، ولكنَّ اللَّهَ ذو مَنٍّ على خلقِه، وتَطوُّلٍ عليهم؛ بدفْعِه بالبَرِّ من خلقِه عن الفاجرِ، وبالمطيعِ عن العاصى منهم، وبالمؤمنِ عن الكافرِ.

وهذه الآيةُ إعلامٌ من اللهِ تعالى ذكرُه أهلَ النِّفاقِ الذين كانوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المتخلِّفين عن مَشاهدِه والجهادِ معه؛ للشَّكِّ الذي في نفوسِهم ومرضِ قلوبِهم، والمشركين وأهلَ الكفرِ منهم، وأنه إنما يدفَعُ عنهم مُعاجَلَتهم العقوبةَ على كفرِهم ونِفاقِهم بإيمانِ المؤمنين به وبرسولِه، الذين هم أهلُ البصائرِ والجدِّ في أمرِ اللهِ، وذَوو اليقينِ بإنجازِ اللهِ إيَّاهم وعدَه على جهادِ أعدائِه وأعداءِ رسولِه، من النصرِ في العاجلِ، والفوزِ [بجنانِه في الآخرِ]

(1)

.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} . يقولُ: ولولا دفْعُ اللهِ بالبَرِّ

(2)

عن الفاجرِ، ودفعُه ببقيةِ أخلافِ

(3)

الناسِ بعضَهم عن بعضٍ، لفسَدَت الأرضُ بهَلاكِ أهلِها

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بجناته في الآخرة".

(2)

في م: "بالبار".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أخلاق".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 480، 481 (2538، 2541) من طريق ابن أبي نجيح به.

ص: 515

مجاهدٍ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} . يقولُ: ولولا دفاعُ اللَّهِ بالبَرِّ عن الفاجرِ، وببَقِيةِ أخلافِ

(1)

الناسِ بعضَهم عن بعضٍ، لهَلَك أهلُها

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن حَنْظلةَ، عن أبي مسلمٍ، قال: سمِعتُ عليًّا يقولُ: لولا بَقِيةٌ من المسلمين فيكم لهلَكْتُم

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ في قولِه:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} . يقولُ: لهَلَك مَن في الأرضِ

(4)

.

حدَّثنا أبو حُمَيدٍ الحِمْصيُّ أحمدُ بنُ المُغيرةِ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ سليمانَ، عن محمدِ بن سُوقةَ، عن وَبَرةَ بن عبدِ الرحمنِ، عن ابن عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بالمسلمِ الصالحِ عن مائةِ أهلِ بيتٍ مِن جيرانِه البلاءَ". ثم قرَأ ابن عمرَ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}

(5)

.

حدَّثني أحمدُ أبو

(6)

حُمَيدٍ الحِمْصيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عثمانُ بن عبدِ الرحمنِ، عن محمدِ بن المُنْكَدِرِ، عن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ، قال: قال رسولُ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أخلاق".

(2)

تفسير مجاهد ص 242 مقتصرا على قوله: لهلك أهلها.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 320 إلى المصنف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 481 عقب الأثر (2541) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

أخرجه العقيلى في الضعفاء 4/ 403، 404 (2026)، والطبرانى في الأوسط (4080)، والبغوى في تفسيره 1/ 308 كلهم من طريق أبى حميد الحمصى به، وأخرجه ابن عدى في الكامل 2/ 790 من طريق يحيى بن سعيد به.

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بن".

ص: 516

اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لَيُصلِحُ بصَلاحِ الرجلِ المسلمِ ولدَه، وولدَ ولدِه، وأهلَ دُوَيْرَتِه، ودُوَيْراتٍ حولَه، ولا يَزالون في حِفْظِ اللهِ ما دامَ فيهم

(1)

".

وقد دلَّلنا على قولِه: {الْعَالَمِينَ} . وذكَرنا الروايةَ فيه

(2)

.

وأما القرأةُ فإنها اختَلَفت في قراءةِ قولِه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} . فقرَأته جماعةٌ من القرأةِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ} . على وجهِ المصدرِ، من قولِ القائلِ: دفَع اللهُ عن خلقِه، فهو يدفَعُ دفْعًا. واحتَجَّت لاختيارِها ذلك بأن الله تعالى ذكرُه هو المُنْفَرِدُ

(3)

بالدَّفْعِ عن خلقِه، ولا أحدَ يُدافِعُه فيُغالِبَه.

وقرَأت ذلك جماعةٌ أُخَرُ من القرأةِ: (ولولا دفاعُ اللهِ الناسَ)

(4)

على وجهِ المصدرِ، من قولِ القائلِ: دافَع اللهُ عن خلقِه، فهو يُدافِعُ مُدافعةً ودِفاعًا. واحتَجَّت لاختيارِها ذلك بأن كثيرًا من خلْقِه يُعادُون أهلَ دينِ اللهِ وولايتِه والمؤمنين به، فهم بمُحاربتِهم إيَّاهم

(5)

ومُعاداتِهم لهم، للهِ مُدافِعون بظنونِهم

(6)

، ومُغالِبون

(7)

بجَهْلِهم، واللَّهُ مُدافِعُهم عن أوليائِه وأهلِ طاعتِه والإيمانِ به.

والقولُ في ذلك عندى أنهما قراءتان قد قرَأَت بهما القرَأةُ، وجاءت بهما جماعةُ الأمةِ، وليس في القراءةِ بأحدِ الحرفَين إحالةُ معنَى الآخرِ؛ وذلك أن من دافَع

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 448 عن المصنف، وأخرجه ابن المبارك في الزهد ص (330)، والحميدى (373)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 148 من قول محمد بن المنكدر.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 62 - 64.

(3)

في م: "المتفرد".

(4)

وهذه قراءة نافع من السبعة وأبى جعفر، وقرأ الباقون بالوجه الأول. ينظر حجة القراءات ص 140، والنشر 2/ 220.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إياه".

(6)

في م: "بباطلهم".

(7)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مغالبوه".

ص: 517

غيرَه عن شيءٍ، [فمُدافِعُه عنه]

(1)

بشيءٍ دافعٌ، ومتى امتَنَع المدفوعُ من الاندفاعِ، فهو لدافِعه

(2)

مُدافِعٌ، ولا شكَّ أن جالوتَ وجنودَه كانوا بقتالِهم

(3)

طالوتَ وجنودَه، مُحاولِين مغالبةَ حزبِ اللهِ وجندِه، وكان في مُحاولتِهم ذلك محاولةُ مغالبةِ اللَّهِ ودفاعِه، عما قد تَضمَّن لهم من النُّصْرةِ، وذلك هو معنى مُدافعةِ اللَّهِ عن الذين دافَع اللهُ عنهم بمَن قاتَل جالوتَ وجنودَه من أوليائِه.

فبيِّنٌ

(4)

إذن أن سواءً قراءةُ مَن قرَأ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} . وقراءةُ مَن قرَأ: (ولولا دفاعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ). في التأويلِ والمعنى.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} : هذه الآياتُ التي اقتَصَّ اللهُ فيها أمْرَ الذين خرَجوا من ديارِهم وهم ألوفٌ حذرَ الموتِ، وأمْرَ الملأ من بنى إسرائيلَ من بعدِ موسى الذين سألوا نبيَّهم أن يبعَثَ لهم طالوتَ مَلِكًا، وما بعدَها من الآياتِ إلى قولِه: {[وَلَكِنَّ اللَّهَ]

(5)

ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.

ويعنى بقولِه: {آيَاتُ اللَّهِ} : حُجَجُه وأعلامُه وأدِلَّتُه.

يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه: فهذه الحُجَجُ التي أخبرْتُك بها يا محمدُ وأعلَمتُك -

(1)

في ص، ت 2، ت 3، س:"فدافعه عنه ليس".

(2)

في م: "لمدافعه".

(3)

في س: "يقاتلهم".

(4)

في م: "فتبين".

(5)

سقط من: س، وفى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"والله".

ص: 518

من قُدْرتى على إماتةِ مَن هرَب من الموتِ في ساعةٍ واحدةٍ وهم ألوفٌ، وإحيائى إياهم بعدَ ذلك، وتَمْليكى طالوتَ أمرَ بنى إسرائيلَ، بعد إذ كان سقَّاءً أو دَبَّاغًا من غيرِ أهلِ بيتِ المملكةِ، وسلبى ذلك إياه بمعصيته أمْرى، وصَرْفى مُلْكَه إلى داودَ لطاعتِه إياىَ، ونُصْرَتى أصحابَ طالوتَ مع قِلَّةِ عددِهم وضَعفِ شوكتِهم، على جالوتَ وجندِه مع كثرةِ عددِهم وشدةِ بَطشِهم - حُجَجى

(1)

على مَن جَحَد نِعْمَتى، وخالَف أمرى، وكفَر برسولى من أهلِ الكتابَين التوراةِ والإنجيلِ، العالمين بما اقتَصَصْتُ عليك من الأنباءِ الخَفيَّةِ، التي يعلَمون أنها من عندى لم تَتَخرَّصْها، ولم تَتقوَّلْها أنت يا محمدُ؛ لأنك أُمِّيٌّ ولستَ ممن قرَأ الكتبَ فيَلْتبِسَ عليهم أمرُك ويَدَّعوا أنك قرأتَ ذلك فعَلِمتَه من بعضِ أسفارِهم، ولكنه حُجَجى عليهم أتلُوها عليك يا محمدُ بالحقِّ اليقينِ كما كان، لا زيادةَ فيه ولا تحريفَ، ولا تغييرَ شيءٍ منه عما كان، {وَإِنَّكَ} يا محمدُ {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. يقولُ: إنك لَمُرسلٌ مُتَّبِعٌ في طاعتى وإيثارِ مَرْضاتى على هَواك، فسَالكٌ في ذلك من أمرِك سبيلَ مَن قبلَكَ من رُسلى الذين أقاموا على أمرى، وآثَروا رِضاى على هواهم، ولم تُغَيِّرْهم الأهواءُ ومَطامعُ الدنيا، كما غيَّر طالوتَ هواه وإيثارُه مُلْكَه على ما عندى لأهلِ وِلايتى، ولكنَّك مُؤثِرٌ أمرى كما آثَره المُرسلون الذين قبلَك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {تِلْكَ الرُّسُلُ} . الذين قصَّ اللهُ قَصَصَهم في هذه السورةِ؛ كموسى بن عِمرانَ، وإبراهيمَ، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ،

(1)

في م: "حجج".

ص: 519

وشمويلَ، وداودَ، وسائر مَن ذكَر نبأَهم في هذه السورةِ. يقولُ تعالى ذِكرُه: هؤلاءِ رسُلى فَضَّلْتُ بعضَهم على بعضٍ، فكَلَّمْتُ بعضَهم، والذي كَلَّمْتُه منهم موسى عليه السلام، ورفَعْتُ بعضَهم درجاتٍ على بعضٍ، بالكرامةِ ورفعةِ المنزلةِ.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . قال: يقولُ: منهم من كلَّم اللهُ، ورفَع بعضَهم على بعضٍ درجاتٍ. يقولُ: كلَّم اللهُ موسى، وأرسل محمدًا إلى الناسِ كافّةً

(1)

.

حدَّثني المثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

ومما يدلُّ على صحةِ ما قلْنا في ذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُعْطيتُ خمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبلى؛ بُعِثْتُ إلى الأحمرِ والأسودِ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ؛ فإِنَّ العَدُوَّ لَيُرْعَبُ مِنى على مَسيرةِ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لىَ الأرضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأُحِلَّتْ لىَ الغَنائمُ، ولم تَحِلَّ لأحدٍ كان قَبْلى، وقيل لى: سَلْ تُعْطَه. فاخْتبَأتُها شفَاعَةً لأُمَّتِى، فهى نائلَةٌ مِنكم إن شاء اللَّهُ مَن لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا"

(2)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 242، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 483 (2553)، والبيهقى في الأسماء والصفات (419)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 322 إلى عبد بن حميد وآدم بن أبى إياس.

(2)

أخرجه بهذا اللفظ - مع تقديم وتأخير في بعض الروايات - أحمد في المسند 5/ 148، 161، 162 =

ص: 520

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} : وآتيْنا عيسى ابنَ مريمَ الحُججَ والأدلةَ على نبوتِه؛ من إبراءِ الأَكْمَةِ والأَبْرصِ، وإحياءِ الموتى، وما أشبهَ ذلك، مع الإنجيلِ الذي أنزَلْتُه إليه، فبَيَّنْتُ فيه ما فرَضْتُ عليه.

ويعنِى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَأَيَّدْنَاهُ} : وقوَّيْناه وأعنَاه. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعنى: برُوحِ اللهِ، وهو جِبريلُ.

وقد ذكرْنا اختلافَ أهلِ العلمِ في معنى "رُوحِ القُدُسِ"، والذي هو أوْلَى بالصوابِ من القولِ في ذلك فيما مضى قبلُ، فأَغنى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: ولو أراد اللهُ ما اقْتَتل الذين من بعدِهم

(2)

. يعنى: من بعدِ الرسلِ الذين وصفَهم بأنه فَضَّل بعضَهم على بعضٍ، ورفَع بعضَهم درجاتٍ، وبعدِ عيسى ابن مريمَ، وقد جاءهم من الآياتِ بما فيه مُزْدَجَرٌ لمن هداه اللهُ ووفَّقَه.

ويَعنى بقولِه: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . يعنى: من بعدِ ما جاءَهم مِن

= (الميمنية)، والبزار (3461 - كشف)، وابن حبان (6462) من حديث أبى ذر.

وأصله عند البخارى (335)، ومسلم (521). من حديث جابر.

(1)

ينظر ما تقدم في 2/ 221 وما بعدها.

(2)

بعده في م، س:"من بعد ما جاءتهم البينات".

ص: 521

آياتِ اللَّهِ ما أبانَ لهم الحقَّ، وأَوضحَ لهم السبيلَ.

وقد قيل: إن الهاءَ والميمَ في قولِه: {مِنْ بَعْدِهِمْ} . من ذكرِ موسى وعيسى.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يقولُ: من بعدِ موسى وعيسى

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . يقولُ: من بعدِ موسى وعيسى

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: ولكنِ اختلَف هؤلاءِ الذين مِن بعدِ الرسلِ لَمَّا لم يشأ اللهُ مِنهم تعالى ذكرُه ألَّا يَقْتَتِلُوا، فاقْتَتَلُوا من بعدِ ما جاءتْهم البَيِّنَاتُ من عندِ ربِّهم، بتحريمِ الاقتتالِ والاختلافِ، وبعدِ ثبوتِ الحُجّةِ عليهم بوَحْدانيةِ اللهِ ورسالةِ رسلِه ووَحْي كتابِه، فكفَر باللهِ وبآياتِه بعضُهم، وآمَن بذلك بعضُهم. فأخبَر تعالى ذكرُه

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 322، إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 485 (2562) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 522

أنهم [أَتَوْا ما أَتَوْا]

(1)

من الكفرِ والمعاصى بعدَ علمِهم بقيامِ الحجةِ عليهم بأنَّهم على خطأ، تَعَمُّدًا منهم للكفرِ باللهِ وآياتِه. ثم قال تعالى ذكرُه لعبادِه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} . يقولُ: ولو أراد اللهُ أن يَحْجُرَهم بعِصْمَتِه وتوفيقِه إيَّاهم عن معصيتِه فلا يَقْتَتِلُوا، ما اقْتَتَلُوا ولا اختلَفوا، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} بأن يُوَفِّقَ هذا لطاعتِه والإيمانِ به، فيُؤْمِنَ به ويُطِيعَه، ويَخْذُلَ هذا فيَكْفُرَ به ويَعْصِيَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: يأيُّها الذين آمنوا أنفِقوا في سبيلِ اللهِ مما رزَقْناكم من أموالِكم، وتصَدَّقُوا منها، وآتُوا منها الحقوقَ التي فَرَضْناها عليكم.

وكذلك كان ابن جُريجٍ يقولُ فيما بلَغنا عنه

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريج قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} . قال: من الزكاةِ والتَّطَوُّعِ

(3)

.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} يقولُ: ادَّخِروا لأنفسِكم عندَ اللهِ في دنياكم من أموالِكم؛ بالنفقةِ منها في سبيلِ اللهِ، والصدقةِ على أهلِ المَسْكنةِ والحاجةِ، وإيتاءِ ما فرَض اللهُ عليكم فيها، وابْتاعُوا بها ما عندَه مما أعدَّه لأوليائِه من الكرامةِ، بتقديمِ ذلك لأنفسِكم، ما دام لكم السبيلُ إلى ابْتياعِه، بما نَدَبْتُكم إليه وأمَرْتُكم به من النفقةِ من أموالِكم، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ}

(1)

في ص، ت 2، س:"أتوا ما أنزل"، وفى ت 1:"أبوا ما أنزل".

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2:"يقول".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 322، إلى المصنف وابن المنذر.

ص: 523

يعني: من قبلِ مجيءِ يومٍ {لَا بَيْعٌ فِيهِ} . يقول: لا تَقْدِرون فيه على ابْتِياعِ ما كنتم على ابْتياعِه بالنفقةِ من أموالِكم التي أمَرْتُكم بها

(1)

و

(2)

نَدَبْتُكم إليها

(3)

في الدنيا قادِرين؛ لأنه يومُ جزاءٍ وثوابٍ وعِقابٍ، لا يومُ عملٍ واكتسابٍ وطاعةٍ ومعصيةٍ، فيكونَ لهم إلى ابْتِياعِ منازلِ أهلِ الكرامةِ بالنفقةِ حينَئذٍ، أو بالعملِ بطاعةِ اللهِ، سبيلٌ.

ثم أَعلَمهم تعالى ذِكرُه أن ذلك اليومَ - مع ارتفاع العملِ الذي يُنالُ به رضا اللهِ، أو الوصولُ إلى كرامتِه بالنفقةِ من الأموالِ، إذ كان لا مالَ هنالك يمكنُ إدراكُ ذلك به - يومٌ لا مُخالَّةَ فيه نافعةٌ، كما كانت في الدنيا، فإن خليلَ الرجل في الدنيا قد كان يَنْفَعُه فيها بالنُّصْرةِ له على من حاولَه بمكروهٍ وأرادَه بسُوءٍ، والمظاهرةِ له على ذلك. فآيَسَهم تعالى ذكرُه أيضًا من ذلك؛ لأنه لا أحدَ يومَ القيامةِ يَنْصُرُ أحدًا من اللهِ، بل الأَخِلَّاءُ بعضُهم لبعضٍ عدوٌّ إلا المُتَّقِين، كما قال اللهُ تعالى ذكرُه

(4)

. وأخبرَهم أيضًا أنهم يومئذٍ - مع فقدِهم السبيلَ إلى ابتْياعِ ما كان لهم إلى ابْتياعِه سبيلٌ في الدنيا بالنفقةِ من أموالِهم والعملِ بأبدانِهم، وعَدَمِهم النُّصَراءَ من الخُلّانِ، والظُّهَراءَ من الإخوانِ - لا شافعَ لهم يَشْفَعُ عند اللهِ، كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضُهم يَشْفَعُ في الدنيا لبعضٍ بالقرابةِ والجِوارِ والخُلّةِ، وغير ذلك من الأسبابِ، فبطَل ذلك كلُّه يومئذٍ، كما أخبَرَ تعالى ذكرُه عن قيلِ أعدائِه من أهلِ الجحيمِ في الآخرةِ إذا صارُوا فيها:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101].

وهذه الآيةُ مَخْرَجُها في الشفاعةِ عامٌّ، والمرادُ بها خاصٌّ، وإنما معناه: من قبْلِ أن يَأْتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلّةٌ، ولا شفاعةٌ لأهلِ الكفرِ باللهِ؛ لأنَّ أهلَ وِلايةِ اللهِ والإيمانِ به

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".

(2)

في م: "أو".

(3)

في النسخ: "إليه".

(4)

يشير إلى الآية (67) من سورة الزخرف.

ص: 524

يَشْفَعُ بعضُهم لبعضٍ. وقد بَيَّنَّا صحةَ ذلك بما أَغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

وكان قتادةُ يقولُ في ذلك بما حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} : قد عَلِمَ اللهُ أن ناسًا يَتحابُّون في الدنيا، ويَشْفَعُ بعضُهم لبعضٍ، فأمّا يومُ القيامةِ فلا خُلَّةَ إِلا خُلَّةَ المتقين

(2)

.

وأما قولُه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . فإنه يعنى تعالى ذكره بذلك: والجاحِدون للهِ المُكَذِّبُون به وبرسلِه {هُمُ الظَّالِمُونَ} ، يقولُ: هم الواضِعون جُحودَهم في غيرِ مَوْضِعِه، والفاعلُون غير ما لهم فعلُه، والقائلون ما ليس لهم قولُه.

وقد دلَّلْنا على معنى الظلمِ بشواهدِه فيما مضَى قبلُ بما أَغنَى عن إعادتِه

(3)

.

وفي قولِه تعالى ذكرُه في هذا الموضعِ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . دَلالةٌ واضحةٌ على صحةِ ما قلْناه، وأن قولَه: وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}. إنما هو مرادٌ به أهلُ الكفرِ، فلذلك أتْبَعَ قولَه ذلك:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . فدلَّ بذلك على أن معنى ذلك: حَرَمْنا الكفّارَ النُّصْرَةَ من الأخِلَّاءِ، والشَّفاعةَ مِن الأولياءِ والأقرباءِ، ولم نكنْ لهم في فعلِنا ذلك بهم ظالمِين، إذ كان ذلك جزاءً منَّا لما سلَف منهم من الكفر باللهِ في الدنيا، بل الكافرون هم الظالِمُون أَنفسَهم، بما أَتَوْا مِن الأفعالِ التي أَوجبوا لها العقوبةَ من ربِّهم.

فإن قال قائلٌ: وكيف صرَف الوعيدَ إلى الكفارِ والآيةُ مبتدَأةٌ بذكرِ أهلِ

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 632.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 485 (2565)، من طريق يزيد بن زريع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 322 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 559، 560.

ص: 525

الإيمانِ؟

قيل له: إنَّ الآية قد تقدَّمها ذِكرُ صِنْفَين من الناسِ؛ أحدُهما أهلُ كفرٍ، والآخرُ أهلُ إيمانٍ، وذلك قولُه:{وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} . ثم عقَّبَ اللهُ تعالى ذكرُه الصِّنْفَين بما ذكَرهم به، بحَضِّ

(1)

أهلِ الإيمانِ به على ما يُقَرِّبُهم إليه من النفقةِ في طاعتِه، وفى جهادِ أعدائِه من أهلِ الكفرِ به، قبلَ مجيءِ اليومِ الذي وصَف صِفَتَه، وأخبرَ فيه عن حالِ أعدائِه من أهلِ الكفرِ به، إذ كان قتالُ أهلِ الكفرِ به في مَعْصِيَتِه، ونفقتُهم في الصدِّ عن سبيلِه، فقال تعالى ذكرُه: يأيها الذين آمَنوا أنفِقوا أنتم مما رَزَقْناكم في طاعتي، إذ كان أهلُ الكفرِ بي يُنْفِقُون في مَعْصِيَتِى من قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه، فَيُدْرِكَ أهلُ الكفرِ فيه ابتياعَ ما فَرَّطُوا في ابتياعِه في دنياهم، ولا خُلَّةٌ لهم يومئذٍ تَنْصُرُهم منى، ولا شافعٌ لهم يَشْفَعُ عندى فتنجِّيَهم شَفَاعَتُه لهم من عِقابي، وهذا يومئذٍ فعلى

(2)

بهم جزاءً لهم على كفرِهم، وهم الظالمون أنفسَهم دونى؛ لأنى غيرُ ظلَّامٍ لعَبِيدى.

وقد حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الرَّحيمِ، قال: ثني عمرُو بنُ أَبي سَلَمَةَ، قال: سَمِعْتُ عمر بن سليمانَ يُحدِّثُ عن عطاءِ بن دينارٍ، أنه قال: الحمدُ للهِ الذي قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . ولم يَقُل: الظَّالمون هم الكافِرون

(3)

.

القولُ في تأويل قولِ اللهِ جلّ ثناؤه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .

(1)

في م: "فحض"، وفى ت 1، س:"يحض".

(2)

في النسخ: "فعل". والمثبت ما يقتضيه السياق.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 485 (2567)، من طريق عمرو بن أبي سلمة به.

(*) من هنا يبدأ الجزء الثامن من نسخة خزانة القرويين والمشار إليها بالأصل، وسيجد القارئ أرقام أوراقها بين معقوفين.

ص: 526

قد دلَّلْنا فيما مضى على تأويلِ قولِ اللهِ جلّ ثناؤه: {اللَّهُ}

(1)

.

وأما تأويلُ قولِه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . فإن معناه النَّهيُ عن أن يُعبدَ شيءٌ غيرُ اللهِ الحيِّ القَيُّومِ، الذي صفَتُه ما وصَف به نفسَه تعالى ذكرُه في هذه الآيةِ، يقولُ: اللهُ الذي له عبادةُ الخلقِ، الحيُّ القيومُ، لا إلهَ سواه، لا معبودَ سواه. يعني: فلا تعبُدوا شيئًا سوى

(2)

الحيِّ القيُّومِ الذي لا تأخُذُه سِنةٌ ولا نومٌ، والذي صفتُه ما وصَف في هذه الآيةِ.

وهذه الآيةُ إبانةٌ من اللهِ جلّ ثناؤه للمؤمنين به وبرسولِه، عما جاءتْ به

(3)

المختلِفين

(4)

البيناتُ من بعدِ الرسلِ التي

(5)

أخبَرَنا تعالى ذكرُه أنه فضَّل بعضَهم على بعضٍ. واختلَفوا فيه، فاقتتلُوا فيه كفرًا به من بعضٍ، وإيمانًا به من بعضٍ، فالحمدُ للهِ الذي هدانا للتصديقِ به، ووفَّقَنا للإقرارِ به.

وأما قولُه: {الْحَيُّ} . فإنه يَعنِي: الذي له الحياةُ الدائمةُ، والبقاءُ الذي لا أوّلَ له بحَدٍّ

(6)

، ولا آخرَ له بأمدٍ

(7)

، إذ كلُّ ما سواه فإنه وإنْ كان حيًّا فلِحياتِه أَوَّلٌ محدودٌ، وآخرٌ مَمْدودٌ

(8)

، يَنْقَطِعُ بانقطاعِ أمدِها، وينقَضِى بانقضاءِ غايتِها.

وبما قلْنا في ذلك قال جماعةُ أهلِ التأويلِ.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 121.

(2)

في م: "سواه".

(3)

بعده في م: "أقوال".

(4)

بعده في م: "في".

(5)

في م: "الذين".

(6)

في م: "يحد".

(7)

في م: "يؤمد".

(8)

في م، س:"مأمود".

ص: 527

‌ذكر من قال ذلك

حُدِّثْتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{الْحَيُّ} : حيٌّ لا يموتُ

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه.

وقد اختلَف أهلُ البحثِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: إنما سمَّى اللهُ جل وعزّ نفسه حيًّا؛ لصَرْفِه الأمورَ مَصارفَها، وتقديرِه الأشياءَ مقاديرَها، فهو حيٌّ بالتدبيرِ لا بحياةٍ.

وقال آخرون: بل هو حيٌّ بحياةٍ هي له صفةٌ.

وقال آخرون: بل ذلك اسمٌ من الأسماءِ تَسَمَّى به، فقُلْناه تسليمًا لأمرِه.

وأما قولُه: {الْقَيُّومُ} . فإنه الفَيْعُولُ من القيامِ، وأصلُه القيْوُومُ، سبَق عينَ الفعلِ - وهى واوٌ - ياءٌ ساكنةٌ، فانْدَغَمتا فصارتا ياءً مشددةً، وكذلك تفعلُ العربُ في كلِّ واوٍ كانت للفعلِ عينًا سبَقَتْها ياءٌ ساكنةٌ.

ومعنى قولِه: {الْقَيُّومُ} : القائمُ برزْقِ ما خلَق وحِفْظِه، كما قال أُميّةُ

(2)

:

لم تُخْلَقِ السماءُ والنُّجومُ

والشمسُ مَنْها قَمَرٌ يَعومُ

(3)

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 486 (2571) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

ديوانه ص 24، 25.

(3)

في م، س، والديوان:"يقوم".

ص: 528

قَدَّرَهُ المُهَيْمِنُ القَيُّومُ

والحشرُ

(1)

والجَنَّةُ والجحيمُ

إلا لأمرٍ شأنُه عظيمُ

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{الْقَيُّومُ} . قال: القائمُ على كلِّ شيءٍ

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{الْقَيُّومُ} : قَيِّمٌ على

(3)

كلِّ شيءٍ، يَكْلَؤُه ويَرْزُقُه ويَحْفَظُه

(4)

.

حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{الْقَيُّومُ} : هو القائمُ

(5)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُويبرٍ، عن

(1)

في الديوان: "الحش".

(2)

تفسير مجاهد ص 248، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 486 (2573)، والبيهقي في الأسماء والصفات (76)، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (96) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 12/ 327 إلى آدم بن أبي إياس.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 486 (2072) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (757) من طريق عمرو بن حماد به بإسناد السدى المعروف مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 529

الضَّحَّاكِ: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال: القائمُ الدائمُ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .

يعني بقولِه جلّ ثناؤُه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} : لا يَأْخُذُه نُعاسٌ فيَنْعَسَ، ولا نَوْمٌ فيَسْتَثْقِلَ نومًا.

والوَسَنُ خُثورةُ النومِ

(2)

، ومنه قولُ عديِّ بن الرِّقاعِ

(3)

:

وشنانُ أقْصَدَهُ النُّعاسُ فَرنَّقَتْ

(4)

في عَيْنِه سِنَةٌ وليس بنائمِ

ومن الدليلِ على ما قلْنا، من أنها خُثورةُ النومِ في عينِ الإنسانِ، قولُ الأَعْشَى ميمونِ بن قَيْسٍ

(5)

:

تُعاطِى الضَّجِيعَ إذا اسْتامَها

(6)

بُعَيْدَ [الرُّقَادِ وعندَ]

(7)

الوَسَنْ

[وقولُه الآخرُ]

(8)

:

باكَرَتْها الأغْرابُ

(9)

في سِنَةِ النَّوْ

مِ فتَجْرِى خِلالَ شَوْكِ السَّيَالِ

(10)

(1)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 277.

(2)

الخثورة: نقيض الرقة. اللسان (خ ث ر) والمراد ثقل النوم.

(3)

البيت في مجاز القرآن 1/ 78، والأغانى 9/ 311، والكامل 1/ 148.

(4)

رنَّق النومُ عينه: خالطها. اللسان (ر ن ق).

(5)

ديوانه ص 17.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أقبلت". وفي حاشية الأصل: "ويروى: إذا أقبلت بعيد الرقاد وقبل الوسن".

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"النعاس وقبل".

(8)

في ص: "وقول الآخر"، وفى م، س:"وقال آخر". والبيت للأعشى أيضًا وهو في ديوانه ص (5).

(9)

الأغراب: واحده غرب - بسكون الراء - وهو القدح. اللسان (غ ر ب).

(10)

السيال: شجر سبط الأغصان عليه شوك أبيض، أصوله أمثال ثنايا العذارى. اللسان (س ى ل).

ص: 530

يعني عندَ هُبوبِها من النومِ ووَسَنُ النومِ في عينِها، يقالُ منه: وَسِن فلانٌ فهو يَوْسَنُ وَسَنًا وسِنةً، وهو وَسْنانُ، إذا كان كذلك.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} . قال: السَّنَةُ النُّعاسُ، والنومُ هو النومُ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} : السِّنَةُ النُّعاسُ

(2)

.

حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أَخبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ والحسن في قولِه:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} : قالا: نَعْسةٌ.

حدَّثني المثنّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: حدثنا هُشيمٌ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} . قال: السِّنَةُ الوَسْنةُ، وهو دونَ النومِ، والنومُ الاستِثْقالُ

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُويبرٍ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 487، 488 (2576، 2581)، والبيهقي في الأسماء والصفات (77)، من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 327 إلى آدم بن أبي إياس وأبى الشيخ في العظمة.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 102.

(3)

أخرج ابن أبي حاتم شطره الثاني 2/ 488 (2582) من طريق جويبر به، وعلق شطره الأولى 2/ 487 عقب الأثر (2577).

ص: 531

الضّحّاكِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} : السِّنَةُ النُّعاسُ، والنومُ الاستِثْقالُ

(1)

.

حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أخبَرَنا يزيدُ، قال: أخبَرَنا جُويبرٌ، عن الضَّحاكِ مثلَه سواءً.

حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} : أما السِّنَةُ، فهو رِيحُ النومِ الذي يأخُذُ في الوجهِ فيَنْعَسُ الإنسانُ

(2)

.

حدَّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} قال: السَّنَةُ الوَسْنانُ بينَ النائمِ واليَقْظانِ

(3)

.

حدَّثني عباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا مِنْجابُ بنُ الحارثِ، قال: أخبَرنا عليُّ بنُ مُسْهِرٍ، عن إسماعيلَ، عن يحيى بن رافعٍ:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} ، قال: النُّعاسُ

(4)

.

حدَّثني يونس، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} . قال: الوَسْنانُ الذي يقومُ من النومِ ولا يَعْقِلُ، حتى ربَّما أخَذ السيفَ على أهلِه

(5)

.

وإنما عنَى اللهُ جَلَّ ثناؤُه بقولِه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} : لا تَحُلُّه الآفاتُ،

(1)

أخرجه أبو الشيخ في العظمة (123)، من طريق جويبر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 327 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 487 (2577) من طريق عمرو بن حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 327، إلى عبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 487 (2579) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

أخرجه أبو الشيخ في العظمة (122) من طريق على بن مسهر به.

(5)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 190، والقرطبي في تفسيره 3/ 272.

ص: 532

ولا تَنَالُه العاهاتُ. وذلك أن السِّنَةَ والنوم معنيَان يَعْمُران فَهُمَ ذى الفهْمِ، ويُزيلان مَن أصاباه عن الحالِ التي كان عليها قبلَ أن يُصيباه.

فتأويلُ الكلامِ إذ كان الأمرُ كما وصَفْنا: اللهُ لا إلهَ إلا هو الحيُّ الذي لا يموتُ، القَيُّومُ على كلِّ ما هو دونَه بالرزقِ والكَلاءةِ والتدبيرِ: والتصريفِ من حالٍ إلى حالٍ، لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ، لا يُغَيِّرُه ما يُغَيِّرُ غيرَه، ولا يُزيلُه عما لم يَزَلْ عليه تَنقُّلُ الأحوالِ، وتَصَرُّفُ

(1)

الليالي والأيامِ، بل هو الدائمُ على حالٍ، والقَيُّومُ على جميعِ الأنامِ، لو نام لكان مغلوبًا مَقْهُورًا؛ لأن النومَ غالبُ النائمِ قاهرُه، ولو وَسِن لكانت السماواتُ والأرضُ وما فيهما دَكًّا؛ لأن قيامَ جميعِ ذلك بتَدْبيرِه وقدْرتِه، والنومُ شاغلُ المدبِّرِ عن التدبيرِ، والنُّعاسُ مانعُ

(2)

المقدِّرِ عن التقديرِ بوَسَنِه.

كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، قال: وأخبَرنى الحَكَمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ مولى ابن عباسٍ في قولِه:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} : إنّ موسى سأَل الملائكةَ: هل ينامُ اللهُ؟ فَأَوْحَى اللهُ إلى الملائكةِ، وأمرَهم أن يُؤَرِّقُوه ثلاثًا، فلا يَتركُوه ينامُ، ففعَلوا، ثم أعطَوْه قارُورَتَين فأمسكهما

(3)

، ثم تَرَكوه وحَذَّرُوه أن يَكْسِرَهما. قال: فجعَل يَنْعُسُ وهما في يديه؛ في كلِّ يدٍ واحدةٌ. قال: فجعَل يَنْعُسُ ويَنتبِه، [وينعُسُ وينْتبِهُ]

(4)

، حتى نعَس نَعْسَةً، فضرَب إحداهما بالأخرى، فكسَرهما. قال مَعْمَرٌ: إنما هو مَثَلٌ

(1)

في م، س:"تصريف".

(2)

في م، س:"يمانع".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س:"فأمسكوه".

(4)

سقط من: الأصل، ت 2، س.

ص: 533

ضرَبه اللهُ تعالى ذكرُه يقولُ: فكذلك السماواتُ والأرضُ في يديْه

(1)

.

حدَّثنا إسحاقُ بنُ أبي إسرائيلَ، قال: ثنا هشامُ بنُ يوسفَ، عن أُمَيَّةَ بن شِبْلٍ، عن الحَكَمِ بن أبانٍ، عن عكرمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكى عن موسى على المنبرِ، قال:"وقَع في نَفْسِ موسى: هل ينامُ اللهُ؟ فأرسلَ اللهُ إليه مَلَكًا، فأَرَّقَه ثلاثًا، ثم أعطاهُ قارُورَتَين؛ في كُلِّ يدٍ قارورةٌ، وأمَره أن يَحْتَفِظَ بهما. قال: فجعَل ينامُ وتكادُ يداهُ تَلْتَقيان، ثم يَسْتَيْقِظُ فيحْبِسُ إحداهما عن الأُخرى، ثم نام نَوْمةً فاصْطَفَقَتْ يداه فانْكَسَرتِ القارُورتان. قال: ضرَب الله له مَثَلًا، أن الله لو كان ينامُ لم تَسْتَمْسِكِ السماءُ والأرضُ"

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قوله جل ثناؤُه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . أنه مالكُ جميعِ ذلك بغيرِ شريكٍ ولا نديدٍ، وخالقُ جميعِه دونَ كلِّ آلهةٍ ومعبودٍ. وإنما يعنى بذلك أنه لا تَنْبَغِى العبادةُ لشيءٍ سواه؛ لأن المملوكَ إنما هو طوعُ يدِ مالكِه، وليس له خدمةُ غيرِه إلا بأمرِه. يقولُ: فجميعُ ما في السماواتِ والأرضِ مِلْكِى وخَلْقِي، فلا يَنبغِي

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 102، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 488 (2584)، والخطيب 1/ 268 من طريق الحسن بن يحيى به.

(2)

أخرجه أبو يعلى (6669)، وابن الجوزى في العلل المتناهية (22) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل به، وأخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (79)، والخطيب 1/ 268، وابن الجوزي في العلل المتناهية (23) من طريق هشام بن يوسف به، وأخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (79) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل به لكنه من مسند ابن عباس. وهو حديث منكر. ينظر تاريخ بغداد 1/ 268، والعلل المتناهية 1/ 27، 28، وميزان الاعتدال 1/ 276، ولسان الميزان 1/ 467.

ص: 534

أن يُعْبَدَ أحدٌ من خلقى غيرى وأنا مالكُه؛ لأنه لا ينَبِغي للعبدِ أن يَخْدُم

(1)

غيرَ مالكِه، ولا يُطيعَ سوى مولاه.

وأما قولُه جلَّ ثناؤه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . فإنه يعنى بذلك: من ذا الذي يَشْفَعُ لمماليكِه إن أراد عقوبتَهم إلا أن يُخلِّيَه ويَأذنَ له بالشفاعةِ لهم.

وإنما قال ذلك جل ثناؤه لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثانَنا هذه إلا ليُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلْفَى

(2)

. فقال اللهُ لهم: لى ما في السماواتِ وما في الأرضِ مع السماواتِ والأرضِ مِلْكًا، فلا تَنبغِى العبادةُ لغيرِى، فلا تَعبُدوا الأوثانَ التي تزعُمون أنها تُقَرِّبُكم منى زُلْفَى، فإنها لا تنفَعُكم عندى، ولا تُغْنِى عنكم شيئًا، ولا يَشْفَعُ عندى أحدٌ لأحدٍ إلا بتَخْلِيَتى إيَّاه والشفاعةَ لمن يَشْفَعُ له مِن رُسُلى وأوليائى وأهلِ طاعتِى.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} .

يعنى جلّ ثناؤه بذلك أنه المحيطُ بكلِّ ما كان وبكلِّ ما هو كائنٌ علمًا، لا يَخْفَى عليه شيءٌ منه.

وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن منصورٍ، عن الحَكَمِ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الآخرة

(3)

.

(1)

في م، ص، س:"يعبد".

(2)

هذا تأويل الآية (3) من سورة الزمر.

(3)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 279.

ص: 535

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : ما مضَى من الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من الآخرةِ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حَجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ قولَه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : ما مضَى أمامَهم مِن الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما يكونُ بعدَهم من الدنيا والآخرةِ

(2)

.

حدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال: أما

(3)

{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} فالدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} فالآخرةُ

(4)

.

وأما قولُه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} . فإنه يَعْنِى تعالى ذكره أنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيءٌ، محيطٌ بذلك كلِّه، مُحْصٍ له دون سائرِ مَن دونَه، وأنه لا يعلَمُ أحدٌ سواه شيئًا إلا ما شاء هو أن يُعْلِمَه [وأراده]

(5)

فعَلِمه.

وإنما يَعْنِى بذلك أن العبادةَ لا تَنبغِى لمن كان بالأشياءِ جاهلًا، فكيف يُعْبَدُ مَن لا يَعْقِلُ شيئًا البَتَّةَ مِن وَثَنٍ وصَنَمٍ؟ يقولُ: فَأَخْلِصُوا العبادةَ لمن هو مُحيطٌ بالأشياءِ كلِّها، يَعْلَمُها، لا يَخْفَى عليه صغيرُها وكبيرُها.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال بعضُ أهلِ التأويلِ.

(1)

أخرج الشطر الأول ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 489 (2588) من طريق أبي حذيفة به، وعلق الشطر الثاني في 22/ 489 عقب الأثر (2092).

(2)

ينظر التبيان 2/ 309، والبحر المحيط 2/ 279.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 189 (2588، 2592)، من طريق عمرو بن حماد به.

(5)

في ص: "فأراده"، وفى م:"فأراد".

ص: 536

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} يقولُ: لا يَعْلَمُون بشيءٍ من عِلْمِهِ إِلا بما شاء هو أن يُعْلِمَهم

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .

اختلف أهلُ التأويلِ في معنى "الكُرْسيِّ" الذي أخبرَ اللهُ في هذه الآيةِ أنه وَسِع السماواتِ والأرضَ؛ فقال بعضُهم: هو عِلْمُ اللهِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا أبو كُريبٍ وسَلْمُ بنُ جُنادةَ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، عن مُطَرِّفٍ، عن جعفرِ بن أبى المغيرةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قال: كُرْسِيُّه عِلْمُه

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرَنا مُطَرِّفٌ، عن جعفرِ بن أبي المغيرةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه، وزاد فيه: ألا تَرَى إلى قولِه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}

(3)

؟

وقال آخرون: الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَين.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 490 (2596، 2598) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 490 (2599)، من طريق ابن إدريس به، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص (233)، من طريق مطرف به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 327 إلى ابن المنذر.

(3)

ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 417 عن هشيم به.

ص: 537

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني عليُّ بنُ مُسلمٍ الطُّوسيُّ، قال: ثنا عبدُ الصمدِ بنُ عبد الوارثِ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا محمدُ بنُ جُحَادةَ، عن سلَمةَ بن كُهَيلٍ، عن عُمارةَ بن عُميرٍ، عن أبي موسى، قال: الكُرْسيُّ مَوْضِعُ القدَمين، وله أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ} : فإن السماواتِ والأرضَ في جوفِ الكُرْسِيِّ، والكُرْسِيُّ بين يَدَيِ العَرْشِ، وهو مَوْضِعُ قَدَميْه

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ قولَه:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال: كُرْسِيُّه الذي يُوضَعُ تحتَ العَرْشِ الذي يَجْعَلُ الملوكُ عليه أقدامَهم

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِيُّ، عن سفيانَ، عن عمارٍ الدُّهْنيِّ، عن مسلمٍ البَطِينِ، قال: الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القدمَيْن

(4)

.

(1)

أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (588)، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب العرش (60)، وأبو الشيخ في العظمة (247)، والبيهقى في الأسماء والصفات (859). من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 327 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 491 (2603) من طريق عمرو بن حماد به، دون قوله: وهو موضع قدميه.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 328 إلى المصنف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم 2/ 491 (2601) من طريق أبي أحمد، عن سفيان، عن عمار، عن سعيد بن بن جبير، عن ابن عباس قوله: وأخرجه الدارمى في الرد على بشر المريسى ص 67، 71 - 74، وعبد الله أحمد في السنة (586)، وابن خزيمة في التوحيد ص 71، والحاكم 2/ 282 من طريق سفيان به من قول ابن عباس، وأخرجه عبد الله في السنة (590) من طريق عمار الدهني، عن ابن عباس. قال ابن كثير: والأثر محفوظ عن ابن عباس. البداية والنهاية 1/ 23.

ص: 538

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال: لما نَزَلَتْ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللهِ، هذا الكُرْسِيُّ وَسِعَ السماواتِ والأَرضَ، فكيف العَرْشُ؟ فأَنزل اللهُ تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قولِه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

(1)

[الزمر: 67].

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . قال: قال ابن زيدٍ: فحدَّثنى أبي، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما السماواتُ السَّبْعُ في الكُرسيِّ إلا كدراهمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ". قال: وقال أبو ذَرٍّ: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما الكُرسيُّ في العَرشِ إلا كحَلْقَةٍ من حديدٍ أُلْقِيَتْ بينَ ظَهْرَى فَلَاةٍ مِن الأَرضِ"

(2)

.

وقال آخرون: الكُرْسِيُّ العَرْشُ نفسُه.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُويبرٍ

(3)

، قال: كان الحسنُ يقولُ: الكُرْسِيُّ هو العَرْشُ

(4)

.

قال أبو جعفر: لكلِّ قولٍ من هذه الأقوالِ وجهٌ ومَذْهَبٌ، غيرَ أن الذي هو

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 491 (2604)، من طريق أبي جعفر به.

(2)

ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 24، وفى تفسيره 1/ 457 عن المصنف، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (222) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد به، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: أول الحديث مرسل، وعن أبي ذر منقطع.

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن الضحاك".

(4)

ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 23، وفي تفسيره 1/ 458 عن المصنف.

ص: 539

أَوْلَى بتأويلِ الآيةِ ما جاء به الأثرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدَّثني به عبدُ اللهِ بنُ أبي زيادٍ القَطَوَانيُّ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرَنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن عبدِ اللهِ بن خَليفةَ، قال: أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ادْعُ الله أن يُدْخِلَنى الجنةَ. فعظَّم الربَّ عز وجل، ثم قال:"إِنَّ كُرسِيَّه وَسِعَ السَّماواتِ والأرضَ، وإنَّه لَيَقْعُدُ عليه فما يَفْضُلُ منه مِقدارُ أربعِ أصابعَ". ثم قال بأصابعِه فجمَعها: "وإنَّ له أَطِيطًا كأَطِيطِ الرَّحْلِ الجَديدِ إِذَا رُكِبَ؛ مِن ثِقَلِه"

(1)

.

حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ أبي زيادٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي بُكَيرٍ

(2)

، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن عبدِ اللهِ بن خليفةَ، عن عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه

(3)

.

حدَّثنا أحمد بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن عبدِ اللهِ بن خَليفةَ، قال: جاءتِ امرأةٌ. فذكَر نحوَه

(4)

.

وأما الذي يدلُّ على صحتِه ظاهرُ القرآنِ، فقولُ ابن عباسٍ الذي رواه جعفرُ بن أبي المغيرِة، عن سعيدِ بن جُبيرٍ عنه، أنه قال: هو عِلْمُه

(5)

، وذلك لدَلالةِ قولِه جل ثناؤه:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . على أن ذلك كذلك، فأخبَرَ أنه لا يَئُودُه حفظُ ما عَلِم وأحاط به مما في السماواتِ والأرضِ، وكما أخبَر عن ملائكتِه أنهم قالوا في

(1)

أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 71، وأبو الشيخ في العظمة (262)، وابن الجوزي في العلل المتناهية من طريق إسرائيل به.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بكر".

(3)

أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 102 (263) من طريق عبد الله بن أبي زياد به. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (574)، وعبد الله بن أحمد في السنة (585، 587)، البزار (325) من طريق يحيى بن أبى بكير به. وينظر السلسلة الضعيفة (866).

(4)

أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (593) من طريق أبي أحمد به.

(5)

هذا مناقض لقول المصنف نفسه في أول الصفحة.

ص: 540

دعائِهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. فأخبر تعالى ذكرُه أن علمه وسِع كلَّ شيءٍ، فكذلك قولُه:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .

وأصلُ "الكُرْسِيِّ" العلمُ، ومنه قيل للصحيفةِ يكونُ فيها علمٌ مكتوبٌ: كُرّاسةٌ. ومنه قولُ الراجزِ في صفةِ قانصٍ:

حتى إذَا ما اختارهَا

(1)

تَكَرَّسا

يعنى: عَلِم. ومنه يقالُ للعلماءِ: الكَراسيُّ. لأنهم المعتمَدُ عليهم، كما يقالُ: أوتاد الأرضِ. يعنى بذلك أنهم العلماءُ الذين تَصْلُحُ بهم الأرضُ، ومنه قولُ الشاعرِ

(2)

:

تَحُفُّ بهم بِيضُ الوُجُوهِ وعُصْبَةٌ

كَرَاسِيُّ بالأحْداثِ حينَ تَنُوبُ

يعني بذلك: علماءُ بحوادثِ الأمورِ ونوازلِها.

والعربُ تسمِّى أصلَ كلِّ شيءٍ الكِرْسَ، يقال منه: فلانٌ كريمٌ الكِرْسِ. أي: كريمُ الأصلِ، قال العَجَّاجُ

(3)

.

قد علِم القُدُّوسُ موْلَى القُدْسِ

أن أبا العباسِ أوْلَى نَفْسِ

بمَعْدِنِ المُلْكِ القديمِ

(4)

الكِرْسِ

(1)

في م: "اجتازها".

(2)

أساس البلاغة (ك ر س).

(3)

ديوانه ص 487.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الكريم".

ص: 541

يعنى بذلك الكريمَ الأصل. ويُرْوَى:

في مَعْدِنِ العِزِّ الكريمِ الكِرْسِ

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {وَلَا يَئُودُهُ} : ولا يَشُقُّ عليه ولا يُثْقِلُه، يقالُ منه: قد آذَنِى هذا الأمرُ، فهو يَئودُنى أوْدًا وإيادًا. ويقالُ: ما آدَك فهو لي آئِدٌ. يَعنِي بذلك: ما أَثْقَلَك فهو لي مُثْقِلٌ.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المثنَّى بنُ إبراهيمُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقولُ: لا يَثْقُلُ عليه

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، قال: لا يَثْقُلُ عليه حِفْظُهما.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} : لا يَثْقُلُ عليه ولا يُجْهِدُه حِفْظُهما.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى: قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 492 (2606) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 328 إلى ابن المنذر.

ص: 542

الحسنِ وقتادةَ في قولِه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . قالا: لا يَثْقُلُ عليه شيءٌ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا يوسفُ بنُ خالدٍ السَّمْتيُّ، قال: ثنا نافعُ بنُ مالكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . قال: لا يَنْقُلُ عليه حِفْظُهما.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن أبي زائدةَ، وحدَّثنا يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قالا جميعًا: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضَّحاكِ:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يَثْقُلُ عليه حِفْظُهما

(2)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن عُبيدٍ، عن الضّحاكِ مثلَه.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: سمِعْتُه - يعني خَلّادًا - يقولُ: سمِعْت أبا عبدِ الرحمنِ المدينيَّ يقولُ في هذه الآيةِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . قال: لا يَكْبُرُ

(3)

عليه.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، قال: لا يَكْرُثُه

(4)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . قال: لا يَثْقُلُ عليه

(5)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 102.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

والأثر ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 492 عقب الأثر (2607) معلقا.

(3)

في ص، م، س:"يكثر".

(4)

تفسير مجاهد ص 242، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 492 (267) من طريق القاسم، عن مجاهد ولفظه: لا يكرثه حتى يثقله.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 492 عقب الأثر (2607) من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 543

حدِّثْت عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . يقولُ: لا يَثْقُلُ عليه حفظُهما

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} . قال: لا يَعِزُّ عليه حِفْظُهما.

قال أبو جعفرٍ: والهاءُ والميمُ والألفُ من قولِه: {حِفْظُهُمَا} . من ذِكْرِ السماواتِ والأرضِ. فتأويلُ الكلامِ: وَسِع كُرْسِيُّه السماواتِ والأَرضَ، ولا يَثْقُلُ عليه حِفْظُ السماواتِ والأرضِ.

وأما تأويلُ قولِه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} . فإنه يَعنِي: واللهُ العَلِيُّ.

والعليُّ: الفَعِيلُ، من قولِك: علا يعلُو عُلُوًّا، إذا ارتفَع، فهو عالٍ وعَلِيٌّ: والعَلِيُّ: ذو العُلُوِّ والارتفاعِ على خَلقِه بقُدرتِه.

وكذلك قولُه: {الْعَظِيمُ} : ذو العَظَمةِ، الذي كلُّ شيءٍ دونَه، فلا شيءَ أعظمُ منه.

كما حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{الْعَظِيمُ} : الذي قد كَمُل في عظمتِه

(2)

.

واختلَف أهلُ البحثِ في معنى قولِه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: وهو العَلِيُّ عن النُّظَراءِ والأَشْباهِ. وأنكَروا أن يكونَ معنى ذلك: وهو العَلِيُّ المكانِ. وقالوا: غيرُ جائزٍ أن يخلُوَ منه مكانٌ، ولا معنى لوصفِه بعُلُوِّ المكانِ؛ لأن ذلك وصفُه بأنه في مكانٍ دونَ مكانٍ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 492 (2607) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 328 إلى المصنف.

ص: 544

وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العَلِيُّ على خَلْقِه، بارتفاعِ مكانِه عن أماكنِ خَلْقِه؛ لأنه تعالى ذكرُه فوقَ جميع خَلقِه، وخَلقُه دونَه، كما وصَف به نفسَه أنه على العرشِ، فهو عالٍ بذلك عليهم.

وكذلك اختلَفوا في معنى قولِه: {الْعَظِيمُ} . فقال بعضُهم: معنى "العظيمِ" في هذا الموضِعِ المُعَظَّمُ، صُرِف المُفَعَّلُ إلى فَعِيلٍ، كما قيل للخَمرِ المُعَتَّقَةِ: خمرٌ عتيقٌ. كما قال الشاعرُ

(1)

:

وكأنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ من الإسْـ

ـــــــفِنْطِ

(2)

ممْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلالِ

وإنما هي مُعَتَّقَةٌ، قالوا: فقولُه: {الْعَظِيمُ} . معناه: المعظَّمُ الذي يُعَظِّمُه خَلْقُه، ويَهابُونه ويتَّقُونه. قالوا: وإنّما يحتمِلُ قولُ القائلِ: هو عَظيمٌ. أحدَ معنَيْين؛ أحدُهما: ما وصَفْنا من أنه مُعَظَّمٌ. والآخرُ: أَنه عَظِيمٌ في المساحةِ والوزنِ. قالوا: وفي بُطولِ القولِ بأن يكونَ معنى ذلك أنه عَظيمٌ في المساحةِ والوزنِ، صحةُ القولِ بما قُلْنا.

وقال آخرون: بل تأويلُ قولِه: {الْعَظِيمُ} . هو أن له عظمةً هي له صفةٌ. وقالوا: لا نَصِفُ عَظمتَه بكَيْفِيّةٍ، ولكنّا نُضِيفُ ذلك إليه من جهةِ الإثباتِ، ونَنْفِى عنه أن يكونَ ذلك على معنى مشابهةِ العِظَمِ المعروفِ من العبادِ؛ لأن ذلك تشبيهٌ له بخَلقِه، وليس كذلك. وأنكَر هؤلاءِ ما قاله أهلُ المَقالةِ التي قدَّمنا ذكرَها، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه مُعَظَّمٌ، لوجَب أن يكونَ قد كان غيرَ عظيمٍ قبلَ أن يَخلُقَ الخلْقَ، وأن يَبْطُلَ معنى ذلك عندَ فَناءِ الخَلقِ؛ لأنه لا مُعَظِّمَ له في هذه الأحوالِ.

وقال آخرون: بل قولُه: إنه العظيمُ. وَصْفٌ منه نفسَه بالعِظَمِ، وقالوا: كلُّ ما

(1)

البيت للأعشى الكبير، وهو في ديوانه ص 5.

(2)

الإسفنط: أجود الخمر وأعلاها. القاموس المحيط (س ف ط).

ص: 545

دونَه من خلقِه بمعنى الصِّغَرِ؛ لصِغَرِهم عن عِظَمِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: نزَلَتْ هذه الآيةُ في قومٍ من الأنصارِ - أو في رجلٍ منهم - كان لهم أولادٌ قد هَوَّدُوهم أو نَصَّرُوهم، فلما جاء اللهُ بالإسلامِ أرادوا إكراهَهم عليه، فنهاهم اللهُ عن ذلك حتى يكونوا هم يختارُون الدخولَ في الإسلامِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابن أبي عديٍّ، عن شُعبةَ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت المرأةُ تكونُ مِقْلاتًا، فتجعلُ على نفسِها إن عاش لها ولدٌ أن تُهَوِّدَه؛ فلما أجْلِيَتُ بنو النَّضيرِ كان فيهم من أبناءِ الأنصارِ، فقالوا: لا ندَعُ أبناءَنا، فأنزل اللهُ تعالى ذكرُه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

(1)

.

حدَّثنا ابن بَشّارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ

(2)

، عن أبي بِشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، [عن ابن عباسٍ]

(3)

، قال: كانت المرأةُ تكونُ مِقْلًى؛ لا يعيشُ لها ولدٌ - قال شعبةُ: وإنما هي مِقْلاتٌ - فتجعلُ عليها إن بَقِى لها ولدٌ لَتُهَوِّدَنَّه، قال: فلمّا أُجليَتْ بنو النَّضيرِ كان فيهم منهم، فقالت الأنصارُ: كيف تَصنعٌ بأبنائِنا؟ فنزَلت هذه

(1)

أخرجه أبو داود (2682)، والنسائى في الكبرى (11049)، والنحاس في ناسخه ص 259 من طريق محمد بن بشار به، وأخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 57، 58 من طريق ابن أبي عدى به، وأخرجه أبو داود (2682)، والنسائى في الكبرى (11048)، والطحاوى في شرح المشكل (6114)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 493 (2609)، وابن حبان (140)، والبيهقى 9/ 186، والواحدى في أسباب النزول ص 58 من طريق شعبة به.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سعيد".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.

ص: 546

الآيةُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . قال: من شاء أن يُقِيمَ أقام، ومن شاء أن يَذهَبَ ذَهَب

(1)

.

حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا بِشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا داودُ، وحدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيّةَ، عن داودَ، عن عامرٍ، قال: كانت المرأةُ من الأنصارِ تكونُ مِقْلاتًا؛ لا يعيشُ لها ولدٌ، فتنذِرُ إن عاش ولدُها أن تجعلَه مع أهلِ الكتابِ على دينِهم، فجاء الإسلامُ وطوائفُ من أبناءِ الأنصارِ على دينِهم، فقالوا: إنما جعَلْناهم على دينِهم ونحن نَرى أن دينَهم أفضلُ من دينِنا، وإذ جاء اللهُ بالإسلامِ فَلَنُكْرِهَنَّهم. فنزلتْ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . فكان فصلَ ما بينَ مَن اختارَ اليهوديةَ والإسلامَ، فمَن لَحِق بهم اختارَ اليهوديةَ، ومن أقام اختارَ الإسلامَ. واللفظُ لحديثِ حُمَيدٍ

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعْتَمِرُ بن سليمانَ، قال: سمِعتُ داودَ، عن عامرٍ بنحوِ معناه، إلا أنه قال: فكان فصلَ ما بينَهم إجلاءُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنى النَّضيرِ، فلَحِق بهم من كان يهوديًّا ولم يُسْلِمْ منهم، وبَقِيَ مَن أَسلمَ

(2)

.

حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ بنحوِه، إلا أنه قال: إجلاءُ النَّضيرِ إلى خيبَرَ، فمن اختارَ الإسلامَ أقامَ، ومن كَرِه لَحِق بخيبرَ.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن

(3)

إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي

(1)

قوله: من شاء أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب. من قول سعيد بن جبير.

(2)

أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 400، وابن الجوزى في النواسخ ص 217 من طريق داود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 329 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أبي".

ص: 547

محمدٍ الحَرَشيُّ

(1)

مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ، أو عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: نزلتْ في رجلٍ من الأنصارِ من بنى سالمِ بن عوفٍ، يقالُ له: الحُصَينُ. كان له ابنان نَصْرانيّان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ألا أَسْتَكْرِهُهما، فإنهما قد أبَيَا إلا النصرانيةَ؟ فأَنزل اللهُ فيه ذلك

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا حَجّاجُ بنُ المنْهالِ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن أبي بشرٍ، قال: سألْتُ سعيد بنَ جُبيرٍ عن قولِه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: نزَلتْ هذه في الأنصارِ، قال: قلتُ: خاصةً؟ قال: خاصةً. قال: كانت المرأةُ في الجاهليةِ تَنذِرُ إن ولَدت ولدًا أن تجعلَه في اليهودِ، تَلْتَمِسُ بذلك طولَ بقائِه. قال: فجاء الإسلامُ وفيهم منهم؛ فلمَّا أُجْلِيَت النضيرُ قالوا: يا رسولَ اللهِ، أبناؤُنا وإخوانُنا فيهم. قال: فسكَت عنهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنزل اللهُ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قد خُيِّرَ أصحابُكم، فإن اختارُوكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم". قال: فأجلَوهم معهم

(3)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} إلى {لَا انْفِصَامَ لَهَا} . قال: نزَلَتْ في رجلٍ من الأنصارِ يقالُ له: أبو الحُصَينِ. كان له ابنان، فقَدِم تُجّارٌ من الشامِ إلى

(1)

في الأصل: "الجرش".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 459، وابن حجر في الإصابة 2/ 95، 917، عن ابن إسحاق به.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (428) - تفسير، والطحاوى في المشكل (6115)، والخطابي في غريب الحديث 3/ 80، 81، والبيهقى 9/ 186 من طريق أبي عوانة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 329 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 548

المدينةِ يحمِلون الزيتَ، فلما باعُوا وأرادُوا أن يَرجِعوا، أتاهم ابنا أبى الحُصينِ. فدعَوْهما إلى النصرانيةِ فتَنَصَّرا، ورجَعا إلى الشامِ معهم، فأتى أبوهما إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابنيَّ تَنَصَّرا وخَرَجا، فاطْلُبُهما. فقال:" {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ". ولم يُؤْمَرْ يومئذٍ بقتالِ أهلِ الكتابِ. وقال: "أَبعَدَهما اللهُ، هما أَوَّلُ مَن كفَر". فوجَد أبو الحصينِ في نفسِه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين لم يَبْعَثْ فِي طَلَبِهما، فأَنزَل اللهُ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ثم إنه نُسِخ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . فأُمِر بقتالِ أهلِ الكتابِ

(1)

في سورةِ "براءة"

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ. عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: [كانت النَّضِيرُ يهودًا]

(3)

أَرضَعوا رجالًا من الأوسِ، فلما أُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤُهم من الأوسِ: لتذْهَبَنَّ معهم، ولَندِينَنَّ بدينِهم، فمنَعهم أهلُوهم، وأَكْرَهُوهم على الإسلامِ، ففيهم نزَلتْ هذه الآيةُ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن خُصَيْفٍ، عن مجاهدٍ: {لَا إِكْرَاهَ فِي

(1)

في ص، ت 1، ت 2:"القتال".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 494 عقب (2615)، وأبو داود في ناسخه - كما في تهذيب الكمال - 5/ 102، من طريق عمرو بن حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 329، إلى ابن المنذر.

(3)

في ص: "كانت اليهود يهودًا"، وفى م:"كانت في اليهود يهود".

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (429 - تفسير) من طريق ابن أبي نجيح به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 329 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 549

الدِّينِ}. قال: كان ناسٌ من الأنصارِ مُسْتَرضَعِين في بني قُريظةَ، فأرادُوا أن يُكْرِهوهم على الإسلامِ، فنزَلتْ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حَجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: كانت النَّضيرُ يهودًا، فَأَرْضَعُوا. ثم ذكَر نحوَ حديثِ محمدٍ بن عمرٍو، عن أبي عاصمٍ. قال ابن جُريجٍ: وأخبَرَنى عبدُ الكريمِ، عن مجاهدٍ أنهم كانوا قد دانوا

(2)

بدينهم أبناءُ الأَوْسِ؛ دانُوا بدينِ النَّضيرِ

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن داودَ ابن أبي هندٍ، عن الشعبيِّ أن المرأةَ من الأنصارِ كانت تَنْذِرُ إِن عاش ولدُها لَتَجْعَلَنَّه في أهل الكتابِ، فلمّا جاء الإسلامُ قالت الأنصارُ: يا رسولَ اللهِ، ألا نُكْرِهُ أولادَنا الذين هم في يهودَ على الإسلامِ، فإنَّا إِنَّما جعَلْناهم فيها ونحن نَرى أن اليهوديةَ أفضلُ الأديانِ، [فأما إذ]

(4)

جاء اللهُ بالإسلامِ، أفلا نُكْرِهُهم على الإسلامِ؟ فَأَنزل اللهُ تعالى ذكرُه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

(5)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن داودَ، عن الشعبيِّ بمثلِه، وزاد فيه: قال: كان فصلَ ما بينَ مَن اختارَ اليهودَ منهم، وبينَ مَن اختارَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 493 (2611)، والواحدى في أسباب النزول ص 59، وابن الجوزى في النواسخ ص 218 من طريق سفيان به.

(2)

في م: "دان".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 329 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.

(4)

في ص: "فلما إذ"، وفى م:"فلما أن".

(5)

تقدم ص 547.

ص: 550

الإسلامَ، إجلاء بني النَّضيرِ، فمَن خرَج مع بنى النَّضيرِ كان منهم، ومن ترَكهم اختارَ الإسلامَ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . إلى قولِه: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . قال: هذا منسوخٌ

(1)

.

حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيعِ الرازيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، ووائلٍ، عن الحسنِ، أن ناسًا من الأنصارِ كانوا مُسترضَعِين في بني النَّضيرِ، فلما أَجْلُوا، أراد أهلُوهم أن يُلْحِقُوهم بدينِهم، فنزلتْ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}

(2)

.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يُكْرَهُ أهلُ الكتابِ على الدينِ إذا بذَلوا الجِزْيةَ، ولكنّهم يُقَرُّون على دينِهم. وقالوا: الآيةُ في خاصٍّ من الكفارِ، ولم يُنْسَخْ منها شيءٌ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} قال: أُكْرِهَ عليه هذا الحيُّ من العربِ؛ لأنهم كانوا أُمَّةً أُمِّيّةً ليس لهم كتابٌ يَعرِفُونه، فلم يُقْبَلْ منهم غيرُ الإسلامِ، ولا يُكرَهُ عليه أهلُ الكتابِ إذا أقرُّوا بالجِزْيةِ أو بالخَراجِ ولم يُفْتَنُوا عن دينِهم، فخُلِّيَ

(3)

عنهم

(4)

.

(1)

ينظر التبيان 2/ 311.

(2)

أثر مجاهد تقدم تخريجه في ص 549، 550، وأثر الحسن أخرجه سعيد بن منصور في سننه (430 - تفسير)، عن سفيان به.

(3)

في م: "فيخلي".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 102، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 493 (2612) من طريق معمر، عن قتادة.

ص: 551

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: ثنا قتادةُ في قولِه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: هو هذا الحيُّ من العرب أُكْرِهوا على الدين، لم يُقْبَلْ منهم إلا القتلُ أو الإسلامُ، وأهلُ الكتابِ قُبِلَتْ منهم الجِزْيةُ ولم يُقْتَلُوا.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا الحكَمُ بنُ بَشيرٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، عن جُويبرٍ، عن الضحَّاكِ في قولِه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: أُمِر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يُقاتِلَ جزيرة العربِ من أهلِ الأوثانِ، فلم يَقْبَلْ منهم إلا لا إلهَ إلا اللهُ أو السيفَ، ثم أُمِر في من سواهم بأن يَقْبَلَ منهم الجِزْيةَ، فقال:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: كانت العربُ ليس لها دِينٌ، فأُكْرِهوا على الدينِ بالسيفِ. قال: ولا يُكْرَهُ اليهودُ والنصارَى والمجوسُ إذا أعطَوُا الجِزْيةَ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عُيينةَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، قال: سَمِعْتُ مجاهدًا يقولُ لغلامٍ له نصرانيٍّ: يا جريرُ أَسْلِمْ. ثم قال: هكذا كان يقالُ لهم

(3)

.

(1)

ذكره الطوسى في التبيان 2/ 311، وابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 196، والقرطبي في تفسيره 3/ 280.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 102، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 493 (2612)، عن الحسن بن يحيى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 330 إلى عبد بن حميد وأبي داود في ناسخه.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 102، 103، وأخرجه سعيد بن منصور (429 - تفسير) عن سفيان بن عيينة به.

ص: 552

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} قال: فذلك لمّا دخَل الناسُ في الإسلامِ، وأَعْطَى أهلُ الكتابِ الجِزْيةَ

(1)

.

وقال آخرون: هذه الآية منسوخةٌ، وإنَّما نزَلتُ قبلَ أَن يُفْرَضَ القتالُ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرَني يعقوبُ بن عبدِ الرحمنِ الزُّهْرِيُّ، قال: سألتُ زيدَ بن أَسلمَ عن قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنينَ لا يُكْرِهُ أحدًا في الدينِ، فأبى المشرِكون إلا أن يُقاتِلُوهم، فاستأْذَنَ الله في قتالِهم، فأَذِن له

(2)

.

وأَوْلَى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: نزَلتْ هذه الآيةُ في خاصٍّ من الناسِ. وقال: عنَى بقولِه تعالى ذكرُه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . أهلَ الكتابَين والمجوسَ، وكلَّ مَن جاز

(3)

إقرارُه على دينِه المخالفِ دينَ الحقِّ، وأَخْذُ الجزيةِ منه. وأنكَر

(4)

أن يكونَ منها شيءٌ منسوخٌ

(5)

.

وإنّما قلْنا: هذا القولُ أَوْلَى الأقوالِ بالصوابِ؛ لما قد دَلَّلْنا عليه في كتابِنا "اللطيف من البيانِ عن أُصولِ الأحكامِ"، من أنَّ الناسخ غيرُ كائنٍ ناسخًا إلا ما نَفَى

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 495 (2617)، وابن الجوزى في النواسخ ص 218 من طريق محمد بن سعد به.

(2)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 196 عن الزهري، عن زيد بن أسلم، وذكره النحاس في ناسخه ص 258 عن زيد بن أسلم.

(3)

في م، ت 2، س:"جاء".

(4)

في ص، م، س:"أنكروا".

(5)

في م: "منسوخًا".

ص: 553

حكمَ المنسوخِ، فلم يَجُزِ اجتماعُهما [فيما قد]

(1)

كان ظاهرُه العمومَ من الأمرِ والنَّهْيِ وباطنُه الخصوصَ، فهو من الناسخِ والمنسوخِ بمَعْزِلٍ. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غيرَ مستحيلٍ أن يقالَ: لا إكراةَ لأحدٍ ممن أُخِذَتْ منه الجِزْيةُ في الدينِ. ولم يكنْ في الآيةِ دليلٌ على أن تأويلَها بخلافِ ذلك، وكان المسلمون جميعًا قد نَقلُوا عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم أنه أَكْرَه على الإسلامِ قومًا، فأبَى أن يَقْبَلَ منهم إلا الإسلامَ وحَكَم بِقَتْلِهِم إِن امتنعُوا منه، وذلك كعَبَدةِ الأوثانِ من مشرِكي العربِ، وكالمرتدِّ عن دينِه، دينِ الحقِّ، إلى الكفرِ، ومَن أَشبَههم، وأنه ترَك إكراهَ آخرِين على الإسلامِ بقَبُولِه الجِزْيةَ منه، وإقرارِه على دينِه الباطلِ، وذلك كأهلِ الكتابَيْن [والمجوسِ]

(2)

ومَن أَشبَههم - كان بيِّنًا بذلك أن معنَى قولِه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . إنما هو: لا إكراهَ في الدينِ لأحدٍ من حَلَّ قبولُ الجِزْيةِ منه، بأدائِه الجِزيةَ، ورضاه بحكمِ الإسلامِ، وألا معنَى لقولِ مَن زعَم أن الآيةَ منسوخةُ الحكمِ بالإذنِ بالمحاربةِ.

فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ فيما رُوِى عن ابن عباسٍ وعمَّن رَوى عنه، من أنّها نزَلتْ في قومٍ من الأنصارِ أرادُوا أن يُكْرِهوا أولادَهم على الإسلامِ؟ قلْنا: ذلك غيرُ مدفوعةٍ صحتُه، ولكنَّ الآيةَ قد تَنزِلُ في خاصٍّ من الأمرِ، ثم يكونُ حُكْمُها عامًّا في كلِّ ما جانَس المعنَى الذي أُنزِلتُ فيه، فالذين أُنزِلتُ فيهم هذه الآيةُ، على ما ذكَر ابن عباسٍ وغيرُه، إنما كانوا قومًا دانُوا بدينِ أهلِ التوراةِ، قبلَ ثُبوتِ عَقْدِ أهلِ الإسلامِ لهم، فنَهَى اللَّهُ تعالى ذكرُه عن إكراهِهم على الإسلامِ، وأَنزَل بالنَّهْيِ عن ذلك آيةً يَعُمُّ حُكْمُها كلَّ مَن كان في مثلِ معناهم ممن كان على دينٍ من الأديانِ التي يجوزُ أخذُ الجِزْيةِ من أهلِها، وإقرارُهم عليها على النحوِ الذي قلْنا في ذلك.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فأما ما".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.

ص: 554

ومعنَى قولِه جل ثناؤُه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} : لا يُكْرَهُ أحدٌ في دينِ الإسلامِ عليه. وإنما أُدْخِلَت الألفُ واللامُ في الدينِ تَعْريفًا

(1)

للدينِ الذي عنَى اللَّهُ بقولِه: لا إكراهَ فيه. وأنه هو الإسلامُ. وقد يَحتمِلُ أن تكونا

(2)

أُدْخِلنَا عَقِيبًا من الهاءِ المَنْوِيَّةِ في "الدينِ"، فيكونُ معنى الكلامِ حينئذٍ: وهو العليُّ العظيمُ، لا إكراهَ في دينِه، قد تَبَيَّنُ الرُّشْدُ مِن الغَيِّ. وكان هذا القولَ أشبهُ بتأويلِ الآيةِ عندي.

وأما قولُه جل ثناؤه: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . فإنه مصدرٌ من قولِ القائلِ: رَشَدْتُ فأنا أَرْشُدُ رُشْدًا ورشَدا ورَشَادًا، وذلك إذا أصاب الحقَّ والصوابَ.

وأما "الغَيُّ"، فإنه مصدرٌ من قولِ القائلِ: قد غَوَى فلانٌ فهو يَغْوِى غَيًّا وغَوايةً. وبعضُ العربِ يقولُ: غَوِيَ فلانٌ يَغْوَى. والذي عليه قراءةُ القرأةِ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]. بالفتحِ، وهي أفصحُ اللُّغَتَين، وذلك إذا عدا الحقَّ وتجاوزَه فضَلَّ.

فتأويلُ الكلامِ إذن: قد وَضَح الحقُّ من الباطلِ، واستبان لطالبِ الحقِّ والرَّشادِ وجهُ مَطْلَبِه، فتَمَيَّزَ من الضَّلالةِ والغَوايةِ، فلا تُكْرِهُوا أحدًا

(3)

من أهلِ الكتابَين ومَن أَبَحْتُ لكم أَخْذَ الجِزْيةِ منه، على دينِكم دينِ الحقِّ، فإنَّ مَن حادَ عن الرَّشادِ بعدَ استبانتِه له، فإلى ربِّه أمرُه، وهو وليُّ عُقوبتِه في مَعادِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى "الطاغوتِ"؛ فقال بعضُهم: هو الشيطانُ.

(1)

في ص: "تصريفًا".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"تكون".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 555

‌ذكرُ من قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن حسانَ بن فائدٍ العَبْسِيِّ

(1)

قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ: الطاغوتُ الشيطانُ

(2)

.

حدثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثني [ابن أبي عديٍّ]

(3)

، عن شعبةَ، عن أبي إسحاقَ، عن حسانَ بن فائدٍ، عن عمرَ مثلَه

(4)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا عبدُ الملكِ، عمَّن حدَّثه، عن مجاهدٍ، قال: الطاغوتُ الشيطانُ

(5)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا زكريَّا، عن الشَّعبيِّ، قال: الطاغوتُ الشيطانُ

(6)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ في قولِه:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} قال: الطاغوتُ الشيطانُ

(6)

.

(1)

في م: "العنسي". وينظر التاريخ الكبير 3/ 30.

(2)

أخرجه ابن رستة في كتاب الإيمان - كما في تغليق التعليق 4/ 196 - عن عبد الرحمن به، ومن طريق ابن رستة أخرجه الحافظ في التغليق، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 495، 3/ 975 (2618، 5449) من طريق سفيان به، وعلقه البخارى 6/ 57.

(3)

في الأصل: "ابن عدى".

(4)

أخرجه عبد الرحمن بن رستة - كما في التغليق 4/ 196 - من طريقه شعبة به، ومن طريقه الحافظ في التغليق، وأخرجه عبد بن حميد - كما في التغليق - وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 975 (5449) من طريق شعبة به.

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 495 عقب الأثر (2618) معلقًا.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 975 عقب الأثر (5449) معلقًا.

ص: 556

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: الطاغوتُ الشيطانُ

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} . قال: بالشيطانِ

(2)

.

وقال آخرون: الطاغوتُ هو الساحرُ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: حدَّثني عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودٌ، عن أبي العاليةِ أنه قال: الطاغوتُ الساحرُ

(3)

.

وقد خُولِف عبدُ الأعلى في هذه الروايةِ، وأنا ذاكرٌ الخلافَ بعدُ.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا حمادُ

(4)

بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا عوفٌ، عن محمدٍ، قال: الطاغوتُ الساحرُ

(5)

.

وقال آخرون: بل الطاغوتُ الكاهنُ

(6)

.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: حدَّثنا شعبةُ

(7)

، عن أبي

(1)

ينظر التبيان 2/ 312، والمحرر الوجيز 2/ 198.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 495 عقب الأثر (5449) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

ذكره الطوسى في التبيان 2/ 312، وابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 198.

(4)

في م، س:"حميد". وينظر تهذيب الكمال 7/ 284.

(5)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 198، وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 306، وأبو حيان في البحر المحيط 2/ 282، كلاهما عن ابن سيرين معلقا.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"هو الكاهن".

(7)

في ص، م، س:"سعيد".

ص: 557

بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، قال: الطاغوتُ الكاهنُ

(1)

.

حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن رُفَيعٍ، قال: الطاغوتُ الكاهنُ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} قال: كُهَانٌ تَنَزَّلُ عليها شياطينُ، يُلْقُون على ألسنتِهم وقلوبِهم، أخبرَني أبو الزبيرِ، عن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ أنه سمِعه يقولُ - وسُئِل عن الطواغيتِ التي كانوا يَتحاكَمُون إليها - فقال: كان في جُهينةَ واحدٌ، وفي أَسلمَ واحدٌ، وفى كلِّ حَيٍّ واحدٌ، وهى كُهَانٌ يَنزِلُ عليها الشيطانُ

(3)

.

والصوابُ من القولِ عندي في الطاغوتِ أنه كلُّ ذي طُغْيانٍ طغى على اللَّهِ فعُبِد مِن دونِه، إمَّا بقَهْرٍ منه لمن عبَده، وإما بطاعةٍ ممن عبَده له؛ إنسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شيطانًا، أو وثنًا، أو صَنَمًا، أو كائنًا ما كان من شيءٍ.

وأَرى أن أصلَ الطاغوتِ: الطَّغَوُوتُ، من قولِ القائلِ: طغَا فلانٌ يَطْغُو. إذا عدَا قَدْرَه، فتجاوَز حدَّه، كالجَبَروتِ من التَّجَبُّرِ، [والخَلَبُوتِ من الخَلْبِ]

(4)

، ونحوِ ذلك من الأسماءِ التي تأتِى على تقديرِ "فَعَلُوت" بزيادةِ الواوِ والتاءِ، ثم نُقِلَتْ

(1)

ذكره الطوسي في التبيان 2/ 312 وابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 198، وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 306.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 976 عقب الأثر (5453) معلقًا.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم - كما في التغليق 4/ 195، 196 - من طريق وهب بن منبه، عن جابر، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 976 (5452) شطره الأول من طريق حجاج به.

(4)

في ص، م:"والحلبوت من الحلب". وخلبه يخلبه خَلْبًا: خدعه. وهو خَلَبُوتٌ: أي خدّاع. القاموس المحيط (خ ل ب).

ص: 558

لامُه - أَعْنِى لامَ الطغَوُوتِ - فجُعَلَتْ له عَينًا، وحُوِّلَتْ عَينُه، فجُعِلَت مكانَ لامِه، كما قيل: جَبَذ وجَذَب، وجابِدٌ وجاذِبٌ، وصاعِقةٌ وصاقِعةٌ. وما أَشبه ذلك من الأسماءِ التي تأتى على هذا المثالِ.

فتأويلُ الكلام إذن: فمن يَجْحَدُ رُبوبِيَّةَ كلِّ معبودٍ من دونِ اللَّهِ، فيَكْفُرْ به {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يقولُ: ويُصدِّقْ باللَّهِ أنه إلهُه وربُّه ومعبودُه [دونَ غيرِه]

(1)

، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} يقولُ: فقد تمسَّك بأَوثقِ ما يَتَمَسَّكُ به مَن طلَب الخلاصَ لنفسِه مِن عذابِ اللَّهِ وعقابِه.

كما حدَّثني أحمدُ بنُ سعيدِ بن يعقوبَ الكنديُّ، قال: ثنا بَقِيَّةُ بنُ الوليدِ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، عن حُميدِ بن عُقبةَ، عن أبي الدَّرْداءِ، أنه عاد مريضًا من جِيرتِه، فوجَده في السَّوْقِ

(2)

وهو يُغَرْغِرُ، لا يَفْقَهون ما يريدُ، فسألهم: يريدُ أن يَنْطِقَ؟ قالوا: نعم، يريدُ أن يقولَ: آمنْتُ باللَّهِ، وكفَرْتُ بالطاغوتِ. قال أبو الدَّرْداءِ: وما عِلْمُكم بذلك؟ قالوا: لم يَزَلْ يُرَدِّدُها حتى انكسَر لسانُه، فنحن نعلمُ أنه إنّما يريدُ أن يَنْطِقَ بها. فقال أبو الدَّرْداءِ: أفلَح صاحبُكم، إن اللَّهَ يقولُ:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .

والعُرْوةُ في هذا المكانِ مَثَلٌ للإيمانِ الذي اعْتَصَم به المؤمنُ، فشَبَّهه فِي تَعَلُّقِه به وتَمَسُّكِه، بالمُتَمَسِّكِ بعُروةِ الشيءِ الذي له عُروةٌ يُتَمَسَّكُ بها، إذ كان كلُّ ذى عُروةٍ فإنَّما يَتَعَلَّقُ مَن أرادَه بعُروتِه.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

السوق: يقال: ساق المريض سوقا، إذا شرع في نزع الروح. التاج (س و ق).

ص: 559

وجعَل جل ثناؤه الإيمانَ الذي تَمَسَّكَ به الكافرُ بالطاغوتِ المؤمنُ باللَّهِ، مِن أَوْثَقِ عُرَى الأشياءِ بقولِه:{الْوُثْقَى} .

و "الوُثْقَى" فُعْلَى، مِن الوَثاقِة، يقالُ في الذكَرِ: هو الأَوْثَقُ. وفى الأنثى: هي الوُثْقَى. كما يقالُ: فلانٌ الأفضلُ، وفلانةُ الفُضْلَى.

وبنحوِ ما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ [في قولِه: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [

(1)

.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . قال: الإيمانُ

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: حدَّثنا أبو حذيفةَ، قال: حدَّثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني موسى، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: العُرْوةُ الوُثْقَى هو الإسلامُ

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي السوداءِ، عن جعفرٍ - يَعْنِى ابنَ أبي المغيرةِ - عن سعيدِ بن جُبيرٍ قولَه:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} قال: لا إلهَ إِلا اللَّهُ

(4)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

تفسير مجاهد ص 243، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 496 (2627)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 330 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 496 عقب الأثر (2627) من طريق عمرو بن حماد به.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 496 عقب (2624) معلقًا.

ص: 560

حدثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي السوداءِ النَّهْدِيِّ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ مثلَه.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [قال: لا إلهَ إلا اللَّهُ]

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} .

يعني جل ثناؤُه بقولِه: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} : لا انكسارَ لها. والهاءُ والألفُ في قولِه: {لَهَا} عائدةٌ على "العُروةِ".

ومعنى الكلامِ: فمن يَكفُرْ بالطاغوتِ ويؤمنْ باللَّهِ، فقد اعتصَم مِن طاعةِ اللَّهِ بما لا يُخْشَى مع اعتصامِه به

(2)

خذْلانُه إيَّاه، وإسلامُه عندَ حاجتِه إليه في أهوالِ الآخرةِ، كالمُسْتَمْسكِ بالوثيقِ مِن عُرَى الأشياءِ التي لا يُخشَى انكسارُ عُراها.

وأصلُ الفَصْمِ: الكَسْرُ، ومنه قولُ أعشَى بني ثعلبةَ

(3)

:

ومَبْسِمَها عن شَتِيتِ

(4)

النَّبا

تِ غيرِ أَكَسَّ

(5)

ولا مُنْفَصِمْ

(6)

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لا انفصام لها"، وفى م:"مثله".

والأثر ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 199، والقرطبي في تفسيره 3/ 282.

(2)

سقط من: م، س.

(3)

ديوانه ص 35.

(4)

الشتيت: المتفرق. اللسان (ش ت ت).

(5)

الأكس: من الكسس: وهو بروز الأسنان السفلى من الحنك الأسفل وتقاعس الحنك الأعلى. اللسان (ك س س).

(6)

في الديوان: "منقصم".

ص: 561

وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} . قال: لا يُغَيِّرُ اللَّهُ ما بقومٍ حتى يُغَيِّرُوا ما بأنفسِهم

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني موسى بن هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} قال: لا انقطاعَ لها

(2)

.

‌القول في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} .

يَعنى جل ثناؤُه: واللَّهُ سميعٌ إيمانَ المؤمنِ باللَّهِ وحدَه، الكافرِ بالطاغوتِ عندَ إقرارِه بوَحْدانيَّةِ اللَّهِ جلَّ ذكرُه، وتَبَرُّئِه من الأندادِ والأوثانِ التي تُعبَدُ من دونِ اللَّهِ، عليمٌ بما عزَم عليه مِن توحيدِ اللَّهِ وإخلاصِ رُبوبيَّتِه قلبُه، وما انْطَوَى عليه من البَراءةِ مِن الآلهةِ والأصنامِ والطَّواغيتِ، ضميرُه، وبغيرِ ذلك مما أخْفَتْه نفسُ كلِّ أحدٍ مِن خلقِه، لا يَنْكَتِمُ عنه سرٌّ، ولا يَخْفَى عليه أمرٌ، حتى يُجازيَ كلًّا يومَ القيامةِ بما نطَق به لسانُه، وأَضْمَرَتْه نفسُه، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} .

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 497 (2629) من طريق ابن أبي نجيح به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 496، 497 (2628) من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 562

يَعنى جل ثناؤُه بقولِه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} : نَصِيرُهم وظَهِيرُهم، يَتَوَلّاهم بعَوْنِه وتوفيقِه، {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يَعنى بذلك: يُخْرِجُهم من ظُلُماتِ الكفرِ إلى نورِ الإيمانِ. وإنما عنَى بالظُّلُماتِ في هذا الموضعِ الكفرَ، وإنما جعَل الظُّلُماتِ للكفرِ مَثَلًا؛ لأن الظُّلُمَاتِ حاجبةٌ للأبصارِ عن إدراكِ الأشياءِ وإثباتِها، وكذلك الكفرُ حاجبٌ أبصارَ القلوبِ عن إدراكِ حقائقِ الإيمانِ، والعلمِ بصحتِه وصحةِ أسبابِه، فأخبَر تعالى ذكرُه عبادَه أنه وَلِيُّ المؤمنين، ومُبَصِّرُهم حقيقةَ الإيمانِ وسُبُلَه وشرائعَه وحُجَجَه، وهادِيهم، فمُوَفِّقُهم لأَدِلَّتِه المُزِيلةِ عنهم الشكوكَ، بكَشْفِه عنهم دواعِىَ الكفرِ وظُلَمَ سواترِه

(1)

أبصارَ القلوبِ. ثم أخبَر تعالى ذكرُه عن أهلِ الكفرِ به، فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} يَعنى الجاحدِين وَحْدانِيَّتَه {أَوْلِيَاؤُهُمُ} يعنى: نُصَراؤُهم وظُهَراؤُهم الذين يَتَوَلَّوْنهم {الطَّاغُوتُ} يعنى: الأندادُ والأوثانُ الذين يَعْبُدُونهم من دونِ اللَّهِ، {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} يَعنى بالنورِ الإيمانَ، على نحوِ ما بَيَّنَّا {إِلَى الظُّلُمَاتِ} ويَعنى بالظُّلُماتِ ظُلُماتِ الكفرِ وشكوكَه الحائلةَ دونَ إبصارِ القلوبِ، ورؤيةِ ضياءِ الإيمانِ، وحقائقِ أَدِلَّتِه وسُبُلِه.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . يقولُ: مِن الضَّلالةِ إلى الهُدَى، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}: الشيطانُ {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ

(1)

في م: "سواتر".

ص: 563

النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}. يقولُ: من الهُدَى إلى الضَّلالةِ

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : الظُّلُمات الكفرُ، والنورُ الإيمانُ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}: يُخرِجونَهم من الإيمانِ

(2)

إلى الكفرِ

(3)

.

حدَّثْتُ عن عَمَّارٍ، قال: ثنا ابنَ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . يقولُ: من الكفرِ إلى الإيمانِ. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} يقولُ: من الإيمانِ إلى الكفرِ

(4)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن عَبْدَةَ

(5)

بن أبي لُبابةَ، عن مجاهدٍ، أو مِقْسَمٍ في قولِ اللَّهِ جلَّ وعز:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} . قال: كان قومٌ آمَنوا بعيسى، وقومٌ كفَروا به، فلما بَعَث اللَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم آمَن به الذين كفَروا بعيسى، وكفَر به الذين آمنوا بعيسى، [فقال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} يُخرِجُهم مِن كُفْرِهم بعيسى]

(6)

إلى الإيمانِ بمحمدٍ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 330 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الظلمات".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 330 إلى المصنف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 497 عقب الأثر (2630، 2632) من طريق ابن أبي جعفر به.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عبد الله".

(6)

في ص، م، س:"أي يخرج الذين آمنوا".

ص: 564

صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} آمنوا بعيسى وكفَروا بمحمدٍ، صلى الله عليه وسلم، قال:{يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}

(1)

.

حدَّثنا المثنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المِنْهالِ، قال: ثنا المُعْتَمرُ بنُ سليمانَ، قال: سَمِعْتُ منصورًا، عن رجلٍ، عن عَبْدَةَ بن أبي لُبابةَ قال في هذه الآيةِ:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} إلى {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . قال: هم أناسٌ كانوا آمَنوا بعيسى ابن مريمَ، فلما جاءهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم كفروا

(2)

به، وأُنزِلتْ فيهم هذه الآيةُ

(3)

.

وهذا القولُ الذي ذكَرْناه عن مجاهدٍ وعَبْدةَ بن أبي لُبابةَ، يَدُلُّ على أن الآيةَ معناها الخصوصُ، وأنها، إن كان الأمرُ كما وصَفْنا، نزلَتْ في مَن كفَر مِن النَّصارَى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفى مَن آمَن بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن عَبَدَةِ الأوثانِ، الذين لم يكونوا مُقِرِّين بنبوَّةِ عيسى عليه السلام، ومن سائرِ المللِ التي كان أهلُها يُكَذِّبُ بعيسى.

فإن قال قائلٌ: أو كانت النَّصارَى على حقٍّ قبلَ أن يُبْعَثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فيُكذَّبوا به؟

قيل: مَن كان منهم على مِلَّةِ عيسى ابن مريمَ صلَواتُ اللَّهِ عليه فكان على حقٍّ، وإياهم عنَى اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].

فإن قال قائلٌ: فهل يَحمِلُ قولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 497 (2630) من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 330 إلى ابن المنذر.

(2)

في النسخ: "آمنوا". والمثبت موافق لمصادر التخريج.

(3)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 200، في تفسيره 3/ 283، وأبو حيان في البحر المحيط 2/ 283.

ص: 565

يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}. أن يكونَ مَعْنِيًّا به غيرُ الذين ذكَر مجاهدٌ [وعبْدةُ]

(1)

، أنهم عُنُوا به من المؤمِنين بعيسى، أو غيرُ أهلِ الرِّدَّةِ عن

(2)

الإسلامِ؟

قيل: نعم، يَحتمِلُ أن يكونَ معنى ذلك: والذين كفَروا أولياؤُهم الطاغوتُ، يَحُولون بينَهم وبينَ الإيمانِ، ويُضِلُّونهم فيَكْفُرون، فيكونُ تَضْلِيلُهم إيَّاهم حتى يَكفُروا إخراجًا منهم لهم مِن الإيمانِ، بمعنى صدِّهم إيّاهم عنه، وحِرْمانِهم إياهم خيْرَه، وإن لم يكونوا كانوا فيه قطُّ، كقولِ الرجلِ: أَخْرَجني والدِي من ميراثِه. إذا ملَّك ذلك في حياتِه غيرَه، فحَرَمه منه حَظَّه

(3)

، ولم يَمْلِكْ ذلك القائلُ هذا الميراثَ قطُّ فيَخْرُجَ منه، ولكنّه لمّا حُرِمَه، وحِيلَ بينَه وبينَ ما كان يكونُ له لو لم يُحْرَمْه، [قيل: أخرَجَه]

(4)

منه. وكقولِ القائلِ: أَخْرَجَني فلانٌ مِن كَتِيبتِه. يَعنى: لم يَجْعَلْني مِن أهلِها، ولم يكنْ فيها قَطُّ قبلَ ذلك، فكذلك قولُه:{يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} . مُحْتَمِلٌ

(5)

أن يكونَ إخراجُهم إيَّاهم من الإيمانِ إلى الكفرِ على هذا المعنى، وإن كان الذي قاله مجاهدٌ [وعَبْدةُ]

(6)

أَشبهَ بتأويلِ الآيةِ.

فإن قال قائلٌ: وكيف قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} فجمَع خبرَ الطاغوتِ بقولِه: {يُخْرِجُونَهُمْ} . والطاغوتُ واحدٌ؟

قيل: إن الطاغوتَ اسمٌ لجماعٍ وواحدٍ، وقد يُجْمَعُ "طَواغيت". وإذا جُعِل

(1)

في م: "وغيره".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"و".

(3)

في م: "خطيئة".

(4)

في الأصل: "قبل إخراجه".

(5)

في م: "يحتمل".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وغيره".

ص: 566

واحدُه وجَمْعُه بلفظٍ واحدٍ كان نظيرَ قولِهم: رجلٌ عَدْلٌ، وقومٌ عَدْلٌ. ورجلٌ فِطْرٌ. وقومٌ فِطْرٌ

(1)

. وما أَشبهَ ذلك من الأسماءِ التي يأتي مُوَحَّدًا في اللفظِ واحدُها وجمعُها، وكما قال العباسُ بنُ مِرْداسٍ

(2)

:

فَقُلْنا أَسْلِمُوا إِنَّا أخُوكُمْ

فقد بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ

(3)

الصُّدورُ

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} .

يعنى جل ثناؤه بذلك: هؤلاءِ الذين كفَروا أصحابُ النارِ الذين يُخَلَّدُون فيها - يَعنى: في نارِ جهنمَ - دونَ غيرِهم من أهلِ الإيمانِ، إلى غيرِ غايةٍ ولا نهايةِ أبدًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} .

يعني جل ثناؤُه بقولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} : ألم ترَيا محمدُ بقلبِك إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ؟ يَعنى الذي خاصَم إبراهيمَ - يعنى إبراهيمَ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ربِّه؛ {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} . يعنى بذلك: حاجَّه فخاصمَه في ربِّه؛ لأنَّ اللَّهَ آتاه الملكَ.

وهذا تَعْجِيبٌ من اللَّهِ تعالى ذكرُه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه، ولذلك أُدْخِلَت {إِلَى} في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ} . وكذلك تفعلُ العربُ إذا أرادتِ التَّعْجِيبَ من رجلٍ في بعضِ ما أَنكرَتْ مِن فَعْلِه، قالوا: أَمَا ترَى

(1)

أي مفطرون. ينظر اللسان (ف ط ر).

(2)

مجاز القرآن 1/ 79، واللسان (أ خ و).

(3)

الإحن جمع إحنة، وهي الحقد. القاموس المحيط (أ ح ن).

ص: 567

إلى هذا؟ والمعنى: هل رأيتَ مثلَ هذا، أو كهذا؟

وقيل: إن الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه جَبّارٌ كان يبابِلَ، يقالُ له: نُمْروذُ

(1)

بنُ كَنْعانَ بن كُوشِ

(2)

بن سامِ بن نوحٍ، وقيل: إِنه نُمْرُوذُ بنُ فالَخَ بن عابَرَ بن شالَخَ

(3)

بن أَرْفَخْشدَ

(4)

بن سامِ بن نوحٍ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} . قال: هو نُمْرُوذُ بنُ كَنْعانَ

(5)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني المثنَّى، قال: حدَّثني أبو نُعيمٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"نمرود" بالمهملة، وهو كذلك في تاريخ المصنف 1/ 287، والبداية والنهاية 1/ 342. وفيه الوجهان، وإن كان أهل التحقيق على أنه بالمعجمة. وينظر التاج (نمرد).

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كوس". وينظر التاج (ك و ش)، ونهاية الأرب 2/ 289 وفيه أنه كوش بن حام، وليس ابن سام.

(3)

في ص: "شالح".

(4)

في ص: "أرفحشذ"، وفى م، وتاج العروس (ع ب ر):"أرفخشذ". وينظر البداية والنهاية 1/ 324، 342 بتحقيقنا.

(5)

تفسير مجاهد 243.

ص: 568

حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن النَّضْرِ بن عَرَبيٍّ

(1)

، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} . قال: كُنّا نُحَدَّثُ أنه مَلِكٌ يقالُ له: نُمروذُ. هو أولُ مَلِكٍ تَجَبَّرَ في الأرضِ، وهو صاحبُ الصَّرْحِ ببابِلَ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، قال: هو جبّارٌ

(3)

اسمُه نُمْرُوذُ، وهو أولُ من تجَبَّرَ في الأرضِ، حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه

(4)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} . قال: ذُكِر لنا أن الذي حاجَّ إبراهيمَ

(5)

، كان مَلِكًا يقالُ له: نُمْرُوذُ. وهو أولُ جَبَّارٍ تَجَبَّرَ في الأرضِ، وهو صاحبُ الصَّرْحِ ببابِلَ

(6)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: هو نُمْرُوذُ بن كَنْعَانَ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: هو نُمْرُوذُ

(7)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عدي".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى المصنف، وعبد بن حميد.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 103، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 498 (2635) عن الحسن به.

(5)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"في ربه".

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى المصنف.

(7)

سيأتي تخريجه في ص 573، 574.

ص: 569

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ مثلَه

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، قال: أخبَرني زيدُ بنُ أسلمَ بمثلِه

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: أخبَرني عبدُ اللَّهِ بنُ كَثيرٍ أنه سَمِع مجاهدًا يقولُ: هو نُمْرُوذُ. قال ابن جُريجٍ: هو نُمْرُوذُ، ويقالُ: إنه أولُ مَلِكٍ في الأرضِ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} .

يَعنى جلّ ثناؤه بذلك: ألم تَرَ يا محمدُ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه حينَ قال له إبراهيمُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} . يعنى بذلك: رَبِّيَ الذي بيدِه الحياةُ والموتُ، يُحْيي مَن يشاءُ، ويُمِيتُ مَن أراد بعدَ الإحياءِ. قال: أنا أفعلُ ذلك، فأُحْيِي وأُمِيتُ، أَسْتَحْيِي مَن أُرِيدُ

(4)

قتْلَه، فلا أَقتُلُه، فيكونُ ذلك منى إحياءً له - وذلك عندَ العربِ يُسَمَّى إحياءً، كما قال اللَّهُ:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] - وأَقْتُلُ آخَرَ، فيكونُ ذلك منى إِماتةً له. قال إبراهيمُ له: فإن اللَّهَ الذي هو ربِّي يَأْتِي بالشمسِ من مَشْرقِها، فأْتِ بها، إن كنتَ صادقًا أنك إلهٌ، مِن مَغْرِبِها. قال اللَّهُ تعالى ذكرُه:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . يَعنى: انْقَطَع

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه في أثر مطول 1/ 233.

(2)

سيأتي مطولًا في ص 572، 573.

(3)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 202، والبحر المحيط 2/ 286.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أردت".

ص: 570

وبَطَلَتْ حُجَّتُه.

يقالُ منه: بُهِتَ يُبْهَتُ بَهْتًا. وقد حُكِى عن بعضِ العربِ أنها تقولُ بهذا المعنى: بَهَتَ. ويقالُ: بَهَتُّ الرجلَ. إذا افْتَرَيْتَ عليه كَذِبًا، بَهْتًا وبُهْتَانًا وَبَهَاتةً. وقد رُوِيَ عن بعضِ القرأةِ أنه قرَأ:(فَبَهَت الذي كَفَر)

(1)

. بمعنى: فَبهَتَ إبراهيمُ الذي كفَر.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} : وذُكِر لنا أنه دَعا برجلَين، فقتَل أحدَهما، واسْتَحْيَا الآخرَ، فقال: أنا أُحيِى [وأُمِيتُ؛ إني]

(2)

أَسْتَحْيِي مَن شِئْتُ، وأَقتُلُ مَن شِئْتُ. قال إبراهيمُ عندَ ذلك:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} . {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: أنا أُحْيِي وأُمِيتُ؛ أقتُلُ مَن شِئْتُ، وأَسْتَحْيِي مَن شِئْتُ؛ أَدَعُه حَيًّا فَلا أقتُلُه. وقال: مَلَكَ الأَرضَ مَشْرِقَها ومَغْرِبَها أربعةُ نَفَرٍ، مؤمِنان وكافِران؛ فالمؤمِنان سليمانُ بن داودَ

(1)

وهى قراءة ابن السميقع، وهي شاذة. ينظر المحتسب 1/ 134، والبحر المحيط 2/ 289.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"هذا أنا".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 571

وذو القَرْنَين؛ والكافران: بُخْتُنَصَّرَ ونُمْرُوذُ بنُ كَنْعَانَ، لم يَمْلِكُها غيرُهم

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن زيدِ بن أسلمَ: إنَّ

(2)

أولَ جَبَّارٍ كان في الأرضِ نُمْرُوذُ، وكان الناسُ يَخرُجُون فيَمْتارُون

(3)

من عندِه الطعامَ، فخرَج إبراهيمُ يَمْتارُ مع مَن يَمْتارُ، فإذا مَرَّ به ناسٌ قال: مَن ربُّكم؟ قالوا: أنت. حتى مرَّ إبراهيمَ، قال: مَن ربُّك؟ قال: الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قال: أنا أُحْيي وأُميتُ. قال إبراهيمُ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. قال: فردَّه بغيرِ طعامٍ، فرجَع إبراهيمُ إلى

(4)

أهلِه، فمرَّ على كَثيبٍ

(5)

أعفرَ، فقال: ألَّا آخُذُ مِن هذا فأتِيَ به أهلى، فتَطِيبَ أنفسُهم حينَ أدخُلُ عليهم. فأخَذَ منه فأتَى أهلَه، قال: فوضَع متاعَه ثم نام، فقامتِ امرأتُه إلى متاعِه، ففَتَحَتْه، فإذا هي بأجودِ طعامٍ [رآه أحدٌ]

(6)

، فصَنَعَتْ له منه، فقرَّبَتْه إليه - [وكان عهدِ أهلَه ليس عندَهم طعامٌ]

(7)

- فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعامِ الذي جِئْتَ به. فعَلِم أن اللَّهَ رزَقه، فحَمِد اللَّهَ، ثم بعَث اللَّهُ إلى الجَبَّارِ مَلَكًا أنْ آمِنْ بى وأَترُكَكَ على مُلْكِك. قال: وهل ربٌّ غيرِى؟ فجاءه الثانيةَ، فقال له ذلك، فأبَى عليه، ثم أتاه الثالثةَ، فأبى عليه، فقال له المَلَكُ: اجْمَعُ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 564 من طريق حصين، عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى عبد بن حميد.

(2)

سقط من: م.

(3)

يمتارون: يجلبون. ينظر التاج (م ي ر).

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"على".

(5)

بعده في م، والدر المنثور:"من رمل". والكثيب الأعفر: هو كثيب الرمل الأحمر. اللسان (ع ف ر).

(6)

في م: "رأته".

(7)

سقط من الأصل، وفى م، وتفسير عبد الرزاق، والدر المنثور:"وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام". والمثبت موافق لما في تاريخ المصنف.

ص: 572

جُموعكَ إلى ثلاثةِ أيامٍ، فجمَع الجبارُ جُموعَه، فأمَر اللَّهُ الملَكَ، ففتَح عليه بابًا من البَعوضِ، فطلَعتِ الشمسُ فلم يَرَوْها من كَثْرتِها، فبعَثها اللَّهُ عليهم، فأكلَتْ لُحومَهم، وشَرِبَت دماءَهم، فلم يَبْقَ إلا العِظامُ، والملِكُ كما هو لم يُصِبْه من ذلك شيءٌ، فبعَث اللَّهُ عليه بَعوضةً، فدخَلت في مَنْخَرِه، فمكَث أربعَمائةِ سنةٍ يُضْرَبُ رأسُه بالمَطارقِ، وأَرْحمُ الناسِ به من جمَع يدَيْه وضَرَب بهما رأسَه، وكان جبارًا أربعَمائةِ عامٍ، فعذَّبه اللَّهُ أربعَمائةِ سنةٍ كمُلكِه

(1)

، وأماتَه اللَّهُ، وهو الذي بني صرحًا إلى السماءِ، فأتى اللَّهُ بنيانَه مِن القواعدِ، وهو الذي قال اللَّهُ:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}

(2)

[النحل: 26].

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بن أسلمَ في قولِ اللَّهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} . قال: هو نُمْروذُ بنُ كَنْعانَ، كان بالمَوْصلِ والناسُ يَأْتُونه، فإذا دخَلوا عليه، قال: مَن ربُّكم؟ فيَقُولون: أنتَ. فيقولُ: أمِيرُوهم

(3)

. فلما دخَل إبراهيمُ ومعه بعيرٌ خرَج يَمْتازُ به لولدِه، قال: فعرَضهم كلَّهم، فيَقُولُ: مَن ربُّكم؟ فيَقُولون: أنتَ. فيَقولُ: أمِيروهم. حتى عرَض إبراهيمَ مرتين، فقال: مَن ربُّك؟ قال: ربيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قال: أنا أُحْيى وأُمِيتُ؛ إن شِئْتُ قَتَلْتُك فأَمَتُّك، وإن شِئْتُ اسْتَحْيَيْتُك. فقال إبراهيمُ:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قال: أخرِجوا هذا فلا تُمِيرُوه شيئًا. فخرَج القومُ كلُّهم قد

(1)

في الأصل: "كعدد ملكهـ".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 287، وابن أبي حاتم - مختصرا - في تفسيره 2/ 499 (2638) عن الحسن به، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 105، وأخرجه ابن عساكر 6/ 178 من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى ابن المنذر.

(3)

في ص، م:"ميروهم". وأماره وماره بمعنى. التاج (م ي ر).

ص: 573

امتاروا، وجُوالقَا

(1)

إبراهيمَ يَصْطَفِقان

(2)

. قال

(3)

: حتى إذا نظَر إلى سوادِ جبالِ أهلِه، قال: لَيحْزُنُني صبييَّ

(4)

إسماعيلُ وإسحاقُ، لو أنى ملأتُ هذين الجُوالِقَين مِن هذه البطحاءِ فذهَبْتُ بهما، قَرَّتْ عَيْنا صبييَّ، حتى إذا كان الليلُ أَهْرَقْتُه. قال: فمَلأهما ثم خَيَّطَهما، ثم جاء بهما، [فنَزا عليه]

(5)

الصبيَّان فَرَحًا، وألْقى رأسَه في حَجْرِ سارةَ ساعةً، ثم قالت: ما يُجْلِسُني؟ قد جاء إبراهيمُ تَعِبًا لَغِبًا

(6)

، لو قُمْتُ فصنَعت له طعامًا إلى أن يَقُومَ! قال: فأخَذَتْ وِسادةً، فأدْخَلَتْها مكانَها، وانْسَلَّت قليلًا قليلًا لئلّا تُوقِظَه، قال: فجاءَت إلى إحدى الغِرارَتين

(7)

فقَتَقَتْها، فإذا حُوَّارَى

(8)

من النَّقيِّ، لم يَرَوْا مثلَه عندَ أحدٍ قَطُّ، فأخَذتْ منه، [فعجنَتْه وصنعَتْه]

(9)

، فلما أتَت تُوقِظُ إبراهيمَ، جاءَته حتى وضعَتْه بين يَدَيْه، فقال: أيُّ شيءٍ هذا يا سارَةُ. قالت: من جُوالِقِكَ، لقد جئتَ وما عندَنا قليلٌ ولا كثيرٌ. قال: فذهَب يَنْظُرُ إلى الجُوالِقِ الآخَرِ، فإذا هو مثلُه، فعرَف مِن أين ذاك

(10)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه،

(1)

الجوالق، بكسر اللام وفتحها معرب: وعاء من الأوعية معروف. اللسان (ج ل ق).

(2)

اصطفق، من قولهم: صفقت الريح الأشجار صفقا فاصطفقت، إذا هزتها وحركتها. التاج (ص ف ق).

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، م.

(4)

في م: "صبياي".

(5)

في ص، م:"فترامي عليه"، وفي ت 1، ت 2، ت 3، س:"فنزا عليهما". وفي العظمة: "فنزل عليه". ونزا: وثب وقفز. اللسان (ن ز و).

(6)

اللغب، بالتحريك: التعب والإعياء، وهو أيضا النصب والفتور اللاحق بسببه. التاج (ل غ ب).

(7)

الغرارتان مثنى الغرارة، وهى الجوالق، والجمع غرائر. التاج (غ ر ر).

(8)

الحواري: الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه. التاج (ح و ر).

(9)

في ص: "فعجنته وعجنته"، وفى م:"فطحنته وعجنته".

(10)

أخرجه أبو الشيخ في العظمة (966، 997) من طريق ابن وهب به.

ص: 574

عن الربيعِ، قال: لمّا قال له إبراهيمُ: ربيَ الذي يُحْيِي ويُميتُ. قال هو - يعنى نُمْروذَ -: فأنا أُحْيِي وأُمِيتُ. فدعا برجلين، فاسْتَحْيَا أحدَهما وقتَل الآخَرَ. قال: أنا أُحْيِي وأُمِيتُ؛ إني

(1)

أسْتَحْيِي مَن شِئْتُ. فقال إبراهيمُ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}

(2)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما خرَج إبراهيمُ مِن النارِ، أدخَلوه على الملكِ، ولم يَكُنْ قبلَ ذلك دخَل عليه، فكلَّمه، وقال له: من ربُّك؟ قال: ربيَ الذي يُحْيِي ويُمِيتُ. قال: نُمْروذُ: أنا أحْيِي وأُمِيتُ؛ أنا آخُذُ

(3)

أربعةَ نفَرٍ فأُدخِلُهم

(4)

بيتًا، فلا يُطْعَمُون ولا يُسقَوْن، حتى إذا هلَكوا مِن الجوعِ أطْعَمْتُ اثنين وسَقَيْتُهما فعاشَا، وتَرَكْتُ اثنين فماتَا. فَعرَفَ إبراهيمُ أن له قدرةً بسلطانِه ومُلكِه على أن يَفْعَلَ ذلك، قال له إبراهيمُ: فإن اللَّهَ

(5)

يأتى بالشمسِ مِن المشْرقِ، فأتِ بها مِن المغربِ. فبُهِت الذي كفَر، وقال: إن هذا إنسانٌ مجنونٌ، فأخْرِجوه، ألا تَرَوْن أنه مِن جنونِه اجْتَرأ على آلهتِكم فكسَرها، وأن النارَ لم تَأْكُلْه. وخشِي أن يَفْتَضِحَ في قومِه، [أعنى نُمْروذَ]

(6)

، وهو قولُ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]. وكان يَزْعُمُ أنه ربٌّ، فأمَر بإبراهيمَ فأُخْرِج

(7)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قال أي".

(2)

ذكره القرطبي في تفسيره 3/ 285.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أدخل".

(4)

سقط من: م.

(5)

في ص، م، ت 2، س:"ربي الذي".

(6)

سقط من: ص.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 498، 499 (2636) من طريق عمرو بن حماد به، وعزاه =

ص: 575

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبَرني عبدُ اللَّهِ بنُ كثيرٍ، أنه سمِع مجاهدًا يَقُولُ: قال: أنا أحْيِي وأُمِيتُ: أُحْيِي فلا أَقْتُلُ، وأُمِيتُ مَن قَتَلْتُ. قال ابن جُريجٍ: كان أُتِي برجلين، فقَتَل أحدَهما وترَك الآخرَ، فقال: أنا أُحْيِي وأُمِيت. قال: أقْتُلُ فأُمِيتُ مَن قَتَلْتُ، وأُحْيِي. قال: أَسْتَحْيِي فلا أقْتُلُ

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ذُكِر لنا، واللَّهُ أعلمُ، أن نُمْروذَ قال لإبراهيمَ فيما يَقُولُ: أرَأيْت إلهَك هذا الذي تَعْبُدُه، وتَدْعو إلى عبادتِه، وتَذْكُرُ مِن قدرتِه التي تعَظِّمُه بها على غيرِه ما هو؟ فقال له إبراهيمُ: ربِّيَ الذي يُحْيِي ويُمِيتُ. قال: نُمروذُ: فأنا أُحْيِي وأُمِيتُ. فقال له إبراهيمُ: كيف تُحْيي وتُمِيتَ؟ قال: آخُذُ الرَّجُلَين قد اسْتَوجَبا القتلَ في حُكْمِي، فأقْتُلُ أحدَهما، فأكونُ قد أمَتُّه، وأعْفُو عن الآخرِ، فأتْرُكُه، فأكونُ قد أحْيَيْتُه. فقال له إبراهيمُ عندَ ذلك: فإن اللَّهَ يَأتى بالشمسِ من المشرقِ، فأْتِ بها مِن المغربِ أعْرِفْ أنه كما تَقوُلُ. فبُهِتَ عندَ ذلك نُمْروذُ، ولم يَرْجِعْ إليه شيئًا، وعرَف أنه لا يُطيقُ ذلك. يقولُ تعالى ذكرُه:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . يَعْنى: وقَعت عليه الحجةُ، يَعْنى نُمْروذَ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

يعنِى جلَّ ثناؤه بذلك: واللَّهُ لا يَهْدى أهلَ الكُفْرِ به إلى حجةٍ يَدْحَضُون بها

= السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى ابن المنذر.

(1)

قول ابن جريج عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى ابن المنذر من قول ابن عباس، وينظر ما تقدم في ص 570.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 240، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 499 (2640) من طريق سلمة به مختصرا.

ص: 576

حُجَجَ

(1)

أهلِ الحقِّ عندَ المحاجة والمخاصمةِ؛ لأن أهلَ الباطلِ حُجَجُهم داحضةٌ.

وقد بيَّنا أن معنى الظلمِ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه

(2)

، والكافرُ وضَع جُحُودَه ما جحَد في غيرِ موضعِه، فهو بذلك مِن فعلِه ظالمٌ لنفسِه.

وبنحوِ ما قُلْنا في ذلك قال ابن إسحاقَ.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: لا يَهْديهم في الحُجَّةِ عندَ الخصومةِ لما هم عليه مِن الضلالِة

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} .

يَعْنى جلّ ثناؤه بقولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . نظيرَ الذي عَنَى اللَّهُ بقولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} . مِن تَعْجيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم منه.

وقولُه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . عطفٌ على قولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} . وإنما عطَف بقولِه: {أَوْ كَالَّذِي} على قولِه: {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} . وإن اختلَف لفظاهما؛ لتشابهِ مَعْنَيَيْهما؛ لأن قولَه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} . بمعنى: هل رأَيتَ يا محمدُ كالذى حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه؟ ثم عطَف عليه بقولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . [كأَنَّه قال: هل رأيتَ كالذى حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه؟ أو كالذى مرَّ على قريةٍ]

(4)

؟ لأن مِن شأنِ العربِ العَطْفَ بالكلامِ على معنًى نظيرٍ له قد تَقَدَّمَه، وإن خالَف لفظُه لفظَه.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حجة".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 559، 560.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 499 (2640) من طريق سلمة به.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 577

وقد زعَم بعضُ نحويِّى البصرةِ أن الكافَ في قولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} ؟

زائدةٌ، وأن المعنى: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ؟ أو الذي

(1)

مَرَّ على قريةٍ. وقد بَيَّنا فيما مَضَى قَبْلُ أنه غيرُ جائزٍ أن يَكُونَ في كتابِ اللَّهِ شيءٌ لا معنى له، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(2)

.

واختلَف أهلُ التأويلِ في الذي مَرَّ على قريةٍ وهى خاويةٌ على عُروشِها؛ فقال بعضُهم: هو عُزَيرٌ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن ناجيةَ بن كعبٍ:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال: عُزَيرٌ

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو خُزَيمةَ، قال: سمِعتُ سليمانَ بنَ بُريدةَ في قولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . قال: هو عُزَيرٌ

(4)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} قال: ذُكِرُ لنا أنه عُزَيرٌ

(5)

.

(1)

في الأصل، ت 1:"كالذي".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 466 - 472.

(3)

تفسير سفيان ص 71، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 40/ 320.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى المصنف، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500 عقب الأثر (2641) معلقًا.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500 (2644) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة.

ص: 578

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه

(1)

.

حُدِّثْتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه قولَه:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . قال: قال الربيعُ: ذكِر لنا، واللَّهُ أَعْلَمُ، أن الذي أتَى على القريةِ هو عُزَيرٌ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عكرمةَ:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال: عُزَيرٌ

(2)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . قال: عُزَيرٌ

(2)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يَقُولُ: أخبَرنا عُبيدُ بن سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يَقُولُ في قولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : يقالُ

(3)

: إنه عُزَيرٌ

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: قال لنا سَلْمٌ

(4)

الخواصُ: كان ابن عباسٍ يَقُولُ: هو عُزَيرٌ

(5)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 106.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 331 إلى المصنف.

(3)

سقط من: ص، م، وفى ت 1، ت 2، س:"قال قال".

(4)

في م، ص:"سالم". وينظر الكامل لابن عدى 3/ 1174.

(5)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 40/ 320 من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

ص: 579

وقال آخرون: بل هو إِرْمِيَا

(1)

بنُ حَلْقِيَّا. وزعَم محمدُ بنُ إسحاقَ أن إِرْمِيَا هو الخَضِرُ.

حدَّثنا بذلك ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: حدَّثني ابن إسحاقَ، قال: اسمُ الخَضِرِ، فيما كان وهبُ بنُ مُنَبِّهٍ يَزْعُمُ عن بني إسرائيلَ، إِرْمِيَا بنُ حَلْقِيَّا، وكان مِن سِبطِ هارونَ بن عمرانَ

(2)

.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ في قولِه:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} : إن إِرْمِيَا لما خُرِّب بيتُ المقدِس وحُرِّقتِ الكتبُ، وقَف في ناحيةِ الجبلِ، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}

(3)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثني ابن إسحاقَ، عمن لا يَتَّهمُ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: هو إِرْمِيَا

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ [سَهْلِ بن]

(5)

عَسْكَرٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال:

(1)

في ص في هذا الموضع وما بعده: "أورميا". والمثبت موافق لما في كتاب القوم، ينظر سفر إرميا. الأصحاح 1/ 1.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 547.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 99، 100، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 8/ 28، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 502 (2653)، وأبو الشيخ في العظمة (243) من طريق أبي الهذيل، عن وهب بن منبه.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 548.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 580

سمِعت عبدَ الصمدِ بنَ مَعْقِلٍ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ مثلَه

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن قيسِ بن سعدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عبيدِ بن عميرٍ في قولِ اللَّهِ:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} قال: كان نبيًّا وكان اسمُه إِرْمِيَا

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن قيسِ بن سعدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عبيدٍ، مثلَه.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني بكرُ بنُ مُضَرَ

(3)

، قال: يَقُولون، واللَّهُ أعلمُ: إنه إرْمِيَا

(4)

.

وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يُقَالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه عجَّب نبيَّه صلى الله عليه وسلم ممن قال، إذ رأى قريةً خاويةً على عُروشِها:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . مع علمِه أنه ابتدَأ خَلْقَها مِن غيرِ شيءٍ، فلم يُقْنِعْه عِلمُه بقُدْرتِه على ابتدائِها، حتى قال: أنى يُحْيِيها اللَّهُ بعدَ موتِها؟ ولا بيانَ عندَنا مِن الوجهِ الذي يَصِحُّ مِن قِبَلِه البيانُ عن

(5)

اسمِ قائلِ ذلك، وجائزٌ أن يكونَ عُزَيرًا، وجائزٌ أن يكونَ إِرْمِيَا، ولا حاجةَ بنا إلى معرفةِ اسمِه، إذ لم يكنِ المقصودُ بالآيةِ تعريفَ الخَلْقِ اسمَ قائلِ ذلك، وإنما المقصودُ بها تعريفُ المنكِرين قدرةَ اللَّهِ على إحيائِه خلقَه بعدَ مماتِهم، وإعادتِه إيّاهم بعدَ

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 547.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500 (2643) من طريق قيس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

بياض في: ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفى س:"وائل".

(4)

ينظر البحر المحيط 2/ 290.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"علي".

ص: 581

فنائِهم، وأنه الذي بيَدِه الحياةُ والموتُ، مِن قريشٍ ومَن كان يُكَذِّبُ بذلك مِن سائرِ العربِ، وتثبيتُ الحجةِ بذلك على مَن كان بينَ ظَهْرَانَيْ مُهاجَرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن يهودِ بني إسرائيلَ، بإطلَاعِه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما يُزِيلُ شكَّهم في نبوَّتِه، ويَقْطَعُ عذرَهم في رسالتِه، إذ كانت هذه الأنباءُ التي أوحاها اللَّهُ إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم في كتابِه، مِن الأنباءِ التي لم يكنْ يَعْلَمُها محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومُه، ولم يَكنْ علْمُ ذلك إلا عندَ أهلِ الكتابِ، ولم يكنْ محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومُه منهم، بل كان أمِّيًّا، وقومُه أُمَّيُّون، فكان معلومًا بذلك - عندَ أهلِ الكتابِ مِن اليهودِ الذين كانوا بينَ ظَهْرَانَيْ مُهاجَرِه - أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَمْ ذلك إلا بوحيٍ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه إليه. ولو كان

(1)

المقصودُ بذلك الخبرَ عن اسمِ قائلِ ذلك، لكانتِ الدَّلالةُ منصوبةً عليه نصبًا يَقْطَعُ العذرَ، ويُزيلُ الشكَّ، ولكنَّ القصدَ كان إلى ذمِّ قِيلِه، فأبان ذلك جلّ ثناؤه لخَلْقِه.

واختلَف أهلُ التأويلِ في القريةِ التي مرَّ عليها القائلُ: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . فقال بعضُهم: هي بيتُ المقدسِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سهلِ بن عسكرٍ ومحمدُ بنُ عبدِ الملكِ، قالا: ثنا إسماعيلُ بن عبدِ الكريمِ، قال: ثنى عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ أنه سمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ، قال: لما رأى إِرمِيَا هَدَمَ

(2)

بيتِ المقدسِ كالجبلِ العظيمِ، قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}

(3)

.

(1)

بعده في ص: "يعلم".

(2)

الهدم، بفتح الدال: ما انهدم من البناء. اللسان (هـ د م).

(3)

تقدم تخريجه في ص 580.

ص: 582

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا عبدُ الصمدِ بنُ معقلٍ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنبِّهٍ، قال: هي بيتُ المقدسِ

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، عمَّن لا يُتَّهمُ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ ذلك

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذكِر لنا أنه بيتُ المقدسِ، أتَى عليه عُزَيرٌ بعدَما خرَّبه بُخْتُنَصَّرَ البابِليُّ

(2)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يَقُولُ في قولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : إنه مَرَّ على الأرضِ المقدسةِ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عِكْرِمةَ في قولِه:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . قال: القريةُ بيتُ المقدسِ، مَرَّ بها عُزَيرٌ بعدَ إِذ حَرَّبها بُخْتُنَصَّرَ

(3)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قال: القريةُ بيتُ المقدسِ، مَرَّ عليها عُزَيرٌ وقد خَرَّبَها بُخْتُنَصَّرَ

(3)

.

وقال آخرون: بل هي القريةُ التي كان اللَّهُ أهلَك فيها الذين خرَجوا مِن ديارِهم

(1)

تقدم تخريجه ص 580.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500 (2644) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى المصنف.

ص: 583

وهم ألوفٌ حذَرَ الموتِ، فقال لهم اللَّهُ: مُوتوا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} . قال: قريةٌ كانت

(1)

نزل بها الطاعونُ. ثم اقْتَصَّ قصتَهم التي ذكَرناها في موضعِها عنه، إلى أن بلَغ. {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243]: في المكانِ الذي ذهَبوا يَبْتَغون فيه الحياةَ، فماتوا، ثم أحياهم اللَّهُ، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]. قال: ومَرَّ بها رجلٌ وهى عظامٌ تلوحُ، فوقَف يَنْظُرُ، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} إلى قولِه: {لَمْ يَتَسَنَّهْ}

(2)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك كالقولِ في اسمِ القائلِ: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . سواءٌ لا يَخْتَلِفان.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} .

يَعْنِى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} : وهي خاليةٌ مِن أهلِها وسكانِها، يقالُ مِن ذلك: خَوَت الدارُ تَخْوِى خَوَاءٌ وخُوِيًّا، وقد يُقالُ للقريةِ: خَوِيَت. والأول أعْرَبُ وأفْصَحُ. وأما في المرأةِ إذا كانت نُفَساءَ فإنه يقالُ: خَوِيت تَخْوَى? خَوًى. مَنْقُوصًا، وقد يُقالُ فيها: خَوَتْ تَخْوِى. كما يُقالُ في الدارِ، وكذلك: خَوَى

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كان".

(2)

تقدم بتمامه في ص 420.

ص: 584

الجَوفُ يَخْوِى خوًى

(1)

شديدًا. ولو قِيل في الجوفِ ما قِيل في الدارِ، وفي الدارِ ما قِيل في الجَوْفِ، كان صوابًا، غيرَ أن الفصيحَ ما ذكَرتُ.

وأما العُروشُ، فإنها الأبنيةُ والبيوتُ، واحدُها عَرْشٌ، وجَمْعُ قليلِه أَعْرُشٌ، وكلُّ بناءٍ فإنه عَرْشٌ، ويُقالُ:[عَرَش فلانٌ، إذا بنَى - يَعْرِشُ ويَعرُشُ - عرشًا]

(2)

، ومنه قولُ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] يعنِي: يَبْنُون. ومنه قِيل: عَريشُ مكةَ، يعنِى به خيامَها وأبنيتَها.

وبمثلِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: قال ابن عباسٍ: {خَاوِيَةٌ} : خرابٌ. قال ابن جريجٍ: بلَغنا أن عُزَيرًا حرَج، فوقَف على بيتِ المقدسِ وقد خرَّبه بُخْتُنَصَّرَ، فوقَف فقال: أبْعدَ ما كان لك

(3)

مِن المقدسِ والمُقاتِلةِ والمالِ ما كان! فحزِن

(4)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال: هي خرابٌ

(5)

.

(1)

في م: "خواء".

(2)

في ص: "عرش فلان إذا يعرش ويعرش عرشا"، وفى م:"عرش فلان يعرش ويعرش وعرش تعريشا". وفى ت 1، ت 2، ت 3، س:"عرش فلان إذا تعرش وتعرش تعريشا".

(3)

في الأصل: "فيك".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى المصنف وابن المنذر دون قول ابن جريج.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500 (2645) من طريق جويبر، عن الضحاك، وينظر ما سيأتي تخريجه في 16/ 590.

ص: 585

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: مَرَّ عليها عُزَيرٌ وقد خرَّبها بُخْتُنَصَّرَ

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} يقولُ: ساقِطةٌ على سُقُفِها

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} .

ومعنَى ذلك فيما ذُكِر

(3)

، أن قائلَه لما مَرَّ ببيتِ المقدسِ، أو بالموضعِ الذي ذكَر اللَّهُ أنه مَرَّ به خرابًا بعدَ ما عهِده عامِرًا، قال: أنَّى يُحْيِي هذه اللَّهُ بَعْدَ خرابِها؟

(4)

. فقال بعضُهم: كان قِيلُه ما قال مِن ذلك شَكًّا في قدرةِ اللَّهِ على إحيائِه، فأراه اللَّهُ قدرتَه على ذلك، بضَرْبِه المَثَلَ له في نفسِه، ثم أراه الموضعَ الذي أنكَر قدرتَه على عِمارتِه وإحيائِه أحيا

(5)

ما أراه

(6)

قبلَ خرابِه، وأعْمَرَ ما كان قبلَ خرابِه، وذلك أن قائلَ ذلك كان - فيما ذُكِر لنا - عهِده عامرًا بأهلِه وسُكّانِه، ثم رآه خاويًا على عُرُوشِه، قد باد أهلُه، وشَتَّتَهم القتلُ والسَّباءُ، فلم يَبْقَ منهم بذلك المكانِ أحدٌ، وخَرِبت منازلُهم ودُورُهم، فلم يَبْقَ فيها إلا الأثرُ، فلمّا رآه كذلك بعدَ الحالِ التي عهِده عليها،

(1)

تقدم تخريجه في ص 583.

(2)

أخرجه بن أبي حاتم في تفسيره 2/ 501 عقب الأثر (2647) من طريق عمرو بن حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى المصنف.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ذكرت".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"موتها".

(5)

أحيا ما أراه: على التفضيل وليس على الفعلية، أي: كأحيا ما أراه. وقد عُطف عليه بعدُ: وأعمر ما كان قبل خرابه.

(6)

في م: "رآه".

ص: 586

قال: على أيِّ وجهٍ يُحْيِي هذه اللَّهُ بعدَ خرابِها فيَعْمُرُها؟ استنكارًا - فيما قاله بعضُ أهلِ التأويلِ - فأراه اللَّهُ كيفيةَ إحيائِه ذلك، بمثَلٍ

(1)

ضرَبه له في نفسِه، وفيما كان [مِن إداوَتِه]

(2)

وطعامِه، ثم عرَّفه قدرتَه على ذلك وعلى غيرِه، [بإظهارِ إحيائِه]

(3)

ما كان عجبًا عندَه في قدرةِ اللَّهِ إحياؤُه لرأْيِ عينِه، حتى أبصَرَه ببصرِه، فلمّا رأَى ذلك، قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وكان سببَ قِيلِه ذلك كالذى حدَّثني به ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عمَّن لا يُتَّهمُ، عن وهْبِ بن مُنَبِّهٍ اليمانيِّ أنه كان يَقُولُ: قال اللَّهُ لإرْمِيَا حينَ بعَثه نبيًّا إلى بني إسرائيلَ: يا إِرْمِيَا، مِن قبلِ أَن أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُك، ومِن قبلِ أن أُصَوِّرَك في رَحِم أُمِّك قدَّسْتُك، ومِن قبلِ أن أُخْرِجَك مِن بطنِها طَهَّرْتُكَ، ومِن قبلِ أن تَبْلُغَ السعىَ نَبَّيْتُك

(4)

، ومِن قبلِ أن تَبْلُغَ الأشُدَّ اختَرتُك

(5)

، ولأمرٍ عظيمٍ اجْتَبَيْتُك. فبعَث اللَّهُ تبارك وتعالى إِرْمِيَا إلى ملِكِ بني إسرائيلَ، يسدِدُه ويُرْشِدُه، ويأتيه بالخبرِ مِن اللَّهِ فيما بينَه وبينَه.

قال: ثم عَظُمت الأحداثُ في بنى إسرائيلَ، وركِبوا المعاصيَ، واستحَلُّوا المحارمَ، ونسُوا ما كان اللَّهُ صنَع بهم، وما نجّاهم مِن عدوِّهم سَنْحاريبَ، فأوحَى اللَّهُ عز وجل إلى إرميا: أنِ ائْتِ قومَك مِن بني إسرائيلَ، فاقْصُصْ عليهم ما آمُرُك به، وذَكِّرْهم نعمتى عليهم وعَرِفْهم إحداثَهم.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ص:"بما".

(2)

في الأصل: "من أدواته"، وفى م:"من شرابه"، وفى س:"مرادا به". والإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء. اللسان (أ د و).

(3)

في م: "بإظهاره إحياء".

(4)

في م: "نبأتك": ونبيتك: جعلتك نبيا.

(5)

في التاريخ: "اختبرتك".

ص: 587

ثم ذكَر ما أرسَل اللَّهُ به إرْمِيا إلى قومِه مِن بنى إسرائيلَ، قال: ثم أوحَى اللَّهُ جلّ ثناؤه إلى إِرْمِيَا: إنى مُهْلِكٌ بني إسرائيلَ بيافِثَ. ويافثُ أهلُ بابلَ، وهم [مِن ولدِ]

(1)

يافِثَ بن نوحٍ. فلما سمِع إِرْمِيَا وَحْىَ ربِّه، صاح وبكَى وشَقَّ ثيابَه، ونبَذ الرَّمادَ على رأسِه، فقال: ملعونٌ يومٌ وُلِدْتُ فيه، ويومٌ لُقِّيتُ التوراةَ، ومِن شرِّ أيامي يومٌ ولِدتُ فيه، فما أُبقِيتُ آخِرَ الأنبياءِ إلا لما هو شرٌّ عليَّ، لو أراد بي خيرًا ما جعَلني آخرَ الأنبياءِ مِن بني إسرائيلَ، فمِن أجلى تصيبُهم الشِّقوةُ والهلاكُ.

فلما سمِعَ اللَّهُ تَضَرُّعَ الخَضِرِ وبكاءَه وكيف يَقُولُ، ناداه: يا إِرْمِيَا، أشَقَّ عليك ما أَوْحَيتُ إليك؟ قال: نعم يا ربِّ، أهلِكني [قبلَ أن أرى]

(2)

في بني إسرائيلَ ما لا أُسَرُّ به. فقال اللَّهُ تبارك وتعالى: وعزَتي العزيزةِ لا أُهلِكُ بيتَ المقدسِ وبنى إسرائيلَ حتى يكونَ الأمرُ مِن قِبَلِك في ذلك. ففرِح عندَ ذلك إِرْمِيا لِمَا قال له ربُّه، وطابَت نفسُه، وقال: لا والذي بعَث موسى وأنبياءَه بالحقِّ، لا آمُرُ ربي بهلاكِ بنى إسرائيلَ أبدًا. ثم أتَى مَلِكَ بنى إسرائيلَ، وأخَبَره بما أوحَى اللَّهُ إليه، ففرِح واسْتَبْشَر، وقال: إن يعذِّبْنا ربُّنا فبذُنوبٍ كثيرةٍ قدَّمْناها لأنفسِنا، وإن عفا عنا فبقدرتِه.

ثم إنهم لبِثوا بعدَ هذا الوحي ثلاثَ سنين لم يَزْدادوا إلا معصيةً، وتماديًا

(3)

في الشرِّ، وذلك حينَ اقترَب هلاكُهم، فقلَّ الوحيُ حينَ

(4)

لم يَكُونوا يَتَذَكَّرون الآخرةَ، وأُمْسِك عنهم حينَ ألهَتْهم الدنيا وشأنُها، فقال لهم ملِكُهم: يا بنى

(1)

في ق: "ولد".

(2)

سقط من ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"تمادوا".

(4)

في م: "حتى".

ص: 588

إسرائيلَ، انْتَهوا عما أنتم عليه قبلَ أن يَمَسَّكم بأسُ اللَّهُ، وقبلَ أن يُبْعَثَ عليكم ملوكٌ لا رحمةَ لهم بكم، فإن ربَّكم قريبُ التوبةِ، مبسوطُ اليدين بالخيرِ، رحيمٌ بمن تاب إليه. فأبَوْا عليه أن يَنْزِعوا عن شيءٍ مما هم عليه.

وإن اللَّهَ عز وجل الْقَى في قلبِ بُخْتِنَصَّرَ بن نَبُوزرادانَ

(1)

أن يسيرَ إلى بيتِ المقدسِ، ثم يَفْعَلَ فيه ما كان جدُّه سَنْحاريبُ أراد أن يَفْعَلَه، فخرَج في ستِّمائةِ ألفِ رايةٍ، يُريدُ أهلَ بيتِ المقدسِ؛ فلما فصَل سائرًا، أتيَ مَلِكَ بني إسرائيلَ الخبرُ أن بُخْتَ نَصَّرَ قد أقبَل هو وجنودُه يُريدُكم، فأرسَل الملِكُ إِلى إِرْمِيَا، فجاءه فقال: يا إِرْمِيَا، أين ما زعَمتَ لنا أن ربَّنا أوحَى إليك ألا يُهلِكَ أهلَ بيتَ المقدسِ حتى يَكُونَ منك الأمرُ في ذلك؟ فقال إِرْمِيا للملِكِ: إن ربي لا يُخْلِفُ الميعادَ، وأنا به واثقٌ.

فلمّا اقترَب الأجلُ ودنا انقطاعُ مُلْكِهم، وعزَم اللَّهُ على هلاكِهم، بعَث اللَّهُ مَلَكًا مِن عندِه، فقال: اذْهَبْ إلى إِرْمِيَا فاسْتَفْتِه، وأمَره بالذي يَسْتَفْتِيه فيه، فأقبل الملَكُ إلى إرْمِيَا، وقد تمثَّلَ له رجلًا مِن بنى إسرائيلَ، فقال له إرميا: مَن أنت؟ قال: أنا رجلٌ مِن بني إسرائيلَ، أسْتَفْتِيك في بعضِ أمرِى. فأذِن له، فقال له الملَكُ: يا نبيَّ اللَّهِ أتَيْتُك أسْتَفْتِيك في أهلِ رَحِمي، وصَلتُ أرحامَهم بما أمَرني اللَّهُ به، لم آتِ إليهم إلا حُسْنًا، ولم آلُهم كرامةً، فلا تَزيدُهم كرامتي إياهم إلا إسْخاطًا لى، فأفْتِني فيهم يا نبيَّ اللَّهِ. فقال له: أحسِنْ فيما بينَك وبينَ اللَّهِ، وصِلْ ما أمَرك اللَّهُ به أن تَصِلَ، وأبْشِرْ بخيرٍ.

(1)

في م: "نعون بن زادان". وورد ذكر لنبوزرادان هذا في سفر إرميا الأصحاح 52، لكن على أنه رئيس الشرط زمن نبوخذ نصر (بخت نصر).

ص: 589

فانصرَف عنه المَلَكُ، فمكَثَ أيامًا، ثم أقبَل إليه في صورةِ ذلك الرجلِ الذي كان

(1)

جاءه، فقعَد بينَ يدَيْه، فقال له إرْميا: مَن أنت؟ قال: أنا الرجلُ الذي أَتَيْتُك أستفتِيك

(1)

في شأنِ أهلي. فقال له نبيُّ اللَّهِ عليه السلام: أوَ ما طَهُرَت لك أخلاقُهم بعدُ، ولم تَرَ منهم الذي تُحِبُّ؟ فقال: يا نبيَّ اللَّهِ، والذي بعثَك بالحقِّ ما أعْلَمُ كرامةً يَأْتيها أحدٌ مِن الناسِ إلى أهلِ رَحِمِه إلا وقد أتَيْتُها إليهم، وأفضلَ مِن ذلك. فقال النبيُّ: ارْجِعْ إلى أهلِك، فأَحسِنْ إليهم، أسألُ اللَّهَ الذي يُصْلِحُ عبادَه الصالحين، أن يُصْلِحَ ذاتَ بينِكم، وأن يَجْمَعَكم على مَرضاتِه، ويُجَنِّبَكُم سَخَطَه.

فقام الملَكُ مِن عندِه، فلبِث أيامًا، وقد نزَل بُخْتُ نَصَّرَ وجنودُه حولَ بيتِ المقدسِ بأكثرَ مِن الجرادِ، ففزِع منهم بنو إسرائيلَ فزَعًا شديدًا، وشَقَّ ذلك على ملِكِ بني إسرائيلَ، فدعا إرْمِيَا، فقال: يا نبيَّ اللَّهِ، أين ما وعدَك اللَّهُ؟ فقال: إني بربِّي واثقٌ.

ثم إن الملَكَ أقبَل إلى إرمِيَا وهو قاعدٌ على جدارِ بيتِ المقدسِ يَضْحَكُ ويَسْتَبْشِرُ بنصرِ ربِّه الذي وعدَه، فقعَد بينَ يديْه، فقال له إرميا: مَن أنت؟ قال: أنا الذي كُنْتُ أتَيْتُكَ في شأنِ أهلي مرتَين. فقال له النبيُّ: أو لم يأْنِ لهم أن يُفِيقُوا مِن الذي هم فيه؟ فقال الملَكُ: يا نبيَّ اللَّهِ، كلُّ شيءٍ كان يُصِيبُني منهم قبلَ اليومِ كُنْتُ أصبِرُ عليه، وأعْلَمُ [أنّ ما بهم]

(2)

في ذلك سَخَطى، فلما أتَيْتُهم اليومَ رَأَيْتُهم في عملٍ لا يُرْضِى اللَّهَ، ولا يُحِبُّه اللَّهُ. فقال له النبيُّ: على أيِّ عملٍ رَأَيْتَهم؟ قال: يا نبيَّ اللَّهِ، رَأَيْتُهم على عملٍ عظيمٍ مِن سَخَطِ اللَّهِ، فلو كانوا على مثلِ ما كانوا عليه قبلَ

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

في ص: "أنما لهم"، وفى م:"أنما قصدهم"، وفى ت 1، ت 2، ت 3، س:"أيمانهم"، وفى التاريخ:"أن مآلهم"، وفى نسخة منه كالمثبت، والعرب تقول: ما بك إلا مساءتي. أي ما تريد إلا مساءتي.

ص: 590

اليومِ لم يَشْتَدَّ عليهم غضَبِي، وصبَرتُ لهم ورجَوتُهم، ولكنِّى غضِبتُ اليومَ للَّهِ ولك، فأتَيْتُك لأُخبِرَك، خبرَهم، وإنى أسألُك باللَّهِ الذي هو

(1)

بعثَك بالحقِّ إلا ما دعَوتَ عليهم ربَّك أن يُهْلِكَهم. فقال إِرْمِيا: يا مَلِكَ السماواتِ والأرضِ، إن كانوا على حقٍّ وصوابٍ فأبْقِهم، وإن كانوا على سَخَطِك وعملٍ لا ترضاه فأهلِكْهم. فلما خرَجتِ الكلمةُ مِن في إِرْمِيا أرسَلَ اللَّهُ صاعقةً مِن السماءِ في بيتِ المقدسِ، فالتهَب مكانُ القُربانِ، وخُسِف بسبعةِ أبوابٍ مِن أبوابِها. فلما رأى ذلك إِرْمِيا صاح وشَقَّ ثيابَه، ونبَذ الرمادَ على رأسِه، فقال: يا مَلِكَ السماءِ، ويا أرحمَ الراحمين، أين ميعادُك الذي وعَدتَني؟ فنودِى: إرميا، إنه لم يُصِبْهم الذي أصابَهم إلا بفُتْياك التي أفْتيتَ بها رسولَنا. فاسْتَيقَن النبيُّ أنها فُتياه التي أفْتَى بها ثلاثَ مراتٍ، وأنه رسولُ ربِّه، فطار إِرْمِيا حتى خالَط الوُحوشَ.

ودخَل بُخْتُنَصَّرَ وجنودُه بيتَ المقدسِ، فوطِئ الشامَ، وقتَل بني إسرائيلَ حتى أفناهم، وخرَّب بيتَ المقدسِ، ثم أمَر جنودَه أن يَمْلأَ كلُّ رجلٍ منهم تُرسَه ترابًا، ثم يَقْذِفَه في بيتِ المقدسِ، فقذَفوا فيه الترابَ حتى ملَئوه، ثم انصرَفَ راجعًا إلى أرضِ بابلَ، واحتمَل معه سبايا بني إسرائيلَ، وأمَرهم أن يَجْمَعُوا مَن كان في بيتِ المقدسِ كلَّهم، [فاجتمَع عندَه]

(2)

كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ مِن بني إسرائيلَ، فاختار منهم [سبعين ألفَ صبيٍّ]

(3)

، فلما خرَجت غنائمُ جندِه، وأراد أن يَقْسِمهم

(1)

سقط من: م.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"واجتمع إليه عندهم".

(3)

في ص، ت 2، ت 3:"سبعين صبي"، وفى م:"تسعين ألف صبي" وفي ت 1: "تسعين صبي"، وفى س:"تسعين صبيا". وأما رواية التاريخ فمرة ذكر أنه اختار منهم مائة ألف صبي، ثم عاد فذكر أنه ذهب بالسبعين الألف حتى أقدمهم بابل.

ص: 591

فيهم، قالت له الملوكُ الذين كانوا معه: أيُّها الملِكُ، لك غنائمُنا كلُّها، واقْسِمُ بينَنا هؤلاء الصبيانَ الذين اخْتَرْتَهم مِن بنى إسرائيلَ. ففعَل، فأصاب كلُّ واحدٍ منهم أربعةَ غِلْمةٍ، وكان مِن أولئك الغلمانِ: دانِيالُ وحَنَانْيا ومِيشايل

(1)

وعزَارْيَا. وجعَلهم بُخْتُ نَصَّرَ ثلاثَ فِرَقٍ، فثُلُثًا أقرَّ بالشامِ، وثلثًا سبَى، وثُلُثًا قتَل، وذهَب بآنيةِ

(2)

بيتِ المقدسِ حتى أقدَمها بابلَ، وذهَب بالصبيانِ السبعين

(3)

الألفَ حتى أقدَمهم، بابلَ، فكانت هذه الوقعةَ الأُولى التي أنزَل

(4)

اللَّهُ [ببني إسرائيلَ]

(5)

بإحداثِهم وظلمِهم.

ولمّا ولَّى بُخْتُنَصَّرَ عنهم

(6)

راجعًا إلى بابلَ بمن معه مِن سبايا بني إسرائيلَ، أقبَل إرْمِيَا على حمارٍ له، ومعه عصيرٌ مِن عنبٍ في زُكْرَةٍ

(7)

، وسَلَّةُ تينٍ، حتى غَشِي

(8)

إيلياءَ، فلما وقَف عليها، ورأى ما بها مِن الخرابِ دخَله شكٌّ، فقال: أنّى يُحيى هذه اللَّهُ بعد موتها؟ فأماته اللَّهُ مائةَ عامٍ وحمارَه، وعصيرُه وسلةُ تينِه عندَه حيثُ أماته اللَّهُ وأمات

(9)

حمارَه معه، وأعمَى اللَّهُ عنه العُيونَ فلم يرَه أحدٌ، ثم بعَثه اللَّهُ تعالى فقال له:{كَمْ لَبِثْتَ} قال: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ

(1)

في م: "مسايل".

(2)

في م: "بأسبية".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"التسعين"، وفى س:"البستين".

(4)

في م: "ذكر".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"نبي الله".

(6)

في م: "عنه".

(7)

الزكرة: وعاء من أدم، أو زق صغير يجعل للشراب. التاج (ز ك ر).

(8)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أتى".

(9)

في النسخ: "مات". والمثبت من التاريخ.

ص: 592

يَوْمٍ}. قال: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} يقولُ: لم يَتَغَيَّرُ. {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} . فنظَر إلى حمارِه يَتّصِلُ

(1)

بعضٌ إلى بعضٍ - وقد كان مات معه - بالعروقِ والعَصَبِ، ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوَى، ثم جرَى فيه الروحُ، فقام يَنْهَقُ، ونظَر إلى عصيرِه وتينِه، فإذا هو على هيئتِه حينَ وضَعه لم يَتَغيرُ. فلمّا عايَن مِن قدرةِ اللَّهِ ما عايَن، قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم عمرُ. ثم عمر اللَّهُ إرميا بعد ذلك، فهو الذي يُرى بفَلَواتِ الأرضِ والبُلْدانِ

(2)

.

وحدَّثني محمدُ بنُ عَسْكَرٍ وابنُ زَنْجُويَه، قالا: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: ثنى عبد الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنَبهٍ يقولُ: أَوحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيا وهو بأرضِ مصرَ: أن الْحَقْ بأرضِ إيلياءَ؛ فإن هذه ليست لك بأرضِ مُقامٍ. فركِب حمارَه، حتى إذا كان ببعضِ الطريقِ، ومعه سَلَّةٌ مِن عنبٍ وتينٍ، وكان معه سِقاءٌ جديدٌ، فملأَه ماءً، فلما بدَا له شخصُ بيتِ المقدسِ وما حولَه مِن القرى والمساجدِ، ونظَر إلى خرابٍ لا يُوصَفُ، فلما رأى هَدَمَ بيتِ المقدسِ كالجَبَلِ العظيمِ، قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . وسار حتى تَبوَّأَ منها منزِلًا، فربَط حمارَه بحبلٍ جديدٍ، وعلَّق سِقاءَه، وألقَى اللَّهُ عليه السُّباتَ، فلمّا نام نزَع اللَّهُ رُوحَه مائةَ عامٍ، فلما مرَّت مِن المائةِ سبعون عامًا، أرسَل اللَّهُ مَلَكًا إلى ملِكٍ مِن ملوكِ فارسَ عظيمٍ،

(1)

في ص: "بابصل"، وفى ت 1، ت 2:"فاتصل"، وفى س:"ما يصل".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 548 - 554.

ص: 593

يقالُ له: يُوشَكُ

(1)

. فقال له: إنّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَن تنفِرَ بقومِك فتُعمِّرَ بيتَ المقدسِ وإيلياءَ وأرضَها، حتى تَعُودَ أعْمَرَ ما كانت، فقال له الملِكُ: أنْظِرْني ثلاثةَ أيامٍ حتى أتَأَهَّبَ لهذا العملِ ولما يُصْلِحُه مِن أداةِ العملِ. فأنْظَرَه ثلاثةَ أَيامٍ، فانتدَب ثلاثَمائةِ قَهرمانَ

(2)

، ودفَع إلى كلِّ قَهرمانَ ألفَ عاملٍ وما يُصْلِحُه مِن أداةِ العملِ، فسار إليها قَهارِمتُه ومعهم ثلاثُمائةِ ألفِ عاملٍ، فلما وقَعوا في العملِ ردَّ اللَّهُ رُوحَ الحياةِ في عينِ إِرْمِيَا، [وآخِرُ جسدِه ميتٌ]

(3)

، فنظَر إلى إيِلياءَ وما حولَها مِن المدينةِ

(4)

والمساجد، والأنهارُ والحُرُوثُ تُعْمَلُ وتُعَمَّرُ وتُجَدَّدُ، حتى صارَت كما كانت، وبعدَ ثلاثين سنةً تمامَ المائةِ ردَّ اللَّهُ إليه الرُّوحَ، فنظَر إلى طعامِه وشرابِه لم يَتَسَنَّهْ، ونظَر إلى حمارِه واقفًا كهيئتِه يومِ ربَطه لم يَطْعَمْ ولم يَشْرَبُ، ونظَر إلى الرُّمَّةِ

(5)

في عنقِ الحمارِ لم تَتَغَيرْ جديدةً، وقد أتَى على ذلك ريحُ مائةِ عامٍ، وبردُ مائةِ عامٍ، وحرُّ مائةِ عامٍ، لم تَتَغَيرْ، ولم تُنتَقصْ شيئًا، وقد نَحَل جسمُ إِرْمِيَا مِن البِلَى، فأنْبَت اللَّهُ له لحمًا جديدًا، ونشَز عظامَه وهو يَنْظُرُ، فقال له اللَّهُ:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(6)

.

(1)

في ص، م:"يوسك"، وفى تفسير القرطبي 3/ 291:"كوشك". وينظر عرائس المجالس ص 307.

(2)

القهرمان فارسي، معناه الوكيل. الألفاظ الفارسية المعربة ص 130.

(3)

في م: "وأخّر جسدَه ميتًا".

(4)

في م: "القرى".

(5)

الرمة: قطعة حبل يشد بها الأسير أو القاتل. التاج (ر م م).

(6)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 547 عن محمد بن سهل بن عسكر وحده به.

ص: 594

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا عبدُ الصّمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنبِّهٍ يَقُولُ في قولِ اللَّهِ:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} : إِنَّ إِرْمِيا لما خُرِّب بَيتُ المقدسِ، وحُرِّق

(1)

الكتبُ، وقَف في ناحيةِ الجبلِ، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} . ثم ردَّ اللَّهُ

(2)

مَن ردَّ مِن بنِي إسرائيلَ على رأسِ سبعينَ سنةً مِن حينَ أماته، يَعمُرُونها ثلاثين سنةً تمامَ المائةِ؛ فلما ذهَبَتِ المائةُ ردَّ اللَّهُ إليه رُوحَه، وقد عُمِّرت على حالِها الأُولَى، فجعَل يَنْظُرُ إلى العظامِ كيف تلتامُ

(3)

بعضُها إلى بعضٍ، ثم نظَر إلى العظامِ كيف تُكسَى عصبًا ولحمًا، فَلَمَّا تَبَيَّن له ذلك قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فقال اللَّهُ تعالى ذكرُه: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}

(4)

. قال: فكان طعامُه تينًا في مِكْتَلٍ

(5)

، وقُلَّةً فيها ماءٌ

(6)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : وذلك أنّ عُزَيرًا مرَّ جائيًا مِن الشام على حمارٍ له، معه عصيرٌ وعنبٌ وتينٌ، فلما مرَّ بالقريةِ فرآها، وقَف عليها

(1)

في م: "حرقت".

(2)

بعده في الأصل: "إليه".

(3)

التام يلتام بالتسهيل وأصله الهمز التأم يلتئم، يعنى: اتصل واجتمع. اللسان (ل أ م).

(4)

في الأصل: "يتسن". وبإثبات الهاء ووصلا ووقفا قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر، وبحذف الهاء في الوصل قرأ حمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 189. وسيأتي كلام المصنف على هاتين القراءتين في ص 599، 600.

(5)

المكتل: الزبيل الذي يحمل فيه التمر أو العنب إلى الجرين. اللسان (ك ت ل).

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 99، 100، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 8/ 28.

ص: 595

وقلَّب يدَه وقال: كيف يُحْيِي هذه اللَّهُ بعدَ موتِها؟ تكذيبًا

(1)

منه وشكًّا، فأماته اللَّهُ وأمات حمارَه، فهلَكا ومرَّ عليهما مائةُ سنةٍ، ثم إن اللَّهَ عز وجل أحيا عُزَيرًا فقال له:{ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قِيل له: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} مِن التينِ والعنبِ {وَشَرَابِكَ} مِن العصيرِ {لَمْ يَتَسَنَّهْ} الآية

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} .

يعْنى تعالى ذكرُه بقولِه: {ثُمَّ بَعَثَهُ} : ثم أثارَه حيًّا مِن بعدِ مماتِه. وقد دلَّلْنا على معْنى البعثِ فيما مضَى قبلُ

(3)

.

وأما معْنى قولِه: {كَمْ لَبِثْتَ} . فإن "كم" استفهامٌ في كلامِ العربِ عن مَبْلَغِ العددِ، وهو في هذا الموضعِ نَصْبٌ به {لَبِثْتُ}. وتأويلُه: قال اللَّهُ له: كم قدرُ الزمانِ الذي لبِثْتَ ميتًا قبلَ أن أبعثَك من مماتِك حيًّا؟ قال المبعوثُ بعدَ مماتِه: لبِثتُ ميتًا إلى أن بَعَثْتَنِي حيًّا يومًا واحدًا أو بعضَ يومٍ.

وذكِر أن المبعوثَ، وهو إرْمِيَا أو عُزَيرٌ، أو مَن كان ممّن أخبَرَ اللَّهُ عنه هذا الخبرَ،

(1)

في م: "ليس تكذيبا". وكذا أثبتها محقق تفسير ابن أبي حاتم عن نسخة الشيخ شاكر، وتقدم أن المصنف حكى عن بعضهم أنه قال ذلك شكًّا في قدرة الله واستنكارا، فأراه الله كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وهذا قول مردود؛ لأنه لا يتصور أن يصدر شك عن نبي من الأنبياء في مثل هذا.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 501، 502 (2649، 2655، 2660) من طريق عمرو به.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 691.

ص: 596

إنما قال: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ؛ لأنَّ اللَّهَ عز وجل كان قبَض رُوحَه أوّلَ؛ النهارِ، ثم ردَّ إليه رُوحَه آخِرَ النهارِ بعدَ المائةِ العامِ، فقيل له:{كَمْ لَبِثْتَ} ؟ فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا} . وهو يَرَى أن الشمسَ قد غرَبت، فكان ذلك عندَه يومًا؛ لأنَّه ذكِر أنه قُبِض رُوحُه أولَ النهارِ. وسُئِل عن مقدارِ لُبثِه ميتًا آخِرَ النهارِ، وهو يَرَى أن الشمسَ قد غرَبت، فقال:{لَبِثْتُ يَوْمًا} . ثم رأى بقيةً مِن الشمسِ قد بَقِيت لم تَغْرُبُ، فقال:{ا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . بمعْنى: بل بعضَ يومٍ. كما قال تعالى ذكرُه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. بمعْنى: بل يَزِيدُون. فكان قولُه: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} رُجوعًا منه عن قولِه: {لَبِثْتُ يَوْمًا} .

وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . قال: ذكِر لنا أنه مات ضُحًى، ثم بُعِث

(1)

قبلِ غَيْبوبةِ الشمسِ، فقال:{لَبِثْتُ يَوْمًا} ، ثم التفَت فرأى بقيةً مِن الشمسِ، فقال:{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . فقال: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . قال: مَرَّ على قريةٍ خَربةٍ

(3)

فتعجَّب،

(1)

في ص، م:"بعثه".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 502 (2657) من طريق سعيد بن بشير.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 597

فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . فأماته اللَّهُ أَوَّلَ النهارِ، فلبِث مائةَ عامٍ، ثم بعثَه في آخِرِ النهارِ، فقال:{كَمْ لَبِثْتَ} قال: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . قال: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}

(1)

.

وحدَّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، قال: قال الربيعُ: أماته اللَّهُ مائةَ عامٍ، ثم بعثَه، فقال:{كَمْ لَبِثْتَ} ؟ قال: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . [وذلك أنه بُعِث فيما ذكِر لنا قبلَ غروبِ الشمسِ، فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا}. ثم التفت فرأى بقيةً من الشمسِ من ذلك اليومِ، فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}]

(2)

. قال: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: لما وقَف على بيتِ المقدسِ وقد خرَّبه بخْتُنَصَّرَ، قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} : كيفَ يعيدُها كما كانت؟ {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ} قال: ذكِر لنا أنه مات ضُحًى، وبُعِث قبلَ غروبِ الشمسِ بعدَ مائةِ عامٍ، فقال:{كَمْ لَبِثْتَ} ؟ قال: {يَوْمًا} . فلما رأى الشمسَ، قال:{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} .

يعْنى تعالى ذكرُه بقولِه جلَّ ثناؤه: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم تُغَيِّره السِّنونَ التي أتَت عليه.

وكان طعامُه فيما ذكَر بعضُهم سلةَ تينٍ وعنبٍ، وشرابُه قلةَ ماءٍ.

(1)

تفسير عبد الرزاق 11/ 106، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 501، 502 (2652، 2656) عن الحسن به.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 502 عقب الأثر (2656، 2657) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 292 عن ابن جريج.

ص: 598

وقال بعضُهم: بل كان طعامُه سَلَّةَ عنبٍ وسلةَ تينٍ، وشرابُه زِقًّا مِن عصيرٍ.

وقال آخَرون: بل كان طعامُه سلةَ تينٍ، وشرابُه دَنَّ خمرٍ أو زُكرةَ خمرٍ.

وقد ذكَرنا فيما مضَى قولَ بعضِهم في ذلك، ونَذْكُرُ ما فيه فيما يُسْتَقْبَلُ إِن شاء اللَّهُ.

وفي قولِه: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} وجْهانِ مِن القراءةِ: أحدُهما، (لم يَتَسَنَّ). بحذفِ الهاءِ في الوصلِ وإثباتِها في الوقفِ

(1)

، ومَن قرَأه كذلك فإنه يَجْعَلُ الهاءَ في {يَتَسَنَّهْ} زائدةً صِلةً، كقولِه:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وجعَل "تَفعَّلْتُ"

(2)

منه: تَسَنَّيتُ تسنِّيًا. واعتلَّ في ذلك بأنّ السَّنَةَ تُجْمَعُ سنواتٍ، فيكونُ تَفَعَّلْتُ على صحَّةٍ

(3)

، ومن قال في السَّنِة: سُنينةٌ. فجائزٌ على ذلك وإن كان قليلًا، أن يَكُونَ "تَسنَّيْتُ"

(4)

"تَفَعَّلْتُ"؛ بُدِّلَتِ النونُ ياءً لمّا كثُرت النوناتُ، كما قالُوا: تَظَنَّيتُ وأصلُه الظنُّ.

وقد قال قومٌ: هو مأخوذٌ مِن قولِه: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26، 28، 33]. وهو المتغيرُ. وذلك أيضًا إذا كان كذلك، فهو أيضًا مما بُدِّلَتْ نونُه ياءً وهى قراءةُ عامةِ قَرَأةِ الكوفةِ.

(1)

ينظر ما تقدم في ص 595.

(2)

في النسخ: "فعلت".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سحه"، وفي م:"نهجه".

(4)

في م: "تسننت".

ص: 599

والآخرُ منهما، إثباتُ الهاءِ في الوصلِ والوقفِ. ومَن قرَأه كذلك فإنه يَجْعَلُ الهاءَ في {يَتَسَنَّهْ} لامَ الفعلِ، ويَجْعَلُها مجزومةً بـ "لم"، ويَجْعَلُ، "فَعَّلْت" منه: تَسَنَّهْتُ. و "يُفَعِّل": أَتَسَنَّهُ تَسَنُّهًا. وقال في تصغيرِ السَّنةِ: سُنَيهةٌ [وسُنيَّةٌ: أسْنَيْتُ عندَ القومِ، وأَسْنَهْتُ]

(1)

عندَهم: إِذا أقَمتَ سنةً.

وهذه قراءةُ عامةِ قرأةِ أهلِ المدينةِ والحجازِ.

والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندي

(2)

إثباتُ الهاءِ في الوصلِ والوقفِ؛ لأنَّها مُثْبتةٌ في مصحفِ المسلمين، ولإثباتِها وجهٌ صحيحٌ في كلتا الحالتين؛ [وذلك أن يكونَ معْنى]

(3)

قولِه: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم تأتِ عليه السِّنون فيَتَغَيَّرُ. على لغةِ مَن قال: أَسْنَهْتُ عندَكم أُسْنِهُ. إذا أقام سنةً، وكما قال [شاعرُ الأنصارِ]

(4)

:

ولَيْسَتْ بِسنَهَاءٍ

(5)

ولَا رُجَّبِيَّةٍ

(6)

ولكنْ عَرَايا

(7)

في السِّنِينَ الجوائحِ

(8)

فجعَل الهاءَ في السنةِ أصلًا، وهى اللغةُ الفُصحى، وغيرُ جائزٍ حذفُ حرفٍ

(1)

في م: "ومنه: أسنهت عند القوم وتسنهت".

(2)

بل القراءتان صحيحتان فقد قرأ بالأولى أربعة من القراء العشرة، وقرأ بالثانية ستة منهم.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"في ذلك، ومعنى".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الشاعر".

وهو سويد بن الصامت الأنصاري، وقيل: أحيحة بن الجلاح، والبيت في معاني القرآن للفراء 1/ 173، وسمط الآلى 1/ 361، واللسان (ر ج ب، ج و ح، س ن هـ، ع ر ى).

(5)

السنهاء: التي حملت عاما ولم تحمل آخر. اللسان (س ن هـ).

(6)

رجَّبَ النخلةَ، إذا كانت كريمة عليه وكانت كثيرة الحمل، طويلة، وخيف عليها أن تقع: بنى تحتها رجبة؛ دكانا أو بناء من حجارة أو نحوها. اللسان (ر ج ب).

(7)

العرايا: جمع عَرِيَّة، وأعراه النخلة: وهب له ثمرة عامها. والعرية: النخلة المُعْراة. اللسان (ع ر ى).

(8)

الجوائح: جمع جائحة، وهي الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال. اللسان (ج و ح).

ص: 600

مِن كتابِ اللَّهِ، في حالِ وقفٍ أو وصلٍ، [ولإثباتِه وجهٌ في كلامِ العربِ صحيحٌ، كما غيرُ جائزٍ إثباتُ ما ليس منه، ولحذفِه]

(1)

وجهٌ معروفٌ في كلامِها.

فإنِ اعتلَّ معتلٌّ بأنّ المصحفَ قد أُلْحِقَت فيه حروفٌ هنَّ زوائدُ على نيةِ الوقفِ، والوجهُ في الأصلِ عندَ القرأةِ حذفُهنَّ، وذلك كقولِه:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وقولِه: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25]. فإنّ ذلك هو مما

(2)

لم يَكُنْ فيه شَكٌّ أنه مِن الزوائدِ، وأنه أُلْحِق علَى نيةِ الوقفِ. فأمّا ما كان مُحْتَمِلًا أن يَكُونَ أصلًا للحرفِ غيرَ زائدٍ، فغيرٌ جائزٍ - وهو في مُصحفِ المسلمين مثبتٌ - صرفُه إلى أنه مِن الزوائدِ والصِّلَاتِ، على أنّ ذلك وإن كان زوائدَ

(3)

فيما لا شكَّ أنه مِن الزوائدِ، فإن العربَ قد تَصِلُ الكلامَ

(4)

، فتَنْطِقُ به على نحوِ منطقِها به في حالِ القطعِ، فيكونُ وصلُها إياه وقَطْعُها سواءً، وذلك مِن فِعلِها دَلالةٌ على صحةِ قراءةِ مِن قرَأ جميعَ ذلك بإثباتِ الهاءِ في الوصلِ والوقفِ، غيرَ أنّ ذلك وإن كان كذلك، فلِقولِه:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤُه [زائدةً، لا يُشَكُّ في زيادتِها]

(5)

فيه.

ومما يَدُلُّ على صحةِ ما قُلنا، مِن أنّ الهاءَ في {يَتَسَنَّهْ} مِن لغةِ مَن قال: قد أسنهتُ، وهى

(6)

المسانهةُ، ما حُدِّثت به عن القاسمِ بن سلَّامٍ، قال: ثنا ابن مهديٍّ، عن أبي الجراحِ، عن سليمانَ بن عُميرٍ، قال: ثنِي هانئٌ مولَى عثمانَ، قال: كُنْتُ الرسولَ بيَن عثمانَ وزيدِ بن ثابتٍ، فقال زيدٌ: سَلْهُ عن قولِه: لم (يَتسَنَّ)، أو

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لإثباته".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"ما".

(3)

في م: "زائدا".

(4)

بعده في م: "بزائد".

(5)

في م: "زائدًا لا شك في زيادته".

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 601

{لَمْ يَتَسَنَّهْ} ؟ فقال عثمانُ: اجعلوا فيها هاءً

(1)

.

[وحدَّثنا أحمدُ بنُ يوسفَ]

(2)

، عن القاسمِ، وحدَّثنا محمدُ بنُ محمدٍ العطارُ، قالا: ثنا ابن مهديٍّ، عن ابن المباركِ، قال: ثنِي أبو وائلٍ؛ شيخٌ مِن أهلِ اليمنِ، عن هانِئ البربريِّ، قال: كنتُ عندَ عثمانَ وهم يَعْرِضون المصاحفَ، فأرْسَلَني بكَتِفِ شاةٍ إلى أبيِّ بن كَعْبٍ، فيها:(لم يتسنّ). و (فأمْهلِ الكافرين). و (لا تَبْدِيلَ للخلقِ). قال: فدَعا بالدواةِ، فمحَا إحدَى اللامَين، وكتَب {لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. ومحا (فأمهِلْ)، وكتَب {فَمَهِّلِ} [الطارق: 17]. وكتب: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} . ألْحَق فيها الهاءَ

(3)

.

ولو كان ذلك مِن "تسنَّى" أو "تسنَّن"، لَما ألْحَق فيه أبيٌّ هاءً، [ولا موضعَ للهاءِ فيه]

(4)

، ولا أمَر عثمانُ بإلحاقِها فيه

(5)

.

وقد رُوِىَ عن زيدِ بن ثابتٍ في ذلك نحوُ الذي رُوِى فيه

(6)

عن أُبيِّ بن كعبٍ

(7)

.

(1)

فضائل القرآن لأبي عبيد ص 159.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حدثت".

(3)

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 159، وأخرجه ابن راهويه - كما في المطالب العالية 8/ 261 - من طريق أبي وائل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لا موضع فيه".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فيها".

(6)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كعب".

(7)

أخرجه ابن راهويه - كما في المطالب العالية 8/ 261 - ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى ابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف.

ص: 602

واخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} . فقال بعضُهم بمثلِ الذي قُلنا فيه من أنّ معْناه: لم يَتغيَّرْ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفضلِ

(1)

، عن محمدِ بن إسحاقَ، عمَّن لا يُتَّهَمُ، عن وَهبِ بن مُنَبِّهٍ:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يَتَغَيَّرْ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} ، أي

(3)

: لم يَتَغيّرْ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه

(4)

.

حدَّثني موسَى بنَ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} . يقولُ: فانظُرْ إلى طعامِك مِن التينِ والعنبِ، وشرابِك مِن العصيرِ، {لَمْ يَتَسَنَّهْ}. يقولُ: لم يَتغيّرْ فيَحْمُضَ التينُ والعنبُ، ولم يَخْتَمِرِ العصيرُ، هما حُلوان كما هما، وذلك أنه مرَّ جائيًا مِن الشامِ على حمارٍ له، معه عصيرٌ وعِنَبٌ وتِينٌ، فأماتَه اللَّهُ، وأمات حمارَه، ومرَّ عليهما مائةُ سنةٍ

(5)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المفضل".

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 503 عقب الأثر (2664) معلقًا.

(3)

زيادة من: الأصل.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 106.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 504 (2666، 2670) من طريق عمرو به.

ص: 603

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخبَرنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه تبارك وتعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} . يقولُ: لم يَتغيّرْ، وقد أتَى عليه مائةُ عامٍ

(1)

.

حدَّثني المُثَنى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زهيرٍ، عن جُويْبرٍ، عن الضحاكِ بنحوِه.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهُ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يتغيّرْ

(2)

.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن النّضرِ، عن عكرمةَ:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يتغيَّرْ

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يتغيّرْ في مائةِ سنةٍ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني بكرُ بنُ مُضَرَ

(4)

، قال: يَزْعُمون في بعضِ الكتُبِ أن إرْميا كان بإيلياءَ حين خرَّبها بُخْتُنَصَّرَ، فخرَج منها إلى مِصرَ فكان بها، فأوحَى اللَّهُ إليه: أنِ اخرُجْ منها إلى بيتِ المقدسِ. فأتاها فإذا هي خَرِبةٌ، فنظَر إليها فقال: أنَّى يُحْيِي هذه اللَّهُ بعد موتِها؟ فأماته اللَّهُ مائةَ عامٍ ثم بعثَه، فإذا

(1)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 213.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 503، 504 (2665)، وابن عساكر في تاريخه 40/ 322 من طريق الضحاك، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى ابن المنذر.

(3)

ذكره الحافظ في التغليق 4/ 187 عن المصنف، وأخرجه أبو يعلى - كما في المطالب (3898) - وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 503 (2664) من طريق النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"نصر".

ص: 604

حمارُه حيٌّ قائمٌ

(1)

على رِباطهِ، وإذا طعامُه سَلُّ عنبٍ وسَلُّ تينٍ، لم يَتغيرْ عن حالِه

(2)

.

قال يونسُ: قال لنا سَلْمٌ

(3)

الخواصُ: كان طعامُه وشرابُه سَلَّ عنبٍ وسَلَّ تينٍ وزِقَّ عصيرٍ.

وقال آخَرونَ: معْنى ذلك: لم يَنْتِنْ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يَنْتِنْ

(4)

.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ

(5)

، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ قولَه: {إِلَى طَعَامِكَ} . قال: سَلُّ تينٍ، {وَشَرَابِكَ}: دَنُّ خَمْرٍ، {لَمْ يَتَسَنَّهْ}. يقولُ: لم يَنْتِنْ

(6)

.

[حدِّثت عن عمّارٍ، قال: حدَّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ}. يقولُ: لم يَنْتِنْ]

(7)

.

(1)

في ص: "قام".

(2)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 290.

(3)

في م: "سالم". وهو سلم بن ميمون الخواص، ترجمته في سير أعلام النبلاء 8/ 160.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 504 (2667) من طريق ابن أبي نجيح به.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الحسن".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 503 (2663) من طريق حجاج به.

(7)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 605

وأحْسَبُ أنّ مجاهدًا والربيعَ ومَن قال في ذلك بقولِهما، رَأوْا أن قولَه:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} . مِن قولِ اللَّهِ تعالى ذِكْرُه: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26، 28، 33]. بمعْنى المُتغيرِ الريحِ بالنَّتَنِ، مِن قولِ القائلِ: تَسَنَّن. وقد بَيَّنتُ الدَّلالةَ فيما مضَى على أنّ ذلك ليس كذلك

(1)

.

فإن ظنَّ ظانٌّ أنه مِن الأسَنِ

(2)

، مِن قولِ القائلِ: أَسِنَ هذا الماءُ يَأْسَنُ أسَنًا. كما قال اللَّهُ تعالى ذِكْرُه: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]. فإن ذلك لو كان كذلك، لكان الكلامُ: فانظُر إلى طعامِك وشرابِك لم يَتأَسَّنُ. ولم يكنْ {يَتَسَنَّهْ} .

[فإن قال]

(3)

: فإنه منه، غيرَ أنه تُرِكَ همزُه، قيل: فإنه وإن تُرِكَ همزُه فغيرُ جائزٍ تشديدُ نونِه؛ لأن النونَ [من "يتَأسَّنُ"]

(3)

غيرُ مُشَددةٍ، وهي في {يَتَسَنَّهْ} . مشددةٌ، ولو نُطِق مِن "يَتأسنُ" بتركِ هَمْزِه

(4)

، لقِيل:"لم يَتَسَّنْ"

(5)

، بتخفيفِ نونِه بغيرِ هاءٍ تلْحَقُ فيه. ففى ذلك بيانٌ واضحٌ أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ مِن الأسَنِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} .

اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} ؛ فقال بعضُهم: معْنى ذلك: وانظُرْ إلى إحيائِى حمارَك، وإلى عظامِه كيف أُنشْزِهُا، ثم أكْسُوها لحمًا.

ثم اختلف مُتأوِّلو

(6)

هذا التأويلِ؛ فقال بعضُهم: قال اللَّهُ تعالى ذِكْرُه له ذلك

(1)

ينظر ما تقدم في ص 600، 601.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الأسنه".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الهمز"، وفى م:"الهمزة".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يتسنن".

(6)

بعده في م: "ذلك في".

ص: 606

بعدَ أن أحْياه خلقًا سَوِيًّا، ثم [أراه كيف]

(1)

يُحْيِي حمارَه؛ تعريفًا منه تعالى ذِكْرُه له كيفيةَ إحيائِه القريةَ التي رآها خاويةً على عُرُوشِها، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} مُسْتَنكِرًا إحياءَ اللَّهِ إيَّاها.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عمَّن لا يَتَّهمُ، عن وَهْبٍ بن مُنَبِّهٍ، قال: بعثَه اللَّهُ فقال: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . إلى قولِه: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} . قال: فنظَر إلى حمارِه يَتّصِلُ

(2)

بعضٌ إلى بعضٍ - وقد كان مات معه - بالعروقِ والعَصَبِ، ثم كيف

(3)

كُسى ذلك منه اللحمُ حتى اسْتَوى، ثم جرَى فيه الروحُ، فقام يَنْهَقُ، ونظَر إلى عصيرِه وتينِه، فإذا هو على هيئتِه حين وضعَه لم يَتغَيّرْ، فلما عايَن مِن قدرةِ اللَّهِ ما عايَن، قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(4)

.

حدَّثني موسَى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: ثم إنّ اللَّهُ تبارك وتعالى أحيا عُزَيرًا، فقال: كم لبثتَ؟ قال: لبِثْتُ يومًا أو بعضَ يومٍ. قال: بل لبِثْتَ مائةَ عامٍ، فانظُرْ إلى طعامِك وشرابِك لم يَتَسنَّهْ، وانظُرْ إلى حمارِك قد هَلَك، وبَلِيَت عظامُه، وانظُرْ إلى عظامِه كيف نُنْشِزُها، ثم نَكْسوها لحمًا. فبعَث اللَّهُ تبارك وتعالى ريحًا، فجاءت بعظامِ الحمارِ مِن كلِّ سَهْلٍ وجَبَلٍ ذهَبت به الطيرُ والسِّباعُ، فاجْتَمَعت، فرَكَّب بعضَها في بعضٍ وهو يَنظُرُ، فصار حمارًا مِن

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أراد أن".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يا تصل".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

تقدم تخريجه في ص 580.

ص: 607

عظامٍ، ليس له لحمٌ ولا دمٌ، و

(1)

إن اللَّهَ جل جلاله كسَا العظامَ لحمًا ودمَا، فقام حمارًا مِن لحمٍ ودَمٍ وليس فيه روحٌ، ثم أقبَل مَلَكٌ يَمشِى حتى أخذَ بِمِنْخَرِ الحمارِ، فنفَخ فيه، فنَهَق الحمارُ. فقال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(2)

.

فتأويلُ الكلامِ على ما تأوَّله قائلُ هذا القولِ: وانظُر إلى إحيائِنا حمارَك، وإلى عظامِه كيف نُنْشِزُها، ثم نَكْسوها لحمًا، ولِنَجْعَلَك آيةً للناسِ. فيكونُ في قولِه:{وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} . متروكٌ مِن الكلامِ، اسْتُغْنِى بدَلالةِ ظاهرِه عليه مِن ذِكْرِه، وتكونُ الألفُ [واللامُ]

(3)

في قولِه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} بدلًا مِن الهاءِ المُرادةِ في المعْنى؛ لأن مَعْناه: وانظر إلى عظامِه. يَعْنِى: إلى عظامِ الحمارِ.

وقال آخرون منهم: بل قال اللَّهُ تعالى ذِكْرُه ذلك له بعدَ أن نفَخ الروحَ في عيْنَيْه

(4)

. قالوا: وهى أولُ عُضْوٍ مِن أعضائِه نفَخ اللَّهُ فيه الروحَ، وذلك [قبلَ أن يُسوِّيَه]

(5)

خلقًا سويًا، وقبلَ أن يُحْيِيَ حمارَه.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان هذا رجلًا مِن بنى إسرائيلَ نُفِخَ الروحُ في عَينيْه، فنظَر إلى خَلْقِه كلِّه حينَ يُحيِيه اللَّهُ، وإلى حمارِه حينَ يُحييه اللَّهُ

(6)

.

(1)

في م: "ثم".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 506 مفرقا في (2680)، (2682) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، ص.

(4)

في م: "عينه".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بعد أن يسويه"، وفى م:"بعد أن سواه".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 504 (2671) من طريق ابن أبي نجيح به مختصرا.

ص: 608

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني القاسمُ، قال: حدثني الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: بدأ بعينَيْه فنفَخ فيهما الروحَ، ثم بعظامِه فأنْشَزها، ثم وصَل بعضَها إلى بعضٍ، ثم كساها العصبَ، ثم العُروقَ، ثم اللحمَ، ثم نظَر إلى حمارِه، فإذا حمارُه قد بَلِى وابْيَضَّتْ عظامُه، في المكانِ الذي ربطَه فيه، فنُودِى: يا عِظامُ اجْتَمِعي، فإِن اللَّهَ مُنْزِلٌ عليكِ رُوحًا. فسَعَى كلُّ عَظْمٍ إلى صاحبِه، فوصَل العظامَ، ثم العصبَ، ثم العروقَ، ثم اللحمَ، ثم الجِلْدَ، ثم الشَّعَرَ، وكان حمارُه جَذَعًا

(1)

، فأحياه اللَّهُ كبيرًا قد تَشَنَّن

(2)

، فلم يَبْقَ منه إلا الجِلدُ مِن طولِ الزمنِ، وكان طعامُه سَلَّ عنبٍ، وشرابُه دَنَّ خَمْرٍ.

قال ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ: نفَخ الروحَ في عينَيْه، ثم نظَر بهما إلى خَلْقِه كلِّه حينَ يَنْشُرُه اللَّهُ، وإلى حمارِه حين يُحيِيه اللَّهُ.

وقال آخَرون: بل جعَل اللَّهُ الروحَ في رأسِه وبصرِه، وجسَدُه ميتٌ، فرأَى حمارَه قائمًا كهيئتِه يومَ ربَطه، وطعامِه وشرابَه كهيئتِه يومَ حلَّ البُقْعَةَ، ثُم قال اللَّهُ له: انظُر إلى عظامِ

(3)

نفسِك كيف نُنْشِزُها

(4)

.

(1)

الجذع: الصغير السن من الحيوان. اللسان (ج ذ ع).

(2)

التَّشَنُّنُ: التشنج واليبس في جلد الإنسان عند الهرم. وتشانّ الجلد: يبس وتشنج. اللسان (ش ن ن).

(3)

في م: "عظامك".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ننشرها".

ص: 609

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ سهلٍ بن عَسْكَرٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ، قال: ثنى عبدُ الصَّمَدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنَبهٍ يقولُ: ردَّ اللَّهُ روحَ الحياةِ في عينِ إرميا، وآخِرُ جسدِه ميتٌ

(1)

، فنظَر إلى طعامِه وشرابِه لم يَتَسَنَّهْ، ونظَر إلى حمارِه واقفًا كهيئتِه يومَ ربطَه، لم يَطْعَمْ ولم يَشْرَبْ، ونظَر إلى الرُّمَّةِ في عُنُقِ الحمارِ لم [تَتَغيّرْ، جديدةً]

(2)

.

حُدِّثتُ عن الحسينِ

(3)

، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} : فنظَر إلى حمارِه قائمًا قد مكَث مائةَ عامٍ، وإلى طعامِه لم يَتَغيرْ، قد أتَى عليه مائةُ عامٍ، {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} ، فكان أوَّلَ شيءٍ أحيا اللَّهُ منه رأسُه، فجعَل يَنْظُرُ إلى سائرِ خَلقِه يُخلَقُ

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} : فنظَر إلى حمارِه قائمًا، وإلى طعامِه وشرابِه لم يَتَغيرْ، فكان أوَّلَ شيءٍ خُلِقَ منه رأسُه، فجعَل يَنْظُرُ إلى كلِّ شيءٍ منه يُوصَلُ بعضُه إلى بعضٍ، فلمّا تَبَيَّن له، قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(5)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال:

(1)

في ت 1، ت 2، ت 3، س:"ميتا".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"لم يتغير حديده".

والأثر تقدم تخريجه في ص 581.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسن".

(4)

ينظر البحر المحيط 2/ 293.

(5)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 293.

ص: 610

ذُكِرَ لنا أنه أولُ ما خُلِق منه رأسُه، ثم رُكِّبتْ فيه عيناه، ثم قيل له: انْظُرُ. فجعَل يَنْظُرُ، فجَعَلتْ عِظامُه تَواصَلُ بعضُها إلى بعضٍ، وبعينِ

(1)

نبيِّ اللَّهِ عليه السلام كان ذلك، فقال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(2)

.

حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} : وكان حمارُه عندَه كما هو، {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} قال الربيع: ذُكِرَ لنا - واللَّهُ أعلمُ - أنه أولُ ما خُلِقَ منه عَيْناه، ثم قيل: انْظُرْ. فجعَل يَنْظُرُ إلى العِظامِ يَتَواصلُ بعضُها إلى بعضٍ، وذلك بعَيْنيه، فقال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرنا ابن زيدٍ في

(4)

قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} : واقفًا عليك منذُ مائةِ سنةٍ، {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ}. يقولُ: وانظُرْ إلى عظامِك كيف نُحْيِيها حينَ سَأَلْتنا كيف نُحْيِي هذه

(5)

. قال: فجعَل اللَّهُ الروحَ في بصرِه وفى لسانِه، ثم قال: ادْعُ الآن بلسانِك الذي جعَل اللَّهُ فيه الروحَ، وانظُرْ ببصرِك. قال: فكان يَنظُرُ إلى الجُمْجُمَةِ. قال: فنادَى: لِيَلْحَقُ كلُّ عَظْمٍ بأَلِيفِه. قال: فجاء كلُّ عَظْمٍ إلى صاحبِه، حتى اتَّصَلَتْ وهو يراها، حتى إن

(1)

في ص: "بعيد".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 107 عن معمر، عن قتادة والحسن بنحوه.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 504 (2672) من طريق ابن أبي جعفر بشطره الأول.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قال".

(5)

بعده في م، س:"الأرض بعد موتها".

ص: 611

الكِسْرَةَ

(1)

مِن العظمِ لتَأْتِى إلى المَوْضعِ الذي انْكَسَرت منه، فتَلْصَقُ به، حتى وصَل إلى جُمْجُمَتِه وهو يرَى ذلك، فلما اتَّصَلت شدَّها بالعَصَبِ والعرُوقِ، وأجْرَى عليها اللحْمَ والجِلْدَ، ثم نفَخ فيها الروحَ، ثم قال:{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال: ثم أُمِر فنادَى تلك العِظامَ التي قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . كما نادَى عِظامَ نفسِه، ثم أحياها اللَّهُ كما أحياه

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني بكرُ بنُ مُضَرَ، قال: يَزْعُمون في بعضِ الكتبِ أنّ اللَّهَ تبارك وتعالى أمات إرميا

(3)

مائةَ عامٍ، ثم بعثَه فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رِباطِه. قال: وردَّ اللَّهُ إليه بصرَه، وجعَل الروحَ فيه قبلَ أن يُبْعثَ بثلاثين سنةً، ثم

(4)

نظَر إلى بيتِ المقدسِ وكيفَ عُمِرَ وما حولَه. قال: فيقولون، واللَّهُ أعلمُ: إنه الذي قال اللَّهُ تعالى ذِكْرُه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . الآية

(5)

.

ومعنَى الآيةِ على تأويلِ هؤلاء: وانْظُرْ إلى حمارِك [لم يتسنَّهْ]

(6)

، ولنَجعَلَك آيةً للناسِ، وانظُرْ إلى عظامِك كيف نُنْشِزُها بعدَ بِلاها، ثم نَكْسوها لحمًا، فنُحْيِيها بحياتِك، فتَعْلمَ كيف يُحْيِي اللَّهُ القُرَى وأَهْلَها بعدَ مماتِها.

(1)

الكسرة: القطعة المنكسرة من الشيء. اللسان (ك س ر).

(2)

ذكره الرازي في التفسير الكبير 7/ 36.

(3)

في ص: "أورميا".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حتى".

(5)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/ 290.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 612

وأَوْلَى الأقوالِ في هذه الآيةِ بالصوابِ قولُ مَن قال: إِن اللَّهَ تعالى ذِكْرُه بعَث قائلَ: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} مِن مماتِه، ثم أراه نَظِيرَ ما اسْتَنْكَر مِن إحياءِ اللَّهِ القريةَ التي مرَّ بها بعدَ مماتِها، عِيانًا مِن نفسِه وطعامِه وحمارِه، فجعَل تعالى ذِكْرُه ما أرَاه مِن إحيائِه نفسَه وحمارَه مَثَلًا لما اسْتَنْكَر مِن إحيائِه أهلَ القريةِ التي مرَّ بها خاويةً على عُروشِها، وجعَل ما أرَاه مِن العِبرةِ في طعامِه وشرابِه عِبرةً له وحُجةً عليه في كيفيةِ إحيائِه منازلَ القريةِ وجنانَها، وذلك هو معنَى قولِ مجاهدٍ الذي ذكَرناه قَبْلُ.

وإنما قلنا: ذلك أوْلَى بتأويلِ الآيةِ؛ لأن قولَه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} . إنما هو بمعنَى: وانْظُرْ إلى العظامِ التي تراها ببصرِك كيف نُنْشِزُها، ثم نَكْسوها لحمًا. وقد كان حمارُه أدْرَكه مِن البِلَى - في قولِ أهلِ التأويلِ جميعًا - نَظِيرُ الذي لَحِقَ عِظامَ مَن خُوطِبَ بهذا الخطابِ، فلم يُمْكِنْ

(1)

صَرْفُ معنى قولِه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} . إلى أنه أمرٌ له بالنَّظرِ إلى عظامِ الحمارِ دونَ عِظامِ المأمورِ بالنظرِ إليها، ولا إلى أنه أَمرٌ له بالنَّظرِ إلى عظامِ نفسِه دونَ عظامِ الحمارِ. وإذ

(2)

كان ذلك كذلك - وكان البِلَى قد لَحِقَ عِظامَه وعِظامَ حمارِه - كان الأوْلَى بالتأويلِ أن يكونَ الأمرُ بالنظرِ إلى كلِّ ما أَدْرَكه طَرفُه، مما قد كان البِلَى لَحِقَه؛ لأن اللَّهَ تعالى ذِكْرُه جعَل جميعَ ذلك عليه حُجةً، وله عِبرةً وعِظةً.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} .

يعنى تعالى ذكرُه بذلك: ولِنجعَلَك آيةً للناسِ؛ أمَتْناك مائةَ عامٍ ثم بَعَثْناك.

وإنما أُدْخِلتِ الواوُ مع اللامِ التي في قولِه: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} .

(1)

في ص: "يكن".

(2)

في م: "إذا".

ص: 613

وهي

(1)

بمعنى "كى"؛ لأن في دخولِها في "كى" وأخواتها دَلالةً على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدَها، بمعنى: ولنجْعَلَك كذا وكذا فعَلنا ذلك. ولو لم تكنْ قبلَ اللامِ - أعنى لامَ "كى" - واوٌ، كانتِ اللامُ شرطًا للفعلِ الذي قبْلَها، وكان يكونُ معناه: وانظُرْ إلى حمارِك لنجعَلَك

(2)

آيةً للناسِ.

وإنما عنَى بقولِه: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} : ولنَجْعَلَكَ حُجةً على مَن جَهِل قُدْرتي، وشكَّ في عَظَمتى، وأنى

(3)

القادِرُ على فعلِ ما أشاءُ مِن إماتةٍ وإحياءٍ، وإفناءٍ وإنشاءٍ، وإنعامٍ وإذلالٍ، وإقتارٍ وإغناءٍ، بيدى ذلك كلُّه، لا يملكُه أحدٌ دونِى، ولا يقدِرُ عليه غَيرِى.

وكان بعضُ أهلِ التأويلِ يقولُ: كان آيةً للناس بأنه جاء بعدَ مائةِ عامٍ إلى ولدِه وولدِ ولدِه شابًّا وهم شُيوخٌ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا إسحاقُ، قال: ثنا قَبِيصةُ بن عُقْبَةَ، عن سفيانَ، قال: سمعِتُ الأعمشَ يقولُ: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} : قال: جاء شابًّا وولدُه شُيوخٌ

(4)

.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك مَن يَعْرِفُه، فكان آيةً لمَن قَدِم عليه مِن قومِه.

(1)

في م: "هو".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ولنجعلك".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أنا".

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 505 عقب الأثر (2674) معلقا.

ص: 614

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: رجَع إلى أهلِه، فوجَد دارَه قد بيعتْ وبُنِيت، وهَلَك مَن كان يَعْرِفُه، فقال: اخْرجُوا مِن دارِى. قالوا: ومَن أنتَ؟ قال: أنا عُزَيْرٌ. قالوا: أليس قد هلَك عُزَيرٌ منذُ كذا وكذا؟ قال: فإن عُزَيرًا أنا هو، كان مِن حالى وكان. فلمّا عرفوا ذلك، خرَجوا له مِن الدارِ، ودفَعُوها إليه

(1)

.

والذي هو أوْلَى بتأويلِ الآيةِ مِن القولِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذِكْرُه أخبرَ أنه جعَل الذي وصَف صفته في هذه الآيةِ [آيةً و]

(2)

حُجةً للناسِ، فكان كذلك

(3)

حجةً على مَن عرَفه مِن ولدِه وقومِه ممن عَلِم موتَه وإحياءَ اللَّهِ إِيَّاه بعد مماتِه، وعلى مَن بُعِثَ إليه منهم.

‌القولُ في تأويلِ قِوله جلَّ ثناؤه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} .

وقد دَلَّلنا فيما مضَى قبلُ على أن العِظامَ التي أُمِرَ بالنظَرِ إليها هي عظامُ نفسِه وحمارِه، وذكَرنا اختلافَ المُختلفين في تأويلِ ذلك، وما يَعْنى كلُّ قائلٍ فيما قاله في ذلك، بما أغْنَى عن إعادتِه.

وأما قولُه جلَّ ثناؤُه: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} ، فإن القرأةَ اخْتَلَفت في قراءتِه؛ فقرَأه بعضُهم:{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} . بضمِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 505 (2676) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

سقط مِن: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ذلك".

ص: 615

النونِ و الزايِ

(1)

، وذلك قراءةُ عامةِ قَرأةِ الكوفيين

(2)

، على معنى: وانظْرْ إلى العظامِ كيف نُرَكِّبُ بعضَها على بعضٍ، ونَنْقُلُ ذلك إلى مَواضِعِه

(3)

مِن الجسمِ.

وأصلُ النَّشَزِ الارتفاعُ، ومنه قيل: قد نشَزَ الغلامُ، إِذا ارْتَفَع طوله وشبَّ، ومنه نشوزُ المرأةِ على زوجِها، ومِن ذلك قيل للمكانِ المرتفعِ مِن الأرضِ: نَشْزٌ، ونَشَزٌ، ونَشَازٌ. فإذا أردتَ أنك رفَعْتَه، قلت: أنْشَزْتُه إنشازًا، ونَشَز هو، إذا ارْتَفَع.

فمعنى قوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} - في قراءةِ مَن قرَأ ذلك بالزايِ -: كيف ترفَعُها مِن أماكنِها مِن الأرضِ، فنردها إلى أماكنِها مِن الجسدِ.

وممن تأوّل ذلك هذا التأويلِ جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: حدثني عمرُو بنُ حمادٍ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{كَيْفَ نُنْشِزُهَا} . يقولُ: نُحرِّكها

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{كَيْفَ نُنْشِزُهَا} . قال: نُخْرِجُها

(5)

.

وقرَأ ذلك آخرون: (وَانْظُرْ إِلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها)

(6)

. بضمِّ النونِ،

(1)

في م، ت 2:"بالزاي".

(2)

وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 189.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مواضع".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 506 (2680) من طريق عمرو بن حماد به مطولا.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 333 إلى المصنف وابن المنذر.

(6)

في م: "ننشزها" بالزاى المعجمة. وبضم النون والراء المهملة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 179.

ص: 616

وبالراءِ، مِن قولِ القائلِ: أَنْشَرَ اللهُ الموتَى، فهو يُنْشِرُهم إنشارًا. وذلك قراءةُ عامةِ قَرأةِ أهلِ المدينةِ، بمعنى: وانظُرْ إلى العظامِ كيف نُحيِيها ثم نَكْسوها لحمًا.

‌ذِكْرُ مَن [تأوَّل ذلك كذلك]

(1)

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:(كَيْفَ نُنْشِرُها). قال: نظر إليها حينَ يُحْيِيها اللهُ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مِثْلَه.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ بمثلِه

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: (وانظُرْ إلى العظامِ كيف نُنْشِرُها). قال: كيف نُحْيِيها

(4)

.

واحتجَّ بعضُ قَرأةِ ذلك بالراءِ وبضمِّ نونِ أولِه، بقولِه:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]. فرأى أن الصوابَ إلحاق قولِه: (وانظر إلى العظامِ كيف نُنْشِرُها): به.

وقرَأ ذلك بعضُهم: (وَانْظُرْ إِلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها). بفتح النونِ مِن أُولِه

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2:"قال ذلك".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 504 (2671) من طريق ابن أبي نجيح به.

(3)

تقدم تخريجه في ص 611.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 334 إلى المصنف.

ص: 617

وبالراءِ

(1)

، كأنه وجَّه ذلك إلى مثلِ معنَى نَشْرِ الشيءِ وطَيِّه، وذلك قراءةٌ غيرُ مَحمودةٍ؛ لأن العربَ لا تقولُ: نَشَر الله الموتَى. وإنما تقولُ: أنشَر اللهُ الموتَى، فَنَشروا هم. بمعنى: أحياهم اللهُ فحَيُوا هم. يدلُّ على ذلك قولُه: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} . وقولُه: {آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21].

وعلى أنه إذا أُرِيد به: حَيِىَ المَيْتُ وعاش بعدَ مَماتِه، قيل: نَشَر. قولُ الأعشى مِن بني ثعلبة

(2)

.

حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مما رَأَوْا

يا عجبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ

وروى سماعًا مِن العرب: كان به جَرَبٌ فَنَشَر. إذا عاد وحَيِيَ

(3)

.

والقولُ في ذلك عندِى أنّ معنَى الإنشارِ ومعنى الإنشازِ متقاربان؛ لأن معنى الإنشازِ التركيبُ والإنباتُ

(4)

، وردُّ العظام مِن [الترابِ إلى الأجسادِ، وأن معنى الإنشارِ الإحياءُ والإعادةُ. وإحياءُ]

(5)

العظامِ وإعادتُها لا شكَّ أنه ردُّها إلى أماكنِها ومواضِعِها مِن الجسدِ بعد مفارقتِها إياها. فهما وإنِ اخْتَلَفا في اللفظِ، فمُتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءةِ بهما الأمةُ مجيئًا يقطَعُ العذرَ، ويُوجِبُ الحُجةَ، فبأيِّهما قرَأ القارئُ فمُصيبٌ، لاتفاقِ

(6)

مَعْنيَيْهما، وألا حُجةَ تُوجِبُ لإحداهما مِن القضاءِ بالصوابِ على الأُخْرى.

فإن ظنَّ ظانٌّ أنّ الإنشارَ إذا كان إحياءً فهو بالصوابِ أوْلَى؛ لأن المأمورَ بالنظرِ

(1)

هذه قراءة أبان عن عاصم، وهى قراءة الحسن أيضا. السبعة لابن مجاهد ص 189، وإتحاف فضلاء البشر ص 98.

(2)

ديوانه ص 141.

(3)

حكاه الفراء سماعا عن بعض بني الحارث. ينظر معاني القرآن 1/ 173.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإثبات".

(5)

سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لانقياد".

ص: 618

إلى العِظامِ وهى تُنْشَرُ، إنما أُمِرَ به ليَرَى عِيانًا ما أَنْكَره بقولِه:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . فإن إحياءَ العظامِ لا شكَّ في هذا الموضعِ إنما عُنى به ردُّها إلى أماكنِها مِن جسدِ المنظورِ إليه وهو يحْيَا، لا إعادةَ الروحِ التي كانت فارقَتْها عندَ المماتِ. والذي يدلُّ على ذلك قولُه:{ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} . ولا شكَّ أنَّ الروحَ إنما نُفِخَتْ في العظامِ التي أُنْشِرت بعد أن كُسِيتِ اللحمَ.

وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنْشاز تركيبُ العظامِ وردُّها إلى أماكنِها مِن الجسدِ، وكان ذلك معنى الإنشارِ، كان معلومًا استواءُ مَعْنَيَيهما، وأنهما مُتَّفقا المعنى لا مُخْتَلِفاه، ففى ذلك إبانةٌ عن صحةِ ما قلنا فيه.

فأمَّا القراءةُ الثالثةُ فغيرُ جائزةٍ القراءةُ بها عندى، وهى قراءةُ مَن قرأَ:(كيف نَنْشُرُها). بفتحِ النونِ وبالراءِ؛ لشُذوذها عن قراءةِ المسلمين، وخروجِها عن الصحيحِ الفصيحِ من كلامِ العربِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} .

يعنِى بذلك تعالى ذِكْرُه: ثم نَكْسو العظامَ لحمًا.

والهاءُ التي في قولِه: {ثُمَّ نَكْسُوهَا} . مِن ذكرِ العظامِ، ومعنى {نَكْسُوهَا} . نُلْبِسُها ونُوارِيها به كما يُوارِى جسدَ الإنسانِ كسوتُه التي يَلْبَسُها. وكذلك تفعَلُ العرب، تجعَلُ كلَّ شيءٍ غطَّى شيئًا وواراه لباسًا له وكسوةً، ومنه قولُ النابغةِ الجَعْديِّ

(1)

:

(1)

هذا البيت من الأبيات المختلف في نسبتها، فأغلب المصادر على أنه للبيد بن ربيعة العامري. وأورده محقق ديوان النابغة الجعدى ضمن أبيات الديوان (المجموع). ونسبه المرزباني في معجم الشعراء إلى قردة بن نفاثة وصحح ابن عبد البر في الاستيعاب هذه النسبة، وذكر ابن عبد البر أن أكثر أهل الأخبار قالوا: إن لبيدا لم =

ص: 619

فالحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي

حتى اكْتَسَيْتُ منَ الإسْلامِ سِرْبالا

فجعَل الإسلامَ - إذ غطَّى الذي كان عليه، فواراه وأذهَبه - كسوةً له وسِرْبالًا.

‌القولُ في تأويلِ قولُه جلَّ ثناؤه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} : فلمَّا اتَّضَح له عِيانًا ما كان مستنكَرًا في

(1)

قدرةِ اللهِ وعظمتهِ عندَه قبلَ عِيانِه ذلك، قال: أَعْلَمُ الآنَ - بعدَ المعاينةِ والاتضاحِ والبيانِ - أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

ثم اختلفتِ القَرَأَةُ في قراءةِ قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} ؛ فقرَأه بعضُهم: (قال اعْلَمْ). على معنى الأمرِ، بوصلِ الألفِ مِن "اعْلَم"، وجزمِ الميمِ منها. وهى قراءةُ عامَّةِ قرأةِ أهلِ الكوفةِ

(2)

، ويذكرون أنها في قراءةِ عبدِ اللَّهِ:(قيل اعْلَمْ). على وجهِ الأمرِ من اللهِ للذى أُحْيِي بعدَ مماتِه، فأُمِر بالنظرِ إلى ما يُحْيِيه اللهُ بعدَ مماتِه. وكذلك رُوى عن ابن عباسٍ.

حدَّثنا أحمدُ بنُ يوسفَ التَّغْلَبِيُّ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سلَّامٍ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن هارونَ، قال: هي في قراءةِ عبدِ اللهِ: (قيل اعلمْ أن الله). على وجهِ الأمرِ

(3)

.

حدَّثني الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن

= يقل شعرا منذ أسلم. ينظر ديوان النابغة الجعدى (المجموع) ص 101، والشعر والشعراء 1/ 275، ومعجم الشعراء 223، والاستيعاب 3/ 1335 والأغانى 15/ 369، والخزانة 3/ 247.

(1)

في م: "من".

(2)

هذه قراءة حمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 189.

(3)

المصاحف ص 58، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 334 إلى المصنف.

ص: 620

ابن طاوسٍ، عن أبيه - قال الطبريُّ: أحسَبُه قال: - سمِعتُ ابنَ عباسٍ يقرأُ: (فلمّا تبيَّن له قال اعْلَمْ). قال: إنما قيل ذلك له

(1)

.

حُدِّثتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: ذُكِر لنا - واللهُ أعلُم - أنه قيل له: انْظُرْ. فجعَل يَنْظُرُ إلى العظامِ كيفَ يتواصَلُ بعضُها إلى بعضٍ، وذلك بعينيه، فقيل له:(اعلمْ أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ).

فعلى هذا القولِ تأويلُ ذلك: فلمَّا تبيَّن له ما تبيَّن مِن أمرِ اللهِ وقدرتِه، قال اللهُ عز وجل له: اعلم الآن أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ. ولو صرَف مُتَأَوِّلٌ قولَه: (قال اعلم) - وقد قرَأه على وجهِ الأمرِ - إلى أنه مِن قِبَلِ المخبَرِ عنه بما اقتصَّ اللهُ في هذه الآية مِن قصَّتِه، كان وجهًا صحيحًا، وكان ذلك كما يقولُ القائلُ: اعلمْ أن كان كذا وكذا. على وجهِ الأمرِ منه لغيرِه، وهو يعنى به نفسَه.

وقرَأ ذلك آخَرون: {قَالَ أَعْلَمُ}

(2)

. على وجهِ الخبرِ عن نفسِه للمتكلِّمِ به، بهمزِ ألفِ {أَعْلَمُ} وقطعِها، ورفعِ الميمِ، بمعنى: فلمَّا تبيَّن له ما تبيَّن مِن قدرةِ اللَّهِ وعظيمِ سلطانِه بمعاينتِه ما عاينه، قال المتبيِّن

(3)

ذلك: أعلمُ الآن أنا أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

وبذلك قرَأت عامةِ قَرأةِ أهلِ المدينةِ وبعضُ قرأةِ أهلِ العراقِ. وبذلك مِن التأويلِ تأوَّله جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 107، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 507 (2685)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 334 إلى عبد بن حميد. وينظر حجة القراءات ص 144.

(2)

قرأ بها نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو عمرو، ينظر السبعة ص 189.

(3)

في م، ت 2:"أليس".

ص: 621

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عمَّن لا يَتَّهَمُ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: لمَّا عايَنَ مِن قدرةِ اللهِ ما عايَن، قال:{أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وهبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ:{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: بعَيْنِ

(2)

نبيِّ اللهِ عليه السلام كان

(3)

- يعني إنشارَ العظامِ - فقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(4)

.

حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: قال عُزَيْرٌ عندَ ذلك - يعنى عندَ معاينتِه إحياءِ اللهِ حمارَه -: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحَّاكِ، قال: جعَل يَنْظُرُ إلى كلِّ شيءٍ منه يُوصَلُ بعضُه إِلى بعضٍ، {فَلَمَّا

(1)

تقدم تخريجه في ص 580.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يعني".

(3)

سقط من: م.

(4)

تقدم تخريجه في ص 611.

ص: 622

تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ نحوَه.

وأَوْلَى القراءتينِ في ذلك بالصوابِ

(1)

قراءةُ مِن قرأَ: (اعْلَمْ). بوصلِ الألفِ، جزمِ الميمِ، على وجهِ الأمرِ من اللهِ جلَّ ثناؤُه للذى أحياه بعدَ مماتِه، بالأمرِ بأن يَعْلَمَ أن الله الذي أراه بعينَيْه ما أراه مِن عظيمِ قدرتِه وسلطانِه؛ مِن إحيائه إيَّاه وحمارَه بعد موتٍ مائةَ عامٍ وبَلائِه، حتى عادا كهيئتهما يومَ قَبْضِ أرواحِهما، وحِفْظه عليه طعامَه وشرابَه مائةَ عامٍ، حتى ردَّه كهيئتِه يومَ وضَعه، غيرَ مُتَغَيِّرٍ - على كلِّ شيءٍ قادرٌ كذلك.

وإنما اخْتَرْنَا قراءة ذلك كذلك، وحَكَمْنا له بالصوابِ دونَ غيرِه؛ لأن ما قبلَه مِن الكلامِ أمرٌ من اللهِ؛ قولًا للذى أحياه اللهُ بعدَ مماتِه، وخطابًا له به، وذلك قولُه:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} - {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا}

(2)

. فلمَّا تبيَّن ذلك له جوابًا عن مسألتِه ربَّه: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . قال اللهُ تبارك وتعالى له: اعلمْ أن الله الذي فعل هذه الأشياءَ على ما رأيتَ، على غير ذلك مِن الأشياء قديرٌ، كقدرتِه على ما رأيتَ وأمثالِه، كما قال لخليلِه إبراهيمَ صلى الله عليه، بعدَ أن أجابه عن مسألتِه إيَّاه في قولِه:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . فأمَر إبراهيمَ بأن يَعْلَم بعدَ أن أَراه كيفيَّةَ إحيائِه الموتى أنه عزيزٌ حكيمٌ، وكذلك أمَر الذي سأل فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} بعدَ أن أَراه كيفيةَ إحيائِه إيَّاها، أن يَعْلَمَ أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

‌القولُ في تأويلِ قِوله جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ

(1)

القراءتان متواترتان وليست إحداهما أولى بالصواب من الأخرى.

(2)

في الأصل: "ننشرها".

ص: 623

الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.

يعنِى بذلك جلَّ ثناؤُه: أوَ لم تَرَ إذ قال إبراهيمُ: ربِّ أَرِنى.

وإنما صلَح أن يُعْطَفَ بقولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} على قولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} . وقولُه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} ؛ لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ} ليس معناه: ألم تَرَ بعينَيْك. وإنما معناه: ألم تَرَ بقلبِك. فمعناه: ألم تَعْلَمُ فَتَذْكُرَ

(1)

، وإن كان لفظُه لفظ الرؤيةِ، فيُعْطَفُ عليه أحيانًا بما يُوافِقُ لفظَه من الكلامِ، وأحيانًا بما يُوافِقُ معناه.

واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في سببِ مسألةِ إبراهيمَ ربَّه أن يُرِيَه كيف يُحْيِي الموتى؛ فقال بعضُهم: كانت مسألتُه ذلك ربَّه، أنه رأى دابَّةً قد تقسَّمتْها السِّباعُ والطيرُ، فسأل ربَّه أن يُرِيَه كيفيةَ إحيائه إيَّاها، معَ تفرُّقِ لحمِها

(2)

في بطونِ طيرِ الهواءِ وسباعِ الأرضِ؛ ليرَى ذلك عِيانًا، فيزدادَ يقينًا برؤيته ذلك عِيانًا، إلى علمِه به خبرًا، فأراه اللهُ جلّ ثناؤُه ذلك مثلًا بما أَخْبَر أنه أمره به.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} : ذُكر لنا أن خليلَ الله إبراهيمَ أتَى على دابَّةٍ توزَّعتْها الدوابُّ والسباعُ، فقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ؟ قال: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

(3)

.

(1)

بعده في م: "فهو".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2:"لحومها".

(3)

عزاه الحافظ في الفتح 6/ 412 إلى المصنف.

ص: 624

حُدِّثْتُ عن الحسينِ

(1)

، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخبَرنا عُبَيْدُ بنُ سليمانَ قال: سمِعتُ الضحَّاكَ بنُ مزاحمٍ يقولُ في قولِه: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} . قال: مرَّ إبراهيم على دابَّةٍ ميتٍ قد بلى وتقسَّمته الرياحُ والسباعُ، فقام

(2)

ينظُرُ، فقال: سبحانَ اللَّهِ! كيفَ يُحْيِي اللَّهُ هذا؟ وقد علِم أن الله قادرٌ على ذلك، فذلك قولُه:{أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}

(3)

؟

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، قال: قال ابن جُرَيْجٍ: بلَغنى أن إبراهيمَ بَيْنَا هو يسيرُ في الطريقِ، إذا هو بجِيفةِ حمارِ عليها السباعُ والطيرُ، قد توزَّعت

(4)

لحمها وبقى عظامُها، فلمَّا دنا

(5)

ذهَبت السباعُ، وطارت الطيرُ على الجبالِ والآكامِ،

(6)

فوقَف فعَجِب

(7)

، ثم قال: ربِّ، قد علمتُ لتَجْمَعَنَّها من بطونِ هذه السباعِ والطيرِ، ربِّ، أرنى كيف تحيي الموتى. قال: أو لم تُؤمنْ؟ قال: بلى، ولكن ليس الخبرُ كالمعاينةِ

(8)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: مرَّ إبراهيمُ بحوتٍ نصفَه في البَرِّ ونصفُه في البحرِ، فما كان منه في البحرِ فدوابُّ البحرِ تأكُلُه، وما كان منه في البرِّ فالسباعُ ودوابُّ البرِّ تأكُلُه، فقال له الخبيثُ

(9)

: يا إبراهيمُ، متى

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2:"الحسن".

(2)

في ص، ت 2:"فقدم".

(3)

ينظر التبيان 2/ 326.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"تمزعت"، وفى حاشية الأصل:"في غيره: تمزعت".

(5)

سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(6)

في ص، ت 2:"الآطام".

(7)

في م: "وتعجب".

(8)

عزاه في الفتح 6/ 412 إلى المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 334 إلى المصنف عن ابن جريج، عن ابن عباس.

(9)

يعني: إبليس، لعنه الله.

ص: 625

يَجْمَعُ اللَّهُ هذا

(1)

مِن بطونِ هؤلاءِ؟ فقال: يا ربِّ، أَرِني كيف تُحْيِي الموتى. قال: أوَلم تُؤمن؟ قال: بلى ولكن لِيَطْمَئِنَّ قلبى

(2)

.

وقال آخرون: بل كان سببَ مسألتِه ربَّه تبارك وتعالى ذلك المناظرةُ والمحاجَّةُ التي جرَت بينه وبين نُمْرُوذَ في ذلك.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثني ابن إسحاقَ، قال: لمَّا جرَى بينَ إبراهيمَ وبينَ قومِه ما جرى بينَهم، ممَّا قصَّه اللَّهُ في سورةِ "الأنبياء"

(3)

، قال نُمْرُوذُ - فيما يذكُرون - لإبراهيمَ: أرأيتَ إلهَك هذا الذي تَعْبُدُ وتدعُو إلى عبادتِه، وتَذْكُرُ مِن قدرتِه التي تُعَظِّمُه بها على غيرِه، ما هو؟ قال له إبراهيمُ: ربيَ الذي يُحيِى ويُميت. قال نُمْرُوذَ: أنا أُحْيى وأُمِيتُ. فقال له إبراهيمُ: كيف تحيى وتُمِيتُ؟ ثم ذَكر ما قصَّ اللهُ مِن محاجَّتِه إِيَّاه، قال: فقال إبراهيمُ عندَ ذلك: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . عن غيرِ شَكٍّ فِي اللَّهِ تعالى ذكرُه ولا في قدرته، ولكنه أحبَّ أن يَعْلَمَ ذلك، وتاق إليه قلبُه، فقال: لِيَطْمَئِنَّ قلبي. أيْ: ما تاق إليه إذا هو علمه.

وهذان القولان - أعنِى الأولَ وهذا الآخرَ - مُتَقاربا المعنى، في أن مسألةَ إبراهيمَ ربَّه تبارك وتعالى أن يُرِيَه كيفَ يحيِى الموتى، كانت ليَرَى عِيانًا ما كان عندَه من علمِ ذلك خبرًا.

وقال آخرون: بل كانت مسألتُه ذلك ربَّه عند البشارةِ التي أتَته من اللهِ جلّ ثناؤُه

(1)

في الأصل، ص، ت 2:"هؤلاء".

(2)

ينظر البحر المحيط 2/ 297.

(3)

الآيات 51 - 71.

ص: 626

بأنه قد اتَّخَذه خليلًا، فسأَل ربَّه أن يُريَّه عاجلًا مِن العلامةِ له على ذلك، ليَطْمَئِنَّ قلبُه بأنه قد اصطفاه لنفسِه خليلًا، ويكونَ ذلك لما عندَه من اليقينِ مُؤَيِّدًا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لمَّا اتَّخذ اللهُ إبراهيمَ خليلًا، سأل ملَكُ الموتِ ربَّه أن يَأْذَنَ له فَيُبَشِّر إبراهيمَ بذلك، فأذِن له، فأتَى إبراهيمَ وليس في البيتِ، فدخَل دارَه، وكان إبراهيمُ أغيرَ الناسِ، إذا خرَج أغْلَق البابَ، فلمَّا جاء وجَد في دارِه رجلًا، ثار

(1)

إليه ليأخُذه، وقال: مِن أذِن لك أن تدخُلَ دارى؟ قال ملَكُ الموتِ: أذِن لي ربُّ هذه الدارِ

(2)

. قال إبراهيمُ: صدَقتَ. وعرَف أنه ملَكُ الموتِ، قال: مَن أنت؟ قال: أنا ملَكُ الموتِ، جئتُك أُبَشِّرُك بأن الله قد اتَّخَذك خليلًا. فحمِد الله وقال: يا ملَكُ الموتِ، أرِنى الصورةَ التي تَقْبِضُ فيها أنفاسَ الكفارِ، قال: يا إبراهيمُ، لا تُطِيقُ ذلك. قال: بلى. قال: فأَعْرِضْ، فأعرَضَ إبراهيمُ، ثم نظَر إليه، فإذا هو برجلٍ أسوَدَ يَنالُ رأسه السماءَ، يَخْرُجُ مِن فيهِ

(3)

لهبُ النارِ، ليس مِن شعرةٍ في جسدِه إلا في صورةِ رجلٍ أسودَ يَخْرُجُ مِن فيه ومسامعِه لَهبُ النارِ، فغُشِيَ على إبراهيم، ثم أفاق وقد تحوَّل ملَكُ الموتِ في الصورةِ الأوُلى، فقال: يا ملَكَ الموتِ، لو لم يَلْقَ الكافرُ عندَ الموتِ مِن البلاءِ والحُزْنِ إلا صورتَك لكفاه، فأَرِى كيفَ تَقْبِضُ أنفاسَ المؤمنين، قال: فَأَعْرِضْ، فَأَعْرَضَ إبراهيمُ ثم التفتَ، فإذا هو برجلٍ شابٍّ أحسنِ الناسِ وجهًا، وأطيبِه رِيحًا، في ثيابٍ بِيضٍ، فقال: يا ملَكَ الموتِ، لو لم يكنِ للمؤمنِ عندَ موتِه

(4)

مِن قُرَّةِ العَينِ

(1)

في م: "فثار".

(2)

في الأصل: "الدابة".

(3)

في الأصل: "فمه".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ربه".

ص: 627

والكرامةِ إلا صورتُك هذه لكان يَكفِيه. فانطلَق ملَكُ الموتِ، وقام إبراهيمُ يدعُو ربَّه يقولُ: ربِّ، أرنى كيف تحيي الموتى حتى أَعلمَ أنِّي خَلِيلُكَ. قال: أو لم تؤمن بأَنِّي خَلِيلُك؟ يقولُ: تُصَدِّقُ. قال: بلى، ولكن ليطمئنَّ قلبي بخُلُولَتِكَ

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِيُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ ثابتٍ، عن أبيه، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: بالخُلَّةِ

(2)

.

وقال آخرون: سأل ذلك ربَّه لأنه شكّ في قدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتى.

‌ذكر مِن قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيِى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ في قولِه:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: قال ابن عباسٍ: ما في القرآنِ آيةٌ أَرْجَى عندى منها

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعْتُ زيدَ بنَ عليٍّ يُحدِّثُ عن رجلٍ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، قال: اتَّعَدَ عبدُ اللَّهِ بن عباسٍ وعبدُ اللهِ بنُ عمرٍو أن يَجتمِعا، قال: ونحن يومئذٍ شبَبَةٌ، فقال أحدُهما لصاحبه: أيُّ آيةٍ في كتابِ اللهِ أَرْجَى لهذه الأُمَّةِ؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] حتى ختَم الآية. فقال ابن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 507، 508 (2689) من طريق عمرو به، إلى قوله: أني خليلك.

(2)

أخرجه رجه سعيد بن منصور (442 - تفسير) - ومن طريقه البيهقى في الأسماء والصفات (1075) - وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 510 (2699) من طريق عمرو بن ثابت أبي المقدام به.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 466 عن عبد الرزاق به، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 106 عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس.

ص: 628

عباسٍ: أمَّا إن كنتَ تقولُ: إِنَّها، وإِنَّ أَرْجَى منها لهذه الأمةِ

(1)

قولُ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سألتُ عطاءَ بنَ أبي رَباحٍ عن قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} . قال: دخَل قلبَ إبراهيمَ بعضُ ما يَدْخُلُ قلوبَ الناسِ، فقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} . قال: {بَلَى} . قال: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} ؛ لِيُرِيَهُ

(3)

.

حدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبانٍ المصريُّ، قال: ثنا سعيدٌ بنُ تَلِيدٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ القاسمُ، قال: ثنى بكرُ بنُ مُضَرَ، عن عمرِو بن الحارثِ، عن يونسَ بن يزيدَ، عن ابن شهابٍ، قال: أخبرَنى أبو سلَمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ وسعيدُ بنُ المسيَّبِ، عن أبي هُريرةَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِن إبراهيمَ، قال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

(4)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرَنى يونسُ، عن ابن

(1)

في الأصل: "الآية".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 466 عن المصنف، وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 149، وابن حاتم في تفسيره 2/ 509 (2694)، والحاكم 1/ 60 من طريق محمد بن المنكدر، عن ابن عباس وابن عمرو، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 508 (2690) من طريق حجاج به.

(4)

أخرجه البخارى (4694) عن سعيد بن تليد به.

ص: 629

شهابٍ، [عن أبي سلمةَ]

(1)

وسعيدِ بن المسيَّبِ، عن أبي هريرةَ، أن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال. فذكَر نحوَه

(2)

.

وأَوْلَى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ ما صحَّ به الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قاله، وهو قولُه:"نحنُ أحقُّ بالشَّكِّ مِن إبراهيمَ، قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ". وأن تكونَ مسألتُه ربَّه ما سأَله أن يُرِيَه مِن إحيائِه الموتى؛ لعارضٍ مِن الشيطانِ عرَض في قلبِه، كالذى ذكَرْنا عن ابن زيدٍ آنفًا، مِن أن إبراهيمَ لمّا رأَى الحوتَ الذي بعضُه في البرِّ وبعضُه في البحرِ، قد تَعاوَرَه دوابُّ البَرِّ ودوابُّ البحرِ وطيرُ الهواءِ، أَلْقَى الشيطانُ في نفسِه فقال: متى يَجمعُ اللَّهُ هذا مِن بطون هؤلاءِ؟ فسأل إبراهيمُ حينئذٍ ربَّه جل جلاله أن يُرِيَه كيف يُحْيِي الموتى؛ ليُعايِنَ ذلك عِيانًا، فلا يَقْدِر بعدَ ذلك الشيطانُ أن يُلْقِيَ في قلبِه مثلَ الذي ألْقَى فيه عندَ رؤيتِه ما رأى مِن ذلك، فقال له ربُّه:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ؟ يقول: أولم تُصَدَّق يا إبراهيمُ بأنِّى على ذلك قادرٌ؟ قال: بلى يا ربِّ، ولكني سألْتُك أن تُرِيَنى ذلك ليَطْمَئِنَّ قلبي، فلا يَقْدِرَ الشيطانُ أن يُلْقِيَ في قلبي مثلَ الذي فعَل عندَ رؤيتي هذا الحوتَ.

حدَّثني بذلك يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، عن ابن زيدٍ.

ومعنى قولِه: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : ليَسْكُنَ ويَهْدَأَ باليقينِ الذي يَسْتَيْقِنُه.

وهذا التأويلُ الذي قلْناه في ذلك هو تأويلُ الذين وجَّهوا معنى قولِه: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} إلى أنه: ليزدادَ إيمانًا. أو إلى أنه: لِيُوقِنَ

(3)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.

(2)

أخرجه ابن ماجه (4026)، وابن عساكر في تاريخه 6/ 228، 229 من طريق يونس بن عبد الأعلى وحرملة به، وأخرجه أحمد 14/ 74 (8328) من طريق يونس بن يزيد الأيلى به، وأخرجه البخارى (3372، 4537)، ومسلم (151) من طريق ابن وهب به.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ليوفق".

ص: 630

‌ذكرُ مِن قال: معنى

(1)

ذلك: لِيُوقنَ

(2)

. أو لِيزدادَ يقينًا أو إيمانًا

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، عن سفيانَ، عن قيسِ بن مسلمٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. قال: لِيُوقِنَ

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، وحدَّثنا أحمدُ بن إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الهيثمِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: ليزدادَ يَقِيني

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . يقولُ: ليزدادَ يقينًا.

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ،، عن قتادةَ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: وأراد نبيُّ اللهِ إبراهيمُ: ليزدادَ يقينًا إلى يقينِه.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيِى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: قال مَعْمَرٌ: وقال قتادةُ: ليزدادَ يقينًا

(4)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: أراد إبراهيمُ أن يزدادَ يقينًا

(5)

.

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ليوفق".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 509 (2697) من طريق سفيان به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 510 (2698) من طريق سفيان به بلفظ: ليزداد إيمانًا.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 107.

(5)

ينظر تفسير القرطبي 3/ 298.

ص: 631

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ البصريُّ، قال: ثنا إسرائيلُ، قال: ثنا أبو الهيثمِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: ليزدادَ يَقِيني

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الفضلُ بنُ دُكَينٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الهيثمِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: ليزدادَ يقينًا.

حدَّثنا صالحُ بنُ مِسمارٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، قال: ثنا خلَفُ بنُ خليفةَ، قال: ثنا ليثُ بنُ أبى سُلَيمٍ، عن مجاهدِ وإبراهيمَ في قولِه:{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: لأَزدادَ إيمانًا مع إيماني

(2)

.

حدَّثنا صالحُ بنُ مِسمارٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ الحبابِ، قال: أخبَرَنا زيادُ بنُ

(3)

عبدِ اللهِ العامريُّ، قال: ثنا الليثُ، عن أبي الهيثمِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِ اللهِ {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. قال: لأَزدادَ إيمانًا مع إيماني.

وقد ذكَرْنا فيما مضَى قولَ مِن قال: معنى قولِه: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : بأنِّي خَلِيلُكَ.

وقال آخرون: معنى قولِه: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : لأعلَمَ أنك تُجيبنُى إذا دَعَوْتُك، وتُعْطيني إذا سألْتُك.

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 230 من طريق إسرائيل به بلفظ: ليزداد إيمانًا.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (441 - تفسير)، والبيهقى في الشعب (61) من طريق خلف به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 334 إلى ابن المنذر.

(3)

في م: "عن". وينظر تهذيب الكمال 9/ 485.

ص: 632

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قال: أعلمُ أنك تُجيِبُنى إذا دَعَوْتُك، وتُعْطِيني إذا سألْتُك

(1)

.

وأمّا تأويلُ قولِه: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} . فإنه: أوَ لم تُصَدِّقُ؟

كما حدَّثني

(2)

موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} . قال: أوَ لمْ توقنْ بأنِّى خليلُك

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن قيسِ بن مسلمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ قولَه:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} . قال: أوَ لمْ تُوقِنُ بأنِّى خَلِيلُك

(4)

؟

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} . قال: أوَ لمْ تُوقِنُ بأنِّى خليلك؟

‌القولُ في تأويلِ قِوله جلَّ ثناؤُه: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} .

يعنِى بذلك جلَّ ثناؤُه: قال اللهُ له: فخُذْ أربعةً مِن الطيرِ. فذُكِر أن الأربعة مِن الطيرِ: الديكُ، والطاوُسُ، والغرابُ، والحمامُ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 509 (2696)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1073) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 6/ 229 - مِن طريق أبي صالح به.

(2)

بعده في الأصل: "أسد بن".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 509 (2693) من طريق عمرو بن حماد به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 508، 509 (2692) من طريق سفيان به.

ص: 633

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، أن أهلَ الكتابِ الأولِ يَذكُرُون أنه أخَذ طاوسًا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الأربعةُ مِن الطير: الديكُ، والطاوسُ، والغرابُ، والحمامُ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حَجَّاجٌ: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} . قال ابن جُريج: زعَمُوا أنه ديكٌ، وغرابٌ، وطاوسٌ، وحمامةٌ

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قال: فأخَذ طاوسًا، وحمامةً، وغرابًا، وديكًا، مخالفةً أجناسُها وألوانُها (1).

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} .

اختلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأتْه عامَّةُ قَرَأَةِ أهلِ المدينةِ والحجازِ والبصرةِ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . بضمِّ الصادِ

(4)

، مِن قولِ القائلِ: صُرْتُ إلى هذا الأمرِ، إذا مِلْتَ إليه، أَصورُ صَوَرًا. ويقال: إنى إليكم لأَصْوَرُ. أي: مشتاقٌ مائلٌ. ومنه قولُ

(1)

ينظر تفسير القرطبي 3/ 300.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 510 (2703)، وابن عساكر في تاريخه 6/ 230، من طريق شبل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

ينظر تفسير البغوي 323.

(4)

هي قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبي عمرو وابن عامر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 190.

ص: 634

الشاعر

(1)

:

اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا فِي تَلَفُّتِنا

يومَ الفراقِ إلى جيرانِنا

(2)

صُورُ

وهو جمعُ أَصْوَرَ وصَوْراءَ وصُورٍ، مثلُ أَسودَ وسوداءَ وسودٍ.

ومنه قولُ الطِّرِمَّاحِ بن حكيمٍ

(3)

:

عَفائفُ إلَّا ذاك أوْ أن يَصُورَها

هوًى والهوَى للعاشقِينَ صَرُوعُ

يعنَى بقولِه: أو أن يصورَها هَوًى: يُمِيلَها هوًى

فمعنى قولِه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : فَاضْمُهُنَّ إليك، ووَجِّهُهُنَّ نحوَك، كما يقالُ: صُرْ وجهَك إليَّ. أي: أَقْبِلْ به إليَّ. ومَن وجَّه قولَه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} إلى هذا التأويلِ، كان في الكلامِ عندَه متروكٌ قد تُرِك ذكرُه؛ استغناء بدَلالة الظاهرِ عليه، ويكونُ معناه حينئذٍ عندَه: قال: فخُذْ أربعةً مِن الطيرِ فصُرْهُنَّ إليك، ثم قَطِّعْهنّ، ثم اجعَلْ على كلِّ جَبَلٍ منهنَّ جزءًا.

وقد يَحتَمِلُ أن يكون معنى ذلك إذا قُرِئَ كذلك بضمِّ الصادِ: قَطِّعْهِنَّ. كما قال تَوْبَةُ بنُ الحُميِّرَ

(4)

:

فلمَّا جذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسوعُهُ

بأطرافِ عِيدانٍ شَديدٍ أُسُورُها

(5)

فَأَدْنَتْ لتي الأسبابَ حتى بَلَغْتُها

بنَهْضِى وقد كاد

(6)

ارتقائِى يَصُورُها

(1)

المخصص 12/ 103، واللسان (ص و ر ش ر ي)، والخزانة 1/ 121.

(2)

في م: "أحبابنا".

(3)

ديوان الطرماح ص 295.

(4)

البيت الثاني في الأضداد. ص 37.

(5)

أطت: صوَّتت. النسوع: جمع نشع، وهو سير تشد به الرحال. والأسور: جمع أسر، وهو شدة الخلق. التاج (أ ط ط، ن س ع، أ س ر).

(6)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كان".

ص: 635

يعْني: يَقْطَعُها.

وإذا كان ذلك تأويلَ قولَه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . كان في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، ويكونُ معناه: قال: فخُذْ أربعةً مِن الطيرِ إليك فصُرْهنَّ. ويكونُ {إِلَيْكَ} مِن صلةِ {فَخُذْ} .

وقرَأ ذلك جماعةٌ مِن أهلِ الكوفةِ: (فصِرْهُنَّ إليك). يعنِى: قَطِّعُهُنَّ

(1)

.

وقد زعَم جماعةٌ مِن نحويِّي الكوفةِ

(2)

أنهم لا يَعْرِفون (فصِرْهُنَّ)، ولا {فَصُرْهُنَّ} . بمَعْنى

(3)

: قَطِّعْهُنَّ، في كلامِ العربِ، وأنهم لا يَعرِفون كسرَ الصادِ وضمَّها في ذلك إلا بمعنًى واحدٍ، وأنهما جميعًا لُغتان بمعنى الإمالةِ، وأن كسرَ الصادِ منها لغةٌ في هُذَيْلٍ وَسُلَيْمٍ، وأَنشَدُّوا لبعضِ بني سُلَيمٍ:

وفَرْعِ يَصِيرُ الجيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ

على اللِّيتِ قِنْوانُ الكُرُومِ الدَّوالِحُ

(4)

يعنَى بقولِه: يَصِيرُ: أي: يُميلُ. وأن أهلَ هذه اللغة يقُولون: صارَه، وهو يَصِيرُه صَيْرًا، وصِرْ وجْهَكَ إِليَّ. أي: أَمِله. كما يقالُ: صُرْه.

وزعم بعضُ نحوييِّ الكوفةِ أنه لا يَعِرفُ لقولِه: {فَصُرْهُنَّ} . ولا لقراءةِ من قرَأ (فَصِرْهُنَّ) بضمِّ الصادِ أو

(5)

كسرها وجهًا في التَّقْطِيع، إلا أن يكونَ:(فَصِرْهُنَّ إليك) - في قراءةِ مَن قرَأه بكسرِ الصادِ - مِن المقلوبِ، وذلك أن تكونَ لامُ فِعْلِه جُعِلتْ مكانَ عينِه، وعينُه مكانَ لامِه، فيكونُ مِن: صرَى يَصْرِى صَرْيًا.

(1)

وهى قراءة حمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 190.

(2)

ينظر معاني القرآن 1/ 174.

(3)

في الأصل: "يعنى".

(4)

الفرع: الشعر التام والوحف: الأسود. والليت: صفحة العنق. والدوالح: المثقلات بحملها. التاج (ف ر ع، و ح ف، ل ي ت، د ل ح د ل ح).

(5)

في م: "و".

ص: 636

فإن العربَ تقولُ: بات يَصْرِى في حَوْضِه، إذا استَقَى، ثم قَطَع واستَقَى. ومن ذلك قولُ الشاعرِ

(1)

:

صرَت نظرةً لو صادفت جَوْزَ دارعٍ

غدًا والعواصِي مِن دمِ الجوفِ تَنْعَرُ

(2)

يعني: قَطَعَتْ نظرةً. ومنه قولُ الآخرِ

(3)

:

يقولون إن الشامَ يَقْتُلُ أَهلَهُ

فَمَنْ ليَ إنْ

(4)

لم آتِهِ بخلودِ

تَعَرَّبَ آبائي فهلَّا صِرَاهُمُ

مِن الموت أن لم يَذْهَبُوا وجُدُودِى

يعنِى: قَطَعَهم. ثم نُقِلت ياؤُها التي هي لامُ الفعلِ فجُعِلَتْ عينًا للفعلِ، وحُوِّلتْ عينُها فجُعِلتْ لامها، فقيل: صار يَصِيرُ. كما قِيل: عَثِى يَعْثَى عَثًا. ثم حُوِّلت لامُها، فجُعِلتْ عينها، فقيل: عاث يَعِيثُ.

وأما نحويُّو البصرة فإنهم قالوا: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} سواءٌ معناه إِذا قُرِئَ بالضمِّ مِن الصادِ وبالكسرِ، في أنه مَعْنِيٌّ به في هذا الموضعِ التقطيعُ. قالوا: وهما لغتان: إحداهما، صارَ يصُورُ، والأخرَى، صار يَصِيرُ. واستشهدُوا على ذلك ببيتٍ تَوْبَةَ بن الحُمَيِّرِ الذي ذكرناه قبلُ، وببيت المُعَلَّى بن جمَّالٍ

(5)

العبديِّ:

وجاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا

يَصُورُ عُنُوقَها أَحْوَى زَنِيمُ

(6)

(1)

البيت في معاني القرآن للفراء 1/ 174، واللسان (ن ع ر، ع ص ي) غير منسوب.

(2)

الجوز: وسط الشيء. والعواصى: العروق. وتنعر: تفور. التاج (ج و ز، ع ص ي، ن ع ر).

(3)

البيتان في معاني القرآن للفراء 1/ 174، والبيت الأول في اللسان (ش أ م)، والثاني في اللسان (ع ر ب) مع اختلاف في الرواية.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2:"إذا".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2:"حماد". والبيت في مجاز القرآن 1/ 81، والأضداد ص 37، واللسان (ص و ر، ده س، خ ل ع، ز ن م).

(6)

الخلعة: خيار المال. دهس: جمع دهساء، والدهساء من الضأن التي على لون الرمل والصفايا: =

ص: 637

يعني: يُفَرِّقُ عُنوقها ويُقَطِّعُها، وبيتِ خَنْساءَ

(1)

:

* لَظَلَّتِ الشُّمُّ منها وَهْيَ تَنْصارُ

(1)

*

تَعْنى بالشُّمِّ: الجبالَ، أنها تتَصدَّعُ وتَتَفرَّقُ. وببيتِ أبي ذُؤَيبٍ

(2)

:

فانْصَرْنَ مِن فَزَعٍ وسَدَّ فُرُوجَهُ

غُبْرٌ ضَوارٍ وافيانِ وأَجْدَعُ

(3)

قالوا: فلِقول القائلِ: صُرْتُ الشيء. معْنيان: أَمَلْتُه، وقَطَّعْتُه، وحَكَوْا سماعًا: صُرْنا به الحُكْمَ: فَصَلْنا به الحكم.

وهذا القولُ الذي ذكرْناه عن البَصْريِّين - مِن أن معنى الضَّمِّ في الصادِ مِن قولِه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} والكسرِ سواءٌ بمعنًى واحدٍ، وأنهما لُغتان معْناهما في هذا الموضعِ: فقَطِّعْهنَّ، وأن معنى {إِلَيْكَ} تقديُمها قبلَ {فَصُرْهُنَّ} مِن أجلِ أنها صلةٌ لقولِه:{فَخُذْ} - أَوْلَى بالصوابِ مِن قولِ الذين حكَيْنا قولَهم مِن نحويِّي الكوفيِّين، الذين أنكَرُوا أن يكونَ للتقطيعِ في ذلك وجهٌ مفهومٌ، إلا على معنى القلبِ الذي ذكرْتُ؛ لإجماعِ جميع أهلِ التأويلِ على أن معنى قولِه:{فَصُرْهُنَّ} غيرُ خارجٍ مِن أحدِ معنيَين: إما: قَطِّعْهُنَّ. وإما: اضْمُمُهُنَّ إليك. بالكسرِ قُرِئ ذلك أو بالضَّمِّ، ففى إجماعِ جميعِهم على ذلك - على غير مراعاةٍ منهم كسرَ

= جمع صفية، وهى الغزيرة. والعنوق: جمع عَناق، وهى أنثى المعز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى

السواد، يعنِى تيس المعز. والزنيم: الشاة التي لها زَنَمتان في حلقها، والزنمة: هَنة معلقة في حلقها تحت

لحيتها. اللسان (خ ل ع، د هـ س، ص ف ي، ع ن ق، ح و ى، ز ن م).

(1)

مجاز القرآن 1/ 81، والأضداد ص 37، واللسان (ص و ر)، وصدره:

فلو يلاقي الذي لاقيته حصن

(2)

البيت في ديوان الهذليين 1/ 12.

(3)

الغبر الضواري: كلاب الصيد، وافيان: سالما الأذنين، وأجدع: مقطوع الأذنين. شرح أشعار الهذليين 1/ 28.

ص: 638

الصادِ وضمَّه، ولا تفريقٍ منهم بين معنيَى القراءتَين - أَعنى الكسرَ والضمَّ - أوضحُ الدليلِ على صحةِ قولِ القائلين مِن نحويِّى أهلِ البصرةِ في ذلك، ما حكَيْنا عنهم من القولِ، وخطأ قوِل نحويِّى الكوفيِّين؛ لأنهم لو كانوا إنَّما تأوَّلُوا قولَه:{فَصُرْهُنَّ} . بمعنى: فقَطِّعْهنَّ. على أن أصلَ الكلامِ فاصْرِهنَّ. ثم قُلِبَتْ فقيل: فصِرهنَّ. بكسرِ الصادِ؛ لتحوُّلِ ياءِ "فاصْرِهِنَّ" مكانَ رائِه، وانتقاِل رائِه مكان يائِه لكان لا شكَّ مع معرفتِهم بلُغتِهم، وعلمِهم بمَنْطِقِهم، قد فصَلُوا بينَ معنى ذلك إذا قُرِئَ بكسرِ صادِه، وبينَه إذا قُرِئَ بضمِّها، إذ كان غيرَ جائزٍ لمن قلَب "فاصْرِهُنَّ" إلى "فَصِرْهنَّ"، أَن يَقْرَأَه "فصُرْهُنَّ" بضمِّ الصادِ، وهم معَ اختلافِ قراءتِهم ذلك كذلك، قد تأوَّلوه تأويلًا واحدًا على أحدِ الوجهَيْن اللذَيْن ذكَرْنا، ففى ذلك أوضحُ الدليلِ على خطأ قولِ من قال: إنّ ذلك إذا قُرِئَ بكسر الصادِ بتأويلِ التقطيعِ، مقلوبٌ مِن: صرَى يَصْرِى. إلى: صارَ يَصِيرُ. وجهلِ مَن زعم أن قول القائلِ: صار يصُورُ، وصار يصِيرُ، غيرُ معروفٍ في كلامِ العربِ بمعْنى: قَطَّعَ.

‌ذكرُ مَن حضَرَنا قولُه في تأويلِ قولِ اللَّهِ: {فَصُرْهُنَّ} . أنه بمعنى: فَقَطِّعْهُنَّ.

حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجَبَّارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصَّلْتِ، قال: ثنا أبو كُدَيْنةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَصُرْهُنَّ} . قال: هي نَبَطِيَّةٌ: فَشَقِّقْهُنَّ

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي جَمْرَة

(2)

، عن ابن عباسٍ أنه قال في هذه الآية: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (444) - تفسير، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 512 (2711) من طريق عطاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2:"حمزة".

ص: 639

إِلَيْكَ}. قال: إنما هو مَثَلٌ. قال: قَطِّعْهِنَّ ثم اجعلهنَّ في أرباعِ الدنيا؛ رُبعًا ههنا، وربعًا ههنا، ثم ادْعُهنَّ يأتينَك سعيًا

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{إِلَيْكَ} يقولُ: قَطِّعْهُنَّ.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . قال: يقولُ: قَطِّعْهنَّ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبَرنا هُشيمٌ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ مثلَه.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يحيِى بنُ اليمانِ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قال: قال: جَناحُ ذِه عندَ رأْسِ ذِه، ورأسُ ذِه عندَ جَناحِ ذِه

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: حدَّثنا المُعْتَمِرُ بن سليمانَ، عن أبيه، قال: زعَم أبو عمرٍو، عن عكرمةَ في قولِه:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . قال: قال عكرمةُ: بالنَّبَطِيَّةِ: قَطِّعْهُنَّ

(4)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيلُ، عن [أبي يحيِى]

(5)

،

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (443 - تفسير) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 6/ 231 - وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 511 (2707، 2708) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، والبيهقي في البعث.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 511 عقب الأثر (2708) معلقا

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 512 (2712) مِن طريق يحيى به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى المصنف.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يحيى". وينظر تهذيب الكمال 34/ 401.

ص: 640

عن مجاهدٍ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قال: قَطِّعْهُنَّ

(1)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : انتِفْهنَّ بريشِهنَّ ولحُومهنَّ تمزيقًا

(2)

، ثم اخْلِطْ لحومَهنَّ بريشِهنَّ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ. عن مجاهدٍ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . قال: انتِفْهنَّ بريشهنَّ ولحُومِهنَّ تمزيقًا.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : أمَر نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأخُذَ أربعة مِن الطيرِ فَيَذْبَحَهُنَّ، ثم يَخْلِطَ بِينَ لحومِهِنَّ وريشِهنَّ ودمائِهنَّ

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . قال: فمَزِّقُهُنَّ. قال: أُمِر أَن يَخْلِطَ الدماءَ بالدماءِ، والريشِ بالريشِ، ثم جعَل على كلِّ جبل منهن جزءًا

(5)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخبَرنا عُبيدُ بنُ سليمانَ،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 511 (2706) من طريق إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس.

(2)

في مصادر التخريج: "ومزقهن تمزيقا".

(3)

تفسير مجاهد ص 244، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 6/ 231، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى البيهقي.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(5)

تفسير عبد الرزاق 2/ 107، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 512 (2714) عن الحسن به.

ص: 641

قال: سمِعْتُ الضَّحَّاكَ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . يقولُ: شَقِّقْهنَّ، وهو بالنَّبَطِيَّةِ: صرِّى، وهو التشقيقُ

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو بن حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . يقولُ: قَطِّعْهنَّ

(2)

.

حُدِّثتُ عن عمّار بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . يقولُ: قَطِّعْهِنَّ إليك، ومَزِّقْهُنَّ تمزيقًا.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . أَيْ: قَطِّعْهُنَّ. وهو الصَّوْرُ في كلامِ العربِ

(3)

.

ففيما ذكَرْنا مِن أقوالِ مَن رَوَيْنا قوله في تأويلِ قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . أنه بمعنَى: فقَطِّعْهِنَّ إليك. دَلالةٌ واضحةٌ على صحةِ ما قلْنا في ذلك، وفسادِ قولِ مَن خالفَنا فيه، وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرَأ القارئُ ذلك بضمِّ الصادِ:{فَصُرْهُنَّ} أو بكسرِها: (فَصِرْهُنَّ). [إذ كانتا لغتين]

(4)

معروفتَين بمعنًى واحدٍ، غيرَ أن الأمرَ وإن كان كذلك، فإن أحبَّهما إليَّ أن أقرأَ به:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بضمِّ الصادِ؛ لأنها أعلَى اللغتيَن وأشهرُهما، وأكثرهما في أحياءِ العربِ.

وقد تأوَّلُ قولَه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . أنه بمعنى: ضُمَّهنَّ إليك. مِن أهلِ التأويلِ نفر قليلٌ.

(1)

ينظر البحر المحيط 2/ 300.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 511 عقب الأثر (2708)، مِن طريق عمرو بن حماد به.

(3)

ينظر تفسير القرطبي 3/ 301، والبحر المحيط 2/ 300.

(4)

في م: "أن كانت اللغتان".

ص: 642

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : صُرْهُنَّ: أَوثَقْهُنَّ

(1)

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قلْتُ لعطاءٍ: ما قولُه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قال: اضْمُهُهُنَّ إِليك

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . قال: اجْمَعْهُنَّ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قِوله جلَّ ثناؤُه: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} ؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم اجْعَلْ على كلِّ رُبُعٍ مِن أرباعِ الدنيا جزءًا منهنَّ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا [محمدُ بنُ المُثَنَّى]

(4)

، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي جمرةَ، عن ابن عباسٍ:{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} قال: اجْعَلْهُنَّ في أرباعِ الدنيا؛ رُبُعًا ههنا، ورُبُعًا ههنا

(5)

، ثم ادْعُهنَّ يأتينَك سعيًا

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 2/ 511 (2709) عن محمد بن سعد.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 335 إلى المصنف.

(3)

ينظر البحر المحيط 2/ 300.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2:"المثنى".

(5)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2:"وربعا هنا وربعا ههنا".

(6)

تقدم تخريجه في ص 640.

ص: 643

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} . قال: لمَّا أَوثَقَهُنَّ ذَبَحَهُنَّ، ثم جعَل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جزءًا

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: أُمِر نبيُّ اللَّهِ أَن يأخُذَ أربعةً من الطيرِ فيَذْبَحَهنَّ، ثم يَخْلِطَ بينَ لحومِهنَّ وريشهنَّ ودمائِهنَّ، ثم يُجَزِّئَهنَّ على أربعةِ أَجْبُلٍ. فذُكِر لنا أنه شكَّل

(2)

على أجنحتِهنَّ، وأَمسكَ رءوسَهنَّ بيدِه، فجعَل العَظْمُ يَذْهَبُ إلى العَظْمِ، والريشةُ إلى الريشةِ، والبَضْعةُ

(3)

إلى البَضْعةِ، و

(4)

بعينِ خليلِ اللَّهِ إبراهيمَ، ثم دعاهنَّ فَأَتَيْنَه سعيًا على أرجلِهنَّ، ويُلَقَّى كلُّ طيرٍ برأسِه. وهذا مَثَلٌ أراه

(5)

الله جلّ وعزّ إبراهيمَ، يقولُ: كما بعَث هذه الأطيارَ مِن هذه الأَجْبُلِ الأربعةِ، كذلك يَبعثُ اللَّهُ الناسَ يومَ القيامةِ مِن أرباعِ الأرضِ ونواحِيها.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: ذَبَحهنَّ، ثم قَطَّعهنَّ، ثم خلَط بينَ لحومِهنَّ وريشِهن، ثم قَسَمهنَّ على أربعةِ أجزاءٍ، فجعَل على كلِّ جبلٍ منهن جزءًا، فجعَل العظمُ يَذهبُ إلى العظمِ، والريشةُ إلى الريشةِ، والبَضْعةُ إلى البَضْعةِ، وذلك بعينِ خليلِ الله إبراهيمَ، ثم دَعاهُنَّ فَأَتَيْنَه سعيًا. يقولُ: شدًّا على أرجلِهن. وهذا مَثَلٌ أراه اللَّهُ إبراهيمَ. يقولُ: كما بُعِثَتْ

(1)

تقدم تخريجه في ص 643.

(2)

شكَّل: قيَّد بالشِّكال، وهو القيد أو الحبل اللسان (ش ك ل).

(3)

البضعة: القطعة من اللحم.

(4)

بعده في م: "ذلك".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2:"آتاه".

ص: 644

هذه الأطيارُ من هذه الأَجْبُلِ الأربعةِ، كذلك يَبعَثُ اللَّهُ الناسَ يومَ القيامةِ مِن أرباعِ الأرضِ ونواحِيها.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، أن أهلَ الكتابِ يذكُرون أنه أخَذ الأطيارَ الأربعةَ، ثم قطَّع كلَّ طيرٍ بأربعةِ أجزاءٍ، ثم عَمَد إلى أربعةِ أجبالٍ، فجعَل على كلِّ جبلٍ رُبُعًا مِن كلِّ طائرٍ، فكان على كلِّ جبلٍ رُبُعٌ من الطاوسِ، ورُبعٌ من الديكِ، ورُبُعٌ من الغُرابِ، ورُبُعٌ من الحمامِ، ثم دَعاهُنَّ فقال: تعالَين بإذنِ اللَّهِ كما كنتُنَّ. فوثَب كلُّ رُبعٍ منها إلى صاحبِه، حتى اجتمعْنَ، فكان كلُّ طائرٍ كما كان قبلَ أن يُقَطِّعَه، ثم أقبلْن إليه سعيًا، كما قال اللَّهُ عز وجل، وقيل: يا إبراهيمُ، هكذا يَجمَعُ اللَّهُ العبادَ، ويُحْيِي الموتى للبعثِ، من مَشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وشامِها ويَمَنِها. فأراه الله إحياءَ الموتى بقُدْرتِه، حتى عرَف ذلك بغيرِ ما قال نُمْرُوذُ من الكذبِ والباطلِ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} . قال: فأخَذ طاوسًا، وحمامةً، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرِّقهنَّ؛ اجعلْ رأسَ

(1)

واحدٍ وجُؤْشُوشَ

(2)

الآخرِ وجناحَى الآخرِ ورجلَى الآخرِ معه. فقَطَّعَهنَّ وفَرَّقَهنَّ أرباعًا على الجبالِ، ثم دَعاهُنَّ فَجِئْنَه جميعًا، فقال اللَّهُ عز وجل: كما ناديْتَهُنَّ فَجِئْنَكَ، وكما أَحْيَيْتُ هؤلاءِ وجمَعْتُهنَّ بعدَ هذا، فكذلك أَجمَعُ هؤلاء أيضًا. يعنِى الموتى.

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2:"كل".

(2)

الجؤشوش: الصدر. اللسان (ج و ش).

ص: 645

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعَلْ على كلِّ جبلٍ من الأجبالِ التي كانت الأطيارُ والسِّباعُ التي كانت تأكُلُ من لحمِ الدابةِ التي رآها إبراهيمُ ميِّتةً، فسأل إبراهيمُ عندَ رؤيتِه إيَّاها أن يُرِيَه كيفَ يُحيِيها وسائرَ الأمواتِ غيرَها. وقالوا: كانت سبعةَ أجبالٍ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: لمَّا قال إبراهيمُ ما قال - عندَ رؤيتِه الدابةَ التي تفرَّقت الطيرُ والسباعُ عنها حين دنا منها - وسأل ربَّه ما سأل، قال:{فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} . قال ابن جريجٍ: فذبَحها ثم خلَط بيَن دمائِهن وريشِهن ولحومِهن، {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا}. حيثُ رأيتَ الطيرَ ذهبتْ والسباعُ. قال: فجعَلَهن سبعةَ أجزاءٍ، وأمسكَ رُءُوسَهنَّ عندَه، ثم دعاهنّ بإذنِ اللَّهِ، فنظَر إلى كلِّ قطرةٍ من دمٍ تَطيرُ إلى القطرةِ الأخرى، وكلِّ ريشةٍ تطيرُ إلى الريشةِ الأخرى، وكلِّ بَضْعةٍ وكلِّ عظمٍ يطيرُ بعضُه إلى بعضٍ من رءوسِ الجبالِ، حتى لَقِيَتْ كلُّ جُثّةٍ بعضُها بعضًا في السماءِ، ثم أقبلْنَ يسعَين، حتى وَصَلَتْ رأسَها

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: فخُذْ أربعةً من الطيرِ فصُرْهُنَّ إليك، ثم اجعَلْ على سبعةِ أَجْبالٍ، فاجعلْ على كلِّ جبلٍ منهن جزءًا، ثم ادْعُهنَّ يأتينَك سعيًا. فأخَذ إبراهيمُ أربعةً من الطيرِ، فقطَّعهنَّ أعضاءً، لم يَجعلْ عضوًا من طيرٍ معَ صاحبِه، ثم جعَل رأسَ هذا مع رجْلِ هذا، وصدرَ هذا مع جَناحِ هذا، وقَسَمَهنَّ على سبعةِ أَجْبَالٍ، ثم دعاهنَّ فطار

(1)

ينظر تفسير البغوي 1/ 324.

ص: 646

كلُّ عضوٍ إلى صاحبِه، ثم أقبلْنَ إليه جميعًا.

وقال آخرون: بل أمَره اللَّهُ جلّ ثناؤُه أن يجعَلَ ذلك على كلِّ جبلٍ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ. عن مجاهدٍ:{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} . قال: ثم بَدِّدُ

(1)

على كلِّ جبلٍ، يأتينَك سعيًا، وكذلك يُحيى اللَّهُ الموتى

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: ثم اجعلْهنَّ أجزاءً على كلِّ جبلٍ، ثم ادْعُهنَّ يأتينَك سعيًا، كذلك يُحيى اللَّهُ الموتى. هو مَثَلٌ ضرَبه اللَّهُ لإبراهيمَ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ، قال مجاهدٌ:{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} ، ثم بَدِّدُهُنَّ أجزاءً على كلِّ جبلٍ، ثم ادْعُهنَّ: تَعالَيْن بِإِذنِ اللَّهِ. فكذلك يُحيِي اللَّهُ الموتى. مَثَلٌ ضربَه اللَّهُ تعالى ذكرُه لإبراهيمَ صلى الله عليه وسلم.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنى إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ، قال: أمَره أن يخالفَ بين قوائِمِهنَّ ورُءُوسِهِنَّ وأجنحتِهنَّ، ثم يَجْعَلَ على كلِّ جبلٍ منهنَّ جزءًا.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: أخَبرنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعْتُ الضَّحّاكَ يقولُ في قولِه: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ

(1)

في م: "بددهن".

(2)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 231 من طريق ابن أبي نجيح به بتمامه.

ص: 647

جُزْءًا}: فخالفَ إبراهيمُ بين قوائمِهنَّ وأجنحتِهنَّ.

وأَوْلَى التأويلات بالآيةِ ما قاله مجاهدٌ، وهو أن اللَّهَ تبارك وتعالى أمَر إبراهيمَ عليه السلام بتفريقِ أعضاءِ الأطيارِ الأربعةِ - بعد تقطيعِه إيّاهنَّ - على جميعِ الأَجْبالِ التي كان يَصِلُ إبراهيمُ في وقتِ تكليفِ اللهِ إيّاه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاءً؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال له:{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} . و "الكُلُّ" حرفٌ يدلُّ على الإحاطةِ بما أُضِيفَ إليه، [والجبلُ لفظُه لفظُ]

(1)

واحدٍ ومعناه الجمعُ. فإذ كان ذلك كذلك، فلن يجوزَ أن تكونَ الجبالُ التي أُمِرَ إبراهيمُ بتفريقِ أجزاءِ الأطيارِ الأربعةِ عليها خارجةً من أحدٍ معنيَين: إمّا أن تكونَ بعضًا أو جميعًا، فإن كانت بعضًا فغيرُ جائزٍ أن يكونَ ذلك البعضُ إلا ما كان لإبراهيمَ السبيلُ إلى تفريقِ أعضاء الأطيارِ الأربعةِ عليه، أو يكونَ جميعًا، فيكونَ أيضًا كذلك، وقد أخبرَ الله تعالى ذكرُه أنه أمَره بأن يجعلَ ذلك على كلِّ جبلٍ، وذلك إما كلُّ جبلٍ قد

(2)

عرَفهنَّ إبراهيمُ بأعيانِهنَّ، وإما كلُّ

(3)

ما في الأرضِ من الجبالِ.

فأما قولُ مَن قال: إن ذلك أربعةُ أَجْبُلٍ. وقولُ مَن قال: هنَّ سبعةٌ. فلا دلالةَ عندَنا على صحةِ شيءٍ من ذلك فنَسْتَجِيزَ القولَ به، وإنما أمَر اللَّهُ جلّ ثناؤُه إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم أن يجعَلَ الأطيارَ الأربعةَ أجزاءً مُفَرَّقةً على كلِّ جبلٍ؛ ليُرِىَ جلّ ثناؤُه إبراهيمَ عليه السلام قدرتَه على جمعِ أجزائهنَّ وهُنَّ متفرِّقاتٌ متبدِّداتٌ في أماكنَ مختلفةٍ شَتَّى، حتى يُؤَلِّفَ بعضَهن إلى بعضٍ، فيَعُدْنَ كهيئتِهنَّ قبلَ تقطيعِهنَّ وتمزِيقِهنَّ، وقبلَ تفريقِ أجزائِهنَّ على الجبالِ، أطيارًا أحياءً يَطِرْنَ، فيَطمَئِنَّ قلبُ إبراهيمَ، ويعلَمَ

(1)

في ص، ت 2:"لفظ"، وفى م، ت 1:"لفظه".

(2)

في م: "وقد".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

ص: 648

أنَّ كذلك جَمْعَ اللَّهِ أوصالَ الموتى لبعثِ القيامةِ، وتأليفَه أجزاءَهم بعدَ البِلَى، وردَّ كلِّ عضوٍ من أعضائِهم إلى موضعِه، كالذي كان قبلَ الرَّدَى

(1)

.

والجزءُ من كلِّ شيءٍ هو البعضُ منه، كان مُنْقَسِمًا جميعُه عليه على صحةٍ أو غيرَ مُنْقَسِمٍ، فهو بذلك من معناه مخالفٌ معنى السهمِ؛ لأن السهمَ من الشئِ هو البعضُ منه المنقسِمُ عليه جميعُه على صحةٍ، ولذلك كَثُر استعمالُ الناسِ في كلامِهم عندَ ذكرِهم أنصباءَهم من المواريثِ، السهامَ دونَ الأجزاءِ.

وأمَّا قولُه: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} فإن معناه ما ذكَرْتُ آنفًا عن مجاهدٍ أنه قال: هو أنه أُمِر أن يقولَ لأجزاءِ الأطيارِ بعدَ تفريقِهنَّ على كلِّ جبلٍ: تعالَين بإذنِ اللَّهِ.

فإن قال قائلٌ: أَ أُمِر إبراهيمُ أن يَدْعُوَهنَّ وهن مُمزَّقاتٌ أجزاءً على رءوسِ الجبالِ أمواتًا، أم بعدَ ما أُحْيِينَ؟ فإن كان أُمِر أن يَدْعُوَهنَّ وهَنَّ ممزَّقاتٌ لا أرواحَ فيهِنَّ، فما وجهُ أَمْرٍ مَن لا حياةَ فيه بالإقبالِ؟ وإن كان أُمِر بدعائِهنَّ بعدَ ما أُحْيِينَ، فما كانت حاجةُ إبراهيمَ إلى دعائِهنَّ وقد أَبصرَهنَّ يُنْشَرْنَ على رءوسِ الجبالِ؟

قيل: إنَّ أَمْرَ اللَّهِ تبارك وتعالى إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائِهن وهنَّ أجزاءٌ متفرِّقاتٌ إنَّما هو أمرُ تكوينٍ - كقولِ اللَّهِ تبارك وتعالى للذين مسَخهم قِردةً بعدَ ما كانوا إنسًا: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] - لا أمرُ عبادةٍ، فيكونَ محالًا إلا بعدَ وجودِ المأمورِ المتعبِّدِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} .

يَعنى تعالى ذكرُه بذلك: واعلَمْ يا إبراهيمُ أن الذي أحيا هذه الأطيارَ - بعدَ تمزيقِك إيَّاهنَّ، وتفريقِك أجزاءَهن على الجبالِ - فجمَعَهنَّ وردَّ إليهن الروحَ، حتى

(1)

في م: "الرد".

ص: 649

أعادَهنَّ كهيئتِهنَّ قبلَ تمزيقِكهنَّ، عزيزٌ في بطشِه، إذا بطَش بمن بطَش من الجبابرةِ والمتكبِّرَةِ الذين خالَفُوا أمرَه، وعَصَوْا رُسُلَه، وعبَدُوا غيرَه، وفي نِقْمَتِه حتى يَنتقِمَ منهم، حكيمٌ في أمرِه.

كما

(1)

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنا ابن إسحاقَ: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . قال: عزيزٌ في بطشِه، حكيمٌ في أمرِه.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} في نقمتِه {حَكِيمٌ} في أمرِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} .

وهذه الآيةُ مردودةٌ إلى قولِه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} . والآياتُ التي بعدَها إلى قولِه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مِن قَصَصِ بنى إسرائيلَ وخبرِهم مع طالوتَ وجالوتَ، وما بعدَ ذلك مِن نبأَ الذي حاجَّ إبراهيمَ مع إبراهيمَ، وأمرِ الذي مرَّ على القريةِ الخاويةِ على عُروشِها، وقصةِ إبراهيمَ ومسألتِه ربَّه ما سأل، مما قد ذكَرْناه قبلُ - اعتراضٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه بما اعتَرض به مِن قَصصِهم بينَ ذلك، احتجاجًا منه ببعضِه على المشركين الذين كانوا يُكَذِّبون بالبعثِ وقيامِ الساعةِ، وحضًّا منه ببعضِه المؤمنين على الجهادِ في سبيلِه، الذي أمرَهم به في قولِه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، يُعرِّفُهم فيه أنه ناصرُهم وإن قلَّ عددُهم، وكثُر عددُ عدوِّهم، ويَعِدُهم

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.

ص: 650

النُّصْرةَ عليهم، ويُعْلِمُهم سُنَّتَه في من كان على مِنهاجِهم من ابتغاءِ رضوانِه، أنه مُؤَيِّدُهم، وفى من كان على سبيلِ أعدائِهم من الكفارِ، بأنه خاذلُهم، ومُفَرِّقُ جمعِهم، ومُوهِنُ كيدِهم، وقطعًا منه ببعضِه عذرَ اليهودِ الذين كانوا بين ظَهْرانَىْ مُهاجَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بما أَطلَع نبيِّه عليه من خَفِيِّ أمورِهم، ومكتومِ أسرارِ أوائلِهم وأسلافِهم، التي لم يكنْ يَعْلَمُها سواهم، ليَعْلَمُوا أن ما أتاهم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من عندِ اللَّهِ، وأنه ليس بتَخَرُّصٍ ولا اختلاقٍ، وإعذارًا منه به إلى أهلِ النفاقِ منهم؛ ليَحْذَرُوا - بشكِّهم في أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم - أن يُحِلُّ أن يُحِلُّ بهم مِن بأسِه وسطوتِه، مثلَ [التي أحلّها]

(1)

بأسلافِهم، الذين كانوا في القريةِ التي أهلكَها، فترَكها خاويةً على عُروشِها.

ثم عاد جلّ ثناؤُه إلى الخبرِ عن الذي يُقْرِضُ اللَّهَ قرضًا حسنًا، وما عندَه له من الثوابِ على قرضِه، فقال جلّ ثناؤُه: هو {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: مثلُ المنفقين أموالَهم على أنفسِهم في جهادِ أعداءِ الله بأنفسِهم وأموالِهم، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} مِن حباتِ الحنِطةِ و

(2)

الشعيرِ، أو غيرِ ذلك من نباتِ الأرضِ، التي [يُسَنْبِلُ رَيْعُها]

(3)

، بذَرها زارعٌ، فـ {أَنْبَتَتْ} يعنِى: فأخرَجتْ {سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} . يقولُ: فكذلك المُنْفِقُ مالَه على نفسِه في سبيلِ اللَّهِ، له أجرُه بسبعِمائةِ ضِعْفٍ على الواحدِ من نفقتِه.

كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} : فهذا

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت:"الذي أحلها"، وفى م:"الذي أحلهما".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أو".

(3)

في م: "تسنبل سنبلة".

ص: 651

لمن أَنفق في سبيل اللَّهِ، فله أجرُه بسبعِمائة مرةٍ

(1)

.

حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} . قال: هذا الذي يُنفِقُ على نفسِه في سبيلِ اللَّهِ وَيَخرُجُ.

حُدِّثْتُ عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} . الآيةَ: فكان مَن بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الهجرةِ، ورابَط مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ، ولم يكفَّ

(2)

وجهًا إلا بإِذنِه، كانت الحسنةُ له بسبعِمائةِ ضعفٍ، ومَن بايَع على الإسلامِ كانت الحسنةُ له عشرَ أمثالِها

(3)

.

فإن قال قائلٌ: وهل رأيتَ سُنبلةً فيها مائةُ حبةٍ، أو بلَغَتْك فيُضْرَبَ بها مثَلُ المُنْفِقِ في سبيلِ اللَّهِ مالَه؟

قيل: إن يكنْ ذلك موجودًا فهو ذاك

(4)

، وإلا فإنه جائزٌ أن يكونَ معناه: كمَثَلِ سُنبلةٍ أَنبتتْ سبعَ سنابلَ في كلِّ سُنبلةٍ مائةُ حبةٍ، إن جعل الله ذلك فيها.

ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبةٍ. يعنى أنها إذا هي بُذِرَتْ أنبتتْ مائةَ حبةٍ. فيكونَ ما حدَث عن البَذْرِ الذي كان منها من المائةِ الحبةِ مضافًا

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فله سبعمائة".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 514 (2726) من طريق عمرو به.

(2)

في م، ت 1، ت 3:"يلق".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 514، 515 (2727) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

في حاشية "ص": "أقول: بل ذلك ثابت محقق في البلاد المغربية، وأكثر سنبل تلك البلاد يكثر ويطول سنبلها الفنن، ولقد عددت به حبة واحدة ثلاثة وشاهدت قريبا من ذلك، أرانى بعض أصحابي مما كان أقل ما عددناه عشرة سنبلة إلى ما ذكرته أولا من العدد محمود". ومكان البياض كلام لم نتمكن من قراءته، قال ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 229: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال القرطبي في تفسيره 3/ 304: فإن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه.

ص: 652

إليها؛ لأنه كان عنها.

وقد تأوَّل ذلك على هذا الوجهِ بعضُ أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ قولَه:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} . قال: كلُّ سنبلةٍ أنبتتْ مائةَ حبةٍ، فهذا لمن أَنفقَ في سبيلِ الله، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ فقال بعضُهم: واللَّهُ يُضاعِفُ لمن يشاءُ مِن عبادِه أجرَ حسناتِه، بعدَ الذي أَعطى المنفِقَ في سبيلِه من التضعيفِ، على

(2)

الواحدةِ سبعَمائةٍ، فأمَّا المنفِقُ في سبيلِه، فلا يَنْقُصُه

(3)

وعدَه مِن تضعيفِ السبعِمائة بالواحدةِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ، قال: هذا يضاعَفُ لمن أَنفَق في سبيلِ اللَّهِ - يعنِى السبعَمائة - {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(4)

.

(1)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 230، وتفسير القرطبي 3/ 304.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3 س:"سبيله فلا نفقة عما"، وفى م:"غير سبيله فلا نفقة ما".

(4)

بعده في م: "يعنى لغير المنفق في سبيله".

ص: 653

وقال آخَرون: بل معنى ذلك: واللَّهُ يضاعِفُ لمن يشاءُ مِن المُنْفِقِين في سبيلِه على السبعِمائة إلى ألفَىْ ألفِ ضِعْفٍ. وهذا قولٌ ذُكِر عن ابن عباسٍ من وجهٍ لم أَحْمَدُ

(1)

إسنادَه فتركْتُ ذكرَه.

والذي هو أَوْلَى بتأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} : يُضَاعِفُ على السبعِمائة إلى ما يشاءُ من التضعيفِ، لمن يشاءُ من المُنْفِقِين في سبيلِه؛ لأنه لم يَجْرِ ذكرُ الثوابِ والتضعيفِ لغيرِ المُنْفِقِ في سبيلِ اللَّهِ فيجوزَ لنا توجيهُ

(2)

ما وعَد جلَّ ثناؤُه في هذه الآيةِ من التضعيفِ، إلى أنه عِدَةٌ منه على العملِ على غيرِ النفقة في سبيلِ اللَّهِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: واللَّهُ واسعٌ أن يَزِيدَ مَن يَشَاءُ من خلقِهِ المُنْفِقِين في سبيلِه، على أضعافِ السبعِمائة التي وعَده أن يَزِيدَه، عليمٌ بَمَن

(3)

يستحقُّ منهم الزيادةَ.

كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . قال: {وَاسِعٌ} أن يَزِيدَ مِن سَعَتِه، {عَلِيمٌ} عالمٌ بَمَن يَزِيدُه

(4)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: واللَّهُ واسعٌ لتلك الأضعافِ، عليمٌ بما يُنْفِقُ الذين يُنْفِقُون أموالَهم في طاعةِ اللَّهِ.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س: س: "أجد".

(2)

في م: "توجهه".

(3)

في ص، م، ت 2:"من".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 336 إلى المصنف.

ص: 654

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} .

قال أبو جعفرٍ: يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه المُعْطِىَ مالَه المجاهدِين في سبيلِ اللَّهِ؛ معونةً لهم على جهادِ أعداءِ اللَّهِ. يقولُ تعالى ذكرُه: الذين يُعِينُون المجاهدِين في سبيلِ اللَّهِ بالإنفاقِ عليهم، وفى حُمُولاتِهم وغيرِ ذلك من مُؤَنِهم، ثم لم يُنْبِعْ نفقَتَه التي أَنفقَها عليهم مَنًّا عليهم بإنفاقِ ذلك عليهم، ولا أذًى لهم، [فأمّا منُّه]

(1)

به عليهم، فأن يُظْهِرَ لهم أنه قد اصطَنع إليهم - بفعلِه وعطائِه الذي أَعطاهُمُوه تقويةً لهم على جهادِ عدوِّهم - معروفًا، ويُبْدِيَ ذلك إمّا بلسانٍ أو فعلٍ. وأمّا الأذَى فهو شِكايتُه إيّاهم - سببِ ما أَعطاهم وقوَّاهم من النفقةِ في سبيلِ اللَّهِ - أنهم لم يَقُوموا بالواجبِ عليهم في الجهادِ، وما أَشبهَ ذلك من القولِ الذي يُؤْذِى به من أَنفَقَ عليه.

وإنما شَرَط ذلك في المُنْفِقِ في سبيلِ اللَّهِ، وأَوجبَ الأجرَ لمن كان غيرَ مانٍّ ولا مُؤْذٍ مَن أَنفَقَ عليه في سبيلِ اللَّهِ؛ لأن النفقةَ التي هي في سبيلِ اللَّهِ، ما

(2)

ابْتُغِى به وجهُ اللَّهِ، وطُلِب به ما عنده، فإذا كان معنى النفقةِ في سبيلِ اللَّهِ هو ما وصَفْنا، فلا وجهَ لمَنَّ المُنْفِقِ على مَن أَنفقَ عليه [على ذلك الوجهِ، ولا إيذائِه إيَّاه بسبب إنفاقِه ما أنْفَق عليه]

(3)

؛ لأنه لا يَدَ له قِبَلَه، ولا صنيعةَ يستحقُّ بها عليه - لم يُكافِئْه عليها - المنَّ والأذَى، إذ كانت نفقتُه ما أَنفقَ عليه احتسابًا، وابتغاء ثوابِ اللَّهِ، وطلبَ مَرْضاتِه، وعلى اللَّهِ مَثوبتُه دون مَن أَنفقَ ذلك عليه.

(1)

في م: "فامتنانه".

(2)

في م: "مما".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت، س.

ص: 655

وبنحوِ المعنى الذي قلْنا في ذلك قال جماعةُ

(1)

أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : علِم اللَّهُ تبارك وتعالى أن أُناسًا يَمُنُّون بعَطِيَّتِهم، فكرِه ذلك وقَدَّم فيه، فقال:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قال للآخرين - يعنى قال اللَّهُ للآخَرين، وهم الذين لا يَخْرُجون في جهادِ عدوِّهمَ -:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} . قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يَشْرُطْ عليه قليلًا ولا كثيرًا. يعنى بالخارجِ: الخارجَ في الجهادِ الذي ذكَره اللَّهُ عز وجل في قولِه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية. قال ابن زيدٍ: وكان أبي يقولُ: إن أُذِن لك أن تُعْطِىَ مِن هذا شيئًا، أو تُقَوِّىَ، فَقَوِّه

(3)

في سبيلِ اللَّهِ، فَظَنَنْتَ أَنه يَثْقُلُ عليه سلامُك، فكُفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيدٍ: فشيءٌ

(4)

خيرٌ مِن السلامِ! قال: وقالتِ امرأةٌ لأبى: يا أبا أسامةَ، تَدُلُّنِى على رجلٍ يَخرُجُ في سبيلِ اللَّهِ حقًّا، فإنهم لا يَخرُجُون إلا ليأكُلُوا الفواكَه، عندى جَعْبةٌ

(5)

وأَسْهُمٌ فيها. فقال لها: لا بارَكَ اللَّهُ لَكِ فِي جَعْبَتِكِ ولا في

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 337 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

في ص، ت:"فقوى"، وفى م، ت 1، ت 3:"فقويت".

(4)

في ص: "فنهى"، وفى م، ت 1، ت 3:"فهو".

(5)

الجعبة: وعاء السهام والنبال.

ص: 656

أَسْهُمِكِ، فقد آذَيْتِهم قبلَ أن تُعْطِيهم. قال: وكان رجلٌ يقولُ لهم: اخرُجُوا وكلُوا الفواكهَ

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ قولَه:{ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} . قال: ألا يُنْفِقَ الرجلُ مالَه خيرٌ مِن أن يُنْفِقَه ثم يُتْبِعَه مَنَّا وأَذًى.

وأمّا قولُه: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . فإنه يعنى: للذين يُنْفِقُون أموالَهم في سبيلِ اللَّهِ على ما بَيَّنَ. والهاءُ والميمُ في {لَهُمْ} عائدةٌ على {الَّذِينَ} .

ومعنى قولِه: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : لهم ثوابُهم وجزاؤُهم على نفقتِهم التي أَنفقُوها في سبيلِ اللَّهِ، ثم لم يُتبِعوها مَنًّا ولا أذًى.

وقولُه: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . يقولُ: وهم مع ما لَهم من الجزاءِ والثوابِ على نفقتِهم التي أنفقُوها على ما شرَطْنَا، لا خوفٌ عليهم عندَ مَقْدَمِهم على اللَّهِ جلَّ ثناؤه، وفِراقِهم الدنيا، ولا في أهوالِ القيامةِ، أن

(2)

ينالَهم من مَكارِهِها، أو يُصيبَهم فيها من عقابِ اللَّهِ، ولا هم يَحزنُون على ما خلَّفُوا وراءَهم في الدنيا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} .

(1)

ينظر المحرر الوجيز 2/ 232، وتفسير القرطبي 3/ 308.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وأن".

ص: 657

يعنى بقولِه جل ثناؤه: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} : قولٌ جميلٌ، ودعاءُ الرجلِ لأخيه المسلمِ، {وَمَغْفِرَةٌ} يعنى: وسترٌ منه عليه، لما عَلِم مِن خلَّتِه

(1)

وسوءِ حالتِه، {خَيْرٌ} عندَ اللهِ ومَن صَدَقَةٍ يَتَصَدَّقُها عليه. {يَتْبَعُهَا أَذًى} يعنى: يَشْتَكِيه عليها، ويُؤْذِيه بسببِها.

كما حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحّاكِ قولَه:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} يقولُ: أن يُمْسِكَ مالَه خيرٌ مِن أن يُنْفِقَ مالَه ثم يُتْبِعَه مَنًّا وأذًى.

وأمَّا قولُه: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} . فإنه يعنى: واللَّهُ غنيٌّ عمّا يَتَصَدَّقُون به، حليمٌ حين لا يَعْجَلُ بالعقوبةِ على من يَمُنُّ بصدقتِه منكم، ويُؤْذِى فيها مَن يَتَصَدَّقُ بها عليه.

ورُوِى عن ابن عباسٍ في ذلك ما حدَّثنا به المثنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ: الغَنِيُّ: الذي قد كَمُل في غِناه، والحليمُ: الذي قد كَمُلَ في حِلْمِه

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: ويَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

يعنى بذلك تعالى ذكرُه: يأيها الذين

(3)

صَدَّقُوا اللَّهَ ورسولَه، {لَا تُبْطِلُوا

(1)

الخَّلة: الحاجة والفقر. اللسان (خ ل ل).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في مجموع الفتاوي 17/ 219، 220 - وأبو الشيخ في العظمة (98) من طريق أبى صالح به.

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2:"آمنوا".

ص: 658

صَدَقَاتِكُمْ} يقولُ: لا تُبْطِلُوا أجورَ صدَقاتِكم بالمنِّ والأذَى، كما أَبطل كفرُ الذي يُنْفِقُ مالَه رِئَاءَ الناسِ، وهو مراءاتُه إيَّاهم بعملِه، وذلك أَن يُنْفِقَ مالَه فيما يَرَى الناسُ في الظاهرِ أنه يُريدُ اللَّهَ به، فيَحْمَدُوه عليه، وهو [غيرُ مريدٍ به الله]

(1)

، ولا طالبٌ منه الثوابَ، وإنما يُنْفِقُه كذلك ظاهرًا؛ ليَحْمَدَه الناسُ عليه، فيقولوا: هو سَخِيٌّ كريمٌ، وهو رجلٌ صالحٌ. فيُحْسِنُوا عليه به الثناءَ، وهم لا يعَلَمون ما هو مُستبطِنٌ من النيةِ في إنفاقِه ما أَنفقَ، ولا يَدْرُون ما هو عليه من التكذيبِ باللَّهِ واليومِ الآخرِ.

وأما قولُه: {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فإن معناه: ولا يُصدِّقُ بوحدانيةِ اللَّهِ وربُوبيتِه، ولا بأنه مبعوثٌ بعد مماتِه فمُجازًى على عملِه، فيَجعلَ نفقتَه

(2)

لوجهِ اللَّهِ جلّ ثناؤه، وطلبِ ثوابِه وما عندَه في معادِه، وهذه صفةُ المنافقِ، وإنما قلْنا: إنه منافقٌ. لأن المُظْهِرَ كفرَه والمُعْلِنَ شِرْكَه، معلومٌ أنه لا يكونُ بشيءٍ من أعمالِه مُرائيًا؛ لأن المُرائىَ هو الذي يُرائِى الناسَ بالعملِ الذي هو في الظاهرِ للَّهِ، وفى الباطنِ [من نِيَّةِ]

(3)

عاملِه مرادٌ

(4)

به حمدُ الناسِ عليه، والكافرُ لا يخِيلُ على أحدٍ أمرُه، أَنَّ أفعالَه كلَّها إنَّما هي للشيطانِ - إذا كان معلنًا كفرَه - لا للَّهِ، ومَن كان كذلك فغيرُ كائنٍ مرائيًا بأعمالِه.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

في ص، م:"وهو مريد به غير الله".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2:"عمله".

(3)

سقط من: م.

(4)

في م: "مراده".

ص: 659

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني أبو هانيء الخَوْلانيُّ، عن عمرِو بن حُريثٍ، قال: إن الرجلَ يَغْزُو، لا

(1)

يَسْرِقُ ولا يَزْنِى ولا يَغُلُّ، [ولا]

(2)

يَرْجِعُ بالكَفافِ. فقيل له: لماذا

(3)

؟ قال: إن الرجلَ لَيَخْرُجُ، فإذا أصابه مِن بلاءِ اللَّهِ الذي قد حكَم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه، ولعَن ساعةً غَزَا، وقال: لا أعودُ لغَزْوةٍ معه أبدًا، فهذا عليه، وليس له، مِثْلَ النفقةِ في سبيلِ اللَّهِ يُتبعُها مَنًّا

(4)

وأَذًى، فقد ضرَب اللَّهُ مَثَلَها في القرآنِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} . حتى ختَم الآيةَ

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} .

يعنى بذلك جلّ ثناؤه: فمَثَلُ هذا الذي يُنْفِقُ مالَه رِئاءَ الناسِ، ولا يُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ - والهاءُ في قولِه:{فَمَثَلُهُ} عائدةٌ على {الَّذِي} - {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} . والصَّفْوانُ واحدٌ وجميعٌ

(6)

، فمن جعَله جميعًا

(7)

فالواحدةُ صَفْوانةٌ، بمنزلةِ تمرةٍ وتمرٍ، ونخلةٍ ونخلٍ، ومن جعَله واحدًا جمعَه: صِفْوانٌ وصُفِيٌّ وصِفِيٌّ، كما قال الشاعرُ

(8)

:

(1)

في م، والدر المنثور:"ولا".

(2)

في ص، م، والدر المنثور:"لا".

(3)

في ص، م:"لم ذاك".

(4)

في ص، م:"من".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف وابن المنذر.

(6)

في م: "جمع".

(7)

في الأصل: "جمعا".

(8)

تقدم في 2/ 709.

ص: 660

* مَوَاقِعُ الطَّيْرِ على الصُّفِيِّ *

والصَّفْوانُ هو الصَّفَا، وهى الحجارةُ المُلْسُ.

وقولُه: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} . يعنى: على الصفوانِ ترابٌ {فَأَصَابَهُ} له يعنى: أَصاب الصَّفْوانَ {وَابِلٌ} ، وهو المطرُ الشديدُ العظيمُ، كما قال امرؤُ القيسِ

(1)

:

ساعَةً ثم انْتَحاها وابلٌ

ساقِطُ الأكْنافِ واهٍ مُنْهَمِرْ

يقالُ منه: وبَلَتِ السماءُ فهى تَبِلُ وَبُلًا، وقد وُبِلَتِ الأرضُ، فهى تُوبَلُ.

وقولُه: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} . يقولُ: فترَك الوابلُ الصَّفوانَ صَلْدًا. والصَّلْدُ من الحجارةِ: الصُّلْبُ الذي لا شيءَ عليه مِن نباتٍ ولا غيرِه، وهو من الأرَضِين: ما لا يَنْبُتُ فيه شيءٌ، وكذلك من الرءوسِ، كما قال رُؤْبةُ

(2)

:

لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ

(3)

بَرَّاقَ أَصْلادِ الجبينِ الأَجْلَهِ

(4)

ومن ذلك يقالُ للقِدرِ الثَّخِينةِ البطيئةِ الغَلْى: قِدْرٌ صَلُودٌ. وقد صلَدَتْ تَصْلُدُ صُلُودًا، ومنه قولُ تَأَبَّطَ شَرًّا

(5)

:

(1)

ديوانه ص 145.

(2)

ديوانه ص 165.

(3)

الموهة لون الماء. يقال: ما أحسن موهة وجهه. قال ابن بري: يقال: وجه مموه. أي: مزين بماء الشباب. اللسان (م و هـ).

(4)

الجَلَهُ: ذهاب الشعر من مقدم الجبين. اللسان (ج ل هـ).

(5)

ديوانه ص 174.

ص: 661

ولستُ بجِلْبٍ [جِلْبِ رَعْدٍ]

(1)

وقِرَّةٍ

(2)

ولا بصَفًا صَلْدٍ عن الخيرِ أَعْزَلِ

ثم رجَع جلّ ذكرُه إلى ذكرِ المنافقِين الذين ضرَب المثلَ لأعمالِهم، فقال: فكذلك أعمالُهم بمنزلةِ الصَّفْوانِ الذي كان عليه ترابٌ، فأصابه الوابلُ من المطرِ، فذهَب بما عليه من الترابِ، فترَكه نَقِيًّا لا ترابَ عليه ولا شيءَ، يَراهم المسلمون في الظاهرِ أن لهم أعمالًا، كما يُرَى الترابُ على هذا الصَّفْوانِ، بما يُراءُونهم به، فإذا كان يومُ القيامةِ وصارُوا إلى اللَّهِ جل جلاله اضْمَحَلَّ ذلك كلُّه؛ لأنه لم يكنْ للَّهِ، كما أذهَب الوابلُ من المطرِ ما كان على الصَّفْوانِ مِن الترابِ، فترَكه أملسَ لا شيءَ عليه، فذلك قولُه:{يَقْدِرُونَ} يعنى به الذين يُنْفِقون أموالَهم رئاءَ الناسِ، ولا يُؤْمِنون باللَّهِ ولا باليومِ الآخرِ. يقولُ: لا يَقْدِرُون يومَ القيامةِ على ثوابِ شيءٍ مما كسَبوا في الدنيا؛ لأنهم لم يَعملُوه

(3)

لمَعادِهم، ولا طلبِ

(4)

ما عند اللَّهِ في الآخرةِ، ولكنهم عمِلوه رِئَاءَ الناسِ، وطلبَ حَمْدِهم، فإنما حظُّهم من أعمالِهم ما أرادُوه وطلَبُوه بها، ثم أخبرَ جلّ ثناؤه أنه {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} يقولُ: لا يُسَدِّدُهم لإصابةِ الحقِّ في نَفَقاتِهم وغيرِها، فيُوَفِّقَهم لها، وهم للباطلِ عليها مُؤْثِرون، ولكنه يترُكُهم

(5)

في ضَلالتِهم يَعْمَهُون، فقال جل ثناؤُه للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقِين الذين هذا المَثَلُ صفةُ أعمالِهم، فتُبْطِلُوا أجورَ صدَقاتِكم، بمنِّكم

(1)

في م، واللسان (ج ل ب):"جلب ليل"، وفى الديوان واللسان (ع ز ل)، وإصلاح المنطق ص 36:"جلب ريح".

والجلب: بكسر الجيم وضمها وبسكون اللام، السحاب الذي لا ماء فيه، وقيل: سحاب رقيق لا ماء فيه، وقيل: هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل. اللسان (ج ل ب).

(2)

القِرَّةُ والقُرُّ: البرد الشديد.

(3)

في ص، م:"يعملوا".

(4)

في م: "لطلب".

(5)

في م: "تركهم".

ص: 662

على من تصدَّقْتُم بها عليه، وأذاكم لهم، كما بطَل أجرُ نفقةِ المنافِقِ الذي أَنفقَ مالَه رِئاءَ الناسِ، وهو غيرُ مؤمنٍ باللَّهِ واليومِ الآخرِ عند اللَّهِ.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ عن قتادةَ قولَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} . فقرأ حتى بلَغ: {عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} : فهذا مَثَلٌ ضرَبه اللَّهُ لأعمالِ الكفارِ يومَ القيامةِ، يقولُ: لا يَقْدِرُون على شيءٍ مما كسَبوا يومئذٍ، كما ترَك هذا المطرُ الصَّفَاةَ الحجَرَ ليس عليه شيءٌ، أنقَى ما كان عليه

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} إلى قولِه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : هذا مثلٌ ضرَبه اللَّهُ لأعمالِ الكافرِين يومَ القيامةِ، يقولُ: لا يَقْدِرُون على شيءٍ مما كسَبوا يومئذٍ، كما ترَك هذا المطرُ الصَّفا نَقِيًّا لا شيءَ عليه

(2)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} إلى قولِه: {عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} : أمّا الصَّفْوانُ الذي عليه ترابٌ فأصابه المطرُ فذهَب ترابُه فترَكه صَلْدًا، فكذلك هذا الذي يُنْفِقُ مالَه رياءَ الناسِ، ذهَب الرياءُ بنفقتِه، كما ذهَب هذا المطرُ بترابِ هذا الصَّفا، فترَكه نَقِيًّا، فكذلك ترَكه الرياءُ لا يَقْدِرُ على شيءٍ مما قدَّم، فقال للمؤمنين: {لَا

(1)

سقط من: م.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 518 (2746) بمعناه من طريق يزيد بن زريع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى عبد بن حميد.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 519 (2751) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 663

تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} فتَبْطُلَ كما بطَلتْ صدقةُ الرياءِ

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحّاكِ، قال: ألَّا يُنْفِقَ الرجلُ مالَه خيرٌ من أن يُنْفِقَه ثم يُتْبِعَه منًّا وأَذًى، فضرَب اللَّهُ مثلَه كمَثَلِ كافرٍ أَنفقَ مالَه، لا يُؤْمِنُ باللَّهِ ولا باليومِ الآخِرِ، فضرَب اللَّهُ مثَلَهما جميعًا:{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} فكذلك مَن أَنفق مالَه ثم أَتْبَعَه منًّا وأذًى.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} إلى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} : ليس عليه شيءٌ، وكذلك المنافقُ يومَ القيامةِ لا يَقْدِرُ على شيءٍ مما كسَب.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ في قولِه: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} قال: يَمُنُّ بصدقتِه، ويُؤذِيه فيها حتى يُبْطِلَها.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} . فقرَأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} حتى بلَغ {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} ثم قال: أترى الوابلَ يَدَعُ من الترابِ على الصَّفْوانِ شيئًا؟ فكذلك مَنُّك وأَذاك لم يَدَعْ مما أَنفَقْتَ شيئًا. وقرَأ قولَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 517 (2743) من طريق عمرو به مختصرًا.

ص: 664

وَالْأَذَى}. وقرأ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} فقرأ حتى بلَغ: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {صَفْوَانٍ} .

قد بيّنّا معنى الصَّفْوانِ بما فيه الكفايةُ، غير أنّا أرَدْنا ذكرَ من قال مثلَ قولِنا في ذلك من أهلِ التأويلِ.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} : كمثَلِ الصفاةِ

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} : والصَّفْوانُ: الصَّفَا.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ مثلَه

(2)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بن حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أمّا {صَفْوَانٍ} ، فهو الحَجَرُ الذي يُسَمَّى الصَّفاةَ

(3)

.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ مثلَه

(4)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليّ بن أبى طلحةَ،

(1)

في الأصل: "صفاة".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 519 (2751) من طريق ابن أبي جعفر به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 517 (2743) من طريق عمرو بن حماد به بمعناه.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 518 عقب الأثر (2747) معلقًا.

ص: 665

عن ابن عباسٍ قولَه: {صَفْوَانٍ} : يعنى الحجَرَ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} .

قد مضى البيانُ عنه، وهذا ذكرُ من قال قولَنا فيه.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: أمّا {وَابِلٌ} : فمطرٌ شديدٌ

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} : الوابلُ: المطرُ الشديدُ.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ مثلَه

(3)

.

حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ، مثلَه

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} .

‌ذكرُ من قال نحوَ ما قلْنا في ذلك

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} . يقولُ: نَقِيًّا.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} قال: ترَكَها نَقِيَّةً، ليس عليها

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 518 (2747) من طريق أبى صالح به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 518 عقب الأثر (2747) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 518 عقب الأثر (2748) معلقًا.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 518 عقب الأثر (2748) من طريق ابن أبي جعفر به، وأخرجه في 2/ 519 (2751) من طريق ابن أبي جعفر به بلفظ: المطر.

ص: 666

شيءٍ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قال ابن عباسٍ قولَه: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} قال: ليس عليه شيءٌ

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} : فترَكه جَرْدًا.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} : ليس عليه شيءٌ

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} : ليس عليه شيءٌ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .

يعنى بذلك جل ثناؤُه: ومثَلُ الذين يُنْفقون أموالَهم فيَصَّدَّقُون بها، ويَحْمِلون عليها في سبيلِ اللَّهِ، ويُقَوُّون بها أهلَ الحاجةِ من الغُزاةِ والمجاهدِين في سبيلِ اللَّهِ، وفى غير ذلك من طاعاتِ اللَّهِ، طَلَبَ [مرضاتِ اللَّهِ، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. يعنى بذلك: وتثبيتًا من أنفسِهم لهم]

(5)

على إنفاقِ ذلك في طاعةِ اللَّهِ وتحقيقًا. من

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر ابن أبي حاتم 2/ 18 (2749).

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 107.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مرضاته وتثبيتا يعنى بذلك: وتثبيتا من أنفسهم يعنى: لهم".

ص: 667

قولِ القائلِ: ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمرِ: إذا صحَّحْتَ عزمَه وحقَّقْتَه وقَوَّيْتَ فيه رأْيَه، أُثَبِّتُه تثبيتًا، كما قال ابن رَوَاحةَ

(1)

:

فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ

تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِى نُصِرُوا

وإنما عنَى اللَّهُ جل ثَناؤُه بذلك أن أنفسَهم كانت مُوقِنةً مُصَدِّقةً بوعدِ اللَّهِ إيَّاها فيما أَنفقتْ في طاعتِه بغيرِ منٍّ ولا أذًى، فثبَّتُّهم في إنفاقِ أموالِهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ، وصحَّحتُ عَزْمَهم وآراءَهم يقينًا منها بذلك، وتصديقًا بوعدِ اللَّهِ إيَّاها ما وعَدها. ولذلك قال مَن قال مِن أهلِ التأويلِ في تأويلِ قولِه:{وَتَثْبِيتًا} : وتصديقًا. ومن قال منهم: ويقينًا؛ لأن تثبيتَ أنفسِ المنفِقين أموالَهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ إيَّاهم، إنما كان عن يقينٍ منها، وتصديقٍ بوعدِ اللَّهِ جلّ وعزّ.

‌ذِكرُ من قال ذلك من أهلِ التأويلِ

حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن أبي موسى، عن الشعبيِّ:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: تصديقًا وتَيْقينًا

(2)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ الأَهْوازيُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي موسى، عن الشعبيِّ:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . قال: وتصديقًا من أنفسِهم.

(1)

ديوانه ص 159.

(2)

أخرجه ابن زنجويه في الأموال (2316)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 519، 520 (2755، 2756) من طريق سفيان به، وسقط من عند ابن زنجويه ذكر سفيان.

ص: 668

[حدثنا موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السديِّ: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}]

(1)

: ثباتٌ ونصرةٌ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . قال: [ثقةً من أنفسِهم

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ] (1): يقينًا من أنفسِهم. قال: التثبيتُ اليقيُن

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: ثنا عليُّ بنُ مَعْبَدٍ، عن أبي معاويةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . قال: يقينًا من عندِ أنفسِهم

(4)

.

وقال آخرون: معنى قولِه: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . أنهم كانوا يَتَثَبَّتون في الموضعِ الذي يَضَعُون فيه صدقاتِهم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . قال: يَتَثَبَّتُون أَين يَضَعُون أموالَهم.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا سُويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابن المبارَكِ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . فقلت له: ما ذلك التثبيتُ؟

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 107.

(3)

ينظر تفسير القرطبي 3/ 314.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف.

ص: 669

قال: يَتَثَبَّتون أين يَضَعُون أموالَهم

(1)

.

حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: كانوا يَتَثَبَّتون أين يَضَعُونها.

حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن عليّ بن عليّ بن رِفاعةَ، عن الحسنِ في قولِه:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: كانوا يتَتَبَّتُون أين يَضَعُون أموالَهم. يعنى زكاتَهم.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخبَرَنا ابن المبارَكِ، عن عليّ بن عليٍّ، قال: سمِعْتُ الحسنَ قرَأ: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: كان الرجلُ إذا هَمَّ بصدَقةٍ تَثَبَّتَ، فإن كان للَّهِ مضَى، وإن خالَطه شكٌّ أَمْسَك

(2)

.

وهذا التأويلُ الذي ذكَرْناه عن مجاهدٍ والحسنِ تأويلٌ بعيدُ المعنى مما يدلُّ عليه ظاهرُ التلاوةِ، وذلك أنهم تأوَّلُوا قولَه:{وَتَثْبِيتًا} . بمعنى: وتثبُّتًا. فزعَموا أن ذلك إنما قيل كذلك لأن القومَ كانوا يَتَثَبَّتُون أين يَضَعُون أموالَهم. ولو كان التأويلُ

(3)

كذلك لكان: وتَثَبُّتًا من أنفسِهم؛ لأن المصدرَ من الكلامِ إذا

(4)

كان على "تَفَعَّلْتُ" التَّفَعلُ، فيقالُ: تَكَرَّمْتُ تَكَرُّمًا، وتَكَلَّمْتُ تَكَلُّمًا. وكما

(5)

قال جلّ ثناؤُه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]. من قولِ القائلِ: تخوَّفَ فلانٌ هذا الأمرَ تَخَوُّفًا. فكذلك قولُه: {وَتَثْبِيتًا} لو كان مِن تَثَبُّتِ القومِ في وَضْعِ

(1)

أخرجه ابن زنجويه في الأموال (2315)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 520 (2757) من طريق عثمان بن الأسود به.

(2)

أخرجه ابن زنجويه في الأموال (2317) من طريق ابن المبارك به.

(3)

في الأصل: "هذا التأويل".

(4)

سقط من: ص، وفى م:"إن".

(5)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أن".

ص: 670

صدَقاتِهم مواضعَها، لكان الكلامُ: وتَثَبُّتًا من أنفسِهم. لا: {وَتَثْبِيتًا} . ولكنَّ معنى ذلك ما قُلْنا مِن أنه: وتَثْبِيتٌ من أنفسِ القومِ إيَّاهم بصحةِ العزمِ، واليقيِن بوعدِ اللَّهِ تعالى ذكرُه.

فإن قال قائلٌ: وما تُنْكِرُ أن يكونَ ذلك نظيرَ قولِ اللَّهِ عز وجل: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. ولم يقلْ: تَبتُّلًا. قيل: إن هذا مخالفٌ لذلك، وذلك أن هذا إنّما جاز أن يقالَ فيه:{تَبْتِيلًا} . لظهورِ {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} فكان في ظهورِه دَلالةٌ على متروكٍ من الكلامِ الذي

(1)

منه قيل: {تَبْتِيلًا} [وذلك المتروكُ هو: وتَبَتَّلْ]

(2)

فيُبتِّلَك اللَّهُ إليه تَبْتيلًا. وقد تفعلُ العربُ مثلَ ذلك

(3)

، تُخْرِجُ المصادرَ على غيرِ ألفاظِ الأفعالِ التي تَقَدَّمَتْها، إذا كانت الأفعالُ المتقدِّمةُ لها

(4)

تَدلُّ على ما أُخْرِجَتْ منه، كما قال جلّ وعزّ:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]. وقال: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37]. فالنباتُ مصدرُ نَبَتَ، وإنما جاز ذلك لمجئِ "أَنبتَ" قبلَه، فدلَّ على المتروكِ الذي منه قيل: نَبَاتًا. والمعنى: واللَّهُ أَنبتَكم فنَبَتُّمْ من الأرضِ نَباتًا. وليس قبلَ

(5)

قولِه: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} كلامٌ يجوزُ أن يكونَ متوهَّمًا به أنه معدولٌ عن بنائِه، وأنَّ معنى

(6)

الكلامِ: ويَتَثَبَّتُون في وضعِ الصدقاتِ مواضعَها، فيُصْرَفَ إلى المعانى التي صُرِف إليها قولُه:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} . وما أَشبهَ ذلك من المصادرِ المعدولةِ عن الأفعالِ التي هي ظاهرةٌ قبلَها.

(1)

زيادة من: م.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وذلك أن المتروك هو: تبتل".

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أحيانا".

(4)

ليست في: ص، م، ت 1، ت 2.

(5)

سقط من: ص، م.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ومعنى".

ص: 671

وقال آخرون: معنى قولِه: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : واحتسابًا من أنفسِهم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يقولُ: احتسابًا من أنفسِهم

(1)

.

وهذا القولُ أيضًا قولٌ

(2)

بعيدُ المعنى من معنى التثبيتِ

(3)

؛ لأن التثبيتَ لا يُعْرَفُ في شيءٍ من الكلامِ بمعنى الاحتسابِ، إلا أن يكونَ أرادَ مفسِّرُه كذلك أن أَنفُسَ المنفقين كانت مُحتسبةً في تثبيتِها أصحابَها، فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلامِ، فليس الاحتسابُ بمَعْنًى حينئذٍ للتثبيتِ فيُتَرْجَمَ عنه به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} .

يعنى بذلك جلّ ثناؤه: ومثلُ الذين يُنفِقون أموالَهم فيَتَصَدَّقُون بها، ويُسَبِّلُونها في طاعةِ اللَّهِ بغيرِ منٍّ على من تَصَدَّقُوا بها عليه، ولا أذًى منهم لهم بها؛ ابتغاءَ رضوانِ اللَّهِ، وتصديقًا من أنفسِهم بوعدِه، {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} - والجنةُ البستانُ، وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أن الجنةَ البستانُ، بما فيه الكفايةُ إعادتِه

(4)

- {بِرَبْوَةٍ} ، والربوةُ من الأرضِ: ما نشَز منها، فارتفَع عن المَسيلِ

(5)

. وإنما وصَفها

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 520 (2758) من طريق شيبان، عن قتادة.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(3)

في ص في هذا الموضع وما بعده: "التثبت".

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 406 وما بعدها.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"السيل".

ص: 672

بذلك جل ثناؤُه؛ لأن ما ارتفَع من الأرضِ

(1)

عن المسايلِ والأوديةِ أَغْلَظُ، وجِنانُ ما غلُظ من الأرضِ أحسنُ وأَزْكَى ثَمَرًا وَغَرْسًا وزَرْعًا مما رَقَّ منها، ولذلك قال أعشى بنى ثعلبةَ في وصفِ رَوْضةٍ

(2)

:

ما رَوْضَةٌ من رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ

خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ

فوصَفها بأنها من رياضِ الحَزْنِ؛ لأن الحُزُونَ عُروسُها ونباتُها أحسنُ وأقوى من غُروسِ الأوديةِ والتِّلاعِ وزُروعِها.

وفى "الرَّبوةِ" لُغاتٌ ثلاثٌ، وقد قرَأ بكلِّ لغةٍ منهن جماعةٌ من القرأةِ؛ وهنّ

(3)

: "رُبُوةٌ" بضمِّ الراءِ، وبها قرأتْ عامةُ قرأةِ المدينةِ والحجازِ والعراقِ

(4)

. و "رَبُوةٌ" بفتحِ الراءِ، وبها قرأ بعضُ أهلِ الشامِ وبعضُ أهلِ الكوفةِ

(5)

، ويقالُ: إنها لغةٌ لتميمٍ. و "ربوةٌ" بكسرِ الراءِ، وبها قرأ - فيما ذُكِر - ابن عباسٍ

(6)

.

وغيرُ جائزٍ عندى أن يُقرأَ ذلك إلا بإحدى اللغتَين: إما بفتحِ الراءِ، وإما بضمِّها؛ لأن قراءةَ الناسِ في أمصارِهم بإحداهما، وأنا لقراءتِها بضمِّها أشدُّ إيثارًا منى لِفَتحِها

(7)

؛ لأنها أشهرُ اللغتَين في العربِ، فأما الكسرُ فإن في رفضِ القرأةِ

(8)

القراءةَ به دلالةً واضحةً على أن القراءةَ به غيرُ جائزةٍ.

وإنما سُمِّيَت الرَّبوةُ ربوةً

(8)

لأنَّها رَبَتْ فغلُظتْ وعَلَتْ، من قولِ القائلِ: رَبَا

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

ديوانه ص 57.

(3)

في ص، م:"هي".

(4)

وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو وحمزة والكسائى. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 190.

(5)

وهى قراءة عاصم وابن عامر. المصدر السابق.

(6)

أخرجه الحاكم 2/ 283 من طريق عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس. وينظر الشواذ لابن خالويه ص 23.

(7)

في ص، م:"بفتحها".

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 673

هذا الشيءُ يَرْبُو، إذا انتفَخ

(1)

فعظُم

وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكر من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: الرَّبُوةُ المكانُ الظاهرُ المُسْتَوى

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، قال: قال مجاهدٌ: هي الأرضُ المستويةُ المرتفعةُ

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} يقولُ: بنشَزٍ من الأَرضِ

(4)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاكِ:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} : والرَّبُوةُ المكانُ المرتفعُ الذي لا

(5)

تَجْرِى فيه الأنهارُ، والذي فيه الجِنانُ.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قولَه:{بِرَبْوَةٍ} : برابيةٍ من الأرضِ

(6)

.

(1)

في الأصل: "انفتح"

(2)

تفسير مجاهد ص 244، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 520 (2759).

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 107.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 520 معلقًا عقب الأثر (2760).

(5)

سقط من الأصل، ص. وينظر ما سيأتي في الصفحة القادمة.

(6)

ينظر التبيان 2/ 339.

ص: 674

حُدِّثْتُ عن عمّارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} : والرَّبُوةُ: النَّشَزُ من الأرضِ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قال ابن عبَّاسٍ: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} . قال: المكانُ المرتفعُ الذي لا تَجْرِى فيه الأنهارُ

(2)

.

وكان آخرون يقولون: هي الأرضُ

(3)

المُسْتَوِيةُ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبَرَنا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ في قولِه:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} . قال: هي الأرضُ المستويةُ التي لا

(4)

تَعْلُو فوق الماءِ

(5)

.

وأما قولُه: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} فإنه يعنى جل ثناؤُه: أصابَ الجنةَ التي بالرَّبُوةِ من الأرضِ وابلٌ من المطرِ، وهو الشديدُ العظيمُ القَطْرِ منه

وقولُه: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} . فإنه يعنى الجنةَ أنها أَضْعَفَتْ

(6)

ثمرَها ضِعْفَين حين أصابَها الوابلُ من المطرِ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 520 عقب الأثر (2760) من طريق ابن أبي جعفر به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 339 إلى المصنف وابن المنذر.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

سقط من: م.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المياه".

والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 107.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أضعف".

ص: 675

والأُكْلُ

(1)

: هو الشيء المأكولُ، وهو مثلُ الرُّعْبِ والهُزْءِ

(2)

، وما أَشبهَ ذلك من الأسماءِ التي تأتى على "فُعْلٍ". وأما الأَكْلُ بفتحِ الألفِ وتسكينِ الكافِ، فهو فِعْلُ الآكلِ، يقالُ منه: أَكَلْتُ أَكْلًا، وأكَلْتُ أكْلَةً واحدةً. كما قال الشاعرُ

(3)

:

[وما]

(4)

أَكْلَةٌ [إِنْ نِلْتُها]

(5)

بِغَنِيمةٍ

ولا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُها بَغَرَامِ

ففتَح الألفَ لأنها بمعنى الفعلِ، ويَدُلُّك على أن ذلك كذلك قولُه: ولا جَوْعةٌ. وإن ضمَمْتَ الألفَ من الأَكْلِةِ صار

(6)

معناه الطعامَ الذي أَكَلْتَه، فيكونُ معنى ذلك حينئذٍ: ما طعامٌ أَكَلْتُه بغنيمةٍ.

وأما قولُه: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} فإن الطَّلَّ هو النَّدَى واللَّيِّنُ من المطرِ.

كما حدَّثنا عبَّاسُ بنُ محمَّد، قال: ثنا حَجّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: {فَطَلٌّ} : نَدًى. عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عبَّاسٍ

(7)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أما الطَّلُّ: فالنَّدَى

(8)

.

(1)

الأُكل، بضم فسكون، وبضمتين، ولم يشر المصنف إلى ضم الكاف في "الأكل". وهي قراءتنا في مصحفنا.

(2)

في ص، م، ت 1:"الهُدْء".

(3)

هو أبو مضرس النهدى، والبيت في حماسة الشجرى 1/ 90، 91.

(4)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"ما". وفي مصدر التخريج: "فما".

(5)

في الأصل، م:"أكلتها". وفى ص: "إن أكلتها". وأثبتنا ما في المصدر لاستقامته وزنا ومعنى.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2:"كان".

(7)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى المصنف.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 521 عقب الأثر (2766) من طريق عمرو بن حماد به.

ص: 676

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي: طَشٌّ

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحّاكِ:{فَطَلٌّ} قال: الطَّلُّ: الرَّذَاذُ من المطرِ. يعنى اللَّيِّنَ منه

(2)

.

حُدِّثْتُ عن عمّارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{فَطَلٌّ} أي: طَشٌّ

(3)

.

وإنما عنَى

(4)

تعالى ذكرُه بهذا المثَلِ أنه كما أُضعِفتْ ثمرةُ هذه الجنةِ التي وصَف صفتَها حين جادها الوَبْلُ،

(5)

فإن أخطأها الوَبْلُ فالطّلُّ، فكذلك يضعِفُ اللهُ صدقةَ المتصدَّقِ والمُنْفِقِ مالَه ابتغاءَ مرضاتِه وتثبيتًا من نفسِه من غيرِ مَنٍّ ولا أَذًى، قَلَّتْ نفقتُه كذلك أو كَثُرَتْ، لا تَخِيبُ ولا تُخلَفُ نفقتُه، كما تُضْعَفُ ثمرةُ الجنةِ التي وصَف جل ثناؤُه صِفَتَها، قلَّ ما أصابها من المطرِ أو كثُر، لا يُخْلِفُ خيرُها بحالٍ من الحالِ

(6)

.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعةُ أهلِ التأويلِ.

[ذكرُ من قال ذلك]

حدَّثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ

(1)

الطش والطشيش: المطر الضعيف، وهو فوق الرذاذ. وقيل: هو أول المطر. التاج (ط ش ش).

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى المصنف عبد بن حميد.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 521 عقب الأثر (2766) من طريق ابن أبي جعفر به.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يعني".

(5)

في م: "الوابل". وهما بمعنى.

(6)

في م: "الأحوال".

ص: 677

قولَه: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} . [يقولُ: كما]

(1)

أُضْعِفَتْ ثمرةُ تلك الجنةِ، فكذلك تُضاعَفُ لهذا

(2)

المُنْفِقِ ضِعْفَيْن

(3)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} : هذا مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ لعملِ المؤمنِ، يقولُ: ليس لخيرِه خُلْفٌ، كما ليس لخيرِ هذه الجنةِ خُلْفٌ على أيِّ حالٍ، إما وابلٌ، وإما طَلٌّ

(4)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جُويبرٍ، عن الضّحَّاكِ، قال: هذا مَثَلٌ لمن أَنفَق مالَه ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ.

حُدِّثْتُ عن عمَّارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع قولَه:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية. قال: هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لعمل المؤمن.

فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} ، وهذا خبرٌ عن أمرٍ قد مضَى؟

قيل: يرادُ فيه: كان. ومعنى الكلامِ: فآتتْ أُكُلَها ضِعْفَيْن، فإن لم يكنِ الوابلُ أصابها، أصابها طَلٌّ. وذلك في الكلامِ نحوُ قولِ القائلِ: حَبَسْتُ فرسَيْن، فإن لم أَحْبِس اثنَين فواحدًا

(5)

بقيمتِه. بمعنى: إلّا أَكُنْ. ولابدَّ من إضمارِ "كان"؛

(1)

في الأصل: "يعني: فكما".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3 س:"ثمرة هذا".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 521 (2764) من طريق عمرو بن حماد به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 522 (2769) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 30 إلى عبد بن حميد.

(5)

في الأصل، ت 1:"فواحد".

ص: 678

لأنه خبرٌ، ومثلُه قولُ الشاعرِ

(1)

:

إِذَا مَا انْتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنى لَئِيمَةٌ

وَلَمْ تَحِدِى مِنْ أَنْ تُقِرِّى بِها بُدَّا

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} .

يعنى بذلك جلّ ثناؤه: واللهُ بما تعمَلون أيُّها الناسُ في نفَقاتِكم التي تُنفقونها، بَصِيرٌ، لا يَخْفَى عليه منها ولا من أعمالِكم فيها وفى غيرِها شيءٌ، يعلمُ مَن المنفِقُ منكم بالمَنِّ والأذَى، والمُنفِقُ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ وتثبيتًا من نفسِه، فيُحْصِى عليكم ذلك حتى يُجازِى جميعَكم جزاءَه على عملِه، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.

وإنما يعنى بهذا القولِ جلّ ثناؤُه التحذيرَ من عقابِه في النفقاتِ التي يُنْفِقُها عبادُه، وغيرِ ذلك من الأعمالِ، أن يَأْتِيَ أحدٌ من خلقِه ما قد تقدَّم فيه بالنَّهْى أو يُفَرِّطَ فيما قد أُمِرَ به؛ لأن ذلك بمرأًى من اللهِ ومسمعٍ، يَعلَمُه ويُحْصِيه عليهم، وهو لخلقِه بالمرصادِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} .

ومعنى ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} - {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية.

(1)

تقدم في 2/ 57، 258.

ص: 679

ومعنى قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} : أيُحبُّ أحدُكم {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} يعني: بستانٌ {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . يعنى: من تحت الجنة، {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [يعنى: لأحدِكم في تلك الجنةِ من كلِّ الثمراتِ]

(1)

- والهاء في {لَهُ} - عائدةٌ على "أحد"، والهاءُ والألفُ في {فِيهَا} على الجنةِ - {وَأَصَابَهُ}. يعنى: وأصاب أحدَكم {الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} .

وإنما جعَل جلَّ ثناؤُه البستانَ من النخيلِ والأعنابِ - الذي قال جلَّ ثناؤُه لعبادِه المؤمنين: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ} - مثلًا لنفقةِ المنافقِ التي يُنفقُها رياءَ الناسِ، لا ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ، فالناسُ له

(2)

بما يُظهِرُ لهم من صدقتِهِ، وإعطائِه ما يُعطى، وعملِه الظاهرِ، يُثنون عليه ويَحْمَدونه. [فعملُه ذلك له]

(3)

- أيامَ حياتِه - في حُسْنِه كحسنِ البستانِ، وهو الجنةُ التي ضرَبها اللهُ عز وجل لعملِه مثلًا من نخيلٍ وأعنابٍ، له فيها من كلِّ الثمراتِ؛ لأن في عملِه ذلك الذي يعمَلُه في الظاهرِ في الدنيا له فيها

(4)

من كلِّ خيرٍ من عاجل الدنيا، يَدْفَعُ به عن عاجلِ الدنيا، يَدْفَعُ به عن نفسِه ودمِه ومالِه وذرِّيتِه، ويكتسبُ به المَحْمدةَ وحسنَ الثناءِ عندَ الناسِ، ويأخُذُ به سهمَه من المَغْنم، مع أشياءَ كثيرةٍ يكثُرُ إحصاؤُها، فله في ذلك من كلِّ خيرٍ في عاجل الدنيا، كما وصَف جل ثناؤُه الجنةَ التي وصَف مثلًا لعملِه

(5)

، بأن فيها مِن كلِّ الثمراتِ، ثم قال جلَّ ثناؤُه:{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} . يعنى أن صاحبَ الجنةِ أصابه

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2:"بعمله ذلك".

(4)

في ص، م:"فيه".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2:"بعمله".

ص: 680

الكِبرُ وله ذرِّيةٌ ضعفاءُ صِغارٌ أطفالٌ، {فَأَصَابَهَا}. يعنى: فأصاب الجنةَ {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} . يعنى بذلك أن جنَّتَه تلك أَحْرَقتها الريحُ التي فيها النارُ في حالِ حاجتِه إليها، وضرورتِه إلى ثمرِها، بكبرِه وضعفِه عن عمارتِها، وفي حالِ صِغَرِ ولدِه وعجزِهم

(1)

عن إحيائِها والقيامِ عليها، فبَقى لا شيءَ له، أحوجَ ما كان إلى جنَّتِه وثمارِها، بالآفةِ التي أصابتْها من الإعصارِ الذي فيه النارُ. يقولُ: فكذلك المنافقُ المُنْفِقُ مالَه رياءَ الناس، أَطْفأ اللهُ نورَه، وأَذْهَب نماءَ

(2)

عملِه، وأَحْبَط أجرَه حين

(3)

لَقِيه وعاد إليه أحوجَ ما كان إلى عملِه، حينَ لا مُسْتعتَبَ له، ولا إقالةَ من ذنوبِه ولا توْبةَ له، واضْمَحَلَّ عملُه، كما احْتَرقت الجنةُ التي وصَف جلَّ ثناؤُه صفتَها، عندَ كِبَرِ صاحبِها وطفولةِ ذرِّيتِه، أحوجَ ما كان إليها، فبطَلت منافعُها عنه.

وهذا المثلُ الذي ضرَبه اللهُ عز وجل للمنافقين المُنْفِقين أموالَهم رياءَ الناس في هذه الآيةِ، نظيرُ المثلِ الآخرِ الذي ضرَبه لهم بقولِه:{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} .

وقد تنازَع أهلُ التأويلِ في تأويلِ هذه الآيةِ، إلا أن معانيَ قولِهم في ذلك - وإن اخْتَلفت تصاريفُهم فيها - عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنُهم إبانةً لمعناها وأقربُهم إلى الصوابِ قولًا فيها السُّدِّيُّ.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى قولِه: {فَاحْتَرَقَتْ} : هذا مثلٌ آخرُ لنفقةِ الرياءِ، أَنه يُنفِقُ مالَه يرائي

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2:"عجزه".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2:"بهاء".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2:"حتى".

ص: 681

الناسَ

(1)

، فيذهَبُ مالُه منه وهو يرائي، فلا يأجُرُه اللهُ فيه، فإذا كان يومُ القيامةِ واحتاج إلى نفقتِه، وجَدها قد أَحْرَقها الرياءُ فذهَبت، كما أَنْفَق هذا الرجلُ على جنَّتِه، حتى إذا بلَغت، وكثُر عيالُه، واحتاج إلى جنَّتِه، جاءت ريحٌ فيها سَمومٌ، فأَحْرَقت جنَّتَه، فلم يجِدْ منها شيئًا، فكذلك المنفقُ رياءً

(2)

.

حدَّثني محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله عز وجل:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} : كمثلِ المفرِّطِ في طاعةِ اللهِ حتى يموتَ. قال: يقولُ: أيودُّ أحدُكم أن يكونَ له دنيا لا يعمَلُ فيها بطاعةِ اللهِ، كمثلِ هذا الذي له جناتٌ تجرى من تحِتها الأنهارُ، له فيها من كلِّ الثمراتِ، وأصابه الكبَرُ، وله ذُرِّيةٌ ضعفاءُ، فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحْتَرقت؟ فمثلُه بعدَ موتِه، كَمَثَلِ هذا حينَ احتَرَقَتْ جَنَّتُه وهو كبيرٌ، لا يُغنى عنها شيئًا، وولَدُه صغارٌ، لا يُغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّطُ بعدَ الموتِ، كلُّ شيءٍ عليه حسرةٌ

(3)

.

حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، قال: سأل عمرُ الناسَ عن هذه الآيةِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} : فما وجَد أحدًا من الناسِ يَشفيه، حتى قال ابن عبَّاسٍ وهو خلْفَه: يا أميرَ المؤمنين،

(1)

بعده في ص، م:"به".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 523 (2775) من طريق عمرو به، إلى قوله: كما أنفق هذا الرجل على جنته.

(3)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (1567)، وابن أبي حاتم - مختصرا - في تفسيره 2/ 522 (5771) من طريق ابن أبي نجيح به.

ص: 682

إني أجدُ في نفسى منها شيئًا. قال: فالتفت إليه، فقال: تحوَّلْ هاهنا، لمَ تحقِرُ نفسَك؟ قال

(1)

: هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ عز وجل، فقال: أيودُّ أحدُكم أن يعمَلَ عمرَه بعملِ أهلِ الخيرِ وأهلِ السعادةِ، حتى إذا كان أحوجَ ما يكونُ إلى أن يختِمَه بخيرٍ، حينَ فنِي عمرُه، واقْتَرب أجلُه، ختَم ذلك بعملٍ من عملِ أهلِ الشقاءِ فأَفْسَده كلَّه فحرَّقه أحوجَ ما كان إليه

(2)

؟.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن محمدِ بن سُليمٍ، عن ابن أبي مُلَيكةَ، أن عمرَ تلا هذه الآيةَ:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} . قال: هذا مثلٌ ضُرِب للإنسانِ يعمَلُ عملًا صالحًا، حتى إذا كان عندَ آخرِ عمرِه أحوجَ ما يكونُ إليه، عمِل عملَ السَّوْءِ

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أَخْبَرنا ابن المباركِ، عن ابن جُريجٍ، قراءةً

(4)

، قال: سمِعتُ أبا بكرِ بنَ أبى مُلَيكَةَ يخبرُ عن عُبيدِ بن عُميرٍ أنه سمِعه يقولُ: سأل عمرُ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: فيم تَرَون أُنْزِلَت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ فقالوا: اللهُ أعلمُ. فغضِب عمرُ، فقال: قولوا: نعلَمُ أو لا نعلمُ. فقال ابن عباسٍ: في نفسِى منها شيءٌ يا أميرَ المؤمنين. فقال عمرُ: قل يا بنَ أخى ولا تَحقِرْ

(5)

نفسَك. قال ابن عبَّاسٍ: ضُرِبت مثلًا لعملٍ. قال عمرُ: أي عملٍ؟ فقال: لعملٍ. فقال عمرُ: [رجلٌ عُنِى بعملِ الحسناتِ]

(6)

، ثم بعَث اللهُ له الشيطانَ،

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى عبد بن حميد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 522، 523 (2773) من طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عبَّاس، عن عمر، وذكره الحافظ في الفتح 8/ 202 عن المصنف وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى المصنف.

(4)

سقط من: م.

(5)

في الأصل: "تحقرن".

(6)

عند البخارى وابن أبي حاتم: "لرجل غنى يعمل بطاعة الله".

ص: 683

فعمِل بالمعاصِى حتى أَغْرَق أعمالَه كلَّها. قال: وسمِعت عبدَ اللهِ بنَ أبى مُلَيكةَ يحدِّثُ نحوَ هذا عن ابن عباسٍ، سمِعه منه

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سمِعت أبا بكرِ بنَ أبي مُلَيكةَ يخبرُ أنه سمِع عُبيدَ بن عُميرٍ - قال ابن جُريجٍ: وسمعت عبدَ

(2)

اللهِ بن أبي مُلَيكةَ، قال: سمِعت ابنَ عباسٍ - قالا جميعًا: إن عمرَ بنَ الخطابِ سأل أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَه. إلَّا أنه قال

(3)

: فقال عمرُ: الرجلُ

(4)

يعمَلُ بالحسناتِ، ثم يَبْعَثُ اللهُ

(5)

له الشيطانَ، فيعمَلُ بالمعاصى

(6)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سألت عطاءً عنها، [فقال: مَثَلٌ]

(7)

.

قال ابن جُريجٍ: وأَخْبَرنى عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال

(8)

: ضُرِبت مثلًا للأعمالِ.

قال ابن جُريجٍ: وقال ابن عبَّاسٍ: ضُرِبت مثلًا للعملِ، يبدأُ فيعمَلُ عملًا

(1)

الزهد لابن المبارك (1568)، وأخرجه البخارى (4538)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 522 (2773) من طريق ابن جريج به.

(2)

في الأصل: "عبيد".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"للرجل".

(5)

سقط من: م.

(6)

أخرجه الحاكم 2/ 283 من طريق حجاج به، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وعزاه المزى في التحفة 8/ 46 (10506) إلى البخارى، من طريقه حجاج به، ولم يذكر موضعه منه، وكذا ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 472 عن البخارى، وقال: وهو من أفراد البخارى، رحمه الله. ولم نجده عند البخاري.

(7)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فقال مثل ما"، وفى م:"ثم".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 523 (2777) من طريق عبد الملك بن جريج عن عطاء عن ابن عبَّاس.

(8)

في م: "قالا".

ص: 684

صالحًا، فيكون مثلًا للجنةِ التي من نخيلٍ وأعنابٍ تَجْرِى من تحتِها الأنهارُ، له فيها من كلِّ الثمراتِ، ثم يُسئُ في آخرِ عمرِه، فيتمادَى في

(1)

الإساءةِ حتى يموتَ على ذلك، فيكونَ الإعصارُ الذي فيه نارٌ التي أَحْرَقت الجنةَ مثلًا لإساءتِه

(2)

التي مات وهو عليها

(3)

.

قال ابن عبَّاسٍ: الجنةُ عيشُه وعيشُ ولَدِه، فاحْتَرقت فلم يستطِعْ أن يدفَعَ عن جنَّتِه من أجلِ كِبَرِه، ولم يستطِعْ ذرِّيتُه أن يدفَعوا عن جنتِهم من أجلِ صِغَرِهم، حتى احْتَرقت. يقولُ: هذا مَثَلُه، يلقاني

(4)

وهو أفقرُ ما يكونُ

(5)

إليَّ، فلا يَجِدُ له عندى شيئًا، ولا يستطيعُ أن يدفَعَ عن نفسِه من عذابِ اللهِ شيئًا، ولا يستطيعُ من كبرِه وصغرِ ذُرِّيتِه أن يعمَلوا جنةً، كذلك لا توبةَ إذا انْقَطَع العملُ حينَ مات.

قال ابن جُريج، عن مجاهدٍ: سمِعتُ ابنَ عباسٍ، قال: هو مثلُ المفرِّطِ في طاعة الله حتى يموت.

قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: أيودُّ أحدكم أن تكونَ له دنيا لا يعمَلُ فيها بطاعةِ اللهِ، كمثلِ هذا الذي له جنةٌ، فمثلُه بعدَ موتِه كمثلِ هذا حينَ احترَقتْ جنتُه وهو كبيرٌ، لا يُغنى عنها شيئًا، وأولادُه صِغارٌ، لا يُغنون عنه شيئًا، وكذلك المفرِّطُ بعدَ الموتِ كلُّ شيءٍ عليه حسرةٌ.

(1)

في م، ت 2:"علي".

(2)

في الأصل: "للإساءة".

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى المصنف.

(4)

في م: "تلقاه"، في ت 1، ت 2:"يلقاه".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2:"كان".

ص: 685

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية. يقولُ: أصابها ريحٌ فيها سَمومٌ شديدةٌ، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} . فهذا مثلٌ، فاعقِلوا عن اللهِ جلَّ وعزَّ أمثالَه؛ فإن الله قال:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. هذا رجلٌ كبِرت سِنُّه، ورقَّ

(1)

عظمُه، وكثُر عيالُه، ثم احْتَرقت جنَّتُه على بقيةِ ذلك، كأحوجِ ما يكونُ إليه. يقولُ: أيُحبُّ أحدُكم أن يَضِلَّ عنه عملُه يومَ القيامةِ كأحوجِ ما يكونُ إليه؟

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قولِه: {فَاحْتَرَقَتْ} . يقولُ: فذهَبت جنَّتُه [عندَ أحوجِ]

(3)

ما كان إليها حين كبِرت سِنُّه، وضعُف عن الكسبِ، وله ذرِّيةٌ ضعفاءُ لا ينفَعونه. قال: وكان الحسنُ يقولُ: {فَاحْتَرَقَتْ} فذهَبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قولُه: أيودُّ أحدُكم أن يذهَبَ عملُه أحوجَ ما كان إليه

(4)

؟

حدَّثني محمَّدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ: ضرَب اللهُ مثلًا حسنًا - وكلُّ أمثالِه حسنٌ تبارك وتعالى

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2:"دق".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 525 (2786) من طريق سعيد به مختصرًا.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كأحوج".

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 108 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 524 (2782) عن الحسن بن يحيى به مقتصرا على قول الحسن.

ص: 686

وقال: قال

(1)

: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ} . إلى: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يقولُ: صنَعه

(2)

في شبيبتِه فأصابَه الكِبَرُ وله ذُرِّيةٌ ضِعافٌ عندَ آخرِ عمرِه، فجاءه إعصارٌ فيه نارٌ، فاحترَق بستانُه، فلم يكنْ عندَه قوَّةٌ أن يغرِسَ مثلَه، ولم يكنْ عندَ نَسْلِه خيرٌ يعودون به عليه، وكذلك الكافرُ يومَ القيامةِ إذا رُدَّ إلى اللهِ ليس له خيرٌ فيُستعتَبَ، كما ليس له قوةٌ فيغرِسَ مثلَ بستانِه، ولا [يَجِدُه خيرًا قدَّم لنفسِه خيرًا]

(3)

يَعُودُ عليه، كما لم يُغنِ عن هذا ولَدُه، وحُرِم أجرَه عندَ أفقرِ ما كان إليه، كما حُرِم هذا جنتَه عند أفقرِ ما كان إليها عندَ كبرِه وضعفِ ذُرِّيَّتِه، وهو مثلٌ ضرَبه اللهُ للمؤمنِ والكافرِ فيما أُوتيا في الدنيا؛ كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرةِ، وذخَر له من الكرامةِ والنعيمِ، وخزَن عنه المالَ في الدنيا، وبسَط للكافرِ في الدنيا من المالِ ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشرِّ ما ليس بمفارقِه أبدًا، و

(4)

يَخْلُدُ فيها مهانًا، من أجلِ أنه فَخَر على صاحبِه، ووثِق بما عندَه، ولم يستيقنْ أنه ملاقٍ ربَّه

(5)

.

حُدِّثت عن عمارِ بن الحسنِ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ، قولَه:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية. قال: هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لرجلٍ

(6)

له جنةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ، وله فيها من كلِّ الثمراتِ، والرجل قد كبِرت سنُّه وضعُف، وله أولادٌ

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أيوب".

(2)

في الأصل: "ضيعه".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يجد خيرا قدم لنفسه".

(4)

في الأصل: "أو".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 523، 524 (2778) عن محمَّد بن سعد به.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أيود أحدكم أن تكون".

ص: 687

ضِعافٌ

(1)

، فابتلاهم اللهُ في جنتِهم، فبعَث عليها إعصارًا فيه نارٌ فاحْتَرَقت، فلم يستطِعِ الرجلُ أن يدفع عن جنَّتِه من الكبرِ

(2)

، ولا ولدُه لصغرِهم، فذهَبت جنَّتُه أحوجَ ما كان إليها. يقولُ: أَيُحبُّ أحدُكم أن يعيشَ في الضلالةِ والمعاصى حتى يأتيَه الموتُ، فيجيءَ يومَ القيامةِ قد ضلَّ عنه عملُه أحوجَ ما كان إليه، فيقول: ابنَ آدمَ، أتيتني أحوجَ ما كنتَ قطُّ إلى خيرٍ، فأين ما قدَّمتَ لنفسِك

(3)

؟

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، وقرَأ قولَ اللهِ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} قال

(4)

: ثم ضرَب في ذلك مثلًا، فقال:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} حتى بلَغ: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} . قال: جرَت أنهارُها وثمارُها، وله ذُرِّيةٌ ضعفاءُ، فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحْتَرقت، أيودُّ أحدُكم هذا؟ كما يحمِلُ أحدُكم أن يُخرِجَ صدقتَه ونفقتَه، حتى إذا كانت له عندِى جنةٌ، وجرَت أنهارُها وثمارُها، وكانت لولدِه وولدِ ولدِه، أصابها ريحُ إعصارٍ فحرَقها

(5)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو

(6)

زهيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحَّاكِ في قولِه:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : رجلٌ غرَس بستانًا، له فيه من كلِّ الثمراتِ، فأصابه الكبرُ، وله

(1)

في م، ت 1:"صغار".

(2)

في ص، ت 1، ت 2:"الكفر".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 22 (2770) من طريق ابن أبي جعفر به مختصرًا.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(5)

ذكره القرطبي في تفسيره 3/ 318 عن ابن زيد مختصرًا.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 688

ذرِّيَّةٌ ضعفاءُ، فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحْتَرقت، فلم يَستطِعْ أن يدفَعَ عن بستانِه من كبرِه، ولم يَستطِعْ ذرِّيتُه أن يدفَعوا عن [بستانِهم من صغرِهم، فاحترَق]

(1)

بستانُه فذهَبت معيشتُه ومعيشةُ ذرِّيتِه، فهذا مثلٌ ضرَبه اللهُ للكافرِ، يقولُ: يلقانِي يومَ يلقانِي

(2)

وهو كأحوجِ

(3)

ما يكونُ إلى خيرٍ يُصيبُه، فلا يجدُ له عندى خيرًا، ولا يستطيعُ أن يدفَعَ عن نفسِه من عذابِ اللهِ شيئًا.

وإنما قلنا

(4)

: إن الذي هو أولى بتأويلِ ذلك ما ذكَرنا؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه تقدَّم إلى عبادِه المؤمنين بالنهيِ عن المنِّ والأذى في صدقاتِهم، ثم ضرَب مثلًا لمن منَّ وآذى من تصدَّق عليه بصدقةٍ، فمثَّله بالمرائى من المنافقين المُنفقين أموالَهم رياءَ الناسِ، وكانت قصةُ هذه الآيةِ وما فيها

(5)

من المثَلِ نظيرةَ ما ضرَب لهم من المَثلِ قبلَها، فكان إلحاقُها بنظيرتِها أولى من حملِ تأويلِها على أنه مثَلٌ لِمَا لم يجرِ له ذكرٌ قبلَها ولا معها.

فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وهو فعلٌ ماضٍ، فعُطِف به على قولِه:{أَيَوَدُّ} ؟

قيل: إن ذلك قيل كذلك؛ لأن قولَه: {أَيَوَدُّ} . يصلُحُ أن تُوضعَ فيه "لو" مكانَ "أن"، فلما صلَحت بـ "لو" و "أنْ"، ومعناهما جميعًا الاستقبالُ، استجازت العربُ أن يردُّوا "فعَل" بتأويلِ "لو" على "يفعَل" مع "أنْ"، فلذلك قال:{فَأَصَابَهَا} . وهو في مذهبِه بمنزلةِ "لو"، إذْ

(6)

ضارَعت "إنْ" في معنى

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"القيامة".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أحوج".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"دللنا".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قبلها".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إذا".

ص: 689

الجزاءِ، فوُضِعت في مواضعِها، وأُجِيبتْ "إن" بجوابِ "لو"، و"لو" بجوابِ "إن"، فكأنه قيل: أيودُّ أحدُكم لو كانت له جنةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ، تَجْرى من تحتِها الأنهارُ، له فيها من كلِّ الثمراتِ وأصابَه الكبرُ.

وإن قال: وكيف قيل هاهنا: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} ؟ وقال في "النساءِ": {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9].

قيل: إن

(1)

"فَعيلًا" يُجمَعُ على "فُعَلاءَ" و"فِعالٍ"، فيقالُ:[رجلٌ كريمٌ وقومٌ كِرامٌ وكُرماءُ و]

(1)

رجلٌ ظريفٌ من قومٍ ظُرفاءَ وظِرافٍ.

وأما الإعصارُ، فإنه الريحُ العاصفُ، تهبُّ من الأرضِ إلى السماءِ كأنها عمودٌ، تُجمَعُ أعاصيرَ، ومنه قولُ يزيدَ بن مُفَرِّغٍ الحِمْيَريِّ

(2)

:

أُنَاسٌ أجارُونا

(3)

فكانَ جوَارُهُمْ

أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ

(4)

العِراقِ المُبَذَّرِ

(5)

واختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ريحٌ فيها سَمومٌ شديدةٌ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا يوسفُ بنُ خالدٍ السَّمْتيُّ، قال: ثنا نافعُ بنُ مالكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} :

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(2)

البيت في تاريخ المصنف 5/ 319، وطبقات فحول الشعراء 2/ 292، والأغانى 18/ 266.

(3)

في الطبقات: "أجارونى".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سوء".

(5)

في ص، م:"المنذر".

ص: 690

ريحٌ فيها سَمومٌ شديدةٌ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن عطيةَ، قال: أخبرنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، عن ابن عباسٍ في:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} . قال: السَّمومُ الحارَّةُ التي خُلِق منها الجانُّ التي تُحْرِقُ.

حدَّثنا [أحمدُ بنُ إسحاقَ]

(2)

، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، عن ابن عباسٍ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} . قال: هي السَّمومُ الحارَّةُ [التي لا تَذَرُ

(3)

أحدًا]

(4)

(5)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن أبي

(6)

إسحاقَ، عن التميميِّ، عن ابن عباسٍ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [قال: هي السمومُ]

(7)

التي تقتُلُ (5).

حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عمَّن ذكَره، عن [عبدِ اللهِ]

(8)

، قال: إن السَّمومَ التي خُلِق منها الجانُّ جزءٌ

(1)

أخرجه أبو يعلى (2666)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 524 (2781)، والحاكم 2/ 283 من طرق عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 340 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حميد".

(3)

في النسخ: "تضر".

(4)

سقط من: م.

(5)

سيأتي تخريجه في 14/ 63.

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3 س:"ابن".

(7)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(8)

في ص، م، ت 1 ت 2:"ابن عباس". وعبد الله هو ابن مسعود.

ص: 691

من سبعين جزءًا من النارِ

(1)

.

حدَّثني محمَّدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} : هي ريحٌ فيها سَمومٌ شديدةٌ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} . قال: سمومٌ شديدةٌ.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} . يقولُ: أصابَها ريحٌ فيها سَمومٌ شديدةٌ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ نحوَه

(2)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} : أما الإعصارُ فالريحُ، وأما النارُ فالسَّمومُ

(3)

.

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} . يقولُ: ريحٌ فيها سمومٌ شديدةٌ

(4)

.

(1)

سيأتي تخريجه في 14/ 64.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 108.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 524 عقب الأثر (2781) من طريق عمرو به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 524 عقب الأثر (2781) من طريق ابن أبي جعفر به.

ص: 692

وقال آخرون: معنى ذلك: ريحٌ فيها بردٌ شديدٌ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: كان الحسنُ يقولُ في قولِه: {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} : فيها صِرٌّ؛ بَرْدٌ

(1)

.

حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهير، عن جُوَيبرٍ، عن الضحَّاكِ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} : يعنى بالإعصارِ: ريحٌ فيها بَرْدٌ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} .

يعنى جلَّ ثناؤه بذلك: كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك وتعالى أمرَ النفقةِ في سبيلِه، وكيف وجْهُها، وما لكم، وما ليس لكم فعلُه فيها، كذلك يُبَيِّنُ اللهُ لكم الآياتِ سوى ذلك، فيُعرِّفُكم أحكامَها وحلالَها وحرامَها، ويوضِّحُ لكم حُجَجَها؛ إنعامًا منه بذلك عليكم {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. يقولُ: لتتفكَّروا بعقولِكم، فتتدبَّروها وتعتبِروا بحُججِ اللهِ فيها، وتعمَلوا بما فيها من أحكامِها، فتُطيعوا الله به.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2:"وبرد".

والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 108، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 524 (2780) عن الحسن بن يحيي به.

(2)

ينظر البحر المحيط 2/ 315.

ص: 693

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا [الحسنُ بنُ يحيى]

(1)

، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، قال: قال مجاهدٌ: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} . قال: تُطيعون

(2)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} . يعني: في زوالِ الدنيا وفنائِها، وإقبالِ الآخرةِ وبقائِها

(3)

.

[فهذا ما رواه أهل التأويل وغيرُهم. واللهُ أعلمُ]

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا} .

يعني جلَّ ثناؤُه بقولهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : [يا أَيُّها الذين]

(4)

صدَّقُوا باللَّهِ ورسولِه وآي كتابِه.

ويعنى بقولِه: {أَنْفِقُوا} : زكُّوا وتصدَّقُوا.

كما حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاويةَ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . يقولُ: تصدَّقُوا

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بذلك: زكُوا من طيِّبِ ما كسَبتم بتصرُّفِكم؛ إمَّا بتجارةٍ، وإمَّا

(1)

في الأصل: "الحسين".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 109، وأخرجه ابن حاتم في تفسيره 2/ 525 (2785) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

تقدم تخريجه في 3/ 697.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، س.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 525 (2788) من طريق عبد الله بن صالح به.

ص: 694

بصناعةٍ، من الذهبِ والفضةِ.

ويعني بـ "الطيبات" الجِيادَ. يقولُ: زكُّوا أموالَكم التي اكتسبْتموها حلالًا، فأَعْطُوا في زكاتِكم الذهبَ والفضةَ، الجِيادَ منها دونَ الرَّدئِ.

كما حدَّثنا محمَّد بن المثنَّى، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ في هذه الآيةِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: من التجارةِ

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسروقيُّ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبَابٍ، قال: وأخبرني شعبةُ بنُ الحجاجِ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني حاتمُ بنُ بكرٍ الضَّبيُّ، قال: ثنا وهبٌ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا آدمُ العسقلانيُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: يَعْنى

(2)

التجارة الحلال

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرَّحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن عبدِ الله بن مَعْقِلٍ

(4)

: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: ليس في مالِ المؤمنِ

(5)

خبيثٌ، ولكن لا تيمَّموا الخبيثَ منه تُنفقون.

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 299 من طريق محمَّد بن جعفر به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (تفسير - 446)، ويحيى بن آدم في الخراج (427)، وابن أبي شيبة، 7/ 19، والبغوى في الجعديات (252)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 526 (2793)، والبيهقى 5/ 263 من طريق شعبة به.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 526 (2794) من طريق آدم به.

(4)

غير منقوطة في ص، وينظر ما سيأتي في صفحة 702.

(5)

بعده في م: "من".

ص: 695

حدَّثني عصامُ بنُ روَّادِ بن الجرَّاحِ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَليُّ، عن محمَّدِ بن سيرينَ، عن عَبيدةَ السَّلمانيِّ، قال: سألتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ عن قولِ اللِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: من الذهبِ والفضةِ

(1)

.

حدَّثني محمَّدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: التجارةُ

(2)

.

حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، [قال: ثني معاوية]

(3)

، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . يقولُ: من أطيبِ أموالِكم وأنفسِه

(4)

.

حدَّثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدَّيِّ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: هذا

(5)

من الذهبِ والفضةِ. [هكذا قال السدِّيُّ]

(6)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بذلك: وأَنْفِقوا أيضًا مما أخرجْنا لكم من الأرضِ، فتصدَّقوا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 345 إلى المصنف.

(2)

تفسير مجاهد ص 244، ومن طريقه يحيى بن آدم في الخراج (430).

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 526 (2789) من طريق عبد الله بن صالح به.

(5)

سقط من: م.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

ص: 696

وزكُّوا من النخلِ والكَرْمِ والحِنْطةِ والشعيرِ، وما أَوْجَبْتُ فيه الصدقةَ من نباتِ الأرضِ.

كما حدَّثنا عصامُ بن روَّادٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَليُّ، عن محمدِ بن سيرينَ، عن عَبيدةَ السلمانيِّ، قال: سألتُ عليَّ بنَ أبى طالبٍ عن قولِ الله عز وجل: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . قال: يعنى من الحبِّ والثَّمَرِ

(1)

؛ كلِّ

(2)

شيءٍ عليه زكاةٌ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . قال: من

(4)

النخلِ

(5)

.

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . قال: من ثمرِ النخلِ.

حدَّثنا القاسمُ، [قال: ثنا الحسينُ]

(6)

، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . قال: من التجارةِ، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. قال: مِن الثمارِ

(7)

.

(1)

في الدر المنثور: "التمر".

(2)

في م، والدر المنثور:"وكل".

(3)

تتمة الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(5)

أخرجه يحيى بن آدم في الخراج (430)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 527 (2795)، والبيهقى 4/ 146 من طريق ابن أبي نجيح به

(6)

سقط من: الأصل.:

(7)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (كتاب التفسير) 3/ 975 (445 - تفسير) عن هشيم، عمن سمع الحكم به.

ص: 697

حدَّثني موسى

(1)

قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . قال: هذا في الثَّمَرِ

(2)

والحبِّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَلَا تَيَمَّمُوا} .

يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} : ولا تعمَّدوا ولا تقصِدوا.

وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ: (ولا تؤُمُّوا)

(3)

. من "أَمَمْتُ"، وهذه من "تَيَمَّمْتُ"، والمعنى واحدٌ وإن اخْتَلفت الألفاظُ، يقالُ: تَأَمَّمتُ فلانًا وتَيَمَّمتُه، وأَمَمْتُه. بمعنى: قصَدتُه وتعمَّدتُه. كما قال ميمونُ بنُ قيسٍ الأعشى

(4)

:

تيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ

مِنَ الأرْضِ من مَهْمَهٍ ذِى شَزَنْ

(5)

وكما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلَا تَيَمَّمُوا} : ولا تعمَّدوا.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَيَمَّمُوا} : لا تعمَّدوا

(6)

.

حُدِّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ مثلَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} .

(1)

بعده في: الأصل: "ابن إسحاق". وصوابه ابن هارون.

(2)

في ص، م، ت 1 ت 2:"التمر".

(3)

في م، والمحرر الوجيز 2/ 246، وتفسير القرطبي 3/ 326 نقلا عن المصنف فيهما، والنحاس:"تأمموا". ورسمت في بقية النسخ هكذا: "تأموا"، وضبطها في الأصل بضم الهمزة وتشديد الميم مضمومة، فرسمناها هكذا. وهى قراءة شاذة، البحر المحيط 2/ 318.

(4)

ديوانه ص 19.

(5)

الشزن، بالتحريك: الغليظ من الأرض. اللسان (ش ز ن).

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 108.

ص: 698

يعني جلَّ ثناؤه بـ "الخبيث": الردئَ غيرَ الجيِّدِ. يقولُ: لا تعمَّدوا الردئَ من أموالِكم في صدقاتِكم، فتصَّدَّقُوا منه، ولكن تصدَّقوا من الطيِّبِ الجيِّدِ. وذلك أن هذه الآيةَ نزَلت في سببِ رجلٍ من الأنصارِ علَّق قِنْوًا

(1)

من حَشَفٍ

(2)

في الموضعِ الذي كان المسلمون يعلِّقون صدقةَ ثمارِهم، صدقةً من تمرِه.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثني الحسينُ بنُ عمرِو بن محمدٍ العَنْقَزِيُّ، قال: ثنا أبي، عن أسباطَ، عن السُّديِّ، عن عديِّ بن ثابتٍ، عن البَرَاءِ بن عازبٍ في قولِ اللهِ تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} إلى قولِه: {اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . قال: نزَلت في الأنصارِ، كانت الأنصار إذا كان أيامُ جَدادِ

(3)

النخلِ، أَخْرجت من حِيطانِها أَقْناءَ البُسْرِ، فعلَّقوه على حبلٍ بينَ الأُسْطُوانتين في مسجدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيأكُلُ فقراءُ المهاجرين منه، فيعمِدُ الرجلُ منهم إلى الحشَفِ فيُدخِلُه مع أقناءِ البُسْرِ، يظنُّ أن ذلك جائزٌ، فأَنْزل اللهُ عز وجل في من فعَل

(4)

ذلك: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: ولا تيمَّموا الحَشَفَ منه تنفِقون

(5)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، قال: زعم السُّديُّ، عن عديِّ بن ثابتٍ، عن البراءِ بن عازبٍ بنحوِه، إلا أنه قال: فكان يعمِدُ بعضُهم،

(1)

القنو والجمع أقناء: العذق بما فيه من الرطب. النهاية 4/ 116.

(2)

الحشف: اليابس الفاسد من التمر، وقيل: الضعيف الذي لا نوى له كالشيص. النهاية 1/ 391.

(3)

في ص: "حداد"، وفى م:"جذاذ". والجداد والجذاذ بمعنى القطع.

(4)

في ت 1، ت 3:"يعمل".

(5)

أخرجه ابن ماجه (1822)، وابن أبي حاتم في تفسيره - مختصرا - 2/ 527 (2798) مختصرًا من طريق عمرو بن محمَّد العنقزى به.

ص: 699

فيُدخِلُ قِنْوَ الحَشَفِ، ويظنُّ أنه جائزٌ عنه، في كثرةِ ما يُوضعُ من الأقناءِ، فنزَل في من فعل ذلك:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ؛ القِنْوُ الذي قد حشَف، ولو أُهْدِى لكم ما قبِلتموه

(1)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّديِّ، عن أبي مالكٍ، عن البراء بن عازبٍ، قال: كانوا يجيئون في الصِدقةِ بأردأِ ثَمَرِهم

(2)

وأردأِ طعامِهم، فنزَلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية

(3)

.

حدَّثني عصامُ بنُ رَوَّادٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَليُّ، عن ابن سيرينَ، عن عبيدةَ السَّلْمانيِّ، قال: سألتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ عن قولِ اللهِ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: فقال عليٌّ: نزَلت هذه الآيةُ في الزكاةِ المفروضةِ، كان الرجلُ يعمِدُ إلى التمرِ فيَصْرِمُه، فيعزِلُ الجيِّدَ ناحيةً، فإذا جاء صاحبُ الصدقةِ أعطاه من الردئِ، فقال اللهُ عز وجل:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}

(4)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثنى عبدُ الجليلِ بنُ حُميدٍ اليَحْصُبيُّ، أن ابنَ شهابٍ حدَّثه قال: ثني أبو أمامةَ بنُ سهلِ بن حُنيفٍ في الآيةِ التي قال اللهُ تبارك وتعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: هو الجُعُرُورُ،

(1)

أخرجه الحاكم 2/ 285، والواحدى في أسباب النزول ص 62 من طريق عمرو به.

(2)

في م: "تمرهم".

(3)

أخرجه البيهقى 4/ 136 من طريق سفيان به، وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 226، 227، والترمذي (2987)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 528 (2803) من طريق السدى به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 345 إلى المصنف.

ص: 700

ولونُ حُبَيقٍ

(1)

، فنهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يُؤخَذَ في الصدقةِ

(2)

.

حدَّثني محمَّد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبيِ نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: كانوا يتصدَّقون - يعنى من النخلِ - بحَشَفِه وبشِرارِه، فنُهوا عن ذلك، وأُمِروا أن يتصدقوا بطيِّبِه، [كانوا يعلِّقُون من التمرِ بالمدينةِ، من كلِّ ما أنفقتم، ولا تنفقوا إلا طيِّبًا]

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى قولِه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} : ذُكِر لنا أن الرجلَ كان يكونُ له الحائطان [من النخلِ]

(4)

على عهدِ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيعيدُ إلى أرْدئِهما تمرًا، فيتصدَّقُ به، ويخلِطُ فيه من الحَشَفِ، فعاب اللهُ ذلك عليهم ونهاهم عنه

(5)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: لا

(6)

تعمِدْ إلى رُذالةِ

(1)

الجعرور: ضرب من الدقل يحمل رطبا صغارا لا خير فيه، ولون حبيق: نوع من أنواع التمر ردئ منسوب إلى ابن حبيق، وهو اسم رجل. النهاية 1/ 276، 331.

(2)

أخرجه النسائي (2491)، وابن خزيمة (2312) عن يونس به، وأخرجه الدارقطني 2/ 131 من طريق عبد الله بن وهب به، وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 226، ويحيى بن آدم في الخراج ص 131 (435)، وابن خزيمة (2311)، والدارقطني 2/ 131 من طريق الزهرى به مرسلًا، وأخرجه أبو داود (1607)، وابن خزيمة (2313)، والطبراني (5566)، وابن أبي حاتم 2/ 528 (2802)، والدارقطني 2/ 130، 131، والحاكم 1/ 402، 2/ 284، والبيهقى 4/ 136 من طريق الزهرى، عن أبي أمامة، عن أبيه.

(3)

سقط من: م. والأثر تقدم تخريجه في ص 697 دون هذه الزيادة، وبهذه الزيادة عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 346 إلى عبد بن حميد ولفظها: وذلك فيما كانوا يعلقون من التمر بالمدينة، ومن كل ما أنفقتم، فلا تنفقوا إلا طيبا.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 345 إلى عبد بن حميد.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.

ص: 701

مالِك فتتصدَّقَ به، ولستَ تأخُذُهُ

(1)

إِلَّا أَن تُغْمِضَ فيه

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسنِ، قال: كان الرجلُ يتصدَّقُ برُذالةِ مالِه، فنزَلتْ:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}

(3)

.

حدَّثنا القاسم

(4)

، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: أخبَرنى عبد اللهِ بنُ كَثير، أنه سمِع مجاهدًا يقولُ:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: في الأَقناءِ التي تُعلَّقُ، فرأَى فيها حشَفًا، فقال:"ما هذا"؟ قال ابن جُريجٍ: وسمِعتُ عطاءَ بنَ أبي رباحٍ يقولُ: عَلَّق إنسانٌ حشَفًا في الأَقناءِ التي تُعلَّقُ بالمدينةِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ما هذا؟ بئسما علَّق هذا". فنزَلت: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}

(5)

.

[حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن ابن مَعْقلٍ

(6)

: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: إِنَّ كسبَ المؤمنِ لا يكونُ خبيثًا، ولكن لا تَتَصَدَّقُ بالحَشَفِ ولا بالدرهمِ

(7)

الزائفِ وما لا خيرَ فيه]

(8)

(9)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بآخذه".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 108.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 226 عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 347 إلى عبد بن حميد.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2 ت 3:"المثنَّى".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 345 إلى المصنف عن عطاء وحده.

(6)

في الخراج، والدر المنثور:"مغفل". وينظر ص 695.

(7)

في الأصل: "بالدراهم". والتصويب من مصادر التخريج.

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 527 (2799) من طريق جرير به. وأخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص 130 (432) من طريق عطاء به نحوه بأطول منه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 346 إلى الفريابي وابن المنذر.

ص: 702

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمَّموا الخبيثَ من الحرامِ منه تنفقون، وتدَعوا أن تنفِقوا الحلالَ الطيِّبِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، وسألتُه عن قولِ اللهِ عز وجل:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: الخبيثُ الحرامُ، لا تيمَّمْه تنفقُ منه، فإن الله عز وجل لا يقبَلُه

(1)

.

وتأويلُ الآيةِ هو التأويلُ الذي حكيناه عمَّن حكينا عنه من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [والتابعين]

(2)

، واتفاقُ أهلِ التأويل [على صحةِ]

(3)

ذلك، دونَ الذي قاله ابن زيدٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: ولستم بآخذى الخبيثِ في حقوقِكم. والهاءُ في قولِه: {بِآخِذِيهِ} من ذكرِ الخبيثِ. {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . يعنى: إلَّا أن تتجافَوا في أخذِكم إيَّاه عن بعضِ الواجبِ لكم من حقِّكم، فتترخَّصُوا

(4)

فيه لأنفسِكم.

يقالُ منه: أغْمض فلانٌ لفلانٍ عن بعض حقِّه، فهو يُغمضُ [له عنه](2). ومن

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 347 إلى المصنف.

(2)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فترخصوا".

ص: 703

ذلك قولُ الطِّرِمَّاحِ بن حَكِيمٍ

(1)

:

لَمْ يَفُتنا بالوِتْر

(2)

قَوْمٌ وللضَّيم

رجالٌ يَرْضَوْنَ بالإِغْمَاضِ

واخْتلَف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: لستم بآخذى الردئ [من المال]

(3)

من غُرَمائِكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماضٍ منكم لهم في الواجب لكم عليهم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني عصامٌ بن روَّادٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا أبو بكر الهذليُّ، عن محمدِ بن سيرين، عن عبيدة السلمانيِّ، قال: سألت على بن أبي طالب عنه، فقال:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . يقولُ: ولا يأخُذُ أحدكم هذا الردئ حتى يَهْضِمَ لهُ

(4)

.

حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيان، عن السُّديِّ، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . يقول: لو كان لرجلٍ على رجلٍ فأعطاه ذلك، لم يأخُذه إلَّا أن يَرَى أنه قد نقصه من حقِّه

(5)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثنا معاوية بن صالحٍ، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ قوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ

(1)

ديوانه ص 276.

(2)

الوتر: الثأر.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

تقدم تخريجه في ص 697.

(5)

تقدم في ص 700.

ص: 704

بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. يقولُ: لو كان لكم على أحدٍ حقٌّ، فجاءكم بحقٍّ دون حقِّكم، لم تأخُذوه بحساب الجيِّد حتى تَنْقُصوه، فذلك قوله:{إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . فكيف تَرْضَون لى ما لا تَرْضَون لأنفسكم، وحقِّى عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه

(1)

؟ وهو قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

(2)

.

حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . قال: لا تأخذونه من غُرمائكم ولا في بيوعكم إلَّا بزيادةٍ على الطيِّب في الكيل.

حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} : وذلك أن رجالًا كانوا يُعطون زكاةَ أموالِهم من التمر، فكانوا يُعطون الحشَفَ في الزكاةِ، فقال: لو كان بعضهم يطلُبُ بعضًا ثم قضاه، لم يأخُذه إلا أن يرى أنه قد أَغْمَض [عن بعض]

(3)

حقِّه

(4)

.

حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الرَّبيع في قوله:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . يقول: لو كان لك على رجلٍ دَينٌ فقضَاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخُذُ ذلك منه إلا وأنت له كارهٌ؟

حدَّثني يحيى بن أبى طالبٍ، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن

(1)

في م: "أنفسها".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 528 (2804) من طريق أبي صالح به.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عنه".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 346 إلى المصنف.

ص: 705

الضحَّاكِ في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . قال: كانوا حين أمر الله أن يُؤَدُّوا الزكاة يجئُ الرجل من المنافقين بأَرْدَأَ طعامٍ له من تمرٍ وغيره، فكره اللهُ ذلك، وقال:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . يقولُ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . يقولُ: لم يكن رجلٌ منكم له حقٌّ على رجل فيعطيه دونَ حقِّه، فيأخُذَه إلَّا وهو يعلَمُ أنه قد نقصه، فلا تَرْضَوا لى ما لا تَرْضَون لأنفسكم، فيأخُذُ شيئًا وهو يُغْمِضُ

(1)

عليه. يقولُ: أَنْقَص من حقِّه

(2)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذى هذا الردئ الخبيث إذا اشتريتموه من أهله بسعر الجيِّد، إِلَّا بِإغماضٍ منهم لكم في ثمنه.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن عمران بن حُدَيرٍ، عن الحسنِ:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . قال: لو وجدتموه في السوق يُباع ما أخذتموه حتى يُهْضَم لكم من ثمنه

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . يقولُ: لستم بآخذى هذا الردئ بسعر هذا الطيِّبِ، إلا أن يُغْمَضَ لكم منه

(4)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2:"مغمض".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 345، 346 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

أخرجه وكيع - كما في الدر المنثور 1/ 346 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 529 (2805).

(4)

في م: "فيه". =

ص: 706

[وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولستم بآخذى هذا الردئ من حقِّكم إلا أن تغمضوا من حقِّكم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا ابن حميد، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن ابن مَعْقلٍ:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} يقولُ: لستم بآخذيه من حقٍّ هو لكم، {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. تقولُ: أُغمِضُ لك من حقِّى]

(1)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذى هذا الردئ الخبيث لو أُهْدِى إليكم، إلا أن تُغمضوا فيه فتأخُذوه وأنتم له كارهون، على استحياءٍ منكم ممَّن أهدَاه إليكم.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسين بن عمرِو بن محمد العَنْقَزيُّ، قال: ثنا أبي، عن أسباط، عن السُّديِّ، عن عديِّ بن ثابتٍ، عن البراء بن عازبٍ:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . قال: لو أُهْدِى لكم ما قبلتموه إلا على استحياءٍ من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجةٌ

(2)

.

حدَّثني موسى بن هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، عن أسباط، عن السديِّ، عن عدى بن ثابتٍ، عن البراء بن عازب نحوه، إلا أنه قال: على استحياءٍ من صاحبه

= والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 346 إلى عبد بن حميد.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.

والأثر تقدم تخريجه في ص 702.

(2)

تقدم تخريجه في ص 699.

ص: 707

وغيظٍ، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجةٌ

(1)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذى الحرام إلا أن تُغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ، وسألته عن قوله:{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . قال: يقولُ: لست آخذ ذلك الحرام حتى تُغْمِضَ على ما فيه من الإثم. قال: وفى كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أَغْمَض على ما فيه. وهو يعلَمُ أنه حرامٌ باطلٌ

(2)

.

والذي هو عندى أولى بتأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤُه حَثَّ عبادَه على الصدقة، وأداء الزكوات من أموالهم، وفرضها عليهم فيها، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقًّا لأهل سُهمانِ الصدقة، ثم أمرهم تعالى ذكره أن يُخْرِجوا من الطيِّب [دون الخبيث]

(3)

، وهو الجيِّد من أموالهم الطيِّب، وذلك أن أهل السُّهمانِ شركاءُ أرباب الأموال في أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها، فلا شكَّ أن كلَّ شريكين في مال، فلكل واحدٍ منهما بِقَدْرِ مِلْكِه، وأن ليس لأحدهما منعُ شريكه من حقِّه من المال

(4)

الذي هو فيه شريكه، بإعطائه بمقدار حقِّه منه من غيره، ممَّا هو أردأُ [وأخسُّ منه]

(5)

، فكذلك المُزكِّى ماله، حرَّم الله عليه أن يُعطى أهلَ السُّهْمانِ ممَّا وجب لهم في ماله من الطيِّب الجيِّد من الحقِّ، فصاروا

(1)

تقدم تخريجه في ص 699، 700.

(2)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 247 بنحوه.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الملك".

(5)

في م: "منه أو أحسن".

ص: 708

فيه [شركاءه به]

(1)

، من الخبيث الردئ غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيِّب من ماله الجيِّد، كما لو كان مال ربَّ المالِ رديئًا كلُّه غير جيِّد، فوجبت فيه الزكاةُ، وصار أهلُ سُهمانِ الصدقة شركاءه فيه، بما أَوْجَب الله لهم فيه، لم يكن عليه أن يُعطيهم الطيِّب الجيِّد من غير ماله الذي منه حقُّهم، فقال تبارك وتعالى الأرباب الأموال: زكُّوا من جيِّد أموالكم الجيِّد، ولا تيمَّموا الخبيث الردئ تُعطونه أهلَ سُهْمانِ الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيِّد الطيِّب في أموالكم، ولستم بآخذى الردئ لأنفسكم مكانَ الجيِّدِ الواجب لكم قِبَلَ من وجَب لكم عليه

(2)

ذلك، من شركائكم وغُرمائكم وغيرهم، إلَّا عن إغماض منكم، وهَضْمٍ لهم، وكراهةٍ منكم لأخذه. يقولُ: فلا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حقٌّ، ما لا تَرْضَون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم، فأمَّا إذا تطوع الرجلُ بصدقةٍ غير مفروضة، فإنى وإن كرهتُ له أَن يُعطى فيها إلَّا أجود ماله وأطيبَه؛ لأن الله تعالى ذكره أحقُّ من تقرِّب إليه بأكرم الأموال وأطيبها، والصدقة قُرْبانُ المؤمن إليه - فلست أُحرِّمُ عليه أن يُعطى فيها

(3)

غير الجيِّد؛ لأن ما دونَ الجيِّد ربما كان أعمَّ نفعًا لكثرته، أو لعظم خَطره، وأحسن

(4)

موقعًا من المسكين، وممن أُعطيه قربةً إلى الله جلّ وعزّ من الجيِّدِ، لقلته أو لصغرِ خطره، وقلة جدوى نفعه على من أُعطيَه.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.

(1)

في م: "شركاء".

(2)

زيادة من: م.

(3)

في ت 1: "منها".

(4)

في ت 1: "أعظم".

ص: 709

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الملك بن أبي الشَّوَاربِ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريع، قال: ثنا سلَمةُ بنُ علقمة، عن محمد بن سيرينَ، قال: سألتُ عَبيدةَ عن هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . قال: ذلك في الزكاةِ، الدِّرْهمُ الزائفُ أحبُّ إليَّ من التمرة.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، قال: ثنا سلَمةُ بن علقمة، عن محمد بن سيرينَ، قال: سألتُ عَبيدةَ عن ذلك، فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهمُ الزائفُ أحبُّ إليَّ من التمرةِ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، قال: سألت عَبيدةَ عن هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . فقال عبيدةُ: إنما هذا في الواجب، ولا بأسَ أن يتطوَّعَ الرجلُ بالتمرة، والدرهمُ الزائفُ خيرٌ من التمرةِ

(2)

.

حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن هشامٍ، عن ابن سيرين في قوله:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوُّعُ، فلا بأس أن يتصدَّقَ الرجلُ بالدرهم الزائف، والدرهمُ الزائفُ خيرٌ من التمرة

(3)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (تفسير - 447)، وابن أبي شيبة 3/ 226 عن ابن علية به.

(2)

أخرجه يحيى بن آدم في الخراج (431)، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 527 (2800) من طريق ابن إدريس به.

(3)

ذكره ابن عطية في المحرر الوحيز 2/ 243 عن ابن سيرين.

ص: 710

‌القولُ في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: واعلَموا أيها الناسُ أن الله عز وجل غنيٌّ عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمَركم بها وفرَضها في أموالكم؛ رحمةً منه لكم، يُغْنى

(1)

بها عالتكم

(2)

، ويقوِّى بها ضعفتكم

(3)

، ويُجْزِلُ لكم عليها في الآخرة مثوبتَكم، لا من حاجةٍ به فيها إليكم.

ويعنى بقوله: {حَمِيدٌ} . أنه محمودٌ عند خلقه بما أَوْلاهم من نعمه، وبسَط لهم من فضلِه.

كما حدَّثني الحسينُ بنُ عمرو بن محمدٍ العَنْقَزيُّ، قال: ثنا أبي، عن أسباط، عن السُّديِّ، عن عديِّ بن ثابتٍ، عن البراء بن عازبٍ في قوله تبارك وتعالى: {[وَاعْلَمُوا أَنَّ]

(4)

اللَّهَ غَنِيٌّ}: عن صدقاتكم

(5)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ليغني".

(2)

في م: "عائلكم".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ضعيفكم".

(4)

في النسخ: "و". والمثبت صواب التلاوة، وهو كذلك في تفسير ابن أبي حاتم.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 529 (2807) من طريق عمرو بن محمد به.

ص: 711