الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)} .
يعني جلّ ثناؤه بقولِه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} : وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم أيُّها المؤمنون كَيْدُ هؤلاء الكفارِ من اليهودِ شيئًا، ولكن اللهَ ينصرُكم عليهم إن صَبَرتم على طاعتى واتباعِ أمرِ رسولى، كما نَصَرْتُكم ببدرٍ وأنتم أذِلَّةٌ، وإن أنتم خالَفتم أيُّها المؤمنون أمرِى، ولم تَصْبِروا على ما كَلَّفْتُكم من فَرائِضى، ولم تَتَّقُوا ما نهيتُكم عنه، وخالَفتم أمرِى وأمرَ رسولى، فإنه نازِلٌ بكم ما نزَل بكم بأُحُدٍ، فاذكُروا ذلك اليومَ، إذ غَدا نبيُّكم يُبَوِّئُ المؤمنين. فترَك ذكْرَ الخبرِ عن أمرِ القومِ إن لم يَصْبِروا على أمرِ ربِّهم، ولم يَتَّقُوه؛ اكتفاءً بدلالةِ ما ظهَر من الكلامِ على معناه، إذ ذكر ما هو فاعلٌ بهم من صَرْفِ كَيْدِ أعدائِهم عنهم، إن صَبَروا على أمرِه واتَّقَوا مَحارمَه، وتَعْقيبَه ذلك بتَذْكيرِهم ما حَلَّ بهم من البَلاءِ بأُحُدٍ، إذ خالَف بعضُهم أمرَ رسولِه صلى الله عليه وسلم وتَنازَعوا الرأيَ بينَهم.
وأُخْرِج الخِطابُ فى قولِه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} . على وَجْهِ الخطابِ الرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ بمعناه: الذين نَهاهم اللهُ أن يتَّخِذوا
(1)
الكفارَ من اليهودِ بِطانةً مِن دونِ المؤمنين. فقد تَبَيَّن إذنْ أن قولَه: {وَإِذْ} إنما خبرُها
(2)
في معنى الكلامِ، على ماقد بَيَّنتُ وأوضَحتُ.
(1)
فى م، ت 2، ت 3:"يتخذ".
(2)
فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"جرها".
وقد اختلف أهلُ التأويلِ فى اليومِ الذى عَنَى اللهُ تبارك وتعالى بقولِه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} ، فقال بعضُهم: عَنَى بذلك يومَ أُحُدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} . قال: مَشَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَئِذٍ على رِجْلَيه يُبَوِّئُ المؤمنين
(1)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} : ذلك يومُ أُحَدٍ، غَدا نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم من أهلِه إلى أُحُدٍ، يُبَوِّئُ المؤمنين مَقاعدَ للقتالِ
(2)
.
حُدِّثتُ عن عَمَّارٍ، قال: حدَّثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} : فَغَدا نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم من أهلِه إلى أُحُدٍ، يُبَوِّئُ المؤمنين مقَاعدَ للقِتالِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} . فهو يومُ أحُدٍ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 748 (4067) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 2/ 67 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 748 عقب الأثر (4069) معلقا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 748 عقب الأثر (4069) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 748 (4069) عن محمد بن سعد به.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} قال: هذا
(1)
يومُ أحدٍ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ: مما نزَل في يومِ أُحُدٍ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}
(3)
.
وقال آخرون: عَنَى بذلك يومَ الأحزابِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحَنَفيُّ، قال: ثنا عَبَّادٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} . قال: يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم غَدا يُبَوِّئُ المؤمنين مقاعدَ للقتالِ يومَ الأحزابِ
(4)
.
وأولى هذين القولَين بالصواب قولُ مَن قال: عَنَى بذلك يومَ أُحُدٍ؛ لأن اللهَ جَلَّ ثناؤه يقولُ في الآيةِ التي بعدَها: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . ولا خلافَ بينَ أهلِ التأويلِ أنه عُنِى بالطائفتَين بنو سَلِمةَ وبنو حارثةَ، ولا خلافَ بينَ أهلِ السيرِ والمعرفةِ بمَغازى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن الذى ذكَر اللهُ تبارك وتعالى من أمرِهما إنما كان يومَ أُحدٍ دونَ يومِ الأحزابِ.
(1)
في م: "هنا".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 748 عقب الأثر (4069) من طريق أسباط.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 106.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 748 (4070) من طريق أبي بكر الحنفى به.
فإن قال لنا قائلٌ: فكيف يكونُ ذلك يومَ أحدٍ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنما راحَ إلى أُحُدٍ من أهلِه للقتال يومَ الجمعةِ، بعد ما صَلَّى الجمعةَ في أهلِه بالمدينةِ بالناسِ، كالذي حَدَّثكم ابنُ حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا سَلَمةُ، عن محمد بنِ إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ ابنُ مسلمِ بن عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بن شهابٍ الزُّهريُّ، ومحمدُ بنُ يحيى بنِ حَبَّانَ، وعاصمُ بنُ عمرَ بنِ قتادةَ، والحصينُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ عمرِو بنِ سعدِ بنِ معاذٍ، وغيرُهم من علمائِنا، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم راحَ حينَ صَلَّى الجمعةَ إلى أُحُدٍ، دخَل فلَبِس لأْمتَه
(1)
، وذلك يومَ الجمعةِ حينَ فرَغ من الصلاةِ، وقد مات في ذلك اليومِ رجلٌ من الأنصارِ، فصَلَّى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم خرَج عليهم وقال:"ما يَنْبَغى للنبيِّ إذا لبِس لأْمَتَه أن يَضَعَها حتى يُقاتِلَ"
(2)
.
قيل: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجُه لقتالِ القومِ كان رواحًا
(3)
، فلم يكنْ تَبْوِئتُه المؤمنين مقاعدَهم للقتالِ عندَ خُروجِه، بل كان ذلك قبلَ خُروجِه لقتالِ عَدوِّه، وذلك أن المشركين نزَلوا مَنْزلَهم من أُحُدٍ -فيما بلَغنا- يومَ الأربعاءِ، فأقاموا به ذلك اليومَ ويومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ، حتى راحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إليهم في يومِ الجمعةِ، بعدَ ما صَلَّى بأصحابِه الجمعةَ، فأصبَح بالشِّعْبِ من أُحُدٍ يومَ السبتِ للنصفِ من شوالٍ.
حدَّثنا بذلك ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ ابنُ مسلمٍ الزهريُّ، ومحمدُ بنُ يحيى بنِ حَبَّانَ، وعاصمُ بنُ عمرَ بنِ قتادةَ، والحصينُ بنُ عبدِ الرحمنِ وغيرُهم.
(1)
اللأمة مهموزة: الدرع. وقيل: السلاح. ولأمة الحرب: أداته. النهاية 4/ 220.
(2)
جزء من أثر طويل في سيرة ابن هشام 2/ 60 - 64، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 499 - 503، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 224 - 227، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 67 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
الرواح: نقيض الصباح. وقيل: العشى أو من الزوال إلى الليل. التاج (ر و ح).
فإن قال: فكيف
(1)
كانت تَبْوِئْتُه المؤمنين مقاعدَ للقتالِ غُدُوًّا قبلَ خُروجِه، وقد عَلِمتَ أن التَّبْوِئَةَ اتخاذُ المواضعِ
(2)
؟
قيل: كانت تَبْوئتُه إياهم ذلك قبلَ مُناهضتِه عَدوَّه، عندَ مشورتِه على أصحابِه بالرأيِ الذي رآه لهم بيومٍ أو يومين، وذلك أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمَّا سمِع بنزولِ المشركين من قريشٍ وأتباعِها أُحُدًا، قال -فيما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ- لأصحابِه:"أَشِيروا عليَّ، ما أصنَعُ"؟. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، اخرُجْ بنا
(3)
إلى هذه الأكلُبِ. فقالت الأنصارُ: يا رسولَ اللهِ، ما غلَبَنا عدوٌّ لنا قطُّ
(3)
أتانا في ديارِنا، فكيف وأنت فينا! فَدَعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عبدَ اللهِ بنَ أبيٍّ ابنَ سَلُولَ، ولم يَدْعُه قَطُّ قبلَها، فاستَشاره، فقال: يا رسولَ اللهِ، اخرُجْ بِنا إلى هذه الأكلُبِ. وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُه أن يدخُلوا عليه المدينةَ، فيُقاتَلُوا فى الأزقَّةِ، فأتاه النُّعْمانُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لا تَحرِمْنى الجنةَ، فوالذي بعَثَك بالحقِّ لأدخُلَنَّ الجنةَ. فقال له:"بمَ"؟ قال: بأنى أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنك رسولُ اللهِ، وأنى لا أَفِرُّ من الزَّحْفِ. قال:"صَدَقْتَ". فقُتِل يومَئذٍ. ثم إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعا بدرْعِه فلَبِسها، فلما رَأَوه قد لَبِس السلاحَ نَدِموا، وقالوا: بِئْسَما صنَعنا، نُشيرُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والوحيُ يَأتيه! فقاموا واعتَذروا إليه، وقالوا: اصنعْ ما رأيتَ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْبَغِى لنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَه فيَضَعَها حتى يُقاتِلَ"
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: ثنى ابنُ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وكيف".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الموضع".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 503، وستأتي بقيته في ص 13.
شِهابٍ الزهريُّ، ومحمدُ بنُ يحيى بنِ حَبَّانَ، وعاصمُ بنُ عمرَ قتادةَ، والحصينُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ عمرِو بنِ سعدِ بنِ معاذٍ، وغيرُهم من علمائِنا، قالوا: لمَّا سمِع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزَلوا مَنْزلَهم من أُحُدٍ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "إنِّي قد رأيتُ بَقَرًا، فَأَوَّلتُها خَيْرًا، ورأيتُ في ذُبابِ
(1)
سَيْفِى ثَلْمًا
(2)
، ورأيتُ أَنِّى أَدْخَلتُ يَدِى فى دِرْعٍ حَصِينةٍ، فَأَوَّلْتُها المدينةَ، فَإِنْ رَأَيْتُم أن تُقِيمُوا بالمدينةِ وتَدَعُوهم حيثُ نزَلوا، فإن أقامُوا أقاموا بِشَرِّ مُقامٍ، وإِن هُم دخَلوا علينا قاتَلْناهم فيها". وكان رأيُ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلُولَ مع رأيِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يرَى رأيَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك ألا يخرُجَ إليهم، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ الخروجَ من المدينةِ، فقال رجالٌ من المسلمين ممن أكرَم اللهُ بالشهادةِ يومَ أُحُدٍ، وغيرُهم ممن كان فاتَه بدرٌ وحضورُه: يا رسولَ اللهِ، اخرُجْ بنا إلى أعدائِنا، لا يَرَون أَنَّا [جَبُنَّا عنهم]
(3)
وضَعُفْنا. فقال عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ ابنُ سلولَ: يا رسولَ اللهِ، أَقِمْ بالمدينةِ، لا تخرُجْ إليهم، فواللهِ ما خرَجنا منها إلى عدوٍّ لنا قَطُّ إلا أصابَ منا، ولا دخَلها علينا
(4)
إلا أصَبْنا منه، فدَعْهم يا رسولَ اللهِ، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ مَحْبَسٍ، وإن دخَلوا قاتَلهم الرجالُ فى وجوهِهم ورَماهم النساءُ والصبيانُ بالحجارةِ من فوقِهم، وإن رجَعوا رجَعوا خائِبِين كما جاءوا. فلم يَزَلِ الناسُ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الذين كان من أمْرِهم حُبُّ لقاءِ القومِ، حتى دخَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَبِس لَأُمَتَه
(5)
.
فكانت تَبْوِئَةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المؤمنين المقاعدَ
(6)
للقتالِ، ما ذكَرنا من
(1)
ذباب السيف: طرفه الذى يضرب به. النهاية 2/ 152.
(2)
أي: كسرًا.
(3)
في س: "خفنا منهم".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قط".
(5)
تقدم تخريجه في ص 8.
(6)
في م: "مقاعد".
مَشُورتِه على أصحابِه بالرأيِ الذي ذكَرنا، على ما وصَفه الذين حَكَينا قولَهم.
يقالُ منه: بَوَّأْتُ القومَ مَنْزِلًا، وبَوَّأْتُه لهم، فأنا أُبَوِّتُهم المنزلَ تَبْوِئَةً، وأُبوِّئُ لهم مَنزِلًا تَبْوِئةً.
وقد ذُكِر أن في قراءةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ
(1)
: (وَإِذْ عَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ للْمُؤْمِنينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ). وذلك جائزٌ، كما يقالُ: رَدِفَكَ ورَدِفَ لك، ونَقَدتُ لها صداقَها ونَقَدْتُها، كما قال الشاعرُ
(2)
:
أستَغفِرُ اللهَ ذَنْبًا لستُ مُحْصِيَهُ
…
رَبَّ العِبادِ إليه الوَجْهُ والعملُ
والكلامُ: أستغفرُ اللهَ لذنبٍ.
وقد حُكِى عن العربِ سَماعًا: أبَأْتُ القومَ مَنْزِلًا، فأنا أُبِيئُهم إباءةً. ويقالُ منه: أبأْتُ الإبلَ. إذا رَددتَها إلى المبَاءةِ. والمبَاءةُ المُرَاحُ الذي تَبيتُ فيه. والمقاعدُ، جمعُ مَقْعَدٍ، وهو المجلِسُ.
فتأويلُ الكلامِ: واذْكُرْ إذ غَدوتَ يا محمدُ من أهْلِك، تَتَّخِذُ للمؤمنين مُعَسْكرًا ومَوْضِعًا لقتالِ عدوِّهم.
وقولُه: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . يعنى بذلك تعالى ذكرُه: واللهُ سميعٌ لِما يقولُ المؤمنون لك فيما شاوَرْتَهم فيه، من موضعِ لقائِك ولقائِهم عدوَّك وعدوَّهم، من قولٍ مَن قال: اخرُجْ بِنا إليهم حتى نَلْقاهم خارجَ المدينةِ. وقولِ من قال لك: لا تَخْرُجُ إليهم، وأقِمْ بالمدينةِ حتى يدْخلوها علينا -على ما قد يَيَّنا قبلُ- وبما
(3)
تُشِيرُ به عليهم أنت يا محمدُ، عليمٌ بأصلحِ تلك الآراءِ لك ولهم، وبما تُخْفيه صدورُ
(1)
ينظر البحر المحيط 3/ 46.
(2)
تقدم في 1/ 170.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مما".
المُشِيرين عليك بالخروج إلى عدوِّك، وصدورُ المُشِيرين عليك بالمُقامِ في المدينةِ، وغيرِ ذلك من أمرِك وأمورِهم.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ في قولِه:{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . أى سميعٌ لِما يقولون، عليمٌ بما يُخْفُون
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: واللهُ سميعٌ عليمٌ حينَ هَمَّت طائفتان منكم أن تَفْشَلا. والطائفتان اللَّتان هَمَّتا بالفَشَلِ -فيما ذُكر لنا- بنو سَلِمةَ وبنو حارثةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . قال: بنو حارثةَ كانوا نحوَ أُحُدٍ، وبنو سَلِمة نحوَ سَلْعٍ، وذلك يومَ الخندقِ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وقد دلَّلنا على أن ذلك كان يومَ أُحُدٍ فيما مضَى بما فيه الكفايةُ عن إعادتِه.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} الآية: وذلك يومَ أُحُدٍ، والطائفتان بنو سَلِمةَ وبنو
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 106. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 748 (4071، 4072) من طريق سلمة به.
(2)
تفسير مجاهد 258، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 68 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حارثةَ؛ حَيَّان من الأنصارِ، هَمُّوا بأمرٍ، فعَصَمهم اللهُ ذلك. قال قتادةُ: وقد ذُكِر لنا أنه لمَّا أُنزِلت هذه الآيةُ قالوا: ما يَسرُّنا أنَّا لم نَهُمَّ بالذى هَمَمْنا به، وقد أخبَرنا اللهُ أنه وَليُّنا
(1)
.
[حُدِّثت عن عَمَّارٍ، قال]
(2)
: ثنا ابنُ أبي جعفرِ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ} الآية: وذلك يومَ أُحُدٍ، فالطائفتان بنو سَلِمةَ وبنو حارثةَ؛ حَيَّانِ من الأنصارِ. فذَكَر مثلَ قولِ قتادةَ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى أُحُدٍ في ألفِ رجلٍ، وقد وَعَدهم الفَتْحَ إِن صَبَروا، فلما خرَج
(4)
، رجَع عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ ابنُ سَلولَ في ثلاثِمائةٍ، فتَبِعهم أبو جابرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعوهم، فلما غَلَبوه وقالوا له: ما نعلَمُ قِتالًا، ولئن أطَعْتَنا لتَرْجِعنَّ مَعَنا. وقال:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . فهَمَّ بنو سَلِمةَ وبنو حارثةَ، هَمُّوا بالرجوعِ حينَ رجَع عبدُ اللهِ بنُ أبيِّ، فعَصَمهم اللهُ، وبَقِى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سبعِمائةٍ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال عِكْرمةُ: نَزَلت في بني سَلِمةَ من الخَزرجِ، وبني حارثةَ من الأوسِ، ورَأْسِهم عبدِ اللهِ بنِ أَبِيِّ ابنِ سَلولَ
(6)
.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 749 عقب الأثر (4073) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 68 إلى عبد بن حميد.
(2)
في س: "حدثنا عمرو قال حدثنا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 749 عقب الأثر (4073) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
تتمة الأثر المتقدم فى ص 9.
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 68 إلى المصنف.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . فهُم بنو حارثةَ وبنو سَلِمةَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . والطائفتان بنو سَلِمةَ من جُشَمَ بنِ الخَزرجِ، وبنو حارثةَ بنِ النَّبِيتِ من الأوسِ، وهما الجنَاحان
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحَنَفيُّ، عن عَبَّادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} الآية. قال: هما طائفتان من الأنصارِ، هَمَّا أَن يَفْشَلا، فعَصَمهما اللهُ وهَزَم عدوَّهما
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ عُيَينةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: سمِعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . قال: نحن
(4)
هم؛ بنو سَلِمةَ وبنو حارثةَ، وما نُحِبُّ أن لو لم [نَكُنْ هَمَمْنا]
(5)
؛ لقولِ اللهِ عز وجل: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}
(6)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا ابنُ عُيَينةَ، عن عمرٍو،
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 749 عقب الأثر (4073) معلقا، وعزاه السيوطى في الدر 2/ 68 إلى المصنف.
(2)
ينظر سيرة ابن هشام 2/ 106.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 749 (4075) من طريق أبي بكر الحنفى به.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"تكن همتا".
(6)
تفسير عبد الرزاق 1/ 131. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 749 (4077) عن الحسن بن يحيى به. وأخرجه سعيد بن منصور (523 - تفسير)، والبخارى (4051، 4558)، ومسلم (2505)، والبيهقي في الدلائل 3/ 221 من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 68 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
قال: سمعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ. فذكَر نحوَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} . قال: هذا يومُ أُحُدٍ
(1)
.
وأما قولُه: {أَنْ تَفْشَلَا} . فإنه يعنى: [هَمَّنَا أَن تَضْعُفا وتَجْبُنا]
(2)
عن لقاءِ عَدُوِّهما. يقالُ منه: فَشِل فلانٌ عن لقاءِ عدوِّه، يَفْشَلُ فَشَلًا.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الفَشَلُ الجُبْنُ
(3)
.
وكان هَمُّهما الذى هَمَّا به من الفَشَلِ، الانصرافَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حينَ انصرَف عنهم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سلولَ بمَن معه، جُبْنًا منهم، من غيرِ شَكٍّ منهم في الإسلامِ ولا نفاقٍ، فعَصَمَهم اللهُ عز وجل مما هَمُّوا به من ذلك، ومَضَوا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لوَجْهِه الذى مَضَى له، وترَكوا عبدَ اللهِ بنَ أبيٍّ ابنَ سلولَ والمنافِقين معه، فأثْنَى اللهُ عز وجل عليهما بثُبوتِهما على الحقِّ، وأخبَر أنه وَليُّهما وناصرُهما على أعدائِهما من الكفارِ.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} . أى: المُدافِعُ
(4)
عنهما ما هَمَّا فَشَلِهما
(5)
.
وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضَعْفٍ ووَهَنٍ أصابَهما من غيرِ شَكٍّ أصابَهما في دينِهما، فتَوَلَّى دَفْعَ ذلك عنهما برَحْمتِه وعائدتِه، حتى سَلِمَتا من
(1)
ينظر التبيان 2/ 577.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"هما أن يضعفا ويجبنا".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 68 إلى المصنف.
(4)
فى م: "الدافع".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 106.
وَهَيْهما وضَعْفِهما، ولَحِقَتا بنَبيِّهما صلى الله عليه وسلم.
يقولُ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . أى: مَن كان به ضَعْفٌ من المؤمنين أو وَهَنٌ فَليَتَوَكَّلْ عليَّ، ولْيَسْتَعِنْ بي، أُعِنْه على أمرِه، وأدفَعْ عنه حتى أبلغَ به، وأُقَوِّيَه على نِيَّتِه.
وقد ذُكِر أن ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه كان يقرَأُ: (وَاللهُ وَلِيُّهُمْ)
(1)
. وإنما جاز أن يقرَأَ ذلك كذلك؛ لأن الطائفَتين وإن كانَتا فى لفظِ اثنين، فإنهما في معنى جِماعٍ، بمنزلةِ الخَصْمَين والحِزْبَين.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: وإن تَصْبِروا وتَتَّقوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شيئًا، وينصُرُكم رَبُّكم، ولقد نصَركم اللهُ يبدرٍ على أعدائِكم وأنتم يومَئِذٍ أَذِلَّةٌ، يعني قليلون في غيرِ مَنَعَةٍ من الناسِ، حتى أظهَركم اللهُ على عدوِّكم، مع كثرةِ عددِهم وقلةِ عددِكم، وأنتم اليومَ أكثرُ عددًا منكم حينَئذٍ، فإن تَصْبِروا لأمرِ اللهِ ينصُرْكم كما نصَركم ذلك اليومَ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ}. يقولُ: فاتقوا ربَّكم بطاعتِه، واجتنابِ محارمِه، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. يقول: لتشكُروه على ما مَنَّ به عليكم من النصرِ على أعدائِكم، وإظهارِ دينِكم، ولِما هَداكم له من الحقِّ الذى ضَلَّ عنه مخالِفوكم.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} . يقولُ: وأنتم أقلُّ عددًا وأضعفُ قوَّةً، {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
(1)
ينظر معانى القرآن للفراء 1/ 233، والبحر المحيط 3/ 47.
تَشْكُرُونَ}، أي: فاتقونِ، فإنه شكرُ نعمتى
(1)
.
واختُلِف فى المعنى الذى من أجلهِ سُمِّى بدرٌ بدرًا؛ فقال بعضُهم: سُمِّى بذلك؛ لأنه كان ماءً لرجلٍ يُسَمَّى بدرًا، فسُمِّى باسمِ صاحبِه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن زكريا، عن الشعبيِّ، قال: كانت بدرٌ لرجلٍ يقالُ له: بدرٌ. فسُمِّيَت به
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا زكريا، عن الشعبيِّ، أنه قال:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} . قال: كانت بدرٌ بئرًا لرجلٍ يقالُ له: بدرٌ. فسُمِّيت به.
وأنكَر ذلك آخرون، وقالوا: ذلك اسمٌ سُمِّيت به البقعةُ كما سُمِّى سائرُ البُلدانِ بأسمائِها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحارثُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا ابنُ سعدٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ عمرَ الواقديًّ، قال: ثنا منصورٌ، عن أبي الأسودِ، عن زكريا، عن الشعبيِّ، قال: إنما سُمِّى بدرًا؛ لأنه كان ماءً لرجل من جُهَينةَ، يقالُ له: بدرٌ. قال الحارثُ، قال ابنُ سعدٍ، قال الواقديُّ: فذكَرْتُ ذلك لعبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ ومحمدِ بنِ صالحٍ، فأنكَراه،
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 106. وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 751 (4088، 4090) من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 750 (4083) من طريق وكيع به. وأخرجه ابن سعد 2/ 27، وابن أبي شيبة 14/ 354، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 750 (4082) من طريق زكريا به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 69 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وقالا: فلايِّ شيءٍ سُمِّيت الصفراءُ
(1)
؟ ولأى شيءٍ سُمِّيت الحمراءُ
(2)
؟ ولأيِّ شيءٍ سُمِّى رابغٌ؟ هذا ليس بشيءٍ، إنما هو اسمُ الموضعِ. قال: وذكَرْتُ ذلك ليحيى بنِ النعمانِ الغِفاريِّ. فقال: سمِعتُ شيوخَنا
(3)
من بنى غِفارٍ يقولون: هو ماؤُنا ومنزلُنا، وما مَلَكه أحدٌ قَطُّ يقالُ له: بدرٌ. وما هو من بلادِ جُهَينةَ، إنما هي بلادُ غِفارٍ. قال الواقديُّ: فهذا المعروفُ عندَنا
(4)
.
حُدِّثت عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أخبَرنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ: بدرٌ ماءٌ عن يمينِ طريقِ مكةَ، بينَ مكةَ والمدينةِ
(5)
.
وأما قولُه: {أَذِلَّةٌ} . فإنه جمعُ ذليلٍ، كما الأعِزَّةُ جمعُ عزيزٍ، والأَلِيَّةُ جمعُ لَبيبٍ، وإنما سَمَّاهم اللهُ عز وجل أَذلَّةً؛ لقلةِ عددِهم، لأنهم كانوا ثلاثَمائةِ نفسٍ وبضعة عشَرَ، وعدوُّهم ما بينَ التسعِمائةِ إلى الألفِ -على ما قد بَيَّنا فيما مضَى- فجعَلهم لقلةِ عددِهم أذلةً.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
(1)
الصفراء: واد من ناحية المدينة، وقال عرام بن الأصبغ السلمى: الصفراء: قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها وهى فوق ينبع مما يلى المدينة. معجم البلدان 3/ 399.
(2)
الحمراء: حمراء الأسد، موضع على ثمانية أميال من المدينة إليه انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في طلب المشركين. معجم البلدان 2/ 332.
(3)
في الأصل: "شيوخا".
(4)
الطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 27، وينظر: فتح البارى 2/ 27.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف.
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: وبدرٌ ماءٌ بينَ مكةَ والمدينةِ، التقَى عليه نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمشركون، وكان أوَّلَ قتالٍ قاتله نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [قال قتادةُ]
(1)
: ذُكِر لنا أنه قال لأصحابِه يومئذٍ: "أنتم اليومَ بعِدَّةِ أَصحابِ طالوتَ يومَ لَقِى جالوتَ". فكانوا ثلاثَمائةٍ وبضعَةَ عَشَر رجلًا، والمشركون يومَئِذٍ ألفٌ أو رَاهَقوا ذلك
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، عن عَبادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . قال: يقولُ: وأنتم قليلٌ أذلةٌ. وهم يومَئِذٍ بضعَةَ عَشَرَ وثلاثُمائةٍ
(3)
.
حُدِّثت عن عَمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، نحوَ قولِ قتادةَ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} . [يقولُ: وأنتم]
(5)
أقلُّ عددًا وأضعفُ قوةً
(6)
.
وأما قولُه جلَّ ثناؤه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . فإن تأويلَه كالذي قد بَيَّنتُ.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
(1)
فى م: "و".
(2)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف وعبد بن حميد، وأخرج المرفوع عبد الرزاق في تفسيره 1/ 101 عن معمر عن قتادة.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 751 (4086) من طريق أبي بكر به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 751 (4087) من طريق ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة والربيع.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 751 (4088) من طريق سلمة به.
تَشْكُرُونَ}. أى: فاتَّقونى، فإنه شكرُ نِعْمتي
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: ولقد نصركم اللهُ ببدرٍ وأنتم أذلةٌ إذ تقولُ للمؤمنين بك من أصحابِك: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} ، وذلك يومَ بدرٍ.
ثم اختلف أهلُ التأويلِ فى حُضور الملائكةِ يومَئِذٍ حَرْبَهم وفى أيِّ يومٍ وُعِدوا ذلك؟ فقال بعضُهم: إن اللهَ تبارك وتعالى ذكرُه كان وَعَد المؤمنين يومَ بدرٍ أن يُمِدَّهم بملائكتِه إنْ أتاهم العدوُّ من فَورِهم، فلم يَأْتوهم ولم يُمَدُّوا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني حُمَيدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بِشْرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، قال: حُدِّث المسلمون [يومَ بدرٍ]
(2)
أن كُرْرَ بنَ جَابِرٍ المُحَارِبِيَّ يُمِدُّ المشركين. قال: فَشَقَّ ذلك على المسلمين، فقيل لهم:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . قال: فبَلَغَت كُرْزًا الهزيمةُ، فرجَع، ولم يُمدَّهم بالخمسةِ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 2/ 751 (4090) من طريق سلمة به.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 358، وابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 752 (4095) من طريق داود به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى ابن المنذر.
حدَّثني ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، قال: لمَّا كان يومُ بدرٍ، بَلَغ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثم ذكَر نحوَه، إلَّا أنه قال:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} -يعنى كُرْزًا وأصحابَه- {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . قال: فبَلَغ كُرْزًا وأصحابه الهزيمةُ، فلم يُمِدَّهم، ولم تَنْزِلِ الخمسةُ، وأُمِدُّوا بعد ذلك بألفٍ، فهم أربعةُ آلافٍ من الملائكةِ مع المسلمين
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحَنَفيُّ، عن عَبَّادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} الآية كلّها. قال: هذا يومُ بدرٍ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن داودَ، عن الشعبيِّ، قال: حُدِّث المسلمون أن كُرْزَ بن جابر المُحارِبيَّ يريدُ أن يُمِدَّ المشركين ببدرٍ، قال: فشَقَّ ذلك على المسلمين، فأنزل اللهُ عز وجل:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} إلى قولِه: {مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} . قال: فبَلَغَته هزيمةُ المشركين، فلم يُمِدَّ أصحابَه، ولم يُمَدُّوا بالخمسةِ
(3)
.
وقال آخرون: كان هذا الوعدُ مِن اللهِ لهم يومَ بدرٍ، فَصَبَر المؤمنون، واتَّقَوا اللهَ، فأَمَدَّهم بملائكتِه على ما وعَدهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: ثنى
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 752، 753 (4092، 4104) من طريق أبي بكر الحنفى به.
(3)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
عبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ، عن بعض بني ساعدةَ، قال: سمِعتُ أبا أُسَيدٍ مالك بنَ ربيعةَ، بعدَ ما أُصِيب بصرُه يقولُ: لو كنتُ معكم ببدرٍ الآنَ، ومعى بَصَرى، لأخبَرْتكم بالشِّعْبِ
(1)
الذى خَرَجَت منه الملائكةُ، لا أَشُكُّ ولا أَتَمارَى
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: قال ابنُ إسحاقَ، وثنى عبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ، عن بعضِ بني ساعدةَ، عن أبي أُسَيدٍ مالك بنِ ربيعةَ، وكان شهد بدرًا: أنه قال بعدَ إذ ذهب بصرُه: لو كنتُ معكم اليومَ ببدر، ومعى بَصَرى، لأريتُكم الشِّعْبَ الذى خَرَجَت منه الملائكةُ، لا أَشُكُّ ولا أَتَمارَى
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، قال: وثنى عبدُ اللهِ ابنُ أبي بكر أنه حُدِّث عن ابنِ عباسٍ، أن ابنِ عباسٍ، قال: ثنى رجلٌ من بنى غِفَارٍ، قال: أقبَلتُ أنا وابنُ عَمٍّ لى، حتى أَصْعَدْنا في جبلٍ يُشْرِفُ بنا على بدرٍ، ونحن مُشْرِكان، نَنتظِرُ الوقعةَ على من تكونُ الدَّبْرةُ
(4)
، فنتَهِبُ مع من يَنْتَهِبُ. قال: فبينا نحن في الجبلِ، إذ دَنَت مِنَّا سحابةٌ، فسَمِعنا فيها حَمْحَمةَ الخيلِ، فسَمِعتُ قائلًا (1) يقولُ: أَقدِمْ حَيْرُومُ
(5)
. قال: فأما ابنُ عمِّى فانكَشَف قِناعُ
(6)
قلبِه، فمات مكانَه، وأما أنا فكِدْتُ أهْلِكُ، ثم تماسَكْتُ
(7)
.
(1)
في ص: "بالبعث"، وفى ت 1:"بالنقب".
(2)
أخرجه البيهقى فى الدلائل 3/ 52، 53 من طريق يونس بن بكير به.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 633.
(4)
الدبرة: أى الدولة والظفر والنصرة، وتفتح الباء وتسكن، ويقال: على من الدبرة أيضًا أى الهزيمة. النهاية 2/ 98.
(5)
حيزوم: جاء في التفسير أنه اسم فرس جبريل عليه السلام، والحيزوم لغة هو الصدر. وقيل وسطه. النهاية 1/ 467.
(6)
قناع القلب: غشاؤه، تشبيها بقناع المرأة. النهاية 4/ 114.
(7)
سيرة ابن هشام 1/ 633، وأخرجه المصنف في تاريخه 3/ 453، وعنه الأصفهاني في الأغانى 4/ 198 =
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: وثنى الحسنُ ابنُ عمارةَ، عن الحكم بنِ عُتَيبةَ، عن مِقْسَمٍ، مولى عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ،، قال: لم تُقاتِل الملائكةُ في يومٍ من الأيامِ سوى يوم بدرٍ، وكانوا يكونون فيما سِواه من الأيامِ عَدَدًا ومَدَدًا لا يضرِبون
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: قال محمدُ بنُ إسحاقَ، حدَّثني أبي إسحاقُ بنُ يسارٍ، عن رجالٍ من بنى مازنِ بنِ النجارِ، عن أبي داود المازنيِّ -وكان شهد بدرًا- قال: إني لأتبَعُ رجلًا من المشركين يومَ بدرٍ لأضرِبَه، إذ وقع رأسُه قبلَ أن يَصِلَ إليه سيفى، فعَرَفْتُ أن قد قتَله غيرى
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: قال محمدٌ: ثنى حسينُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ عُبَيدِ اللهِ بنِ عباسٍ، عن عِكْرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، قال: قال أبو رافعٍ مولى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كنتُ غُلامًا للعباسِ بن عبدِ المطلبِ، وكان الإسلامُ قد دخَلَنا أهلَ البيتِ، فأسلَم العباسُ، وأسْلَمَت أمُّ الفضلِ، وأسلمتُ، وكان العباسُ يَهابُ قومَه، ويكرَهُ أن يُخالِفَهم، وكان يَكْتُمُ إسلامَه، وكان ذا مالٍ كثيرٍ مُتفرِّقٍ في قومِه، وكان أبو لهبٍ عدوٌّ اللهِ قد تَخَلَّف عن بدرٍ، وبعَث مكانَه العاصِيَ بنَ هشام بنِ المغيرةِ، وكذلك صَنَعوا؛ لم يَتَخلَّفْ رجلٌ إلا بعَث مكانَه رجلًا، فلما جاء الخبرُ عن مُصابِ أصحابِ بدرٍ من قريشٍ، كَبَته اللهُ وأخزاه، ووَجَدْنا في
= وأخرجه أبو نعيم فى الدلائل (403)، والبيهقى فى الدلائل 3/ 52، من طريق ابن إسحاق به.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 634، وأخرجه الأصفهانى فى الأغانى 4/ 199 عن المصنف به، وأخرجه الطبراني (12085) من طريق الحكم به.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 633، وأخرجه المصنف في تاريخه 3/ 453 وعند الأصبهاني في الأغانى 4/ 198، وأخرجه أبو نعيم فى الدلائل (404)، والبيهقى فى الدلائل 3/ 56 من طريق ابن إسحاق به.
أنفسِنا قوةً وعزًّا
(1)
. قال: وكنتُ رجلًا ضعيفًا، وكنتُ أعمَلُ القِداحَ، أنْحِتُها في حجرةِ زمزمَ، فوالله إنى لجالسٌ فيها أنْحِتُ القِداحَ وعندى أمُّ الفضلِ جالسةً، وقد سَرَّنا ما جاءنا من الخبرِ، إذ أقبَل الفاسقُ أبو لَهَبٍ يَجُرُّ رجليه بشَرٍّ، حتى جَلَس على طُنُبِ
(2)
الحجرةِ، فكان ظهرُه إلى ظَهْرِى، فبَينا هو جالسٌ إذ قال الناسُ: هذا أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ قد قَدِم. قال: قال أبو لَهَبٍ: هَلُمَّ إِليَّ يا ابنَ أخى، فعندَك
(3)
الخبرُ. قال: فجَلَس إليه، والناسُ قيامٌ عليه، فقال: يا ابنَ أخي، أخبِرْنى كيف كان أمرُ الناسِ؟ قال: لا شيءَ واللهِ، إن كان إلَّا أن لَقيناهم، فمَنَحْناهم أكتافَنا، يَقْتُلوننا ويأسِروننا كيف شاءوا، وايمُ اللهِ ذلك ما لُمْتُ الناسَ، لَقِينا رجالًا بِيضًا على خيلٍ بُلْقٍ
(4)
بينَ السماءِ والأرضِ، [ما تُلِيقُ شيئًا]
(5)
، ولا يقومُ لها شيءٌ. قال أبو رافعٍ: فرَفَعتُ طُنُبَ الحجرةِ بيدى، ثم قلتُ: تلك الملائكةُ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدٍ، قال: ثني الحسنُ بنُ عمارةَ، عن الحكمِ بن عُتَيبةَ، عن مِقْسَمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان الذي أسَر العباسَ أبو اليَسَرِ كعب بنُ عمرٍو أخو بني سَلِمةَ، وكان أبو اليَسَرِ رجلًا مجموعًا
(7)
، وكان
(1)
فى ص، ت 1:"عنة"، وفى م، ت 2، ت 3:"عونة".
(2)
الطنب: حبل طويل يشد به البيت والسرادق، وقيل الوتد، والجمع: أطناب وطِنبَة. اللسان (طنب).
(3)
في ص، ت 1:"فعندي".
(4)
بعده فى م، ت 2، ت 3، س: ما". وبَلِق الفرس: كان فيه سواد وبياض، فهو أبلق جمعه بلق. اللسان (بلق).
(5)
فى م: "ما يليق لها شيء"، وما تليق شيئا. أى: ما تبقى شيئا، يقال: فلان ما يليق شيئا من سخائه. أي: ما يُمْسِك شيئا. ينظر اللسان (ل ى ق).
(6)
سيرة ابن هشام 1/ 646، وأخرجه المصنف في التاريخ 3/ 461 وعنه الأصفهاني في الأغاني 4/ 205، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 73، والحاكم 3/ 323 من طريق ابن إسحاق به.
(7)
رجلًا مجموعًا: يراد به مجتمع الخلْق لم يبسط، كما يدل عليه سياق الأثر، وينظر التاج (ج م ع).
العباسُ رجلًا جسيمًا، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأبى اليَسَرِ:"كيف أسَرْتَ العباسَ يا أبا اليَسَرِ؟ ". قال: يا رسولَ اللهِ، لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيتُه قبلَ ذلك ولا بعدَه، هيئتُه كذا وكذا. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لقد أعانَك عليه مَلَكٌ كريمٌ"
(1)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} . أُمِدُّوا بأَلْفٍ، ثم صاروا ثلاثةَ آلافٍ، ثم صاروا خمسةَ آلافٍ، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وذلك يومَ بدرٍ، أَمَدَّهم اللهُ بخمسةِ آلافٍ من الملائكةِ
(2)
.
حُدِّثتُ عن عَمَّارٍ، عن ابنِ أبي جعفرٍ
(3)
، عن أبيه، عن الربيعِ بنحوِه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال ثني عمي، [قال: حدَّثني أبي]
(5)
، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . فإنهم أَتَوا محمدًا صلى الله عليه وسلم مُسَوِّمين
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال:[ثنا عبدُ الرحمنِ، قال]
(7)
ثنا سفيانُ، عن ابنِ خُثَيْمٍ، عن مُجاهدٍ، قال: لم تُقاتِلِ الملائكةُ إلا يومَ بدرٍ
(8)
.
(1)
أخرجه المصنف في التاريخ 2/ 463، وعنه الأصفهاني في الأغانى 4/ 206، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل (402) من طريق سلمة به، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 12 من طريق مقسم به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم 3/ 754 (4105) من طريق يزيد، وعزاه السيوطى في الدر 2/ 69 إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"نجيح".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 752 (4096) من طريق ابن أبي جعفر به.
(5)
سقط من: م.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 754 (4112) عن محمد بن سعد بأطول من هذا.
(7)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(8)
تفسير مجاهد ص 259، وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 354 من طريق سفيان به.
وقال آخرون: إن اللهَ عز وجل إنما وَعَدهم يومَ بدرٍ أن يُمدَّهم إن صَبَروا عندَ طاعتِه، وجهادِ أعدائِه، واتَّقوه باجتنابِ محارمِه، أن يُمِدَّهم في حروبِهم كلِّها، فلم يَصْبِروا، ولم يَتَّقُوا إلّا فى يوم الأحزابِ، فأَمَدَّهم حينَ حاصَروا قُرَيظةَ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسْدِيُّ، قال: ثنا عبيدُ
(1)
اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا سليمانُ بنُ زيدٍ أبو إدامٍ
(2)
المُحاربىُّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي أوفى، قال: كُنَّا مُحاصِرى قُرَيظة والنضيرِ ما شاء اللهُ أن تُحاصِرَهم، فلم يُفْتَحْ علينا، فرَجَعنا، [فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من بغُسْلٍ، فهو]
(3)
يَغْسِلُ رأسَه، إذ جاءه جبريلُ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ، وَضَعْتم أسلحتَكم ولم تَضَعِ الملائكةُ أوزارَها! فَدَعا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بخِرْقَةٍ، فَلَفَّ بها رأسَه ولم يَغْسِلْه، ثم نادَى فينا، فقُمْنا [كالِّين مُعْيين]
(4)
لا نَعْبَأُ بالسيرِ شيئًا، حتى أتَينا قُرَيظةَ والنضيرَ، فيومَئذٍ أمدَّنا اللهُ عز وجل بثلاثةِ آلافٍ من الملائكةِ، وفتَح اللهُ لنا فَتْحًا يسيرًا، فانْقَلَبْنا بنعمةٍ مِن اللهِ وفضلٍ
(5)
.
وقال آخرون بنحوِ هذا المعنى، غيرَ أنهم قالوا: لم يَصْبِرِ القومُ، ولم يتَّقوا، ولم يُمَدُّوا بشيءٍ في أُحُدٍ.
(1)
في ص، م:"عبد".
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"آدم". وينظر تهذيب الكمال 11/ 431.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو"، وفى م:"فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته". والغُسْل والغَسُّول: الماء يغتسل به. وينظر اللسان (غ س ل).
(4)
في م: "كالزمعين".
(5)
ذكره البغوى في تفسيره 2/ 100، وعزاه السيوطى فى الخصائص الكبرى 1/ 233 إلى المصنف.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: أخبرني عمرُو بنُ دينار، عن عِكْرمةً، سَمِعتُه
(1)
يقولُ: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . قال: يومَ بدرٍ. قال: فلم يَصْبِروا ولم يَتَّقُوا، فلم يُمَدُّوا يومَ أُحُدٍ، ولو مُدُّوا لم يُهزموا يومَئذٍ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَينةَ، عن عمرِو ابنِ دينارٍ، قال: سمِعْت عِكْرمةَ يقولُ: لم يُمَدُّوا يومَ أُحدٍ ولا بمَلَكٍ واحدٍ. أو قال: إلا بمَلَكٍ واحدٍ
(3)
. أبو جعفرٍ يَشُكُّ.
حُدِّثتُ عن الحسيِن بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: حدَّثنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، قال: سَمِعتُ الضحاكَ قولَه: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ} إلى {بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . كان هذا مَوْعِدًا
(4)
من اللهِ يومَ أُحُدٍ، عَرَضه على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أن المؤمنين إن اتَّقَوا وصَبَرُوا أَمْدَدْتُهم
(5)
بخمسةِ آلافٍ من الملائكةِ مُسَوَّمِين. فقَرَّ المسلمون يومَ أُحُدٍ وَوَلَّوا مُدْبِرين، فلم يُمدَّهم اللهُ
(6)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {بَلَى إِنْ
(1)
فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سمعه".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 752 (4097) من طريق ابن عيينة باللفظ الأول: "ولا بملك واحد". وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(4)
فى ص: "موعودًا".
(5)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمدهم".
(6)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 752، 753 (4098) من طريق أبي معاذ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 69 إلى ابن المنذر.
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} الآية كلّها، قالوا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهم ينتظرون
(1)
المشركين: يا رسولَ اللهِ، أليس يُمِدُّنا اللهُ كما أمَدَّنا يومَ بدرٍ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} ، وإنما أمَدَّكم يومَ بدرِ بألفٍ". قال: فجاءت الزيادةُ من اللهِ على أن يَصْبِرُوا ويَتَّقُوا. قال: بشرطِ أن {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} الآية كلّها
(2)
.
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إِن اللَّهَ عز وجل أخبرَ عن نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} ، فوعَدهم ثلاثةَ آلافٍ من الملائكةِ مَدَدًا لهم، ثم وَعَدهم بعدَ الثلاثةِ الآلافِ خمسةَ آلافٍ إن صَبَروا لأعدائِهم واتَّقَوا اللهَ، ولا دلالةَ في الآيةِ على أنهم أُمِدُّوا بالثلاثةِ الآلافِ، ولا بالخمسةِ الآلافِ، ولا على أنهم لم يُمَدُّوا بهم.
وقد يجوزُ أن يكونَ اللهُ عز وجل أمَدَّهم، على نحوِ ما رَواه الذين أثْبَتوا أنه أمَدَّهم. وقد يجوزُ أن يكونَ لم يُمِدَّهم، على نحوِ الذي ذكَره مَن أنكَر ذلك، ولا خبرَ عندَنا صَحَّ من الوَجْهِ الذى يَثبُتُ أنهم أُمِدُّوا بالثلاثةِ الآلافِ، ولا بالخمسةِ الآلافِ، وغيرُ جائزٍ أن يقالَ فى ذلك قولٌ إلا بخبرٍ تقومُ الحُجَّةُ به، ولا خبرَ به كذلك، فنُسَلِّمُ لأحدِ الفريقَين قولَه؛ غيرَ أن فى القرآنِ دلالةً على أنهم قد أُمِدُّوا يوم بدرٍ بألفٍ من الملائكةِ، وذلك قولُه تبارك وتعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]. فأما في يومِ أُحُدٍ، فالدلالةُ على أنهم لم يُمَدُّوا أبينُ منها فى أنهم أُمِدُّوا، وذلك أنهم لو أُمِدُّوا
(1)
فى م: "ينظرون".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف.
لم يُهْزَموا، ويُنالُ منهم ما نِيلَ منهم.
فالصوابُ فيه من القولِ: أن يقالَ كما قال تعالى ذكرُه. وقد بَيَّنا معنى الإمدادِ فيما مضَى، والمدَدِ، ومعنى الصبرِ والتقوى
(1)
.
وأما قولُه: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . فإن أهلَ التأويلِ اختَلَفوا فيه؛ فقال بعضُهم: معنى قولِه: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . مِن وَجْهِهم هذا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا حُمَيدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن عثمانَ بنِ غِيَاثٍ، عن عِكْرمةَ، قال:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . قال: مِن وَجْههم هذا
(2)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ:{مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . يقولُ: مِن وَجْهِهم هذا.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحَنَفىُّ، قال: ثنا عَبَّادٌ، عن الحسنِ فى قولِه:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} : من وَجْهِهم هذا
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عَمَّارِ بن الحسنِ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:
(1)
ينظر ما تقدم فى 1/ 237 - 240، 318 - 320، 617.
(2)
أخرجه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 4/ 188 - من طريق عثمان بن غياث به.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 130.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 753 عقب الأثر 4103 معلقًا، وذكره البغوي في تفسيره 2/ 100.
{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} يَقولُ: مِن وَجْهِهم هذا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ قولَه:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . يقولُ: مِن وَجْهِهم هذا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . يقولُ: من سفرِهم هذا ويقالُ -يعنى عن غيرِ ابنِ عباسٍ-: بل هو من غضبِهم هذا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} : مِن وَجْهِهِم هذا
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبِهم هذا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عِكْرمةَ في قولِه:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} . قال: فَوْرُهم ذلك كان يومَ أُحُدٍ، غَضِبوا ليومِ بدرٍ مما لَقُوا
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمارةَ، قال: ثنا سهلُ بنُ عامرٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ، قال: سمِعتُ أبا صالحٍ مولى أمِّ هانئٍ يقولُ: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . يقولُ: من
(1)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 753 عقب الأثر (4103) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 753 (4103) من طريق أحمد بن المفضل به.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 753 (4101) عن محمد بن سعد به.
(4)
ذكره الطوسى فى التبيان 2/ 581، والقرطبي في تفسيره 4/ 196.
(5)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف. وينظر تفسير ابن أبي حاتم 3/ 753 عقب الأثر (4102).
غَضَبِهم هذا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . قال: غَضَبٌ لهم -يعنى الكفارَ- فلم يُقاتِلوهم عندَ تلك الساعةِ، وذلك يومَ أُحدٍ
(2)
.
حدَّثنى القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حَجَّاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيجٍ، قال مجاهدٌ:{مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . قال: من غضبِهم هذا (1).
حُدِّثت عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أخبَرنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاكَ فى قولِه: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} . يقولُ: من وَجْههم وغضبِهم
(3)
.
وأصلُ الفَوْرِ، ابتداءُ الأمرِ يؤخَذُ
(4)
فيه ثم يُوصَلُ بِآخَرَ، يقالُ منه: فازَت القِدْرُ، فهى تَفورُ فَوْرًا وفَوَراناً. إذا ابتَدَأ ما فيها بالغَليانِ ثم اتَّصَل. ومَضَيتُ إلى فلانٍ من فَوْرِى ذلك. يُراد به: مِن وَجْهى الذى ابْتَدَأَتُ فيه.
فالذي قال في هذه الآيةِ: معنى قولِه: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} : من وَجْهِهِم هذا. قَصَد إلى أن تأويلَه: ويأتِيكم كُرْزُ بنُ جابرٍ وأصحابُه يومَ بدرٍ، من ابتداءِ مَخْرَجهم الذى خَرَجوا منه، لنُصْرةِ أصحابِهم من المشركين.
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من غضبِهم هذا، فإنما عَنَوا أن تأويلَ ذلك: ويأتيكم كفارُ قريشٍ وتُبَّاعُهم يومَ أُحُدٍ، من ابتداءِ غَضَبِهم الذي غَضِبوه لقتلاهم
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(2)
تفسير مجاهد ص 259.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 69 إلى المصنف، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 753 عقب الأثر (4103) معلقًا.
(4)
في ص، م:"يوجد". وأخذ فى الأمر: شرع فيه. الوسيط (أ خ ذ).
الذين قُتِلوا يومَ بدرٍ بها.
{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ} ، ولذلك من اختلافِ تأويلِهم في معنى قولِه:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} اختَلف أهلُ التأويلِ في إمدادِ اللَّهِ المؤمنين بأُحُدٍ بملائكتِه؛ فقال بعضُهم: لم يُمدُّوا بهم؛ لأن المؤمنين لم يَصْبِروا لأعدائِهم، ولم يَتَّقُوا اللهَ عز وجل بتَرْكِ من ترَك من الرُّماةِ طاعةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ثُبوتِه في الموضعِ الذى أمَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالثبوتِ فيه، ولكنهم أخَلُّوا به؛ طلبَ الغنائمِ فقُتِل من [قُتِل من]
(1)
المسلمين، ونالَ المشركون منهم ما نالوا
(2)
، وإنما كان اللهُ عز وجل وَعَد نبيَّه صلى الله عليه وسلم إمدادَهم بهم إن صَبَروا واتَّقَوا اللَّهَ.
وأما الذين قالوا: كان ذلك يومَ بدر بسببِ كُرْزِ بنِ جابرٍ. فإن بعضَهم قالوا: لم يأتِ كُرْزٌ وأصحابُه إخوانهَم من المشركين مدَدًا لهم ببدرٍ، ولم يُمِدَّ اللهُ المؤمنين بملائكتِه؛ لأن اللهَ عز وجل إنما وَعَدهم أن يُمِدَّهم بملائكتِه إن أتاهم كُرْزٌ ومَدَدُ المشركين من فَوْرِهم، ولم يأتِهم المَدَدُ.
وأما الذين قالوا: إن اللهَ تعالى ذكرُه [قد كان]
(3)
أمَدَّ المسلمين بالملائكةِ يومَ بدرٍ. فإنهم اعتلُّوا بقولِ اللهِ عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9].
قالوا
(4)
: فالأَلْفُ منهم قد أتاهم مَدَدًا، وإنما الوعدُ الذى كانت فيه الشروطُ فيما زاد على الألفِ، فأما الألفُ فقد كانوا أُمِدُّوا به؛ لأن اللهَ عز وجل كان قد وَعَدهم ذلك، ولن يُخْلِفَ اللهُ وعدَه.
(1)
سقط من: م.
(2)
بعده في الأصل، ص، ت 2:"منهم".
(3)
زيادة من: الأصل.
(4)
في م: "قال".
واختلفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {مُسَوِّمِينَ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والكوفةِ: (مُسَوَّمين) بفتحِ الواوِ
(1)
، بمعنى: أن اللَّهَ سَوَّمها.
وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ والبصرةِ: {مُسَوِّمِينَ} بكسرِ الواوِ
(2)
. بمعنى أن الملائكةَ سَوَّمَت أَنفُسَها
(3)
.
وأولى القراءتين فى ذلك بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأ بكسرِ "الواو"؛ لتظاهُرِ الأخبارِ عن أصحابِ
(4)
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، [وأهلِ]
(5)
التأويلِ منهم ومن التابعين بعدَهم، بأن الملائكةَ هى التى سَوَّمَت أنفسَها، من غيرِ إضافةِ تَسْويمِها إلى اللهِ عز وجل، أو إلى غيرِه من خلقِه.
ولا معنى لقولِ مَن قال: إنما كان يُختارُ الكسرُ في قولِه: {مُسَوِّمِينَ} . لو كان في البَشَرِ، فأما فى الملائكةِ فوَصْفُهم غيرُ ذلك، ظَنًّا منه بأن الملائكةَ غيرُ ممكنٍ فيها تَسْويمُ أنفسِها إمكانَ ذلك فِى البَشَرِ، وذلك أنه غيُر مستحيلٍ أن يكونَ اللهُ عز وجل مَكَّنها من تَسْويمُ أنفسِها نَحْوَ
(6)
تَمْكينِه البشرَ من تَسْويمِ أنفسِهم، فسَوَّموا أنفسَهم نَحْو
(6)
الذى سَوَّم البشرُ، طلبًا منها بذلك طاعةَ ربِّها، فأُضِيف تَسْويمُها أنفسَها إليها، وإن كان ذلك عن تَسْبيبِ اللهِ لهم أسبابَه، وهى إذا كانت موصوفةً بتَسْوِيمِها أَنفسَها؛ تَقَرُّبًا منها إلى ربِّها، كان أبلغَ في مدحِها، لاختيارِها طاعةَ اللَّهِ، من أن تكونَ موصوفةً بأن ذلك مفعولٌ بها.
(1)
هي قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 216.
(2)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 216.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س "لنفسها".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فأهل".
(6)
فى م: "بحق".
ذكرُ الأخبارِ بما ذكَرنا من إضافةِ مَن أضافَ التسويمَ إلى الملائكةِ دونَ إضافةِ ذلك إلى غيرِهم، على نحوِ ما قلنا فيه
حدَّثني يعقوبُ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا ابنُ عونٍ
(1)
، عن عُمَيرِ بنِ إسحاقَ، قال: إن أولَ ما كان الصُّوفُ لَيومَئِذٍ -يعني يومَ بدرٍ- قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَوَّمُوا؛ فإن الملائكةَ قد تُسَوَّمَتْ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا مختارُ بنُ غَسَّانَ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ الغسيلِ، عن الزبيرِ بنِ المنذرِ، عن جدِّه أبى أَسَيْدٍ - وكان بَدْريًّا فكان يقولُ: لو أن بَصَرى معى
(3)
، ثم ذهَبتُم معى إلى أُحُدٍ، لأخبَرتُكم بالشَّعْبِ الذى خَرَجَت منه الملائكةُ فى عمائمَ صُفْرٍ، قد طرَحوها
(4)
بينَ أكتافِهم
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . يقولُ: مُعَلِّمِين، مَجْزوزةً أذنابُ خَيْلِهم ونواصِيها، فيها الصوفُ أو العِهْنُ، وذلك التَّسْويمُ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنبسةَ، عن محمدِ بنِ عبد الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ فى قولِه: {بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
(1)
في م: "عوف".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه 2/ 310 (2861)، وابن أبى شيبة 12/ 261، 14/ 358 من طريق ابن عون به.
(3)
فى ص، ت 2، س:"حرح منه".
(4)
فى س: "أرخوها".
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى المصنف.
(6)
تفسير مجاهد ص 259، وأخرجه ابن أبى شيبة 12/ 261 من طريق ابن أبي نجيح به.
مُسَوِّمِينَ}. قال: مَجْزوزةً أذنابُها وأعرافُها، فيها الصوفُ أو العِهْنُ، فذلك التسويمُ.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مُسَوِّمِينَ} : ذُكِر لنا أن سِيماهم يومَئذٍ الصوفُ بنواصى خيلِهم وأذنابِها، وأنهم على خيلٍ بُلْقٍ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{مُسَوِّمِينَ} . قال: كان سِيماها صُوفًا فى نواصِيها
(2)
.
حُدِّثت عن عَمَّارٍ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن لَيثٍ، عن مجاهدٍ، أنه كان يقولُ:{مُسَوِّمِينَ} . قال: كانت خيولهُم مَجْزوزةَ الأعرافِ، مُعَلَّمةً نواصِيها وأذنابُها بالصوفِ والعِهْنِ
(3)
.
حُدِّثت عن عَمَّارٍ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، كانوا يومَئذٍ على خَيْلٍ بُلْقٍ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا جويبرٌ، عن الضحاكِ وبعضِ أشياخِنا، عن الحسنِ، نحوَ حديثِ مَعْمَرٍ، عن قتادةَ
(5)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، السُّدَّيِّ:{مُسَوِّمِينَ} : مُعَلِّمِينَ
(6)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 130 وفيه زيادة: "وأذنابها".
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 754 (4109) من طريق أبى جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 70 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى المصنف.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور 3/ 1089 (524 - تفسير) من طريق جويبر به بمعناه.
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 2/ 580.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَهُ:{بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} : فإنهم أَتَوا محمدًا النبىَّ صلى الله عليه وسلم مُسوّمين بالصوفِ، فَسَوَّم محمدٌ وأصحابُه أنفسَهم وخَيلَهم على سِيماهم بالصوفِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، قال: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرُوةَ، عَن عَبَّادِ بنِ حمزةَ، قال: نَزَلَت الملائكةُ فى سِيما الزبيرِ، عليهم عَمائمُ صُفْرٌ، وكانت عِمامةُ الزبيِر صَفراءَ
(2)
.
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{مُسَوِّمِينَ} . قال: بالصوفِ في نواصِيها وأذنابِها.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن هشامِ بنِ عُروةَ، قال: نَزَلَت الملائكةُ يومَ بدرٍ على خيلٍ بُلْقٍ، عليهم عَمائمُ صُفْرٌ، وكان على الزبيرِ يومَئذٍ عِمامةٌ صفراءُ
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ يحيى الصُّوفىُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ شَرِيكٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا هشامُ بنُ عُروةَ، عن عُروةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ الزبيِر، أن الزبيرَ كانت عليه مُلاءةٌ صفراءُ يوم بدرٍ، فاعتمَّ بها؛ فنَزَلَت الملائكةُ يومَ بدرٍ على نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 754 (4112) عن محمد بن سعد به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2530) ابن أبي شيبة 12/ 261، 14/ 377، وأحمد في فضائل الصحابة (1268) وابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 755 (4112)، وابن عساكر في تاريخه 18/ 354 من طريق هشام به بنحوه.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 131، وأخرجه ابن سعد 3/ 103، وأحمد في الفضائل (1269)، والطبراني (230)، وابن عساكر 18/ 354 من طريق هشام عن أبيه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى عبد بن حميد، ووقع فى مصادر التخريج: هشام بن عروة عن أبيه.
مُعْتمِّين بعَمائمَ صُفْرٍ
(1)
.
فهذه الأخبارُ التي ذكَرنا بعضها عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابِه: "تَسَوَّمُوا فإن الملائكةَ قد تَسَوَّمَتْ". وقولُ أبى أُسَيْدٍ: خَرَجَت الملائكةُ فى عمائمَ صُفْرٍ قد طَرَحوها بيَن أكتافِهم. وقولُ مَن قال منهم: {مُسَوِّمِينَ} . مُعَلِّمِين. يُنْبِئُ جميعُ ذلك عن صحةِ ما اختَرنا من القراءةِ فى ذلك، وأن التَّسويَم كان من الملائكةِ بأنفسِها، على نحوِ ما قلنا في ذلك فيما مضَى.
وأما الذين قرَءوا ذلك: (مُسَوَّمِينَ). بالفتحِ، فإنهم أُرَاهم تأوَّلوا في ذلك ما حدَّثنا به حُمَيدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن عثمانً بنِ غِياثٍ: عن عن عِكْرمة: (بخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُسَوَّمِين). يقولُ: عليهم سيما القتالِ
(2)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُسَوَّمِين). يقولُ: عليهم سِيما القتالِ، وذلك يومَ بدرٍ، أَمَدَّهم اللهُ بخمسةِ آلافٍ من الملائكةِ مُسَوَّمين
(3)
.
[حُدِّثتُ عن عمارٍ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}]
(4)
. يقولُ: عليهم سيما القتالِ.
فقالوا: كان سيما القتالِ عليهم، لا أنهم كانوا تَسَوَّموا بسيما فيُضافُ إليهم التسويمُ. فمن أجلِ ذلك قرَءوا:(مسوَّمين). بمعنى أن اللهَ تعالى أضاف التسويمَ إلى
(1)
أخرجه ابن عساكر 18/ 353 من طريق أحمد بن يحيى الصوفى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 70 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 755 عقب الأثر (4115) عن عكرمة معلقا، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 2/ 70 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم 3/ 755 (4115) إلى قوله: "القتال" من غير هذا الطريق، وذكره ابن كثير فى تفسيره 2/ 94. و أخرج ابن أبى حاتم باقيه في 3/ 754 (4105) من طريق يزيد به
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
مَن سَوَّمهم تلك السِّيما.
والسِّيما: العلامةُ، يقالُ: هي سيما حسنةٌ، وسِيمياءُ حسنةٌ. كما قال الشاعرُ
(1)
:
غُلامٌ رَماه اللهُ بالحُسْنِ يافِعًا
…
له سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ
يعنى بذلك: علامةٌ مِن حُسْنٍ. فإذا أَعْلَمَ الرجلُ نفسَه
(2)
بعلامةٍ يُعْرَفُ بها في حربٍ أو غيرِها، قيل: سَوَّم نفسَه. فهو يُسَوِّمُها تَسْوِيمًا.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} .
يعنى تعالى ذكرُه: وما جعَل اللهُ وعدَه إياكم ما وعَدكم، من إمدادِه إياكم بالملائكةِ الذين ذكَر عددَهم {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ}. يعنى بُشْرَى يُبَشِّرُكم بها. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}. يقولُ: وكى تَطْمَئِنَّ بوعدِه الذى وعَدكم من ذلك قلوبُكم، فتَسْكُنَ إليه، ولا تَجْزَعَ من كثرةِ عددِ عدوِّكم، وقلةِ عددِكم. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. يعنى: وما ظَفَرُكم إن ظَفِرْتم بعدوِّكم إلا بعونِ اللهِ، لا من قِبَلِ المَدَدِ الذى يأتيكم من الملائكةِ. يقولُ تعالى ذكرُه: فعلى اللهِ فتوكَّلوا، وبه فاستَعِينوا، لا بالجموعِ وكثرةِ العددِ، فإنَّ نَصْرَكم إن كان، إنما يكونُ باللهِ وبعونِه، و
(3)
معكم من ملائكتِه خمسةُ آلافٍ، فإنه إلى أن يكونَ ذلك بعونِ اللهِ وبتقويتِه إياكم على عدوِّكم -وإن كان معكم من البَشَرِ جموعٌ كثيرةٌ- أَخْرَى
(4)
، فاتَّقوا اللهَ واصبِروا على جهادِ عدوِّكم، فإن اللَّهَ ناصِرُكم عليهم.
كما حدَّثنا محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا
(1)
تقدم في 5/ 27.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"غيره".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أخرى".
عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ} . يقولُ: إنما جعَلهم لتَسْتبشِروا بهم، ولِتَطْمَئِنُّوا إليهم. ولم يُقاتِلوا معهم يومَئذٍ -يعنى يومَ أُحُدٍ- قال مجاهدٌ: ولم يُقاتِلوا معهم يَومئذٍ ولا قبلَه ولا بعدَه، إلا يومَ بدرٍ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} : لمِا أعرِفُ من ضَعْفِكم، وما النصرُ إلا من [عندى بسُلْطانى وقُدْرتى]
(2)
، وذلك [أن العِزَّ والُحكمَ إليَّ]
(3)
لا إلى أحدٍ من خَلقِى
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : لو شاء اللهُ أن يَنْصُرَكم بغيرِ الملائكةِ فَعَل، {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
(5)
.
وأما معنى قولِه: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . فإنه جلّ ثناؤه يعنى: العزيزُ فى انتقامِه من أهلِ الكفرِ به بأيدى أوليائِه من أهلِ طاعتهِ، الحكيمُ في تَدْبيرِه لكم أيُّها المؤمنون على أعدائِكم من أهلِ الكفرِ، وغيرِ ذلك من أمورِه. يقولُ: فأبْشِروا أيُّها المؤمنون بتَدْبيرى لكم على أعدائِكم، ونَصْرى إياكم عليهم، إن أنتم أَطَعْتُموني فيما أمَرْتُكم به، وصَبَرْتم لجهادِ عدوِّى وعدوِّكم.
(1)
تفسير مجاهد ص 259، ومن طريقه أخرج بعضه ابن أبى حاتم فى تفسيره 5/ 1663 (8830، 8831)، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
فى ت 2، س:"عند الله وسلطانه وقدرته".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"أن العرف الحكمة التى". وفى م: "أنى أعرف الحكمة التي". وفى س: " أن العز والحكمة إلى".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 108، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 5/ 1663 من طريق سلمة به.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى المصنف.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: ولقد نصَركم اللهُ ببدرٍ؛ ليقطَعَ طرفًا من الذين كفَروا. ويعنى بالطَرَفِ الطائفةَ والنَّفَرَ، يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد نَصَركم اللهُ ببدرٍ كَيْمَا
(1)
يُهْلِكَ طائفةً من الذين كفَروا باللهِ ورسولِه، فجَحَدوا وحدانيةَ ربِّهم، ونُبوَّةَ نبيِّهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
كما حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . فقَطَع اللَّهُ يومَ بدرٍ طَرفًا من الكفارِ، وقَتَل صَناديدَهم ورؤساءَهم، وقادتَهم فى الشرِّ
(2)
.
حُدِّثت عن عَمَّارٍ، عن ابنِ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ نحوَه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحَنفىُّ، عن عَبَّادٍ، عن الحسنِ، في قولِه:{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية كلّها. قال: هذا يومَ بدرٍ، قَطَع اللَّهُ طائفةً منهم، وبَقِيت طائفةٌ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، [عن ابنِ إسحاقَ]
(5)
: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . أى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا من المشركين بقَتْلٍ يَنْتَقِمُ به منهم
(6)
.
(1)
في م: "كما".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 756 (4120) من طريق يزيد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 756 بعد الأثر السابق من طريق عبد الله بن أبي جعفر به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم 3/ 755 (4119) من طريق أبي بكر الحنفى به.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 108، وأخرجه ابن أبي حاتم 3/ 756 (4122) من طريق سلمة به.
وقال آخرون: بل معنى ذلك، وما النصرُ إلا من عندِ اللَّهِ؛ ليَقطَّعَ طَرَفًا من الذين كفروا. وقال: إنما عُنِى بذلك مَن قُتِل بأُحُدٍ.
ذكرُ من قال ذل ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّىِّ، قال: ذكَر اللهُ قَتْلى المشركين -يعنى بأُحُدٍ- وكانوا ثمانيةَ عشَرَ رجلًا، فقال:{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . ثم ذكَر الشهداءَ فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} . الآية [آل عمران: 169]
(1)
.
وأما قولُه: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} . فإنه يعنى بذلك: أو يُخْزِيَهم بالخيبةِ مما
(2)
رَجَوا من الظَّفَرِ بكم. وقد قيل: إن معنى قولِه: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} : أَو يَصْرَعَهم لوجوهِهم. ذَكَر بعضُهم أنه سَمِع العربَ تقولُ: كَبَتَه اللهُ لوجهِه، بمعنى: صَرَعَه اللَّهُ.
فتأويلُ الكلامِ: ولقد نصَركم اللهُ ببدرٍ؛ ليُهْلِكَ فريقًا من الكفارِ بالسيفِ، أو يُخْزِيَهم، بخيبتِهم مما طَمِعوا فيه من الظَّفرِ بكم، {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}. يقولُ: فيرجِعوا عنكم خائبِين، لم يُصِيبوا منكم شيئًا مما رَجَوا أن يَنالوه منكم.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} : أو يَرُدَّهم خائِبين. أى
(3)
: يَرجِعُ مَن بَقِى منهم فَلًّا
(4)
خائبين،
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 70 إلى المصنف.
(2)
في م: "بما".
(3)
في النسخ: "أو"، والمثبت من مصدرى التخريج.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، س. وضرب عليه في ص. والفلُّ: القوم المنهزمون، من الفل: الكسر، وهو مصدر سمى به، ويقع على الواحد والاثنين والجمع. النهاية 3/ 473.
لم يَنالوا شيئًا مما كانوا يَأْمَلون
(1)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} . يقولُ: يُخْزيَهم {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}
(2)
.
حُدِّثت عن عَمَّارٍ، عن ابنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ليَقْطَعَ طَرَفًا من الذين كفَروا، أو يكبتَهم، أو يتوبَ عليهم، أو يعذبَهم، فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمرِ شيءٌ. فقولُه:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} . منصوبٌ عطفًا على قولِه: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} .
وقد يَحتمِلُ أن يكونَ تأويلُه: ليس لك من الأمرِ شيءٌ حتى يتوبَ عليهم. فيكونَ نصبُ {يَتُوبَ} بمعنى "أو" التي هي في معنى "حتى".
والقولُ الأولُ أولى بالصوابِ؛ لأنه لا شيءَ من أمرِ الخلقِ إلى أحدٍ سوى خالقِهم قبلَ توبةِ الكفارِ وعقابِهم، وبعدَ ذلك.
وتأويلُ قولِه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} : ليس إليك يا محمدُ من أمرِ خلقى إلا أن تُنفِذَ فيهم أمرى، وتَنتهىَ فيهم إلى طاعتى، وإنما أَمْرُهم إليَّ، والقضاءُ فيهم بيدى دونَ غيرِى، أقضِى فيهم، وأحكمُ بالذى أشاءُ، من التوبةِ على من كفَر
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 108، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 756 (4123) من طريق سلمة به.
(2)
ذكره ابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 756 عقب الأثر (4121) معلقا.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 756 (4121) من طريق ابن أبي جعفر به.
بي وعَصاني، وخالَف أمرى، أو العذابِ؛ إما في عاجلِ الدنيا بالقتلِ والنِّقَمِ المُبِيرةِ، وإما فى أجلِ الآخرةِ، بما أعددتُ لأهلِ الكفرِ بى.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: ثم قال لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . أى: ليس لك من الحكمِ شيءٌ في عبادي، إلا ما أمَرْتُك به فيهم، أو أتوبَ عليهم برحمتى، فإن شئتُ فعلتُ، أو أعذبَهم بذنوبِهم، {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. أى: قد استحقوا ذلك بمعصيتِهم إياى
(1)
.
وذُكِر أن اللهَ عز وجل إنما أنزَل هذه الآيةَ على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لماَّ أصابه بأُحُدٍ ما أصابَه من المشركين، قال كالآيسِ لهم من الهدى، أو من الإنابةِ إلى الحقِّ: "كيف يُفْلِحُ
(2)
قومٌ فعلوا هذا بنبيِّهم؟ ".
ذكرُ الروايةِ التي ورَدت بذلك
حدَّثنا حُمَيدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا حَمَيدٌ، قال: قال أنسٌ: قال النبُّي صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُدٍ، وكُسِرَت رَباعِيتُه، وشُجَّ، فجعَل يَمْسَحُ عن وجهِه الدمَ، ويقولُ: "كيف يُفْلِحُ
(3)
قومٌ خَضَّبوا نبيَّهم بالدمِ، وهو يَدْعوهم إلى ربِّهم؟ ". فأُنْزِلت:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(4)
.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 108، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 757، 758 (4129، 4130، 4131) من طريق سلمة به.
(2)
في ت 1، ت 2:"يصلح".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"يصلح".
(4)
أخرجه أحمد 20/ 213، 214، 364 (12831، 13083)، وابن ماجه (4027)، والترمذى (3003)، والنسائي (11077 - كبرى)، والواحدى فى أسباب النزول ص 89، والبغوى (3748) من طريق ابن حميد به.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابن أبى عدىٍّ، عن حُمَيدٍ، عن أنسٍ، عن النبِّي صلى الله عليه وسلم نحوِه
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن حُمَيدٍ الطويلِ، عن أنسٍ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(2)
.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليَرْبوعىُّ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ، عن حُمَيدٍ الطويلِ، عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شُجَّ فِي جَبْهِتِه، و كُسِرَت رَباعَيَتُه:"لا يُفْلِحُ قومٌ صنَعوا هذا بنبيِّهم". فأوحَى اللهُ إليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا ابنُ عونٍ، عن الحسنِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يومَ أُحُدٍ: "كيف يُفْلِحُ قومٌ دمَّوا وَجْهَ نبيِّهم وهو يَدْعوهم إلى اللَّهِ عز وجل؟ ". فنزَلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(4)
.
حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن حُمَيدٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَ ذلك
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد 3/ 206 (13160) عن ابن أبى عدى به.
(2)
أخرجه ابن سعد 2/ 44، وأحمد 19/ 20 (11956)، والترمذى (3002) وابن حبان (6574)، وأبو يعلى (3738) من طريق هشيم به.
(3)
أخرجه الطحاوى فى المشكل (571) وابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 756 (4124) من طريق أبي بكر بن عياش به.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 71 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه النسائى فى الكبرى (11077) من طريق ابن علية به.
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . ذُكِر لنا أن هذه الآيةَ أُنزِلت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ، وقد جُرح نبىُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم في وَجْهِه، وأُصِيب بعضُ رَبَاعيَتِه، فقال -وسالمٌ مولى أبي حُذَيفةَ يَغسِلُ عن وَجْهِه الدمَ-:"كيف يُفْلِحُ قومٌ خَضَّبوا وَجْةَ نبيِّهم بالدمِ وهو يَدْعوهم إلى ربِّهم؟ ". فأنزَل اللهُ عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن مَطَرٍ، عن قتادةَ، قال أُصِيب النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ، وكُسِرَت رَباعِيتُه، وفَرْقُ
(2)
حاجبِه، فوقَع، وعليه دِرْعان، والدمُ يسيلُ، فمَرَّ به سالمٌ مولى أبى حُذَيفةَ، فأجلَسه، ومَسَح الدمَ
(3)
عن وَجْهِه، فأفاقَ وهو يقولُ:"كيف بقومٍ فَعَلوا هذا بنبيِّهم، وهو يَدْعوهم إلى اللهِ؟ ". فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .
حُدِّثت عن عَمَّارٍ، قال: ثنا ابنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه قولَه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. قال: قال الربيعُ بنُ أنسٍ: نزَلت هذه الآيةُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُدٍ وقد شُجَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في وَجْهِه، وأُصِيبت رَباعِيَتُه، فَهَمَّ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَن يَدْعُوَ عليهم، فقال: "كيف يُفْلِحُ قومٌ أدمَوا وَجْهَ نبيِّهم، وهو يَدْعوهم إلى اللهِ وهم يَدْعونه إلى الشيطانِ، ويَدْعوهم إلى الهُدى، ويَدْعونه إلى الضلالةِ، ويَدْعوهم إلى
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 71 إلى المصنف.
(2)
فى الأصل، ص:"فوق". والفرق: الفصل بين الشيئين، وموضع المفرق من الرأس. وفَرْق الرأس: ما بين الجبين إلى الدائرة. وفرق الحاجب: لعله موضع افتراق الحاجبين. وينظر اللسان (ف ر ق) وسيأتى عن ابن عباس: "شج النبي صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
الجنةِ، ويَدْعونه إلى النارِ؟ ". فَهمَّ أن يَدْعُوَ عليهم، فأنزَل اللهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . فَكَفَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الدعاءِ عليهم
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحَنَفىُّ، قال: ثنا عَبَّادٌ، عن الحسنِ، في قولِه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية كلّها. قال: جاء أبو سفيانَ من الحولِ غضبانَ لِما صُنع بأصحابِه يوم بدرٍ، فقاتَل أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ قِتالاً شديدًا، حتى قُتِل منهم بعددِ الأُسارى يومَ بدرٍ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كلمةً عَلِم اللهُ أنها قد خالَطَت غَضَبًا:"كيف يُفْلِحُ قومٌ خَضَّبوا وَجْهَ نبيِّهم بالدمِ وهو يَدْعوهم إلى الإسلامِ؟ ". فقال اللهُ عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، أن رَباعيةَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أُصِيبت يومَ أُحُدٍ، أصابَها عُتْبةُ بن أبي وَقَّاصٍ، وشَجَّه فى وَجْهِه، وكان سالمٌ مولى أبي حُذَيفةَ يَغْسِلُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الدمَ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"كيف يُفْلِحُ قومٌ صَنَعوا بنبيِّهم هذا؟ ". فأنزَل اللهُ عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن الزهرىِّ، وعن عثمانَ الجزَرِيِّ، عن مِقْسَم، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَعا على عُتْبَةَ بنِ أبي وَقَّاصٍ يومَ أحدٍ حيَن كسَر رَباعيتَه، ووَثَأ
(3)
وجهَه، فقال: "اللهمَّ لا تُحِلْ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 71 إلى المصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 131، وأخرجه ابن سعد 2/ 45 من طريق معمر به. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 2/ 71 إلى ابن المنذر.
(3)
الوثء: الضربُ حتى يرهص الجلد واللحم ويصل الضرب إلى العظم من غير أن ينكسر. اللسان (وثأ).
عليه الحولَ حتى يموتَ كافرًا". قال: فما حالَ عليه الحولُ حتى مات كافرًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابنُ عباسٍ: شُجَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم في فَرْقِ حاجبِه، وكُسِرَت رَباعِيَتُه. قال ابنُ جُرَيجٍ: ذُكِر لنا أنه لمَّا جُرح، جعَل سالمٌ مولى أبي حُذَيفةَ يغسِلُ الدمَ عن وَجْهِه، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"كيف يُفْلِحُ قومٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نبيِّهم بالدمِ وهو يَدْعوهم إلى اللهِ". فأنزَل اللهُ عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
وقال آخرون: بل نزَلَت هذه الآيةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه دَعا على قومٍ، فأنزَل اللهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثني يحيى بنُ حبيبِ بنِ عربىٍّ، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا محمدُ ابنُ عَجْلانَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَدْعو على أربعةِ نَفَرٍ، فأنزَل اللهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . قال: وهَداهم اللُه للإسلامِ
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ سَلْمُ بنُ جُنادةَ، قال: ثنا أحمدُ بنُ بشيرٍ
(3)
، عن عمرَ بنِ حمزةَ، عن سالمٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ الْعَنْ أَبا سُفيانَ،
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 131، وفى مصنفه (9649)، ومن طريقه النحاس في ناسخه ص 289، والبيهقي في الدلائل 3/ 265.
(2)
أخرجه أحمد 10/ 76 (5813)، والترمذى (3005)، وابن خزيمة (623)، وابن حبان (1988) من طريق ابن حبيب به. وأخرجه أحمد 10/ 75 (5812)، وابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 757 (4128) من طريق خالد بن الحارث به، وأخرجه الطحاوى فى المشكل (568) من طريق ابن عجلان به.
(3)
فى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سفيان". ينظر تهذيب الكمال 1/ 273.
اللهمَّ الْعَنْ الحارثَ بنَ هشامٍ، اللهمَّ الْعَنْ صَفوانَ بنَ أُمَيَّةَ". فَنَزَلَت:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(1)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ كعبٍ، عن أبى بكرِ بنِ عبد الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، قال: صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الفجرَ، فلمَّا رفَع رأسَه من الركعةِ الثانيةِ، قال:"اللهمَّ أَنْجِ عَيَّاش بنَ أبي ربيعةَ، وسَلَمةَ بنَ هشامٍ، والوليدَ بنَ الوليدِ، اللهمَّ أنْجِ المُستضعفين من المسلمين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، اللهمَّ سنينَ كسنينِ آلِ يوسفَ". فأَنزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية
(2)
.
وحدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: أخبَرنى يونسُ بنُ يزيد، عن ابنِ شهابٍ، أخبَره عن سعيدِ بنِ المسيبِ، وأبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، أنهما سَمِعا أبا هريرةَ يقولُ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ حينَ يَفْرَعُ في صلاةِ الفجرِ من القراءةِ، ويُكَبِّرُ ويرفَعُ رأسَه:"سَمِع اللهُ لمَن حمِده، ربَّنا ولك الحمدُ". ثم يقولُ وهو قائمٌ: "اللهمَّ أنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسَلَمةَ بنَ هشامٍ، وعَيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، والمَستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم كَسِنى يوسفَ، اللهمَّ الْعَن لِحْيانَ ورِعْلًا وذَكْوانَ وعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ ورسولَه". ثم بَلَغَنا أنه ترَك ذلك لمَّا أُنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذى (3004) عن أبى السائب به، وأخرجه أحمد 9/ 486 (5674) من طريق عمر بن حمزة به. وأخرجه البخارى (4069) من طريق سالم بنحوه.
(2)
أخرجه الطحاوى 1/ 242 وفى المشكل (569) من طريق ابن إسحاق به.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار مسند ابن عباس 1/ 323 (539)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 757 (4126)، والطحاوي في شرح معانى الآثار 1/ 241، وأبو عوانة 2/ 280 والنحاس في ناسخه ص 90 =
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ليس لك يا محمدُ من الأمرِ شيءٌ، وللهِ جميعُ ما بينَ أقطارِ السمواتِ والأرضِ من مَشْرقِ الشمسِ إلى مَغْربِها، دونَك ودونَهم، يحكمُ فيهم بما شاء، ويَقْضى فيهم ما أحَبَّ، فيتوبُ على مَن أحبَّ من خلقِه العاصين أمرَه ونَهْيَه، ثم يغفرُ له، ويعاقِبُ مَن شاء منهم على جُرْمِه، فيَنْتَقِمُ منه، وهو الغفورُ، الذى يسترُ ذنوبَ مَن أحبَّ أن يسترَ عليه ذنوبَه من خلقِه، بتَفَضُّلِه
(1)
عليهم بالعفوِ والصفحِ، والرحيمُ بهم في تَرْكِه عقوبتَهم عاجِلاً على عظيمِ ما يَأْتون من المآثمِ.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أى يغفرُ الذنوبَ، ويرحَمُ العبادَ على ما فيهم
(2)
.
القولُ في تأويل قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: يا أيُّها الذين آمَنوا باللَّهِ ورسولِه، لا تأكُلوا الربا في إسلامِكم، بعدَ إذ هَداكم له، كما كنتم تأكُلونه في جاهليتِكم. وكان أَكْلُهم ذلك في جاهليتِهم، أن الرجلَ منهم كان يكونُ له على الرجلِ مالٌ إلى أجلٍ، فإِذا حَلَّ الأجلُ طَلَبه من صاحبِه، فيقولُ له الذى عليه المالُ: أَخَّرْ عنى دَيْنَكَ، وأَزِيدُك على مالِك. فيفعَلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافاً مُضاعفةً، فنَهاهم الله عز وجل في إسلامِهم عنه.
= عن يونس بن عبد الأعلى به. وأخرجه مسلم (294/ 675)، وابن حبان (1972)، والبيهقي 2/ 197 من طريق ابن وهب به. وأخرجه أحمد 12/ 431 (7465)، والبخارى 6/ 47 (4560)، وابن خزيمة (619)، وأبو عوانة 2/ 280، والطحاوى 1/ 242 وغيرهم من طريق الزهرى به.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بفضله".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 108، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 758 (4136، 4137) من طريق سلمة به.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ (1)، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: كانت ثقيفُ تَدَّاينُ فى بنى المغيرةِ فى الجاهليةِ، فإذا حَلَّ الأجلُ قالوا: نَزِيدُكم وتؤخِّرون، فنزَلت:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . أى: لا تأكُلوا في الإسلامِ، إذ هَداكم اللهُ له، ما كنتم تأكُلون إذ أنتم على غيرِه، مما لا يَحِلُّ لكم فى دينِكم
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، فى قولِ اللهِ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . قال: رِبا الجاهليةِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: سمِعتُ ابنَ زيدٍ يقولُ في قولِه: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . قال: كان أَبِي يقولُ: إنما كان الرِّبا في الجاهليةِ فى التضعيفِ وفى السِّنِّ، يكونُ للرجلِ فضلُ دَيْنٍ، فيَأتيه إذا حلَّ الأجلُ، فيقولُ له:[تَقْضِى أو تُرْبى]
(4)
؟ فإن كان عندَه شيءٌ يَقْضيه قضَى، وإلا حوَّله إلى السِّنِّ التي فوقَ ذلك، إن كانت ابنةَ مَخاضٍ جَعَلها ابنةَ لبونٍ فى السنةِ الثانيةِ، ثم حِقَّةً، ثم جَذَعةً، ثم رَبَاعِيًا، ثم هكذا إلى فوقَ. وفى العَيْنِ، يأتيه، فإن لم يكنْ عندَه أضعَفه فى العامِ القابلِ، فإن لم يكنْ عندَه أضعَفه أيضًا، تكونُ مائةٌ،
(1 في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سنان". وهو تصحيف.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 109.
(3)
تفسير مجاهد ص 259. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 759 (4139) من طريق ابن أبي نجيح به.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، س:"تقضنى أو تزدنى"، وفى م، ت 3:"تقضيني أو تزيدني".
فيجعلُها إلى قابلٍ مائتين، فإن لم يكنْ عندَه جعَلها
(1)
أربعَمائةٍ، يُضعِفُها له كلَّ سنةٍ، أو يَقْضيه. قال: فهذا قولُه: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .
وأما قولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فإنه يعنى: واتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون في أمرِ الربا فلا تأكُلوه، وفى غيرِه مما أمَركم به، أو نَهاكم عنه، وأطِيعوه فيه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. يقولُ: لتنجَحوا فتَنْجُوا من عِقابِه، وتُدْرِكوا ما رَغَّبكم فيه من ثوابِه، والخلودِ في جِنانِه.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . أى: فأطِيعوا اللَّهَ لعلكم أن تَنْجُوا مما حَذَّركم من عذابِه، وتُدْرِكوا ما رَغَّبكم فيه من ثوابِه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} .
يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين: واتقوا أيُّها المؤمنون النارَ -أن تَصْلَوها بأكْلِكم الربا، بعدَ نَهْيِي إياكم عنه- التي أَعْدَدتُها لمَن كفَر بى، فتدخُلوا مَداخِلَهم
(3)
-بعدَ إيمانِكم بي- بخلافِكم أمرى، وتَرْكِكم طاعتى.
كما حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . أى: التي جُعِلَت دارًا لمن كفَر بي
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: وأطِيعوا اللهَ أيُّها المؤمنون فيما نَهاكم عنه من أكْلِ الربا
(1)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"جعله".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 109. وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 760 (4146) من طريق سلمة به.
(3)
في ص: "مدخلهم".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 109، وأخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 3/ 760 (4150) من طريق سلمة به.
وغيرِه من الأشياءِ، وفيما [أمَركم به. {وَالرَّسُولَ}]
(1)
. يقولُ: وأطِيعوا الرسولَ أيضًا كذلك. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . يقولُ: لتُرْحَموا فلا تُعَذَّبوا.
وقد قيل: إن ذلك مُعاتبةٌ من اللهِ عز وجل أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذين خالَفوا أَمْرَه يومَ أُحُدٍ، فأَخَلُّوا بمراكزِهم التي أُمِروا بالثباتِ عليها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : مُعاتبةٌ للذين عَصَوا رسولَه صلى الله عليه وسلم حيَن أمَرهم بما
(2)
أمَرهم به فى ذلك اليومِ وفي غيرِه
(3)
. يعنى في يومِ أُحُدٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَسَارِعُوا} : وبادِروا وسابِقوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . يعنى: إلى ما يسترُ عليكم ذنوبَكم من رحمتِه، وما يُغَطِّيها عليكم من عَفْوِه عن عُقوبتِكم عليها، {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}. يعنى: وسارِعوا أيضًا إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ. ذُكِر لنا أن معنى ذلك: وجنةٍ عرضُها كعرضِ السماواتِ السبعِ، والأرَضينَ السبعِ، إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعضٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
فى م: "أمركم به الرسول".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س. "مما"، وفي م:"بالذي".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 109، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 761 (4152) من طريق سلمة به.
السُّدّى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} . قال: قال ابنُ عباسٍ: تُقْرَنُ السماواتُ السبعُ والأرَضون السبعُ، كما تُقْرَنُ الثيابُ بعضُها إلى بعضٍ، فذاك عرضُ الجنةِ
(1)
.
وإنما قيل: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} . فوصَف عرضَها بالسماواتِ السبعِ
(2)
والأرضينَ
(3)
السبعِ (2)، والمعنى ما وصَفنا من وَصْفِ عرضِها بعرضِ السماواتِ والأرضِ، تَشْبيهًا به في السَّعَةِ والعِظَمِ، كما قيل:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]. يعنى إلا كبَعْثِ نفسٍ واحدةٍ. وكما قال الشاعرُ
(4)
:
كأَنَّ عَذِيرَهِمْ
(5)
بِجَنُوبِ سِلَّى
(6)
…
نعَامٌ فَاقَ
(7)
في بلدٍ قِفَارِ
أى عَذِيرُ نعامٍ. وكما قال الأخرُ
(8)
:
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتي عَنَاقًا
…
وما هى وَيْبَ غَيرِكَ بالعَنَاقِ
يريدُ صوتَ عَنَاقٍ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 72 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ص، م.
(3)
في الأصل، ص:"الأرض".
(4)
نسبه سيبويه والأعلم وابن منظور فى اللسان إلى النابغة الجعدى، ونسبه ياقوت في معجم البلدان وابن برى -كما نقله عنه في اللسان- إلى شقيق بن جزء الباهلي.
والبيت في الكتاب 1/ 214، والكامل 3/ 322، ونكت الأعلم 1/ 313، واللسان (س ل ل، ق و ق)، وشعر النابغة الجعدى ص 242، ومعجم البلدان 3/ 109، 110.
(5)
في الكامل واللسان (ق و ق): "غديرهم" بالغين المعجمة والدال المهملة على الجمع، وفي معجم البلدان "غديرها" والعذير: الحال، أراد: عذير نعام، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وزعم الأعلم أن العذير هنا الصوت.
(6)
سلى، بكسر أوله وتشديد ثانيه وقصر الألف: ماء لبنى ضبة باليمامة. معجم البلدان 3/ 109.
(7)
قاق النعام: صوّت. اللسان (ق و ق).
(8)
تقدم في 2/ 265، 591، 3/ 76.
وقد ذُكِر أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ فقيل له: هذه الجنةُ عرضُها
(1)
السماواتُ والأرضُ، فأين النارُ؟ فقال:"هذا النهارُ إذا جاء، أين الليلُ؟ ".
ذكرُ الأخبارِ بذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وغيرِه
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: أخبَرني مسلمُ بنُ خالدٍ، عن ابنِ خُثَيمٍ، عن سعيدِ بنِ أبي راشدٍ، [عن يَعْلَى بنِ مُرَّةَ]
(2)
، قال: لَقِيتُ التَّنُوخِي رسولَ هِرَقْلَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم و بِحمْصَ شيخاً كبيرًا، قد فَنِد
(3)
، قال: قَدِمتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْلَ، فناوّل الصحيفةَ رجلًا عن يسارِه. قال: قلت: مَن صاحبُكم الذى يَقْرَأُ؟ قالوا: معاويةُ، فإذا [كتابُ صاحبى]
(4)
: إنك كتبتَ تدعونى إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ
(5)
فأين النارُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "سبحانَ اللَّهِ! فأين الليلُ إذا جاء النهارُ؟ "
(6)
.
(1)
بعده في الأصل: "كمثل".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يعلى بن أبى مرة". وهو يعلى بن مرة الثقفى يروى عنه سعيد بن أبي راشد. وسقط هذا الراوى من مسند الإمام أحمد حيث ساقه من قول سعيد بن أبي راشد. وسعيد بن أبي راشد هذا يروى عن يعلى وعن التنوخى مباشرة كما في تهذيب الكمال 10/ 426. ورأى الشيخ شاكر أن ذكر يعلى مقحم فى هذا السند. ونقله ابن كثير في تفسيره عن الطبري كالذي هنا. فالله أعلم. وينظر تفسير الطبرى بتحقيق الشيخ شاكر 7/ 209 - 211.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"مد". وفى م: "أقعد". وعند ابن كثير: "فسد". وصوبناه من لفظ المسند: "بلغ الفند". والفند بالتحريك: الخرف وإنكار العقل لهرم أو مرض. التاج (ف ن د).
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كان"، وفى م:"هو". والمثبت من المسند وتفسير ابن كثير.
(5)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أعدت للمتقين".
(6)
أخرجه أحمد 24/ 416 - 419 (15655)، وابن زنجويه فى الأموال (104)، وعبد الله بن أحمد فى الزوائد 27/ 242 - 245 (16693، 16694)، وأبو يعلى (1597) من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم به بدون ذكر يعلى.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهدىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، أن ناسًا من اليهودِ سألوا عمرَ بنَ الخطابِ، عن جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ، أين النارُ؟ قال: أرأيتم إذا جاء الليلُ أين يكونُ النهارُ؟ فقالوا: اللهمَّ نَزَعتَ بمثله
(1)
من التوراةِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قيسِ ابنِ مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ: أن عمرَ أتاه ثلاثةُ نَفَرٍ من أهلِ نجرانَ، فسألوه، وعندَه أصحابهُ، فقالوا: أرأيتَ قولَه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ} . فأين النارُ؟ فأحجَم الناسُ، فقال عمرُ: أرأيتم إذا جاء الليلُ، أين يكونُ النهارُ؟ وإذا جاء النهارُ، أين يكون الليلُ؟ فقالوا: لقد نَزَعْتَ مثلَها من التوراةِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: وأخبَرنا شعبةُ، عن إبراهيمَ
(4)
بن مُهاجرٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، عن عمرَ، بنحوِه في الثلاثةِ الرَّهْطِ الذين أتَوا عمرَ، فسألوه عن جنةٍ عرضُها كعرضِ السماواتِ والأرضِ، بمثلِ حديثِ قيسِ بنِ مسلمٍ.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا الأعمشُ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، قال: جاء رجلٌ من اليهودِ إلى عمرَ، فقال: تقولون: جنةٌ عرضُها السماواتُ والأضُ، أين تكونُ النارُ؟ فقال له عمرُ: أرأيتَ النهار إذا جاء، أين يكونُ الليلُ؟ أرأيتَ الليلَ إذا جاء، أين يكونُ النهارُ؟ فقال: إنه
(1)
فى م: "مثله". ونزعت بمثله، يعنى: جئت بما يشبهها. ينظر النهاية 5/ 41.
(2)
ذكره بن كثير في تفسيره 2/ 99 عن سفيان، وعزاه السيوطى فى الدر 2/ 72 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 99 نقلا عن المصنف من طريق شعبة.
(4)
فى م: "ابن إبراهيم". وينظر تهذيب الكمال 2/ 211.
لَمِثْلُها في التوراةِ. فقال له صاحبُه: لم أخبرتَه؟ فقال [له صاحبُه]
(1)
: دَعْه إنه بكلٍّ مُوقِنٌ
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: أخبَرنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ بُرْقانَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ
(3)
الأصَمِّ، أن رجلًا من أهلِ الكتابِ أتَى ابنَ عباسٍ، فقال: تقولون: جنةٌ عرضُها السماواتُ والأرضُ، فأين النارُ؟ فقال ابن عباسٍ: أرأيتَ الليلَ إذا جاء، أين يكونُ النهارُ؟ وإذا جاء النهارُ، أين يكون الليلُ؟
(4)
.
وأما قولُه عز وجل: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . فإنه يعني أن الجنةَ التي عرضُها كعرضِ السمواتِ السبعِ (3) والأرَضين السبعِ، أعدَّها اللهُ للمتقين، الذين اتقَوُا الله، فأطاعوه فيما أمرَهم ونَهاهم، فلم يَتَعَدُّوا حدودَه، ولم يُقَصِّروا في واجبِ حقِّه عليهم، فيُضَيِّعوه.
كما حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . أي: ذلك
(5)
لمن أطاعني، وأطاعَ رسولى
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} .
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 99 نقلا عن المصنف من طريق الأعمش.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 99 نقلا عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 72 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(5)
في سيرة ابن هشام وتفسير ابن أبي حاتم: "دارًا".
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 109 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 762 (4160) من طريق سلمة به.
يعني جلّ ثناؤه بقولِه: الَّذِينَ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} : أُعِدَّت الجنةُ التي عرضُها السمواتُ والأرضُ للمتقين، وهم المُنْفقون أموالَهم في سبيلِ اللَّهِ، إما في صَرْفِه على مُحْتاجٍ، وإما في تقوية مُضْعِفٍ
(1)
، على النهوضِ لجهادِ عدوٍ في سبيلِ اللهِ.
وأما قولُه: {فِي السَّرَّاءِ} . فإنه يعنى: في حالِ السرورِ بكثرةِ المالِ، ورخاءِ العيش.
والسَّرَّاءُ، مصدرٌ، من قولهم: سَرَّنى هذا الأمرُ مَسَرَّةً وسُرورًا.
والضَّرَّاءُ مصدرٌ، من قولهم: قد ضُرَّ فلانٌ فهو يُضَرُّ. إذا أصابه الضُّرُّ، وذلك إذا أصابَه الضِّيقُ والجَهْدُ في عَيْشِه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ قولَه:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} . يقولُ: في العسرِ واليسرِ
(2)
.
فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنةَ التي وَصَف صفتها لَمَن اتَّقاه، وأنفَق مالَه في حالِ الرخاءِ
(3)
والسَّعَةِ، وفى حالِ الضِّيقِ والشدةِ، في سبيلِه.
وقولُه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} . يعنى: والجارِعين الغيظَ عندَ امتلاءِ نفوسِهم، منه، يقال منه: كَظَم فلانٌ غَيْظَه. إِذا تَجَرَّعَه، فحَفِظ نفسَه من أن تُمضِيَ ما هي قادرةٌ على إمضائِه، باستِشْفائها
(4)
ممن غاظَها، وانتصارِها ممن ظَلَمها.
(1)
أضعف فلان: ضعفت دابته، يقال: هو ضعيف مضعف. فالضعيف في بدنه، والمضعف في دابته التاج (ض ع ف).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 762 (4162) عن محمد بن سعد به، وليس فيه:"واليسر".
(3)
في ص، ت 1، س:"الرضا".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"باستمكانها".
وأصلُ ذلك، من كَظْمِ القِرْبةِ، يقالُ منه: كَظَمْتُ القِرْبةَ
(1)
. إذا ملأتَها ماءً، وفلانٌ كَظِيمٌ ومَكْظومٌ. إذا كان مُمْتَلِئًا غَمًّا وحُزْنًا، ومنه قولُ اللهِ عز وجل:{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]. يعني: فهو
(2)
مُمتلئٌ من الحُزْنِ. ومنه قيل لمجارى الماءِ
(3)
: الكَظائمُ. لامتلائِها بالماءِ، ومنه قيل: أخذتُ بكَظمه. يعني بمَجارِى نفسِه.
والغَيْظُ، مصدرٌ، من قولِ القائلِ: غاظني فلانٌ، فهو يَغِيظُنى غَيْظًا. وذلك إذا أحفَظه
(4)
وأغضَبه.
وأما قولُه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فإنه يعنى: والصافِحين عن الناسِ عقوبةَ ذنوبِهم إليهم، وهم على الانتقامِ منهم قادِرون، فَتارِكيها
(5)
لهم.
وأما قولُه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . فإنه يعنى: فإن الله يُحِبُّ مَن عملِ بهذه الأمورِ، التي وَصَف أنه أعَدَّ للعاملين بها الجنةَ، التي عرضُها السمواتُ والأرضُ، والعامِلون بها هم المُحْسِنون، وإحسانُهم هو عملُهم بها.
كما حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} الآية إلى (2): {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . أي: وذلك الإحسانُ، وأنا أحِبُّ مَن عمل به
(6)
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {الَّذِينَ
(1)
في ص: "القرية".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المياه".
(4)
يقال: أحفظه فاحتفظ، يعنى أغضبه فغضب. اللسان (ح ف ظ).
(5)
في م: "فتاركوها".
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 109.
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: قومٌ أنفقوا في العُسْرِ واليُسْرِ، والجَهْد والرخاءِ. فمَن استطاعَ أن يَغْلِبَ الشرَّ بالخيرِ فليفعَلْ، ولا قوةَ إلا باللهِ، فَنِعْمَتْ واللهِ يا بنَ آدمَ، الجَوْعَةُ تَجترعُها من صبرٍ، وأنت مَغِيظٌ، وأنت مظلومٌ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا محمدُ بنُ بِشْرٍ، قال: ثنا مُحْرِزٌ أبو رجاءٍ، عن الحسنِ، قال: يقالُ يومَ القيامةِ: لِيَقمْ مَن كان له على اللهِ أجرٌ. فما يقومُ إلا إنسانٌ عَفا، ثم قرَأ هذه الآيةَ:{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا داودُ بنُ قيسٍ، عن زيدِ بن أسلمَ، عن رجلٍ من أهلِ الشامِ، يقالُ له: عبدُ الجليلِ. عن عَمٍّ له، عن أبى هريرةَ في قولِه جل وعز: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
(2)
}. أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن كَظَم غَيْظًا وهو يَقْدِرُ على إنفاذه، ملأه اللهُ أَمْنًا وإيمانًا"
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ قولَه جل وعز:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} إلى قولِه {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : فـ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} كقولِه: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]. يغضَبون في الأمرِ
(4)
لو وَقَعوا به كان حرامًا، فيَغْفِرون ويَعْفُون، يَلْتمِسون بذلك وجهَ اللهِ. {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} كقولِه:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} قولِه إلى {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 762، 763 عقب الأثرين (4163، 4164) معلقا.
(2)
بعده في الأصل: "والعافين".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 132.
(4)
في ص: "الأمن".
يقولُ: لا تُقْسِموا على أن لا تُعْطوهم من النفقةِ شيئًا، واعفُوا واصفَحوا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعز: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} .
يعنى بقولِه جلَّ وعز: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} . أن الجنةَ التي وصَف عز وجل صفتَها، أُعِدَّت للمتقين، [الذين ينفقون]
(2)
في السراءِ والضراءِ، والذين إذا فعَلوا فاحشةً، وجميعُ هذه النعوتِ من صفةِ المتقين الذين قال تعالى ذكرُه:{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن ثابتٍ البُنَانيِّ، قال: سمِعتُ الحسنَ قرَأ هذه الآيةَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ثم قرَأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} إلى {أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . فقال: إن هذين النعتَين لَنَعْتُ رجلٍ واحدٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ بنُ عبد الحميدِ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . قال: هذان
(4)
ذَنْبان؛ الفاحشةُ ذنبٌ، وظلموا أنفسَهم ذنبٌ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 763 (4165) عن محمد بن سعد إلى قوله: "وجه الله".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المنفقين".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 133.
(4)
في م: "هذا".
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (525 - تفسير) من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 77 إلى عبد بن حميد.
وأما الفاحشةُ فهى صفةٌ لمتروكٍ. ومعنى الكلامِ: والذين إذا فعَلوا فَعْلةً
(1)
فاحشةً. ويعنى بالفاحشة: الفَعْلةُ القبيحةُ الخارجةُ عما أَذِن اللهُ عز وجل فيه.
وأصلُ الفُحْشِ القُبْحُ والخروجُ عن الحَدِّ والمقدارِ في كلِّ شيءٍ، ولذلك
(2)
قيل للطويلِ المُفْرطِ الطولِ: إنه لفاحِشُ الطُّولِ. يرادُ به: قبيحُ الطولِ، خارجٌ عن المقدارِ المُسْتَحسَنِ، ومنه قيل للكلامِ القبيحِ غيرِ القصدِ
(3)
: كلامٌ فاحشٌ. وقيل للمتكلمِ به
(4)
: أفحَشَ في كلامه. إذا نَطَق بفُحْشٍ.
وقد قيل: إن الفاحشة في هذا الموضعِ مَعْنيٌّ بها الزِّنَا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا العباسُ بنُ عبدِ العظيم، قال: ثنا حِبَّانُ، [قال: ثنا حَمَّادٌ]
(5)
، عن ثابتٍ، عن جابرٍ:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} . قال: زِنَا القومِ، وربِّ الكعبةِ
(6)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} ، أما الفاحشةُ فالزِّنا
(7)
.
وقولُه: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . يعني به: فعَلوا بأنفسِهم غيرَ الذي كان
(1)
سقط من: ص.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، س. وفى م، ت 3، س:"منه".
(3)
كلام قصد: سهل مستقيم. التاج (ق ص د).
(4)
ليست في: ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
سقط من: الأصل.
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 764 عقب الأثر (4172) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 77 إلى المصنف و ابن المنذر.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 764 (4172) من طريق أحمد به.
ينبغى لهم أن يفعَلوا بها. والذي فعَلوا من ذلك ركوبُهم من معصيةِ اللهِ جلَّ وعز، ما أوجَبوا لها به عقوبتَه.
كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سُفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ قولَه:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . قال: الظلمُ من الفاحشةِ، والفاحشةُ من الظلمِ
(1)
.
وقولُه: {ذَكَرُوا اللَّهَ} . يعنى بذلك: ذكَروا وعيدَ اللَّهِ على ما أتَوا من معصيتِهم إياه، {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}. يقولُ: فسَألوا ربَّهم أن يَستُرَ عليهم ذنوبَهم، بصَفْحِه لهم عن العقوبةِ عليها. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}. يقولُ: وهل يغفرُ الذنوبَ - أي يعفو عن راكبها فيستُرُها عليه - إلا اللَّهُ. {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} . يقولُ: ولم يُقِيموا على ذنوبهم التي أتَوها، ومعصيتِهم التي ركِبوها {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. يقولُ: لم يُقِيموا على ذنوبهم عامِدين للمُقامِ عليها، وهم يعلَمون أن الله عز وجل قد تقدَّم بالنهى عنها، وأوعَد عليها العقوبةَ مَن ركِبها.
وذُكِر أن هذه الآيةَ أُنزِلت خُصوصًا بتَخْفيفها ويُسْرِها أُمَّتَنا
(2)
مما كانت بنو إسرائيلَ مُمتحَنةً به من عظيمِ البلاءِ في ذنوبِها.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جرَيجٍ، عن عطاءِ بن أبي رباحٍ، أنهم قالوا: يا نبي الله، بنو إسرائيل أكرم على اللَّهِ مِنّا؟!، كانوا إذا أذْنَب أحدهم أصبَحت كفارةٌ ذنبِه مكتوبةً في عَتَبةِ بابِه: اجدَعْ أُذنَكَ، اجدَعْ أنفك، افعلْ
…
فسكَت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنزَلَت: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 764 (4173) من طريق وكيع به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 77 إلى ابن المنذر.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3 س:"أمنا". وقوله: "أمتنا" منصوب على المفعولية لقوله: "خصوصا".
مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. إلى قولِه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} . فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخبِرُكم بخيرٍ من ذلك؟ " فقرَأ هؤلاء الآيات
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني [عمرُ بنُ خليفةَ]
(2)
العَبْدِيُّ، قال: ثنا عليُّ بنُ زيدِ بن جُدْعانَ، قال: قال ابن مسعودٍ: كانت بنو إسرائيلَ إذا أذنَبوا، أصبح مكتوبًا على بابِه الذنبُ وكفارتُه، فأُعْطِينا خيرًا من ذلك هذه الآيةُ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن ثابتٍ البُنَانيِّ، قال: لمَّا نزَلت: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] بكى إبليسُ فَزَعًا من هذه الآيةِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن ثابت البناني، قال: بَلَغنى أن إبليس حين نزلت هذه الآيةُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بكَى
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ عثمانَ مولى آلِ أبي عَقِيلٍ الثقفيَّ، قال: سمِعتُ عليَّ بنَ ربيعةَ يُحدِّثُ عن رجلٍ من فَزارةَ، يقالُ
(5)
له: أسماءُ. أو: ابن أسماءَ. عن عليٍّ، قال: كنتُ إذا
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 2/ 595، وأبو حيان في البحر المحيط 3/ 59 عن عطاء.
(2)
كذا في النسخ، وصوابه: عمر بن أبي خليفة. ينظر تهذيب الكمال 12/ 330.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 77 إلى ابن المنذر.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 133، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 77 إلى عبد بن حميد.
(5)
في ص: "فقال".
سمِعتُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا، نفعنى الله بما شاء أن ينفَعَني به، وحدَّثني أبو بكرٍ، وصدَق أبو بكر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من عبد". قال شعبةُ: وأحسَبُه قال: "مسلم". "يُذنب ذنبًا ثم يتوضأُ، ثم يصلِّى ركعتَين، ثم يستغفرُ الله لذلك الذنب [إلا غفَر له]
(1)
. قال شعبةُ: وقرَأ إحدى هاتين الآيتين: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ؛ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، وحدَّثنا الفضلُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا وكيعٌ، عن مِسْعَرٍ وسفيانَ، عن عثمانَ بن المغيرةِ الثَّقَفيِّ، عن عليّ بن ربيعةَ الوَالِبيِّ، عن أسماءَ بن الحكمِ الفزاريِّ، عن عليّ بن أبى طالبٍ قال: كنتُ إذا سمِعتُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حديثا نفَعَنى اللَّهُ بما شاء منه، وإذا حدَّثنى عنه غيرُه، استحلَفتُه، فإذا حَلَف لى صدَّقتُه، وحدَّثنى أبو بكرٍ وصَدَق أبو بكرٍ، أنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يُذْنِبُ ذنبًا ثم يَتوضَّأُ، ثم يصلِّى". قال أحدُهما: "ركعتين". وقال الآخَرُ: "ثم يصلِّي ويَسْتغفِرُ اللَّهَ إلا غفر له"
(3)
.
وحدَّثنا الزبيرُ بنُ بَكَّارٍ، قال: ثني سعدُ بنُ سعيدِ بن أبى سعيدٍ المَقْبُرِيُّ، عن أخيِه، عن جدِّه، عن عليّ بن أبى طالبٍ أنه قال: ما حدَّثني أحدٌ حديثا
(1)
سقط من النسخ واستدركناه من مصادر التخريج ومن الروايات التي ستأتى.
(2)
أخرجه أحمد 1/ 219 (48) والمروزى في مسند أبي بكر (10)، والبزار (8)، وأبو يعلى (13) من طرق عن محمد بن جعفر به، وأخرجه الطيالسي (1)، وأحمد 1/ 218، 219 (47)، وأبو يعلى (14)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 765 (4180)، والبيهقى في الشعب (7077) من طريق شعبة.
(3)
أخرجه الحميدى (4)، وابن أبي شيبة 2/ 387، وأحمد 1/ 179 (2)، والمروزي في مسند أبي بكر (9)، وابن ماجه (1395)، والبزار (9)، وأبو يعلى (12)، من طريق وكيع به، وأخرجه الحميدي (1)، والنسائي (10247، 10248 - كبرى)، والطبراني في الدعاء (1842) من طريق مسعر به، وأخرجه النسائي (10249 - كبري)، وأبو يعلى (15)، والطبراني في الدعاء (1842) من طريق سفيان به، وأخرجه الطيالسي (2)، وأحمد 1/ 223 (56)، وأبو داود (1521) والترمذى (406، 3006)، والنسائي (10250 - كبرى)، والبزار (10)، وأبو يعلى (11)، وابن حبان (623)، والطبراني في الدعاء (1842)، والبغوى (1015) من طريق عثمان بن المغيرة به.
عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلا سألتُه أن يُقسِمَ لى باللهِ لهو سمِعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إلا أبا بكر، فإنه كان لا يَكْذِبُ. قال عليٌّ رضي الله عنه: فحدَّثني أبو بكرٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"ما مِن عبدٍ يُذنبُ ذنبًا، ثم يقومُ عند ذكرِه ذنبَه ذلك، فيَتوضَّأُ ثم يصلِّى ركعتَين، ويستغفرُ الله من ذنبِه ذلك، إلا غفَره اللهُ له"
(1)
.
وأما قولُه: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} . فإنه كما بَيَّنا تأويلَه. وبنحوِ ذلك كان أهلُ التأويلِ يقولون.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنا ابن إسحاقَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} . أي: إن أتَوا فاحشةً. {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . بمعصيةٍ، ذكروا نَهْيَ اللهِ عنها، وما حرَّم اللهُ عليهم، فاستغفَروا لها، وعَرَفوا أنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا هو
(2)
.
وأما قولُه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} . فإن اسمَ اللَّهِ مرفوعٌ، ولا جَحْد قبلَه، وإنما يُرْفَعُ ما بعد "إلا" بإتباعِه ما قبله، إذا كان نكرةً ومعه جَحْدٌ، كقولِ القائلِ: ما في الدارِ أحدٌ إلا أخوك. فأما إذا قيل: قام القومُ إلا أباك. فإن وَجْهَ الكلامِ في الأبِ النصبُ، و "مَن" بصلته في قوله:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} معرفةٌ. فإن ذلك إنما جاء رفعًا؛ لأن معنى الكلامِ: وهل يغفرُ الذنوبَ أحدٌ. أو: ما يغفرُ الذنوبَ أحدٌ إِلا اللَّهُ. فرُفِع ما بعدَ" إلا" من اسمِ "اللهِ" على تأويلِ الكلامِ، لا على لفظِه.
(1)
أخرجه الحميدى في مسنده (5)، والبزار في مسنده (6)، وابن عدى في الكامل 3/ 1190، والدارقطني في العلل 1/ 180 من طريق عن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 77 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 109 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 764 - 766 (4170، 4179، 4183) من طريق سلمة به.
وأما قولُه: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . فإن أهلَ التأويلِ اختَلفوا في تأويلِ الإصْرارِ، ومعنى هذه الكلمةِ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك، لم يَثْبُتوا على ما أَتَوا من الذنوبِ، ولم يُقيموا عليه، ولكنهم تابوا واستغفَروا، كما وصَفهم اللهُ جلَّ ثناؤه به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . فإياكم والإصرارَ، فإنما هَلَكَ المُصِرُّون الماضون قُدُمًا، لا يَنْهاهم مخافةُ الله عز وجل عن حرامٍ حَرَّمه عليهم، ولا يَتوبون من ذنبٍ أصابوه، حتى أتاهم الموتُ، وهم على ذلك
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . قال: قُدُمًا قُدُمًا في معاصي اللهِ، لا تَنْهاهم مخافةُ اللهِ حتى جاءهم أمرُ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . أي: لم يُقِيموا على مَعْصِيتى، كفعلِ من أشرَك بي، فيما عَمِلوا به مِن كفرٍ بى
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: لم يُواقِعوا الذنب إذا هَمُّوا به.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 60 عن قتادة مختصرا بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى ابن المنذر: وينظر الأثر التالي.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 133،134، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 766 (4186) عن الحسنِ بن يحيى به.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 109، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 766 (4188) من طريق سلمة به.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} . قال: إتيانُ العبدِ ذنبًا إصرارٌ حتى يتوبَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . قال: لم يُواقِعوا
(2)
.
وقال آخرون: معنى الإصرار السكوتُ على الذنبِ، وتركُ الاستغفارِ.
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . أمَّا يُصِرُّوا: فيَسْكُتوا ولا يستغفِروا
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ عندَنا: قولُ مَن قال: الإصرارُ: الإقامةُ على الذنبِ عامدًا، و
(4)
ترك التوبةِ منه.
ولا معنى لقولِ مَن قال: الإصرارُ على الذنبِ، هو مُواقعتُه. لأن الله عز وجل
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 133، 134، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 766 (4186) عن الحسن بن يحيى به.
(2)
في ص، ت 1، س:"يصروا".
والأثر في تفسير مجاهد صفحة 260 من طريق ابن أبي نجيح بنحوه، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 766 (4185) من طريق ابن جريج عن مجاهدٍ بنحوه، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 60 عن مجاهد بنحوه وفيها جميعًا:"لم يمضوا" ولم يقل "لم يواقعوا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 766 (4187) من طريق أحمد به.
(4)
في النسخ: "أو". وما أثبتناه هو المقتضى، يدلك عليه كلام المصنف عن الاستغفار بعد.
مَدَح بتركِ الإصرارِ على الذنبِ مُوَاقِعَ الذنبِ، فقال {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ، {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} . ولو كان المُوَاقِع الذنبَ مُصِرًا بمُواقعته إياه، لم يكنْ للاستغفار وَجهٌ مفهومٌ؛ لأن الاستغفارَ من الذنبِ إنما هو التوبةُ منه والندمُ، ولا يُعرَفُ للاستغفارِ من ذنبٍ لم يُواقِعه صاحبه وَجْهٌ.
وقد رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصَرَّ مَن استغفَر، وإن عاد في اليومِ سبعين مرةً".
حدَّثني بذلك الحسينُ بنُ يزيدَ السَّبِيعيُّ، قال: ثنا عبدُ الحميدِ الحِمَّانيُّ، عن عثمانَ بن واقدٍ، عن أبي نُصَيرةَ
(1)
، عن مولًى لأبي بكرٍ، عن أبي بكرٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
فلو كان مُواقِعُ الذنبِ مُصِرًا، لم يكنْ لقولِه:"ما أَصَرَّ مَن استغفَر وإن عاد في اليومِ سبعين مرةً"، معنًى؛ لأن مُواقَعةَ الذنبِ، إذا كانت هي الإصرارُ، فلا يُزِيلُ الاسم الذي لَزِمه معنًى غيرُه، كما لا يزيل عن الزاني اسَم زانٍ، وعن القاتلِ اسمَ قاتلٍ، توبته منه، ولا معنًى غيرها. وقد أبانَ هذا الخبرُ أن المُسْتغفِرَ من ذنبِه غيرُ مُصِرٍّ عليه، فمعلومٌ بذلك أن الإصرارَ غيرُ المُواقعةِ، وأنه المُقامُ عليه، على ما قلنا قبلُ.
واختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه، وهم يعلَمون أنهم قد أذنَبوا.
(1)
في ص: "نضيرة" وفى س: "نصرة"، وينظر تهذيب الكمال 34/ 345.
(2)
أخرجه المروزي في مسند أبى بكر (122)، والترمذى (3559) عن الحسين بن يزيد السبيعي به، وأخرجه المروزي في مسند أبى بكر (121)، وأبو يعلى (137، 138)، وابن السنى (361)، والبيهقى في الشعب (642، 7099)، والبغوى (1297) من طريق عبد الحميد الحماني به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 766 (4184) من طريق عبد الحميد الحماني به، غير أنه قال: عن مولى لأبي بكر عن رسول الله. ولم يقل: عن أبي بكر. وأخرجه أبو داود في سننه 2/ 85 (1514)، والبيهقى 10/ 188 من طريق عثمان به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى عبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، أمَّا:{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، فيعلَمون أنهم قد أذنَبوا، ثم أقاموا فلم يستغفِروا
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلَمون أن الذي أَتَوا معصيةُ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . قال: يعلَمون بما حرَّمتُ عليهم من عبادةِ غيرى
(2)
.
قال أبو جعفر: وقد تقدَّم بيانُنا أَوْلَى ذلك بالصوابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} .
يعنى تعالى ذِكْرُه بقولِه: {أُولَئِكَ} : الذين ذكَر أنه أعدَّ لهم الجنةَ التي عرضُها السمواتُ والأرضُ مِن المتقين، ووَصَفهم بما وصَفهم به. ثم قال: هؤلاء الذين هذه صِفَتُهم {جَزَاؤُهُمْ} يعنى: ثَوابُهم من أعمالِهم التي وَصَفَهم تعالى ذِكْرُه أنهم عمِلوها {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} . يقولُ: عَفْوٌ لهم مِن اللهِ عن عُقوبتِهم على ما سَلَف مِن ذنوبِهم، ولهم على ما أطاعوا اللَّهَ فيه مِن أعمالهم - [مع محوِ السيِّئ من أعمالِهم]
(3)
بالحسنِ منها - {وَجَنَّاتٌ} ، وهى البساتينُ، {تَجْرِي مِنْ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 767 (4192) من طريق أحمد بن المفضل به.
(2)
السيرة 2/ 109 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 767 (4193) من طريق سلمة به.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. يقولُ: تَجْرِى خِلالَ أشجارها الأنهارُ وفي أسافلِها، جزاءً لهم على صالحِ أعمالِهم، {خَالِدِينَ فِيهَا} يعنى: دائمي المُقامِ في هذه الجَنَّاتِ التي وَصَفها. {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} يعنى: ونِعْمَ جزاء العاملين للهِ الجناتُ التي وَصَفها.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} : أي ثوابُ المُطِيعين
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
يعني بقولِه تعالى ذِكْرُه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} : قد مَضَتَ وسَلَفت منى في مَن كان قبلَكم - يا مَعْشَرَ أصحابِ محمدٍ وأهلَ الإيمانِ به - من نحوِ قومِ عادٍ وثمودَ وقومِ إبراهيمَ
(2)
وقومِ لوطٍ وغيرهم مِن سُلَّافِ الأُمَم قبلَكم {سُنَنٌ} يعني: [مُثُلًا وسِيَرًا سِرتُها]
(3)
فيهم وفى مَن
(4)
كَذَّبوا به مِن أنبيائِهم الذين أُرْسِلوا إليهم، بإمْهالى
(5)
أهلَ التكذيب بهم، واسْتِدراجي إياهم، حتى بلَغ الكتابُ فيهم أَجَلى
(6)
الذي أجَّلْتُه لإدالة أنبيائِهم وأهلِ الإيمانِ بهم عليهم، ثم أخْلَلتُ بهم عُقُوبَتى، وأنزلتُ بساحتِهم نِقْمَتِي
(7)
، فتركتُهم لمن بعدَهمِ أمثالًا وعِبرًا. {فَسِيرُوا
(1)
السيرة 2/ 109 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 768 (4199) من طريق سلمة به.
(2)
في الأصل، ص، م:"هود". وقد تقدم ذكر عاد قوم هود.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مثلات سيراسرتها"، وفى م:"مثلات سير بها".
(4)
بعده في الأصل: "كان".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بإمهال".
(6)
في م: "أجله".
(7)
في ص: "نقمى".
فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. يقولُ: فسيروا - أيها الظَّانُّون أن إدالتي مَن أَدَلْتُ مِن أهلِ الشركِ يومَ أُحدٍ على محمدٍ وأصحابِه لغيِر اسْتِدْراجٍ منى لمن أشرَك بى وكفَر برسولى
(1)
وخالَف أمْرِى - في ديارِ الأُمَمِ الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثلِ الذي عليه هؤلاء المُكذِّبون برسولي، والجاحِدون وَحْدانِيَّتى، فانْظُروا كيف كان عاقبةُ تكْذِيبِهم أنبيائى، وما الذي آل إليه غِبُّ
(2)
خلافِهم أمْرِى، وإنكارِهم وَحْدانِيَّتى، فتَعْلَموا عندَ ذلك أن إدالَتيِ مَن أَدَلْتُ مِن المشركين على نَبِيِّي محمدٍ وأصحابِه بأُحُدٍ، إنما هي اسْتِدْراجٌ وإمْهالٌ [منى لهم؛ ليَبلُغَ كتابى الأجلَ]
(3)
الذي أجَّلْتُ لهم، ثم: إما أن يَئُول حالُهم إلى مثلِ ما آل إليه حالُ الأُممِ الذين سلفوا قبلَهم، مِن تعجيلِ العقُوبِة عليهم، أو يُنيبوا إلى طاعتِي واتباعِ رَسُولى.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، قال: ثنا عبَّادٌ، عن الحسنِ في قولِه:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فقال: ألم يَسِيروا
(4)
في الأرضِ فينْظُروا
(5)
كيف عَذَّب اللَّهُ قومَ نوحٍ وقومَ لوطٍ وقومَ صالحٍ، والأُمَمَ التي عَذَّبَ اللهُ عز وجل
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"برسلي".
(2)
في ص: "عب"، بالعين المهملة، وفى م، ت 1، ت 2، س:"عن". وغب الشيء، ومغبته عاقبته وآخره. التاج (غ ب ب).
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ليبلغ الكتاب أجله".
(4)
في م، ت 1:"تسيروا".
(5)
في م، ت 1:"فتنظروا".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 768، 769 (4203، 4204) من طريق أبي بكر الحنفي به.
أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا} . يقولُ: في الكفارِ والمؤمنين، والخيرِ والشرِّ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} : في
(2)
المؤمنين والكفارِ.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إِسحاقَ، قال: اسْتَقْبَل ذِكْرَ المُصِيبةِ التي نَزَلت بهم - يعنى بالمسلمين يومَ أُحدٍ - والبلاءِ الذي أصابَهم، والتَمحيصِ لما كان فيهم، واتخاذِه الشهداءَ منهم، فقال تَعْزيةً لهم، وتعريفًا لهم فيما صَنَعوا، وما هو صانعٌ بهم:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . أي: قد مَضَت منى وقائعُ نِقْمَةٍ في أهلِ التكذيبِ لرُسُلى والشركِ بي
(3)
؛ عادٍ وثمودَ وقومِ لوطٍ وأصحابِ مَدْينَ، فسيروا في الْأَرْضِ تَرَوْا مَثُلاتٍ قد مَضَت منى
(4)
فيهم، ولمن كان على مثلِ ما هم عليه مِثْلُ ذلك منى، وإن أمليتُ
(5)
لهم، أي: لئلا يَظُنُّوا أن نِقْمَتى انْقَطَعت عن عَدوِّهم وعَدوِّى، للدَّوْلةِ التي أدَلْتُها عليكم بها؛ لأبْتَلِيَكم بذلك، لأعْلَم ما عندَكم
(6)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . يقولُ: مَتَّعهم في الدنيا قليلًا، ثم صَيَّرهم إلى النارِ
(7)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 260، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 769 (4201)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في الأصل: "من".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"في".
(4)
ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمكنت".
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 109، 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 768 (4202)، من طريق سلمة به مختصرًا بنحوه.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 769 (4206)، من طريق يزيد بنحوه، 3/ 769 (4205) =
وأما السُّننُ فهى جميعُ سُنةٍ. والسنَّةُ هي المثالُ المُتَّبع، والإمامُ المُؤْتمُّ به. يُقالُ منه: سَنَّ فلانٌ فينا سُنةً حَسَنةً، وسنَّ سَنَّةً سَيئةً. إذا عَمِل عملًا اتبع عليه مِن خيرٍ أو
(1)
شرٍّ. ومنه قولُ لَبِيدِ بن رَبيعة
(2)
.
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ
…
ولكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُها
قولُ سليمانِ بن قَتَّةَ
(3)
.
وَإِنَّ الأُلَى بالطَّفِّ
(4)
مِنْ آلِ هَاشِمٍ
…
تَأْسَوْا
(5)
فَسَنُّوا للكِرَامَ التَّآسيا
وقال ابن زيدٍ في ذلك بما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} . قال: أمثالٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
اختلف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي أُشِير إليه بـ {هَذَا} ؛ فقال بعضُهم: عنى بقولِه: {هَذَا} . القرآنَ.
= بلفظ المصنف من طريق شيبان عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى عبد بن حميد.
(1)
في م: "و".
(2)
شرح ديوان لبيد ص 320.
(3)
البيت في الكامل 1/ 14، والأغاني 19/ 129، وشرح ديوان الحماسة 1/ 107، وأمالي الشجرى 1/ 131. غير منسوب إلا في الأغاني.
(4)
الطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، كان فيها مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه. معجم البلدان 3/ 539.
(5)
تآسوا، من المؤاساة مهموزة، من قولهم: آسى يؤاسى من الأسوة. يريد: صار بعضهم لبعض أسوة. ينظر اللسان (أ س ا).
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، قال: ثنا عبادٌ، عن الحسنِ في قولِه:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . قال: {هَذَا} : القرآنُ
(1)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} : وهو هذا القرآنُ، جعله الله بيانًا للناسِ عامةً، وهُدًى ومَوْعِظَةً للمتقين خصوصًا
(2)
.
حدَّثنا المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} . [قال: كان تبيانُه للناسِ عامةً، {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ}]
(3)
: للمتقين خاصةً
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن ابن جرَيجٍ، في قولِه:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} : خاصةً.
وقال آخرون: إنما أُشِيرَ بقولِه: {هَذَا} ، إلى قولِه:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} . ثم قال: {هَذَا} الذي عَرَّفْتُكم يا مَعْشَرَ أصحابِ محمدٍ، {بَيَانٌ لِلنَّاسِ} .
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 769 (4211) من طريق أبي بكر به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 769 (208) من طريق يزيد به. إلى قوله: عامة. وذكر بقيته في 3/ 770 عقب الأثر (4216) معلقا.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 770 (4216) من طريق أبي جعفر به بنحوه عن الربيع عن أبي العالية.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ بذلك.
وأوْلَى القولين في ذلك عندِى بالصوابِ قولُ مَن قال: قولُه: {هَذَا} إِشارةٌ إلى ما تقدَّم هذه الآيةَ مِن تذكيرِ اللهِ جلَّ ثناؤُه المؤمنين، وتعريفهم حُدودَه، وحضِّهم على لُزومِ طاعتِه والصبرِ على جهادِ أعدائِه وأعدائِهم؛ لأن قولَه:{هَذَا} . إشارةٌ إلى حاضر؛ إما مَرْئيٍّ وإما مَسْموعٍ، وهو في هذا المَوْضعِ إلى حاضرٍ مَسْموعٍ مِن الآياتِ المُتقدِّمة. فمعنى الكلامِ:{هَذَا} الذِي أَوْضَحْتُ لكم وعَرَّفْتُكُموه {بَيَانٌ لِلنَّاسِ} ، يعنى بالبيانِ: الشَّرْحَ والتَّفْسِير.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} : أي هذا تَفْسيرٌ للناسِ إن قَبِلوه
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ والمَثنى، قالا: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سُفيانُ، عن بَيانٍ، عن الشَّعْبيِّ:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} . قال: مِن العَمَى
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن [بيانٍ، عن]
(3)
الشعبيِّ مثلَه
(4)
.
وأما قولُه جلَّ ثناؤه: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} . فإنه يعنى بالهُدَى: الدلالةَ على سبيلِ الحقِّ ومنهجِ الدينِ، وبالموعظةِ: التذكرة للصوابِ والرشادِ.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 769 (4309) من طريق سلمة به.
(2)
تفسير سفيان ص 80 ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 4/ 311. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (527 - تفسير) مِن طريق بيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 134، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 769 (4207) عن الحسن بن يحيى به.
كما حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ والمُثنى، قالا: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن بيانٍ، عن الشَّعْبيِّ:{وَهُدًى} . قال: مِن الضلالةِ، {وَمَوْعِظَةٌ}: مِن الجَهْلِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن بيانٍ، عن الشَّعْبيِّ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ قال: ثنا سلمةُ عن ابن إسحاقَ: [{وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} : أي نورٌ وآدابٌ، فأما قولُه:{لِلْمُتَّقِينَ} . فإنه يعنى: لمن اتقى الله عز وجل بطاعتِه واجتنابِ محارِمه.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ]
(2)
: {لِلْمُتَّقِينَ} . أي: لمن أطاعنى، وعَرَف أمْرِى
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} .
وهذا مِن اللهِ تعالى ذِكْرُهِ تَعْزِيةٌ لأصحابِ رسولِه صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم مِن الجِراحِ والقَتْلِ بأُحُدٍ
(4)
. قال: ولا تَهنوا ولا تَحْزنوا يا أصحابِ محمدٍ، يعني: ولا تَضْعُفوا بالذي نالكم مِن عَدوكِّم بأُحُدٍ مِن القتلِ والقُروحِ، عن جهادِ عَدوِّكم وحَرْبهم، مِن قولِ القائلِ: وهَنَ فلانٌ في هذا الأمرِ. فهو يَهِنُ وَهْنًا. {وَلَا تَحْزَنُوا} : ولا تَأْسَوا فتَجْزَعوا على ما أصابكم مِن المُصيبةِ يومئذ، فإنكم أنتم الأَعْلُون، يعنى: الظَّاهرون عليهم، ولكم العُقْبَى في الظَّفَرِ والنُّصْرَةِ عليهم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. يقولُ: إن كنتم مُصَدِّقِى نبيِّى محمدٍ فيما يعدُكم وفيما يُنْبِئُكم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم 3/ 769 (4210)، عن الحسنِ بن يحيى به.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 770 (4217) من طريق سلمة به.
(4)
في ص، ت 1:"بأخذه".
مِن الخَبَرَ عما يَئُولُ إليه أمرُكم وأمْرُهم.
كما حدَّثنا المُثَنى، قال: ثنا سُوَيدُ بنُ نَصْرٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن يونسُ، عن الزهريِّ، قال: كَثُرَ في أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم القتلُ والجراحُ، حتى خَلَص إلى كلِّ امرئ منهم البَأْسُ
(1)
، فأنْزَل اللهُ عز وجل القرآن، فآسَى
(2)
فيه المؤمنين بأحسنِ ما آسَي به قومًا مِن المسلمين كانوا قبلَهم مِن الأممِ الماضيةِ، فقال:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، إلى قولِه:{لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}
(3)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : يُعزِّى أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم كما تَسْمعون، ويَحُثُّهم على قتالِ عَدوِّهم، ويَنْهاهم عن العجزِ والوَهْنِ في طلبِ عَدوِّهم في سبيلِ اللهِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، قال: ثنا عبادٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . قال: يَأْمرُ محمدًا؛ يقولُ: ولا تهنوا
(5)
أَن تَمْضُوا في سبيلِ اللَّهِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ: عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل: {وَلَا تَهِنُوا} : ولا تَضْعُفوا
(6)
.
(1)
في م: "اليأس". والبأس: الخوف. اللسان (ب أ س).
(2)
آساهم، يعني عزاهم. اللسان (أ س ا).
(3)
ذكره الحافظ في العجاب 2/ 758 عن ابن المبارك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى المصنف، وينظر الفتح 7/ 347.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 771 (4220) من طريق يزيد به.
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2، س:"و".
(6)
تفسير مجاهد ص 260، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 700 (4219).
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَلَا تَهِنُوا} . يقولُ: ولا تَضْعُفوا
(1)
.
حدَّثني القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{وَلَا تَهِنُوا} . قال ابن جُرَيجٍ: ولا تَضْعُفوا في أمرِ عَدوِّكم، {وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}. قال: انْهَزَم أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الشُّعْبِ، فقالوا: ما فعَل فلانٌ؟ ما فعَل فلانٌ؟ فنَعَى بعضُهم بعضًا، وتَحدَّثوا أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ، فكانوا في همٍّ وحَزَنٍ، فبينما هم كذلك، إذ علا خالدُ بنُ الوليدِ الجبلَ بخَيلِ المشركين فوقَهم، وهم في أسفلِ الشِّعْبِ، فلما رَأَوُا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَرِحوا، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ
(2)
لا قوةَ لنا إلا بك، وليس يَعْبُدُك
(3)
بهذه البَلْدةِ غيرُ هؤلاءِ النَّفَرِ".
قال: وثاب نَفَرٌ مِن المسلمين رُماةٌ، فصَعِدوا، فرَمَوْا خيلَ المشركين حتى هَزَمهم اللهُ، وعلا المسلمون الجَبَل
(4)
، فذلك قولُه:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَا تَهِنُوا} . أي: لا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 770 عقب الأثر (4219) مِن طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
سقط مِن: ص، ت، س.
(3)
في ص، ت 1:"نعبدك".
(4)
في ص: "الخيل".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 771 (4223) من طريق ابن ثور عن ابن جريج، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 78 إلى ابن المنذر.
تَضْعُفوا، {وَلَا تَحْزَنُوا}: ولا تَأْسَوا
(1)
على ما أصابكم {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . أي: لكم تَكُونُ العاقبة والظُّهورُ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : إن كنتم صَدَّقْتُم نبيِّي بما جاءكم به عنِّي
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عَمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ، قال: أقْبل خالدُ بنُ الوليدِ يُريدُ أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ لا يَعْلُونَ علينا". فأنْزَل اللهُ عز وجل {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} .
اختلف القَرأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقَرأَتْه عامةُ قَرأَةِ أهلِ الحجازِ والمدينةِ والبصرةِ: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}
(4)
، كلاهما بفَتْحِ "القاف"؛ بمعنى: إن يَمْسَسْكُم القتْلُ والجراحُ يا معشرَ أصحابِ محمدٍ، فقد مَسَّ القومَ مِن أعدائكم مِن المشركين قَرْحٌ - قتلٌ وجراحٌ - مثلُه.
وقرَأ ذلك عامةُ قَرأَةِ الكوفةِ: (إن تمسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مثْلُهُ)
(5)
. [بضمِّ القافِ فيهما جميعًا، بمعنى: إن يمسَسْكم ألمُ الجراحِ فقد مسَّ القومَ منكم مثلُه]
(6)
.
وأَوْلَى القِراءتين بالصواب قراءة مِن قرَأ: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
(1)
في سيرة ابن هشام: " تبتئسوا".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 771 (4222، 4224) من طريق سلمة به دون أوله.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 508. وينظر تفسير البغوي 2/ 110.
(4)
هذه قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه، ينظر السبعة ص 216.
(5)
هذه قراءة حمزة والكسائى وعاصم في رواية أبى بكر عنه. ينظر السبعة ص 216.
(6)
سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
قَرْحٌ مِثْلُهُ}. بفتح "القافِ" في الحرفين؛ لإجماعِ أهلِ التأويلِ على أن معناه القتلُ والجِراحُ، فذلك يَدُلُّ على أن القراءةَ هي "الفتحُ". وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يَزْعُمُ أَن القَرْحَ والقُرْحَ لغتان بمعنًى واحدٍ، والمعروفُ عندَ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ [ما قلنا]
(1)
.
ذِكْرُ مَن قال: إن القَرْحَ الجرِاحُ والقتلُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} . قال: جراحٌ وقتلٌ.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، عن عبادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} . قال: إِن يُقْتَلْ
(3)
منكم
(4)
يومَ أحدٍ، فقد قَتَلتم منهم يومَ بدرٍ
(5)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} : والقَرْحُ: الجرِاحةُ، وذاكم يومَ أُحدٍ، فَشَا في أصحابِ نبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ القتلُ والجراحةُ، فأخبرَهم اللهُ عز وجل أن القومَ قد
(1)
سقط مِن: ص، ت 1، ت 2، س.
(2)
تفسير مجاهد ص 260 ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 772 (4226)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "يقتلوا". وفي ت 2: "تقتل".
(4)
في الأصل: "منهم".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 772 (4227)، من طريق أبي بكر الحنفى به.
أصابهم مِن ذلك مِثْلُ الذي أصابكم، [من أعدائكم]
(1)
عُقُوبةً
(2)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} . قال: ذلك يومَ أُحُدٍ، فَشا في المسلمين [القَرْحُ، والقَرْحُ]
(3)
الجِراحُ، وفَشا فيهم القتلُ، فذلك قولُه:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} . يقولُ: إن كان أصابكم قَرْحٌ فقد أصاب عَدُوِّكم مثله، يُعَزِّي أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويَحُثُّهم على القتالِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} : والقَرْحُ هي الجرِاحاتُ
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} أي: جِراحٌ {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ، أي جِراحٌ مِثلُها
(6)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحَكَمُ بْنُ أبانٍ، عن عِكْرمَة، عن ابنَ عباسٍ، قال: نام المسلمون وبهم الكُلُومُ، يعني يومَ أُحُدٍ، قال عِكرمةُ: وفيهم أنزلت: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ، وفيهم أُنْزِلَت: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وأن الذي أصابكم".
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 772 عقب الأثر (4226) معلقا، مقتصرا على لفظة: الجراحات، فقط.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 772 (4228) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به بنحوه.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 772 عقب الأثر (4226) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 110.
يَرْجُونَ}
(1)
[النساء: 104].
وأما تأويل قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ} . فإنه: إن يُصبْكم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ} : إن يُصِبْكم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} ؛ أَيامُ بدرٍ وأُحُدٍ. ويعنى بقولِه: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} : نجعلُها دُوَلًا بين الناسِ مُصَرَّفةً. ويعنى بالناسِ: المسلمين والمشركين، وذلك أن الله عز وجل أدالَ
(3)
المسلمين مِن المشركين ببَدْرٍ فقَتَلوا منهم سبعين وأسَرُوا سبعين، وأدال
(3)
المشركين مِن المسلمين بأُحُدٍ فقَتَلوا منهم سبعين سِوَى مَن جَرَحوا منهم. يُقالُ منه: أدال
(3)
اللهُ فلانًا مِن فلانٍ، فهو يُدِيلُه
(4)
منه إدالَةً
(5)
: إذا ظفر به فانْتَصَر منه مما
(6)
كان نال
(7)
منه المُدَالُ
(8)
منه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 771 (4225) من طريق حفص عن الحكم عن عكرمة بنحوه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى المصنف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2: أذال". وفى س: "أنال".
(4)
في ت:1: "يذيله"، وفى ت 2:"يذله"، وفى س:"ينله".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"إذالة"، وفى س:"إنالة".
(6)
في ت 2: "من".
(7)
في ت 2: "ذال".
(8)
في ت 1: "الذال"، وفى ت:"الدال"، وفى س:"النال".
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ سَنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، عن عبادٍ، عن الحسنِ:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . قال: جعل الله الأيامَ دُولًا، أدالَ
(1)
الكفار يومَ أُحَدٍ مِن أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} : إنه واللهِ لولا الدُّوَلُ ما أُوذِى
(3)
المؤمنون، ولكن قد يُدَالُ للكافرِ مِن المؤمِنِ، ويُبْتَلَى المؤمنُ بالكافِرِ؛ ليعلم الله عز وجل مَن يُطِيعُه ممن يَعْصِيه، ويَعْلَمَ الصادق مِن الكاذبِ
(4)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قوله:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} : فأظْهَر اللهُ عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه على المشركين يومَ بدرٍ، وأَظهر عليهم عدوِّهم يومَ أُحدٍ، وقد يُدالُ الكافرُ مِن المؤمنِ
(5)
، ويُبتلى المؤمنُ بالكافِرِ؛ ليعلَمَ اللَّهُ مَن يُطِيعُه ممن يَعْصِيه، ويَعْلَمَ الصادقَ مِن الكاذبِ، وأما مِن ابْتُليَ منهم - مِن المسلمين - يومَ أُحُدٍ، فكان
(6)
عُقوبةً بمعصيتِهم رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(7)
.
(1)
في ت 1: "أذال"، وفى س:"أنال".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 773 (4231) من طريق أبي بكر الحنفى به.
(3)
في م: "أنزل".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى المصنف.
(5)
في ت 1، ت 2:"المؤمنين".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فكانت".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 773 (4234) من طريق ابن أبي جعفر به ببعضه.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} : يومًا لكم ويومًا عليكم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حَجاج، قال: قال ابن جُريجٍ: قال ابنَ عباسٍ: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . قال: أدال المشركين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُدٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه،، عن ابنَ عباسٍ قولَه:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} : فإنه كان يومُ أُحُدٍ بيومِ بدرٍ؛ قُتِل المؤمنون يومَ أُحُدٍ، اتَّخَذَ اللَّهُ منهم شهداءَ، وغَلَب رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ بدرٍ المشركين، فجعَل له الدولةَ عليهم
(3)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عِكرمةَ، عن ابنَ عباسٍ، قال: لما كان قِتالُ أُحُدٍ، وأصاب المسلمين ما
(4)
أصاب، صعِد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيانَ، فقال: يا محمدُ يا محمدُ، ألا تَخْرج؟ ألا تَخْرج؟ الحربُ سجالٌ، يومٌ لنا ويومٌ لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أَجِيبُوه". فقالوا: لاسواءَ لاسواءَ، قَتْلانا في الجنةِ وقتلاكم في النارِ. فقال أبو سفيانَ: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهُ مولانا ولا مَوْلَى لكم". فقال أبو سفيانَ: اعْلُ هُبَلُ اعْلُ هُبل. فقال رسولُ
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 2/ 601.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 772 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 772 (4230) عن محمد بن سعد به.
(4)
في ص: "بما".
الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللَّهُ أَعْلَى وأَجَلُّ". فقال أبو سفيانَ: موعدكم وموعدُنا بدرٌ الصُّغْرَى. قال عِكرمةُ: وفيهم أُنْزِلَتْ: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}
(1)
.
حدَّثني المُثنى: قال: ثنا سويدُ بنُ نَصْرٍ، قال: أخبَرنا ابن المبارك. عن ابن جريجٍ، عن ابنَ عباسٍ في قولِه:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} : فإنه أدال على النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُدٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} : أي نُصرِّفُها للناسِ للبلاءِ
(3)
والتَّمحيص
(4)
.
حدَّثني إبراهيمُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: أخبَرنا عبدُ اللَّهِ بنُ عبدِ الوهَّابِ الحَجَبيُّ، قال: ثنا حماد بن زَيْدٍ، عن ابن عَوْنٍ
(5)
، عن محمدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . قال: يعنى الأُمراءَ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} .
يعنى بذلك تعالى ذِكْرُه: وليعلم اللهُ الذين آمنوا ويتخِذَ منكم شُهداءَ، {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .
ولو لم يَكُن في الكلامِ واوٌ لكان قولُه: {وَلِيَعْلَمَ} مُتَّصِلًا بما قبلَه، وكان: وتلك الأيامُ نُداوِلُها بينَ الناسِ ليَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا. ولكن لمَّا دَخَلت الواوُ فيه،
(1)
ينظر ما تقدم في ص 82 حاشية (1).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى المصنف وابن المنذر. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 771، 772 (4225) من طريق حفص عن الحكم عن عكرمة مطولًا.
(3)
في م: "بالبلاء".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 773 (4233) من طريق سلمة به.
(5)
في ت 2 س: "عوف". وينظر تهذيب الكمال 15/ 395، 396.
آذَنَتْ بأن الكلامَ غيرُ
(1)
مُتَّصِلٍ بما قبلَها، وأن بعدَها خبرًا مطلوبًا، اللامُ
(2)
التي في قولِه: {وَلِيَعْلَمَ} . به متعلِّقةٌ.
فإن قال قائلٌ: وكيف قِيلَ: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . [و {الَّذِينَ آمَنُوا}]
(3)
مَعرِفةٌ، وأنت لا تستجيزُ
(4)
في الكلامِ: "قد سَأَلتُ فعَلِمتُ عبدَ اللهِ"، وأنت تريدُ: عَلِمتُ شَخْصَه، إلا أن تُرِيدَ: عَلمِتُ صِفَتَه وما هو.
قيل: إن ذلك إنما جاز مع "الذين"؛ لأن في "الذين" تأويلَ "مَن" و"أي"، وكذلك جائزٌ مِثْلُه في "الألفِ واللامِ"، كما قال تعالى ذِكُرُه:{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]؛ لأن في "الألفِ واللامِ" مِن تأويلِ "أي"، و "مَن" مثلَ الذي في "الذي". ولو جُعِلَ مع الاسمِ المعرفةِ اسمٌ فيه دلالةٌ على "أي"، جاز كما يُقالُ: سَأَلْتُ لأعلمَ عبدَ اللهِ مِن عمرٍو. ويُرادُ بذلك: لأعرِفَ هذا من هذا
(5)
.
فتأويلُ الكلامِ: وليَعلمَ اللهُ الذين آمنوا منكم، أيها القومُ، مِن الذين نافَقوا منكم، نُداوِلُ بينَ الناسِ. فاسْتَغْنى بقولِه:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} من
(6)
ذكرِ قولِه: "مِنَ الَّذينَ نافَقُوا"؛ لدلالِة الكلامِ عليه؛ إذ كان في قولِه: {الَّذِينَ آمَنُوا} تأويلُ "أي" على ما وَصَفْنا. فكأنه قيل: وليَعلمَ اللهُ أيُّكم المؤمنُ، كما قال جل ثناؤُه:{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12]. غيرَ أن "الألفَ واللامَ" و"الذي" و "مَن"، إذا وُضِعَتْ مع العَلَمِ مَوْضِعَ
(7)
"أي" نُصِبَت بوقوعِ العلمِ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في م: "للام".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
في الأصل: "تستحسن"
(5)
ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 234، 235.
(6)
في م: "عن".
(7)
في ص، ت 1 س:"مواضع".
عليه، كما قيل:{وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]. فأما "أي" فإنها تُرفعُ
(1)
.
وأما قولُه: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} . فإنه يعنى: وليعلمَ اللهُ الذين آمنوا، وليَتَّخِذَ منكم شُهداءَ، أي: ليُكْرِمَ منكم بالشهادةِ مَن أراد أن يُكْرِمَه بها. و"الشهداءُ": جمعُ شَهيدٍ.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ليُميِّزَ بينَ المؤمنين والمنافقين، وليُكْرِمَ مَن أكرَم مِن أهلِ الإيمانِ بالشهادةِ
(2)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا سُويدُ بنُ نَصْرٍ، قال: أخبرَنا ابن المباركِ قِراءةً على ابن جُريجٍ، في قولِه:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} . قال: فإن المسلمين كانوا يسألون رَبَّهم: ربَّنا أرِنا يومًا كيومِ بدرٍ، تُقاتِلُ فيه المشركين، ونُبْلِيك
(3)
فيه خيرًا، ونَلْتَمِسُ فيه الشهادةَ، فَلَقُوا المشركين يومَ أُحُدٍ، فاتَّخَذ منهم شهداءَ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} : فكرَّم اللهُ أولياءَه بالشهادةِ بأيدى عَدوِّهم، ثم تَصِيرُ حواصلُ الأمورِ وعواقبُها لأهلِ طاعةِ اللهِ
(4)
.
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 23، 235 ومغنى اللبيب بحاشية الأمير 1/ 72، 73.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 571 (1520 - تحقيق د. حكمت بشير ياسين) من طريق سلمة به.
(3)
في س: "وننال".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 573 - (1523 تحقيق حكمت بشير ياسين) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجُ، عن ابن جُرَيجٍ:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} . قال: قال ابن عباسٍ: كانوا يَسْألون الشهادةَ، فَلَقُوا المشركين يومَ أُحُدٍ، فاتَّخذَ منهم شُهداءَ
(1)
.
حدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفَرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال
(2)
: أخبرَنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} : كان المسلمون يَسْأَلُون ربَّهم أن يُرِيَهم يومًا كيومِ بدرٍ، يُبْلُون فيه خيرًا، ويُرْزَقون فيه الشهادةَ، ويُرْزَقون الجنةَ والحياةَ والرِّزْقَ، [فَلَقَوا المشركين]
(3)
يومَ أُحُدٍ، فاتَّخذ اللهُ منهم شهداءَ، وهم الذين ذكَرهم اللهُ عز وجل فقال:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ}
(4)
الآية [البقرة: 154].
وأما قولُه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . فإنه يعنى به: الذين ظَلَموا أنفسَهم بمعصيتِهم ربَّهم.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} : أي: المنافقين الذين يُظْهِرون بألسنتِهم الطاعةَ، وقلوبُهم مُصِرةٌ على المعصيةِ
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، س:"وقال".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، س:"فلقى المسلمين"، وفى م:"فلقى المسلمون".
(4)
بعده في الأصل: "بل أحياء عند ربهم يرزقون"، وهو من الآية 169 سورة آل عمران.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى ابن المنذر.
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 1774 (4241) من طريق سلمة به.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} .
يعنى تعالى ذِكْرُه بقولِه: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} : ولِيَخْتَبِرَ اللهُ الذين صَدَّقوا الله ورسولَه، فيَبتليَهم بإدالةِ
(1)
المشركين منهم، حتى يَتَبَيَّنَ المؤمنَ منهم المخلصَ الصحيحَ الإيمانِ مِن المنافقِ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ
(2)
في قولِه: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . قال: ليَبْتَلِيَ
(3)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، عن عبادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . قال: ليُمَحِّصَ اللهُ المؤمنَ حتى يُصَدِّقَ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . يقولُ: يَبتلىَ المؤمنين
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال
(1)
في ت 1: "بإذالة"
(2)
بعده في م: "مثله".
(3)
تفسير مجاهد ص 260. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 774 (4243).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 775 (4244) من طريق أبي بكر الحنفى به، وستأتي بقيته في ص 91.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 3 عن السدي بنحوه.
ابن عباسٍ: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . قال: يَبْتَلِيَهم
(1)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} : فكان تَمْحِيصًا للمؤمنين، ومَحْقًا للكافرين
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} : أي: يَخْتَبِرُ الذين آمنوا حتى يُخَلِّصَهم بالبلاءِ الذي نزَل بهم، وكيف صَبْرُهم ويَقِينُهم
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} . قال: يَمْحَقُ مَن مُحِق في الدنيا، وكان بَقِيةُ مَن يَمْحَقُ
(4)
في الآخرةِ في النارِ.
وأما قولُه: (وَيَمْحَقَ الْكَفِرِينَ)، فإنه يعنى به: أنه يَنْقُصُهم ويُفْنِيهم. يقالُ منه: مَحَق فلانٌ هذا الطعامَ - إذا نَقَصه أو أفناه - يَمْحَقُه مَحْقًا. ومنه قيل لمُحاقِ القمرِ
(5)
: مُحاقٌ، وذلك لنقصانِه وفنائِه.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} . قال: يَنقُصُهم
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 775 (4246) من طريق ابن جريج به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 30/ 775 (4247) من طريق يزيد به.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 775 (4245) من طريق سلمة به.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"يمحو".
(5)
في ص، ت 2، س:"العمر". ومحاق القمر: أن يستسرّ القمر ليلتين فلا يرى غدوة ولا عشية. ينظر اللسان (م ح ق).
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 775 (4249) من طريق ابن جريج عن ابن عباس به.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، عن عبادٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} . قال: يَمْحَقَ الكافرَ
(1)
حتى يُكَذِّبَه
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} . أي: يُبْطِلَ مِن المُنافِقين قولَهم بأَلْسنتِهم ما ليس في قلوبِهم، حتى يَظْهَرَ منهم كفرُهم الذي يَسْتَتِرون
(3)
به منكم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
يعني بذلك جل ثناؤُه: أم حَسِبْتُم يا مَعْشَر أصحابِ محمدٍ، وظَنتم أن تَدْخُلُوا الجنةَ، وتنالوا كَرامَةَ ربِّكم وشَرَفَ المَنازِلِ عندَه، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}. يقولُ: ولمَّا يَتَبَيَّنْ لعبادِى المؤمنين المجاهدُ منكم في سبيلى
(5)
على ما أَمَرتُه
(6)
به.
وقد بَيَّنْتُ معنى قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} وما أشبهَ ذلك، بأدلته فيما مضى
(7)
، بما أَغْنَى عن إعادتِه.
وقوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} . يعني: الصابرين عندَ البأسِ، على ما ينَالُهم في ذاتِ اللهِ مِن جُروحٍ
(8)
وألمٍ وَمَكْروهٍ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، س:"الكافرين".
(2)
تتمة الأثر المتقدم ص 89.
(3)
في ص، ت 1، س:"يستسرون". وفي ت 2: "يستبشرون".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 775 (4248) من طريق سلمة به.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سبيل الله".
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"أمر"، وفى م:"أمره".
(7)
ينظر ما تقدم في 2/ 641 - 645.
(8)
في م: "جرح".
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} ، وتُصِيبوا مِن ثوابى الكرامةَ، ولم أخْتَبِرْكم بالشِّدةِ، وأبْتَلِيَكم بالمكارِه، حتى أعْلَمَ صِدْقَ
(1)
ذلك منكم؛ الإيمانُ
(2)
بي، والصبرُ على ما أصابكم فيَّ
(3)
؟
ونَصَب {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} على الصَّرْفِ. والصَّرْفُ: أَن يَجْتمعَ فِعْلَانِ ببعضِ حروفِ النسقِ، وفى أولِه ما لا يَحْسُنُ إعادتُه مع حرفِ النسقِ، فيُنْصَبُ الذي بعدَ حرفِ العطفِ على الصرفِ؛ لأنه مَصْروفٌ عن مَعْنى الأولِ، وذلك
(4)
يكونُ مع جَحْدٍ أو استفهامٍ أو نَهْيٍ في أولِ الكلامِ، وذلك كقولِهم: لا يسعُنى شيءٌ ويَضِيقَ عنك
(5)
. لأن (لا) التي مع "يسعنى" لا يَحْسُنُ إعادتُها مع قولِه: ويضيقَ عنك. فلذلك نُصِبَ
(6)
.
والقرأَةُ في هذا الحرفِ على النصبِ. وقد رُويَ عن الحسنِ أنه كان يَقْرأُ (وَيَعْلَمُ الصَّابِرِينَ). فيَكْسِرُ الميمَ من: (يعلمِ). لأنه كان يَنْوِى جَزْمَها على العطفِ به على قولِه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ}
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، س:"أصدق".
(2)
في سيرة ابن هشام: "بالإيمان".
(3)
في ت 1، ت 2:"بي". والأثر في سيرة ابن هشام 2/ 110، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 775 من طريق سلمة به مقتصرا على قوله: وتصيبوا من ثوابى الكرامة.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لكن".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، س.
(6)
ينظر ما تقدم في 1/ 607.
(7)
ينظر مختصر شواذ القرآن ص 29 والبحر المحيط 3/ 66.
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} : ولقد كنتم يا مَعْشَرَ أصحابِ محمدٍ {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} ، يعنى أسبابَ الموتِ، وذلك القتالُ، {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}. يقولُ: فقد رَأَيْتُم ما كنتم تمنَّونه.
والهاء في قوله: {رَأَيْتُمُوهُ} ، عائدة على الموتِ، والمعنى
(1)
[ما وصفتُ]
(2)
، {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يعني: قد رَأَيْتُموه بمرأًى منكم ومَنْظَرٍ، أي بقُربٍ منكم.
وكان بعضُ أهل العربية يَزْعمُ أنه قيل: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . على وجهِ التوكيدِ للكلامِ، كما يقالُ: رأيته عِيانًا ورأيته بعينى وسمعتُه بأُذُنى. وإنما قيل: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} . لأن قومًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ممن [لم يَشْهدْ]
(3)
بدرًا، كانوا يَتَمنَّون قبلَ أُحُدٍ يومًا مثلَ يومِ بدرٍ، [فيُبْلُوا الله]
(4)
من أنفسهم خيرًا، ويَنَالوا مِن الأجرِ مثلَ ما نال أهلُ بدرٍ، فلما كان يومُ أُحُدٍ فرَّ بعضُهم، وصَبر بعضُهم حتى أَوْفَى بما كان عاهَد الله قبلَ
(5)
ذلك، فعاتَب اللهُ مَن فرَّ منهم فقال:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الآية. وأَثْنَى على الصابرين منهم والمُوفِين بعهدِهم
(6)
.
ذِكْرُ الأخبارِ بما ذكَرنا مِن ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال ثنا عيسى، عن ابن أبي
(1)
في م: "ومعنى".
(2)
بياض في ص. وسقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
في ت 1، ت 2، س:"شهد". وينظر الأثر التالى، وسيرة ابن هشام 2/ 111.
(4)
في ت 1، ت 2:"فينيلوا من"، وفى س:"فينيلوا".
(5)
في ت 2: "في".
(6)
سقط من: ت 1، س.
نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} . قال: غاب رجالٌ عن بدرٍ، فكانوا يَتَمنَّون مثلَ يومِ بدرٍ أن يلقَوه، فيُصيبوا مِن الخيرِ والأجرِ مثلَ ما أصاب أهلُ بدرٍ، فلما كان يومُ أُحدٍ وَلَّى مَن ولَّى منهم
(1)
، فعاتَبَهم اللهُ - أو فعابَهم، أو: فعيَّبهم
(2)
- على ذلك. شك أبو عاصمٍ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، إلا أنه قال: فعاتبهم الُله على ذلك، ولم يَشُكَّ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} : أُناسٌ مِن المؤمنين لم يَشْهدوا يومَ بدرٍ والذي أعطى اللهُ أهلَ بدرٍ من الفضلِ والشرفِ [والأجرِ]
(4)
، فكانوا يَتَمنَّون أن يُرْزَقوا قتالًا فيُقاتلوا، [فسِيقَ إليهم]
(5)
القتالُ حتى كان في ناحيةِ المدينةِ يومَ أُحُدٍ، فقال اللهُ عز وجل كما تَسْمَعون:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} ، حتى بلَغ {الشَّاكِرِينَ}
(6)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن
(1)
سقط من: م.
(2)
في ص: "فيعيهم"، وفى م:"فعتبهم".
(3)
تفسير مجاهد ص 260 وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 776 عقب الأثر (4254) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، س.
(5)
في ت: 2 "فسبق إليهم"، وفى س:"فشق عليهم".
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 776 عقب الأثر (4254) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى عبد بن حميد والمصنف.
قتادةَ قولَه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} . قال: كانوا يَتَمنَّون أن يَلْقَوا المشركين فيُقاتِلوهم، فلما لَقُوهم يومَ أُحُدٍ ولَّوْا
(1)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: إن أُناسًا
(2)
من المؤمنين لم يَشْهَدوا يومَ بدرٍ والذي أعطاهم اللهُ مِن الفضلِ، فكانوا يَتَمنَّون أن يرَوا قتالًا فيقاتِلوا، فسِيقَ
(3)
إليهم القتالُ حتى كان بناحيةِ المدينةِ يومَ أُحُدٍ، فأنزل اللهُ عز وجل:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} الآية
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا هَوْذةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ، قال: بلَغَنى أن رجالًا مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: لئن لقِينا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم لتَفْعَلنَّ
(5)
ولتَفْعلنَّ
(5)
، فابْتُلُوا بذلك، فلا واللهِ ما كلُّهم صدَق الله
(6)
، فأنزل اللهُ عز وجل:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} الآية
(7)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحُسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: كان ناسٌ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَشْهَدوا بدرًا، فلمَّا رَأَوا فَضِيلةَ أهلِ بدرٍ قالوا: اللهمَّ إنا نسأَلُك أن تُرِيَنا يومًا كيومِ بدرٍ، نُبْلِيك فيه خيرًا. فرَأَوا أُحُدًا، فقال
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 134.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ناسا".
(3)
في ت 2: "فسبق".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 776 عقب الأثر (4254) من طريق ابن أبي جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى عبد بن حميد.
(5)
في ت 1، ت 2:"ليفعلن".
(6)
سقط من: ص، م.
(7)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 776 عقب الأثر (4254) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى المصنف.
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} : أي: لقد كنتم تَمَنَّون الشَّهادةَ على الذي أنتم عليه مِن الحقِّ، قبلَ أن تَلْقَوا عَدوَّكم، يعنى الذين استباصوا
(2)
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى
(3)
خُروجِه بهم إلى عَدوِّهم لِما فاتَهم مِن الحُضورِ في اليومِ الذي كان قبلَه ببدرٍ؛ رغبةً في الشَّهادةِ التي فاتَتْهم به، يقولُ:{فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . أي: الموتَ بالسيوفِ في أيدى الرجالِ قد خُلِّي
(4)
بينكم وبينهم، وأنتم تَنْظُرون إليهم، فصَدَدْتم عنهم
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} .
يعني تعالى ذِكْرُه بذلك: وما محمدٌ إلا رسولٌ كبعضِ رسلِ اللهِ الذين أَرْسَلَهم إلى خلقِه داعيًا إلى اللهِ وإلى طاعتِه، الذين حين انْقَضَتْ آجالُهم ماتوا وقَبضهم اللهُ إليه. يقولُ جل ثناؤُه: فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما اللهُ به صانعٌ مِن قَبْضِه إليه عندَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 776، عقب الأثر (4254) من طريق عمرو، عن أسباط به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى المصنف.
(2)
في ص: "استاصوا" مصحفة، وفى م:"حملوا"، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"استناصوا"، وفي سيرة ابن هشام:"استنهضوا". والبَوْص: أن تستعجل إنسانًا في تحميلكه أمرًا لا تدعه يتمهل فيه. التاج (ب و ص).
(3)
في م، ت 1، ت 2:"على".
(4)
في م: "حل"، وهي محتملة في ص، وفي ت 2:"فدخل".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 111، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 776 (4255) من طريق سلمة به.
انقِضاءِ مُدَّةِ أَجلِه، كسائرِ
(1)
رسلِه إلى خَلْقِه الذين مَضَوا قبلَه، وماتوا عندَ انقضاءِ مُدةِ آجالِهم. ثم قال لأصحابِ محمدٍ مُعاتِبَهم على ما كان منهم مِن الهَلَعِ والجَزَعِ، حينَ قيل لهم بأُحُدٍ: إن محمدًا قد قُتِلَ. ومُقَبِّحًا إليهم انصرافَ مَن انْصَرَف منهم عن عَدوِّهم وانْهِزامَه عنهم: أفإن مات محمدُ أيُّها القومُ؛ لانقضاءِ مُدَّةِ أجلِه، أو قتَله عَدُوُّه
(2)
، {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . يعنى ارْتَدَدتم عن دينِكم الذي بعَث اللهُ محمدًا بالدعاءِ إليه، ورجَعتم عنه كفارًا باللَّهِ بعدَ الإيمانِ به، وبعدَ ما قد وَضَحت لكم صِحةُ ما دعاكم محمدٌ إليه، وحقيقةُ ما جاءكم به مِن عندِ رَبِّه، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ}. يعنى بذلك: ومَن يَرْتَدَّ منكم عن دينِه ويَرْجِعْ كافرًا بعدَ إيمانِه {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} . يقولُ: فلن يُوهِنَ ذلك عِزَّةَ
(3)
اللهِ ولا سلطانَه، ولا يَدْخُلُ بذاك نقصٌ في مُلْكِه، بل نفسَه يَضُرُّ برِدَّتِه، وحَظَّ نفسِه يَنْقُصُ بِكُفْرِهِ، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}. يقولُ: وسيُثِيبُ اللهُ مَن شكَره على تَوْفِيقِه وهدايتِه إياه لدينِه بثبوتِه
(4)
على ما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قُتِل، واستقامتِه على مِنْهاجِه، وتَمَسُّكِه بدينِه ومِلَّتِه بعدَه.
كما حدَّثنا المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ هاشمٍ، قال: أخبرَنا سيفُ بن عمرَ
(5)
، عن أبي رَوْقٍ، عن أبي أيوبَ، عن عليٍّ رحمه الله في قولِه:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} : الثابتين على دينِهم؛ أبا بكرٍ وأصحابَه.
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مدة".
(2)
في م: "عدوكم"، وفى ت 1 ت 2، س:"عدوهم".
(3)
في ت 2: "غيره".
(4)
في م: "بنبوته".
(5)
في م: "عمرو". وينظر تهذيب الكمال 12/ 324.
فكان عليٌّ رضي الله عنه يقولُ: كان أبو بكرٍ أميرَ
(1)
الشاكرين، وأميرَ
(1)
أحباءِ اللهِ، وكان أشكرَهم
(2)
، وأحبَّهم إلى اللهِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مُغِيرةَ، عن العلاءِ بن بدرٍ، قال: إن
(4)
أبا بكرٍ أميرُ
(1)
الشاكرين. وتلا هذه الآيةَ: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ: عن ابن إسحاقَ: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} : أي: مَن أطاعه وعمِل بأمرِه
(5)
.
وذُكِر أن هذه الآيةَ أُنزِلت على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في مَن انهزَم عنه بأُحدٍ من اللهِ أصحابِه.
ذِكْرُ الأخبارِ الواردةِ بذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، إلى قولِه:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} : ذاكم يومَ أُحُدٍ حينَ أصابهم القَرْحُ والقَتْلُ، ثم تناعَوا
(6)
رسولَ اللِه صلى الله عليه وسلم على تَفِئَةِ
(7)
ذلك، فقال أناسٌ: لو كان نبيًّا ما قُتِلَ. وقال أناسٌ مِن عِلْيةِ أصحابِ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قاتِلوا على ما قاتَل عليه نبيُّكم، حتى يَفْتحَ اللهُ جل وعز لكم أو تَلْحَقوا به. فقال اللهُ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمين".
(2)
في ت 1، ت 2، س:"أشكر".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 81، إلى المصنف.
(4)
في الأصل: "وجدنا"، وفى ص، ت 2، س:"وحدثنا".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 111، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 779 (4267) من طريق سلمة به.
(6)
في م: "تنازعوا"، وفى تفسير ابن أبي حاتم والدر المنثور:"تداعوا".
(7)
في م، ت 1، ت 2:"بقية"، وغير منقوطة في ص. وتفئة الشيء: حينه وزمانه. وفي الأثر: ثم دخل أبو بكر على تفئة ذلك. أي: على إثره. ينظر النهاية 1/ 192، واللسان (ت ف أ).
عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، يقولُ: إن مات نبيُّكم أو قُتِل ارْتَدَدتم كفارًا بعدَ إيمانِكم
(1)
؟
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، بنحوِه، وزاد فيه: قال الربيعُ: وذُكِرَ لنا - واللهُ أعلمُ - أن رجلًا مِن المهاجرين مرَّ على رجلٍ مِن الأنصارِ، وهو يَتَشَحَّطُ
(2)
في دمِه، فقال: يا فلانُ أَشَعَرت أن محمدًا قد قُتِلَ؟ فقال الأنصاريُّ
(3)
: إن كان محمدٌ قد قُتِلَ فقد بَلَّغَ، فقاتِلوا عن دينِكم. فأنزل الله عز وجل:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، يقولُ: ارْتَدَدتم كفارًا بعدَ إيمانِكم
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لمَّا بَرَز رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُدٍ إليهم - يعنى إلى المشركين - أمر الرُّماةَ فقاموا بأَصْلِ الجبلِ في وجوهِ خيلِ المشركين، وقال:"لا تَبْرَحُوا مكانَكم إن رأيْتُمونا قد هزَمْناهم، فإنَّا لن نزالَ غالبين ما ثبَتُّم مكانَكم"، وأمَّر عليهم عبدَ اللهِ بنَ جُبيرٍ، أخا خَوَّاتِ بن جُبيرٍ، ثم شَدَّ الزُّبيرُ بنُ العَوَّامِ والمقدادُ بنُ الأسودِ على المشركين فهزَماهم، وحمَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه فهَزَموا أبا سفيانَ، فلمَّا رأَى ذلك خالدُ بنُ الوليدِ، وهو على خيلِ المشركين، حمَل
(5)
، فرَمَتْه الرُّماةُ فَانْقَمَع، فلمَّا نظَر الرُّماةُ إلى
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 778 عقب الأثر (4262) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80، إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
تشحط القتيل في دمه: تخبط فيه واضطرب وتمرغ. التاج (ش ح ط).
(3)
قال الحافظ ابن كثير: لعل هذا الأنصارى هو أنس بن النضر؛ عم أنس بن مالك. البداية والنهاية 5/ 401 بتحقيقنا.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 778 (4262) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به.
(5)
في ص: "قد"، وفى م:"قدم" والمثبت من التاريخ.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوفِ عسكر المشركين يَنْتَهِبونه
(1)
، بادَرُوا إلى
(2)
الغَنِيمةِ، فقال بعضُهم: لا تَتْرُكُ أمرَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فانْطَلَق عامَّتُهم فلَحِقوا بالعسكرِ، فلما رأَى خالدٌ قلَّةَ الرُّماةِ
(3)
صاح في خيلِه، ثم حمَل فقتَل الرُّماةَ، وحمَل على أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأَى المشركون أن خيلَهم تُقاتِلُ تَنادَوْا
(4)
، فشدُّوا على المسلمين، فهزَموهم وقتَلوهم، فأتَى ابن قَمِئَةَ
(5)
الحارثيُّ - أحدُ بني الحارثِ بن عبدِ مناةَ
(6)
بن كنانةَ - فرمَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بحجرٍ، فكسَر أنفَه ورَباعِيته
(7)
، وشجَّه في وجهِه فأثْقَلَه
(8)
، وتفَرَّق عنه أصحابُه، ودخَل بعضُهم المدينةَ، وانْطَلَق بعضُهم فوقَ الجبلِ إلى الصخرةِ، فقاموا عليها، وجعَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو الناسَ:"إليَّ عبادَ اللهِ، إليَّ عبادَ اللهِ". فاجْتَمَع إليه ثلاثون رجلًا، فجعَلوا يَسِيرون بين يديه، فلم يَقِفْ أحدٌ إلا طلحةُ وسهلُ بنُ حُنَيفٍ، فحماه طلحةُ فرُمِيَ بسهمٍ في يدِه فيَبِسَت
(9)
يدُه، وأَقْبَل أُبَيُّ بنُ خَلَفِ الجُمَحِيُّ وقد حلَف لَيَقْتُلَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم له: "بل أنا أقْتُلُه
(10)
"، فقال: "يا كذابُ، أين تَفِرُّ منى
(2)
؟ " فحمَل عليه، فطعَنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم طعنةً
(2)
في جيبِ
(11)
(1)
في ت 1: "ينتهنونه"، وفى ت:"ينتهبوا به"، وفى س:"يتبعوا به".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
في م: "الرماح".
(4)
في م: "تبادروا".
(5)
في م: "قميئة". وهو عبد الله بن قمئة الليثى الحارثي. ينظر سيرة ابن هشام 2/ 73، 80، 82، 94، 122، وتاريخ الطبرى 2/ 515، 516، 519، 527، والروض الأنف 5/ 469، والبداية والنهاية 5/ 398 بتحقيقنا.
(6)
في النسخ: "مناف". والمثبت من تاريخ الطبرى 2/ 519 وينظر جمهرة أنساب العرب ص 188.
(7)
الرباعية: السِّنُّ التي بين الثنيَّة والناب. ينظر التاج (ر ب ع).
(8)
في ت 2: "فأقبله"، وفى س:"فأفعله".
(9)
في ص، ت 1، ت 2 س:"ويبست". وينظر التاريخ 2/ 520.
(10)
في م: "أقتلك".
(11)
جيب الشيء مدخله، ومنه: جيب الدرع: ما يدخل منه الرأس عند لبسه. ينظر التاج (ج ى ب).
الدرعِ، فجُرِح جُرْحًا خفيفًا، فوقعَ يَخورُ خُوارَ
(1)
الثُّورِ. فاحْتَمَلوه وقالوا: ليس بك جِراحةٌ [فما يُجزِعُك]
(2)
. قال: أليس قال: "لأقتُلنك"؟ [واللهِ]
(2)
لو كانت لجميعِ ربيعةَ ومُضَرَ لقتَلَتْهم
(3)
. فلم يَلْبَثْ إلا يومًا أو بعضَ يومٍ حتى مات مِن ذلك الجُرْحِ.
وفشَا في الناسِ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، فقال بعضُ أصحابِ الصخْرةِ: ليت لنا رسولًا إلى عبدِ اللهِ بن أُبَيٍّ، فَيَأْخُذَ
(4)
لنا أَمَنةً مِن أبي سفيانَ، يا قومِ إن محمدًا قد قُتِل، فارْجِعوا إلى قومِكم قبلَ أن يَأْتُوكم فيَقْتُلوكم. فقال أنسُ بنُ النَّضْرِ: يا قومِ، إن كان محمدٌ قد قُتِل فإن ربَّ محمدٍ لم يُقْتَلْ، فقاتِلوا على ما قاتَل عليه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، اللهم إنى أَعْتَذِرُ إليك مما يقولُ هؤلاء، وأَبْرَأُ إليك مما هؤلاء. ثم شدَّ
(5)
بسيفِه فقاتَل حتى قُتِل رحمه الله ورضى عنه.
وانْطَلَق رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو الناسَ حتى انْتَهى إلى أصحابِ الصخرةِ، فلما رأَوْه وضَع رجلٌ سَهْمًا في قوسه، فأراد أن يَرْمِيَه، فقال:"أنا رسولُ اللهِ". ففرِحوا
(6)
حينَ وجَدوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيًّا، وفرِح رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رَأَى أن في أصحابِه مَن [يَمتَنِعُ به]
(7)
، فلمَّا اجْتَمَعوا وفيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحُزْنُ، فأقْبَلوا يَذْكُرون الفتحَ وما فاتهم منه، ويَذْكُرون أصحابَهم
(8)
الذين قُتِلوا.
فقال اللهُ عز وجل للذين قالوا: إن محمدًا قد قُتِل، فارْجِعوا إلى قومِكم:
(1)
في النسخ: "خوران". والمثبت من تاريخ الطبرى.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"لقتلهم". وينظر تاريخ الطبرى 2/ 520.
(4)
في م: "فنأخذ".
(5)
في س: "سرى".
(6)
بعده في الأصل: "بذلك"، وفى ص، ت 1، ت 2، س:"به".
(7)
في النسخ: "يمتنع"، وأثبتنا لفظة "به" من التاريخ.
(8)
في النسخ: "أصحابه" والمثبت من التاريخ.
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، قال: يَرْتَدُّ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ]
(3)
، عن أبيه، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن أبيه - أن رجلًا مِن المهاجرين، مرَّ على رجلٍ مِن الأنصارِ، وهو يَتَشَحَّطُ
(4)
في دمِه، فقال: يا فلانُ، أَشْعَرْتَ أن محمدًا قد
(5)
قُتِل؟ فقال الأنصاريُّ: إن كان محمدٌ قد قُتِل فقد بلَّغ، فقاتِلوا عن دينِكم
(6)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، قال: ثني القاسمُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن رافعٍ أخو بني عَدِيِّ بن النَّجارِ، قال: انْتَهى أنسُ بنُ النضرِ رحمه الله عمُّ أنسِ بن مالكٍ - إلى عمرَ وطلحةَ بن عُبيدِ اللهِ في رجالٍ مِن المهاجرين والأنصارِ وقد ألقَوْا بأيدِيهم، فقال: ما يُجْلِسُكم؟ قالوا
(7)
: قُتِل محمدٌ رسولُ اللهِ. قال: فما تَصْنَعون بالحياةِ بعدَه؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسولُ اللهِ! ثم اسْتَقْبَل القومَ فقاتَل حتى قُتِل. وبه سُمِّى أَنسُ بنُ مالكٍ
(8)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 519 - 521 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 777 (4259) من طريق أحمد بن المفضل به، مقتصرا على آخره.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 778 (4264) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي أيضا في الدر المنثور 2/ 81 إلى عبد بن حميد، وهو في تفسير مجاهد ص 261 عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، وينظر الأثر التالى.
(3)
في س: "عن يحيى".
(4)
في س: "متشحط".
(5)
ليست في: الأصل.
(6)
تفسير مجاهد ص 260، 261 عن ابن أبي نجيح، عن أبيه.
(7)
بعده في م، ت 3:"قد".
(8)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 517.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحَّاكِ، قال: نادَى مُنادٍ يومَ أُحدٍ حينَ هُزِم أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألا إن محمدًا قد قُتِل، فارْجِعوا إلى دينكم الأولِ. فأنزَل اللهُ جل ثناؤُه:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ
(2)
، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مُجاهدٍ، قال: أُلْقِى في أفْواهِ المسلمين يومَ أحدٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، فنزَلَت هذه الآيةُ:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَزل هو
(4)
وعِصابةٌ معه يومَئِذٍ على أَكَمةٍ، اللهِ والناسُ يَفِرُّون، ورجلٌ قائمٌ على الطريقِ يسأَلُهم: ما فعَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ وجعَل كلَّما مروا عليه سألُهم
(5)
، فيقولون: واللهِ ما نَدْرِى ما فعَل. فقال: والذي نفسي بيدِه، لئن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قُتِل لَنُعْطِيَنَّهم بأيدِينا، إنهم لَعَشائرُنا وإخوانُنا. وقالوا:[لو أن محمدًا كان حيًّا]
(6)
لم يُهْزَمْ، ولكنه قد قُتِل. فترَخَّصُوا في الفِرارِ يومَئِذٍ
(7)
. فأنْزَل اللهُ عز وجل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية كلها
(8)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى المصنف.
(2)
في ص، س:"الحسن".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 6 عن مجاهد بنحوه.
(4)
بعده في س: "وأصحابه".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يسألهم".
(6)
في م: "إن محمدًا إن كان حيا"، وفى س:"إن كان محمد حيا".
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حينئذ".
(8)
سقط من: م.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى المصنف.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفَرَجِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية: ناسٌ مِن أهلِ الارْتِيابِ والمرضِ والنفاقِ قالوا [يومَ أحدٍ]
(1)
يومَ فرَّ الناسُ عن نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ فوق حاجبه، وكُسِرَت رَباعِيتُه: قُتِل محمدٌ فالْحَقُوا بدينِكم الأولِ. فذلك قولُه: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . قال: ما بينَكم وبينَ أن تَدَعُوا الإسلامَ وتَنْقَلبوا على أعقابِكم إلا أن يموتَ محمد أو يُقْتَلَ، فسوف يَكونُ أحدُ هذين؛ فسوف يَموتُ أو يُقْتَلُ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، إلى قولِه:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} . أي لقولِ
(3)
الناسِ: قُتِل محمدٌ. وانهزامهم عندَ ذلك، وانصرافِهم عن عدُوِّهم، أيْ: أفإنْ مات نبيُّكم
(4)
أو قُتِل، رجَعْتُم عن دينِكم كفارًا كما كنتم، وترَكتم جهادَ عدوِّكم وكتابَ اللهِ عز وجل، وما قد خَلَّف نبيُّه مِن دينِه معكم وعندَكم، وقد بيَّن لكم فيما جاءَكم عنى أنه مَيِّتٌ ومُفارِقُكم، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ}. أي: يَرْجِعُ عن دينِه، {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}. أي: لن يَنْقُصَ ذلك مِن عِزِّ اللهِ، ولا مُلْكِه، ولا سلطانِه
(5)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 6 عن الضحاك بنحوه.
(3)
في س: "يقول".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 778 (4263) من طريق سلمة به. ينظر سيرة ابن هشام 2/ 111.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُرَيْجٍ: قال أهلُ المرضِ والارْتيابِ والنفاقِ - حينَ فرَّ الناسُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قد قُتِل محمدٌ، فالحقوا بدينكم الأول. فنزلت هذه الآيةُ
(1)
.
ومعنى الكلامِ: وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلَت مِن قبلِه الرسلُ، [أفتَنْقَلِبون على أعقابكم]
(2)
إن مات محمدٌ أو قُتِل؟ ومَن يَنْقَلِبْ على عقبيه فلن يَضُرَّ الله شَيئًا. فجعَل الاستفهامَ في حرفِ الجزَاءِ، ومعناه أن يَكونَ في جوابِه خبرٌ
(3)
، وكذلك كلُّ استفهامٍ دخل على جزاءٍ، فمعناه أن يَكونَ في جوابِه خيرٌ
(3)
؛ لأن الجواب خبرٌ يقومُ بنفسِه، والجزاء شرطٌ لذلك الخبر، ثم يُجْزَمُ جوابه وهو كذلك، ومعناه الرفعُ لمجيئِه بعدَ الجزاءِ، كما قال الشاعرُ
(4)
:
حلَفْتُ لَه إِن تُدْلِجِ اللَّيلَ لا يَزَلْ
…
أمَامَك بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِيَ سَائِرُ
فمعنى "لا يَزَلْ" رفعٌ، ولكنه جُزِم لمجيئِه بعدَ الجزاءِ، فصار كالجوابِ، ومثلُه:{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. و [{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} [المزمل: 17]. ولو كان مكان {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} "يخلدون". وقيل: أفائن مِتَّ يَخْلُدوا]
(5)
. جاز الرفعُ فيه والجزمُ. وكذلك لو كان مكان "انقلبتم""تنقلبوا"، جاز الرفعُ والجزمُ؛ لما وصفتُ قبلُ وتُركتْ إعادةُ الاستفهامِ ثانيةً مع قولِه:{انْقَلَبْتُمْ} . اكتفاءً بالاستفهامِ في أولِ الكلامِ، وأن الاستفهامَ في أوَّلِه دالٌّ على مَوْضِعِه ومكانِه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 80 إلى المصنف.
(2)
في ص: "فينقلبون على أعقابكم"، وفى س:"أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم فينقلبون على أعقابهم".
(3)
هذه زيادة لازمة أثبتناها من معاني القرآن للفراء 1/ 236.
(4)
هو الراعى النميرى، والبيت في ديوانه ص 129.
(5)
سقط من: س.
وقد كان بعضُ القَرأَةِ يَخْتارُ في قولِه: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا [وَعِظَامًا أَإِنَّا
(1)
لَمَبْعُوثُونَ}
(2)
[المؤمنون: 82، الصافات: 16، الواقعة: 47]. تَرْكَ إعادِة الاستفهامِ مع {أَإِنَّا} اكتفاءً بالاستفهامِ في قولِه {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا}
(3)
] (1)، ويَسْتَشْهِدُ على صحةِ وَجْهِ ذلك بإجماعِ القَرَأةِ على تركِهم إعادةَ الاستفهامِ مع قولِه:{انْقَلَبْتُمْ} ، اكتفاءً بالاستفهامِ في قولِه:{أَفَإِنْ مِتَّ} ، إذ كان دالًّا على معنى الكلامِ وموضعِ الاستفهامِ منه، وكان يَفْعَلُ مثلَ ذلك في جميعِ القرآنِ. وسَنَأْتِى على الصوابِ من القولِ في ذلك إن شاء اللهُ، إذا انْتَهينا إليه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: وما يَموتُ محمدٌ ولا غيرُه مِن خلقِ اللهِ إلا بعدَ بلوغِ أجَلِه الذي جعَله الله غايةً لحياتِه وبقائِه، فإذا بلَغ ذلك مِن الأجَلِ الذي كتَبه اللهُ له، وأُذِن له بالموتِ، فحينَئذٍ يَموتُ، فأما قبلَ ذلك فلن يموتَ بكيدِ كائدٍ، ولا بحِيلةِ مُحتالٍ:
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} . أي: إن لمحمدٍ أجَلًا هو بالغُه، فإذا أذِن اللهُ
(4)
في ذلك كان
(5)
.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في النسخ: "أئذا كنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون".
(3)
في النسخ: "أئذا كنا ترابا".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
(5)
سيرة ابن هشام، 2/ 111، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 779 (4271) من طريق سلمة به.
وقد قيل: إن معنى ذلك: وما كانت نفسٌ لِتموتَ إلا بإذنِ اللهِ.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في المعنى الناصبِ قولَه: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: هو توكيدٌ، ونصبُه على: كتَب اللهُ كتابًا مؤجلًا. قال: وكذلك كلُّ شيءٍ في القرآنِ مِن قولِه: {حَقًّا} ، إنما هو: أُحِقُّ ذلك حقًّا. وكذلك {وَعْدَ اللَّهِ} [الروم: 6]، و {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، و {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، و {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]. إنما هو: صَنَع اللهُ ذلك صُنْعًا. فهكذا تفسيرُ كلِّ شيءٍ في القرآنِ مِن نحو هذا، فإنه كثيرٌ
(1)
.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ في قولِه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : معناه: كتَب اللهُ أَجالَ النفوسِ، ثم قيل:{كِتَابًا مُؤَجَّلًا} . فأُخْرِج قولُه: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} . نصبًا مِن المعنى الذي في الكلامِ، إذ كان قولُه:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} قد أَدَّى عن معنى
(2)
كتَب. قال: وكذلك سائرُ ما في القرآنِ مِن نظائرِ ذلك، فهو على هذا النحوِ.
وقال آخرون منهم: قولُ القائلِ: زيدٌ قائمٌ حقًّا. بمعنى: أقولُ زيدٌ قائمٌ حقًّا؛ لأن كلَّ كلامٍ قول، فأدَّى المَقولُ عن القولِ، ثم خرَج ما بعدَه منه، كما تقولُ: أقولُ قولًا حقًّا، وكذلك:"ظنًّا" و"يقينًا"، وكذلك:{وَعْدَ اللَّهِ} [الروم: 6]، وما أشْبَهَه.
(1)
ينظر الكتاب لسيبويه 1/ 381 - 383.
(2)
في م: "معناه".
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن كلَّ ذلك منصوبٌ على المصدرِ، من معنى الكلامِ الذي قبلَه؛ لأن في كلِّ ما قبلَ المصادرِ - التي هي مُخالفةٌ ألفاظُها الفاظَ ما قبلها مِن الكلامِ - معانيَ ألفاظِ المصادرِ، وإن خالَفها في اللفظِ، فنصبُها مِن معاني ما قبلَها دونَ ألفاظِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ومَن يُرِدْ منكم أيُّها الناسُ
(1)
بعملِه جزاءً منه، بعضَ أعراضِ الدنيا، دونَ ما عند اللهِ جل وعز مِن الكرامةِ لمَن ابتغَى بعملِه ما عندَه، {نُؤْتِهِ}. يقولُ: نُعْطِه {مِنْهَا} . يعني: من الدنيا، يعني أنه يُعْطِيه منها ما قُسِم له منها مِن رزقِ اللهِ
(2)
أيام حياته، ثم لا نَصيبَ له في كَرامَةِ اللهِ تبارك وتعالى التي أعَدَّها لمَن أطاعَه وطلَب ما عندَه في الآخرةِ. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ}. يقولُ:{وَمَنْ يُرِدْ} منكم بعملِه جزاءً منه {ثَوَابَ الْآخِرَةِ} . يعنى: ما عندَ اللهِ مِن كرامتِه التي أعَدَّها للعامِلِين له في الآخرةِ {نُؤْتِهِ مِنْهَا} . يقولُ: نُعْطِه {مِنْهَا} يعنى: مِن الآخرةِ، والمعنى: مِن كرامةِ اللهِ التي خصَّ بها أهلَ طاعتِه في الآخرةِ، فخرَج الكلامُ على الدنيا والآخِرةِ، والمعنى: ما فيهما، كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} ، أيْ: فمَن كان منكم يُرِيدُ الدنيا، ليست له رغبة في الآخرة، نُؤْتِه ما قُسِم له منها مِن رِزقٍ، ولا حظَّ له في الآخرةِ، ومَن يُرِدْ ثوابَ الآخرةِ نُؤْتِه منها ما وعَدَه، مع ما يُجْرَى عليه مِن رزقِه في دنياه
(3)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المؤمنون"
(2)
سقط لفظ الجلالة من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 111، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 779 (4272) من طريق سلمة به.
وأما قولُه: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} . يقولُ: وسأُثِيبُ مَن شكَر لى ما أوْلَيْتُه مِن إحْساني إليه بطاعتِه إياى، وانتهائِه إلى أمرى، وتجنُّبِه محارمى، في الآخرةِ مثلَ الذي وعَدْتُ أوليائى مِن الكرامةِ على شكرهم إياى.
وقال ابن إسحاقَ في ذلك بما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} . أي: وذلك جَزاءُ الشاكرين، يعنى بذلك: إعْطاءُ اللهِ إياه ما وعَدَه في الآخِرةِ، مع ما يُجْرِى عليه مِن الرزقِ في الدنيا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} .
اختَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَه بعضُهم: {وَكَأَيِّنْ} . بهمزِ الألفِ وتشديدِ الياءِ
(2)
. وقرأَه آخرون بمدِّ الألفِ وتخفيفِ الياءِ
(3)
.
وهما قراءتان مَشْهورتان في قرأةِ المسلمين، ولغتان معروفتان لا اختلافَ في معناهما، فبأيِّ القراءتين قرَأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ؛ لاتفاقِ معنيَىْ ذلك، وشهرتِهما في كلامِ العربِ، ومعناه: وكم مِن نبيٍّ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {قَاتَلَ
(4)
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}.
اختَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {قَاتَلَ
(4)
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}؛ فقرَأ ذلك جماعةٌ مِن قَرأةِ الحجازِ والبصرةِ: (قُتِلَ) بضمِّ القافِ
(5)
. وقرَأه جماعةٌ
(1)
سيرة ابن هشام، 2/ 111، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 779 (4273) من طريق سلمة به.
(2)
وهى قراءة نافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 174.
(3)
وهى قراءة ابن كثير. المصدر السابق.
(4)
في الأصل: "قُتِل".
(5)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. ينظر السبعة ص 217.
أخرى بفتحِ القافِ وبالألفِ، وهى قراءةُ جماعةٍ مِن قرأةِ الحجازِ والكوفةِ
(1)
.
فأما مَن قرَأ: {قَاتَلَ} فإنه اختار ذلك؛ لأنه قال: لو قُتِلوا لم يَكُنْ لقولِه: {فَمَا وَهَنُوا} . وجهٌ معروفٌ؛ لأنه يَسْتَحِيلُ أن يُوصَفوا بأنهم لم يَهِنوا ولم يَضْعُفوا بعدَ ما قُتِلوا.
وأما الذين قرَءوا ذلك: (قُتِل). فإنهم قالوا: إنما عنَى بالقتلِ النبيَّ وبعضَ مَن معه مِن الرَّبيِّين دونَ جميعِهم، وإنما نفَى الوَهْنَ والضعفَ عمن بقى مِن الرِّبِّيِّين ممَّن لم يُقْتَلْ.
وأولى القراءتين في ذلك بالصوابِ عندَنا قراءةُ مَن قرأه بضم القافِ: (قُتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثيرٌ)؛ لأن الله جلَّ ثناؤه إنما عاتب بهذه الآيةِ والآياتِ التي قبلَها مِن قولِه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} - الذين انْهَزَموا يومَ أَحدٍ، وترَكوا القتالَ، إِذْ سمِعوا الصائحَ يَصِيحُ: إن محمدًا قد قُتِل. فعذَلهم
(2)
اللهُ عز وجل على فرارِهم وتركِهم القتالَ، فقال لهم جلَّ ثناؤه: أفإن مات محمدٌ أو قُتِل أيُّها المؤمنون به ارْتَدَدْتُم عن دينِكم، وانْقَلَبْتُم على أعقابِكم؟! ثم أخبَرَهم عما كان من فعلِ كثيرٍ مِن أتباعِ الأنبياءِ قبلَهم، وقال لهم: هلَّا فعلْتُم كما كان أهلُ العلمِ والفضلِ مِن أتباعِ الأنبياءِ قبلَكم يفْعَلُونه إذا قُتِل نبيُّهم، مِن المُضِيِّ على مِنهاجِ نبيِّهم، والقتالِ على دينِه أعداءَ دينِ اللهِ، على نحوِ ما كانوا يُقاتِلون مع نبيِّهم، ولم تهِنوا ولم تضْعُفوا، كما لم يَضْعُفِ الذين كانوا قبلَكم مِن أهلِ العلمِ
(1)
هي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه. ينظر السبعة ص 217.
(2)
في ت 1، ت 2 ت 3، س:"فعذبهم".
والبصائرِ، مِن أتباعِ الأنبياءِ إذ قُتِل نبيُّهم، ولكنهم صبَروا لأعدائِهم حتى حكَم اللهُ بينَهم وبينَهم. وبذلك مِن التأويلِ جاء تأويلُ المتأولين.
وأما "الرِّبيون" فإنهم مرفوعون بقولِه: {مَعَهُ} . لا بقولِه: (قُتِل).
وإنما تأويلُ الكلامِ: وكأين مِن نبيٍّ قُتِل ومعه ربيون كثيرٌ، فما وهَنوا لمَا أصابهم في سبيلِ اللهِ. وفى الكلامِ إضمارُ واوٍ؛ لأنها واوٌ تَدُلُّ على معنى حالِ
(1)
قَتْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، غيرَ أنه اجْتُزِئ بدلالةِ ما ذُكِر مِن الكلامِ عليها مِن ذكرِها، وذلك كقولِ القائلِ في الكلامِ: قُتِل الأميرُ معه جيشٌ عظيمٌ. بمعنى: قُتِل ومعه جيشٌ عظيمٌ.
وأما "الربيون"، فإن أهلَ العربيةِ اخْتَلَفوا في معناه؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: هم الذين يَعْبُدون الربَّ، واحدُهم رِبِّيٌّ.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: لو كانوا مَنْسُوبين إلى عبادةِ الربِّ، لكانوا رَبِّيُّون، بفتحِ الراءِ، ولكنهم
(2)
العلماءُ والألوفُ.
والرِّبيون عندَنا: الجماعاتُ
(3)
الكثيرةُ، واحدُهم رِبِّيٌّ، وهم جماعةٌ.
واختَلَف أهلُ التأويلِ في معناه؛ فقال بعضُهم: مثلَ ما قلْنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لكنه".
(3)
في م: "الجماعة".
زِرٍّ، عن عبدِ اللهِ: الربيون الألوفُ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان
(2)
الثوري، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبدِ اللِه مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ وابنُ عُيينةَ، عن عاصمِ بن أبى النَّجودِ، عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ، عن عبدِ اللهِ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن
(4)
عاصمٍ، عن زرٍّ، عن عبدِ اللهِ مثلَه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبَرَنا عوفٌ عمَّن حدَّثه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . قال: جموعٌ كثيرةٌ
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . قال: جموعٌ
(6)
.
(1)
تفسير سفيان ص 81 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 (4277)، والطبراني (9096) من، طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 82 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في م: "عن".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 134.
(4)
في م: "بن". وينظر تهذيب الكمال 22/ 205.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور 3/ 1096 (531) عن هشيم به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 (4278) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 82 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبدِ اللهِ:(وكأَيَّنْ مِن نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَه رِبِّيُّونَ). قال: الألوفُ
(1)
.
وقال آخرون بما حدَّثني به سليمانُ بنُ عبدِ الجبَّارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصَّلْتِ، قال: ثنا أبو كُدَيْنةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ
(2)
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}. قال: علماءُ كثيرٌ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أَخْبَرَنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ
(2)
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}. قال فقهاءُ علماءُ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي رَجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:(وكأيِّن مَنْ نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رَبِّيُّونَ كَثِيرٌ). قال: الجموعُ الكثيرةُ. قال يعقوبُ: وكذلك قرأَها إسماعيلُ: (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(وكأيِّن مِّنْ نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيِرٌ). يقولُ: جموعٌ كثيرةٌ
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 82 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قتل".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (531 - تفسير) عن هشيم به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 عقب الأثر (4279) معلقا.
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 2/ 117، وابن كثير في تفسيره 2/ 111 عن قتادة، وقراءة قتادة (قُتِّلَ) بالبناء للمفعول وتشديد التاء، نص على ذلك أبو حيان في البحر المحيط 3/ 72.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الحسنِ في قولِه:(قُتِلَ مَعَهُ رَبِّيُّونَ كَثيِرٌ). قال: [علماءُ كثيرٌ]
(1)
. قال قتادةُ: جموعٌ كثيرةٌ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابن عُيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ في قولِه:{رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ، قال: جموعٌ كثيرة
(3)
.
حدَّثني عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الآمُليُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ، مثلَه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللهِ عز وجل:(قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). قال: جموعٌ كثيرةٌ
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:(قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). يقولُ: جموعٌ كثيرةٌ
(5)
.
(1)
في م: "علماء كثيرة". وفي س: "علم كثير".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 134، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 (4280) عن الحسن بن يحيى به.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في تفسيره (532 - تفسير) عن سفيان به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 عقب الأثر (4279) معلقا.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 4/ 230، وأبو حيان في البحر المحيط 3/ 74، وابن كثير في تفسيره 2/ 111.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيْرٍ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:(وكأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثَيرٌ). يقولُ: جموعٌ كثيرٌ
(1)
، قُتِل نبيُّهم
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرَنا ابن المبارَكِ، عن جعفرِ بن حَيَّانَ
(3)
والمباركِ، عن الحسنِ في قولِه:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . قال جعفرٌ: علماءُ صُبُرٌ. وقال المباركُ
(4)
: أتْقِياءُ صُبُرٌ
(5)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرني عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). يعني الجموعَ الكثيرةَ، قُتِل نبيُّهم.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . يقولُ: جموعٌ كثيرةٌ
(6)
.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"كثيرة".
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 74، وابن كثير في تفسيره 2/ 111. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (533 - تفسير) عن الضحاك بمعناه.
(3)
في م، ت 1:"حبان". ينظر تهذيب الكمال 5/ 22.
(4)
في الأصل، ص، م:"ابن المبارك". وهو المبارك فضالة.
(5)
في م: "صبروا".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 781 (4281) من طريق أبي الأشهب جعفر بن حيان به، وبرقم (4282) من طريق المبارك به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 عقب الأثر (4279) من طريق أسباط به.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ في قولِه:(وكأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). قال: وكأين من نبيٍّ أصابه القتلُ، ومعه جماعاتٌ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:(وكأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رَبِّيُّونَ). الرِّبيون هم الجموعُ الكثيرةُ
(2)
.
وقال آخرون: الربيون هم الأتباعُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: (وكأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبيونَ كَثِيرٌ). قال: الرِّبيون الأتباعُ، والرَّبَّانِيُّون الولاةُ، والرِّبيون الرعيةُ، وبهذا
(3)
عاتَبَهم اللهُ حينَ انْهَزَموا عنه، حين صاح الشيطانُ: إن محمدًا قد قُتِل. قال: كانت الهزيمةُ عندَ صياحه في سبَبِه
(4)
، صاح: أيُّها الناسُ إن محمدًا رسولَ اللهِ قد قُتِل، فارْجِعوا إلى عَشائركم يُؤَمِّنوكم
(5)
.
(1)
سيرة ابن هشام، 2/ 112 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 780 (4276) من طريق سلمة به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 82 إلى المصنف.
(3)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"هذا".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سسه"، وفى م:"سنينة".
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 4/ 230 وأبو حيان في البحر المحيط 3/ 74 ببعضه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} .
يعنى بقوله جلَّ ثناؤه: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : فما عجَزوا لمَا نالهم مِن ألمِ الجراحِ الذي نالهم في سبيلِ اللهِ، ولا لقتلِ مَن قُتلِ منهم عن حربِ أعداءِ اللهِ، ولا نكَلوا عن جهادِهم {وَمَا ضَعُفُوا}. يقولُ: وما ضعفت قواهم لقتلِ نبيِّهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا}. يعنى: وما ذلُّوا فتخشَّعوا
(1)
لعدوِّهم بالدخولِ في دينِهم، ومُداهنتهم فيه، خِيفَةً منهم، ولكن مضَوْا قُدُمًا على بصائرِهم، ومنهاجِ نبيِّهم، صُبُرًا على أمرِ اللهِ وأمرِ نبيِّهم وطاعةِ اللهِ، واتباعًا لتنزيلِه ووحيِه. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. يقولُ: واللهُ يُحِبُّ هؤلاء وأمثالَهم مِن الصابرين لأمرِه وطاعتِه، وطاعةِ رسولِه، في جهادِ عدوِّه، لا مَن فشَل ففرَّ عن عدوِّه، ولا من انقَلَب على عقِبَيْه، فذلَّ لعدوِّه لأنْ قُتِل نبيُّه أو مات، ولا مَن دخَله وَهْنٌ عن عدوِّه وضعفٌ؛ لفقدِ نبيِّه.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} . يقولُ: ما عجَزوا، وما تضَعْضَعُوا
(1)
سقط من: ت 1، س، وفى م:"فيتخشعوا".
لقتلِ نبيِّهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا} ، يقولُ: ما ارْتَدُّوا عن بصيرتِهم
(1)
، ولا عن دينِهم، أَنْ
(2)
قاتَلوا على ما قاتَل عليه نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حتى لحِقوا باللهِ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بن أنسٍ في قولِه:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} . يقولُ: وما عجَزوا وما ضعُفوا لقتلِ نبيِّهم: {وَمَا اسْتَكَانُوا} ، يقولُ: وما ارْتَدُّوا عن بصيرتِهم (1)، قاتَلوا على ما قاتَل عليه نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حتى لحِقوا باللهِ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَمَا وَهَنُوا} . قال: فما وهَن الرِّبِّيُّونَ {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} من قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(5)
. يقولُ: ما ضعُفوا في سبيلِ اللهِ، لقتلِ النبيِّ، {[وَمَا ضَعُفُوا]
(6)
وَمَا اسْتَكَانُوا}. يقولُ: ما ذلُّوا حينَ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ ليس لهم أن يَعْلُونا". {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(7)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَمَا وَهَنُوا} لفقدِ نبيِّهم، {وَمَا ضَعُفُوا} عن عدوِّهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا} لما أصابهم في الجهادِ عن
(1)
في م: "نصرتهم".
(2)
في م: "بل".
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 781 عقب الأثر (4283) معلقا.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 74، وابن كثير في تفسيره 2/ 111 عن الربيع.
(5)
بعده في م: "وما ضعفوا".
(6)
سقط من: م.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 781 (4285) من طريق أحمد بن المفضل به.
اللهِ جلَّ ثناؤه، وعن دينِهم، وذلك الصبرُ، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَمَا اسْتَكَانُوا} . قال: تَخَشَّعوا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ: {وَمَا اسْتَكَانُوا} . قال: ما اسْتَكانوا لعدوِّهم، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} : وما كان قولَ الرِّبِّيين، والهاءُ والميمُ مِن ذكرِ أسماءِ الرَّبِّيين، {إِلَّا أَنْ قَالُوا} ، يعنى: ما كان لهم قولٌ سوى هذا القولِ، إذ قُتِل نبيُّهم.
وقولُه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} . يقولُ: لم يَعْتَصِموا إذ قُتِل نبيُّهم إلا بالصبرِ على ما أصابهم، ومُجاهَدةِ عدوِّهم، وبمسألةِ ربِّهم المغفرةَ والنصرَ على عدوِّهم.
ومعنى الكلامِ: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} .
وأما الإسرافُ فإنه الإفراطُ في الشيءِ، يقالُ منه: أسْرَف فلانٌ في هذا
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 112، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 781، 782 (4286، 4290، 4294) من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 782 (4295) من طريق ابن جريج به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 82 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 782 (4293) عن يونس به.
الأمرِ. إذا تجاوَز مِقدارَه فأَفْرَط.
ومعناه هاهنا: اغْفِرْ لنا ذنوبَنا الصِّغارَ منها، وما أسْرَفْنا فيه منها، فتخَطَّيْنا إلى العِظامِ، وكأنَّ معنى الكلامِ: اغْفِرْ لنا ذنوبَنا؛ الصغائرَ منها والكبائرَ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِ اللهِ:{وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} . قال: خَطايانا
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} . قال: خَطايانا وظُلْمَنا أنفسَنا
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: أَخْبَرَنَا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ في قولِه: {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} الله: يعنى: الخطايا: الكبارَ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ، عن عبيدِ بن سليمانَ، عن الضحاكِ بن مُزاحِمٍ، قال: الكبائرُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} . قال: خَطايانا.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 83 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 783 (4299) من طريق أبي حذيفة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 83 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 783 (4300) من طريق على بن الحكم عن الضحاك به.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} . قال: خَطايانا
(1)
.
وأما قولُه: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} . فإنه يقولُ: اجْعَلْنا ممَّن يَثْبُتُ لحربِ عدوِّك وقتالِهم، ولا تَجْعَلْنا ممَّن يَنْهَزِمُ فيفِرَّ منهم، ولا يَثْبُتَ قدمُه في مكانٍ واحدٍ لحرِبهم، {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. يقولُ: وانْصُرْنا على الذين جحَدوا وحْدانيتَك ونبوةَ نبيِّك.
وإنما هذا تأنيبٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤه عبادَه الذين فرُّوا عن العدوِّ يومَ أحدٍ، وترَكوا قتالَهم، وتأديبٌ لهم، يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤه لهم: هلَّا فعَلْتُم إذ قيل لكم: قُتِل نبيُّكم. كما فعَل هؤلاء الرِّبِّيون، الذين كانوا قبلكم مِن أتباعِ الأنبياءِ، إذ قُتِلَت أنبياؤُهم، فصبَرْتم لعدوِّكم صبرَهم، ولم تَضْعُفوا وتَسْتَكِينوا لعدوِّكم، فتُحاوِلوا الارْتِدادَ على أعقابِكم، كما لم يَضْعُف هؤلاء الرِّبيون، ولم يسْتَكِينوا لعدوِّهم، وسألْتُم ربَّكم النصرَ والظَّفَرَ كما سأَلوا، فَينْصُرَكم اللهُ جلَّ وعزَّ كما نُصِروا؛ فإن الله جلَّ وعزَّ يُحِبُّ مَن صبَر لأمرِه، وعلى جهادِ عدوِّه، فيُعطِيه النصرَ والظَّفَرَ على عدوِّه.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . أي: فقولوا كما قالوا، واعلَموا أنما ذلك بذنوبٍ منكم، واسْتَغْفِرُوا كما اسْتَغْفَروا، وامْضُوا على دينِكم، كما مضَوا على دينِهم، ولا تَرْتَدُّوا على أعقابِكم راجِعِين، واسْأَلوه كما سأَلوه أن يُثَبِّتَ أقدامَكم، واسْتَنْصِروه كما اسْتَنْصَروه على القومِ الكافرين، فكلُّ هذا مِن قولِهم قد كان، وقد قُتِل نبيُّهم، فلم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 783 (4298) عن محمد بن سعد به.
يَفْعَلُوا كما فعَلْتُم
(1)
.
والقراءةُ التي هي القراءةُ في قولِه: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} . النصبُ
(2)
؛ لإجماعِ قَرَأةِ الأمْصارِ على ذلك، نقلًا مستفيضًا، وِراثةً عن الحُجَّةِ.
وإنما اخْتِير النصبُ في "القولِ"؛ لأن "أن"
(3)
لا تكونُ إلا معرفةً، فكانت أولى بأن تكون هي الاسمَ دونَ الأسماءِ التي قد تَكونُ معرفةً أحيانًا ونكرةً أحيانًا، ولذلك اخْتِير النصبُ في كلِّ اسمٍ ولِى "كان"، إذا كان بَعده "أن" الخفيفةُ، كقولِه:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24]، وقولِه:(ثُمَّ لم تَكُنْ فِتْنَتَهم إلَّا أن قالوا)
(4)
[الأنعام: 23].
فأما إذا كان الذي يَلِى "كان" اسمًا معرفةً، والذي بعدَه مثلَه، فسواءٌ الرفعُ؛ والنصبُ في الذي ولِى "كان"، فإن جعَلْتَ الذي ولى "كان" هو الاسمَ رفَعْتَه، ونصَبْتَ الذي بعدَه، وإن جعَلْتَ الذي ولِى "كان" هو الخبرَ نصَبْتَه، ورفَعْتَ الذي بعدَه، كقولِه جل ثناؤُه:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]. إن جعَلْتَ "العاقبةَ" الاسمَ رفَعْتَها، وجَعَلْتَ {السُّوأَى} هي الخبرَ منصوبةً، وإن جعَلْتَ "العاقبة" هي الخبرَ نَصَبْتَ، فقلتَ: ثم
(5)
كان عاقبةَ الذين أساءوا السوآى، وجَعَلْتَ {السُّوأَى} هي الاسمَ، فكانت مرفوعةً، وكما قال الشاعرُ
(6)
:
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 113 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 782، 783 (4297) من طريق سلمة به.
(2)
قراءة النصب هي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن بالرفع. ينظر الإتحاف 1/ 130.
(3)
في م: "إلا أن".
(4)
يأتى الكلام على هذه القراءة عند تفسير الآية 23 من سورة الأنعام.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"و".
(6)
البيت في الكتاب لسيبويه، 1/ 50، والمحتسب لابن جنى 2/ 116، وشرح المفصل لابن يعيش 7/ 96.
لقد علِم الأقوامُ ما كان داءَها
…
بثَهْلانَ إلا الخِزْىُ ممَّن يَقُودُها
ورُوِى أيضًا: ما كان داؤُها بثَهْلانَ إلا الخزىَ. نصبًا ورفعًا، على ما قد بيَّنْتُ، ولو فُعِل مثلُ ذلك مع "أن" كان جائزًا، غيرَ أن أفصحَ الكلامِ ما وصَفْتُ عندَ العربِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: فأَعْطَى اللهُ الرِّبِّيين الذين وصَفَهم بما وصفهم - مِن الصبرِ على طاعةِ اللهِ عز وجل بعدَ مَقْتَلِ أنبيائِهم، وعلى جهادِ عدوِّهم، والاستعانةِ باللهِ في أمورِهم، واقتفائِهم مَناهجَ إمامِهم، على ما أَبْلَوْا في اللهِ جلَّ وعزَّ - {ثَوَابَ الدُّنْيَا} ، يعني: جزاءً في الدنيا، وذلك النصرُ على عدوِّهم وعدوِّ اللهِ، والظَّفَرُ والفتحُ عليهم، والتمكينُ لهم في البلادِ، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} ، يعنى: وخيرَ جزاءِ الآخرةِ، على ما أسْلَفوا في الدنيا مِن أعمالِهم الصالحةِ، وذلك الجنةُ ونعيمُها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ، فقرَأ حتى بلَغ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: إى واللهِ، لَآتاهم الفتحَ والظهورَ والتمكينَ والنصرَ على عدوِّهم في الدنيا، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} ، يقولُ: وحسنَ الثوابِ في الآخرةِ وهى الجنةُ
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 784 (4305، 4307) من طريق يزيد به.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} . ثم ذكَر نحوَه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ في قولِه:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} . قال: النصرَ والغَنيمةَ. {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} . قال: رضوانَ اللهِ ورحمتَه
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} : الظهورَ
(3)
على عدوِّهم، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ}: الجنةَ وما أعدَّ فيها
(4)
.
وقولُه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: فعَل اللهُ ذلك بهم
(5)
بإحسانهم، فإنه يُحِبُّ المحسنين، وهم الذين يَفْعَلون مثلَ الذي وصَف عنهم تعالى ذكرُه، وأنهم فعَلوه حينَ قُتِل نبيُّهم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: يا أيُّها الذين صدَّقوا الله ورسولَه، في وعدِ اللهِ ووَعيدِه وأمرِه ونهيِه، {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يعني: الذين جحَدوا نبوةَ نبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم من اليهودِ والنصارى، فيما يَأْمُرونكم به، وفيما يَنْهَوْنَكُم عنه، فتَقْبَلُوا رأيَهم في ذلك، وتنتَصِحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 784 عقب الأثر (4305) من طريق ابن أبي جعفر به نحوه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 83 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، س:"وحسن الظهور"، وفى م:"حسن الظهور".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 113 بنحوه.
(5)
سقط من: م.
ناصحون {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . يقولُ: يَحْمِلوكم على الرِّدةِ بعدَ الإيمانِ، والكفرِ باللهِ وآياتِه ورسولِه بعدَ الإسلامِ، {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}. يقولُ: فتَرْجِعوا عن إيمانِكم ودينِكم الذي هداكم اللهُ عز وجل له، {خَاسِرِينَ} ، يعني: هالِكين، قد خسِرْتم أنفسَكم، وضلَلْتُم عن دينِكم، وذهَبَت دنياكم وآخرتُكم.
يَنْهَى بذلك أهلَ الإيمانِ باللهِ أن يُطِيعوا أهلَ الكفرِ في آرائِهم، ويَنْتَصِحوهم في أديانِهم كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} . أي: عن دينِكم، فتَذْهَبَ دنياكم وآخرتُكم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} . قال ابن جُريجٍ: يقولُ: لا تَنْتَصِحوا اليهودَ والنصارى على دينِكم، ولا تُصَدِّقوهم بشيءٍ في دينِكم
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} . يقولُ: إِن تُطِيعوا أبا سفيانَ يردَّكم
(3)
كفارًا.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 113، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 784، 785 (4311، 4313) من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 785 (4312) من طريق ابن ثور عن ابن جريج، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 83 إلى ابن المنذر.
(3)
في م: "يردوكم". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 784 (4308)، من طريق أحمد بن المفضل به نحوه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: أن الله عز وجل مُسَدِّدُكم أَيُّها المؤمنون، فمُنْقِذُكم مِن طاعةِ الذين كفَروا.
وإنما قيل: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} ؛ لأن في قولِه: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} نهيًا لهم عن طاعتِهم، فكأنه قال: يا أيُّها الذين آمنوا لا تُطِيعوا الذين كفَروا، فيردُّوكم على أعقابِكم. ثم ابْتَدَأ الخبرَ، فقال:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} ، فأطِيعوه دونَ الذين كفَروا، فهو خيرُ مَن نَصَر، ولذلك رُفع اسمُ اللهِ، ولو كان منصوبًا على معنى: بل أطِيعوا الله مولاكم دون الذين كفَروا، كان وجهًا صحيحًا.
ويعنى بقولِه: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} : بل اللهُ وليُّكم وناصرُكم على أعدائِكم الذين كفَروا {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ، لا مَن فرَرْتُم إليه مِن اليهودِ وأهلِ الكفرِ باللهِ. فباللهِ الذي هو ناصرُكم ومولاكم فاعْتَصِموا، وإياه فاسْتَنْصِروا دونَ غيرِه ممَّن يَبْغِيكم الغَوائلَ، ويَرْصُدُكم بالمكارهِ.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} ، إن كان ما تقولون بأْلسِنتِكم صدقًا في قلوبِكم، {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ، أيْ: فاعْتَصِموا به، ولا تَسْتَنْصِروا بغيرِه، ولا تَرْجِعوا على أعقابِكم مُرْتَدِّين عن دينِكم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 113، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 785 (4315) من طريق سلمة به.
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}.
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: سيُلْقى اللهُ أيُّها المؤمنون {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بربِّهم، وجَحدوا نبوةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ممن حارَبَكم بأُحُدٍ، {الرُّعْبَ} ، وهو الجزَعُ والهَلَعُ، {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} ، يعني: بشركِهم باللهِ وعبادتِهم الأصنامَ، وطاعتِهم الشيطانَ، التي لم أَجْعَلْ لهم بها حُجةٌ. وهى السلطان التي أَخْبَر الله جلَّ ثناؤه أنه لم يُنَزِّله بكفرِهم وشركِهم.
وهذا وعدٌ مِن اللهِ جل ثناؤُه أصحابَ رسولِه، بالنصرِ على أعدائِهم، والفَلْجِ
(1)
عليهم ما اسْتَقاموا على عهدِه، وتَمسَّكوا بطاعتِه، ثم أَخْبَرَهم تعالى ذكرُه ما هو فاعلٌ بأعدائِه بعدَ مصيرِهم إليه، فقال جل ثناؤُه:{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} يعني: ومَرْجِعُهم الذي يَرْجِعون إليه يومَ القيامةِ النارُ. {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} . يقولُ: وبئس مُقامُ الظالمين الذين ظلَموا أنفسَهم باكتسابِهم ما أوْجَب لها عقابَ اللهِ، النارُ.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)} . فإني سألْقِي في قلوبِ الذين كفَروا الرعب الذي به كنتُ أَنْصُرُكم عليهم، بما أَشْرَكوا بي، ما لم أَجْعَلْ لهم به حجةً، أي: فلا تَظُنُّوا أن لهم عاقبةَ نصرٍ، ولا ظهورٍ عليكم، ما اعْتَصَمْتُم بى
(2)
. واتَّبَعْتُم أمرى، للمُصيبةِ التي أصابَتْكم منهم، بذنوبٍ قدَّمْتُموها لأنفسِكم، خالَفْتُم
(1)
الفَلْج: الظفر والفوز.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
بها أمرى، وعصَيْتُم فيها نبيِّى عليه السلام
(1)
.
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما ارْتحَلَ أبو سفيانَ والمشركون يومَ أحدٍ مُتَوَجِّهين نحوَ مكةَ، انْطَلَق أبو سفيان حتى بلَغ بعضَ الطريقِ، ثم إنهم ندِموا فقالوا: بئس ما صنَعْتُم، إنكم قَتَلْتُموهم، حتى إذا لم يَبْقَ إلا الشَّرِيدُ ترَكْتُموهم، ارْجِعوا فاسْتَأْصِلوهم. فقذَف اللهُ جلَّ وعزَّ في قلوبِهم الرعبَ، فانْهَزَموا، فَلَقُوا أعرابيًّا، فجعَلوا له جُعْلًا، فقالوا له: إن لقِيتَ محمدًا فأخْبِرْهمِ
(2)
بما قد جَمَعْنا لهم. فأَخْبَرَ الله تعالى ذكرُه رسولَه صلى الله عليه وسلم، فطلَبَهم حتى بلَغ حمراءَ الأسَدِ، فأنْزَل اللهُ جلَّ ثناؤه في ذلك، يذكُرُ أبا سفيانَ حينَ أراد أن يَرْجِعَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما قُذِف في قلبِه مِن الرعبِ، فقال:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}
(3)
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} : ولقد صَدَقكم الله أيُّها المؤمنون مِن أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأُحُدٍ، {وَعْدَهُ} الذي وعَدَكم
(5)
على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 113، وأخرجه ابن أبي حاتم 3/ 785 (4317) من طريق سلمة به مختصرًا.
(2)
في م: "فأخبره".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 83 إلى المصنف.
(4)
بعده في ص: "يتلوه القول في تأويل قوله ولقد صدقكم الله وعده وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال أخبرَنا أبو جعفر محمد بن جرير".
وبعده في ت 1، ت 2، ت 3، س:"أخبرَنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال أخبرَنا أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله".
(5)
في م: "وعدهم".
والوعدُ الذي كان وعَدَهم على لسانِه بأُحدٍ قولُه صلى الله عليه وسلم للرُّماةِ: "اثْبُتوا مكانَكم ولا تَبْرَحوا وإن رأيْتُمونا قد هزَمْناهم، فإنا لن نَزالَ غالِبِين ما ثبَتُّم مكانَكم". وكان وعَدَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النصرَ يومئذٍ إن انتَهَوْا إلى أمرِه.
كالذى حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما بَرَز رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحدٍ، أمر الرُّماةَ، فقاموا بأصلِ الجبلِ في وجوهِ خيلِ المشركين، وقال:"لا تَبْرَحوا مكانَكم إن رأيتمونا قد هزَمناهم، فإنَّا لن نزالَ غالبين ما ثَبتُّم مكانَكم". وأمرَّ عليهم عبدَ اللهِ بنَ جُبيرٍ أخا خَوَّاتٍ بن جُبيرٍ.
ثم إن طلحةَ بنَ عثمانَ صاحبَ لواءِ المشركين قام فقال: يا معشرَ أصحابِ محمدٍ، إنكم تَزْعُمون أن الله يُعَجِّلُنا بسيوفِكم إلى النارِ، ويُعَجِّلُكم بسيوفِنا إلى الجنةِ، فهل منكم أحدٌ يُعَجِّلُه اللهُ بسيفى إلى الجنةِ، أو يعَجِّلُني بسيفه إلى النارِ؟ فقام إليه عليُّ بن أبى طالبٍ رضي الله عنه، فقال: والذي نفسي بيدِه، لا أُفَارِقُك حتى يُعَجِّلَك اللهُ بسيفى إلى النارِ، أو يُعَجِّلَنى بسيفِك إلى الجنةِ. فضرَبه عليٌّ، فقطَع رجلَه فسقَط، فانْكَشَفَت عورتُه، فقال: أَنْشُدُك الله والرحمَ يا بنَ عمِّ. فترَكه، فكبَّر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقال لعليٍّ أصحابُه: ما منَعك أن تُجْهِزَ عليه؟ فقال: إن ابنَ عمى ناشَدني الله حينَ انكَشَفت عورتُه، فاسْتَحْيَيْتُ منه.
ثم شدَّ الزبيرُ بنُ العوامِ والمِقْدادُ بنُ الأسودِ على المشركين، فهزَماهم، وحمَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، فهزَموا أبا سفيانَ، فلما رأَى ذلك خالدُ بنُ الوليدِ وهو على خيلِ المشركين حمَل، فرَمتْه الرُّماةُ فانْقَمَع، فلمَّا نظَر الرُّماةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في جوفِ عسكرِ المشركين يَنْتَهِبونه، بادَروا الغنيمةَ، فقال بعضُهم: لا نَتْرُكُ أمرَ رسولِ صلى الله عليه وسلم. فانْطَلَق عامتهم، فلحِقوا بالعسكرِ، فلما رأَى خالدٌ قلةَ الرُّماةِ صاح في خيلِه، ثم حمَل فقتَل الرُّماةَ، وحمَل على أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا
رأَى المشركون أن خيلَهم تُقاتِلُ تَنادَوْا، فَشَدُّوا على المسلمين، فهزَموهم وقتَلوهم
(1)
.
حدَّثنا هارون بنُ إسحاقَ، قال: ثنا مُصْعَبُ بنُ المِقْدامِ، قال: ثنا إسرائيلُ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن البَراءِ، قال: لما كان يومُ أحدٍ، ولقِينا المشركين، أجْلَس رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجالًا بإزاءِ الرُّماةِ، وأمرَّ عليهم عبدَ اللهِ بن جُبيرٍ أخا خَوَّاتٍ بن جُبيرٍ، وقال لهم:"لا تَبْرَحوا مكانَكم، إن رأيْتُمونا ظهَرْنا عليهم ولا تَبْرَحوا مكانَكم، وإن رأَيْتُموهم ظهَروا علينا فلا تُعِينونا". فلمَّا لِقىَ
(2)
القومَ هزم المشركين، حتى رأَيْتُ النساءَ رفَعْن عن سُوقِهن، وبدَت خَلاخِلُهن، فجعَلوا يقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ. قال عبدُ اللهِ: مَهْلًا، أما علِمْتُم ما عهِد إليكم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأبَوْا، فانْطَلَقوا، فلمَّا أتَوْهم صرَف اللهُ وجوهَهم، فأُصيب مِن المسلمين سبعون قَتيلًا
(3)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن البَراءِ، نحوه.
حدَّثني محمد بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه جلَّ وعزَّ:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} . فإن أبا سفيانَ أقْبَل في ثلاثِ ليالٍ خلَوْن من شوالٍ، حتى نزَل بأحدٍ، وخَرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأذَّن في الناسِ، فاجْتَمَعوا، وأمَّر الزبيرَ على
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 509، 510.
(2)
في م: "التقى".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 507، 508، وأخرجه البخارى (4043)، وابن حبان (4738) والبيهقي في الدلائل 3/ 267، 268 من طريق إسرائيل به، وأخرجه الطيالسي (761)، وأحمد 30/ 544 - 556، 562 (18093، 18600)، والبخاري (3039، 3986، 4061، 4067)، وأبو داود (2662)، والنسائى (8635، 11079 - كبرى)، والبيهقى في الدلائل 3/ 269 وغيرهم من طريق أبي إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 853 إلى ابن المنذر.
الخيلِ، ومعه يومَئذٍ المِقْدادُ بنُ الأسودِ الكِنْديُّ، وأعْطَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللواءَ رجلًا مِن قريشٍ، يقالُ له: مُصعبُ بنُ عميرٍ. وخرَج حمزةُ بنُ عبدِ المطلبِ بالحُسَّرِ
(1)
، وبعَث حمزةَ بينَ يديه، وأقْبَل خالدُ بنُ الوليدِ على خيلِ المشركين ومعه عكرمةُ بنُ أبى جهلٍ، فبعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزبيرَ، وقال:"اسْتَقْبِل خالدَ بنَ الوليدِ، فكُنْ بإزائِه حتى أُوذِنَك". وأمَر بخَيْلٍ أخرى، فكانوا مِن جانبٍ آخرَ، فقال:"لا تَبْرحوا حتى أُوذِنَكم". وأقْبَل أبو سفيانَ يَحْمِلُ اللَّاتَ والعُزَّى، فأَرْسَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الزبيرِ أن يَحْمِلَ، فحمَل على خالدِ بن الوليدِ، فهزَمه اللهُ ومَن معه، فقال جلَّ وعزَّ:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} . وإن الله تبارك وتعالى وعَد المؤمنين أن يَنْصُرَهم، وأنه معهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ بنُ مسلمِ بن عبيدِ اللهِ الزهريُّ، و
(3)
محمدُ بنُ يحيى بن حَبَّانَ، وعاصمُ بنُ عمرَ بن قتادةَ، والحصينُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن عمرِو بن سعدِ بن معاذٍ، وغيرُهم من عُلمائنا - في قصةِ ذكَرها عن أُحدٍ - ذكَر أن كلَّهم قد حدَّث ببعضِها، وأن حديثَهم اجْتَمَع فيما ساق مِن الحديثِ، فكان فيما ذكَر في ذلك أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نزَلَ الشِّعْبَ مِن أُحدٍ في عُدْوةِ الوادى إلى الجبلِ، فجعَل ظهرَه وعسكرَه إلى أحدٍ، وقال:"لا يقاتلَنَّ أحدٌ حتى نَأْمُرَه بالقتالِ". وقد سرَّحَت قريشٌ الظَّهْرِ
(4)
والكُراعَ
(5)
في زروعٍ كانت
(1)
الحُسَّرُ: جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه ولا مِغْفر. النهاية 1/ 383.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 508، 509، وأخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 599 (1625 - تحقيق حكمت بشير ياسين).
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أن".
(4)
الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب. اللسان (ظ هـ ر).
(5)
الكراع: الخيل. اللسان (ك ر ع).
بالصَّمْغةِ
(1)
مِن قَناةٍ
(2)
للمسلمين، فقال رجلٌ مِن الأنصارِ حينَ نهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن القتالِ: أَتُرْعَى زروعُ بنى قَيْلةَ
(3)
، ولمَّا نُضَارِبْ. وتَعبَّأ
(4)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم للقتالِ وهو في سبعِمائةِ رجلٍ، وتعبَّأت
(5)
قريشٌ وهم ثلاثةُ آلافٍ، ومعهم مائتا فرسٍ قد جَنَبوها
(6)
، فجعَلوا على مَيْمَنةِ الخيلِ خالدَ بنَ الوليدِ، وعلى مَيْسَرتِها عكرمةَ بن أبي جهلٍ، وأمَّر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الرُّماةِ عبدَ اللهِ بن جُبيرٍ أخا بنى عمرِو بن عوفٍ، وهو يومئذٍ مُعلَّمٌ بثيابٍ بيضٍ، والرُّماةُ خمسون رجلًا، وقال: "انْضَحُ
(7)
عنا الخيلَ بالنَّبْل، لا يَأْتُونا مِن خلفِنا، إن كانت لنا أو علينا فاثْبُتْ مكانَك، لا نُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ". فلما التَقَى الناسُ، ودنا بعضُهم من بعضٍ، واقْتَتَلوا حتى حمِيَت الحربُ، وقاتَل أبو دُجانةَ حتى أمْعَن في الناسِ، وحمزةُ بنُ عبدِ المطلبِ وعليُّ بن أبي طالبٍ في رجالٍ مِن المسلمين، فأنْزَل اللهُ نصرَه، وصدَقَهم وعدَه، فحسُّوهم بالسيوفِ حتى كشَفوهم، وكانت الهزيمةُ لا شكَّ فيها
(8)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن يحيى بن عبَّادِ بن عبدِ اللهِ بن الزبيرِ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال الزبيرُ: واللَّهِ لقد رأيتُنى أَنْظُرُ إِلى خَدَمِ
(9)
(1)
الصمغة: أرض قرب أحد من المدينة. معجم البلدان 3/ 418.
(2)
القناة: واد يأتى من الطائف وينتهى إلى أصل قبور الشهداء بأحد. ينظر معجم البلدان 4/ 182.
(3)
بنو قيلة: هم الأوس والخزرج أمهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو. جمهرة أنساب العرب ص 332.
(4)
في م: "صفنا".
(5)
في م: "تصاف".
(6)
جنبوها: قادوها إلى جنبهم. ينظر اللسان (ج ن ب).
(7)
انضح: ادفع.
(8)
سيرة ابن إسحاق ص 301 عن الزهرى به، وهو في السيرة لابن هشام، 2/ 65، 66 كلاهما بأتم من ذلك.
(9)
الخدم: جمع خَدَمةٍ، وهى الخلخال، وقد تسمى الساق خدمة حملا على الخلخال لكونها موضعه. اللسان (خ د م).
هندِ بنتِ عُتْبةَ وصواحبها مُشَمِّراتٍ هَواربَ، ما دون أخْذِهنَّ
(1)
قليلٌ ولا كثيرٌ، إذ مالت الرُّماةُ إلى العسكرِ حينَ كشَفْنا القومَ عنه، يُريدون النَّهْبَ، وخلَّوا ظهورَنا للخيلِ، فأُتِينا من أدْبارِنا، وصرَخ صارخٌ: ألا إن محمدًا قد قُتِل، فانْكَفَأْنا وانْكَفَأ علينا القومُ، بعد أن أَصَبْنا أصحابَ اللواءِ، حتى ما يَدْنُو منه أحدٌ مِن القومِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ في قولِه:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . أي: ولقد وفَيْتُ لكم بما وعَدْتُكم من النصرِ على عدوِّكم
(3)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه جلّ وعزَّ:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . وذلك يومَ أُحدٍ، قال لهم: "إنكم ستَظْهَرون، فلا أَعرِفنَّ
(4)
ما أصَبْتُم من غنائمِهم شيئًا، حتى تَفْرُغوا". فتركوا أَمْرَ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعَصَوْا، ووقَعوا في الغنائمِ، ونَسُوا عهدَه الذي عهِد إليهم، وخالَفوا إلى غيرِ ما أَمَرَهم به
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ولقد وَفَى اللهُ لكم أيُّها المؤمنون مِن أصحابِ محمدٍ، بما وعَدَكم مِن النصرِ على عدوِّكم بأحدٍ، حينَ {تَحُسُّونَهُمْ} ، يعني: حينَ تَقْتُلونهم. يقالُ منه: حسَّه يَحُسُّه حسًّا: إذا قتَلَه.
(1)
في م: "إحداهنَّ".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 77، 78، كما أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 513.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 113.
(4)
في م: "فلا تأخذوا". والمعنى: أي لا يخفى عليَّ ذلك ولا مقابلته بما يوافقه وفيه زجر عن فعل هذا. ينظر التاج (ع ر ف).
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 85 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن سعيدٍ الواسطيُّ، قال: أخبرَنا يعقوبُ بنُ عيسى، قال: ثنى عبدُ العزيزِ بنُ عِمْرانَ بن عبدِ العزيز بن عمرَ بن عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ عن محمدِ بن عبدِ العزيز، عن الزهريِّ، عن عبدِ الرحمنِ بن المِسْوَرِ بن مَخْرمةَ، عن أبيه، عن عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ في قولِه:{إِذ تَحُسُّونَهُمْ} . قال: الحَسُّ القتلُ.
حدَّثني يونسُ بن عبدِ الأعلى، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخْبرَني ابن أبى الزِّنادِ، عن أبيه، قال: سمِعْتُ عبيدَ اللهِ بنَ عبدِ اللهِ
(1)
يقولُ في قولِ اللهِ: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} . قال: القتلُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} . قال: تَقْتُلونهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} ، أي: قتلًا {بِإِذْنِهِ}
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} يقولُ: إذ تَقْتُلونهم
(5)
.
(1)
بعده في مصادر التخريج: "عن ابن عباس". وهو الصواب، ولعله سقط من رواية الطبرى.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 287، 288، وابن أبي حاتم في تفسيره (تحقيق د. حكمت بشير) 2/ 599 (1627)، والطبرانى في المعجم الكبير 10/ 165 (10731)، والحاكم في المستدرك 2/ 296، 297، والبيهقي في الدلائل 3/ 269 - 271، كلهم عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله عن ابن عباس.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (تحقيق د. حكمت بشير) 2/ 600 (1629) معلقا.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (تحقيق د. حكمت بشير) 2/ 600 (1633) معلقا.
(5)
في الأصل: "تقاتلونهم".
والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 135.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} : والحسُّ القتلُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} . يقولُ: تَقْتُلونهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} بالسيوفِ، أي: بالقتلِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ، يعنى القتلَ
(4)
.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} . يقولُ تقتلونهم
(5)
.
وأما قولُه: {بِإِذْنِهِ} ، فإنه يعنى: بحُكْمى وقَضائى لكم بذلك، وتَسْليطي إياكم عليهم.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} يقولُ: تحسُّونهم بإذنى وتَسْليطى أيديَكم عليهم، وكَفِّي أيديهم عنكم
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (تحقيق د. حكمت) 2/ 601 (1634) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (تحقيق د. حكمت بشير) 2/ 600 (1631) من طريق أسباط به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 786 (4319) من طريق سلمة به. وينظر سيرة ابن هشام 2/ 113.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (تحقيق د. حكمت بشير) 2/ 600 (1630) معلقا.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 85 إلى المصنف.
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 113.
القولُ في تأويلِ قولِه: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} .
يعنى بقولِه جل ثناؤُه: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} : حتى إذا جبُنْتُم ووخِمْتُم
(1)
، {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}. يقولُ: واخْتَلَفْتُم في أمرِ اللهِ. {وَعَصَيْتُمْ} . يقولُ وخالَفْتُم نبيَّكم صلى الله عليه وسلم، فترَكْتُم أمرَه، وما عهِد إليكم. وإنما يعنى بذلك الرُّماةَ الذين كان صلى الله عليه وسلم أمَرَهم بلزومِ مركزِهم ومقعدِهم مِن فم الشِّعْبِ بأحدٍ، بإزاءِ خالدِ بن الوليدِ ومَن كان معه مِن فُرسان المشركين الذين ذكَرْنا قبلُ أمْرَهم.
وأما قولُه: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، فإنه يعنى بذلك: مِن بعدِ الذي أراكم اللهُ أيُّها المؤمنون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن النصرِ والظَّفَرِ بالمشركين، وذلك هو الهزيمةُ التي كانوا هزَمُوهم عن نسائِهم وأموالِهم، قبلَ ترْكِ الرُّماةِ مَقاعدَهم، التي كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقعَدَهم فيها، وقبلَ خروجِ خيلِ المشركين على المؤمنين مِن ورائِهم.
وبنحوِ الذي قلنا تَظاهَرَت الأخبارُ عن أهلِ التأويلِ، وقد مضَى ذِكْرُ بعض مَن قال ذلك، وسنَذْكُرُ قولَ بعض مَن لم نذكُرْ قولَه فيما مضَى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} ، أي: اخْتَلَفْتُم في الأمرِ {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، وذاكم يومَ أحدٍ، عهد إليهم نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأمَرَهم بأمرٍ، فنَسُوا العهدَ، وجَاوَزوا وخالَفوا ما أمَرَهم نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فصرَف
(2)
عليهم عدوَّهم، بعدَ ما أراهم مِن عدوِّهم ما يُحِبُّون.
(1)
سقط من: ت 2، ت 3، س، وفى م:"ضعفتم".
(2)
في م: "فانصرف".
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَعث ناسًا مِن الناسِ - يعنى: يومَ أحدٍ - فكانوا مِن ورائِهم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُونوا هاهنا، فرُدُّوا وجهَ مَن [فرَّ منا]
(1)
، وكونوا حَرَسًا لنا من قِبَلِ ظهورِنا". وأنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمَّا هزَم القومَ هو وأصحابُه
(2)
الذين آمنوا الذين كانوا جُعِلوا مِن ورائِهم، فقال بعضُهم لبعضٍ، لما رأَوُا النساءَ مُصْعَداتٍ في الجبلِ، ورأَوُا الغَنائمَ، قالوا: انْطَلِقوا بنا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأدْرِكوا الغنيمةَ قبلَ أن تُسْبَقوا إليها. وقالت طائفةٌ أخرى: بل نُطِيعُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتَنْبُتُ مكانَنا. فذلك قولُه لهم:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} للذين أرادوا الغنيمةَ، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} للذين قالوا: نُطِيعُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونَثْبُتُ مكانَنا. فأتَوْا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقُتِلوا
(3)
فكان فشلًا حينَ تَنازَعوا بينهم، يقولُ:{وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، كانوا قد رأَوُا الفتحَ والغَنيمةَ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} . يقولُ: جبُنْتُم عن عدوِّكم، {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}. يقولُ: اخْتَلَفْتُم، {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، وذلك يوم أحدٍ، قال لهم:"إنكم ستَظْهَرون فَلا أعرِفنَّ ما أصَبْتُم مِن غَنائمِهم شيئًا، حتى تَفْرُغوا". فترَكوا أمرَ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعَصَوْا، ووقَعوا في الغَنائِمِ، ونَسُوا عهدَه الذي عهِده إليهم، وخالَفوا إلى غيرِ ما أمَرَهم به، فانْصَرَف عليهم عدوُّهم مِن بعدِ ما أراهم فيهم
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قدمنا".
(2)
بعده في م: "اختلف".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 508، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 786، 788، 789، (4322، 4327، 4333) عن محمد بن سعد به.
ما يُحِبُّون
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} . قال ابن جُريجٍ: قال ابن عباسٍ: الفشلُ الجُبْنُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، مِن الفتحِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} ، أي: تَخَاذَلْتُم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: اختَلَفْتُم في أمرى {وَعَصَيْتُمْ} ، أي: ترَكتُم أمر نبيِّكم صلى الله عليه وسلم، وما عهِد إليكم، يعنى: الرُّماةَ {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، أي: الفتحَ لا شكَّ فيه، وهزيمةَ القومِ عن نسائِهم وأموالِهم
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن المباركِ، عن الحسنِ:{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، يعنى: مِن الفتحِ.
وقيل: معنى قولِه: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} . حتى إذا تَنَازَعْتُم في الأمرِ فشِلْتُم وعصَيْتُم {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} ، و
(5)
أنه مِن المُقدَّمِ الذي معناه التأخيرُ. وأن الواوَ أُدخلت في ذلك،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 786 (4360، 4323) من طريق ابن أبي جعفر به مقتصرًا على أوله.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 85 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 788 (4329) من طريق أحمد به.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 114، وأخرجه ابن أبي حاتم إلى قوله:"تخاذلتم" في تفسيره 3/ 786 (4321) من طريق سلمة به.
(5)
سقط من: م.
ومعناها: السقوطُ كما قيل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103، 104]. معناه: نادَيْناه. وهذا مقولٌ في "حتى إذا" وفي ["فلما أن". و"فلما"]
(1)
ومنه قولُ اللهِ عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} . ثم قال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96، 97]. ومعناه: اقْتَرَب. وكما قال الشاعرُ
(2)
:
حتى إذا قَمِلَت
(3)
بطونُكمُ .. ورأيتُمُ أبناءَكُمْ شَبُّوا
وقلَبْتُمُ ظهْرَ المِجَنِّ
(4)
لنا
…
إن اللئيمَ العاجزَ الخَبُّ
القولُ في تأويلِ قولِه: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} . الذين ترَكوا مقعدَهم الذي أقْعَدَهم فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالشِّعْبِ مِن أُحُدٍ لخيلِ المشركين، ولَحِقُوا بمعسكرِ المسلمين؛ طَلَبَ النَّهْبِ، إذ رَأَوْا هزيمةَ المشركين. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} يعنى بذلك الذين ثبَتوا مِن الرُّماةِ في مقاعدِهم التي أَقْعَدَهم فيها رسولُ اللهِ
(5)
؛ محافظةً على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [وأمرِه]
(6)
، وابْتِغاءَ ما عندَ اللهِ مِن الثوابِ بذلك مِن فعلِهم، والدارِ الآخرةِ.
كما حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ،
(1)
في م: "لما".
(2)
البيتان في المقتضب 2/ 81 ومعاني القرآن للفراء 1/ 107، 238.
(3)
في المقتضب: "امتلأت"، وفى س:"ثملت". وقملت بطونكم، أي: كثرت قبائلكم. ينظر اللسان (ق م ل).
(4)
قلبتم ظهر المجن لنا، أي: عاديتمونا بعد مودة ورعاية.
(5)
بعده في م: "واتبعوا أمره".
(6)
سقط من: م.
عن السديِّ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} : فالذين انْطَلَقوا يُرِيدون الغَنيمةَ هم أصحابُ الدنيا، والذين بَقُوا وقالوا: لا نُخالِفُ قولَ رسولِ اللهِ. أرادوا الآخرةَ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ مثلَه
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} : فإنَّ نبيَّ اللهِ أمرَ يومَ أحدٍ طائفةً مِن المسلمين، فقال: "كُونوا مَسْلَحةً
(2)
للناسِ". بمنزلةٍ أمَرهم أن يَثْبُتوا بها، وأمَرَهم ألا يَرِيمُوا
(3)
مكانَهم حتى يَأْذَنَ لهم، فلما لَقِىَ نبيُّ اللهِ يومَ أحدٍ أبا سفيانَ ومَن معه مِن المشركين، هزَمَهم نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأَى المَسْلَحةُ أَن الله هزَم المشركين، انْطَلَق بعضُهم وهم يَتَنادَوْن: الغنيمةَ الغنيمةَ لا تَفُتْكم. وثبت بعضُهم مكانَهم، وقالوا: لا نَرِيمُ موضعَنا حتى يَأْذَنَ لنا نبيُّ صلى الله عليه وسلم اللهِ. ففي ذلك نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} . فكان ابن مسعودٍ يقولُ: ما شعرْتُ أن أحدًا مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان يُرِيدُ الدنيا وعَرَضَها حتى كان يومُ أحدٍ
(4)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قال
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 788 (4331) عن محمد بن سعد به.
(2)
المسلحة: القوم الذين يحفظون الثغور من العدو، وسموا مسلحة لأنهم يكونون ذوى سلاح. اللسان (س ل ح).
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يبرحوا". وهما بمعنى.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف.
ابن عباسٍ: لمَّا هزَم اللهُ المشركين يومَ أُحدٍ، قال الرُّماةُ: أَدْرِكوا الناسَ ونبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لا يَسْبِقوكم إلى الغنائمِ، فتَكونَ لهم دونَكم. وقال بعضُهم: لا نَرِيمُ حتى يَأْذَنَ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فنزَلَت: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
(1)
.
قال ابن جريجٍ: قال ابن مسعود: ما علِمْنا أن أحدًا مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان يُرِيدُ الدنيا وعرَضَها حتى كان يومئذٍ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن المباركِ، عن الحسنِ:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} : هؤلاء الذين يَجِيزُون
(2)
الغنائم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، الذين يَتَّبِعُونهم يَقْتُلونهم.
حدَّثنا الحسينُ بنُ عمرِو بن محمدٍ العَنقَزيُّ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ بنُ نصرٍ، عن السديِّ، عن عبد خيرٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: ما كنتُ أَرَى أحدًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الدنيا، حتى نزَل فينا يومَ أحدٍ:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن عبدِ خيرٍ، قال: قال ابن مسعودٍ: ما كنتُ أَظُنُّ في أصحابِ رسولِ الله يومئذ أحدًا يُريدُ الدنيا، حتى قال الله ما قال
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: قال عبدُ اللهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف.
(2)
في م: "يحوزون".
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط (1399) عن الحسين بن عمرو به.
(4)
أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (203) وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 788 (4330)، والبيهقي في الدلائل 3/ 228 من طريق أحمد بن المفضل به.
ابن مسعودٍ لما رآهم وقَعوا في الغَنائمِ: ما كنتُ أَحْسَبُ أن أحدًا مِن أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الدنيا حتى كان اليومُ.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: كان ابن مسعودٍ يقولُ: ما شَعَرْتُ أن أحدًا مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان يُرِيدُ الدنيا وعرَضَها حتى كان يومئذٍ.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} . أي: الذين أرادوا النهبَ، رغبةً في الدنيا، وترْكَ ما أُمِروا به مِن الطاعةِ التي عليها ثواب الآخرةِ. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، أي: الذين جاهَدوا في اللهِ و
(1)
لم يُخالفوا إلى ما نهُوا عنه، لعَرَضٍ من الدنيا؛ رغبةً في رجاءِ ما عندَ اللهِ مِن حسنِ ثوابِه في الآخرةِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ثم صرَفَكم أيُّها المؤمنون عن المشركين بعدَ ما أراكم ما تُحِبُّون فيهم وفي أنفسِكم، مِن هزيمتِكم إيَّاهم، وظهورِكم عليهم، فردَّ وجوهَكم عنهم؛ لمعصيتكم أمرَ رسولى، ومخالفتِكم طاعتَه، وإيثارِكم الدنيا على الآخرة؛ عقوبةً لكم على ما فعلْتُم، {لِيَبْتَلِيَكُمْ}. يقولُ: لِيَخْتَبِرَكم، فيَتَمَيَّزَ المنافقُ منكم مِن المخلصِ الصادقِ في إيمانِه منكم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، ثم ذكَر حينَ مال عليهم خالدُ بنُ الوليدِ: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
(1)
سقط من: م.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 114، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 789 (4332) من طريق سلمة به.
لِيَبْتَلِيَكُمْ}
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ في قولِه:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} . قال: صرَف القومَ عنهم، فقُتِل من المسلمين بعِدَّةِ مَن أُسروا يوم بدرٍ، وقُتِل عمُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكُسِرَت رَبَاعِيتُه، وشُجَّ في وجهِه، فكان يَمْسَحُ الدمَ عن وجهِه ويقولُ:"كيف يُفْلِحُ قومٌ فعلوا هذا بنبيِّهم، وهو يَدْعُوهم إلى ربِّهم؟ " فنَزَلَت [هذه الآيةُ]
(2)
: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران: 128]. فقالوا: أليس كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعَدَنا النصر؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} . أي: صرَفَكم عنهم ليَخْتَبِرَكم، وذلك ببعض ذنوبِكم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} .
يعنى بقوله تعالى ذكرُه: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} : ولقد عفا اللهُ أَيُّها المُخالِفون أمْرَ رسولى، والتارِكون طاعتَه، فيما تقَدَّم إليكم مِن لزومِ الموضعِ الذي أمَرَكم بلزومِه - عنكم، فصفَح لكم مِن عقوبةِ ذنبِكم الذي أتَيْتُموه، عما هو أعظمُ مما عاقَبَكم به، من هزيمةِ أعدائِكم إياكم، وصَرْفِ وجوهِكم عنهم، إذ لم يَسْتَأْصِلْ جميعكم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 789 (4335) من طريق أحمد بن المفضل به.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 114، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 789 (4336) من طريق سلمة به.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} . قال: قال الحسنُ - وصفَّق بيديه -: وكيف عفا عنهم وقد قُتِل منهم سبعون، وقُتِل عمُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكُسِرَت رَبَاعِيتُه، وشُجَّ في وجهه؟ قال: ثم يقولُ: قال الله: قد عفَوْتُ عنكم إذ عصَيْتُمونى، ألا أَكونَ اسْتأْصَلْتُكم. قال: ثم يقولُ الحسنُ: هؤلاء مع رسول الله، وفى سبيلِ الله، غِضابٌ للهِ، يُقاتِلون أعداءَ اللهِ، نُهُوا عن شيءٍ فضيَّعوه
(1)
، فواللهِ ما تُرِكوا حتى غُمُّوا بهذا الغَمِّ، فأَفْسَقُ الفاسقين اليومَ يتجَرْثَمُ
(2)
كلَّ كبيرةٍ، ويَرْكَبُ كلَّ داهيةٍ، ويَسْحَبُ عليها ثيابَه، ويَزْعُمُ ألا بأسَ عليه، فسوف يَعْلَمُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ قوله:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} . قال: لم يَسْتَأْصِلُكم
(4)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} : ولقد عفا اللهُ عن عظيمِ ذلك، لم يُهْلِكُكم بما أتَيْتُم من معصيةِ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم، ولكن عُدْتُ بفَضْلِي عليكم
(5)
.
وأما قولُه: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . فإنه يعنى: واللهُ ذو طَوْلٍ [ومنٍّ]
(6)
على أهل الإيمانِ به وبرسولِه، بعفوِه لهم عن كثيرِ ما يَسْتَوْجِبون به العقوبة عليه من ذنوبهم، فإن عاقَبَهم على بعض ذلك، فذو إحسانٍ إليهم، بجميلِ أياديه عندَهم.
(1)
في م: "فصنعوه".
(2)
في س: "يتجرأ"، وفى م:"يتجرأ على"، وتجرثم الشيءَ: أخذ معظمه. اللسان (جرثم).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف بتمامه، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 789 (4337) من طريق الحجاج، عن الحسن، مختصرا جدًّا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف، وابن المنذر.
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 114، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 790 (4338) من طريق سلمة به.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: وكذلك منَّ اللهُ على المؤمنين، أن عاقَبَهم ببعضِ الذنوبِ في عاجلِ الدنيا؛ أدبًا وموعظةً، فإنه غيرُ مُسْتَأْصِلٍ لكلِّ ما فيهم مِن الحقِّ له عليهم؛ لِما أصابوا مِن معصيتِه، رحمةً لهم، وعائدةً عليهم، لما فيهم
(1)
مِن الإيمانِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ولقد عفا عنكم أيُّها المؤمنون إذ لم يَسْتَأْصِلْكم إهلاكًا منه جميعكم بذنوبِكم وهربِكم [عن عدوِّكم]
(3)
إذ تُصْعِدُون ولا تلوون على أحدٍ.
واخْتَلَفَتِ القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرَأَته عامةُ قرأةِ أهلِ الحجازِ والعراقِ والشامِ سوى الحسن البصريِّ: {إِذْ تُصْعِدُونَ} بضمِّ التاءِ وكسرِ العينِ. وبه القراءةُ عندَنا؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من القرأةِ على القراءةِ به، واستنكارِهم ما خالَفه.
ورُوِى عن الحسنِ البصريِّ رحمه الله أنه كان يَقْرَأَ: (إِذْ تَصْعَدُونَ) بفتحِ التاءِ والعينِ
(4)
.
حدَّثني بذلك أحمدُ بنُ يوسُفَ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سلَّامٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ، عن يونُسَ بن عُبيدٍ، عن الحسنِ
(5)
.
(1)
في الأصل: "فيه".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 114.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 108.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف.
فأما الذين قرَءوا: {تُصْعِدُونَ} بضمِّ التاءِ وكسرِ العينِ، فإنهم وجَّهوا معنى الله ذلك إلى أن القومَ حينَ انْهَزَموا عن عدوِّهم، أخَذُوا في الوادى هارِبين، وذكَروا أن ذلك في قراءةِ أبيٍّ:(إذ تُصْعِدون في الوادي).
حدَّثنا بذلك
(1)
أحمدُ بنُ يوسُفَ، قال: ثنا أبو عُبيدٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ
(2)
.
قالوا: فالهربُ في مستوى الأرضِ وبطونِ الأوديةِ والشِّعابِ إصعادٌ لا صُعودٌ. قالوا: وإنما يَكونُ الصعودُ على الجبالِ والسَّلاليمِ والدَّرَجِ؛ لأن معنى الصعودِ الارتقاءُ والارتفاعُ على الشيءِ عُلُوًّا.
قالوا: فأما الأخذُ في مستوى الأرضِ والهبوطِ، فإنما هو إصعادٌ، كما يقالُ: أصْعَدْنا من مكةَ. إذا ابْتَدَأْتَ في السفرِ منها والخروجِ وأصْعَدْنا من الكوفةِ إلى خُراسانَ، بمعنى: خرَجْنا منها سفرًا إليها، [وابْتَدَأْنا منها الخروجَ]
(3)
إليها.
قالوا: وإنما جاء تأويلُ أكثرِ أهلِ التأويلِ بأن القومَ أخَذوا عندَ انهزامِهم عن عدوِّهم في بطنِ الوادى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} . ذاكم يومَ أُحُدٍ، أَصْعَدوا في الوادي فرَأوْا
(4)
نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يدعوهم: " [أي عبادَ اللهِ"]
(5)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86 إلى المصنف.
(3)
في الأصل: "وابتدأ منها فالخروج"، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وابتدأ منها الخروج".
(4)
بياض في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، وفى م:"فرارًا و".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
[حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}: وذلك يوم أحُدٍ، صعِدوا الواديَ فرأوا نبيَّ اللهِ يَدْعُوهم]
(1)
في أُخْراهم: " [يا لَعبادِ]
(2)
اللهِ، [يالَعبادِ]
(2)
اللهِ".
وأما الحسنُ رحمه الله فإنى أُراه ذهَب في قراءتِه: (إِذْ تَصْعَدُونَ). بفتحِ التاءِ والعينِ، إلى أنَّ القومَ حينَ انْهَزَموا عن المشركين صعِدوا الجبلَ. وقد قال ذلك عددٌ مِن أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما شدَّ المشركون على المسلمين بأحدٍ فهزَموهم، دخَل بعضُهم المدينةَ، وانْطَلَق بعضُهم فوقَ الجبلِ إلى الصخرةِ، فقاموا عليها، وجعل رسولُ اللهِ يَدْعو الناسَ:"إليَّ عبادَ اللهِ، إلى عبادَ اللهِ". فذكَر اللهُ صعودَهم على الجبلِ، ثم ذكَر دعاءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياهم، فقال:(إذْ تَصْعدون ولا تَلْوون على أحدٍ والرسولُ يَدْعوكم في أُخراكم)
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ، قال: انحازوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعَلوا يَصْعَدون في الجبلِ، والرسولُ يَدْعوهم في أُخْراهم.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إلى عباد".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 118 عن السدى.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: (إذ تَصْعَدون ولا تَلْوُون على أحدٍ). قال: صَعِدوا
(1)
في الجبلِ
(2)
فِرارًا
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وقد ذكَرْنا أن أولى القراءتين بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأ: {إِذْ تُصْعِدُونَ} بضمِّ التاءِ وكسرِ العينِ، بمعنى السَّيرِ
(4)
والهربِ في مستوى الأرضِ أو في المَهابطِ
(5)
؛ لإجماعِ الحُجَّةِ على أنَّ ذلك هو القراءةُ الصحيحةُ، ففي إجماعِها على ذلك الدليلُ الواضحُ على أن أولى التأويلين بالآية تأويلُ مَن قال: أَصْعَدوا في الوادى ومضَوْا فيه. دونَ قولِ مَن قال: صعِدوا على الجبلِ.
وأما قولُه: {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} . فإنه يعنى: ولا تَعْطِفون على أحدٍ منكم، ولا يَلْتَفِتُ بعضُكم إلى بعضٍ؛ هربًا مِن عدوِّكم مُصْعِدين في الوادي.
ويعنى بقولِه: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} : ورسولُ اللهِ يَدْعوكم أيُّها المؤمنون به من أصحابِه {فِي أُخْرَاكُمْ} . يعنى أنه يُنادِيكم مِن خلفِكم: "إليَّ عبادَ اللهِ، إليَّ عبادَ اللهِ".
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} : "أي
(6)
عبادَ اللهِ ارْجِعوا، أي
(6)
عبادَ اللهِ، ارْجِعوا"
(3)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَالرَّسُولُ
(1)
في الأصل: "أصعدوا".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أحد".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 86، 87 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"السبق".
(5)
في الأصل: "الهبوط".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلى".
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}: رأَوْا نبيَّ اللَّهِ يَدْعوهم: "أي
(1)
عبادَ اللهِ"
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ مثلَه.
[حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيعِ مثلَه]
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ قال: أَنَّبَهم اللهُ بالفرارِ عن نبيِّهم وهو يَدْعُوهم، لا يَعْطِفون عليه لدعائِه إياهم، فقال:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}
(4)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} : هذا يومَ أُحُدٍ حِينَ انْكَشَف الناسُ عنه
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)} .
يعنى بقوله جلَّ وعزَّ: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} يَعْنى: فجازاكم بقرارِكم عن نبيِّكم، وفشَلِكم عن عدوّكم، ومعصيتِكم ربَّكم، {غَمًّا بِغَمٍّ}. يقولُ: غَمًّا على غمٍّ.
وسمَّى العقوبةَ التي عاقَبَهم بها مِن تسليطٍ عدوِّهم عليهم، حتى نال منهم ما نال، ثوابًا، إذ كان جزاءً
(6)
من عملهم الذي سخطه ولم يَرْضَه منهم، فدلَّ بذلك تعالى ذكرُه أن كلَّ عِوَضٍ كان لمُعَوَّضٍ مِن شيءٍ مِن العملِ، خيرًا كان أو شرًّا، أو العوضِ الذي بذله رجلٌ لرجلٍ، أو يدٍ سلَفَت له إليه، فإنه مستحقٌّ اسمَ ثوابٍ، كان ذلك العِوَضُ تَكْرِمةً أو عقوبةً، ونظيرُ ذلك قولُ الشاعرِ
(7)
:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلى".
(2)
تقدم تخريجه في ص 146.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 114.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 118.
(6)
بياض في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، وفى م:"ذلك".
(7)
هو الفرزدق، والبيت في ديوانه ص 227.
[أخافُ زيادًا]
(1)
أن يكونَ عطاؤُه
…
أداهِمَ
(2)
سُودًا أو مُحَدْرَجةً
(3)
سُمْرَا
فجعَل العطاءَ القيودَ
(4)
، وذلك كقولِ القائلِ لآخرَ سلَف إليه منه مكروهٌ: لأُجازيَنَّك على أفعالِك، ولأُثِيبَنَّك ثوابَك.
وأما قولُه: {غَمًّا بِغَمٍّ} . فإنه قيل: {غَمًّا بِغَمٍّ} . ومعناه: غَمًّا على غَمٍّ. كما قال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. بمعنى: ولأُصَلِّبَنَّكم على جذوعِ النخلِ. وإنما جاز ذلك لأن معنى قولِ القائلِ: أثابك اللهُ غمًّا على غمٍّ: جزاك اللهُ عَمًّا بعد غمٍّ تقدَّمه. فكان كذلك معنى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} . لأن معناه: فجزاكم عَمًّا بعقب غمٍّ تقدَّمه. وهو نظيرُ قولِ القائلِ: نزَلْتُ ببنى فلانٍ، ونزَلْتُ على بنى فلانٍ، وضرَبْتُه بالسيفِ، وعلى السيفِ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الغمِّ الذي أُثِيب القومُ على الغمِّ، وما كان غمُّهم الأول والثاني؟ فقال بعضُهم: أما الغَمُّ الأولُ، فكان ما تحَدَّث به القومُ أن نبيَّهم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل. وأما الغمُّ الآخرُ، فإنه كان ما كان نالَهم مِن القتلِ والجراحِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} : كانوا تحَدَّثوا يومَئذٍ أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُصيب، وكان الغمُّ الآخرُ قتلَ أصحابِهم، والجِراحاتِ التي أصابَتْهم. قال: وذُكِر لنا أنه قُتِل يومَئذٍ سبعون رجلًا
(1)
في الديوان: "فلما خشيت".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"دراهم". والأداهم: جمع أدهم، وهو القيد. اللسان (د هـ م).
(3)
في الأصل: "مدحرجة".
والمحدرجة: السياط التي أُحْكِم فتلها.
(4)
في م: "العقوبة"، وفى س:"النقود".
مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ ستةٌ وستون من الأنصارٍ، وأربعةٌ مِن المهاجرين. وقولُه:{لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} . يقولُ: على ما فاتكم من غَنيمةِ القومِ، {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} في أنفسِكم مِن القتلِ والجِراحاتِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} . قال: فرَّةً بعد فرَّةٍ الأولى حينَ سمِعوا الصوتَ أن محمدًا قد قُتِل، فرجَع
(2)
الكفارُ فضرَبوهم مُدْبِرِين، حتى قتَلوا منهم سبعين رجلًا، ثم انْحازوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعَلوا يَصْعَدون في الجبلِ والرسولُ يَدْعُوهم في أُخْراهم
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ نحوَه.
وقال آخرون: بل غمُّهم الأولُ كان قَتْلَ مَن قُتِل منهم، وجَرْحَ مَن جُرِح منهم، والغمُّ الثاني كان مِن سَماعِهم صوتَ القائلِ: قُتِل محمدٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{غَمًّا بِغَمٍّ} . قال: الغمُّ الأولُ الجِراحُ والقتلُ، والغمُّ الثاني حينَ سمِعوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، فأنْساهم الغمُّ الآخرُ ما أصابهم مِن الجراحِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م: "الثانية حيث رجع".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 791 (4347) من طريق ابن أبي نجيح، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
والقتلِ، وما كانوا يَرْجُون مِن الغَنيمةِ، وذلك حينَ يقولُ:{لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} . قال: الغمُّ الأولُ الجراحُ والقتلُ، والغمُّ الآخرُ حينَ سمِعوا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، فأنْساهم الغمُّ الآخرُ ما أصابهم مِن الجراحِ والقتلِ، وما كانوا يَرْجون مِن الغَنيمةِ، وذلك حينَ يقولُ اللهُ:{لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}
(2)
.
وقال آخرون: بل الغمُّ الأولُ كان ما فاتهم من الفتحِ والغَنيمةِ، والثاني إشرافُ أبي سفيانَ عليهم في الشِّعْبِ، وذلك أن أبا سفيانَ - فيما زعم بعضُ أهلِ السِّيَرِ - لمَّا أصاب مِن المسلمين ما أصاب، وهرَب المسلمون، جاء حتى أشْرَف عليهم وفيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شِعْب أُحُدٍ الذي كانوا وألُوا
(3)
إليه عند الهزيمةِ، فخافوا أن يَصْطَلِمَهم
(4)
أبو سفيانَ وأصحابُه.
ذكرُ [من قال ذلك]
(5)
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسْباط، عن السديِّ، قال: انْطَلَق رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ يَدْعو الناسَ، حتى انْتَهَى إلى أصحابِ الصخرةِ، فلمَّا رأَوْه وضَع رجلٌ سهمًا في قوسِه، فأراد أن يَرْمِيَه، فقال:"أنا رسولُ اللهِ". ففرِحوا بذلك حينَ وجَدوا رسولَ اللهِ حيًّا، وفرِح رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رأَى
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 136، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 791 (4348) عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف.
(3)
في م: "ولو". ووألوا: لجئوا. اللسان (و أ ل).
(4)
الاصطلام: افتعال من الصلم: القطع. النهاية 3/ 49.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الخبر بذلك".
أن
(1)
في أصحابِه مَن يَمْتَنِعُ. فلمَّا اجْتَمَعوا وفيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
ذَهَب عنهم الحَزَنُ، فأقْبَلوا يَذْكُرون الفتحَ وما فاتهم منه، ويَذْكُرون أصحابَهم الذين قُتِلوا. فأقْبَل أبو سفيانَ حتى أشْرَف عليهم، فلمَّا نظَروا إليه، نَسُوا ذلك الذي كانوا عليه، وهمَّهم أبو سفيانَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ليس لهم أن يَعْلُونا، اللهم إن تُقْتَلْ هذه العِصابةُ لا تُعْبَدْ". ثم ندَب أصحابَه، فرمَوْهم بالحجارةِ حتى أنْزَلُوهم، فقال أبو سفيانَ يومَئذٍ: اعْلُ هُبَلُ، حَنْظلةُ بحَنْظلةَ، ويومٌ بيومِ بدرٍ. وقتَلوا يومَئذٍ حنظلةَ بنَ الراهبِ، وكان جُنُبًا فغسَّلَته الملائكةُ، وكان حَنْظلةُ بنُ أبي سفيانَ قُتِل يومَ بدرٍ. وقال أبو سفيانَ: لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعمرَ:"قلِ: اللهُ مولانا ولا مَوْلى لكم". فقال أبو سفيانَ: أفيكم محمدٌ؟ قالوا: نعم. قال: أمَا إنها قد كانت فيكم مُثْلَةٌ، ما أمَرْتُ بها ولا نهَيْتُ عنها، ولا سرَّتْنى ولا ساءَتْني. فذكَر اللهُ إِسْرَافَ أبي سفيانَ عليهم، فقال:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} . الغمُّ الأولُ ما فاتهم من الغَنيمةِ والفتحِ، والغمُّ الثاني إشرافُ العدوِّ عليهم {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} مِن الغنيمةِ {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} من القتلِ حينَ تَذْكُرون. فشغَلهم أبو سفيانَ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني ابن شهابٍ الزهريُّ، ومحمدُ بنُ يحيى بن حَبَّانَ، وعاصمُ بنُ عمرَ بن قَتادةَ، والحصينُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن عمرِو بن سعدِ بن مُعاذٍ، وغيرُهم من علمائِنا فيما ذكَروا مِن حديثِ أُحُدٍ، قالوا: كان المسلمون في ذلك اليومِ - لِمَا أصابهم فيه مِن شدةِ البلاءِ - أثلاثًا؛ ثلثٌ قَتِيلٌ،
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حين".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 520، 521، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وهو عند ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 791 (4349) من طريق أحمد به مختصرا جدا.
وثلثٌ جَريحٌ، وثلثٌ مُنْهَزِمٌ وقد تَلَغَّبَتْه
(1)
الحربُ حتى ما يَدْرِيَ مَا يَصْنَعُ، وحتى خلَص العدوُّ إلى رسولِ اللهِ فدُثَّ
(2)
بالحجارةِ، حتى وقَع لشِقِّه، وأُصِيبَتْ رَبَاعِيتُه، وشُجَّ في وَجْنتِه
(3)
، وكُلِمَت شَفَتُه
(4)
، وكان الذي أصابه عُتْبةُ بنُ أبي وَقَّاصٍ. وقاتَل مُصْعَبُ بن عُميرٍ دونَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومعه لِواؤُه حتى قُتِل، وكان الذي أصابه ابن قَمِيئَةَ الليثيُّ وهو يَظُنُّ أنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرجَع إلى قريشٍ فقال: قد قتَلْتُ محمدًا
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: فكان أولَ مَن عرَف رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ الهزيمةِ وقولِ الناسِ: قُتل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. كما
(6)
حدَّثني ابن شهابٍ الزهريُّ - كعب بنُ مالكٍ أخو بني سلِمةَ، قال: عَرَفْتُ عَيْنَيْه تَزْهَران
(7)
تحتَ المِغْفَرِ، فنادَيْتُ بأعْلَى صوتى: يا مَعْشرَ المسلمين، أبْشِروا، هذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأشار إليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أن أنْصِتْ. فلمَّا عرَف المسلمون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم انهَضوا به، ونهَض نحوَ الشِّعْبِ معه عليُّ بنُ أبى طالبٍ وأبو بكرِ بنُ أبي قُحافةَ وعمرُ بنُ الخطابِ وطلحةُ بن عُبيدِ اللهِ والزبيرُ بنُ العوَّامِ والحارثُ بنُ الصِّمَّةِ
(8)
، في رَهْطٍ مِن المسلمين، قال: فبينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الشِّعْبِ، ومعه أولئك النفرُ مِن أصحابِه، إذ علَت عاليةٌ مِن قريشٍ الجبلَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنه لا يَنْبَغِى لهم أن يَعْلُونا". فقاتَل عمرُ بن الخطابِ ورهْطٌ معه مِن المهاجرين حتى أهْبَطوهم عن
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بلغته".
(2)
الدث: الرجم. القاموس المحيط (د ث ث).
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وجهه".
(4)
في الأصل: "شفتيه".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 73، 79، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 514 - 516.
(6)
بعده في النسخ: "حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال". والمثبت من تاريخ المصنف.
(7)
تزهران: تشرقان.
(8)
في م: "الصامت".
الجبلِ، ونهَض رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى صخرةٍ من الجبلِ ليَعْلُوَها، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد بدَّن
(1)
، وظاهرَ بينَ دِرْعَيْن
(2)
، فلمَّا ذهَب ليَنْهَضَ، فلم يَسْتَطِعْ، جلَس تحتَه طلحةُ بن عُبيدِ اللهِ، فنهَض حتى اسْتَوَى عليها.
ثم إنَّ أبا سفيانَ حينَ أراد الانصرافَ أشْرَف على الجبلِ، ثم صرَخ بأعلى صوتِه: أَنْعَمَتْ فعالِ
(3)
، إنَّ الحربَ سِجالٌ، يومٌ بيومِ بدرٍ، اعْلُ هُبَلُ. أَيْ: ظهَر دينُك. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعمرَ: "قُمْ فَأَجِبْه، فقُلْ: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، لا سَواءَ، قَتْلانا في الجنةِ، وقَتْلاكم في النارِ". فلمَّا أجاب عمرُ رضي الله عنه أبا سفيانَ، قال له أبو سفيانَ: هَلُمَّ إليَّ ياعمرُ، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ائْتِه فانْظُرْ ما شأنُه"؟ فجاءَه فقال له أبو سفيانَ: أَنْشُدُك الله يا عمرُ، أقتَلْنا محمدًا؟ فقال عمرُ: اللهمَّ لا، وإنه لَيَسْمَعُ كلامَك الآنَ. فقال: أنت أصدقُ عندى مِن ابن قَمِيئَةَ وأبرُّ
(4)
. لقولِ ابن قَمِيئةَ لهم: إنى قد قتَلْتُ محمدًا. ثم نادىَ أبو سفيانَ، فقال: إنه قد كان في قَتْلاكم مُثَلٌ
(5)
، واللهِ ما رضِيتُ ولا سخِطْتُ، وما نهَيْتُ ولا أمَرْتُ
(6)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} ، أي: كَرْبًا بعدَ كَرْبٍ، قَتْلُ مَن قُتِل من إخوانِكم، وعلوُّ عدوِّكم عليكم، وما وقَع في أنفسِكم مِن
(1)
بدن: كبر وأسن. النهاية 1/ 107.
(2)
أي جمع ولبس إحداهما فوق الأخرى. النهاية 3/ 166.
(3)
في م: "فقال". وقد كان الرجل من قريش إذا أراد ابتداء أمر عمد إلى سهمين فكتب على أحدهما: "نعم"، وعلى الآخر:"لا". ثم يتقدم إلى الصنم ويجيل سهامه، فإن خرج سهم "نعم" أقدم، وإن خرج سهم "لا" امتنع. وكان أبو سفيان لما أراد الخروج إلى أحد استفتى هبل، فخرج له سهم الإنعام فذلك قوله:"أنعمت، فعال عنها": أي تجاف عنها ولا تذكرها بسوء، يعنى آلهتهم. النهاية 3/ 294.
(4)
في م: "وأشار".
(5)
في م: "مثلة".
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 83، 86، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 518، 521، 522، 527.
قولِ مَن قال: قُتِل نبيُّكم. فكان ذلك مما تَتابَع عليكم {غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} مِن ظهورِكم على عدوِّكم بعد أن رأيْتُموه بأعينِكم، {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} مِن قتلِ إخوانِكم حين
(1)
فرَّجْتُ بذلك الكربَ عنكم، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وكان الذي فرَّج به عنهم ما كانوا فيه من الكربِ والغمِّ الذي أصابهم أن الله تعالى ذكرُه ردَّ عنهم كِذْبةَ الشيطانِ بقتلِ نبيِّهم، فلمَّا رأَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيًّا بينَ أظْهُرِهم، وإن عليهم ما فاتهم مِن القومِ بعدَ
(2)
الظهورِ عليهم، والمصيبةِ التي أصابَتْهم في إخوانِهم، حينَ صرَف اللهُ القتلَ عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} . قال ابن جُرَيجٍ: قال مجاهدٌ: أصاب الناسَ حُزْنٌ وغَمٌّ على ما أصابهم في أصحابِهم الذين قُتِلوا، فلمَّا توَلَّجوا في الشَّعْبِ [وهم فلٌّ مُصابون]
(4)
، وقف أبو سفيانَ وأصحابُه ببابِ الشِّعْبِ، فظنَّ المؤمنون أنهم سوف يَمِيلون عليهم فيقْتُلونهم أيضًا، فأصابهم حزنٌ في ذلك
(5)
أنساهم حُزنَهم في أصحابهم، فذلك قولُه:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} . قال ابن جُريجٍ: قولُه: {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} . يقولُ: على ما فاتكم مِن غَنائِمِ القومِ، {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} في أنفسِكم
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال:
(1)
في م: "حتى".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فهذا"، وفى م:"فهان".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 114، وأخرج بعضه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 791، 792 (4350، 4357) من طريق سلمة به.
(4)
في ص: "وهم مصابون"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يتصافون".
(5)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أيضا".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف.
أَخْبرَني عبدُ اللهِ بنُ كَثيرٍ، عن عُبيدِ بن عُميرٍ قال: جاء أبو سفيانَ بنُ حربٍ ومَن معه حتى وقَف بالشِّعْبِ، ثم نادَى: أفى القوم ابن أَبي كَبْشَةَ؟ فسكَتوا، فقال أبو سفيانَ: قُتِل وربِّ الكعبةِ. ثم قال: أفى القومِ ابن أبي قُحافةَ؟ فسكَتوا، فقال: قتِل وربِّ الكعبةِ. ثم قال: أفى القوم ابن الخطابِ؟ فسكَتوا، فقال: قُتل وربِّ الكعبةِ. ثم قال أبو سفيانَ اعْلُ هُبَلُ، يومٌ بيومِ بدرٍ، [والحربُ سجالٌ]
(1)
وحَنْظلةُ بحنظلةَ، وأنتم واجِدون في القومِ مُثَلًا لم تكُنْ عن رأى سَراتِنا وخِيارِنا، ولم نَكْرَهُه حين رأَيْناه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرَ بن الخطابِ:"قُم فنادِ، فقل: اللهُ أَعْلَى وأجَلُّ، نعم، هذا رسولُ اللهِ، وهذا أبو بكرٍ، وهأنذا، لا يَسْتَوِى أصحابُ النارِ وأصحابُ الجنةِ، أصحابُ الجنةِ هم الفائزون، قَتْلانا في الجنةِ، وقَتْلاكم في النارِ".
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثني به محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} : فرجَعوا فقالوا: واللهِ لَتَأْتِيَنَّهم، ثم لَنَقْتُلَنَّهم، قد جرَحوا
(2)
منا. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَهْلًا، فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجلِ أنكم عصَيْتُمونى". فبينما هم كذلك، إذ أتاهم القومُ قد ائْتَشبوا
(3)
، وقد اخْتَرَطوا سيوفَهم
(4)
، فكان عمُّ الهزيمةِ وغَمُّهم حينَ أتَوْهم، {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} مِن القتلِ {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} مِن الجِراحةِ، {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} الآية. وهو يومُ أحدٍ
(5)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"خرجوا".
(3)
في الأصل، وتفسير ابن أبي حاتم، والدر المنثور:"أيسوا"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أنسوا"، وغير منقوطة في ص، ولعل المثبت هو الصواب، يقال: ائتشب القوم: اجتمعوا.
(4)
اخترطوا سيوفهم: سلوها من أغمادها.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 790، 791 (4343، 4345) عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وأولى هذه الأقوالِ بتأويلِ الآية قولُ مَن قال: معنى قولِه: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [فأثابكم بغمِّكم]
(1)
أيُّها المؤمنون بحرمانِ اللهِ إياكم غَنيمةَ المشركين والظُّفَرَ بهم والنصرَ عليهم، وما أصابكم من القتلِ والجراحِ يومئذٍ - بعدَ الذي كان قد أَراكم في كلِّ ذلك ما تُحبُّون - بمعصيتِكم ربَّكم، وخلافِكم أمرَ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم؛ غمَّ ظنِّكم أن نبيَّكم صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، وميلَ العدوِّ عليكم بعدَ فُلولِكم منهم.
والذي يَدُلُّ على أن ذلك أولى بتأويلِ الآية مما خالَفه [من الأقوالِ]
(1)
قولُه: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} . والفائتُ لا شَكَّ أنه هو ما كانوا رجَوا الوصولَ إليه مِن غيرِهم، إمَّا مِن ظهورٍ عليهم بغلَبِهم، وإما مِن غنيمةٍ يَحْتارُونها، وأن قولَه:{إِوَلَا مَا أَصَابَكُمْ} هو ما أصابهم إما في أبدانِهم، وإما في إخوانِهم.
فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الغمَّ الثانيَ هو معنًى غيرُ هذين؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه أخْبَر عبادَه المؤمنين به مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنه أثابهم غمًّا [بعدَ غمٍّ]
(2)
؛ لئلا يُحْزِنَهم ما نالهم مِن الغمِّ الناشئِ عما فاتهم مِن غيرِهم، ولا ما أصابهم قبلَ ذلك في أنفسِهم، وهو الغمُّ الأولُ على ما قد بَيَّناه قبلُ.
وأما قولُه: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} ، فإِن تأويلَه على ما قد بيَّنْتُ مِن أنه لكيلا تَحْزَنوا على ما فاتكم فلم تُدْرِكوه مما كنتم تَرْجون إدراكَه من عدوِّكم من الظَّفَر عليهم والظهورِ، وحِيازةِ غنائمِهم، ولا ما أصابكم في أنفسِكم من جرحِ مَن جُرح وقَتْلِ مَن قُتِل مِن إخوانِكم.
وقد ذكَرْنا اختلافَ أهلِ التأويلِ فيه قبلُ على السبيلِ التي اخْتَلَفوا فيه.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3، س:"بغم".
وكما حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ
(1)
وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} . قال: على ما فاتكم مِن الغَنيمةِ التي كنتم تَرْجُون، وَلَا تَحْزَنُوا على ما أصَابكم مِن الهزيمةِ.
وأما قولُه: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . فإنه يعنى جلَّ ذكرُه: واللهُ بالذي تَعْمَلون أيُّها المؤمنون - مِن إصْعادِكم في الوادى هَرَبًا مِن عدوِّكم، وانهزِامِكم، وتَرْككم نبيَّكم وهو يَدْعُوكم في أُخْراكم، وحُزْنِكم على ما فاتكم من عدوِّكم، وما أصابكم في أنفسِكم منهم - ذو خبرةٍ وعلمٍ، وهو مُحْصٍ ذلك كلَّه عليكم حتى يُجازيَكم به؛ المُحْسِن منكم بإحْسانِه، والمسيء بإساءتِه، أو يَعْفُو عنه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} .
يعنى بذلك جل ثناؤُه: ثم أنزَل اللهُ أيُّها المُؤْمِنون من بعدِ الغمِّ الذي أثابَكم ربُّكم بعد غَمٍّ تقَدَّمه قبلَه، {أَمَنَةً} وهى الأمانُ على أهلِ الإخلاصِ منكم واليَقينِ، دونَ أهلِ النِّفاقِ والشَّكِّ.
ثم بيَّن تعالى ذكُره عن "الأمَنَةِ" التي أنْزَلها عليهم ما هي؟ فقال: {نُعَاسًا} . ينصب "النُّعاسِ" على الإبْدالِ مِن "الأَمَنةِ".
ثم اخْتَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {يَغْشَى} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرَأَةِ الحِجازِ والمدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكُوفِيِّين بالتَّذْكِيرِ بالياءِ: {يَغْشَى}
(2)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبى عمرو وابن عامر. ينظر حجة القراءات ص 176.
وقرَأته جماعةٌ مِن قَرأَةِ الكُوفيين بالتأنيثِ: (تَغْشَى) بالتاءِ
(1)
.
وذهَب الذين قرَءوا ذلك بالتَّذْكيرِ إلى أن النُّعاسَ هو الذي يَغْشَى الطائفةَ مِن المؤمنين دونَ الأمَنةِ، فذكَّره بتذكيرِ النُّعاسِ.
وذهَب الذين قرَءوا ذلك بالتأنيثِ إلى أن الأمنةَ هي التي تَغْشاهم، فأنَّثُوه لتأنيثِ الأمَنةِ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مَعْروفتانِ مُسْتَفِيضتان في قَرأةِ الأمْصارِ، غيرُ مختلفَتَين في معنًى ولا غيرِه؛ لأن الأمنةَ في هذا الموضعِ هي النُّعاسُ، والنعاسُ هو الأمَنةُ، وسواءٌ ذلك، وبأيَّتهما قرَأ القارئُ فهو مُصِيبٌ الحقَّ في قراءتِه، وكذلك جَميعُ ما في القرآنِ مِن نَظائرِه، مِن نحوِ قولِه:(إِن شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعامُ الأثيمِ * كالمُهْلِ تَغْلِى في البطونِ)[الدخان: 43 - 45]. و: (ألم يكُ نُطْفةً من منيٍّ تُمْنَى)[القيامة: 37]. و: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ}
(2)
[مريم: 25].
فإن قال قائلٌ: وما كان السببُ الذي مِن أجْلِه افْتَرَقَت الطائفتان اللتان ذكَرَهما اللهُ تبارك وتعالى، فيما افْتَرَقَتا فيه من صفتَيْهما، فأمِنت إحداهما بنفسِها حتى نَعَسَت، وأهمَّت الأخرى أنفسُها ظنَّت باللهِ غيرَ الحقَّ ظنَّ الجاهليةِ؟
قيل: كان سببُ ذلك فيما ذُكِر لنا كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ: إن المشركين انْصَرَفوا يومَ أحدٍ بعدَ الذي كان مِن أمرِهم وأمْرِ المسلمين، فواعَدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بدرًا مِن قابلٍ، فقال لهم:"نعم". فتخَوَّف المسلمون أن يَنْزِلوا المدينةَ، فبعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا، فقال: "انْظُرْ، فإن رأيْتَهم قعَدوا على أثقالِهم، وجنَبوا
(3)
خيولَهم، فإن
(1)
وهى قراءة حمزة والكسائي. حجة القراءات ص 176.
(2)
سيأتي بيان هذه القراءات في مواضعها من التفسير.
(3)
جنَب الفرسَ: قادَه إلى جنبه. التاج (ج ن ب).
القومَ ذاهبون، وإن رأيْتَهم قد قعَدوا على خُيولِهم، وجنَبوا
(1)
أثقالَهم، فإن القومَ يَنْزِلون المدينةَ، فاتَّقوا الله واصْبِروا". ووطَّنَهم على القتالِ، فلما أبْصَرَهم الرسولُ قد قعَدوا على الأثقالِ سراعًا عِجالًا، نادَى بأعلى صوتِه بذهابِهم، فلمَّا رأى المؤمنون ذلك، صدَّقوا نبيَّ اللهِ، فناموا، وبقى أناسٌ مِن المنافقين يَظُنُّون أن القومَ يَأْتُونهم، فقال اللهُ جل ثناؤُه، يَذْكُرُ حينَ أخْبرَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إن كانوا ركِبوا الأثقالَ، فإنهم مُنطَلِقون، فناموا: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ
(2)
مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: أمَّنهم يومَئذٍ بنُعاسٍ غشَّاهم [بعدَ خوفٍ]
(4)
، وإِنما يَنْعُسُ مَن يَأْمَنُ، {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (3).
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا ابن أَبي عَدِيٍّ، عن حُميدٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، عن أبي طلحةَ، قال: كنتُ في مَن أُنْزِل عليه النُّعاسُ يومَ أحدٍ أَمَنَةً، حتى سقَط مِن يدى مِرارًا
(5)
. يعني
(6)
سيفَه.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، عن أبي طلحةَ، قال: رفَعْتُ رأسى يومَ أحدٍ، فَجَعَلْتُ
(1)
بعده في ص، م، ت 2، ت 3، والدر المنثور:"على".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الله عليهم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 87 إلى المصنف.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
أخرجه النسائي في الكبرى (11199) من طريق ابن أبي عدى به، وأخرجه في الكبرى (11080) وأبو يعلى (1428)، من طريق حميد به.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قال أبو جعفر: يعني سوطه أو".
ما أَرَى أحدًا مِن القومِ إلا تحتَ حَجَفتِه
(1)
، يَمِيدُ مِن النُّعَاسِ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا عمرانُ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، عن أبي طلحةَ، قال: كنتُ في مَن صُبَّ عليه النُّعاسُ يومَ أَحدٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ثنا أَنسُ بنُ مالكٍ، عن أبي طلحةَ أنه كان يومئَذٍ ممن
(4)
غشِيه النُّعاسُ، قال: كان السيفُ يَسْقُطُ من يدى [ثم آخذُه ثم يسقطُ من يدى]
(5)
ثم آخُذُه، مِن النُّعاسِ
(6)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، ذُكِر لنا - واللهُ أعلمُ - عن أنسٍ، أن أبا طلحةَ حدَّثهم، أنه كان يومَئذٍ [في مَن]
(7)
غشِيه النُّعاسُ، قال: فجعَل سيفى يَسْقُطُ مِن يدى وآخُذُه، ويَسْقُطُ وآخُذُه، ويَسْقُطُ، والطائفةُ الأخرى المنافقون، ليس لهم هِمَّةٌ إلا أنفسُهم، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} الآية كلّها.
حدَّثنا أحمدُ بنُ الحسنِ الترمذيُّ، قال: ثنا ضِرارُ بنُ صُرَدَ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بن محمدٍ، عن محمدِ بن عبدِ العزيزِ، عن الزهريِّ، عن عبدِ الرحمنِ بن المِسْوَرِ بن مَخْرَمةَ، عن أبيه، قال: سأَلْتُ عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ عن قولِ اللهِ عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال: أَلْقِى علينا النومُ
(8)
(1)
الحَجَف: التروس من جلود بلا خشب ولا عقب، واحدتها حَجَفة. القاموس المحيط (ح ج ف).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (11198) عن عمرو بن علي به، وأخرجه الترمذى (3007)، وأبو يعلى (1422)، والحاكم 2/ 297، وأبو نعيم في الدلائل (421)، والبيهقى في الدلائل 3/ 272 من طريق حماد به.
(3)
أخرجه الطبراني (4699) من طريق عمران القطان به
(4)
في ت 2: "في من"، وفى س:"من".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
أخرجه البخارى (4068)، والطبراني (4700) من طريق يزيد به.
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ممن".
(8)
سقط من: ص، ت 1، ت 1، ت 2، س.
يومَ أحدٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} الآية: وذاكم يومَ أحدٍ، كانوا يومَئذٍ فريقَيْن، فأما المؤمنون فغشَّاهم اللهُ
(2)
النُّعاسَ؛ أمَنَةً منه ورحمةً
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بن أنسٍ نحوَه.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال: ألقى اللهُ عز وجل عليهم النعاسَ، فكان ذلك أمَنةً لهم
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن أبي رَزِينٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: النُّعاسُ في القتالِ أمنةٌ، والنعاسُ في الصلاةِ مِن الشيطانِ
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال: أَنْزَل النُّعاسَ أمَنةً منه على أهلِ اليَقين به، فهم نِيامٌ لا يَخافون
(6)
.
(1)
أخرجه الطبراني (285) من طريق ضرار به، وأخرجه البيهقى في الدلائل 3/ 274 من طريق عبد العزيز به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 793 (4358) من طريق المسور بن مخرمة به.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 794 (4370) من طريق يزيد به.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 23.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 793 (4360) من طريق سفيان به.
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 115، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 794 (4364) من طريق سلمة به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال: أَلقَى اللهُ عليهم النُّعاسَ، فكان أمنةً لهم. قال: ذِكر أن أبا طلحةَ قال: أُلْقِى عليَّ النعاسُ يومَئِذٍ، فكنتُ أَنْعُسُ حتى يَسْقُطَ سيفي مِن يدى
(1)
.
حدَّثنا ابن سنانٍ
(2)
، قال: ثنا إسحاقُ بنُ إدريسَ، قال: أخبرنا حمادُ بنُ سلمةَ، قال: أَخْبَرَنا ثابتٌ، عن أنسِ بن مالكٍ، عن أبي طلحةَ، وهشامُ بنُ عروَةَ، [عن عروةَ]
(3)
، عن
(4)
الزبيرِ، أنهما قالا: لقد رفَعْنا رءوسَنا يومَ أحدٍ، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ، فما منهم مِن أحدٍ إلا وهو يَميلُ تحت
(5)
حَجَفتِه. قال: وتلا هذه الآية: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} .
يعنى بذلك جل ثناؤُه: وطائفةٌ منكم أيُّها المؤمنون، {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، يقولُ: هم المنافقون، لا همَّ لهم غيرُ همِّ
(7)
أنفسِهم، فهم مِن حَذَرِ القتلِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 137 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 793 (4361) عن الحسن به.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بشار"، وينظر ترجمة إسحاق بن إدريس في الجرح والتعديل 2/ 213.
(3)
سقط من: م، س.
(4)
في النسخ: "بن". والمثبت موافق لما في مصادر التخريج.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بجنب".
(6)
أخرجه ابن سعد 3/ 505، وعبد بن حميد وعنه الترمذى (3007)، والبيهقي في الدلائل 3/ 273 من طريق حماد عن هشام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 88 إلى ابن أبي شيبة وابن مردويه والطبراني. وتقدم في ص 161، 162 من طريق حماد عن ثابت.
(7)
سقط من: م.
على أنفسِهم وخوفِ المنيةِ
(1)
عليها في شُغْلٍ، قد طار عن أعينِهم الكَرَى، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ} الظنونَ الكاذبةَ، {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} مِن أهلِ الشركِ باللهِ، شكًّا في أمرِ اللهِ، وتكذيبًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، ومَحْسَبةً منهم أن الله خاذلٌ نبيَّه، ومُعْلٍ عليه أهلَ الكفرِ به، {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} .
كالذي حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: والطائفةُ الأخرى المنافقون، ليس لهم همٌّ
(2)
إلا أنفسُهم، أَجْبَنُ قومٍ وأرعبُه، وأخذَلُه للحقِّ، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} ظنونًا كاذبةً، إنما هم أهلُ شَكٍّ وريبةٍ في أمرِ اللهِ، {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: والطائفةُ الأخرى المنافقون، ليس لهم هِمَّةٌ إلا أنفسُهم، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ، {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. قال اللهُ عز وجل:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} الآية
(4)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} . قال: أهلُ النفاقِ، قد أهَمَّتْهم أنفسُهم تَخَوُّفَ القتلِ، وذلك أنهم لا يَرْجُون عاقبةً
(5)
.
(1)
في س: "الفتنة".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 794، 795 (4367، 4370) من طريق يزيد به.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 23.
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 115، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 497 (4368) من طريق سلمة به.
حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هؤلاء المنافقون
(1)
.
وأما قولُه: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} . فإنه يعنى: أهلَ الشركِ.
كالذى حدَّثني الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} . قال: ظنَّ أهلِ الشركِ
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} . قال: ظنَّ أهلِ الشركِ
(3)
.
وفى رفعِ قولِه: {وَطَائِفَةٌ} . وجهان؛ أحدُهما، أن تكونَ مرفوعةً بالعائدِ مِن ذكرِها في قولِه:{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} . والآخرُ بقولِه: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} . ولو كانت منصوبةً كان جائزًا، وكانت الواوُ في قولِه:{وَطَائِفَةٌ} . ظرفًا للفعلِ، بمعنى: وأهَمَّت طائفةً أنفسُهم. كما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47].
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} .
يعني تعالى ذكرُه بذلك: الطائفةَ المنافقةَ التي قد أهمَّتهم أنفسُهم، أنهم يقولون: ليس لنا مِن الأمرِ
(4)
شيءٌ، ولو كان لنا مِن الأمرِ شَيءٌ ما خرَجْنا لقتالِ مَن
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 23.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 137، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 794 (4369) عن الحسن بن يحيى به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 88 إلى المصنف.
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".
قاتَلْناه فيقتلونا.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قيل لعبدِ اللهِ بن أبيٍّ: قُتِل بنو الخزْرجِ اليومَ. قال: وهل لنا مِن الأمرِ مِن شيءٍ؟
(1)
.
{قُلْ
(2)
إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}. وهذا أمرٌ مُبْتَدَأٌ مِن اللهِ عز وجل، يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{قُلْ} يا محمدُ لهؤلاء المنافقين: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} . يُصَرِّفُه كيف يَشَاءُ، ويُدَبِّرُه كيف أحبَّ
(3)
.
ثم عاد إلى الخبرِ عن ذكرِ نفاقِ المنافقين فقال: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} . يقولُ: يُخْفِى يا محمدُ هؤلاء المنافقون الذين وصفْتُ لك صفتَهم، في أنفسِهم مِن الكفرِ والشكِّ في اللهِ، ما لا يُبْدُون لك. ثم أَظْهَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يُخْفُونه بينهم مِن نفاقِهم، والحسرةِ التي أصابتهم على حضورِهم مع المسلمين مشهدَهم بأحدٍ، فقال مخبرًا عن قِيلِهم الكفرَ، وإعلانِهم النفاقَ بينَهم:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} . يعنى بذلك أن هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروجُ إلى حربِ مَن خرَجْنا لحربِه من المشركين إلينا، ما خرَجْنا إليهم، ولا قُتِل منا أحدٌ في الموضعِ الذي قُتِلوا فيه بأُحدٍ.
وذُكرَ أن من
(4)
قال هذا القولَ مُعَتِّبُ بن قُشَيْرٍ، أخو
(5)
بني عمرِو بن عوفٍ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 88 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قيل".
(3)
في م: "يحسب".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ممن".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أحد".
ذكرُ الخبرِ بذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابن إسحاقَ: ثني يحيى بنُ عبادِ ابن
(1)
عبدِ اللهِ بن الزبيرِ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ بن الزبيرِ، عن الزبيرِ، قال: واللهِ إنى لأسْمَعُ قولَ مُعَتِّبِ بن قُشَيْرٍ أخى بني عمرِو بن عوفٍ، والنُّعاسُ يَغْشاني، ما أَسْمَعُه إلا كالحُلْم، حينَ قال: لو كان لنا مِن الأمرِ شيءٌ ما قُتِلْنا ههنا
(2)
.
حدَّثني سعيدُ بنُ يحيى الأُمويُّ، قال: ثنى أبي، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يحيى بنُ عبادِ بن عبدِ اللهِ بن الزبيرِ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ بن الزبيرِ، عن أبيه بمثلِه.
واختَلَفَتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَته عامةُ قرأةِ الحجازِ والعراقِ: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ} . بنصبِ "الكلّ"، على وجهِ النعتِ للأمرِ والصفةِ له.
وقرَأه بعضُ قرأةِ أهلِ البصرةِ: (قُلْ إنّ الأمرَ كُلُّه للهِ)
(3)
. برفع "الكلّ" على توجيهِ الكلِّ إلى أنه اسمٌ، وقولُه:{لِلَّهِ} خبرُه، كقولِ القائلِ: إن الأمرَ بعضُه لعبدِ اللهِ.
وقد يَجوزُ أن يكونَ "الكلّ" في قراءةِ مَن قرَأه بالنصبِ منصوبًا على البدلِ.
والقراءةُ التي هي القراءةُ عندَنا، النصبُ في "الكلّ"؛ لإجماعِ أكثرِ القرأةِ عليه، مِن غيرِ أن تكونَ القراءةُ الأخرى خطأً في معنًى أو عربيةٍ، ولو كانت القراءةُ بالرفعِ في ذلك مُسْتَفِيضةً في القَرأةِ، لكانت سواءً عندى القراءةُ بأيِّ ذلك قُرِئ؛ لاتفاقِ معاني ذلك بأى وجْهَيْه قُرِئ.
(1)
في ص: "عن".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 795 (4372)، وأبو نعيم في الدلائل (423)، والبيهقي في الدلائل 3/ 273 من طريق ابن إسحاق به.
(3)
بالرفع قرأ أبو عمرو وحده، وقرأ باقى السبعة بالنصب. السبعة لابن مجاهد ص 217.
القولُ في تأويلِ قولِه: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} .
يعني بذلك تعالى ذكرُه: قلْ يا محمدُ للذين وصَفْتُ لك [صفتَهم مِن]
(1)
المنافقين: لو كنتُم في بيوتِكم لم تَشْهَدوا مع المؤمنين مَشْهَدَهم، ولم تَحْضُروا معهم حربَ أعدائِهم مِن المشركين، فيَظْهَرَ للمؤمنين ما كنتم تُخْفُونه مِن نفاقِكم، وتَكْتُمونه مِن شكِّكم
(2)
في دينِكم، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}. يقولُ: لظهَر للموضعِ الذي كُتِب عليه مَصْرَعُه فيه مَن قد كُتِب عليه القتلُ منهم، ولخَرَجَ
(3)
من بيتِه إليه، حتى يُصْرَعَ في الموضعِ الذي كُتِب عليه أن يُصْرَعَ فيه.
وأما قولُه: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} . [فإنه يعنى به: ولِيَبْتَلِى اللهُ ما في صدوركم أيُّها المنافقون، كنتم تَبْرُزون من بيوتِكم إلى مَضاجعِكم.
ويعنى بقولِه: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} ]
(4)
: ولِيَخْتَبِرَ اللهُ الذي في صدورِكم مِن الشكِّ، فيُمَيِّزَكم - بما يُظْهِرُه للمؤمنين مِن نفاقِكم - من المؤمنين.
وقد دلَّلْنا فيما مضى على أن معانيَ نظائرِ قولِه: {لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ} و {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} [آل عمران: 140] وما أشْبَه ذلك، وإن كان في ظاهرِ الكلامِ مضافًا إلى اللهِ الوصفُ به، فمرادٌ
(5)
به أولياؤُه وأهلُ طاعتِه، وأن معنى ذلك: ولِيَخْتَبِرَ أولياءُ اللهِ
(1)
في س، ت 2:"من صفتهم".
(2)
في م، س:"شرككم".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يخرج".
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
في س: "فمراده".
وأهلُ طاعتِه الذي في صدورِكم مِن الشكِّ والمرضِ، فيَعْرِفوكم
(1)
مِن أهلِ الإخلاصِ واليقينِ
(2)
.
{وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} . يقولُ: وليَتَبَيَّنوا ما في قلوبِكم مِن الاعتقادِ للهِ تعالى ذكرُه ولرسولِه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، من العَداوةِ أو الوِلايةِ.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . يقولُ: واللهُ ذو علمٍ بالذي في صدور خلقِه، مِن خيرٍ وشرٍّ، وإيمانٍ وكفرٍ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أمورِهم؛ سرائرِها وعلانيتِها، وهو الجميعِ ذلك حافظٌ، حتى يُجازِيَ جميعَهم جزاءَهم، على قدرِ استحقاقِهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك كان ابن إسحاق يقولُ.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ذكَر اللهُ عز وجل تَلاوُمَهم - يعنى تَلاوُمَ المنافقين - وحسْرتَهم على ما أصابهم، ثم قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} لم تَحْضُروا هذا الموضعَ الذي أظهَر اللهُ عز وجل فيه منكم ما أَظْهَر مِن سرائرِكم
(3)
، لأَخْرَج الذين كُتِب عليهم القتلُ إلى موطنٍ
(4)
غيرِه، يُصْرَعون فيه، حتى يَبْتَلِيَ به ما في صدورِكم، {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. أي: لا يَخْفَى عليه ما
(5)
في صدورِهم، مما اسْتَخْفَوْا به منكم
(6)
.
(1)
في س: "فيعرفكم".
(2)
ينظر ما تقدم في 2/ 641 - 645.
(3)
بعده في سيرة ابن هشام: "لبرز".
(4)
في الأصل، ص، ت 1:"مواطن".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"شيء ما".
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 115، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 796 (4376 - 4378) من طريق سلمة به.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا الحارثُ بنُ مسلمٍ، عن بَحْرٍ السَّقَّاءِ، عن عمرِو بن عُبيدٍ، عن الحسنِ، قال: سُئِل عن قولِه: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} . قال: كتَب اللهُ عز وجل على المؤمنين أن يُقاتِلوا في سبيلِه، وليس كلُّ مَن يُقاتِلُ يُقْتَلُ، ولكن يُقْتَلُ مَن كتَب اللهُ عليه القتلَ
(1)
.
القول في تأويلِ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: إن الذين ولَّوا عن المشركين يوم أُحُدٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فانْهَزَموا عنهم.
وقولُه: {تَوَلَّوْا} . تفعَّلوا، مِن قولِهم: ولَّى فلانٌ ظهرَه.
وقولُه: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} . يعنى: يومَ الْتَقَى جمعُ المشركين وجمعُ المسلمين بأُحُدٍ.
{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} . أي إنما دعاهم إلى الزَّلَّةِ الشيطانُ.
وقولُه: "اسْتَزَلَّ". اسْتَفْعَل مِن الزَّلَّةِ، والزَّلَّةُ هي الخَطيئةُ.
{بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} . يعنى: ببعضِ ما عمِلوا مِن الذنوبِ.
{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} . يقولُ: ولقد تَجاوَز اللهُ لهم عن عقوبةِ ذنبِهم
(2)
، فصفَح لهم عنه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 88 إلى المصنف.
(2)
في م: "ذنوبهم".
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . يعني به: مُغَطٍّ على ذنوبِ مَنْ آمَن به واتَّبَع رسولَه، بعفوِه عن عقوبِته إياهم عليها، {حَلِيمٌ} . يعنى أنه ذو أَناةٍ، لا يَعْجَلُ على مَن عصاه وخالَف أمرَه بالنِّقْمةِ.
ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في أعيانِ القومِ الذين عُنُوا بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها كلُّ مَن ولَّى الدُّبُرَ عن المشركين بأُحُدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا أبو بكر بنُ عياشٍ، قال: ثنا عاصمُ بنُ كُلَيْبٍ، عن أبيه، قال: خطَب عمرُ يومَ الجمعةِ، فقرَأ "آل عمرانَ"، وكان يُعْجِبُه إذا خطَب أن يَقْرَأَها، فلما انْتَهى إلى قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِمٌ} . قال: لما كان يومُ أحدٍ هَزْمناهم، ففرَرْتُ حتى صَعِدْتُ الجبلَ، فلقد رأيْتُنى أَنْزُو كأننى أرْوَى
(1)
، والناسُ يقولون: قُتِل محمدٌ. فقلتُ: لا أَجِدُ أحدًا يقولُ: قُتِل محمدٌ. إلا قتَلْتَه، حتى اجْتَمَعْنا على الجبلِ، فنزلَت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية كلّها
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية: وذلك يومَ أُحدٍ، ناسٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم توَلَّوا عن القتالِ، وعن نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وكان ذلك مِن أمرِ الشيطانِ وتخويفِه، فأَنْزَل اللهُ جلَّ ثناؤُه ما تَسْمَعون، أنه قد تَجاوَز لهم عن ذلك، وعفا عنهم
(3)
.
(1)
الأروى: أنثى الوعل. اللسان (ر و ى).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 88 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى المصنف.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} الآية. فذكَر نحوَ قولِ قتادةَ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك خاصٌّ ممَّن ولَّى الدُّبُرَ يومَئِذٍ. قالوا: وإنما عُنِى به الذين لحِقوا بالمدينةِ منهم دونَ غيرِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ، قال: لما انْهَزَموا يومَئِذٍ، تفَرَّق عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أصحابُه، فدخَل بعضُهم المدينةَ، وانْطَلَق بعضُهم [فوقَ الجبلِ إلى]
(2)
الصخرةِ، فقاموا عليها، فذكَر اللهُ عز وجل الذين انْهَزَموا فدخَلوا المدينةَ، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية
(3)
.
وقال آخَرون: بل نزَل ذلك في رجالٍ بأعيانِهم معروفين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال عكرمةُ في قولِه جل وعز: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} . قال: نزَلت في رافعِ بن المُعَلَّى وغيرِه مِن [الأنصارِ، وأبي]
(4)
حُذيفةَ بن عُتبةَ، ورجلٍ آخرَ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (بتحقيق د. حكمت) 2/ 623 (1709) من طريق ابن أبي جعفر به.
(2)
في س: "إلى الجبل فوق".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 796 عقب الأثر (4380) من طريق أسباط به.
(4)
في ص: "الأنصار أبى"، وفى ت 1، ت 2، ت 3، س:"أنصار أبى".
قال ابن جُريجٍ: وقولُه: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} : إذ لم يُعاقِبْهم
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: فرَّ عثمانُ بنُ عفانَ، وعقبةُ بنُ عثمانَ وسعدُ بنُ عثمانَ - رجلان مِن الأنصارِ - حتى بلَغوا الجَلْعَبَ - جبلٌ بناحيةِ المدينةِ مما يَلِى
(2)
الأعْوَصَ
(3)
- فأقاموا به ثلاثًا، ثم رجَعوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "لقد ذهَبْتُم فيها عريضةً
(4)
".
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} الآية: والذين اسْتَزَلَّهم الشيطانُ عثمانُ بنُ عفانَ، وسعدُ بنُ عثمانَ وعقبةُ بنُ عثمانَ، الأنصاريان ثم الزُّرَقيَّان
(5)
.
وأما قولُه: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} . فإن معناه: ولقد تَجاوَز اللهُ عن الذين توَلَّوْا منكم يومَ الْتَقى الجَمْعان أن يُعاقِبَهم بتَوَلِّيهم عن عدوِّهم.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جُرَيْجٍ قولَه: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} يقولُ: ولقد عفا اللهُ إذ لم يُعاقِبْهم
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 88 إلى المصنف دون قول ابن جريج.
(2)
في س: "بين".
(3)
الأعوص: موضع قرب المدينة. معجم البلدان 1/ 317.
(4)
عريضة: واسعة. النهاية 3/ 210.
(5)
سيرة ابن إسحاق ص 311 عن يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده بأطول مما هنا. ومن طريق ابن إسحاق أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 522. وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية 5/ 391 إلى الأموى في مغازيه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى ابن المنذر.
(6)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 25 عن ابن جريج.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه - في تولِّيهم يومَ أُحدٍ -: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} : فلا أَدْرِى ذلك
(1)
العفوُ عن تلك العِصابةِ، أم عفوٌ عن المسلمين كلِّهم؟
(2)
.
وقد بيَّنا تأويلَ قولِه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . فيما مضَى
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} .
يعنى بذلك جل ثناؤُه: يا أيُّها الذين
(4)
صدَّقوا الله ورسولَه، وأَقَرُّوا بما جاء به محمدٌ عندِ اللهِ، لا تكونوا كمَن كفَر باللهِ وبرسولِه، فجحَد نبوةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال لإخوانِه مِن أهلِ الكفرِ {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} فَخَرَجوا مِن بلادِهم سَفْرًا في تجارةٍ، {أَوْ كَانُوا غُزًّى}. يقولُ: أو كان خروجُهم مِن بلادِهم غُزاةً، فهلَكوا فماتوا في سفرِهم، أو قُتِلوا في غزوِهم:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} . يُخْبِرُ بذلك عن قولِ هؤلاء الكافرين؛ أنهم يقولون لمن غزا منهم فقُتِل، أو مات في سفرٍ خرَج فيه في طاعةِ اللهِ عز وجل، أو تجارةٍ: لو لم يكونوا خرَجوا مِن عندِنا، وكانوا أقاموا في بلدِهم، ما ماتوا، وما قُتِلوا. لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}. يعنى أنهم يقولون ذلك كى يَجْعَلَ اللهُ قولَهم ذلك حزنًا في قلوبِهم وغمًّا، ويَجْهَلون أن ذلك إلى اللهِ جل ثناؤُه وبيدِه.
وقد قيل: إن الذين نهى اللهُ المؤمنين بهذه الآيةِ أن يَتَشَبَّهوا بهم فيما نهاهم عنه
(1)
في م: "أذلك".
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 25 عن ابن زيد.
(3)
ينظر ما تقدم في 4/ 42.
(4)
بعده في س: "آمنوا".
مِن سوءِ اليَقينِ باللهِ، هم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابن سَلولَ وأصحابُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} الآية. قال: هؤلاء المنافقون أصحابُ عبدِ اللهِ بن أبيٍّ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِه:{وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} : قولُ المنافقِ عبدِ اللهِ بن أبيٍّ ابن سَلولَ
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.
وقال آخَرون في ذلك: هم جميعُ المنافقين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} الآية: أيْ: لا تكونوا كالمنافقين الذين يَنْهَوْنَ
(3)
إخوانَهم عن الجهادِ في سبيلِ اللهِ والضربِ في الأرضِ في طاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولهِ، ويقولون إذا ماتوا أو قُتِلوا: لو أطاعونا ما ماتوا وما قُتِلوا
(4)
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 798 (4394) من طريق أحمد به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 799 (4397) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(3)
في س: "يمنعوا".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 116، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 798، 799 (4393، 4395،=
وأما قولُه: {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} . فإنه اخْتُلِف في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: هو السفرُ في التجارةِ، والسيرُ في الأرضِ طلَبَ المعيشةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} : وهى التجارةُ
(1)
.
وقال آخَرون: بل هو السيرُ في طاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} : الضربُ في الأرضِ في طاعةِ اللهِ وطاعةٍ رسولهِ
(2)
.
وأصلُ الضَّرْبِ في الأرضِ الإبعادُ فيها سيرًا.
وأما قولُه: {أَوْ كَانُوا غُزًّى} . فإنه يعنى: أو كانوا غُزاةً في سبيلِ اللهِ.
والغُزَّى جمعُ غازٍ، جُمِع على فُعَّل، كما يُجْمَعُ شَاهِدٌ شُهَّد، وقائلٌ قُوَّل، وقد يُنْشَدُ بيتُ رُؤْبةَ
(3)
:
فاليومَ قد نَهْنَهَنِى تَنَهْنُهِي
(4)
=4399) من طريق سلمة به.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 799 (4396) من طريق أحمد بن المفضل به.
(2)
هو من الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(3)
ديوانه (مجموع أشعار العرب) ص 166.
(4)
النهنهة: الكف. تقول: نهنهت فلانا، إذا زجرته فكف. اللسان (نهنه).
وأوْلُ
(1)
حِلْمٍ ليس بالمُسَفَّهِ
وقُوَّلٌ إِلَّا دَهٍ فَلا دَهِ
(2)
ويُنْشَدُ أيضًا:
وقولُهم إِلَّا دَهٍ فلا دَهِ
وإنما قيل: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} . [فَأَصحَب ماضىَ]
(3)
الفعلِ الحرفَ الذي لا يَصْحَبُ مع الماضي منه إلا المستقبلُ، فقيل:{وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} . ثم قيل: {إِذَا ضَرَبُوا} . وإنما يُقالُ في الكلامِ: أكْرَمْتُك إذ زُرْتَنى. ولا يُقالُ: أَكْرَمْتُكَ إِذَا زُرْتَني. لأن القولَ الذي في قولِه: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} . وإن كان في لفظِ الماضي، فإنه بمعنى المستقبلِ. وذلك أن العربَ تَذْهَبُ بـ"الذين" مذهبَ الجَزَاءِ، وتُعامِلُها في ذلك مُعاملةَ "من" و "ما"؛ لتقاربِ معاني ذلك في كثيرٍ من الأشياءِ، وأَنَّ جَميعَهُنَّ
(4)
أشياءُ مَجهولاتٌ غيرُ مُوَقَّتاتٍ
(5)
توقيتَ عمرو وزيدٍ. فلمَّا كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا في الكلامِ فَصيحًا أن يُقال للرجلِ: أكْرِمْ مَن أَكْرَمَك، وأَكْرِمْ كُلَّ رجلٍ أكْرمَك. فيَكونُ الكلامُ خارجًا بلفظِ الماضي مع "مَن"، و "كلٌّ" مجهولٌ،
(1)
الأوْل: الرجوع. اللسان (أول).
(2)
إلا دَهٍ فلا دَه. معناه: إن لم يكن هذا الأمر الآن فلا يكون بعد الآن. واختلف في أصل هذه الكلمة اختلافًا كثيرا، ينظر في اللسان (دهده).
(3)
في م: "بإصحاب ماضى"، وفى س:"فأصبحت ما مضى".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"جمعهن".
(5)
غير الموقت هنا هو الاسم الموصول، فهو معرفة غير موقتة؛ لأنه لا يحدد المراد منه تعيينا. ينظر المصطلح النحوى ص 168، ومصطلحات النحو الكوفي ص 149.
ومعناه الاستقبالُ، إذ كان الموصوفُ بالفعلِ غيرَ مُوَقَّتٍ، وكان "الذين" في قوله:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} ، غيرَ مُوقَّتِينَ - أُجْرِيَت مُجْرَى "مَن"، و "ما" في [توجيهها إلى]
(1)
مَذْهَبِ
(2)
الجَزاءِ وإخراجِ صِلاتِها
(3)
بألفاظِ الماضي من الأفعالِ، وهى بمعنى الاستقبالِ، كما قال الشاعرُ
(4)
:
وإني لآتِيكم تَشَكُّرَ ما مضَى
…
مِن الأمرِ واسْتِيجابَ ما كان في غَدِ
فقال: ما كان في غد. وهو يريدُ ما يكونُ في غدٍ، ولو كان أراد الماضيَ لَقال: ما كان في أمسِ. ولم يَجُزْ له أن يَقولَ: ما كان في غدٍ.
ولو كان "الذي" مُؤقَّتًا، لم يَجُزْ أن يُقالَ ذلك. خطاٌ أن يُقالَ: لأُكْرِمَنَّ
(5)
هذا الذي أكْرَمَك إذا زُرْتَه. لأن "الذي" ههنا مُوَقَّتٌ، فقد خرَج مِن معنى الجَزاءِ، ولو لم يَكُنْ في الكلامِ "هذا"، لكان فصيحًا جائزًا؛ لأن "الذي" يَصيرُ حينَئذٍ مجهولًا غيرَ مُوَقَّتٍ، ومِن ذلك قولُ اللهِ جلّ ثناؤُه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]. فردَّ {يَصُدُّونَ} على {كَفَرُوا} ؛ لأن {الَّذِينَ} غيرُ موقتةٍ، فقولُه:{كَفَرُوا} . وإن كان في لفظِ ماضٍ، فمعناه الاستقبالُ. وكذلك قولُه:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60]. وقولُه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. معناه: إلا الذين يَتُوبون مِن قبلِ أن تَقْدِروا عليهم، وإلا مَن يَتوبُ ويُؤْمِنُ. ونَظائرُ ذلك في
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ترجمتها التي تذهب".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
في س: "صفاتها".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في ما". والبيت تقدم في 2/ 257، 258.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"لكن من"، وفى م:"لك من"، وفى س:"لكن في".
القرآنِ والكلامِ كثيرٌ، والعلةُ في
(1)
ذلك واحدةٌ.
وأما قولهُ: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} . فإنه يعنى بذلك: حُزْنًا في قلوبِهم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} . قال: يَحْزُنُهم قولُهم
(2)
، لا يَنْفَعُهم شيئًا
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} : لقلةِ اليقينِ بربِّهم تبارك وتعالى
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)} .
يعنى بقولِه تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} : واللهُ المُعَجِّلُ الموتَ لَمن يَشاءُ
(5)
حيث يَشاءُ، والمُمِيتُ مَن يَشاءُ كُلَّما شاء، دونَ غيرِه مِن سائرِ خلقِه.
وهذا مِن اللهِ عز وجل تَرْغيبٌ لعبادِه المؤمنين على جهادِ عدوِّه، والصبرِ على
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كل".
(2)
في الأصل، ص، ت 1، س:"قوله".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 799 (4401) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى عبد بن حميد.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 116، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 800 (4402) من طريق سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى ابن المنذر.
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".
قتالِهم، وإخراجِ هَيْبتِهم مِن صدورِهم، وإن قلّ عددُهم، وكثُر عددُ أعدائِهم وأعداءِ اللهِ، وإعلامٌ منه لهم أن الإماتَةَ والإحْياءَ بيدِه، وأنه لن يموتَ أحدٌ ولا يُقْتَلَ إلا بعدَ فَناءِ أَجَلِهِ الذي كُتِب له، ونَهْىٌ منه لهم - إذ كان ذلك كذلك - أن يَجْزَعوا لموتِ مَن مات منهم، أو قتلِ مَن قُتِل منهم في حربِ المشْركين.
ثم قال جل ثناؤُه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
(1)
بَصِيرٌ}. يقولُ: إِنَّ الله يَرَى ما تَعْمَلون مِن خيرٍ وشرٍّ، [فاتقوا الله]
(2)
أيُّها المؤمنون، فإنه مُحْصٍ ذلك كلَّه، حتى يُجازِيَ كلَّ عاملٍ بعملِه على قدرِ اسْتحقاقِه.
وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال ابن إسحاقَ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: يُعَجِّلُ ما يَشاءُ، ويُؤَخِّرُ ما يَشاءُ مِن آجالِهم بقدرتِه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(4)
(157)}.
يخاطبُ
(5)
بذلك تعالى ذكرُه عبادَه المؤمنين، يقولُ لهم: لا تكونوا أيُّها المؤمنون في شكٍّ مِن أن الأمورَ كلَّها بيدِ اللهِ، وأن إليه الإحياءَ والإماتةَ، كما شكَّ
(1)
في ت 1، س:"يعملون". وهى قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي، وقرأ باقى السبعة بالتاء. حجة القراءات ص 177.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فاتقوه"، وفى س:"فاتقوا".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 116، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 800 (4403) من طريق سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى ابن المنذر.
(4)
في ت 1، س:"تجمعون". والمثبت قراءة عاصم في رواية حفص عنه، ولم يروها غيره، وقرأ الباقون بالتاء. السبعة لابن مجاهد ص 218.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فخاطب".
المنافقون في ذلك، ولكن جاهِدوا في سبيلِ اللهِ، وقاتِلوا أعداءَ اللهِ، على يقينٍ منكم بأنه
(1)
لا يُقْتَلُ في حربٍ
(2)
، ولا يموتُ في سفرٍ، إلا مَن قد بلَغ أجلَه وحانَت وفاتُه. ثم وعَدَهم على جهادِهم في سبيلِ اللهِ المغفرةَ والرحمةَ، وأخْبرَهم أن موتًا في سبيلِ اللهِ، أو
(3)
قتلًا في دينِه
(4)
، خيرٌ لهم مما يَجْمَعون في الدنيا من حُطامِها، ورَغيدِ عيشِها، الذي مِن أجلِه يَتَثاقَلون عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، ويَتَأَخَّرون عن لقاءِ العدوِّ.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(5)
} أي: إِنَّ الموتَ كائنٌ لا بد منه، فموتٌ في سبيلِ اللهِ، أو قتلٌ، خيرٌ - لو علِموا
(6)
وأيقَنُوا - مما يَجْمَعون من
(7)
الدنيا التي لها يَتَأَخَّرون عن الجهادِ؛ تخوُّفًا من الموتِ والقتلِ، لما جمَعوا مِن زهيدِ
(8)
الدنيا، وزَهادةً في الآخرةِ
(9)
.
وإنما قال جلَّ ثناؤُه: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(10)
}. وابْتَدَأ الكلامَ: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} بحذفِ جزاء "لَئِن"؛ لأنَّ في قولِه:
(1)
في ص، ت 1، س:"فإنه".
(2)
بعده في ت 2، س:"منكم".
(3)
في م: "و".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الله".
(5)
في الأصل، ص، ت 1:"تجمعون".
(6)
في س: "تعلمون".
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"في".
(8)
في سيرة ابن هشام: "زهرة"، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"زهيدة".
(9)
سيرة ابن هشام 2/ 116، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 800 (4404) من طريق سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى ابن المنذر.
(10)
في س: "تجمعون".
{لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(1)
}. معنى جوابٍ
(2)
للجَزاءِ، وذلك أنه وَعْدٌ خرَج مَخرجَ الخبرِ.
فتأويلُ الكلامِ: ولئن قُتِلْتُم في سبيلِ اللهِ أو مُتُّم، لَيَغْفِرَنَّ اللهُ لكم ولَيَرْحَمَنَّكم، فدلَّ على ذلك بقولِه: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(3)
}. وجمع مع الدلالةِ به عليه الخبرَ عن فضلِ ذلك على ما يُؤْثِرونه
(4)
مِن الدنيا وما يَجْمَعون
(5)
فيها.
وقد زعَم بعضُ أهل العربيةِ مِن أهلِ البصرةِ أنه إن قيل: كيف يكونُ: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} جوابًا لقولِه: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} فإن القولَ فيه أن يُقالَ: كأنه قال: ولئن مُتُّم أو قُتِلْتُم [فذلك لكم]
(6)
رحمةٌ
(7)
ومغفرةٌ، إذ كان ذلك في السبيل، فقال:{لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} . يقولُ: لَذلك خيرٌ ممَّا تجمَعون. يعنى: لَتلك المغفرةُ والرحمةُ خيرٌ مما تَجْمَعون. ودخَلَت اللامُ في قولِه: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} لدخولِها في قولِه: {وَلَئِنْ} . كما قيل: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَار} [الحشر: 12].
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: ولكن مُتُّم أو قُتِلْتم أيُّها المؤمنون، فإلى
(8)
اللهِ مَرْجِعُكم ومَحْشَرُكم، فيُجازِيكم بأعمالِكم، فآثِرُوا ما يُقَرِّبُكم من اللهِ ويُوجِبُ لكم رِضاه،
(1)
في ص، س:"تجمعون".
(2)
في ص: "حوار"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"جواز".
(3)
في الأصل، ت 1، س:"تجمعون".
(4)
في س: "تؤثرونه".
(5)
في س: "تجمعون".
(6)
في النسخ: "فذكر لهم". وينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع.
(7)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من الله".
(8)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فإن إلى".
ويُقَرِّبُكم من الجنةِ؛ مِن الجهادِ في سبيلهِ، والعملِ بطاعتِه، على
(1)
الرُّكونِ إلى الدنيا، وما تَجْمَعون فيها مِن حُطامِها الذي هو غيرُ باقٍ لكم، بل هو زائلٌ عنكم
(2)
، وعلى تركِ طاعةِ اللهِ عز وجل والجهادِ، فإنَّ ذلك يُبْعِدُكم مِن
(3)
ربِّكم، ويُوجِبُ لكم سَخَطَه، ويُقَرِّبُكم من النارِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال ابن إسحاقَ.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} : أي ذلك كان، {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} أَي: إنَّ إِلى اللهِ المَرْجِعَ، فلا تَغُرَّنَّكم
(4)
الدنيا، ولا تَغْتَرُّوا بها، ولْيَكُنِ الجهادُ وما رغَّبَكم اللهُ فيه منه آثَرَ عندَكم منها
(5)
.
وأُدْخِلَت اللامُ في قولِه: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} . لدُخولِها في قولِه: {وَلَئِنْ} . ولو كانت اللامُ مُؤَخَّرةً إلى قولِه: {تُحْشَرُونَ} . لأُحْدِثَتِ النونُ الثقيلةُ فيه، كما تقولُ في الكلامِ: لئن أَحْسَنْتَ إِليَّ لأُحْسِنَنَّ إِليك. بنونٍ مُثَقَّلةٍ، فكان كذلك قولُه
(6)
: ولئن مُتُّم أو قُتِلْتم لَتُحْشَرُنَّ إلى اللهِ. ولكن لما حِيل
(7)
بين اللامِ وبين {تُحْشَرُونَ} بالصِّفةِ
(8)
، أُدْخِلَت في الصِّفةِ، وسلِمَت:{تُحْشَرُونَ} فلم تَدْخُلُها النونُ الثَّقيلةُ، كما تقولُ في الكلامِ: لئن أَحْسَنْتَ إليَّ لَإليك أُحْسِنُ.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن".
(2)
في س: "منكم".
(3)
في م، ت 2:"عن".
(4)
بعده في م: "الحياة".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 116 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 800 (4405) من طريق سلمة به.
(6)
في ص: "وقوله".
(7)
في ص، ت 2، ت 3:"حين"، وفى م:"حيز"، وفى ت 1:"جين". والمثبت هو الصواب.
(8)
الصفة: حرف الجر. وهو اصطلاح نحويي الكوفة.
بغيرِ نونٍ مُثَقَّلةٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .
يعنى بقولِه تعالى ذكرُه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} : فبرحمةٍ مِن اللهِ. و"ما" صِلَةٌ. وقد بيَّنْتُ وجهَ دُخولِها في الكلامِ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
(1)
[البقرة: 26]. والعربُ تَجْعَلُ "ما" صِلَةً في المعرفةِ والنَّكرةِ، كما قال:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155، المائدة: 13]. والمعنى: فبنقْضِهم ميثاقَهم. وهذا في المعرفةِ، وقال في النكرةِ:{عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40]. والمعنى: عن قليل. وربما جُعِلَت اسمًا، وهي في مذهبِ صِلَةٍ، فيُرْفَعُ ما بعدَها أحيانًا على وجهِ الصَّلةِ، ويُخْفَضُ على إتباعِ الصلةِ ما قبلَها، كما قال الشاعرُ
(2)
:
فكَفى بنا فَضْلًا على مَن غَيْرِنا
…
حُبُّ النبيِّ محمدٍ إِيَّانَا
إذا جُعِلتْ "غيرُ" صلةً رُفِعتْ بإضمارِ "هو"، وإِن خُفِضَتْ أَتْبَعتَه "مَن" فأَعْرَبَتْه بإعرابِه
(3)
. فذلك حكمُه على ما وصَفْنا مع النَّكِراتِ.
فأما إذا كانت الصلةُ مَعْرفةً، كان الفَصِيحَ مِن الكلامِ الإتْباعُ، كما قيل:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} . والرفعُ جائزٌ في العربيةِ.
وبنحوِ ما قلْنا في قولِه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} . قال جماعةٌ مِن
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 428 - 430.
(2)
تقدم في 1/ 429.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} . يقولُ: فبرحمةٍ مِن اللهِ لنْتَ لهم
(1)
.
وأما قولُه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . فإنه يعنى بالفَظِّ الجافيَ، وبالغليظِ القلبِ القاسيَ القلبِ غيرَ ذى رحمةٍ ولا رأفةٍ، وكذلك كانت صفتُه صلى الله عليه وسلم، كما وصَفَه اللهُ به:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
فتأويلُ الكلامِ
(2)
: فبرحمةِ اللهِ
(3)
يا محمدُ، وبرأْفَتِه بك، وبمَن آمَن بك مِن أصحابِك، لِنتَ لتُبَّاعِك وأصْحابِك، فسهُلَت لهم خَلائِقُك
(4)
، وحسُنَت لهم أخْلاقُك، حتى احْتَمَلْتَ أذَى مَن نالك منهم أذاه، وعفَوْتَ عن ذى الجُرْمِ منهم جُرْمَه، وأَغْضَيْتَ عن كثيرٍ ممَّن لو جفَوْتَ به، وأَغْلَظْتَ عليه، لترَكَك ففارَقَك ولم يَتَّبِعْك، ولا ما بُعِثْتَ به مِن الرحمةِ
(5)
، ولكنَّ الله جَلَّ وعزَّ رحِمَهم ورحِمَك معهم، فبرحمةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 800 (4408) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في س: "الآية".
(3)
في س: "من الله".
(4)
في س: "أحلامك".
(5)
أي: ولم يتبع ما بعثت به من الرحمة.
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}: إى واللهِ، [لَطهَّره اللَّهُ]
(1)
مِن الفَظاظةِ والغِلْظَةِ، وجعَله قريبًا رَحيمًا بالمؤمنين. [وقد]
(2)
ذُكر لنا أنَّ نَعْتَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في التَّوْرَاةِ: ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا صَخوبٍ
(3)
في الأسْواقِ، ولا يَجْزِى بالسيئةِ مثلَها، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بنحوِه
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ في قولِه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . قال: ذكَر لِينَه لهم، وصبْرَه عليهم؛ لضعفِهم وقلةِ صبرِهم على الغِلظةِ لو كانت منه، في كلِّ ما خالَفوا فيه مما افْتُرِض عليهم مِن طاعةِ نبيِّهم
(6)
.
وأما قولِه: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . فإنه يعنى: لتَفَرَّقوا [مِن حولِك وانصرَفوا]
(7)
عنك.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . قال: انْصَرَفوا عنك
(8)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} : أي: لَتَرَكُوك
(9)
.
(1)
في س: "مطهره".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"رءوفا و".
(3)
في س: "صخاب".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 89، 90 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وهو في تفسير ابن أبي حاتم 3/ 801 عقب الأثر (4409) معلقا.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 801 (4409) من طريق ابن أبي جعفر به.
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 116.
(7)
سقط من: م، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من حولك ما تفرقوا".
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 90 إلى المصنف وابن المنذر.
(9)
سيرة ابن هشام 2/ 116، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 801 (4410) من طريق سلمة به.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} : فتَجاوَزْ يا محمدُ عن تُبَّاعِك وأصْحابِك مِن المؤمنين بك، وبما جئتَ به مِن عندى، ما نالك مِن أذاهم، ومَكْروهٍ في نفسِك، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}: وادْعُ ربَّك لهم بالمغفرةِ لما أَتَوْا مِن جُرْمٍ، واسْتَحَقُّوا عليه عقوبةً منه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَاعْفُ عَنْهُمْ} : أي: فتَجاوَزْ عنهم، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ذُنوبَ مَن قارَف مِن أهلِ الإيمانِ منهم
(1)
.
ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي مِن أجلِه أمَر تعالى ذكرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُشاوِرَهم، وما المعنى الذي أمَره أن يُشاوِرَهم فيه؟ فقال بعضُهم: أمر اللهُ جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم بقولِه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . بمشاوَرةِ أصحابِه في مكايدِ الحربِ، وعندَ لقاءِ العدوِّ، تَطْييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألُّفًا لهم على دينِهم، ولِيَرَوْا أَنه يَسْمَعُ منهم، ويَسْتَعِينُ بهم، وإن كان اللهُ جلَّ ثناؤه قد أغْناه
(2)
- بتدْبيرِه له أمورَه، وسِياستِه إياه، وتَقْويمِه أسبابَه - عنهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} : أَمَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاوِرَ أصحابَه في الأمورِ، وهو يَأْتِيه وَحْىُ السماءِ؛ لأنه أطيبُ لأنْفُسِ القومِ،
(1)
سيرة ابن هشام، 2/ 116 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسير 3/ 801 (4411، 4412) من طريق سلمة به.
(2)
في ت 2، س: أعفاه".
وأن القومَ إذا شاوَر بعضُهم بعضًا وأرادوا بذلك وجهَ اللهِ عز وجل عُزِم لهم على أَرْشَدِه
(1)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . قال: أمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُشاوِرَ أصحابَه في الأمورِ، وهو يَأْتِيه الوَحْىُ من السماءِ؛ لأنه أطْيَبُ لأنفسِهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} : أي: لِتُرِيَهم أنك تَسْمَعُ منهم، وتَسْتَعِينُ بهم، وإن كنتَ عنهم غَنِيًّا، تألَّفُهم
(3)
بذلك على دينِهم
(4)
.
وقال آخَرون: بل أمَرَه بمشورتِهم
(5)
في ذلك؛ ليتبيَّنَ
(6)
له الرأىُ، وأَصْوَبُ الأمورِ في التدبيرِ؛ لمَا علِم في المَشورةِ تعالى ذكرُه من الفضلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سلمةَ بن نُبَيْطٍ، عن الضَّحَّاكِ بن مُزاحِمٍ قولَه:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . قال: ما أمَر اللهُ جلَّ ثناؤُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالمَشورةِ إلا لمَا علِم فيها مِن الفضلِ
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 802 (4418) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 90 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 802 (4417) من طريق ابن أبي جعفر به.
(3)
في م، وتفسير ابن أبي حاتم:"تؤلفهم"، وفى سيرة ابن هشام:"تألَّفا لهم".
(4)
سيرة ابن هشام، 2/ 116، 117، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 802 (4420) من طريق سلمة به.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بذلك".
(6)
في م: "وإن كان".
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 9، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 801 (4415) من طريق وكيع عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا مُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، عن إياسِ بن دَغْفَلٍ، عن الحسنِ: ما شاوَر قومٌ قَطُّ إِلا هُدُوا لأَرْشَدِ أُمورِهم
(1)
.
وقال آخَرون: إنما أمَرَه اللهُ جلَّ ثناؤه بمُشاوَرَةِ أصحابِه فيما أمَره بمُشاوَرتِهم فيه، مع إغنائه
(2)
- بتَقويمِه إياه
(3)
، وتدْبيرِه أسبابَه - عن آرائِهم؛ ليَتَّبِعَه المؤمنون مِن بعدِه فيما حزَبَهم مِن أمْرِ دينِهم، فيَسْتَنُّوا بسنتِه في ذلك، ويَحْتَذُوا المثالَ الذي رأَوْهُ يَفْعَلُه في حياتِه، مِن مُشاورتِه في أمورِه - مع المَنزِلةِ التي هو بها مِن اللهِ عز وجل أصحابَه وتُبَّاعَه في الأمرِ يَنْزِلُ بهم مِن أمرِ دينِهم أو دُنْياهم، فيَتَشاوَرُوا بينَهم، ثم يَصْدُرُوا عما اجْتَمَع عليه ملؤهم؛ لأن المؤمنين إذا تَشاوَرُوا في أمورِ دينِهم مُتَّبِعين الحقَّ في ذلك، لم يُخْلِهم اللهُ جلَّ ثناؤُه مِن لُطْفِه، وتوفيقِه للصوابِ مِن الرأيِ والقولِ فيه. قالوا: وذلك نظيرُ قولِه جل ثناؤُه الذي مدَح به أهلَ الإيمانِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سوَّارُ بنُ عبدِ اللهِ العَنْبَرِيُّ، قال: قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ في قولِه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . قال: هي للمؤمنين أن يَتَشاوَروا فيما لم يَأْتِهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أَثَرٌ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك أن يُقالَ: إِن الله جلَّ ثناؤه أمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمُشاوَرةِ أصحابِه فيما حزَبه مِن أمرِ عدوِّه، ومَكايِدِ حربِه؛ تألُّفًا منه بذلك
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 10 من طريق إياس بن دغفل به، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (258)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 801 (4414) بإسنادين إلى الحسن.
(2)
في ت 2، س:"إعفائه".
(3)
بعده في الأصل، ت 1، 2، ت 3، س:"عنهم".
مَن لم تكنْ بَصيرتُه بالإسلامِ البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنةُ الشيطانِ، وتعريفًا منه أمتَه مأْتى
(1)
الأمورِ التي تَحْزُبُهم مِن بعدِه ومطلبِها؛ ليقْتَدوا به في ذلك عندَ النَّوازلِ التي تَنْزِلُ بهم، فيَتَشاوَروا فيما بينَهم، كما كانوا يَرَوْنه في حياتِه صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُه، فأما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإن الله جلَّ ثناؤه كان يُعَرِّفُه مَطالبَ وجوهِ ما حزَبه مِن الأمورِ، بوحيِه أو إلهامِه إياه صوابَ ذلك، فأما أمتُه، فإنهم إذا تَشاوَروا مُسْتَنِّين بفعلِه في ذلك على تصادُقٍ وتَأَخٍّ
(2)
للحقِّ، وإرادةِ جميعِهم للصوابِ، مِن غيرِ مَيْلٍ إِلى هَوًى، ولا حَيْدٍ عن هُدًى، فاللهُ مُسَدِّدُهم ومُوَفِّقُهم.
وأما قولُه جلَّ وعزَّ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، فإنه يعنى: فإذا صحَّ عزمُك بتَثْبيتِنا إياك، وتَسْديدِنا لك، فيما نابَك وحزَبَك مِن أمرِ دينِك ودُنْياك، فامْضِ لما أمَرْناك به على ما أمَرْناك به، وافَقَ ذلك آراءَ أصحابِك وما أشارُوا به عليك، أو خالَفَها، وتوَكَّلْ
(3)
- فيما تأْتى مِن أمورِك وتَدَعُ، وتُحاوِلُ أو تُزاوِلُ - على ربِّك، فثِقْ به في كلِّ ذلك، وارْضَ بقضائِه في جميعِه، دونَ آراءِ سائرِ خلقِه ومعونتِهم، فـ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} ، وهم الراضُون بقضائِه، المُسْتَسْلِمون لحكمِه فيهم، وافَق ذلك منهم هَوًى أو خالَفَه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} : {فَإِذَا عَزَمْتَ} : أي على أمرٍ جاءك منى، أو أمرٍ مِن دينِك في جهادِ عدوِّك، لا يُصْلِحُك ولا يُصْلِحُهم إلا ذلك، فامْضِ على ما أُمِرْتَ به، على خلافِ مَن خالَفك، ومُوافَقَةِ مَن وافَقَك، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ،
(1)
في م: "ما في".
(2)
التأخي: التحرى. ينظر اللسان (أخ ا).
(3)
بعده في س: "على الله".
أي: ارضَ به مِن العبادِ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : أمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم ما إذا عزَم على أمرٍ أن يَمْضِىَ فيه، ويَسْتَقيمَ على أمرِ اللهِ جل ثناؤُه، ويَتَوَكَّلَ على اللهِ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: حدَّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} الآية: أمَرَه اللهُ إذا عزَم على أمرٍ أَن يَمْضِىَ فيه ويَتَوَكَّلَ عليه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} .
يعنى بذلك جل ثناؤُه: إن يَنْصُرْكم اللهُ أيُّها المؤمنون باللهِ ورسولِه، على مَن ناوَأَكم وعاداكم مِن أعدائِه والكافرين به، {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} مِن الناسِ. يقولُ: فلن يَغْلِبَكم - مع نصرِه إياكم - أحدٌ، ولو اجْتَمَع عليكم مَن بينَ أَقْطارِها مِن خلقِه، فلا تَهابُوا أعداءَ اللهِ لقلةِ عددِكم وكثرةِ عددِهم، ماكنتم على أمرِه، واسْتَقَمْتُم على طاعتِه وطاعةِ رسولِه، فإن الغَلَبةَ لكم، والظَّفَرَ عليهم دونَهم، {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}. يعنى: وإن يَخْذُلُكم ربُّكم - بخلافِكم أمرَه، وتَرْكِكم طاعتَه وطاعةَ رسولِه - فيَكِلْكم إلى أنفسِكم {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} يقولُ:[فَأْيَسُوا مِن نُصرةِ الناسِ]
(4)
، فإنكم لا تَجِدون ناصرًا
(5)
مِن بعدِ خِذْلانِ اللهِ إياكم إن خذَلكم. يقولُ: فلا تَتْرُكوا أمرى وطاعتى وطاعةَ
(1)
سيرة ابن هشام، 2/ 117 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 802 (4423، 4424) من طريق سلمة به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 90 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 802 عقب الأثر (4422) من طريق ابن أبي جعفر به.
(4)
في س: "فاسألوا من نصر الله".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمرا".
رسولى، فتَهْلِكوا [بخِذْلانى إياكمٍ]
(1)
، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. يعنى: ولكن على ربِّكم أيُّها المؤمنون فتَوَكَّلوا دون سائرِ خلقِه، وبه فارْضَوْا مِن جميعِ مَن دونَه، ولقضائِه فاسْتَسْلِموا، وجاهِدوا فيه أعداءَه، يَكْفِكُم بعونِه، ويُمْدِدْكم بنصرِه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : أَي: إن يَنْصرْك اللهُ فلا غالبَ لك مِن الناسِ، لَن يَضُرَّكَ خِذْلانُ مَن خذَلك، وإن يَخْذُلْك فلن يَنْصُرَك الناسُ، {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} أي: لئلّا
(2)
تَتْرُكَ أمرى للناسِ، وارْفُضِ
(3)
الناسَ لأمرى، {وَعَلَى اللَّهِ
(4)
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} .
اخْتَلَفَت القرأةُ في قراءةِ ذلكِ؛ فقرَأَتْه جماعةٌ مِن قرأةِ الحجازِ والعراقِ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
(6)
}. بمعنى: أن يَخُونَ أصحابَه فيما أفاء اللهُ عليهم مِن أموالِ أعدائِهم
(7)
.
(1)
في س: "لخذلانى".
(2)
في م: "لا".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إن قصر".
(4)
بعده في مصادر التخريج: "لا على الناس".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 117، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 803 (4425 - 4427) من طريق سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى ابن المنذر.
(6)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 218.
(7)
في س: "عدوهم".
واحتجَّ بعضُ قارئى هذه القراءةِ، أنَّ هذه الآيةَ نزَلَت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قَطِيفةٍ فُقِدَت مِن مَغانمِ القومِ يومَ بدرٍ، فقال بعضُ مَن كان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لعل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذَها. [ورَوَوْا في ذلك رِواياتٍ]
(1)
.
فمنها ما حدَّثنا به محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بن أبى الشَّوارِبِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ بن زيادٍ، قال: ثنا خُصَيفٌ، قال: ثنا مِقْسَمٌ، قال: ثنى ابن عباسٍ أنَّ هذه الآيةَ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} له نزَلَت في قَطيفةٍ حَمراءَ فُقِدت يومَ بدرٍ، قال: فقال بعضُ الناسِ: أَخَذَها. قال: فأكْثَروا في ذلك، فأَنْزَلَ اللهُ:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(2)
.
حدَّثنا ابن أبى الشّوارِب، قال: ثنا عبدُ الواحدِ، قال: ثنا خُصَيفٌ، قال: سأَلْتُ سعيدَ بنَ جُبيرٍ: كيف تَقْرَأُ هذه الآيةَ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أو (يُغَلَّ) فقال: لا، بل {يَغُلَّ} ، فقد كان واللهِ النبيُّ يُغَلُّ ويُقْتَلُ.
حدَّثني إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بن حَبيبِ بن الشَّهِيدِ، قال: ثنا عَتَّابُ بنُ بَشِيرٍ، عن خُصَيفٍ، عن مِقْسَمٍ، عن ابن عباسٍ:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . قال: كان ذلك في قَطِيفةٍ حمراءَ فُقِدَت في غزوةِ بدرٍ، فقال ناسٌ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: فلعلَّ النبيَّ أَخَذَها. فأَنْزَل اللهُ جلَّ ثناؤُه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . قال سعيدٌ: بلى واللهِ، إِن النبيَّ ليُغَلُّ ويُقْتَلُ.
(1)
في س: "وورد في ذلك روايتان".
(2)
أخرجه أبو داود (3971)، والترمذى (3009)، من طريق عبد الواحد بن زياد به، وأخرجه الطحاوى في المشكل (5602) من طريق خصيف به.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا خَلَّادٌ، عن زُهَيْرٍ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت قَطيفةٌ فُقِدَت يومَ بدرٍ، فقالوا: أَخَذَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأنْزَل اللهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا زُهَيْرٌ، قال: ثنا خُصَيفٌ، عن سعيدِ بن جبيرٍ وعكرمةَ في قولِه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . قالا: يَغُلَّ. قال: قال عكرمةُ أو غيرُه، عن ابن عباسٍ، قال: كانت قَطيفةٌ فُقِدَت يومَ بدرٍ، فقالوا: أَخَذَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأنزل اللهُ هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} .
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا قَزَعَةُ بنُ سُوَيْدٍ الباهليُّ، عن حُميدٍ الأعْرجِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، قال: نزَلَت هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . في قطيفةٍ حمراءَ فُقِدَت يومَ بدرٍ مِن الغنيمةِ
(2)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا مُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، عن سليمانَ الأعمشِ، قال: كان ابن مسعودٍ يَقْرَأُ: (ما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ). فقال ابن عباسٍ: بلى، ويُقْتَلُ. قال: فذكَر ابن عباسٍ أنه إنما كانت في قَطِيفةٍ قالوا: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَلَّها يومَ بدرٍ. فأَنْزَلَ اللهُ جَلَّ ثناؤُه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}
(3)
.
وقال آخرون ممَّن قرَأ ذلك كذلك؛ بفتحِ الياءِ وضمِّ الغينِ: إنما نَزَلَت هذه الآيةُ
(1)
أخرجه أبو يعلى (2438)، والطحاوى في المشكل (5601)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 803 (4429)، والطبراني في الكبير (12028، 12029)، والواحدى في أسباب النزول ص 93 من طريق خصيف به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى المصنف.
في طَلائِعَ كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجَّههم في وجهِ، ثم غنِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يَقْسِمْ للطلائعِ، فأنْزَل اللهُ هذه الآية على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، يُعْلِمُه فيها أنَّ فعلَه الذي فعَله خطأٌ، وأنَّ الواجبَ عليه في الحكمِ أن يَقْسِم للطلائعِ مثلَ ما قَسم لغيرِهم، ويُعَرِّفُه الواجبَ عليه مِن الحكمِ فيما أفاء اللهُ عليه مِن الغنائمِ، وأنه ليس له أن يَخُصَّ بشيءٍ منها أحدًا ممَّن شهِد الوَقْعةَ، أو ممَّن كان رِدْءًا لهم في غزوهم، دونَ أحدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ: ما كان لنبيٍّ أن يَقْسِمَ لطائفةٍ من المسلمين ويَتْرُكَ طائفةٌ ويَجورَ في القَسْمِ، ولكن يَقْسِمُ بالعدلِ، ويَأْخُذُ فيه بأمرِ اللهِ، ويَحْكُمُ فيه بما أَنْزَلَ اللهُ. يقولُ: ما كان اللهُ لِيَجْعَلَ نبيًّا يَغُلُّ مِن أصحابِه، فإذا فعَل ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَنُّوا به
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضحاكِ أنه كان يقرأُ:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . قال: أَن يُعْطِيَ بعضًا ويتركَ بعضًا، إذا أصاب مَغْنمًا
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سلمةَ بن نُبَيْطٍ، عن الضحاكِ، قال: بعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَلائعَ، فغنِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَقْسِمْ للطلائعِ، فأنْزَل اللهُ: {وَمَا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 803 (4431) عن محمد بن سعد به.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 803 عقب الأثر (4431) معلقا.
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أَبا مُعاذٍ، قال: أَخْبَرَنَا عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . يقولُ: ما كان لنبيٍّ أن يَقْسِمَ لطائفةٍ من أصحابِه ويَتْرُكَ طائفةً، ولكن يَعْدِلُ، ويَأْخُذُ في ذلك بأمرِ اللهِ، ويَحْكُمُ فيه بما أنْزَل اللهُ.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أخْبَرَنا يزيدُ، قال: أخبرنا جُوَيْبِرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . قال: ما كان له إذا أصاب مَغْنَمًا أن يَقْسِمَ لبعضِ أصحابِه ويَدَعَ بعضًا، ولكن يَقْسِمُ بينَهم بالسَّوِيَّةِ.
وقال آخرون ممَّن قرَأ ذلك بفتحِ الياءِ وضمِّ الغينِ: إنما أنْزَل ذلك تعريفًا للناسِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَكْتُمُ مِن وَحْيِ اللهِ شَيْئًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إِسْحَاقَ:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . أَي: ما كان لنبيٍّ أن يَكْتُمَ الناسَ ما بعَثه اللهُ به إليهم، عن رَهْبَةٍ مِن الناسِ، ولا رَغْبةٍ، ومَن يَغْلُلْ
(2)
ذلك يَأْتِ به يومَ القيامةِ
(3)
.
فتأويلُ قراءةِ مَن قرَأ ذلك كذلك: ما يَنْبَغِي لنبيٍّ أن يَكونَ غالًّا. بمعنى: أنه
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 413، والواحدى في أسباب النزول ص 93 من طريق وكيع مطولًا.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يعمل".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 117، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 804 (4434، 4437) من طريق سلمة به.
ليس مِن أفعالِ الأنبياءِ خيانةُ أممِهم. يقالُ منه: غلَّ الرجلُ، فهو يَغُلُّ، إذا خان، غُلُولًا. ويُقالُ أيضًا منه: أَغَلَّ الرجلُ، فهو يُغِلُّ إغلالًا، كما قال شُرَيْحٌ: ليس على المُسْتَعِيرِ غيرِ المُغِلِّ ضَمانٌ
(1)
. يعنى غيرَ الخائنِ. ويقالُ منه: أَغلَّ الجازرُ. إذا سرَق من اللحمِ شيئًا مع الجلدِ
(2)
.
وبما قلْنا في ذلك جاء تأويلُ أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . يقولُ: ما كان يَنْبَغِي له أن يَخونَ، فكما لا يَنْبَغى له أن يَخونَ فلا تَخونوا.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهِدٍ في قولِه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . قال: أَن يَخونَ
(3)
.
وقرأ ذلك آخَرون: (وما كان لنبيٍّ أن يَغَلَّ). بضمِّ الياءِ وفتحِ الغينِ، وهى قراءةُ عُظْمِ قرأةِ أهلِ المدينةِ والكوفةِ
(4)
.
واخْتَلَف قارئو ذلك كذلك في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: ما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّه أصحابُه. ثم أُسْقِط الأصحابُ، فبَقِى الفعلُ غيرَ مُسَمًّى فاعلُه. وتأويلُه: وما
(1)
أخرجه عبد الرزاق (14782، 14783) ووكيع في أخبار القضاة 2/ 331، والدارقطني 3/ 41، والبيهقى 6/ 91.
(2)
وذلك إذا سلخ فترك من اللحم ملتزقا بالإهاب. اللسان (غ ل ل).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 803 (4430) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى عبد بن حميد.
(4)
قرأ بها نافع وابن عامر وحمزة والكسائي. وينظر السبعة لابن مجاهد ص 218.
كان لنبيٍّ أن يُخانَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرنا عوفٌ، عن الحسنِ أنه كان يَقْرَأُ:(وما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ). قال عوفٌ: قال الحسنُ: أَن يُخانَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:(وما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ). يقولُ: وما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّه أصحابُه الذين معه مِن المؤمنين، ذُكِر لنا أن هذه الآيةَ نزَلَت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ بدرٍ، وقد غَلَّ طوائفُ مِن أصحابِه
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:(وما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ). قال: أن يَغُلَّه أصحابُه
(3)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ قولَه:(وما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ). قال الربيعُ بنُ أنسٍ: يقولُ: ما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّه أصحابُه الذين معه. قال: ذُكِر لنا - واللهُ أعلمُ - أن هذه الآيةَ أُنزِلَت على نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ بدرٍ، وقد غَلَّ طوائفُ مِن أصحابِه
(4)
.
وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبيٍّ أن يُتَّهَمَ بالغُلولِ فيُخَوَّنَ ويُسَرَّقَ. وكأن مُتأوِّلى ذلك كذلك وجَّهوا قولَه: (وما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ).
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (537 - تفسير) عن هشيم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى المصنف وعبد بن حميد. وذكره الواحدى في أسباب النزول ص 94.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 137، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 804 (4432) عن الحسن بن يحيى به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91 إلى المصنف وعبد بن حميد.
إلى أنه مرادٌ به "يُغَلَّل": "يُفَعَّل
(1)
"، ثم خُفِّفَت العينُ من "يُفَعَّل"، فصارَت "يُفَعْل"، كما قرَأ مَن قرَأ قولَه:(فإنهم لا يُكْذِبونك)
(2)
[الأنعام: 33]. بتأوُّلِ: {يُكَذِّبُونَكَ} .
وأولى القراءتين بالصوابِ في ذلك عندى قراءةُ مَن قرأَ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . بمعنى: ما الغُلولُ من صفاتِ الأنبياءِ، ولا يكونُ نبيًّا مَن غَلَّ.
وإنما اخْتَرْنا ذلك لأن الله عز وجل أوْعَد عَقِيبَ قولِه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . أهلَ الغُلولِ فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية والتي بعدَها. فكان في وَعِيدِه عَقِيبَ ذلك أهلَ الغلولِ الدليلُ الواضحُ على أنه إنما نهَى بذلك عن الغلولِ، وأخْبَر عبادَه أن الغلولَ ليس مِن صفاتِ أنبيائِه بقولِه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . لأنه لو كان إنما نهَى بذلك أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يتَّهِموا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالغلولِ، لعقَّب ذلك بالوعيدِ على التُّهَمةِ وسوءِ الظنِّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لا بالوعيدِ على الغُلولِ، وفي تعقيبِه ذلك بالوعيدِ على الغلولِ بيانٌ بَيِّنٌ أنه إنما عرَّف المؤمنين وغيرَهم مِن عبادِه، أن الغلولَ مُنْتَفٍ مِن صفةِ الأنبياءِ وأخلاقِهم؛ لأن ذلك جُرْمٌ عظيمٌ، والأنبياءُ لا تَأْتى مثلَه.
فإن قال قائلٌ ممَّن قرَأ ذلك كذلك: فأولى منه: وَما كان لنبيٍّ أن يَخونَه أصحابُه. إن كان
(3)
ذلك كما ذكَرْتَ، ولم يُعَقِّبِ اللهُ قولَه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} . إلا بالوعيدِ على الغلولِ، ولكنه إنما وجَب الحكمُ بالصحةِ لقراءةِ مَن قرَأ:"يُغَلَّ". بضمِّ الياءِ وفتحِ الغينِ؛ لأن معنى ذلك: وما كان للنبيِّ أن يَغُلَّه أصحابُه
(1)
سقط من م.
(2)
سيأتي تخريج هذه القراءة في موضعها.
(3)
زيادة يقتضيها السياق وليست في النسخ.
فيَخُونوه في الغَنائمِ.
قيل له: أفكان لهم أن يَغُلُّوا غيرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيَخُونوه، حتى خُصُّوا بالنهيِ عن خيانة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟.
فإن قالوا: نعم. خرَجوا مِن قولِ أهلِ الإسلامِ؛ لأن الله لم يُبحْ خِيانةَ أحدٍ في قولِ أحدٍ مِن أهلِ الإسلامِ قطُّ.
فإن قال قائلٌ: لم يكنْ ذلك لهم
(1)
في نبيٍّ ولا غيرِه.
قيل: فما وجهُ خُصوصِهم إذن بالنهيِ عن خِيانةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وغُلُولُه وغُلولُ بعضِ اليهود بمنزلةٍ، فيما حرَّم اللهُ على الغالِّ مِن أموالِهما، و
(2)
ما يَلْزَمُ المُؤْتَمَنَ مِن أَداءِ الأمانةِ إليهما؟
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن معنى ذلك هو ما قلْنا مِن أن الله عز وجل نفَى بذلك أن يكونَ الغلولُ والخيانةُ من صفاتِ أنبيائِه، ناهيًا بذلك عبادَه عن الغلولِ، وآمِرًا لهم بالاسْتِنانِ بمنهاج نبيِّهم، كما قال ابن عباسٍ في الروايةِ التي ذكَرْناها مِن روايةِ عَطيَّةَ
(3)
، ثم عقَّب تعالى ذكرُه نهيَهم عن الغلولِ بالوعيدِ عليه، فقال:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . الآيتَيْن معًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
يعني بذلك تعالى ذكرُه: ومَن يَخُنْ مِن غَنائمِ المسلمين شيئًا، وفَيْئِهم، وغيرِ ذلك، يَأْتِ به يومَ القيامةِ في المَحْشَرِ.
كما حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن يحيى بن سعيدٍ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"منهم".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أو"
(3)
تقدم تخريجه في ص 196.
[أبي حَيَّانَ]
(1)
، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قام خطيبًا، فوعَظ وذكَّر، ثم قال: "ألا عَسَى رجلٌ منكم يَجِيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِه شاةٌ لها ثُغاءٌ، يقولُ: يا رسولَ اللهِ أَغِثْنى. فأقولُ: لا أَمْلِكُ لك شيئًا، قد أَبْلَغْتُك. ألا هل عسى رجلٌ منكم يَجِيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِه فرسٌ لها حَمْحَمَةٌ، يقولُ: يا رسولَ اللهِ، أَغِثْنى. فأقولُ: لا أَمْلِكُ لك شيئًا، قد أبْلَغْتُك. ألا هل عسى رجلٌ منكم يُجيءُ يومَ القيامةِ على رقبته صامتٌ
(2)
، فيقولُ: يا رسولَ اللهِ، أَغِثْني، فَأَقولُ: لا أَمْلِكُ لك شيئًا، قد أَبْلَغْتُك. ألا هل عسى رجلٌ منكم يَجِئُ يومَ القيامةِ على رقبته بقرةٌ لها خُوَارٌ، يقولُ: يا رسولَ اللهِ، أَغِثْنى. فأقولُ: لا أَمْلِكُ لك شيئًا، قد أَبْلَغْتُك. ألا هل عسى رجلٌ منكم يَجِيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِه رِقاعٌ تَخْفِقُ
(3)
، يقولُ: يا رسولَ اللهِ، أَغِثْنى. فأقولُ: لا أَمْلِكُ لك شيئًا، قد أَبْلَغْتُك"
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ
(5)
، عن أبي حَيَّانَ، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ هذا، زاد فيه: "على رقبتِه بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، لا أُلْفِينَّ أحدَكم على رقبتِه نفْسٌ
(6)
لها صِياحٌ
(7)
.
(1)
سقط من: س، وفى ص:"عن أبي حيان". وينظر تهذيب الكمال 26/ 293. ولا يعكر عليه أن يحيى بن سعيد - وهو القطان - يروى هذا الحديث عن أبي حيان، كما عند البخاري (3073) لأن رواية البخاري عن مسدد، عن يحيى بن سعيد القطان عن أبي حيان، وفى السند الذي معنا فإن ابن فضيل يروى عن أبي حيان، كما في ترجمته.
(2)
الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق، وهو الحيوان. النهاية 3/ 52.
(3)
أراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، وخفوقها: حركتها. النهاية 2/ 251، واستبعده ابن الجوزي وفسر الرقاع بالثياب؛ لأن الحديث سيق في الغلول الحسى، فحمله على الثياب أنسب. ينظر الفتح 8/ 186.
(4)
أخرجه البخاري (3073)، ومسلم (1831)، وابن حبان (4848)، والبيهقى 9/ 101 من طريق أبي حيان به.
(5)
في النسخ، وشعب الإيمان:"الرحمن". وسيأتي على الصواب في آخر الحديث التالي، وينظر تهذيب الكمال 18/ 36.
(6)
قال الحافظ في الفتح 6/ 186: كأنه أراد بالنفس ما يغله من الرقيق من امرأة أو صبي.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 492، 493 - ومن طريقه مسلم (1831)، والبيهقي في الشعب (4330) - عن عبد الرحيم به.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أبو حَيَّانَ، عن أبي زُرْعةَ بن
(1)
عمرِو بن جَريرٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قام فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومًا، فذكَر الغُلولَ، فعظَّمه وعظَّم أمرَه، فقال: "لا أُلْفِيَنَّ [يَجِئُ أحدُكم]
(2)
يومَ القيامةِ على رقبتِه بعيرٌ له رُغاءٌ، يقولُ: يا رسولَ اللهِ، أَغِثْنى"
(3)
. ثم ذكَر نحوَ حديثِ أبي كُريبٍ، عن عبدِ الرحيمِ
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ بشرٍ، عن يعقوبَ القُمِّيِّ، قال: ثنا حفصُ بنُ حميدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا أَعْرِفَنَّ أحدَكم يَأْتِى يومَ القيامةِ يَحْمِلُ شاةً لها ثُغاءٌ، يُنادِى: يا محمدُ، يا محمدُ. فأقولُ: لا أَمْلِكُ لك مِن اللهِ شيئًا، قد بلَّغْتُك. [ولا أعرفنَّ]
(5)
أحدَكم يَأْتى
(6)
يومَ القيامةِ يَحْمِلُ
(7)
جملًا له رُغاءٌ، يقولُ: يا محمدُ، يا محمدُ. فأقولُ: لا أَمْلِكُ لك مِن اللهِ شيئًا، قد بلَّغْتُك. ولا أَعْرِفَنَّ أحدَكم يأْتى يومَ القيامةِ، يَحْمِلُ فرسًا له حَمْحَمَةٌ، ينادى: يا محمدُ، يا محمدُ. فأقولُ: لا أملكُ لك من اللهِ شيئًا، قد بلَّغْتُك ولا أعرِفَنَّ أحدَكم يأتى يومَ القيامةِ يَحْمِلُ قَشْعًا
(8)
مِن
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن"، وفى س:"عن أبي". والمثبت كما في مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 33/ 323.
(2)
في م: "أحدكم يجئ". وهو لفظ رواية مسلم، والمثبت من باقي النسخ كلفظ رواية أحمد.
(3)
أخرجه أحمد 15/ 307، 308 (9503)، ومسلم (24/ 1831) من طريق إسماعيل ابن علية به.
وأخرجه مسلم (1831) /25، وأبو يعلى (6083)، وابن حبان (4847) من طريق أبي زرعة به.
(4)
في م، س:"الرحمن".
(5)
في الأصل: "ولأعرفن". وكذا هو في الأصل في مواضعه التي ستأتي. قال النووى: قوله صلى الله عليه وسلم "فلأعرفن". هكذا هو ببعض النسخ وفى بعضها: "لا أعرفن". بالألف على النفي، قال القاضي: هذا أشهر. قال: والأول هو رواية أكثر رواة صحيح مسلم. مسلم بشرح النووى 12/ 220.
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
بعده في س: "على رقبته".
(8)
في الأصل، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قسما"، وغير مقروءة في ص. وساقه ابن الأثير في النهاية 4/ 65 على الصواب، ونقله عنه صاحب اللسان (ق ش ع). =
أَدمٍ يُنادِى: يا محمدُ، يا محمدُ. فَأَقولُ: لا أَمْلِكُ لك مِن اللهِ شيئًا، قد بلَّغْتُك"
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا أسباطُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا أبو إسحاقَ الشَّيْبانيُّ، عن عبدِ اللهِ بن ذَكْوَانَ، عن عروةَ بن الزبيرِ، عن أبي حُميدٍ، قال: بَعث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا
(2)
، فجاء بسَوَادٍ كثيرٍ
(3)
، قال: فبعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَن يَقْبِضُه منه، فلمَّا أَتَوْه جعَل يقولُ: هذا لى، وهذا لكم. قال: فقالوا: من أين لك هذا؟ قال: أُهْدِى إليَّ، فأتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبَروه بذلك، فخرَج فخطَب، فقال: "أَيُّها الناسُ، ما بالى أَبْعَثُ قومًا إلى الصدقةِ، فيَجِئُ أحدُهم بالسَّوَادِ الكثيرِ، فإذا بعَثْتُ مَن يَقْبِضُه قال: هذا لى، وهذا لكم. فإن كان صادقًا أفلا أُهْدِيَ له وهو في بيتِ أبيه أو
(4)
في بيتِ أمِّه؟ " ثم قال: "أيُّها الناسُ، مَن بَعَثْناه على عملٍ فغَلَّ شيئًا، جاء
(5)
يوم القيامةِ على عنقِه يَحْمِلُه، فاتَّقُوا الله أن يَأْتِيَ أحدُكم يومَ القيامةِ على عنقِه بعيرٌ له رُغاءٌ، أو بقرةٌ تَخورُ، أو شاةٌ تَثْغُو
(6)
".
حدَّثنا أبو كُريب، قال: ثنا أبو مُعاويةَ وابنُ نُمَيْرٍ وعَبْدةُ بنُ سليمانَ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن أبي حُميدٍ الساعديِّ، قال: اسْتَعْمَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا
= قال ابن الأثير: القشع: الجلد اليابس، وقيل: النطع. وقيل: أراد القربة البالية.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 132 عن المصنف، وقال: لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.
(2)
المصدق: العامل على الزكاة الذي يأخذ الحقوق من الإبل والغنم. وينظر اللسان (ص د ق).
(3)
أي بأشياء كثيرة. وأشخاص بارزة من حيوان وغيره، والسواد يقع على كل شخص. صحيح مسلم بشرح النووى 14/ 221.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، س:"و". وينظر صحيح ابن خزيمة. وينظر أيضًا الأثر القادم.
(5)
بعده في م: "به".
(6)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"تنعق".
والحديث أخرجه مسلم (29/ 1832)، وابن خزيمة (2382) من طريق أبي إسحاق به.
مِن الأزْدِ، يقال له: ابن اللُّتْبِيَّةِ
(1)
على صدَقاتِ بني سُلَيْمٍ، فلما جاء قال: هذا لكم، وهذا هديةُ أُهْدِيَت لى. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفَلا يَجْلِسُ أَحدُكم في بيتِه، فتَأْتِيَه هديتُه؟ ". ثم حمِد الله، وأثْنَى عليه، ثم قال: "أمَّا بعدُ، فإني أَسْتَعْمِلُ رجالًا منكم على أمورٍ ممَّا ولَّانى اللهُ، فيَقول أحدُهم: هذا الذي لكم، وهذا هديةٌ أُهْدِيَت إليَّ. أفلا يَجْلِسُ في بيتِ أبيه أو في
(2)
بيتِ أمَّه، فتأْتِيَه هديتُه! والذي نفسي بيدِه، لا يَأْخُذُ أحدُكم مِن ذلك شيئًا إلا جاء به يومَ القيامةِ يَحْمِلُه على عنقِه، فلا أَعْرِفَنَّ ما جاء رجلٌ يَحْمِلُ بعيرًا له رُغاءٌ، أو بَقرةً لها خوَارٌ، أو شاةً تَبْعَرُ
(3)
". ثم رفَع يدَيه
(4)
، فقال:"ألا هل بلَّغْتُ"
(5)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ، عن هشامِ بن عُروةً، عن أبيه، عن أبي حُميدٍ، حدَّثه بمثلِ هذا الحديثِ، قال:"أفلا جلَسْتَ في بيتِ أبيك وأمِّك حتى تَأْتِيَك هديتُك؟ ". ثم رفَع يدَيه
(6)
حتى إنى لأَنْظُرُ إلى بياضِ إِبْطَيْه، ثم قال:"اللهم هل بلَّغْتُ". قال أبو حُميدٍ: بَصُر عينى وسَمِع أذنى
(7)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهب، قال: ثنا عمى عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ، قال: أَخْبَرَنى عمرُو بنُ الحارثِ، أن موسى بنَ جُبَيرٍ
(8)
حدَّثه، أن عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الرحمنِ بن الحُبابِ الأنصاريِّ، حدَّثه أن عبدَ اللهِ بنَ أُنَيْسٍ
(9)
حدَّثه، أنه تذاكَر هو
(1)
في ص: "الأُتْبيَّة". وورد عند مسلم على الوجهين، وينظر التاج (ل ت ب).
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
في م: "تثغو".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يده".
(5)
أخرجه مسلم (28/ 1832) عن أبي كريب به. وأخرجه البخارى (7197) من طريق عبدة - وحده - به.
(6)
في النسخ: "يده". وصوبناه من ابن أبي شيبة وصحيح مسلم.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 493 - وعنه مسلم (28/ 1832) - عن عبد الرحيم به. وأخرجه الشافعي 1/ 669، والطيالسي (1309)، وعبد الرزاق في مصنفه (6950، 6951)، والبخارى (6979)، ومسلم 28/ 1832، والبزار (3708)، وابن خزيمة (2340)، وابن حبان (4515) من طريق هشام به.
(8)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حنين". وينظر تهذيب الكمال 29/ 42.
(9)
في ت 2، س:"أنس". وينظر تهذيب الكمال 14/ 313.
وعمرُ يومًا الصدقةَ، فقال: ألم تَسْمَعْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ ذكَر غُلُولَ الصدقةِ: "مَن غَلَّ منها بعيرًا أو شاةً، فإنه يَحْمِلُه يومَ القيامةِ؟ " قال عبدُ اللهِ بنُ أُنَيْسٍ: بلى
(1)
.
حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى الأُمَويُّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَث سعدَ بنَ عُبادةَ مُصَدِّقًا، فقال:"إياك يا سعدُ أن تَجيءَ يومَ القيامةِ ببعيرٍ تَحْمِلُه له رُغاءٌ". قال: لا آخُذُه ولا أَجِيءُ به، فأعفاه
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ المغيرةِ الحمْصيُّ أبو حُميدٍ، قال: ثنا الربيعُ بنُ رَوْحٍ، قال: ثنا ابن عَيَّاشٍ، قال: ثني عُبيدُ اللهِ بن عمرَ بن حفصٍ، عن نافعٍ مولى ابن عمرَ، عن عبدِ اللهِ بن عمرَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَل سعدَ بنَ عُبادةَ، فأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسلَّم عليه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إياك يا سعدُ أن تَجِيءَ يومَ القيامةِ تَحْمِلُ على عنقِك بعيرًا له رُغاءٌ". فقال سعدٌ: فإن فعَلتُ يا رسولَ اللهِ، إن ذلك لكائنٌ؟ قال:"نعم". قال سعدٌ: قد علِمْتَ يا رسولَ اللهِ أنى أُسْأَلُ فَأُعْطِي، فأَعْفِني. فأعفاه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ حبابٍ
(4)
قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ الحارثِ، قال: ثنى جَدَى عُبيدُ بنُ أَبي عبيدٍ - وكان أولَ مولودٍ بالمدينةِ - قال: اسْتُعْمِلْتُ على صدقةِ دَوْسٍ، فجاءني أبو هريرةَ في اليومِ الذي خرَجْتُ فيه، فسلَّم، فخرَجْتُ إِليه، فسلَّمْتُ عليه، فقال: كيف أنت والبعيرَ؟ كيف أنت والبقرَ؟ كيف أنت والغنمَ؟ ثم
(1)
أخرجه أحمد 25/ 463 (16063)، وابن ماجة (1810)، وعبد الله بن أحمد في الزوائد على المسند 25/ 463 (16063) من طريق ابن وهب به.
(2)
أخرجه البزار (898 - كشف)، وابن حبان (3270)، والحاكم، 1/ 399، وابن عساكر في تاريخه 20/ 259 من طريق سعيد بن يحيى به.
(3)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 20/ 259 من طريق ابن عياش، عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن نافع به.
(4)
في م، س:"حبان"، وفى ت 1:"خباب". وينظر تهذيب الكمال 10/ 40.
قال: سمِعْتُ حِبِّى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبا القاسمِ قال: "مَن أخَذ بعيرًا بغيرِ حقِّه، جاء به يومَ القيامةِ له رُغاءٌ، ومَن أخَذ بقرةً بغيرِ حقِّها، جاء بها يومَ القيامةِ لها خُوارٌ، ومَن أخَذ شاةً بغير حقِّها، جاء بها يومَ القيامةِ على عنقِه لها يُعارٌ
". فإياك والبقرَ، فإنها أحَدُّ قرونًا وأشدُّ أظْلافًا.
[حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: ثني [محمدٌ، عن]
(2)
عبدِ الرحمنِ بن الحارثِ، عن جدِّه عبيدِ بن أبي عبيدٍ، قال: اسْتُعْمِلْتُ على صدقةِ دَوْسٍ، فلمَّا قضَيْتُ العملَ قدِمْتُ، فجاءنى أبو هريرةَ فسلَّم عليَّ، فقال: أخْبِرْني كيف أنت والإبلَ. ثم ذكَر نحوَ حديثِه عن زيدٍ، إلا أنه قال:"جاء به يومَ القيامةِ على عنقِه له رُغاءٌ"
(3)
]
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال قتادةُ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا غنِم مَغْنمًا بَعث مناديًا: "ألَا لا يَغُلَّنَّ رجلٌ مِخْيَطًا"
(5)
فما دونَه، ألا لا يَغُلَّنَّ رجلٌ بعيرًا، فيَأْتِىَ به على ظهرِه يومَ القيامةِ له رُغاءٌ، ألا لا يَغُلَّنَّ رجلٌ فرسًا، فيأْتِىَ به يومَ القيامةِ على ظهرِه له حَمْحَمةٌ"
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)} .
في م: "ثغاء".
(2)
سقط من: الأصل، وفى ص، ت 1:"محمد بن".
(3)
عزاه في كنز العمال 4/ 386 (11043) إلى المصنف.
(4)
سقط من: ت 2، س.
(5)
المِخْيَط: الإبرة. النهاية 2/ 92.
(6)
تفسير عبد الرزاق 1/ 137. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 92 إلى ابن المنذر، وفيه: "فما فوقه" بدلًا من: "فما دونه".
(1)
يعني بقولِه تعالى ذكره: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} : ثم تُعْطَى كُلُّ نَفْسٍ جَزاءَ ما كسَبَت بكسبِها، وافيًا غيرَ مَنْقوصٍ، مما اسْتَحَقَّه واسْتَوْجَبه مِن ذلك، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. يقولُ:[وهم]
(1)
لا يُفْعَلُ بهم إلا الذي يَنْبَغِى أَن يُفْعَلَ بهم، مِن غيرِ أن يُعْتَدَى عليهم، فيُنْقَصُوا عما اسْتَحَقُّوه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : ثم يُجْزَى بكسبِه غيرَ مظلومٍ، ولا مُتعدًى
(2)
عليه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} في تركِ الغُلولِ، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} بِغُلُولِهِ ما غَلَّ؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا ابن عُيينةَ، عن مُطَرِّفٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} . قال: مَن لم يَغُلَّ، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}: كمَن غَلَّ
(4)
.
(1)
سقط من: م. وفي س: "ومن".
(2)
في م: "معتدى".
(3)
سيرة ابن هشام، 2/ 117 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 805 (4444) من طريق سلمة به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 138، وذكر أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 806 عقب الأثر (4447) معلقا، وأخرج آخره (4452) من طريق سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 93 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيينةَ، عن مُطَرِّفِ بن طَريفٍ، عن الضحاكِ قولَه:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} . قال: أَمَنْ
(1)
أَدَّى الخُمُسَ، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}:[غلّ فباء بسخطٍ من اللهِ]
(2)
، فَاسْتَوْجَب سَخَطًا مِنَ اللهِ؟
وقال آخَرون في ذلك بما حدَّثنا به ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} : على ما أحَبَّ الناسُ وسخِطوا، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} لرِضَا الناسِ وسَخَطِهم؟ يقولُ: أفمَن كان على طاعتى، وثوابُه الجنةُ ورِضْوانٌ مِن ربِّه، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} فَاسْتَوْجَب غضبَه، وكان مأواه جهنمَ، وبِئْسَ المصيرُ؟ أَسَواءٌ المثلان؟ أي: فاعْرِفوا
(3)
.
وأولى التأويلين بتأويلِ الآيةِ عندى قولُ الضحاكِ بن مُزاحِمٍ؛ لأن ذلك عَقيبَ وَعيدِ اللهِ جل ثناؤُه على الغُلولِ ونهيِه عبادَه عنه، ثم قال لهم بعدَ نهيِه عن ذلك ووعيدِه: أسَواءٌ المطيعُ لله عز وجل فيما أمَره به ونهاه، والعاصي له في ذلك؟ أي أنهما لا يَسْتَوِيان، ولا تَسْتَوِى حالتاهما عندَه؛ لأن لمن أطاع الله فيما أمَره ونهاه الجنةَ، ولمن عصاه فيما أمَره ونهاه النارَ.
فمعنى قولِه: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} . إذن: أفَمن ترَك الغُلولَ وما نهاه اللهُ عز وجل عنه مِن مَعاصيه، وعمِل بطاعةِ اللهِ في تركِه ذلك، وفي غيرِه مما أمَره به
(4)
من فرائضِه، مُتَّبِعًا في كلِّ ذلك رضا اللهِ، ومُجْتَنِبًا
(5)
سَخَطَه، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}. يعنى: كمَن انْصَرَف مُتَحَملًا سَخَطَ اللهِ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 117 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 806، 807 (4449، 4454) من طريق سلمة به حتى قوله: غضبه.
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ونهاه".
(5)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تجنبا".
وغضبَه، فاسْتَحَقَّ بذلك سُكْنَى جهنمَ؟ يقولُ: ليسا سواءً.
وأما قولُه: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . [فإنه يعنى: وبئس الشيءُ
(1)
]
(2)
الذي يَصِيرُ، ويَئُوبُ إليه من باء بسَخَطٍ مِن اللهِ - جهنمُ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه أن مَن اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ، ومَن باء بسخَطٍ مِن اللهِ، مختلِفو المَنازِلِ عندَ اللهِ، فلِمَن اتَّبَع رضوانَ اللهِ الكرامةُ والثوابُ الجَزيلُ، ولمَن باء بسخَطٍ مِن اللهِ المهانةُ والعذابُ الأليمُ.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . أي: لكلٍّ دَرَجَاتٌ مما عمِلوا في الجنةِ والنارِ، إن الله لا يَخْفَى عليه أهلُ طاعتِه مِن أهلِ معصيتِه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} . يقولُ: بأعمالِهم
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: لهم درجاتٌ عندَ اللهِ. يعنى: لمن اتَّبَع رضوانَ اللهِ منازلُ عندَ اللهِ كريمةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ. عن مجاهدٍ في قولِه:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} . قال: هي كقولِه: لهم
(1)
في ص، م، س:"المصير".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 117.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 807 (4458) عن محمد بن سعد به.
عندَ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} . يقولُ: لهم درجات عندَ اللَّهِ
(2)
.
وقيل: قولُه: {هُمْ دَرَجَاتٌ} . كقولِ القائلِ: هم طَبِقاتٌ. كما قال ابن هَرْمةَ
(3)
:
[أرجمًا للمنونِ]
(4)
يكونُ قَوْمى
(5)
…
لرَيْبِ الدَّهْرِ أم دَرَجَ
(6)
السُّيولِ
وأما قولُه: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، فإنه يعنى: واللهُ ذو علمٍ بما يَعْمَلُ أهلُ طاعتِه ومعصيتِه، لا يَخْفَى عليه مِن أعمالِهم شيءٌ، يُحْصِى على الفريقَيْن جميعًا أعمالَهم، حتى تُوفَّى كلُّ نفسٍ منهم جَزاءَ ما كسَبَت مِن خيرٍ أو شرٍّ.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . يقولُ: إن الله لا يَخْفَى عليه أهلُ طاعتِه مِن أهلِ معصيتِه
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} .
(1)
يعني قوله تعالى: {لهم درجات عند ربهم} . الآية 4 من سورة الأنفال.
والأثر في تفسير مجاهد ص 261. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 93 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 807 (4457) من طريق أحمد بن مفضل به.
(3)
هو إبراهيم بن هرمة، والبيت في مجاز القرآن لأبي عبيد 1/ 107، واللسان (د ر ج)، والخزانة 1/ 424، وأنشد سيبويه آخره في الكتاب 1/ 415. ورواية اللسان والخزانة:
أنصب للمنية تعتريهم
…
رجالى أم هم درج السيول
(4)
في م: "أإن حم المنون".
(5)
في النسخ: "قوم". والمثبت من مجاز القرآن، واستظهارًا من شرح البيت ومن رواية البيت الأخرى، حيث قال:"رجالي".
(6)
درج السيل ومدرجه: منحدره وطريقه في معاطف الأودية. اللسان (د ر ج).
(7)
سيرة ابن هشام 2/ 117.
بذلك تعالى ذكره: لقد تَطوَّل اللهُ تبارك اسمُه على [أهلِ التصديقِ به وبرسولهِ]
(1)
، {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا}: حينَ أرْسَل فيهم رسولًا، {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: نبيًّا مِن أهلِ لسانِهم، ولم يَجْعَلْه مِن غيرِ أهلِ لسانِهم، فلا يَفْقَهوا عنه ما يقولُ، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}. يقولُ: يَقْرَأُ عليهم آىَ كتابِه وتنزيلِه، {وَيُزَكِّيهِمْ}. يعنى: يُطَهِّرُهم مِن ذنوبِهم باتِّباعِهم إياه وطاعتِهم له، [فيما أمَرَهم ونهاهم]
(2)
، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. يعنى: ويُعَلِّمُهم كتابَ اللهِ عز وجل الذي أنْزَله عليه، ويُبَيِّنُ لهم تأويلَه ومعانيَه، {وَالْحِكْمَةَ} . ويعنى بالحكمةِ السُّنَّةَ التي سنَّها اللهُ عز وجل للمؤمنين على لسانِ رسولِه، وبيانَه لهم، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يعنى: وإن كانوا مِن قبلِ أن يَمُنَّ اللهُ عليهم بإرسالِه رسولَه الذي هذه صفتُه، {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يقولُ: في جَهالةٍ جَهْلاءَ، وفي حَيرةٍ عن الهُدَى عَمْياءَ، لا يَعْرِفون حقًّا، ولا يُبْطِلون باطلًا.
وقد بيَّنَّا أصلَ الضَّلال
(3)
فيما مضَى، وأنه الأخْذُ على غيرِ هُدًى، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(4)
.
والمُبِينُ: الذي يُبِينُ لمن تأَمَّله بعقلِه، وتدَبَّره بِفهمِه، أنه على غيرِ استقامةٍ ولا هُدًى.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المؤمنين".
(2)
في س: "في أمره ونهيه".
(3)
في م، س:"الضلالة".
(4)
ينظر ما تقدم في 2/ 415، 416.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : [مَنٌّ مِنَ اللهِ]
(1)
عظيمٌ
(2)
، مِن غَيرِ دَعْوةٍ ولا رغبةٍ من هذه الأمةِ، جعَله اللهُ عز وجل رحمةً لهم؛ ليُخْرِجَهم مِن الظلماتِ إلى النورِ، ويَهْدِيَهُم إلى صراطٍ مستقيمٍ، قولُه:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} : الحكمةُ السنةُ، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: ليس واللهِ كما تَقولُ أهلُ حَرُوراءَ
(3)
: محنةٌ غالبةٌ، مَن أَخْطَأها أُهرِيق دمُه. ولكنَّ الله بعَث نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى قومٍ لا يَعْلَمون فعلَّمهم، وإلى قومٍ لا أدبَ لهم فأدَّبَهم
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إلى قولِه: {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : أي: لقد منَّ اللهُ عليكم يا أهلَ الإيمانِ، إذ بعَث فيكم رسولًا مِن أنفسِكم، يَتْلُو عليكم آياتِه، ويُزَكِّيكم فيما أحدثتم
(5)
، وفيما عمِلْتُم، ويُعَلِّمُكم الخيرَ والشرَّ، لتَعْرِفوا الخيرَ فتَعْمَلوا به، والشرَّ فتَتَّقُوه، ويُخْبِرُكم برضاه عنكم إذا أطَعْتُموه؛ لتَسْتَكْثِروا مِن طاعتِه، وتتجنَبوا ما سخِط منكم مِن معصيتِه، فتَتَخَلَّصوا بذلك مِن نِقْمتِه، وتُدْرِكوا بذلك ثوابَه مِن جنتِه، وإن كنتم مِن قبلُ {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي في عَمْياءَ من الجاهليةِ، لا تَعْرِفون
(1)
في م، وتفسير ابن أبي حاتم:"منّ الله". وينظر الدر المنثور.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عليهم".
(3)
حروراء كجَلُولاء بالمد، وقد تقصر: قرية بالكوفة على ميلين منها، نزل بها جماعة خالفوا عليا رضي الله عنه من الخوارج. التاج (ح ر ر).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 808، 809، 810 (4463، 4473) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 93 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في م، س:"أخذتم".
حسنةً، ولا تَسْتَعْتِبون
(1)
مِن سيئةٍ، صُمٌّ
(2)
عن الحقِّ، عُمْيٌ عن الهُدَى
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: أَوَ حينَ أصابتكم أيها المؤمنون {مُصِيبَةٌ} ، وهى القَتْلَى
(4)
الذين قُتِلوا منهم يومَ أُحدٍ، والجَرْحَى الذين جُرِحوا منهم بأحدٍ، وكان المشركون قتَلوا منهم يومَئذٍ سبعين نفرًا، {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}. يقولُ: قد أَصْبتُم أنتم أيها المؤمنون من المشركين مِثلَىْ هذه المصيبةِ، التي أصابوا هم منكم، وهى المصيبةُ التي أصابها المسلمون من المشركين ببدرٍ، وذلك أنهم قتَلوا منهم سبعين، وأسَروا سبعين {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} يعنى: قلتُم لما أصابتكم مصيبتُكم بأحدٍ: {أَنَّى هَذَا} من أيِّ وجهٍ هذا؟ ومن أينَ أصابَنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون وهم مشركون، وفينا نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يأتيه الوحيُ من السماءِ، وعدوُّنا أهلُ كفرٍ باللهِ وشركٍ؟ {قُلْ} يا محمدُ للمؤمنين بك من أصحابِك:{هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . يقولُ: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عندِ أنفسِكم، بخلافِكم أمرى، وتركِكم طاعتى، لا من عندِ غيرِكم، ولا من قِبَلِ أحدٍ سواكم، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، يقولُ: إن الله على جميعِ ما أراد بخلقِه من عفوٍ وعقوبةٍ وتفضُّلٍ وانتقامٍ {قَدِيرٌ} . يعني: ذو قدرةٍ.
(1)
في م: "تستغيثون". وفى مصدرى التخريج: "تستغفرون".
(2)
بعده في سيرة ابن هشام: "عن الخير، بُكْم".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 117، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 808 - 810 (4462، 4465، 4468، 4474) من طريق سلمة به إلى قوله: ولا تستغفرون من سيئة.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"القتل".
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . بعدَ إجماعِ جميعِهم على أن تأويلَ سائرِ الآيةِ، على ما قلنا في ذلك من التأويلِ؛ فقال بعضُهم: تأويلُ ذلك: قل: هو من عندِ أنفسِكم، بخلافِكم على نبيِّ اللهِ، إذْ أشار عليكم بتركِ الخروجِ إلى عدوِّكم والإصحارِ
(1)
لهم، حتى يدخُلوا عليكم مدينتَكم، ويصيروا بينَ آطامِكم
(2)
، فأبيتُم ذلك عليه، وقلتُم له: اخرُجْ بنا إليهم، حتى نُصحِرَ لهم، فنقاتلَهم خارجَ المدينةِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} : أُصِيبوا يومَ أحدٍ، قُتِل منهم سبعون
(3)
يومَئذٍ، وأصابوا مِثْلَيها
(4)
يومَ بدرٍ، قتَلوا من المشركين سبعين، وأسَروا سبعين، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}: ذُكر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابِه يومَ أحدٍ، حينَ قدِم أبو سفيانَ والمشركون، فقال نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: "إِنَّا في جُنَّةٍ
(5)
حصينةٍ" - يعنى بذلك المدينةَ - "فَدَعُوا القومَ أن يدخُلوا علينا نقاتلْهم". فقال له ناسٌ من أصحابِه من الأنصارِ: يا نبيَّ اللهِ: إنا نكرَهُ أَن نُقتَلَ في طرقِ المدينةِ، وقد كنا نمتنعُ [من الغزوِ]
(6)
في الجاهليةِ، فبالإسلامِ أحقُّ أن نمتنعَ فيه، فابرُزْ بنا إلى القومِ. فانطلق نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلبِس لأْمتَه
(7)
، فتلاوم القومُ، فقالوا
(1)
الإصحار: مصدر أصحر القوم، إذا برزوا في الصحراء. تاج العروس (ص ح ر).
(2)
جمع أطم، كل حصن مبنى بحجارة وكل بيت مربع مسطح. القاموس المحيط (أ ط م).
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سبعين".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مثلها".
(5)
الجُنَّةُ - بالضم -: ما واراك من السلاح واستترت به منه. والجنة أيضًا السترة والوقاية. لسان العرب (ج ن ن).
(6)
في الأصل: "من العرب". وفى م: "في الغزو". ينظر مصدر التخريج.
(7)
اللأمة: الدرع. وقيل: السلاح. ولأمة الحرب: أداته. النهاية 4/ 220.
عرَّض نبيُّ اللهِ بأمرٍ، وعرَّضتم بغيرِه، اذهبْ يا حمزةُ فقل لنبيِّ اللهِ: أمرُنا لأمرِك تَبَعٌ، فأتَى حمزةُ، فقال له: يا نبيَّ اللهِ، إن القومَ قد تلاوموا، وقالوا: أمرُنا لأمرِك تبعٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لنبيٍّ إذا لبس لأْمتَه أن يضعها حتى يُناجزَ، وإنه ستكونُ فيكم مصيبةٌ". قالوا: يا نبيَّ اللهِ، خاصَّةً أو عامَّةٌ؟ قال:"سترَوْنها"
(1)
.
وذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأى في النومِ
(2)
أن بقرًا تُنحَرُ، فتأوَّلها قتلًا في أصحابِه، ورأى أن سيفَه ذا الفَقارِ
(3)
انْفَصم
(4)
، فكان قتلُ عمِّه حمزةَ، قُتِل يومَئذٍ، وكان يقالُ له: أسَدُ اللهِ. ورأى أن كبشًا أَغبَرَ قُتِل
(5)
، فتأوَّله كبشَ الكتيبةِ عثمانَ بنَ أبي طلحةَ، أُصِيب يومَئذٍ، وكان معه لواءُ المشركين.
حُدِّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع بنحوِه، غيرَ أنه قال:{قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} . يقولُ: مِثْلَى ما أُصِيب منكم، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}. يقولُ: بما عصَيتم.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: أُصِيب المسلمون يومَ أحدٍ مصيبةً، وكانوا قد أصابوا مِثْلَيْها يومَ بدرٍ ممن قُتِلوا وأُسِروا، فقال اللهُ جل ثناؤه:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن عمرَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في م: "المنام".
(3)
في الأصل، ص، ت 1:"الفقارين".
(4)
في م: "انقصم".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
تفسير عبد الرزاق 1/ 138، وعنده:"مثلها" بدلًا من "مثليها".
ابن عطاءٍ، عن عكرمةَ، قال: قتَل المسلمون من المشركين يومَ بدرٍ سبعين، وأسَروا سبعين، وقتَل المشركون يومَ أحدٍ من المسلمين سبعين، فذلك قولُه:{قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} ونحن مسلمون نقاتلُ غضبًا للهِ، وهؤلاء مشركون؟! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} عقوبةً لكم بمعصيتِكم النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ قال ما قال
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . قالوا: فإنما أصابنا هذا؛ لأنا قَبِلنا الفداءَ يومَ بدرٍ من الأُسارى، وعصَينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ، فمن قُتِل منا كان شهيدًا، ومن بقىَ منا كان مطهَّرًا، رضِينا ربَّنا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ وابنِ جريجٍ، قالا: معصيتُهم أنه قال لهم: "لا تتَّبعوهم"، يومَ أحدٍ، فاتَّبعوهم
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، ثم ذكَر ما أُصِيب من المؤمنين، يعنى بأحدٍ، وقُتِل منهم سبعون إنسانًا، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}: كانوا يومَ بدرٍ أسَروا سبعين رجلًا، وقتَلوا سبعين، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}: أي من أين هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} إنكم عصَيتم
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 93 إلى المصنف.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"بالله ربا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 93 إلى المصنف وابن أبي حاتم. وهو عند ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 797، 798 (4397) من طريق سعيد بن سليمان عن مبارك عن الحسن مطولًا بمعناه.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 810 عقب الأثر (4475) من طريق أسباط به.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ، يَقولُ إنكم أَصَبتم من المشركين يومَ بدرٍ مِثْلَىْ ما أصابوا منكم يومَ أحدٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، ثم ذكَر المصيبةَ التي أصابتْهم، فقال:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . أي إن تكُ قد أصابتكم مصيبةٌ في إخوانِكم فبذنوبِكم، قد أَصَبْتُم مِثْلَيها
(2)
؛ قتلًا من عدوِّكم في اليومِ الذي كان قبلَه ببدرٍ، قتلَى وأسرَى، ونسِيتُم معصيتَكم وخلافَكم ما أمَركم به نبيُّكم صلى الله عليه وسلم، إنكم أَحْلَلتم ذلك بأنفسِكم، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: إن الله على كلِّ ما أراد بعبادِه من [نقَمِه أو عفوِه]
(3)
قديرٌ
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ، يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} الآية. يعنى بذلك: أنكم أصَبْتُم من المشركين يومَ بدرٍ مِثْلَى ما أصابوا منكم يومَ أحدٍ.
وقال بعضُهم: بل تأويلُ ذلك: قل هو من عندِ أنفسِكم بإسارِكم المشركين ببدرٍ، وأخذِكم منهم الفداءَ، وتركِكم قتلَهم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 810 (4475) عن محمد بن سعد به.
(2)
في ص: "مثلها".
(3)
في م: "نقمة أو عفو".
(4)
سيرة ابن هشام، 2/ 117، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 810 (4477) من طريق سلمة به، وعنده:"إن لم تكن". بدلًا من: "إن تك".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن فُضيلٍ، عن أشعثَ بن سوَّارٍ، عن ابن سيرينَ، عن عَبيدةَ، قال: أسَر المسلمون من المشركين سبعين، وقتَلوا سبعين، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَاروا؛ أن تأخُذوا منهم الفِداءَ، فتَقوَوْا
(1)
به على عدوِّكم، وإن قبِلتموه قُتِل منكم سبعون، أو تَقْتُلوهم". فقالوا: بل نأخُذُ الفديةَ منهم، ويُقتَلُ منا سبعون. قال: فأخَذوا الفديةَ منهم، وقتَلوا منهم سبعين. قال عَبيدةُ: وطلَبوا الخِيَرَتين كلتَيْهما
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، قال: ثنا ابن عونٍ، عن ابن سيرينَ، عن عَبيدةَ، أنه قال في أُسارى بدرٍ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن شئتُم قتلتُموهم، وإن شئتُم فادَيْتُموهم، واسْتُشْهِد منكم بعِدَّتِهم" قالوا: بل نأخُذُ الفداءَ، فنسْتَمْتِعُ به، ويُسْتَشْهَدُ منا بعِدَّتِهم
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني إسماعيلُ، عن ابن عونٍ، عن محمدٍ، عن
(4)
عَبيدةَ السَّلْمانيِّ، وحدثني حجَّاجٌ، عن جريرٍ، عن محمدٍ، عن
(5)
عَبيدةَ السَّلْمانيِّ، عن عليٍّ، قال: جاء جبريلُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، إن الله قد كرِه ما صنَع قومُك في أخذِهم الأُسارى، وقد أمَرك أن تخيِّرَهم بينَ أمرين: أن يُقَدَّموا فتُضرَبَ أعناقُهم، وبينَ أن يأخُذوا الفداءَ، على أن يُقتَلَ منهم عِدَّتُهم.
(1)
في م: "فتتقووا".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 368 من طريق أشعث به.
(3)
أخرجه البزار عقب الحديث (551) من طريق ابن عون به مرسلًا كذا رواه ابن علية عن ابن عون مرسلًا، وفى الإسناد التالى رواه عن ابن عون مسندًا. وقد رجح الدارقطني الإرسال. ينظر علل الدارقطني 4/ 30 (418).
(4)
في ص، م، ت 1:"بن". وهو تحريف.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بن".
قال: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكَر ذلك لهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، عشائرُنا وإخوانُنا، لا، بل نأخُذُ فداءَهم، فنتقوَّى به على قتالِ عدوِّنا، ويُسْتَشْهَدُ منا عِدَّتُهم، فليس في ذلك ما نكرَه. قال: فقُتِل منهم يومَ أحدٍ سبعون رجلًا، عِدَّةُ أُسارى أهلِ بدرٍ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} .
يعني تعالى ذكرُه بذلك: والذي أصابكم يومَ الْتَقى الجمعانِ، وهو يومُ أحدٍ حينَ الْتَقى جمعُ المسلمين والمشركين، ويعنى بالذي أصابهم: ما نال مِن القتلِ مَن قُتِل منهم، ومِن الجراحِ مَن جُرِح منهم، {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ، يقول: فهو بإِذنِ اللهِ كان. يعنى: بقضائِه وقَدَرِه فيكم، وأجاب {مَا} بالفاءِ؛ لأن {وَمَا} حرفُ جزاءٍ، وقد بيَّنتُ نظيرَ ذلك فيما مضى قبلُ
(2)
. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} . بمعنى: وليعلَمَ اللهُ المؤمنين، وليعلَمَ الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يومَ التقى الجمعانِ بأحدٍ؛ ليميِّزَ لأهلِ
(3)
الإيمانِ باللهِ ورسولِه المؤمنين منكم، من المنافقين، فيعرِفوهم ولا يخفى عليهم أمرُ الفريقين. وقد بيَّنا تأويلُ قولِه:{وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} . فيما مضى، وما وجهُ ذلك، بما أغنى عن إعادتِه
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 140، والبيهقى 6/ 321، وفى الدلائل 3/ 139 - 140 من طريق عبد الله بن عون عن ابن سيرين، به. وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 368 - 369 والترمذى (1567) والبزار (551)، والدارقطنى في العلل 4/ 31، 32 من طريق ابن سيرين به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 93 إلى ابن مردويه.
(2)
ينظر ما تقدم في 5/ 17، 18.
(3)
في م: "أهل".
في هذا الموضعِ
(1)
.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال ابن إسحاقَ.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} : أي
(2)
منكم؛ ما أصابكم حينَ التقيتُم أنتم وعدوُّكم فبإذنى كان ذلك، حينَ فعَلتُم ما فعَلتُم بعدَ أن جاءكم نصْرى، وصدَقتكم
(3)
وعدى. ليميِّزَ بينَ المنافقين والمؤمنين، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} منكم، أي: ليُظْهِروا ما فيهم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} .
يعني تعالى ذكرُه بذلك عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ ابنَ سلولَ المنافقَ، وأصحابَه الذين رجَعوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن أصحابِه، حينَ سار نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحدٍ لقتالِهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أوِ ادْفَعوا بتكثيرِكم سوادَنا. فقالوا: لو نعلَمُ أنكم تقاتلون لسِرْنا معكم إليهم، ولكُنَّا معكم عليهم، ولكن لا نُرَى أنه يكونُ بينَكم وبينَ القومِ قتالٌ. فَأَبْدَوْا مِن نفاقِ أنفسِهم ما كانوا يكتُمونه، وأبدوْا بألسنتِهم بقولِهم:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} . غيرَ ما كانوا يكتُمونه ويُخفونه؛ من عداوةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأهلِ الإيمانِ به.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 641 - 645.
(2)
في ص: "أو"، وفى ت 1:"إذ".
(3)
في م، ت 2، س:"صدقتم".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 118.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ بنُ مسلمِ بن شهابٍ الزُّهْريُّ ومحمدُ بنُ يحيى بن حَبَّانَ وعاصمُ بنُ عمرَ بن قتادةَ والحصينُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن عمرِو بن سعدِ بن معاذٍ وغيرُهم من علمائِنا، كلُّهم قد حدَّث، قال: خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعني حينَ خرَج إلى أحدٍ - في ألفِ رجلٍ من أصحابِه، حتى إذا كانوا بالشَّوْطِ
(1)
بينَ أحدٍ والمدينةِ، انْخَزَل
(2)
عنهم عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ ابن سلولَ بثلثِ الناسِ، فقال: أطاعهم فخرَج وعصاني، وواللهِ ما نَدْرِى علامَ نقتُلُ أنفسَنا ههنا أيُّها الناسُ؟ فرَجع بمن اتَّبعه من الناسِ من قومِه من أهلِ النفاقِ وأهلِ الرَّيْبِ. واتَّبعهم عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بن حَرامٍ، أخو بني سَلِمةَ، يقولُ: يا قومُ أُذكِّرُكم الله أن تخذُلوا نبيَّكم وقومَكم عندَما حضَر من عدوِّهم، فقالوا: لو نعلَمُ أنكم تُقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نُرَى أن يكونَ قتالٌ، فلما اسْتَعصَوا عليه، وأَبَوا إلا الانصرافَ عنهم، قال: أَبْعدَكم اللهُ يا أعداءَ
(3)
اللهِ، فسيُغْنى اللهُ عنكم. ومضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} . يعنى: عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ ابنَ سلولَ وأصحابَه، الذين رجَعوا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حينَ سار إلى عدوِّه من المشركين بأحدٍ. وقولُه:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} . يقولُ: لو نعلَمُ أنكم تقاتلون لَسِرْنا معكم، ولدفَعنا
(1)
الشوط: بستان من بساتين المدينة عند جبل أُحُد. ينظر معجم البلدان 3/ 335، وتاج العروس (ش و ط).
(2)
انخزل: انفرد. النهاية 2/ 29.
(3)
في ص، ت، ت 3:"أعفا".
(4)
ينظر سيرة ابن هشام 2/ 64.
عنكم، ولكن لا نظنُّ أن يكونَ قتالٌ، فظهَر منهم ما كانوا يُخفون في أنفسِهم. يقولُ اللهُ عز وجل:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} . أي: يُظهرون لكم الإيمانَ]
(1)
، وليس في قلوبهِم، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}: أي: بما يُخفون
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعنى يومَ أحدٍ - في ألفِ رجلٍ، وقد وعَدهم الفتحَ إن صبَروا؛ فلما خرَجوا رجَع عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ ابن سلولَ في ثلاثِمائةٍ، فتبِعهم أبو جابرٍ السُّلَميُّ يَدْعوهم، فلما غلَبوه وقالوا له: ما نعلَمُ قتالًا، ولئن أَطَعْتَنا لترجِعَنَّ معنا. قال: فذكَر اللهُ جل وعز أصحابَ عبدِ اللهِ بن أُبيٍّ ابن سلولَ، وقولَ [عبدِ اللهِ أبى جابرِ بن عبدِ اللهِ]
(3)
الأنصاريِّ حينَ دعاهم، فقالوا: ما نعلَمُ قتالًا، ولئن أَطَعْتُمونا لترجِعُنَّ معنا. فقال:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قال عكرمةُ: {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} . قال: نزَلت في عبدِ اللهِ بْنِ أَبِيٍّ ابن سلولَ
(4)
. قال ابن جُريجٍ: وأخبرنى عبدُ اللهِ بنُ كَثِيرٍ، عن مجاهدٍ:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا} . قال: لو نعلَمُ أنا واجِدون معكم قتالًا، لو نعلَمُ مكانَ قتالٍ لاتَّبعناكم
(5)
.
واخْتَلفوا في تأويلِ قولِه: {أَوِ ادْفَعُوا} ؛ فقال بعضُهم: إن معناه: أو
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 118.
(3)
في م: "عبد الله بن جابر بن أبى عبد الله". وهو خلط وتحريف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كثِّروا، فإنكم إذا كثَّرتم دفَعتم القومَ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{أَوِ ادْفَعُوا} . يقولُ: أو كثِّروا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{أَوِ ادْفَعُوا} . قال: بكثرتِكم العدوَّ، وإن لم يكنْ قتالٌ
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابِطوا إن لم تقاتِلوا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ حفصٍ الأُبُلِّيُّ
(3)
وعليُّ بنُ سهلٍ الرَّمْليُّ، قالا: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا عتبةُ بنُ ضَمْرةً، قال: سمِعتُ أبا عونٍ الأنصاريَّ في قولِه: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} . قال: رابِطوا
(4)
.
وأمَّا قولُه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)} . فإنه يعنى به: واللهُ أعلمُ من هؤلاء المنافقين الذين يقولون للمؤمنين: لو نعلمُ قتالًا لاتَّبعْناكم. بما يُضْمِرون في أنفسِهم للمؤمنين ويكتُمونه، فيستُرونه، من العداوةِ والشَّنَآنِ، وأنهم لو علِموا قتالًا ما تبِعوهم، ولا دفعوا عنهم، وهو تعالى ذكرُه محيطٌ بما هم
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 2/ 130.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 43.
(3)
في ص: "الأمل" بغير نقط، وفى م، ت 1، س:"الأملى". وهو تحريف. وينظر ترجمته في تحرير التقريب 1/ 131 (434).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
مُخفوه من ذلك، مُطَّلِعٌ عليه، ومُحْصيه عليهم، حتى يهتِكَ به
(1)
أستارَهم في عاجلِ الدنيا، فيفضَحَهم به، ويُصْلِيَهم به في
(1)
الدَّرْكَ الأسفلَ من النارِ في الآخرةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)} .
يعنى تعالى ذكرُه بذلك: وليعلَمَ اللهُ الذين نافقوا، الذين قالوا لإخوانِهم وقعَدوا فموضعُ {الَّذِينَ} نصبٌ على الإبدالِ من {الَّذِينَ نَافَقُوا} ، وقد يجوزُ أن يكونَ رفعًا على الترجمةِ عمَّا في قولِه:{يَكْتُمُونَ} . من ذكرِ {الَّذِينَ نَافَقُوا} . فمعنى الآيةِ: وليعلَمَ اللهُ الذين قالوا لإخوانِهم الذين أُصيبِوا مع المسلمين في حربِهم المشركين بأحدٍ يومَ أحدٍ، فقُتِلوا هنالك، من عشائرِهم وقومِهم، {وَقَعَدُوا}. يعنى: وقعَد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا، مما أَخْبَرَ اللهُ عز وجل عنهم، من قيلِهم عن الجهادِ مع إخوانِهم وعشائرِهم في سبيلِ اللهِ:{لَوْ أَطَاعُونَا} . يعني: لو أطاعنا مَن قُتِل بأحدٍ مِن إخوانِنا وعشائرِنا {مَا قُتِلُوا} . يعني: ما قُتِلوا هنالك. قال اللهُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم قل يا محمدُ لهؤلاء القائلين هذه المقالةَ من المنافقين: {فَادْرَءُوا} . يعني: فادْفَعوا، من قولِ القائلِ: دَرَأَتُ عن فلانٍ القتلَ - بمعنى: دفَعتُ عنه - أَدْرَؤُه دَرْءًا. ومنه قولُ الشاعر
(2)
:
أقولُ
(3)
وقد دَرَأْتُ لها وَضِينى
…
أهذا دينُه أبدًا ودِيني
يقولُ تعالى ذكرُه: قل لهم: فادْفَعوا - إن كنتُم أيها المنافقون صادقين في
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
هو المثقب العبدي، وقد تقدم في 2/ 470، 471.
(3)
في م: "تقول". ومثله ما تقدم، والمثبت رواية أخرى ينظر ديوان المثقب ص 197.
قيلِكم: لو أطاعنا إخوانُنا في تركِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ مع محمد صلى الله عليه وسلم، وقتالِهم أبا سفيانَ ومَن معه مِن قريشٍ، ما قُتِلوا هنالك بالسيفِ، ولكانوا أحياءً بقعودِهم معكم وتخلُّفِهم عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشهودِ جهادِ أعداءِ اللهِ معه - الموتَ، فإنكم قد قعَدتم عن حربِهم. و
(1)
تخلَّفتُم عن جهادِهم، وأنتم لا محالةَ ميِّتون.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} الذين أُصيبوا معكم من عشائرِهم وقومِهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} الآية. أي: إنه لابدَّ من الموتِ، فإنِ استطَعْتم أن تدفَعوه عن أنفسِكم فافعَلوا. وذلك أنهم إنما نافقوا وترَكوا الجهادَ في سبيلِ اللهِ؛ حرصًا على البقاءِ في الدنيا، وفِرارًا من الموت
(2)
.
ذكرُ مَن قال: الذين قالوا لإخوانِهم هذا القولَ، هم الذين قال اللهُ فيهم:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا} الآية. ذُكِر لنا أنها نزَلت في عدوِّ اللهِ عبدِ اللهِ بن أُبيٍّ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: هم عبد اللهِ بنُ أُبيٍّ وأصحابُه
(4)
.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، س:"قد".
(2)
سيرة ابن هشام، 2/ 119، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: هو عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ الذي قعَد، و {[قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ]
(1)
} الذين خرَجوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . الآية
(2)
.
قال ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: قال جابرُ بنُ عبدِ اللهِ: هو عبدُ اللهِ بْنُ أَبِيٍّ ابن سَلُول
(3)
.
حُدِّثت عن عمارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ قولَه:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} الآية. قال: نزَلت في عدوِّ اللهِ عبدِ اللهِ بن أُبيٍّ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
يعني بقولِه تعالى ذكرُه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} : ولا تَظنَّنَّ.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ} : ولا تظنَّنَّ
(4)
.
وقولُه: {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . يعنى: الذين قُتِلوا بأُحدٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم {أَمْوَاتًا} . يقولُ: ولا تحسَبَنَّهم يا محمدُ أمواتًا، لا يُحسُّون شيئًا، ولا يَلْتذُّون، ولا يتنعَّمون، فإنَّهم أحياءٌ عندى، متنعِّمون في رزقي،
(1)
في م: "وقال لإخوانه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 811 (4483) من طريق ابن ثور عن ابن جريج.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 94 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 119. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 812 (4488) من طريق سلمة مطولًا به.
فرِحون مسرورون بما آتيتُهم من كرامتى وفضلى، وحبَوتُهم به من جزيلِ ثوابي وعطائي.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، وحدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عياشٍ، عن ابن إسحاقَ، عن إسماعيلَ بن أميَّةَ، عن أبي الزُّبيرِ المكيِّ، عن ابن عباسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لما أُصِيب إخوانُكم بأحدٍ، جعَل اللهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضْرٍ، ترِدُ أنهارَ الجنَّةِ، وتأكُلُ من ثمارِها، وتأوِى إلى قناديلَ من ذهبٍ في ظلِّ العرشِ، فلما وجَدوا طِيبَ مشرَبهِم ومأكلِهم وحسنَ مَقيلِهم
(1)
، قالوا: يا ليتَ إخوانَنا يعلَمون ما صنَع اللهُ بنا؛ لئلا يزهَدُوا في الجهادِ، ولا ينكُلوا
(2)
عن الحربِ، فقال اللهُ تبارك وتعالى: أنا أُبلِّغُهم عنكم، فأَنْزل اللهُ عز وجل على رسولِه هؤلاء الآيات
(3)
".
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرُ بنُ عبدِ الحميدِ، وحدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، [عن ابن إسحاقَ، جميعًا]
(4)
عن الأعمشِ، عن أبي الضحى، عن مسروقِ بن الأجدعِ، قال: سألْنا عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، عن هذه الآيةِ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فقال: أمَا إنا قد سألْنا عنها، فقيل لنا: إنه لما أُصيب إخوانُكم
(1)
المقيل: الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم. النهاية 4/ 133.
(2)
ينكلوا: يجبنوا. القاموس المحيط (ن ك ل).
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 119. وأخرجه ابن أبي عاصم في الجهاد (195)، من طريق إسماعيل بن عياش به، وأخرجه ابن المبارك في الجهاد (62)، ابن أبي شيبة 5/ 294، 295، وهناد (155)، وأحمد 4/ 218 (2388) والبيهقى في الشعب (4240)، وابن أبي عاصم في الجهاد (194)، من طريق ابن إسحاق به، وانظر الدر المنثور 2/ 95.
(4)
في م: "قالا جميعًا محمد بن إسحاق".
بأُحُدٍ، جعَل اللهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضْرٍ، ترِدُ أنهارَ الجنةِ، وتأكُلُ من ثمارِها، وتأوِى إلى قناديلَ من ذهبٍ في ظلِّ العرشِ، فيطَّلِعُ اللهُ إليهم اطلاعةً فيقولُ: يا عبادى ما تشتهون فأزيدَكم؟ فيقولون: ربَّنا لا فوقَ ما أعطَيْتَنا، الجنة نأكُلُ منها حيث شئْنا. ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثم يطَّلعُ فيقولُ: يا عبادى ما تشتهون فأزيدَكم؟ فيقولون: ربَّنا لا فوقَ ما أعطيتَنا، الجنة نأكُلُ منها حيثُ شئنا، إلا أنا نختارُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا، ثم تردَّنا إلى الدنيا، فنقاتلَ فيك حتى نُقتَلَ فيك مرَّةً أخرى
(1)
.
حدَّثنا [الحسنُ بنُ يحيى العَبْديُّ]
(2)
، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الأعمشِ، عن أبي الضحى، عن مسروقٍ، قال: سألْنا عبدَ اللهِ عن هذه الآيةِ، ثم ذكَر نحوَه، وزاد فيه: فقال: إني قد قضيتُ ألا تَرْجِعوا.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ، عن عبدِ اللهِ بن مرَّةَ، عن مسروقٍ، قال: سألنا عبدَ اللهِ عن أرواحِ الشهداءِ، ولولا عبدُ اللهِ ما أَخْبَرنا به أحدٌ، قال: أرواحُ الشهداءِ عندَ اللهِ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، في قناديلَ تحتَ العرشِ، تسرَحُ في الجنةِ حيثُ شاءت، ثم ترجعُ إلى قناديلِها، فيطَّلعُ إليها ربُّها، فيقولُ: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريدُ أن نرجِعُ إلى الدنيا، فنُقتَلَ مرَّةً
(1)
ذكره الدارقطنى في العلل 5/ 256، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 62، عن ابن إسحاق به.
ورواه غير واحد عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق بدلًا من أبي الضحى، وسيأتي. قال الدارقطني: الصواب عبد الله بن مرة.
وقال ابن عبد البر: وذكر أبي الضحى في هذا الإسناد عندى خطأ، وأظن الوهم فيه من ابن إسحاق. والله أعلم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الحسن بن أبي يحيى المقدسى". وهو تحريف. وينظر تهذيب الكمال 6/ 334،335.
أخرى
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ وعَبْدةُ بنُ سليمانَ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن الحارثِ بن فُضيلٍ، عن محمودِ بن لَبيدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشهداءُ على بارقٍ: على
(2)
نهرٍ ببابِ الجنةِ، في قُبَّةٍ خضراءَ - وقال عَبْدةُ
(3)
: "في روضةٍ خضراءَ" - يخرُجُ عليهم رزقُهم من الجنةِ بُكرةً وعشيًّا"
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: حدَّثنا يونسُ بنُ بكيرٍ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: ثني الحارثُ بنُ فُضيلٍ، عن محمودِ بن لَبيدٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه
(5)
، إلا أنه قال:"في قُبَّةٍ خضراءَ". وقال: "يخرُجُ عليهم فيها".
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدثنا ابن إدريسَ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: ثنى الحارثُ بنُ فُضيلٍ، عن محمودِ بن لَبيدٍ
(6)
، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثلِه.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: وحدثني الحارثُ بنُ الفضيلِ الأنصاريُّ عن محمودِ بن لَبيدٍ الأنصاريِّ، عن ابن عباسٍ،
(1)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 11/ 62 من طريق محمد بن أبى عدى به. والطيالسي (289)، والدارمي 2/ 206 من طريق شعبة به.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص: "عنده".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 290، وهناد (166)، وعبد بن حميد (721)، وأحمد 4/ 220 (2390)، وابن أبي عاصم في الجهاد (199)، والطبراني (10825)، والحاكم 2/ 74، والبيهقي في الشعب (4241) من طريق ابن إسحاق به، وقد تقدم في 2/ 704.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س. وفى م:"بمثله".
(6)
في ص: ت 1: "أسيد".
قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشهداءُ على بارقٍ؛ نهرٍ ببابِ الجنةِ، في قُبَّة خضراءَ، يخرُجُ عليهم رزقُهم من الجنةِ بُكرةً وعشيًّا"
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: ثني أيضًا - يعني إسماعيلَ بنَ عيَّاشٍ عن ابن إسحاقَ، عن الحارثِ بن الفضيلِ، عن محمودِ بن لَبيدٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: وحدَّثنى بعضُ أصحابي، عن عبدِ اللهِ بن محمدِ بن عَقيلِ بن أبي طالبٍ، قال: سمِعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ: قال لى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألا أبشِّرُك يا جابرُ؟ ". قال: قلتُ: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: "إن أباك حيثُ أُصيب بأحدٍ أَحْيَاه اللهُ، ثم قال له: ما تُحِبُّ يا عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو أن أفعَلَ بك؟ قال: يا ربِّ أُحبُّ أن تردَّني إلى الدنيا، فأُقاتلَ فيك، فأُقتَلَ مرَّةً أخرى"
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: ذُكِر لنا أن رجالًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا ليتنا نعلَمُ ما فعَل إخوانُنا الذين قُتِلوا يومَ أُحدٍ! فأَنْزَل اللهُ تبارك وتعالى في ذلك القرآنَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . كنا نُحدَّثُ أن أرواحَ الشهداءِ تعارفُ في طيرٍ بيضٍ تأكُلُ من ثمارِ الجنةِ، وأن مساكنَهم السِّدْرةُ
(3)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: حدثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع بنحوِه، إلا
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (4241) من طريق ابن إسحاق به.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 120، وأخرجه الحميدى (1265)، وأحمد 23/ 163 (14881)، وعبد بن حميد (1038)، وأبو يعلى (2002)، والحاكم 2/ 119، 120 من طريق ابن عقيل به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 95 إلى المصنف.
أنه قال: تعارَفُ في طيرٍ خُضْرٍ وبيضٍ. وزاد فيه أيضًا: وذُكِر لنا عن بعضِهم في قولِه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} . قال: هم قتلى بدرٍ وأُحدٍ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن محمدِ بن قيسِ بن مَخْرمةَ، قال: قالوا: يا ربِّ، أَلا رسولٌ لنا يُخبِرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنَّا بما أعطيْتَنا؟ فقال اللهُ جل وعز: أنا رسولُكم. فأمَر جبريلَ عليه السلام أن يأتىَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآيتين
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن الأعمشِ، عن عبدِ اللهِ بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ، قال: سألْنا عبدَ اللهِ
(3)
عن هذه الآياتِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . قال: أرواحُ الشهداءِ عندَ اللهِ كطيرِ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تسرَحُ في الجنةِ حيثُ شاءت، قال: فاطَّلع إليهم ربُّك اطِّلاعةً فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدَكموه؟ قالوا: ربَّنا ألسنا نسرَحُ في الجنةِ في أيِّها شئنا! ثم اطَّلع [إليهم الثانيةَ فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأَزيدَكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نَسرحُ في أنهار الجنة في أيها شئنا! ثم اطَّلَع إليهم]
(4)
الثالثةَ فقال: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدَكموه؟ قالوا: تُعيدُ أرواحَنا في أجسادِنا، فنُقاتِلُ في سبيلِك مرةً أخرى. فسكَت عنهم
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 95 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 95 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
في تفسير عبد الرزاق: "عبد الله بن عمر". وهو خطأ بين.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 139، وأخرجه في مصنفه (9554) ومن طريقه الطبراني (9023). وأخرجه مسلم (1887)، والترمذى (3011)، وابن ماجه (2801)، وابن منده في الإيمان (244)، والبيهقى 9/ 163، وفي الدلائل 3/ 303، والبغوى في شرح السنة 10/ 364 من طرق عن الأعمش به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن عُيينةً، عن عطاءِ بن السائبِ، عن [أبي عُبيدةَ]
(1)
، عن عبدِ اللهِ، أنهم قالوا في الثالثةِ حينَ قال لهم: هل تشتهون من شيءٍ فأزيدَكموه؟ قالوا: تُقرِئُ نبيَّنا عنا السلامَ، وتُخبِرُه أنّا قد رضِينا ورُضى عنا
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: قال اللهُ تبارك وتعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يرغِّبُ المؤمنين في ثوابِ الجهادِ
(3)
، ويهوِّنُ عليهم القتلَ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أي: قد أحييتُهم، فهم عندى يُرْزَقون في رَوْحِ الجنةِ وفضلِها، مسرورين بما آتاهم اللهُ من فضلِ ثوابِه على جهادِهم عنه
(4)
.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ، قال: كان المسلمون يسألون ربَّهم أن يُريَهم يومًا كيومِ بدرٍ، يُبلون فيه خيرًا ويُرْزَقون فيه الشهادةَ؛ يُرْزَقون فيه الجنةَ، والحياةَ في الرزقِ، فلقوا المشركين يومَ أحدٍ، فاتَّخذ اللهُ منهم شهداءَ، وهم الذين ذكَرهم اللهُ عز وجل فقال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية.
حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ. قال: ذكَر الشهداءَ فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وزعَم أن أرواحَ الشهداءِ
(1)
في ص س: "أبى عيينة"، وفى ت 1:"ابن عيينة". وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 139، وأخرجه في مصنفه (9555) عن ابن عيينة به.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الجنة". وينظر مصدر التخريج.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 119.
في أجوافِ طيرٍ خُضْرٍ، في قناديلَ من ذهبٍ، معلَّقة بالعرشِ، فهي تَرْعَى بُكرةً وعشيَّةً في الجنةِ، [فإذا كان الليلُ بِتْنَ]
(1)
في القناديلِ، فإذا سرَحن نادى منادٍ: ماذا تريدون؟ وماذا تشتهون؟ فيقولون: ربَّنا نحن فيما اشتهتْ أنفسُنا. فيسألُهم رُّبهم أيضًا: ماذا تشتهون، وماذا تريدون؟ فيقولون: نحن فيما اشتهت أنفسُنا. فيُسْأَلُون الثالثةَ، فيقولون ما قالوا، ولكنَّا نُحِبُّ أن تُردَّ أرواحُنا في أجسادِنا. لما رأَوا
(2)
من فضلِ الثوابِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا عبادٌ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ معمرٍ، عن الحسنِ، قال: ما زال ابن آدمَ يَتحمَّدُ حتى صار حيًّا ما يموتُ، ثم تلا هذه الآيةَ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ مرزوقٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ يونسَ، [عن عكرمةَ]
(4)
قال: ثنا إسحاقُ بنُ أبي طلحةَ، قال: ثني أنسُ بنُ مالكٍ في أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، الذين أَرْسَلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أهلِ بئرِ معونةَ، قال: لا أدرى أربعين، أو سبعين، وعلى ذلك الماءِ عامرُ بنُ الطُّفيلِ الجَعْفريُّ، فخرَج أولئك النفرُ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حتى أتوا غارًا مشرفًا على الماءِ فقعدوا فيه، ثم قال بعضُهم لبعضٍ: أيُّكم يُبلِّغُ رسالةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أهلَ هذا الماءِ؟ فقال -- أُرَاه [ابنَ مِلْحانَ]
(5)
الأنصاريَّ -: أنا أُبلِّغ رسالةً رسولِ اللهِ
(1)
في ص: "بتن". وفى ت 1: "يبتن". وفى م، ت 2، ت 3، س:"تبيت".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يرون".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 96 إلى المصنف.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س. وينظر تاريخ المصنف.
(5)
في النسخ: "أبو ملحان". والمثبت من مصادر التخريج وهو حرام بن ملحان الأنصاري، خال أنس بن مالك. ينظر أسد الغابة 1/ 473، والإصابة 2/ 47.
صلى الله عليه وسلم، فخرَج حتى [أتى حِوَاء]
(1)
منهم، فاحتبى أمامَ البيوتِ، ثم قال: يا أهلَ بئرِ مَعونةَ، إنى رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إليكم، إنى أَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، فآمِنوا باللهِ ورسولِه
(2)
، فخرَج إليه رجلٌ من كِسْرِ البيتِ
(3)
برمحٍ، فضرَب به في جنبِه، حتى خرَج من الشَّقِّ الآخرِ، فقال: اللهُ أكبرُ، فزتُ وربِّ الكعبةِ. فاتبعوا أثَرَه حتى أتوا أصحابَه في الغارِ، فقتَلهم
(4)
أجمعين عامرُ بنُ الطُّفيلِ. قال: قال إسحاقُ: حدَّثني أنسُ بنُ مالكٍ أن الله عز وجل أنْزَل فيهم قرآنًا: " [بلغوا قومَنا عنّا أنّا قد لِقينا ربَّنا فرضِى عنا ورضِينا عنه". ثم نُسخت فرُفعت]
(5)
بعدَ ما قرأناه زمانًا، وأَنزل اللهُ عز وجل:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
(6)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أخبرنا يزيدُ، قال: أخبرنا جُويبرٌ، عن الضحَّاكِ، قال: لما أُصيب الذين أُصيبوا يومَ أحدٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لقُوا ربَّهم فأَكْرمهم، فأصابوا الحياة والشهادةَ والرزقَ الطيِّبَ، قالوا: يا ليت بيننا وبينَ إخوانِنا من يُبلِّغُهم أنّا لقينا ربَّنا، فرضِى عنا وأرضانا، فقال اللهُ تبارك وتعالى لهم: أنا رسولُكم إلى نبيِّكم وإخوانِكم، فأَنْزَل اللهُ جل ذكره على نبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . إلى قولِه: {وَلَا هُمْ
(1)
في م: "أتى حيًّا". والحواء: بيوت مجتمعة من الناس على ماء. اللسان (ح و ا).
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"رسله".
(3)
البيت: الخيمة. والكِسْرُ: أسفل شُقَّةِ البيت التي تلى الأرض من حيث يكسر جانباه، من عن يمينك ويسارك. الصحاح (ك س ر).
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س. "فقتلوهم".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"رفع". وينظر تاريخ المصنف.
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 549، 550، وأحمد 20/ 420 (13195)، والبخاري (2801، 4091) من طريق همام عن إسحاق به.
يَحْزَنُونَ}. فهذا النبأُ
(1)
الذي بلَّغ اللَّهُ [رسولَه والمؤمنين]
(2)
ما قال الشهداءُ
(3)
.
وفى نصبِ قولِه: {فَرِحِينَ} . وجهان؛ أحدُهما، أن يكونَ منصوبًا على الخروجِ
(4)
من قولِه: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} . والآخرُ من قولِه: {يُرْزَقُونَ} . ولو كان رفعًا بالردِّ على قولِه: "بل أحياءٌ فرِحون"، كان جائزًا.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ويفرَحون بمن لم يلحَقْ بهم من إخوانِهم الذين فارقوهم وهم أحياءٌ في الدنيا على مناهجِهم، من جهادِ أعداءِ اللَّهِ مع رسولِه، لعلمِهم بأنهم إن اسْتُشهدوا فلحِقوا بهم، صاروا من كرامةِ اللَّهِ، إلى مثلِ الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرِحون أنهم إذا صاروا كذلك، لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، يعنى بذلك: لا خوفٌ عليهم؛ لأنهم قد أمِنوا عقابَ اللَّهِ، وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمِنوا الخوفَ الذي كانوا يَخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزَنون على ما خلَّفوا وراءَهم من أسبابِ الدنيا، ونكَدِ عيشِها، للخفضِ الذي صاروا إليه، والدَّعَةِ والزُلْفَةِ
(5)
.
ونصبُ {أَلَّا} بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون.
(1)
في ص، ت 1:"الثناء".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ورسوله المؤمنين".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 95 إلى المصنف.
(4)
يعنى بالنصب على الخروج أنه منصوب على الحالية. وانظر ما تقدم في 4/ 399، 400، 5/ 561، 572، 597.
(5)
في الأصل: "الراحة". والخفض: لين العيش وسعته. والزلفة: القربة والدرجة والمنزلة. (خ ف ض)، اللسان (ز ل ف).
وبنحوِ ما قلنا في تأويلِ ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية. يقولُ: لإخوانِهم الذين فارقوهم على دينِهم وأمرِهم؛ لِما قدِموا عليه من الكرامةِ والفضلِ والنعيمِ الذي أعطاهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية. قال: يقولون
(2)
: إخوانُنا يُقتَلون كما قُتِلنا، يلحقون فيُصيبون مِن كرامةِ اللَّهِ تعالى ما أَصبْنا
(3)
.
حُدِّثتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ: ذُكر لنا عن بعضِهم في قولِه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . قال: هم قتلى بدرٍ وأحدٍ، زعَموا أن اللَّهَ تبارك وتعالى لما قبَض أرواحَهم، وأَدْخَلهم الجنةَ، جُعِلت أرواحُهم في طيرٍ خُضْرٍ تَرْعَى في الجنةِ، وتأوِى إلى قناديلَ من ذهبٍ تحتَ العرشِ، فلما رأوْا ما أعطاهم اللَّهُ من الكرامةِ، قالوا: ليت إخوانَنا الذين بعدَنا يعلَمون ما نحن فيه، فإذا شهِدوا قتالًا تعجَّلوا إلى ما نحن فيه. فقال اللَّهُ تبارك وتعالى: إنى منزِّلٌ على نبيِّكم، ومخبرٌ إخوانَكم بالذي أنتم فيه. ففرِحوا به واستبشروا، وقالوا: يُخبرُ اللَّهُ نبيَّكم وإخوانَكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالًا أتوكم. قال فذلك قولُه:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، إِلى قولِه:{أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 48.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يقول".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 95 إلى المصنف.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} . أي: ويُسَرُّون بلُحوقِ من لحِق بهم من إخوانِهم، على ما مضَوا عليه من جهادِهم، ليَشْرَكوهم فيما هم فيه من ثوابِ اللَّهِ الذي أعطاهم، وقد أَذْهب اللَّهُ عنهم الخوفَ والحزنَ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} . قال: هم إخوانُهم من الشهداءِ ممن يُسْتَشهَدُ مِن بعدِهم: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ، حتى بلَغ:{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} ، فإن الشهيدَ يُؤْتَى بكتابٍ فيه مَن يقدَمُ عليه مِن إخوانِه وأهلِه، فيقالُ: يقدَمُ عليك فلانٌ يومَ كذا وكذا، ويقدَمُ عليك فلانٌ يومَ كذا وكذا. فيستَبْشرُ حينَ يَقْدَمُ عليه، كما يستبشرُ أهلُ الغائبِ بقدومِه في الدنيا
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)} .
يقولُ جلَّ ثناؤُه: {يَسْتَبْشِرُونَ} : يفرَحون، {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني: بما حبَاهم به تعالى ذكرُه من عظيمِ كرامتِه عندَ ورودِهم عليه، {وَفَضْلٍ} يقولُ: وبما أَسْبَغ عليهم من الفضلِ، وجزيلِ الثوابِ، على ما سلَف منهم مِن طاعةِ اللَّهِ وطاعةِ
(3)
رسولِه صلى الله عليه وسلم، وجهادِ أعدائِه، {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 119. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 814 (4497) من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 814 (4499) من طريق أحمد بن مفضل به.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية؛ لما عاينوا من وفاءِ الموعودِ، وعظيمِ الثوابِ
(1)
.
واخْتَلفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ فقرَأ ذلك بعضُهم بفتحِ الألفِ من "أَنَّ"
(2)
، بمعنى: يستبشرون بنعمةٍ من اللَّهِ وفضلٍ، وبأن اللَّهَ لا يضيعُ أجرَ المؤمنين. [فموضعُ "أن" إذا فُتِحتُ خُفِض بالعطف على "الفضلِ". وقرأ ذلك آخرون:(وإن الله)]
(3)
بكسرِ الألفِ على الاستئنافِ
(4)
. واحتج مَن قرَأ ذلك كذلك بأنها في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمنِين). قالوا: فذلك دليلٌ على أن قولَه: (وإن الله). مستأنَفٌ غيرُ متصلٍ بالأولِ.
ومعنى قولِه: {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} . لا يُبْطِلُ جزاءَ أعمالِ من صدَّق رسولَه واتَّبعه، وعمِل بما جاءَه به من عندِ اللَّهِ.
وأولى القراءتين بالصوابِ قراءةُ من قرَأ ذلك: {وَأَنَّ اللَّهَ} . بفتحِ الألفِ؛ الإجماعِ الحجَّةِ من القرأةِ على ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: وأن اللَّهَ لا يضيعُ أجرَ المؤمنين، المستجيبين للَّهِ والرسولِ، من بعدِ ما أصابهم الجِراحُ والكُلُومُ
(5)
، وإنما عنى اللَّهُ تعالى ذكرُه بذلك
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 119. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 815 (4504) من طريق سلمة به.
(2)
وهى قراءة السبعة ما عدا الكسائي. ينظر كتاب السبعة لابن مجاهد 219.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
وهى قراءة الكسائي. ينظر المصدر السابق.
(5)
الكلوم: جمع كَلْم، وهو الجرح. اللسان (ك ل م).
الذين اتَّبَعوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى حَمراءِ الأسَدِ في طلبِ العدوِّ؛ أبي سفيانَ، ومن كان معه من مشرِكي قريشٍ، مُنْصرَفَهم عن أُحدٍ، وذلك أن أبا سفيانَ لما انصرَف عن أُحدٍ خرَج رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أثَرِه، حتى بلَغ حَمراءَ الأسَدِ، وهي على ثمانيةِ أميالٍ من المدينةِ، لِيُرِىَ الناسَ أن به وأصحابِه قوةً على عدوِّهم.
كالذي حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: ثنى حسينُ
(1)
بنُ عبدِ اللَّهِ، عن عكرمةَ، قال: كان يومُ أُحدٍ يومَ السبتَ للنصفِ من شوَّالٍ، فلما كان الغدُ من يومِ أُحدٍ، يومَ الأحدِ لستَّ عشْرةَ ليلةً مضَت من شوَّالٍ، أذَّن مؤذِّنُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الناسِ بطلَبِ العدوِّ، وأذَّن مؤذِّنُه: أن لا يخرُجَنَّ معنا أَحدٌ إلا من حضَر يومَنا بالأمسِ. فكلَّمه جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عمرِو بن حَرامٍ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إن أبي كان خلَّفني على أخواتٍ لى سبعٍ، وقال لي: يا بُنيَّ، إنه لا ينبغى لى ولا لك أن نترُكَ هؤلاء النسوةَ لا رجلَ فيهن، ولستُ بالذي أُوثِرُكَ بالجهادِ مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على نفْسي، فتخلَّفْ على أخواتِك. فتخلَّفتُ عليهنَّ. فأذِن له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فخرَج معه، وإنما خرَج رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْهِبًا للعدوِّ؛ ليبلِّغَهم أنه خرَج في طلبِهم، ليظنُّوا به قوةً وأن الذي أصابهم لم يُوهِنْهم عن عدوِّهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: فحدثني عبدُ اللَّهِ بنُ خارجةَ بن زيدِ بن ثابتٍ، عن أبي السائبِ مولى عائشةَ بنتِ عثمانَ، أن رجلًا من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من بنى عبدِ الأَشْهِل، كان شهِد شهد أُحدًا قال:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حسان". ينظر تهذيب الكمال 6/ 383.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 101، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 534 بهذا الإسناد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 102 إلى المصنف.
شهِدتُ مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحدًا أنا وأخٌ لى، فرجَعنا جريحين، فلما أذِن رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالخروجِ في طلبِ العدوِّ، قلتُ لأخى، أو قال لى: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللَّهِ ما لنا من دابَّةٍ نركبُها، وما منا إلا جريحٌ ثقيلٌ، فخرَجنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكنتُ أيسرَ جُرْحًا منه، فكنتُ إذا غُلِب حمَلتُه عُقْبَةً
(1)
، ومشَى عُقْبةً، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرَج رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إلى حَمراءِ الأسَدِ، وهى من المدينةِ على ثمانيةِ أميالٍ، فأقام بها ثلاثًا؛ الاثنينَ والثلاثاءَ والأربِعاءَ، ثم رجَع إلى المدينةِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: فقال اللَّهُ تبارك وتعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} . أي الجراحُ، وهم الذين ساروا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الغدَ من يومِ أُحدٍ إلى حَمراءِ الأسَدِ، على ما بهم من ألمِ الجرِاحِ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} الآية. وذلك يومَ أُحدٍ بعدَ القتلِ والجراحِ، وبعدَ ما انصرَف المشركون؛ أبو سفيانَ وأصحابُه، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: "أَلا عصابةٌ تنتدبُ
(4)
لأمرِ اللَّهِ تطلُبُ عدوَّها، فإنه أنكى للعدوِّ، وأبعدُ للسَّمْعِ". فانطلَق عصابةٌ منهم على ما يَعْلَمُ اللَّهُ تعالى من الجهدِ
(5)
.
(1)
العقبة: الشوط. النهاية لابن الأثير 3/ 269.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 101. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 314، 315 من طريق ابن إسحاق به.
(3)
سيرة ابن هشام في السيرة 2/ 121.
(4)
في الأصل، ص، ت 1، س:"تشدد"، وفى م، ت 2، ت 3:"تشد"، والمثبت من أسباب النزول للواحدي، وما سيأتي من حديث ابن عباس.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 817 (4513) من طريق يزيد بنحوه، والواحدى في أسباب النزول ص 97 من طريق سعيد به.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: انطلَق أبو سفيانَ منصرِفًا من أُحدٍ، حتى بلَغ بعضَ الطريقِ، ثم إنهم ندِموا وقالوا: بئْسَما صنَعتُم
(1)
، إنكم قتَلْتُموهم، حتى إذا لم يبقَ منهم إلا الشَّريدُ ترَكتُموهم! ارجِعوا واستأصِلوهم. فقذَف اللَّهُ في قلوبِهم الرُّعبَ، فهُزِموا، فأَخْبَر اللَّهُ رسولَه، فطلَبهم حتى بلَغ حمراءِ الأسَدِ، ثم رجَعوا من حَمراءِ الأسَدِ، فأَنْزَلَ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه فيهم:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: إن اللَّهَ جلَّ وعزَّ قذَف في قلبِ أبي سفيانَ الرُّعبَ - يعني يومَ أُحدٍ - بعدَ ما كان منه ما كان، فرجَع إلى مكةَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن أبا سفيانَ قد أصاب منكم طَرْفًا، وقد رجَع، وقذَف اللَّهُ في قلبِه الرعبَ". وكانت وقعةُ أحدٍ في شوَّالٍ، وكان التُّجارُ يَقدَمون المدينةَ في ذى القَعدةِ، فينزِلون ببدرٍ الصُّغْرَى في كلِّ سنةِ مرَّةً، وإنهم قدِموا بعدَ وقْعةِ أُحدٍ، وكان أصاب المؤمنين القَرْحُ، واشتكَوا ذلك إلى نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، واشتَدَّ عليهم الذي أصابَهم، وإن رسولَ اللَّهِ ندَب الناسَ لينطلِقوا معه، ويتَّبِعوا ما كانوا مُتَّبِعين، وقال
(3)
: "إنما يرتَحِلون الآنَ، فيأتُونَ الحجَّ ولا يقدِرون على مثلِها حتى عامٍ مُقبلٍ". فجاء الشيطانُ فخوَّف أولياءَه، فقال: إن الناسَ قد جمَعوا لكم. فأبى عليه الناسُ أن يتَّبِعوه، فقال:"إني ذاهبٌ، وإن لم يتَّبِعْني أَحدٌ لأُحضِّضَ الناسَ". فانْتَدَب معه أبو بكرٍ الصديقُ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، والزبيرُ، وسعدٌ، وطلحةُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ، وعبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ،
(1)
في ص: "صنعنا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 102 إلى المصنف بنحوه.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ذلك".
وحذيفةُ بنُ اليمانِ، وأبو عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ في سبعين رَجُلًا، فساروا في طلبِ أبي سفيانَ، فطلَبوه حتى بلَغوا الصَّفْراءَ
(1)
، فأَنْزل اللَّهُ تعالى:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هاشمُ بنُ القاسمِ، قال: ثنا أبو سعيدٍ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، أنها قالت لعبدِ اللَّهِ بن الزبيرِ: يا بنَ أُختى، أَمَا واللَّهِ إن أباك وجدَّك - تعنى أبا بكرٍ والزبيرَ - لمِن الذين قال اللَّهُ تعالى فيهم:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: أُخْبِرتُ أن أبا سفيانَ بنَ حربٍ لما راحَ هو وأصحابُه يومَ أُحدٍ، قال المسلمون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنهم عامِدون إلى المدينةِ. فقال: "إن رَكِبوا الخيلَ وترَكوا الأثقالَ، فإنهم عامِدون إلى المدينةِ، وإن جلَسوا على الأثقالِ وترَكوا
(4)
الخيلَ، فقد رَعَبَهم
(5)
اللَّهُ ولَيْسوا بعامِدِيها". فركِبوا الأثْقالَ، فرعَبهم اللَّهُ، ثم ندَب ناسًا يتْبَعونهم؛ ليُرَوا أن بهم قوةً، فأَتْبَعوهم ليلتَيْن أو ثلاثًا، فنزَلَتْ:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}
(6)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الصفا"، والصفراء: واد من ناحية المدينة، وهو واد كثير النخل والزرع والخير في طريق الحاج. معجم البلدان 3/ 399.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 101 إلى المصنف، وينظر تفسير ابن كثير 2/ 145.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 298 من طريق هاشم بن القاسم به، وفيه هشام بن القاسم، وهو خطأ، وينظر تهذيب الكمال 30/ 130.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ركبوا".
(5)
في م: "أرعبهم".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 102 إلى المصنف.
حدَّثني سعيدُ بنُ الرَّبيعِ، قال: ثنا سفيانُ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، قال: قالت لى عائشةُ: إن كان أبَوَاك لمن الذين استجابوا للَّهِ والرسولِ من بعدِ ما أصابهم القرحُ. تعنى أبا بكرٍ والزبيرَ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: كان عبدُ اللَّهِ من الذين استجابوا للَّهِ والرسولِ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: فوعَد اللَّهُ مُحسِنَ مَن ذكَرنا أمرَه - من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ الذين استجابوا للَّهِ والرسولِ من بعدِ ما أصابهم القَرْحُ، إذا اتَّقى اللَّهَ عز وجل فخافه، فأدَّى فرائضَه، وأطاعه في أمرِه ونهيِه فيما يَستقبِلُ من عُمُرِه - أجرًا عظيمًا، وذلك الثوابُ الجزيلُ، والجزاءُ العظيمُ، على ما قدَّم من صالحِ أعمالِه في الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} .
يعنى بذلك تعالى ذِكرُه: وأن اللَّهَ لا يُضيعُ أجرَ المؤمنين، الذين قال لهم الناسُ: إن الناسَ قد جمَعوا لكم. و {الَّذِينَ} في موضعِ خفضٍ، مردودٌ على {الْمُؤْمِنِينَ}. وهذه الصفةُ من صفةِ الذين استجابوا للَّهِ والرسولِ. و {النَّاسُ} الأوَّلُ: هم قومٌ - فيما ذُكِر لنا - كان أبو سفيانَ قد سأَلهم أن يُثبِّطوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه الذين خرَجوا في طلَبِه بعدَ مُنصرَفِه عن أُحدٍ إلى حَمراءِ الأسَدِ. و {النَّاسُ} الثاني: هم أبو سفيانَ وأصحابُه من قريشٍ الذين كانوا معه بأُحدٍ.
(1)
أخرجه الحميدى (263)، وسعيد بن منصور في سننه (545 - تفسير)، وابن ماجه (124)، وابن أبي داود في مسند عائشة (16)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 18/ 358، 359، من طريق سفيان به بنحوه. وأخرجه ابن سعد 3/ 104، والبخاري (4077)، ومسلم (2418)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 815 (4507)، والحاكم 2/ 298، والبيهقي في دلائل النبوة 3/ 312 من طريق هشام بن عروة به بنحوه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 102 إلى المصنف.
يعني بقولِه: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} . قد جمَعوا الرجالَ للقائِكم والكرَّةِ إليكم لحربِكم. {فَاخْشَوْهُمْ} ، يقولُ: فاحْذَروهم، واتَّقوا لقاءَهم؛ فإنه لا طاقةَ لكم بهم. {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} ، يقولُ: فزادهم ذلك من تخويفِ مَن خوَّفهم أمرَ أبى سفيانَ وأصحابِه من المشركين، يقينًا إلى يقينِهم، وتصديقًا للَّهِ ولوعدِه ووعدِ رسولِه إلى تصديقِهم، ولم يُثْنِهم ذلك عن وجهِهم، الذي أمَرهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالسيرِ فيه. ولكن ساروا حتى بلَغوا رضوانَ اللَّهِ منه. {وَقَالُوا} - ثقةً باللَّهِ، وتوكُّلًا عليه، إذ خوَّفهم مَن خوَّفهم أبا سفيانَ وأصحابَه من المشركين -:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . يعنى بقولِه: {حَسْبُنَا اللَّهُ} . كفانا
(1)
اللَّهُ، يعنى
(2)
: يكفينا اللَّهُ. {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، يقولُ: ونعْمَ المَوْلى لمن ولِيَه وكفَله.
وإنما وصَف تعالى نفسَه بذلك؛ لأن "الوكيلَ" في كلامِ العربِ: هو المُسْنَدُ إليه القيامُ بأمرِ مَن أَسْنَد إليه القيامَ بأمرِه، فلما كان القومُ الذين وصَفهم اللَّهُ بما وصَفهم به في هذه الآياتِ، قد كانوا فوَّضوا أمرَهم إلى اللَّهِ، ووثِقوا به، وأَسْنَدوا ذلك إليه، وصَف نفسَه بقيامِه لهم بذلك، وتفويضِهم أمرَهم إليه بالوَكالةِ، فقال: ونِعْم الوكيلُ اللَّهُ تعالى لهم.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في الوقتِ الذي قال مَن قال لأصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} ؛ فقال بعضُهم: قيل ذلك لهم في وجهِهم الذي خرَجوا فيه مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من أُحدٍ إلى حَمَراءِ الأسَدِ، في طلبِ أبي سفيانَ ومَن معه من المشركين.
(1)
في ص، ت 1، س:"كفينا".
(2)
في ص، ت 1، س:"بمعنى".
ذكرُ مَن قال ذلك، وذكرُ السببِ الذي من أجلِه قيل ذلك، ومَن قائلُه
حدَّثنا محمدُ بنُ حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن عبدِ اللَّهِ بن أبي بكرِ بن محمدِ بن عمرِو بن حزمٍ، قال: مرَّ به - يعني برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْبدٌ الخُزاعيُّ بحمراءِ الأسَدِ، وكانت خزاعةُ، مسلمُهم ومشركُهم، عَيْبةَ
(1)
نُصحٍ الرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بتِهَامةَ، صَفْقَتُهم معه، لا يُخفون عليه شيئًا كان بها، ومعبدٌ يومَئذٍ مشركٌ، فقال: يا محمدُ، أَمَا واللَّهِ لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابِك، ولَوَدِدنا أن اللَّهَ عز وجل كان أعفاك فيهم. ثم خرَج من عندِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بحمراءِ
(2)
الأسَدِ، حتى لقِى أبا سفيانَ بنَ حربٍ ومن معه بالرَّوْحاءِ، قد أَجْمعوا الرَّجْعةَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، وقالوا: أصبْنا حَدَّ
(3)
أصحابِه وقادتَهم وأشرافَهم، ثم نرجِعُ قبلَ أن نستأصِلَهم؟! لنكُرَّنَّ على بقيَّتِهم، فلْنفرُغَنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيانَ مَعْبدًا، قال: ما وراءَك يا معبدُ؟ قال: محمدٌ قد خرَج في أصحابِه يطلُبُكم في جمعٍ لم أرَ مثلَه قطُّ، يتحرَّقون عليكم تحرُّقًا، قد اجْتَمع معه من كان تخلَّف عنه في يومِكم، وندِموا على ما صنَعوا، فيهم
(4)
من الحَنَقِ عليكم شيءٌ
(5)
لم أرَ مثلَه قطُّ. قال: ويْلَك ما تقولُ؟ قال: واللَّهِ ما أراك ترتحلُ حتى ترى نواصيَ الخيلِ. قال: فواللَّهِ لقد أَجْمَعْنا الكرَّةَ عليهم لنستأصلَ بقيَّتَهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فواللَّهِ لقد حمَلني ما رأيتُ على أن قلتُ فيه أبياتًا من شعرٍ! قال: وما قلتَ؟ قال: قلتُ
(6)
:
(1)
عيبة الرجل: موضع سره. النهاية 3/ 327، واللسان (ع ى ب).
(2)
في م: "من حمراء".
(3)
في ص، س:"محمدا و"، وفي م، ت 2، ت 3:"في أحد". وينظر سيرة ابن هشام 2/ 102، 103.
(4)
في م: "فهم".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بشيء".
(6)
الأبيات في سيرة ابن هشام 2/ 103.
كادَتْ تُهَدُّ من الأصواتِ راحلتى
…
إذْ سالتِ الأرضُ بالجُرْدِ
(1)
الأبابِيلِ
(2)
تَرْدِي
(3)
بأُسْدٍ كرامٍ لا تَنابلةٍ
(4)
…
عندَ اللِّقاءِ ولا مِيلٍ
(5)
مَعَازيلِ
(6)
فظَلْتُ عَدْوًا
(7)
أظُنُّ الأرضَ مائلةً
…
لما سَمَوا برئيسٍ غيرِ مَخْذولِ
فقلتُ ويلَ ابن حربٍ من لقائِكمُ
…
إذا تَغَطْمَطَت
(8)
البطحاءُ بالجيلِ
(9)
إنّي نذيرٌ لأهلِ البَسْلِ
(10)
ضاحيةً
…
لكلِّ ذى إرْبةٍ منهم ومَعْقولِ
مِن جيشِ أحمدَ لا وَخْشٍ
(11)
تَنَابلةٍ
…
وليس يُوصَفُ ما أَنْذَرتُ بالقيلِ
(1)
الجرد: جمع أجرد، وهو القصير الشعر من الخيل، وقيل: الخيل العتاق. شرح غريب السيرة 2/ 117، 118، واللسان (ج ر د).
(2)
الأبابيل: الجماعات المتفرقة. اللسان (أ ب ل).
(3)
ردت الخيل تردى: رجمت الأرض بحوافرها في سيرها أو عدوها. ينظر غريب السيرة 2/ 118، واللسان (ر د ى).
(4)
التنابلة: جمع تنبال، والتنبال: القصير: اللسان (ت ن ب ل).
(5)
في الأصل، ص، ت 2، ت 3، س:"خرق". والميل: جميع أَميل، وهو الذي يميل على السرج في جانب لا يستوى عليه، وقيل: هو الذي لا سيف معه ولا رمح أو لا ترس معه. ينظر غريب السيرة 2/ 118، واللسان (م ي ل).
(6)
المعازيل: الذين لا سلاح معهم. غريب السيرة 2/ 118، اللسان (ع ز ل).
(7)
العدو: مشى سريع. غريب السيرة 2/ 118.
(8)
تغطمطت: اهتزت وارتجت، والبطحاء: السهل من الأرض. غريب السير 2/ 118.
(9)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"بالخيل"، وغير منقوطة في ص. والجيل: الصنف من الناس. ينظر غريب السيرة 2/ 118، والخيل بالفتح: اسم للأفراس والفرسان جميعًا. تاج العروس (خ ى ل). قال السهيلي في الروض الأنف 6/ 48،49: قوله: بالخيل: جعل الردف - وهو الحرف الذي يكون قبل حرف الروى - حرف لين، والأبيات كلها مُردَفة الرويّ بحرف مد ولين. وهذا هو السِّناد.
(10)
البسل: الحرام. وأراد بأهل البسل قريشًا؛ لأنهم أهل مكة، ومكة حرام. غريب السيرة 2/ 118، واللسان (ب س ل).
(11)
الوخش: رذالة الناس وأخساؤهم. اللسان (و خ ش).
قال: فثَنى ذلك أبا سفيانَ ومن معه، ومرَّ به رَكْبٌ من عبدِ القَيْسِ، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ المدينةِ. قال: ولِمَ؟ قالوا: نريدُ المِيرةَ. قال: فهل أنتم مُبلِّغون عنى محمدًا رسالةً أُرسلُكم بها إليه
(1)
، وأُحَمِّلُ لكم إبلَكم هذه غدًا زبيبًا بعُكاظَ إذا وافيتُموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئْتُموه فأخبِروه أنا قد أجْمَعنا السيرَ إليه وإلى أصحابِه؛ لنستأصلَ بقيَّتَهم، فمرَّ الرَّكْبُ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو بحمراءِ الأسَدِ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيانَ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
: "حَسْبُنا اللَّهُ ونعمَ الوكيلُ"
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: فقال اللَّهُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . والناسُ الذين قال لهم ما قالوا، النفرُ من عبدِ القيسِ، الذين قال لهم
(4)
أبو سفيانَ ما قال؛ إن أبا سفيانَ ومن معه راجعون إليكم. يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الآية
(5)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: لما ندِموا - يعنى: أبا سفيانَ وأصحابِه - على الرجوعِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه وقالوا: ارجعوا فاستأصِلوهم فقذَف اللَّهُ في قلوبِهم الرُّعْبَ فهُزِموا، فلَقُوا أَعرابيًّا، فجعَلوا له جُعْلًا، فقالوا له: إن لقيتَ محمدًا وأصحابَه فأخبرْهم أنا قد جمَعنا لهم،
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
بعده في الأصل: "وأصحابه".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 102، 103، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 315، 316 من طريق ابن إسحاق به.
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الناس".
(5)
سيرة ابن هشام 2/ 121 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 818 (4517) من طريق سلمة به.
فأخبرَ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه رسولَه صلى الله عليه وسلم، فطلَبهم حتى بلَغ حَمراءِ الأسَدِ، فلقُوا الأعرابيَّ في الطريقِ، فأخبَرهم الخبرَ، فقالوا: حَسْبُنا اللَّهُ ونعمَ الوكيلُ. ثم رجَعوا من حمراءِ الأسَدِ، فأَنْزَل اللَّهُ تعالى فيهم، وفى الأعرابيِّ الذي لقِيَهم:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: استقبل أبو سفيانَ في مُنصرَفِه من أُحدٍ عيرًا واردةً المدينةَ ببضاعةٍ لهم، وبينهم وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم جِبالٌ، فقال: إن لكم عليَّ رضاكم إن أنتم ردَدتُم على محمدًا ومن معه، إن أنتم وجَدتموه في طلَبي، وأخبرتموه أني قد جمَعت له جموعًا كثيرةً، فاستقبلَت العيرُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: يا محمدُ، إنا نخبرُك أن أبا سفيانَ قد جمَع لك جموعًا كثيرةً، وأنه مقبلٌ إلى المدينةِ، وإن شئتَ أن ترجِعَ فافعَلْ، ولم يَزِدْه ذلك ومن معه إلا يقينًا، وقالوا: حَسْبُنا اللَّهُ ونعمَ الوكيلُ. فأَنْزَل اللَّهُ تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: انطلَق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعصابةٌ من أصحابِه بعدَ ما انصرَف أبو سفيانَ وأصحابُه من أُحدٍ خلْفَهم، حتى كانوا بذي الحُلَيفةِ، فجعَل الأعرابُ والناسُ يأتون عليهم، فيقولون لهم: هذا أبو سفيانَ مائلٌ عليكم بالناسِ، فقالوا: حَسْبُنا اللَّهُ ونعمَ الوكيلُ. فأَنْزل اللَّهُ تعالى فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 102 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 103 إلى المصنف.
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
(1)
.
وقال آخرون: بل قال ذلك لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه من قال ذلك له في غزوةِ بدرٍ الصُّغرى، وذلك في مسيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من عامِ قابلٍ من وقعةِ أُحدٍ، للقاءِ عدوِّه أبى سفيانَ وأصحابِه، للموعدِ الذي كان واعَده الالتقاءَ بها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} . قال: هذا أبو سفيانَ، قال لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: موعدُكم بدرٌ حيثُ قتَلتُم أصحابَنا. فقال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم "عسى". فانطلق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لموعدِه حتى نزَل بدرًا، فوافقوا السوقَ فيها، وابتاعوا، فذلك قولُه تبارك وتعالى:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} . وهى غزوةُ بدرٍ الصُّغرى
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، وزاد فيه: وهى بدرٌ الصغرى. قال ابن جُريجٍ: لما عمَد النبيُّ صلى الله عليه وسلم لموعدِ أبي سفيانَ، فجعَلوا يلقَوْن المشركينَ، ويسألونهم عن قريشٍ، فيقولون: قد جَمعوا لكم. يكِيدونهم بذلك، يريدون أن يَرْعَبوهم، فيقولُ المؤمنون:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} الله. حتى قدِموا بدرًا، فوجَدوا أسواقَها عافيةً لم ينازِعْهم فيها أحدٌ، وقدِم رجلٌ من المشركين، فأَخْبَر أهلَ مكةَ بخيلِ محمدٍ عليه السلام، وقال
(1)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 97 من طريق سعيد به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 819 (4523) من طريق ابن أبي نجيح به.
في ذلك
(1)
:
نفَرَتْ قُلُوصى عن خيولِ محمدِ
وعَجْوةٍ منثورةٍ كالعُنْجُدِ
(2)
واتَّخَذَتْ ماءَ قُدَيدٍ
(3)
مَوْعدى
قال أبو جعفرٍ: هكذا أنشدنا القاسمُ، وهو خطأٌ، وإنما هو:
قد نفَرَتْ من رُفْقَتى محمدِ
وعَجْوةٍ من يثربٍ كالعُنْجُدِ
تَهْوِى على دينِ أبيها الأَتْلدِ
قد جعَلَتْ ماءَ قُدَيدٍ مَوْعدى
وماءَ ضَجْنانَ لها ضُحَى الغدِ
(4)
حدَّثني الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن عُيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ، قال: كانت بدرٌ متجرًا في الجاهليةِ، فخرَج ناسٌ من المسلمين يريدونه، فلقِيهم ناسٌ من المشركين، فقالوا لهم:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} . فأما الجبانُ فرجَع، وأما الشُّجاعُ فأخَذ الأُهْبةَ للقتالِ، وأهبةَ التجارةِ، وقالوا:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . فأَتَوْهم فلم يلْقَوا أحدًا، فأَنْزَل اللَّهُ عز وجل فيهم:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}
(5)
.
(1)
هو معبد بن أبي معبد الخزاعي.
(2)
العنجد: حب العنب، ويقال: هو الزبيب الأسود. اللسان (عنجد).
(3)
قديد: اسم موضع قرب مكة معجم البلدان 4/ 42.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 210، وذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 149 المصنف.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 140، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (543 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 818 (4522) من طريق سفيان بن عيينة به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن عُيينةَ، قال: أخبرني زكريا، عن الشعبيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو، قال: هي كلمةُ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم حينَ أُلقِىَ في النارِ، فقال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
(1)
.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ قولُ من قال: إن الذي قيل لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، من أن الناسَ قد جَمعوا لكم فاخشَوْهم. كان في حالِ خُروجِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وخُروجِ مَن خرَج معه في أَثرِ أبى سفيانَ ومن كان معه من مشركي قريشٍ، منصرفَهم عن أُحدٍ إلى حَمراءِ الأسَدِ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذِكرُه إنما مدَح الذين وصَفهم بقيلِهم:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . لما قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} . بعدَ الذي قد كان نالهم من القروحِ والكُلُومِ، بقولِه:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} . ولم تكنْ هذه الصفةُ إلا صفةَ من تَبِع رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، من جَرْحَى أصحابِه بأُحدٍ إلى حَمراءِ الأسَدِ. فأما
(2)
الذين خرَجوا معه إلى غزوةِ بدرٍ الصُّغرى، فإنه لم يكُنْ فيهم جريحٌ، إلا جريحٌ قد تقادَم اندمالُ جُرْحِه، وبرَأ كَلْمُه. وذلك أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنما خرَج إلى بدرٍ الخَرْجةَ الثانيةَ إليها لموعدِ أبي سفيانَ الذي كان واعَده اللقاءَ بها بعدَ سنةٍ من غزوةِ أُحدٍ [في قولِ بعضٍ، وفي قولِ آخرين: خرج إليها بعدَما مضى عشرةُ أشهرٍ من أحدٍ]
(3)
، في شعبانَ سنةَ أربعٍ من الهجرةِ. وذلك أن وقعةَ أُحدٍ كانت في النصفِ من شوَّالٍ من سنةِ ثلاثٍ، وخُروجَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لغزوةِ بدرٍ الصُّغرى إليها في شعبانَ من سنةِ أربعٍ، ولم يكنْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بينَ ذلك وقعةٌ مع المشركين كانت بينَهم فيها حربٌ جُرحِ فيها
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 140، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 353 من طريق الشعبي بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 103 إلى ابن المنذر.
(2)
بعده في م: "قول".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
أصحابُه، ولكن قد كان قُتِل في وقعةِ الرَّجِيعِ من أصحابِه جماعةٌ لم يشهَدْ أحدٌ منهم غزوةَ بدرٍ الصُّغْرَى، وكانت وقعةُ الرَّجِيعِ فيما بينَ وقعةِ أُحدٍ، وغزوةِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بدرًا الصُّغرى.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} . فانصرَف الذين استجابوا للَّهِ والرسولِ من بعدِ ما أصابَهم القرْحُ، من وجهِهم الذي توجَّهوا فيه، وهو سيرُهم في أثَرِ عدوِّهم إلى حَمراءِ الأسَدِ. {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} ، يعني: بعافيةٍ من ربِّهم، لم يَلْقَوا بها عدوًّا، {وَفَضْلٍ} ، يعنى ما
(1)
أصابوا فيها من الأرباحِ بتجارتِهم التي تَجَروا بها، والأجرِ الذي اكتسبوه، {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}. يعنى: لم ينَلْهم بها مكروةٌ من عدوِّهم ولا أذًى، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}. يعنى بذلك: أنهم أَرْضَوا اللَّهَ بفعلِهم ذلك، واتباعِهم رسولَه إلى ما دعاهم إليه، من اتباعِ أَثرِ
(2)
العدوِّ وطاعتِهم، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}. يعنى: واللَّهُ ذو إحسانٍ وطَوْلٍ عليهم، بصرفِ عدوِّهم الذي كانوا قد همُّوا بالكرَّةِ إليهم، وغيرِ ذلك من أياديه عندَهم، وعلى غيرِهم بنعَمِه، {عَظِيمٍ} عندَ من أَنْعَم به عليه من خلقِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} . قال: والفضلُ ما أصابوا من
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أمر".
التجارةِ والأجرِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: وافقوا السوقَ فابتاعوا، وذلك قولُه:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} . قال: الفضلُ ما أصابوا من التجارةِ والأجرِ. قال ابن جُريجٍ: ما أصابوا من البيعِ نعمةٌ من اللَّهِ وفضلٌ، أصابوا عفوَه وعزَّتَه، لا ينازِعُهم فيه أحدٌ. قال: وقولُه: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} . قال: قَتْلٌ. {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} . قال: طاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} . لما صرَف عنهم من لقاءِ عدوِّهم
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: أطاعوا اللَّهَ، وابتغَوا حاجتَهم، ولم يؤذِهم أحدٌ:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: أعطَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أصحابِه
(4)
- يعني: حينَ خرَج إلى غزوةِ بدرٍ الصغرى - ببدرٍ دراهمَ ابتاعوا بها من موسمِ بدرٍ، فأصابوا تجارةً، فذلك قولُ اللَّهِ عز وجل:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} . أما "النعمةُ"، فهى العافيةُ،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 819 (4526) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى ابن المنذر.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 121، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 820 (4532) من طريق آخر عن ابن إسحاق به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 819، 820 (4529، 4531) عن محمد بن سعد به.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
وأما "الفضلُ" فالتجارةُ، و "السوءُ" القتلُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: إنما الذي قال لكم، أيها المؤمنون:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فخوَّفوكم بجموعِ عدوِّكم، ومسيرِهم إليكم، من فعلِ الشيطانِ ألقاه على أفواهِ من قال ذلك لكم، يخوِّفُكم بأوليائِه من المشركين؛ أبي سفيانَ وأصحابِه من قريشٍ، لتَرْهَبوهم، وتَجْبُنوا عنهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} : يخوِّفُ واللَّهِ المؤمنَ بالكافرِ، ويُرْهِبُ المؤمنَ بالكافرِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ قولَه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . قال: يخوِّفُ المؤمنين بالكفارِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . يقولُ: الشيطانُ يخوِّفُ المؤمنين بأوليائِه
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} : أي: أولئك الرهطُ - يعنى النفرَ من عبدِ القيسِ - الذين قالوا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 819، 820 (4525، 4530) من طريق أحمد بن مفضل به، و 3/ 819 عقب الأثر (4526) من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 821 (4537) من طريق يزيد به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى المصنف، وذكره بنحوه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 820 عقب الأثر (4533) معلقًا عن العوفي عن ابن عباس.
لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما قالوا، وما أَلقى الشيطانُ على أفواهِهم، {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}. أي: يُرْهبُكُم بأوليائِه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا عليُّ بنُ مَعْبَدٍ، عن عتَّابِ بن بشيرٍ، مولى قريشٍ، عن سالمٍ الأَفْطسِ في قولِه:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . قال: يُخوِّفُكم بأوليائِه.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنما ذلكم الشيطانُ يعظِّمُ أمرَ المشركين، أيها المنافقون، في أنفسِكم لتخافونه
(2)
.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: ذكَر أمرَ المشركين وعظَّمهم في أعينِ المنافقين، فقال {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}. يقولُ: يعظِّمُ أولياءَه في صدورِكم فتخافونَهم
(3)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . وهل يخوِّفُ الشيطانُ أولياءَه؟ [وكيف]
(4)
قيل: إن كان معناه: يخوِّفُكم بأوليائِه: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ؟
قيل: ذلك نظيرُ قولِه: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 2]. بمعنى: لينذرَكم بأسَه الشديدَ، وذلك أن البأسَ لا يُنذَرُ، وإنما يُنْذَرُ به
(5)
.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ يقولُ: معنى ذلك: يخوِّفُ الناسَ
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 121 وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 821 (4540) من طريق سلمة به.
(2)
في ص، ت 1، س:"فتخافوه". وفى م، ت 2، ت 3:"فتخافونه".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 820 (4535) من طريق أحمد بن المفضل به.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 248.
أولياءَه، كقولِ القائلِ: هو يُعْطِى الدراهمَ، ويكسو الثيابَ. بمعنى: هو يُعطِى الناسَ الدراهمَ، ويكْسُوهم الثيابَ، فحذَف ذلك للاستغناءِ عنه. وليس الذي شبَّه من
(1)
ذلك بمشتَبِهٍ
(2)
، لأن الدراهمَ في قولِ القائلِ: هو يُعطى الدراهمَ. معلومٌ أن المعطَى هي الدراهمُ، وليس كذلك الأولياءُ في قولِه:{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . مخوَّفين، بل التخويفُ من الأولياءِ لغيرِهم، فلذلك افْتَرقا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} .
يعني تعالى ذكرُه: فلا تخافوا أيها المؤمنون المشركين، ولا يعظُمَنَّ عليكم أمرُهم، ولا تَرْهَبوا جمعَهم مع طاعتِكم إياى؛ ما أطعْتَموني، واتبعتم أمرى، وإني متكفِّلٌ
(3)
لكم بالنصرِ والظَّفَرِ، ولكن خافونِ، واتقوا أن تَعصُوني، وتخالفوا أَمْرِى، فتَهلِكوا، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. يقولُ: ولكن خافونى دونَ المشركين، ودونَ جميعِ خلقى أن تخالفوا أَمرِى، إن كنتم مصدِّقي رسُولي، وما جاءكم به من عندِي.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولا يَحْزُنْك يا محمدُ كفرُ الذين يسارعون في الكفرِ، مرتدِّين على أعقابِهم من أهلِ النفاقِ، فإنهم لن يضرُّوا اللَّهَ شيئًا بمسارعتِهم في الكفرِ، كما أن مسارعتَهم لو سارعوا إلى الإيمانِ لم تكنْ بنافعتِه، فكذلك مسارعتُهم إلى الكفرِ غيرُ ضارَّتِه.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ص.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمشبه".
(3)
في ص، ت 1، س:"متكلف".
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} . يعنى: إنهم
(1)
المنافقون
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} . أي: المنافقون
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: يريدُ اللَّهُ ألا يجعلَ لهؤلاء الذين يسارعون في الكفرِ نصيبًا في ثوابِ الآخرةِ، فلذلك خذَلهم فسارعوا فيه، ثم أَخْبَر أنهم مع حِرمانِهم ما حُرِموا من ثوابِ الآخرةِ، لهم عذابٌ عظيمٌ في الآخرةِ، وذلك عذابُ النارِ.
وقال ابن إسحاقَ في ذلك بما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} : أَن يُحْبِطَ أعمالَهم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه المنافقين الذين تقدَّم إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم فيهم، ألَّا يحزنَه مسارعتُهم إلى الكفرِ، فقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفرَ بإيمانِهم، فارتدُّوا عن إيمانِهم بعدَ دخولِهم فيه، ورضُوا بالكفرِ باللَّهِ وبرسولِه، عوضًا من
(1)
في م: "هم".
(2)
تفسير مجاهد ص 262. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 822 (4545) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 121.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 822 (4546)، من طريق سلمة به.
الإيمانِ، لن يضرُّوا اللَّهَ بكفرِهم، وارتدادِهم عن إيمانِهم شيئًا، بل إنما يضرُّون بذلك أنفسَهم بإيجابِهم بذلك لها من عقابِ اللَّهِ ما لا قِبلَ لها به.
وإنما حثَّ اللَّهُ عزَّ ذكرُه بهذه الآياتِ من قولِه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ الله} . إلى هذه الآيةِ - عبادَه المؤمنين على إخلاصِ اليقينِ، والانقطاعِ إليه في أمورِهم، والرضا به ناصرًا وحدَه دونَ غيرِه منِ سائرِ خلقِه، ورغَّب بذلك في جهادِ أعدائِه وأعداءِ دينِه، وشجَّع بها قلوبَهم، وأَعْلَمهم أن من ولِيه بنصرِه، فلن يُخْذَلَ، ولو اجتمع عليه جميعُ من خالَفه وحادَّه، وأن من خذَله، فلن ينصُرَه ناصِرٌ ينفَعُه نصرُه ولو كثُرت أعوانُه [ونصراؤُه]
(1)
.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} : أي المنافقين، {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي مُوجعٌ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: هم المنافقون
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ولا يظُنَّنَّ الذين كفَروا باللَّهِ ورسولِه، وما جاء به من عندِ اللَّهِ، أن إملاءَنا لهم
(3)
خيرٌ لأنفسِهم.
ويعنى بالإملاءِ: الإطالةَ في العمُرِ، والإنساءَ في الأجلِ، ومنه قوله جلَّ ثناؤُه:
(1)
في م، ت 2، ت 3، س:"أو نصراؤه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 823 (4550) من طريق ابن أبي نجيح به.
(3)
في الأصل: "إياهم".
{وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]. أي حينًا طويلًا. ومنه قيل: عِشْتَ طويلًا، وتملَّيتَ حَبِيبًا
(1)
. والملا نفسُه: الدهرُ، والملَوانِ: الليلُ والنهارُ. ومنه قولُ تميمِ بن مُقْبِل
(2)
:
ألا يا ديارَ الحَيِّ بالسَّبُعانِ
(3)
…
أملَّ عليها بالبِلَى المَلوَانِ
يعنى بالمَلَوينِ
(4)
: الليلَ والنهارَ.
وقد اخْتَلفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} ، فقرأ ذلك جماعةٌ منهم:{وَلَا يَحْسَبَنَّ} بالياءِ، وبفتحِ الألفِ من قولِه:{أَنَّمَا} ، على المعنى الذي وصَفتُ من تأويلِه
(5)
. وقرأه آخرون: (ولَا تَحْسَبنَّ) بالتاءِ، و {أَنَّمَا} ، أيضا بفتحِ الألفِ من "أَنَّما"، بمعنى: ولا تَحْسَبَنَّ يا محمدُ أنت
(6)
الذين كفَروا أنما نُمْلِى لهم خيرٌ لأنفسِهم
(7)
.
فإن قال قائلٌ: فما الذي من أجلِه فُتحِت الألفُ من قولِه: {أَنَّمَا} . في قراءةِ من قرأ: (تَحْسَبَنَّ). بالتاءِ، وقد علِمتَ أن ذلك إذا قُرِئ بالتاءِ، فقد أَعْملتَ {يَحْسَبَنَّ} في {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وإذا أعملتَها في ذلك لم يجُزْ لها أن تقعَ على "أنما"؛ لأن "أنما" إنما يعمَلُ فيها عاملٌ يعمَلُ في شيئين نصبًا؟
قيل: أما الصوابُ في العربيةِ، ووجهُ الكلامِ المعروفُ من كلامِ العربِ كَسْرُ
(1)
في الأصل، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حينًا". وفى ص: "حنينا". والمثبت هو الصواب، وتمليت حبيبا: عشتَ معه ملاوة من ذهرك وتمتعت به. اللسان (م ل ي).
(2)
ديوانه ص 335.
(3)
السبعان: موضع معروف في ديار قيس، وقيل: هو جبل قبل فلج. ينظر معجم البلدان 3/ 33.
(4)
في ص، م:"بالملوان".
(5)
هذه قراءة العشرة إلا حمزة. ينظر السبعة ص 219، والنشر 2/ 184.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
هذه قراءة حمزة، ووافقه المطوعي. ينظر المصدران السابقان، وينظر إتحاف فضلاء البشر ص 110.
"إنَّ" إذا قُرِئت (تَحْسَبنَّ) بالتاءِ؛ لأن (تَحْسَبَنَّ) إذا قُرِئت بالتاءِ، فإنها قد نصَبت {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فلا يجوزُ أن تعمَلَ، وقد نصَبتْ اسمًا، في "أن"، ولكنى أظُنُّ أن من قرَأ ذلك بالتاءِ في (تحسَبَنَّ)، وفتحِ الألفِ من {أَنَّمَا} ، إنما أراد تكريرَ (تحسبَنَّ) على {أَنَّمَا} ، كأنه قصَد إلى أن معنى الكلامِ: ولا تحسبَنَّ يا محمدُ أنت الذين كفَروا، لا تحسبَنَّ أنما نملى لهم خيرٌ لأنفسِهم، كما قال جلَّ ثناؤُه:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد: 18] بتأويلِ: هل ينظُرون إلا الساعةَ، هل ينظُرون إلا أن تأتيَهم بغتةً؟ وذلك وإن كان وجهًا جائزًا في العربيةِ، فوجهُ كلامِ العربِ ما وصَفنا قبلُ.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا قراءةُ من قرأ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . بالياءِ من {يَحْسَبَنَّ} ، وبفتحِ الألفِ من {أَنَّمَا} ، على معنى أنَّ
(1)
الحِسْبانَ للذين كفَروا دونَ غيرِهم، ثم يعمَلُ في {أَنَّمَا} نصبًا؛ لأن {يَحْسَبَنَّ} حينَئذٍ لم تشْغَلْ بشيءٍ عُمِلت فيه، وهى تطلُب منصوبين. وإنما اخْتَرنا ذلك لإجماعِ القرأةِ على فتحِ الألفِ من {أَنَّمَا} الأُولى، فدلَّ ذلك على أن القراءةَ الصحيحةَ في {يَحْسَبَنَّ} بالياءِ
(2)
لما وصَفنا. وأما ألفُ {أَنَّمَا} الثانيةِ فبالكسرِ
(3)
على الابتداءِ بإجماعٍ من القرأةِ عليه.
وتأويلُ قولِه: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} : إنما نؤخِّرُ آجالَهم فنُطِيلُها
(4)
.
{لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} ، يقولُ: يكتسِبوا المعاصىَ، فتزدادَ آثامُهم وتكثُرَ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص: "بالفاء".
(3)
في م: "فالكسر".
(4)
في ص: "فيطيلها".
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، يقولُ: ولهؤلاء الذين كفَروا باللَّهِ ورسولِه في الآخرةِ عقوبةٌ لهم مُهينةٌ مُذلَّةٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك جاء الأثرُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن خَيْثمةَ، عن الأسودِ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: ما من نفسٍ برَّةٍ ولا فاجرةٍ إلا والموتُ خيرٌ لها. وقرأ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} . وقرأ: {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}
(1)
[آل عمران: 198].
القولُ في تأويلِ قولِه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} : ما كان اللَّهُ ليدعَ المؤمنين، على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنِ منكم بالمنافقِ، فلا يُعرَفَ هذا من هذا، {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. يعنى بذلك: حتى يميزَ الخبيثَ، وهو المنافقُ المُسْتَسِرُّ للكفرِ، من الطيِّبِ، وهو المؤمنُ المخلصُ الصادقُ الإيمانِ - بالمحنِ والاختبارِ، كما ميَّز بينَهم يومَ أُحدٍ، عندَ لقاءِ العدوِّ، و
(2)
عندَ خروجِهم إليهم
(3)
.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في "الخبيث" الذي عنى اللَّهُ في هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 142 عن الثوري به، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 13/ 303 (16420)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 823 (4555)، والطبراني (8759)، والحاكم في المستدرك 2/ 298، من طريق الأعمش بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى عبد بن حميد وأبى بكر المروزي في كتاب الجنائز وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إليه".
فيه مثلَ قولِنا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو
(1)
، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ جلَّ وعز:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . قال: ميَّز بينَهم يومَ أَحدٍ؛ المنافقَ من المؤمنِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . قال ابن جريجٍ: يقولُ: ليبيِّنَ الصادقَ بإيمانِه من الكاذبِ. قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ: يوم أُحدٍ ميَّز بعضَهم عن بعضٍ؛ المنافقَ عن المؤمنِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . أي المنافِقِين
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى يميزَ المؤمنَ من الكافرِ بالهجرةِ والجهادِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . يعنى: الكفارَ. يقولُ: لم يكنِ اللَّهِ ليدعَ المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالةِ {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} : يُميِّزَ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، س:"سعد".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 824 (4564) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "المنافق"، والأثر في سيرة ابن هشام 2/ 121.
بينَهم في الجهادِ والهجرةِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . قال: حتى يميزَ الفاجرَ من المؤمنِ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . قالوا: إن كان محمدٌ صادقًا، فلْيُخْبِرْنا بمن يُؤمِنُ [به منّا]
(3)
ومن يكفُرُ. فأَنْزَل اللَّهُ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} : حتى يُخْرِجَ المؤمنَ من الكافرِ
(4)
.
والتأويلُ الأولُ أَوْلى بتأويلِ الآيةِ؛ لأن الآياتِ قبلَها في ذكرِ المنافقين، وهذه في سياقتِها، فكونُها بأن تكونَ فيهم أشبهُ منها بأن تكونَ في غيرِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم بما حدَّثنا به محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} : وما كان اللَّهُ لِيطلِعَ محمدًا على الغيبِ، ولكن اللَّهَ اجتباه، فجعله رسولًا
(5)
.
وقال آخرون بما حدَّثنا به ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ: {وَمَا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 24، 825 (4558، 4566) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 140.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"باللَّه".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 824 (4559، 4563) من طريق أحمد بن المفضل به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 825 (4568) من طريق أحمد بن المفضل بنحوه.
كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}. أي فيما يريدُ أن يبتليَكم به؛ لتحذروا ما يدخُلُ عليكم فيه، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}: بِعِلْمِه
(1)
.
وأولى الأقوال في ذلك بتأويلِه: وما كان اللَّهُ ليطلعَكم على ضمائرِ قلوبِ عبادِه، فتعرِفوا المؤمنَ منهم من المنافقِ والكافرِ، ولكنه يميِّزُ بينَهم بالمحنِ والابتلاءِ، كما ميَّز بينَهم بالبأساءِ يومَ أُحدٍ، وجهادِ عدوِّه، وما أشبَهَ ذلك من صنوفِ المحنِ، حتى تعرِفوا مؤمنَهم من كافرِهم ومنافقِهم، غيرَ أنه جل وعز يجتبى من رسلِه من يشاءُ، فيصطفيه، فيطلِعُه على بعضِ ما في ضمائرِ بعضِهم، بوحيِه ذلك إليه ورسالتِه.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} . [يجتبى: يَمتحِنُ؛ يُخْلِصُهم لنفسِه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} ]
(3)
. قال: يُخلِصُهم لنفسِه.
وإنما قلنا: هذا التأويلُ أولى بتأويلِ الآيةِ؛ [لأن ابتداءَها]
(4)
خبرٌ من اللَّهِ تعالى ذكرُه أنه غيرُ تاركٍ عبادَه - يعنى بغيرِ محَنٍ - حتى يفرَّقَ بالابتلاءِ بينَ مؤمنِهم وكافرِهم وأهلِ نفاقِهم، ثم عقَّب ذلك بقولِه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} .
(1)
في مصدري التخريج: "يعلمه". والأثر في سيرة ابن هشام 2/ 121، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 825، 826 (4569، 4573) من طريق سلمة به.
(2)
تفسير مجاهد ص 262، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 25، 826 (4570، 4572).
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
في ص: "ابتداءها". وفى م: "وابتداؤها". وفى ت 1، ت 2، س:"وابتدأها".
فكان فيما افْتَتح به من صفةِ إظهارِ اللَّهِ نفاقَ المنافقِ، وكفرَ الكافرِ، دَلالةٌ واضحةٌ على أن الذي وَلِى ذلك هو الخبرُ عن
(1)
أنه لم يكنْ ليطلْعَهم على ما يَخفَى عنهم من باطنِ سرائرِهم، إلا بالذي ذكَر أنه مميِّزٌ به بينَهم
(2)
، إلا مَن استثنَاه من رسلِه، الذي خصَّه بعلمِه جلَّ وعز.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} .
يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} : وإن تصدِّقوا من اجْتَبيتُه من رسلِى بعلمِى
(3)
، وأَطْلَعتُه على المنافقين منكم، {وَتَتَّقُوا} رَبَّكم بطاعتِه فيما أمركم به نبيُّكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وفيما نهاكم عنه، {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. يقولُ: فلكم بذلك من إيمانِكم واتقائِكم ربَّكم، ثوابٌ عظيمٌ.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} . أي ترجِعوا وتتوبوا، {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} .
اخْتَلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته جماعةٌ من أهلِ الحجازِ والعراقِ: {وَلَا
(1)
في ص، ت 1:"غير".
(2)
في ص، م، ت 2، ت 3:"نعتهم". وفى ت 1: "نفيهم" وفى س: "منهم".
(3)
في ص، س:"لعلمي".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 121، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 826 (4574) من طريق سلمة به.
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}. بالياءِ، من {يَحْسَبَنَّ}
(1)
. وقرأته جماعةٌ أخرُ: (ولا تحسبَنَّ). بالتاءِ
(2)
.
ثم اخْتَلف أهلُ العربيةِ في تأويلِ ذلك، فقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ: معنى ذلك: لا يحسبَنَّ الباخلون البخلَ هو خيرًا لهم. فاكْتَفى بذكرِ {يَبْخَلُونَ} من "البخلِ"، كما تقولُ: قدِم فلانٌ فسُرِرتُ به وأنت تريدُ: فسُرِرتُ بقدومِه. وهو عمادٌ.
وقال بعضُ نحويِّى أهلِ البصرةِ: إنما أراد بقولِه: (ولا تَحسبَنَّ
(3)
الَّذينَ يَبخَلُونَ بِما أتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ هو خَيرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ). لا تحسبَنَّ البخلَ هو خيرًا لهم. وألقَى الاسمَ الذي أَوقَع عليه الحِسْبانَ، وهو البخلُ؛ لأنه قد ذكَر الحِسْبانَ، وذكَر {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، فأَضْمرَهما إذ ذكَرهما. قال: وقد جاء من الحذفِ ما هو أشدُّ من هذا، قال:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} . ولم
(4)
يقُلْ: ومن أَنْفَق
(5)
من بعدِ الفتحِ. لأنه لما قال: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ} [الحديد: 10]. كان فيه دليل على أنه قد عناهم.
وقال بعضُ من أَنْكَر قولَ من ذكَرنا قولَه من أهلِ البصرةِ: إن "من" في قولِه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} . في معنى جمعٍ. ومعنى الكلامِ: لا يَسْتَوى منكم مَن أَنْفَق [من قبلِ الفتحِ في منازلِهم وحالاتِهم، فكيف مَن أنفق]
(6)
مِن بعدِ الفتحِ؟ فالأولُ مكتفٍ. وقال: في قولِه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
(1)
قرأ نافع والكسائي وعاصم، ومعهم ابن عامر:{وَلَا يَحْسَبَنَّ} بالياءِ وفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ولا يحسبن) بالياءِ، وكسر السين. ينظر السبعة ص 219، 220.
(2)
هذه قراءة حمزة، بالتاءِ وفتح السين. ينظر السبعة ص 220.
(3)
في ت 1، ت 2:"يحسبن".
(4)
في ص، ت 1، س:"من".
(5)
في ت 1، ت 2:"نيفن".
(6)
سقط من: ت 1، ت 2، س.
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}. محذوفٌ، غيرَ أنه لم يُحذَفْ إلا وفى الكلامِ ما قام مقامَ المحذوفِ؛ لأن {هُوَ} عائدُ البخلِ، و {خَيْرًا لَهُمْ} عائدُ الأسماءِ، فقد دلَّ هذان العائدان على أن قبلَهما اسمين، واكتفى بقولِه:{يَبْخَلُونَ} . مِن البخلِ. قال: وهذا إذا قُرِئَ بالتاءِ، فالبخلُ قبلَ {الَّذِينَ} ، وإذا قُرِئ بالياءِ، فالبخلُ بعدَ {الَّذِينَ} ، وقد اكتفى بـ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} من البخلِ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
إذا نُهِى السَّفيهُ جَرَى إليه
(2)
…
وخالَف والسفيهُ إلى خِلافِ
كأنه قال: جَرَى إلى السَّفَهِ. فاكتَفى [بالسَّفيهِ من السَّفهِ]
(3)
، كذلك اكتَفى بـ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} من البخلِ.
وأولى القراءتين بالصوابِ في ذلك عندِى قراءةُ مَن قرأ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ). بالتاءِ، بتأويلِ: ولا تحسبَنَّ أنت يا محمدُ بخلَ الذين يبخَلون بما آتاهم اللَّهُ من فضلِه هو خيرًا لهم. [ثم
(4)
ترَك ذكرَ البخلِ
(5)
؛ إذ كان في قولِه: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} ]
(6)
. دَلالةٌ على أنه مرادٌ في الكلامِ، إذ كان قد تقدَّمَه قولُه:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وإنما قلنا: قراءةُ ذلك بالتاءِ أولى بالصوابِ من قراءتِه بالياءِ؛ لأن المَحْسَبةَ من
(1)
البيت في معاني القرآن للفراء 1/ 104، 249، ومجالس ثعلب 1/ 75، والخزانة 4/ 364، غيرَ منسوب.
(2)
في س: "إليها".
(3)
في ص، ت 1، س:"بالسفيه بالسفه"، وفى م:"عن السفه بالسفيه".
(4)
في ص: "من".
(5)
سقط من: ص، ت 1.
(6)
سقط من: ت 1، ت 2، س.
شأنِها طلبُ اسمٍ وخبرٍ، فإذا قُرِئ قولُه:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} ، بالياءِ، لم يكنْ للمحسبةِ اسمٌ يكونُ قولُه:{هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} . خبرًا عنه. وإذا قُرِئ ذلك بالتاءِ كان قولُه: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} . اسمًا له، قد أدَّى عن معنى البخلِ الذي هو اسمُ المحسبةِ المتروكُ، وكان قولُه:{هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} . خبرًا لها، فكان جاريًا مَجْرَى المعروفِ من كلامِ العربِ الفصيحِ؛ فلذلك اخترنا القراءةَ بالتاءِ في ذلك على ما قد بيَّنا، وإن كانت القراءةُ بالياءِ غيرَ خطأً، ولكنه ليس بالأفصَحِ ولا الأشهرِ من كلامِ العربِ
(1)
.
وأمَّا تأويلُ الآيةِ الذي
(2)
هو تأويلُها على ما اخترنا من القراءةِ في ذلك: ولا تَحْسَبنَّ يا محمدُ بخلَ الذين يبخَلون بما أعطاهم اللَّهُ من فضلِه في الدنيا من الأموالِ، فلا يُخرِجون منه حقَّ اللَّهِ الذي فرَضه عليهم فيه من الزكواتِ، هو خيرًا لهم عندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ، بل هو شرٌّ لهم عندَه في الآخرةِ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ
(3)
، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:(ولَا تَحْسَبنَّ الَّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ): [أما الذين يبخلون بما]
(4)
آتاهم اللَّهُ من فضلِه، فبخِلوا أن يُنفقوها في سبيلِ اللَّهِ، ولم يُؤدُّوا زكاتَها
(5)
.
(1)
الوجه في القراءة أنها سنة متبعة، فلا وجه لتفضيل قراءة على أخرى، ولم يكن القراء يراعون لا فُشُوَّ استعمال ولا اطراد قياس. وينظر تعليقنا المتقدم 2/ 213، 214.
(2)
في ص، ت 1:"التي".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"الحسن".
(4)
في م، ت 1، ت 2، س:"هم الذين". والمثبت موافق لما في مصدر التخريج.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 826 (4577) من طريق أحمد بن المفضل به.
وقال آخرون: بل عنى بذلك اليهودَ الذين بخِلوا أن يُبيِّنوا للناسِ ما أَنْزَل اللَّهُ إليهم في التوراةِ من أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونعتِه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:(ولَا تَحْسَبنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، إلى:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . [يعنى بذلك]
(1)
أهلَ الكتابِ أنهم بخِلوا بالكتابِ أن يُبيِّنوه
(2)
للناسِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:(ولا تَحْسَبنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). قال: هم يهودُ، إلى قولِه: {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
(4)
}.
وأولى التأويلين بتأويلِ هذه الآية التأويلُ الأولُ، وهو أنه مَعنيٌّ بالبخل في هذا الموضعِ منعُ
(5)
الزكاةِ؛ لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللَّهِ أنه تأوَّل قولَه: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: البخيلُ الذي منَع حقَّ اللَّهِ منه، أنه يصيرُ ثعبانًا في عنقِه. ولقولِ
(6)
اللَّهِ عز وجل عَقِيبَ هذه الآيةِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ، فوصَف جلَّ ثناؤُه قولَ المشركين
(1)
في ص، ت 1، ت 2، س:"بمعنى وذلك".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، س:"يعينوه".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم 3/ 826 (4575) بهذا الإسناد.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، س:"المبين". وهى بعضُ الآية 184. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 105 إلى المصنف.
(5)
في ت 1: "معنى".
(6)
في ت 2: "كقول"، وفى س:"بقول".
من اليهودِ الذين زعَموا عندَ أمرِ اللَّهِ إياهم بالزكاةِ، أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه فقيرٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {سَيُطَوَّقُونَ} . سيجعَلُ اللَّهُ ما بخِل به المانعون الزكاةَ طَوْقًا في أعناقِهم، كهيئةِ الأطواقِ المعروفةِ.
كالذي حدَّثني الحسنُ بنُ قَزَعةَ
(1)
، قال: ثنا مسلمةُ بنُ علقمةَ، قال: ثنا داودُ، عن أبي قَزَعةَ
(1)
، عن أبي مالكٍ العبديِّ، قال: ما من عبدٍ يأتيه ذو رَحِم له يسألُه من فضلٍ عندَه، فيبخَلُ عليه، إلا أُخْرِج له الذي بخِل به عليه شجاعًا أقرعَ
(2)
. قال: وقرأ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . إلى آخرِ الآيةِ
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن أبي قَزَعةَ، [عن رجلٍ]
(4)
، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِن ذِي رَحِمٍ يأتى ذا رَحِمِه، فيسألُهُ مِن فَضْلٍ جعَله اللَّهُ عندَه، فيبخَلُ به عليه، إلا أُخرِجَ له من جهنَّمَ شجاعٌ يتلمَّظُ
(5)
، حتى يُطَوِّقَه"
(6)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو معاويةَ محمدُ بنُ خازمٍ الضريرُ، قال: ثنا داودُ، عن [أبي قَزَعةَ، عن حُجَيْرِ بن بَيانٍ]
(7)
، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما مِن ذِى رَحِمٍ
(1)
في ت 1، ت 2:"قرعة".
(2)
بعده في الأصل: "من النار".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 152.
(4)
سقط من: س. وبعده في: ت 1: "عن رجل عنه".
(5)
لمظ الرجل يلمظ وتلمَّظ: إذا تتبع بلسانه بقية الطعام بعد الأكل، أو مسح به شفته. ومن المجاز تلمظت الحية: أخرجت لسانها. الأساس (ل م ظ).
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 152.
(7)
في الأصل، ص، م، ت 1، ت 2:"أبى قزعة حجر بن بيان". وفي س: "ابن أبي قزعة حجر =
يأتى ذا رَحِمِه، فيسألُه من فَضْلٍ أعطاه اللَّهُ إياه، فيبخَلُ به عليه، إلا أُخرِج له يومَ القيامةِ شجاعٌ من النارِ يتلمَّظُ، حتى يُطَوِّقَه". ثم قرأ:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، حتى انتهى إلى قولِه:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(1)
.
حدَّثني زيادُ بنُ عبيدِ اللَّهِ المرِّيُّ
(2)
، قال: ثنا مروانُ بنُ معاويةَ، وحدَّثني [عبدُ اللَّهِ]
(3)
بنُ عبدِ
(4)
اللَّهِ الكلابيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ بكرٍ
(5)
السَّهْميُّ، وحدَّثني يعقوبُ ابن إبراهيمَ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ بنُ واصلٍ أبو عبيدةَ الحدَّادُ - واللفظُ ليعقوبَ - جميعًا، عن بَهْزِ بن حكيمِ بن معاويةَ بن حَيْدةَ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: سمِعتُ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا يأتى رجلٌ، مولاه، فيسألُه من فضلِ مالٍ عندَه فيمنَعُه إيَّاه، "إلا دعا له يومَ القيامةِ شجاعًا يتلمَّظُ فضْلَه الذي منَع"
(6)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: ثعبانٌ ينقُرُ رأسَ أحدِهم، يقولُ: أنا مالُك الذي بخِلتَ به
(7)
.
= بن بيان". وأبو قزعة هو سويد بن حجير بن بيان، يروى عن أبيه حجير. ينظر تهذيب الكمال 12/ 244، 245.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده (593)، وهناد في الزهد (1017) عن أبي معاوية به.
(2)
في الأصل: "المزني".
(3)
في م: "محمد بن عبد الله الكلابي". ولم نجد له ترجمة.
(4)
في الأصل: "عبيد".
(5)
في ت 1: "بكير"، وفى س:"أبى بكر".
(6)
أخرجه البيهقى في الشعب (3390) من طريق عبد الله بن بكر السهمى به، وأخرجه أحمد 5/ 2، 3، 5 (ميمنية)، وأبو داود (5139)، والنسائي (2565) من طريق بهز بن حكيم به، وأخرجه أحمد 5/ 3 (ميمنية)، والبيهقي في الشعب (3391) من طريق حكيم بن معاوية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 105 إلى عبد بن حميد والترمذي.
(7)
تفسير سفيان ص 82، ومن طريقه الحاكم 2/ 299، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 827 (4579) من طريق ابن مهدى به، وأخرجه الطبراني (9124) من طريق الفريابي عن سفيان به.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، قال: سمِعتُ أبا وائلٍ يحدِّثُ أنه سمِع عبدَ اللَّهَ قال في هذه الآيةِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: شجاعٌ يلتَوى برأسِ أحدِهم
(1)
.
حدَّثني ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن شعبةَ، [وحدَّثنا]
(2)
خلَّادُ بنُ أَسْلمَ، قال: أخبرنا النضرُ بنُ شُميلٍ، قال: أخبرنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللَّهِ بمثلِه
(3)
، إلا أنهما قالا: قال: شجاعٌ أسودُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي وائلٍ، عن ابن مسعودٍ، قال: يجيءُ مالُه يومَ القيامةِ ثعبانًا، فينقُرُ رأسَه فيقولُ: أنا مالُك الذي بخِلتَ به. فينطوى على عُنُقِه
(3)
.
حُدِّثتُ عن سفيانَ بن عيينةَ، قال: ثنا [جامعُ بنُ أبي راشِدٍ]
(4)
وعبدُ الملكِ بنُ أَعْينَ، عن أبي وائلٍ، عن ابن مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما من أحدٍ لا يؤدِّى زكاةَ مالِه، إلا مُثِّل له شجاعٌ أقرعُ يُطوِّقُه". ثم قرأ علينا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} الآية
(5)
:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 827 (4580) من طريق شعبة به.
(2)
في م: "قال: ثنا".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 141، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (549 - تفسير)، وابن زنجويه في الأموال (1357)، وابن أبي حاتم 3/ 827 (4581)، والطبراني (9122، 9123)، والحاكم 2/ 298، 299، وابن عبد البر في التمهيد 17/ 150، 151 من طريق أبي إسحاق به، وأخرجه الطبراني (9125) من طريق أبي وائلٍ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 105 إلى عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر.
(4)
في النسخ: "جامع بن شداد". والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 4/ 485.
(5)
أخرجه الشافعي (610)، والحميدي (93)، وأحمد 6/ 48، 49 (3577)، وابن زنجويه في الأموال (1358)، وابن ماجه (1784)، والترمذي (3012)، والنسائي (2440)، وابن خزيمة (2256)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 827 (4578)، والبيهقي 4/ 81، وابن عبد البر في التمهيد 17/ 150 من طريق ابن عيينة به.
[حدَّثنا ابن المثنى، قال: حدَّثني عبدُ الصمدِ، قال: حدَّثنا شعبةُ، عن المغيرةِ، عن الشعبيِّ في قولِه: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قال: شجاعٌ يلتوى]
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثني أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ: أَمَّا {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . فإنه يُجعَلُ مالُه يومَ القيامةِ شجاعًا أقرعَ يُطوِّقُه، فيأخُذُ بعنقِه، فيتبعُه حتى يقذِفَه في النارِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا خلفُ بنُ خليفةَ، عن أبي هاشمٍ، عن أبي وائلٍ، قال: هو الرجلُ الذي يرزُقُه اللَّهُ مالًا، فيمنَعُ قرابتَه الحقَّ الذي جعَل اللَّهُ لهم في مالِه، فيُجْعَلُ حيَّةً، فيُطوَّقُها، فيقولُ: مالى ولك؟! فيقولُ: أنا مالُك
(2)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو غسانَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن حكيمِ بن جُبيرٍ، عن سالمِ بن أبي الجعدِ، عن مسروقٍ، قال: سألتُ ابنَ مسعودٍ عن قولِه: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: يطوَّقون شجاعًا أقرعَ ينهَشُ رأسَه
(3)
.
وقال آخرون: معنى
(4)
ذلك: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : فيُجعَلُ في أعناقِهم طَوْقًا من نارٍ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (550 - تفسير)، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 213 من طريق خلف عن أبي هاشم عن أبي وائلٍ عن مسروق، وعزاه السيوطي إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن مسروق.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 827 (4582)، والطبراني (9126) من طريق إسرائيل بنحوه.
(4)
في ص، ت 1:"بمعنى".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: طَوْقًا من نارٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ أنه قال في هذه الآيةِ:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: طَوْقًا من نارٍ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ في قولِه:{سَيُطَوَّقُونَ} . قال: طَوْقًا من نارٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: طَوْقًا من نارٍ
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: سيُحمَّلُ الذين كتَموا نبوَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من أحبارِ اليهودِ، ما كتَموا من ذلك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : [يقولُ: سيُحمَّلون يومَ القيامةِ ما بخلوا به]
(4)
ألم تسمَعْ أنه قال: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
(1)
تفسير سفيان ص 82، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 828 (4584).
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 141.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (551 - تفسير)، وابن أبي شيبة 3/ 213 عن جرير به.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
بِالْبُخْلِ} [النساء: 37]. يعنى: أهلَ الكتابِ، يقولُ: يكتُمون ويأمُرون الناسَ بالكتمانِ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: سيُكلَّفون أن يأتوا يومَ القيامةِ بما بخِلوا به في الدنيا من أموالِهم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: سيكلَّفون أن يأتوا بما بخِلوا به، إلى قولِه:{وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{سَيُطَوَّقُونَ} : سيكلَّفون أن يأتوا بمثلِ ما بخِلوا به من أموالِهم يومَ القيامةِ.
وأولى الأقوالِ بتأويلِ هذه الآيةِ التأويلُ الذي قلناه في ذلك في مبدأَ قولِه: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} ؛ للأخبارِ
(3)
التي ذكَرنا في ذلك عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا أحد أعلَمُ بما عنى اللَّهُ تبارك وتعالى بتنزيِله منه عليه السلام.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)} .
(1)
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 826 (4575) عن محمد بن سعد به بنحوه.
(2)
تفسير مجاهد ص 262. وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 827 عقب الأثر (4583) معلقًا.
(3)
في ص، ت 1، س:"الأخبار".
يعني تعالى ذكرُه بذلك: أنه الحيُّ الذي لا يموتُ، والباقي بعدَ فناءِ جميع خَلْقِه.
فإن قال قائلٌ: فما معنى قولِه: {[وَلِلَّهِ]
(1)
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. والميراثُ المعروفُ: هو ما انتقَل من ملكِ مالكٍ إلى وارثِه بموتِه، وللَّهِ الدنيا قبلَ فناءِ خلقِه وبعدَه؟
قيل: إن معنى ذلك ما وصَفنا من وصفِه نفسَه بالبقاءِ، وإعلامِ خلقِه أنه كتَب عليهم الفناءَ. وذلك أن مُلكَ المالكِ إنما يصيرُ ميراثًا بعدَ وفاتِه، فإنما قال جلَّ ثناؤُه:{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . إعلامًا منه بذلك عبادَه، أن أملاكَ جميعِ خلقِه منتقلةٌ. عنهم بموتِهم، وأنه لا أحدَ إلا وهو فانٍ سواه، فإنه الذي إذا هلَك جميعُ خلقِه، فزالت أملاكُهم عنهم، لم يبقَ أحدٌ يكونُ له ما كانوا يملِكونَه غيرُه.
وإنما معنى الآيةِ: ولا تحسبنَّ الذين يبخلون بما آتاهم اللَّهُ من فضلِه هو خيرًا لهم، بل هو شرٌّ لهم، سيُطوَّقون ما بخِلوا به يومَ القيامةِ، بعدَ ما يهلِكون، وتزولُ عنهم أملاكُهم، في الحينِ الذي لا يملِكون شيئًا، وصار للَّهِ ميراثُه، وميراثُ غيرِه من خلقِه. ثم أَخْبَر تعالى ذكرُه أنه بما يعمَلُ هؤلاء الذين يبخَلون بما آتاهم اللَّهُ من فَضلِه
(2)
، وغيرُهم من سائرِ خلقِه، ذو خبرةٍ وعلمٍ، محيطٌ بذلك كلِّه، حتى يجازِيَ كلًّا منهم على قدرِ استحقاقِه؛ المحسنَ بالإحسانِ، والمسيءَ على ما يرَى تعالى ذكرُه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} .
ذُكِر أن هذه الآيةَ وآياتٍ بعدَها نزَلت في بعضِ اليهودِ الذين كانوا على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"له".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فضل".
ذكرُ الأخبارِ
(1)
بذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ، أنه حدَّثه عن ابن عباسٍ، قال: دخَل أبو بكرٍ الصدِّيقُ رحمه الله بيتَ المِدْراسِ
(2)
، فوجَد ناسًا من يهودَ كثيرًا قد اجتمَعوا إلى رجلٍ منهم يقالُ له: فِنْحاصُ. وكان من علمائِهم وأحبارِهم، ومعه حَبْرٌ يقالُ له: أشيعُ. فقال أبو بكرٍ لفنحاصَ: ويحَك يا فنحاصُ، اتَّقِ اللَّهَ وأسلمْ، فواللَّهِ إنك لتعلَمُ أن محمدًا رسولُ اللَّهِ، قد جاءكم بالحقِّ من عندِ اللَّهِ، تجدونَه مكتوبًا عندَكم في التوراةِ والإنجيلِ. قال فنحاصُ: واللَّهِ يا أبا بكرٍ، ما بنا إلى اللَّهِ من فقرٍ، وإنه إلينا لفقيرٌ، وما نتضرَّعُ إليه كما يتضرَّعُ إلينا، وإنا عنه لأغنياءُ، ولو كان عنا غنيًّا [ما [اسْتَقرضَنا أموالَنا]
(3)
كما يزعُمُ صاحبُكم، ينهاكم عن الرِّبا ويُعطِيناه، ولو كان غنيًّا عنا]
(4)
ما أعطانا الرِّبا. فغضِب أبو بكرٍ، فضرَب وجهَ فِنْحاصَ ضربةً شديدةً، وقال: والذي نفسي بيدِه، لولا العهدُ الذي بينَنا وبينَك لضرَبتُ عُنُقَك يا عدوَّ اللَّهِ، فأَكْذِبونا ما استطعتُم إن كنتم صادقين. فذهَب فنحاصُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، انظُرْ ما صنَع بي صاحبُك. فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ:"ما حمَلك على ما صنعتَ"؟ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إن عدوَّ اللَّهِ قال قولًا عظيمًا؛ زعَم أن اللَّهَ فقيرٌ، وأنهم عنه أغنياءُ، فلما قال ذلك غضِبتُ للَّهِ مما قال، فضرَبتُ وجهَه. فجحَد ذلك فنحاصُ، وقال: ما قلتُ ذلك؟ فأَنْزَل اللَّهُ جلَّ ثناؤُه فيما قال فنحاصُ، ردًّا عليه، وتصديقًا لأبي بكرٍ: {لَقَدْ سَمِعَ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الآثار".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3، س، وتفسير ابن أبي حاتم:"المدارس". ومدارس اليهود: البيت الذي يدرسون فيه. ينظر اللسان (د ر س).
(3)
في م: "استقرض منا".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. إلى قولِه: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . و
(1)
قولِ أبي بكرٍ وما بلَغه في ذلك من الغضبِ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن محمدِ بن أبى محمدٍ مولى آلِ زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ مولى ابن عباسٍ، قال: دخَل أبو بكرٍ. فذكَر نحوَه، غيرَ أنه قال: وإنا عنه لأغنياءُ، وما هو عنا بغنيٍّ، ولو كان غنيًّا. ثم ذكَر سائرَ الحديثِ نحوَه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} : قالها فِنْحاصُ اليهوديُّ من بنى مَرْثَدٍ، لقِيَه أبو بكرٍ فكلَّمه، فقال له: يا فنحاصُ، اتَّقِ اللَّهَ وآمِنْ وصَدِّقْ، وأقرضِ اللَّهَ قرضًا حسنًا. فقال فنحاصُ: يا أبا بكرٍ، تزعُمُ أن ربَّنا فقيرٌ، يستَقْرِضُنا أموالَنا؟ وما يستقرِضُ إلا الفقيرُ مِن الغنيِّ، إن كان ما تقولُ حقًّا، فإن اللَّهَ إذن لفقيرٌ. فأَنْزَل اللَّهُ تبارك وتعالى هذا، فقال أبو بكرٍ: فلولا هُدْنةٌ كانت بينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبينَ بنى مَرْثدِ لقتلتُه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: صكَّ أبو بكرٍ رجلًا منهم، الذين قالوا: إن اللَّهَ فقيرٌ ونحن
(1)
في م: "وفي".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 828، 829 (4589)، والطحاوي في مشكل الآثار (1830) من طريق يونس بن بكير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 105، 106 إلى ابن المنذر. وذكره الواحدي في أسباب النزول، ص 98 عن عكرمة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 106 إلى ابن المنذر.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 558، 559.
(4)
ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 98، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 106 إلى المصنف.
أغنياءُ، لم يستقرِضُنا وهو غنيٌّ؟ وهم يهودُ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، قال: الذين قالوا: إن اللَّهَ فقيرٌ ونحن أغنياءُ، لِمَ يستقرِضُنا وهو غنيٌّ؟ قال شِبلٌ: بلَغني أنه فِنْحاصُ اليهوديُّ، وهو الذي قال: إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ، ويدُ اللَّهِ مغلولةٌ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال:[حدَّثنا أبو حمزةَ]
(3)
، عن عطاءٍ، عن الحسنِ، قال: لما نزَلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]. قالت اليهودُ: إن ربَّكم يَسْتَقْرِضُ منكم. فأنزَل اللَّهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن الحسنِ البصريِّ، قال: لما نزَلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . قال: عجِبت اليهودُ فقالت: إن اللَّهَ فقيرٌ يستقرِضُ. فنزَلت: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} : ذُكِر لنا أنها نزَلت في حُيَيِّ بن أَخْطبَ لما أَنْزل اللَّهُ تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} . قال: يستقرِضُنا ربُّنا؟ إنما يستقرِضُ الفقيرُ الغنيَّ
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 263. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 106 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 98، 99 من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حدثت"، وينظر تهذيب الكمال 26/ 544.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 106 إلى المصنف، وينظر البحر المحيط 3/ 130.
قتادةَ، قال: لما أنزل اللَّهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . قالت اليهودُ: إنما يستقرِضُ الفقيرُ من الغنيِّ. فأَنْزل اللَّهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمِعت ابنَ زيدٍ يقولُ في قولِه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} . قال: هؤلاء يهودُ.
فتأويلُ الآيةِ إذنْ: لقد سمِع اللَّهُ قولَ الذين قالوا من اليهودِ: إن اللَّهَ فقيرٌ إلينا ونحن أغنياءُ عنه. سنكتُبُ ما قالوا من الإفكِ والفِرْيةِ على ربِّهم، وقتلَهم أنبياءَهم بغيرِ حقٍّ.
واختلفتِ القرأَةُ في قراءةِ قولهِ: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ؛ فقرأ ذلك قرأَةُ الحجازِ وعامةُ قرأةِ العراقِ: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} بالنون {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} . بنصبِ القتلِ
(2)
.
وقرأ ذلك بعضُ قرأةِ الكوفيين: (سَيُكْتَبُ ما قالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبياءَ). بالياءِ من (سَيُكْتَبُ)، وبضمِّها، ورفعِ "القتل"
(3)
، على مذهبِ ما لم يُسمَّ فاعلُه، اعتبارًا بقراءةٍ يُذكَرُ أنها من قراءةِ عبدِ اللَّهِ في قولِه:{وَنَقُولُ ذُوقُوا} . يُذكَرُ أنها في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (ويُقالُ)
(4)
.
فأَغْفَل قارئُ ذلك وجهَ الصوابِ فيما قصَد إليه من تأويلِ القراءةِ التي تُنْسَبُ إلى عبدِ اللَّهِ، وخالف الحجةَ من قرأَةِ الإسلامِ، وذلك أن الذي ينبغِي لمن قرَأ:
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 141.
(2)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 221.
(3)
وهى قراءة حمزة وحده. المصدر السابق.
(4)
ينظر المصاحف لابن أبي داود ص 60.
(سيُكْتَبُ ما قالوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِياءَ). على وجهِ ما لم يُسمَّ فاعلُه، أن يقرَأَ:(ويُقالُ)؛ لأن قولَه: {وَنَقُولُ
(1)
}. عطفٌ على قولِه: {سَنَكْتُبُ
(2)
}. فالصوابُ من القراءةِ أن يُوفَّقَ بينهما في المعنى، بأن [يُقرَأَ جميعُهما]
(3)
على مذهبِ ما [قد سُمَّىَ]
(4)
فاعلُه، أو على مذهبِ ما [لم يسمَّ]
(5)
فاعلُه، فأما أن يُقرَأَ أَحدُهما على مذهبِ ما لم يُسمَّ فاعلُه، والآخرُ على وجهِ ما قد سُمِّى فاعلُه من غيرِ معنًى ألجأه إلى
(6)
ذلك، فاختيارٌ خارجٌ عن الفصيحِ من كلامِ العربِ.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا: {سَنَكْتُبُ} . بالنونِ: {وَقَتْلَهُمُ} . بالنصبِ؛ لقولِه: {وَنَقُولُ} . ولو كانت القراءةُ في: {سَنَكْتُبُ} . بالياءِ وضمِّها، لقيل:(ويقالُ) على ما قد بيَّنا.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} . وقد ذكَرتَ في الآثارِ التي رَوَيتَ أن الذين عُنُوا بقولِه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} . بعضُ اليهودِ الذين كانوا على عهدِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولم يكنْ من أولئك أحدٌ قتَل نبيًّا من الأنبياءِ؛ لأنهم لم يُدرِكوا نبيًّا من أنبياءِ اللَّهِ فيقتُلوه؟
قيل: إن معنى ذلك على غيرِ الوجهِ الذي ذهبتَ إليه، وإنما قيل ذلك كذلك؛ لأن الذين عنى اللَّهُ جل وعز بهذه الآيةِ كانوا راضين بما فعَل أوائِلُهم من قَتْلِ من قتَلوا من الأنبياءِ، وكانوا منهم، وعلى منهاجِهم، من استحلالِ ذلك واستجازَتِه،
(1)
في الأصل "يقول".
(2)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سيكتب".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يقرأا جميعا".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لم يسم".
(5)
في م، ت 1، ت 2:"يسمى".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2 ت 3، س:"علي".
فأضاف جلَّ وعزَّ فِعْلَ ما فعَله مَن كانوا على منهاجِه وطريقتِه إلى جميعِهم، إذ كانوا أهلَ ملةٍ واحدةٍ، ونِحْلةٍ واحدةٍ، وبالرِّضا من جميعِهم فَعَلَ مَا فَعَلَ فاعِلُ ذلك منهم، على ما قد بيَّنا من نظائرِه فيما مضَى قبلُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: ونقولُ للقائلين: إنَّ اللَّهَ فقيرٌ ونحن أغنياءُ. القاتلين أنبياءَ اللَّهِ بغيرِ حقٍّ - يومَ القيامةِ: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . يعنى بذلك: عذابَ نارٍ محرقةٍ ملتهبةٍ. والنارُ اسمٌ جامعٌ للملتهبةِ منها وغيرِ الملتهبةِ، وإنما الحريقُ صفةٌ لها، يرادُ بها أنها مُحرِقَةٌ، كما قيل:{عَذَابٌ أَلِيمٌ} . بمعنى: مُؤلمٌ. و: وجيعٌ. بمعنى: مُوجِعٌ.
وأما قولُه: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} . يعنى أن قولَنا لهم يومَ القيامةِ: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . بما أَسْلَفت أيديكم، واكتسبتها في أيامِ حياتِكم في الدنيا
(2)
، وبأن اللَّهَ جلَّ ثناؤه عَدْلٌ لا يجورُ فيُعاقِبَ عبدًا له بغيرِ استحقاقٍ منه العقوبةَ، ولكنه يجازِى كلَّ نفسٍ بما كسَبت، ويُوفِّي كلَّ عاملٍ جزاءَ ما عمِل فجازى الذين قال لهم يومَ القيامةِ، من اليهودِ الذين وصَف صفتَهم، فأَخْبَر عنهم أنهم قالوا: إن اللَّهَ فقيرٌ ونحن أغنياءُ. وقتَلوا بغيرِ حقٍّ الأنبياءَ صلواتُ اللَّهِ عليهم - بما جازاهم به من عذابِ الحريقِ، بما اكتسبوا من الآثامِ، واجترحوا من السيئاتِ، وكذَبوا على اللَّهِ، بعدَ الإعذارِ إليهم والإنذارِ. فلم يكنْ عزَّ ذِكْرُه بما عاقَبهم به من إذاقتِهم عذابَ الحريقِ، ظالمًا، ولا واضعًا عقوبتَه في غيرَ أهلِها، وكذلك هو جلَّ ثناؤُه غيرُ ظلَّامٍ أحدًا من خلقِه، ولكنه العادلُ بينَهم، والمتفضِّلُ على جميعِهم، بما
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 642، 643، 2/ 56، 57.
(2)
بعده في ص، ت 1:"والآخرة".
أحبَّ من فواضلِه ونعَمِه.
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: لقد سمِع اللَّهُ قولَ الذين قالوا: إن اللَّهَ [فقيرٌ. الذين قالوا: إن الله]
(1)
عهِد إلينا ألا نؤمنَ لرسولٍ.
وقولُه: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ} . في موضعِ خفضٍ ردًّا على قولِه: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} .
ويعنى بقولِه: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} : أوصانا وتقدَّم إلينا في كتبِه، وعلى ألسنِ أنبيائِه {أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ}. يقولُ: ألا نصدِّقَ رسولًا فيما يقولُ أنه جاء به من عندِ اللَّهِ، من أمرٍ ونَهْيٍ وغيرِ ذلك، {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}. يقولُ: حتى يجيئَنا بقربانٍ. وهو ما تقرَّب به العبدُ إلى ربِّه من صدقةٍ، وهو مصدرٌ مثلُ العُدْوانِ والخُسْرانِ، من قولِك: قرَّبتُ قُرْبانًا. وإنما قال: {تَأْكُلُهُ النَّارُ} ؛ لأن أكلَ النارِ ما قرَّبه أحدُهم للَّهِ في ذلك الزمانِ كان دليلًا على قبولِ اللَّهِ منه ما قرَّب له، ودَلالةً على صِدقِ المقرِّبِ فيما ادَّعى أنه مُحِقٌّ فيما نازع أو قال.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} : كان الرجلُ يتصدَّقُ، فإذا تُقُبِّل منه أُنْزِلت عليه نارٌ من السماءِ فأكلَتْه
(2)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 831 (4598) عن محمد بن سعد به.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعت الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} : كان الرجلُ إذا تصدَّق بصدقةٍ فتُقُبِّلت منه، بعَث اللَّهُ نارًا، فنزَلت على القربانِ فأكلَتْه
(1)
.
فقال اللَّهُ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: [قُلْ للقائلين هذا القولَ، يا محمدُ: قد جاءكم يا معشرَ مَن يزعمُ أنّ الله عهِد إليه]
(2)
ألا يؤمنَ لرسولٍ حتى يأتيَه بقربانٍ تأكلُه النارُ - رسلٌ من اللهِ من قَبلى، {بِالْبَيِّنَاتِ}. يعنى: بالحججِ الدالةِ على صدقِ نبوَّتِهم، وحقيقةِ قولِهم، {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ}. يعنى: وبالذى ادَّعيتم أنه إذا جاء به لزِمكم تصديقُه والإقرارُ بنبوَّتِه، مِن أكلِ النارِ قربانَه إذ قرَّب للَّهِ دَلالةً على صدقِه، {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يقولُ له: قل لهم: قد جاءكم الرسلُ الذين كانوا من قبلى بالذي زعَمتم أنه حُجَّةٌ لهم عليكم، فقتَلتموهم، فلِمَ قَتلتموهم وأنتم مقرُّون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجَّةً لهم عليكم، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أن اللَّهَ عهِد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسلِه بقربانٍ تأكلُه النارُ حجَّةً له على نبوَّتِه؟
وإنما أَعْلَم اللَّهُ عبادَه بهذه الآيةِ أن الذين وصَف صفتَهم، من اليهودِ الذين كانوا على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لن يَعْدُوا
(3)
أن يكونوا - في كذبِهم على اللَّهِ، وافترائِهم على ربِّهم، وتكذيبِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلَمونه صادقًا محقًّا، وجحودِهم نبوَّتَه، وهم يجِدونَه مكتوبًا عندَهم في عهدِ اللَّهِ تعالى إليهم، أنه
(1)
التبيان 3/ 68.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، وكتب مقابلها في حاشية ص:"ط ط، كذا"، دلالة على وجود خطأ.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يقروا"، وفى م، س:"يفروا".
رسولُه إلى خلقِه، مفروضةٌ طاعتُه - إلا كمن مضَى من أسلافِهم الذين كانوا يقتُلون أنبياءَ اللَّهِ، بعدَ قطعِ اللَّهِ عذرَهم بالحججِ التي أيَّدهم بها، والأدلةِ التي أبان صدقَهم بها، افتراءً على اللَّهِ، واستخفافًا بحقوقِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)} .
وهذا تعزيةٌ من اللَّهِ جلَّ ثناؤُه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على الأَذَى الذي كان ينالُه من اليهودِ وأهلِ الشركِ باللَّهِ، من سائرِ أهلِ المللِ، يقولُ اللَّهُ تعالى له: لا يحزُنْك يا محمدُ كَذِبُ هؤلاء الذين قالوا: إن اللَّهَ فقيرٌ. وقالوا: إن اللَّهَ عهِد إلينا ألا نؤمنَ لرسولٍ حتى يأتينَا بقُرْبانٍ تأكُلُه النارُ. وافتراؤُهم على ربِّهم؛ اغترارًا بإمهالِ اللَّهِ إيَّاهم، ولا يعظُمَنَّ عليك تكذيبُهم إيَّاك، وادعاؤُهم الأباطيلَ، من عهودِ اللَّهِ إليهم، فإنهم إن فعَلوا ذلك بك فكذَّبوك، وكذَبوا على اللَّهِ، فقد كَذَّب أسلافُهم من رسلِ اللَّهِ قبلَك مَن جاءهم بالحججِ القاطعةِ العذرَ، والأدلةِ الباهرةِ العقلَ، والآياتِ المعجزةِ الخلقَ، وذلك هو البيِّناتُ.
وأما "الزُّبُرُ" فإنه جمعُ زَبورٍ، وهو الكتابُ، وكلُّ كتابٍ فهو زَبورٌ، ومنه قولُ امرئ القَيْسِ
(1)
.
لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرتُه فَشَجَانِي
…
كخطِّ زَبورٍ في عَسِيبِ
(2)
يَمَانِ
ويعنى بالكتابِ التوراةَ والإنجيلَ، وذلك أن اليهودَ كذَّبت عيسى وما جاء به، وحرَّفت ما جاء به موسى، من صفةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبدَّلت عهدَه إليهم فيه،
(1)
ديوانه ص 85.
(2)
العسيب: جريدة النخل، إذا نحى عنه خوصه، كانوا يكتبون فيه قبل الإسلام.
[وأن]
(1)
النصارى جحَدت ما في الإنجيلِ من نعتِه
(2)
، وغيَّرت
(3)
ما أمَرهم به في أمرِه.
وأما قولُه: {الْمُنِيرِ} . فإنه يعنى: الذي يُنيرُ، فيُبِينُ الحقَّ لمن التبس عليه ويوضِّحُه له. وإنما هو من النورِ والإضاءةِ، يقالُ: قد أنار لك هذا الأمرُ. بمعنى: قد أضاء لك وتبيَّن، فهو يُنيرُ إنارةً، والشيءُ منيرٌ
(4)
.
وقد حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زهيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحَّاكِ:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} ، قال: يُعزِّى نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} . قال: يعزِّى نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحرفُ في مصاحفِ أهلِ الحجازِ والعراقِ: {وَالزُّبُرِ} . بغيرِ باءٍ، وهو في مصاحفِ أهلِ الشامِ:(وبِالزُّبُرِ). بالباءِ، مثلُ الذي في سورةِ "فاطرٍ"
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} .
(1)
في ص، س:"فإن".
(2)
في ص، س:"بعثه".
(3)
في س: "حرفوا".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المنير".
(5)
ينظر المصاحف ص 44، 45. وبإثبات الباء قرأ ابن عامر وحده، وقرأ باقى السبعة بغير باء. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 221.
يعنى بذلك تعالى ذكرُه أن مصيرَ هؤلاء المفترين على اللَّهِ، من اليهودِ المكذِّبين برسولِه، الذين وصَف صفتَهم، وأخبر عن جراءتِهم على ربِّهم، ومصيرَ غيرِهم من جميعِ خلقِه تعالى ذكرُه، ومرجعَ جميعِهم إليه؛ لأنه قد حتَم الموتَ على جميعِهم، فقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: لا يحزُنْك تكذيبُ من كذَّبك يا محمدُ، من هؤلاء اليهودِ وغيرِهم، وافتراءُ من افترى على اللَّهِ، فقد كُذِّب قبلَك رسلٌ جاءوا [من الآياتِ]
(1)
والحججِ من أُرْسِلوا إليه، بمثلِ الذي جئتَ إلى من أُرْسِلتَ إليه، فلك بهم أسوةٌ تنعزَّى بهم، ومصيرُ من كذَّبك وافترى عليَّ، وغيرِهم، ومرجعُهم إليَّ، فأُوفِّى كلَّ نفسٍ منهم جزاءَ عملِه يومَ القيامةِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يعنى أجورَ أعمالِكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}. يقولُ: فمن نُحِّى عن النارِ، وأُبْعِد منها، {فَقَدْ فَازَ}. يقولُ: فقد نجا وظفِر بحاجتِه. يقالُ منه: فاز فلانٌ بطَلِبتِه، يفوزُ فوزًا ومَفازًا ومفازةً. إذا ظفِر بها.
وإنما معنى ذلك: فمن نُحِّى عن النارِ فأُبْعِد منها، وأُدْخِل الجنةَ، فقد نجا وظفِر بعظيمِ الكرامةِ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. يقولُ: وما لذاتُ الدنيا وشهواتُها، وما فيها من زينتِها وزخارفِها، {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. يقولُ: إلا متعةٌ يمتِّعُكموها الغرورُ والخداعُ المضمحِلُّ الذي لا حقيقةَ له عندَ الامتحانِ، ولا صحةَ له عندَ الاختبارِ، فأنتم تلتذُّون بما متَّعكم الغرورُ من دنياكم، ثم هو عائدٌ عليكم بالفجائعِ والمصائبِ والمكارهِ. يقولُ جلَّ وعزَّ: ولا تركَنوا إلى الدنيا، فتسكُنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرورٍ تُمَتَّعون، ثم أنتم عنها بعد قليلٍ راحلون.
وقد رُوى في تأويلِ ذلك ما حدَّثني به المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا
(1)
في ت 2: "بالآيات"، وفى س:"بالبينات".
جريرٌ، عن الأعمشِ، عن بُكيرِ بن الأَخْنسِ، عن عبدِ الرحمنِ بن سابطٍ في قولِه:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . قال: كزادِ الراعي، يزوِّدُ
(1)
الكفَّ من التمرِ، أو الشيءَ من الدقيقِ، أو الشيءَ يشرَبُ عليه اللبنَ
(2)
.
فكأن ابنَ سابطٍ ذهَب في تأويلِه هذا إلى أن معنى الآيةِ: وما الحياةُ الدنيا إلا متاعٌ قليلٌ، لا يُبلِّغُ مَن تَمتَّعَه، ولا يكفيه لسفرِه.
وهذا التأويلُ وإن كان وجهًا من وجوهِ التأويلِ، فإن الصحيحَ من القولِ فيه هو ما قلنا؛ لأن الغُرورَ إنما هو الخداعُ في كلامِ العربِ. وإذ كان كذلك، فلا وجهَ لصرفِه إلى معنى القلةِ؛ لأن الشيءَ قد يكونُ قليلًا وصاحبُه منه في غيرَ خداعٍ ولا غرورٍ، فأما الذي هو في غرورٍ، فلا القليلُ يَصِحُّ له ولا الكثيرُ، مما هو منه في غرورٍ.
والغُرورُ مصدرٌ من قولِ القائلِ: غرَّنى فلانٌ، فهو يَغُرُّنى غُرورًا. بضمِّ الغينِ، وأما إذا فتحتَ الغينَ من الغرورِ، فهو صفةٌ للشيطانِ الغَرورِ الذي يَغرُّ ابنَ آدَمَ، حتى يُدْخِلَه من معصيةِ اللَّهِ فيما يستوجِبُ به عقوبتَه.
وقد حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَبْدةُ وعبدُ الرحيمِ، قالا: ثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو سلمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "موضِعُ سوطٍ في الجنةِ خيرٌ من الدنيا وما فيها، واقرَءوا إن شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} "
(3)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يزوده".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 107 إلى المصنف.
(3)
أخرجه الترمذي (3292) عن أبي كريب به، وأخرجه هناد في الزهد (113)، وابن حبان (4717) من طريق عبدة بن سليمان به، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 101، 102، وأحمد 15/ 408 (9651)، وعبد بن حميد وعند الترمذي (3013)، والنسائي (11085 - كبرى)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 833 (4610)، والحاكم 2/ 299 وغيرهم من طريق محمد بن عمرو به.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} .
يعنى بقولِه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} : لَتُختبرُنَّ بالمصائبِ في أموالِكم، {وَأَنْفُسِكُمْ}. يعنى: وبهلاكِ الأقرباءِ والعشائرِ، من أهلِ نصرتِكم وملَّتِكم، {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. يعنى: من اليهودِ، وقولِهم: إنَّ اللَّهَ فقيرٌ ونحن أغنياءُ. وقولِهم: يدُ اللَّهِ مغلولةٌ. وما أشبهَ ذلك من افترائِهم على اللَّهِ، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}. يعني: النصارى، {أَذًى كَثِيرًا} . والأذى من اليهودِ ما ذكَرنا، ومن النصارى قولُهم: المسيحُ ابن اللَّهِ. وما أَشْبهَ ذلك من كفرِهم باللَّهِ، {وَإِنْ تَصْبِرُوا}
(1)
. لأمرِ اللَّهِ الذي أمَركم به فيهم وفي غيرِهم، من طاعتِه، {وَتَتَّقُوا}. يقولُ: وتتقوا اللَّهَ فيما أمَركم ونهاكم، فتعمَلوا في كلِّ
(2)
ذلك بطاعتِه، {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. يقولُ: فإن ذلك الصبرَ والتقوى مما عزَم اللَّهُ عليه، وأمَركم به.
وقيل: إن ذلك كلَّه نزَل في فنحاصَ اليهوديِّ سيدِ بني قَيْنُقاعَ.
كالذى حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال عكرمةُ في قولِه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} . قال: نزَلت هذه الآيةُ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي أبي بكرٍ، رضوانُ اللَّهِ عليه، وفي فنحاصَ اليهوديِّ سيدِ بني قَيْنُقاعَ. قال: بعَث النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ الصديقَ
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وتتقوا. يقول: وإن تصبروا".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
رحمه الله إلى فنحاصَ اليهوديِّ يستمِدُّه، وكتَب إليه بكتابٍ، وقال لأبي بكرٍ:"لا تفتاتَنَّ على بشيءٍ حتى ترجِعَ". فجاء أبو بكرٍ وهو متوشِّحٌ السيف، فأعطاه الكتابَ، فلما قرأه قال: قد احتاج ربُّكم أن نُمِدَّه. فهمَّ أبو بكرٍ أن يضرِبَه بالسيفِ، ثم ذكَر قولَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لا تفتاتَنَّ عليَّ بشيءٍ حتى ترجِعَ". فكفَّ، ونزَلت:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} . وما بين الآيتين إلى قولِه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} . نزَلت هذه الآياتُ في بنى قَيْنُقاعَ إلى قولِه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} . قال ابن جريجٍ: يعزِّى نبيَّه صلى الله عليه وسلم؛ قال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} . قال: أعْلَم اللَّهُ المؤمنين أنه سَيَبْتَليهم فينظُرُ كيف صبرُهم على دينِهم، ثم قال:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . يعنى: اليهودَ والنصارى، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} ، فكان المسلمون يسمَعون من اليهودِ قولَهم: عُزَيرٌ ابن اللَّهِ. ومن النصارى: المسيحُ ابن اللَّهِ. فكان المسلمون يَنْصِبون لهم الحربَ، ويسمَعون إشراكَهم، فقال اللَّهُ:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . يقولُ: من القوةِ مما عزَم اللَّهُ عليه وأمَركم به
(1)
.
وقال آخرون: بل نزَلت في كعبِ بن الأشرفِ، وذلك أنه كان يهجو رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويُشبِّبُ بنساءِ المسلمين.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 106 إلى المصنف وابن المنذر.
الزهريِّ في قولِه: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} . قال: هو كعبُ بنُ الأشرفِ، وكان يحرِّضُ المشركين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في شعرِه، ويهجو النبيَّ صلى الله عليه وسلم [وأصحابه]
(1)
، فانطلَق إليه خمسةُ نفرٍ من الأنصارِ فيهم محمدُ بنُ مَسْلمةَ، ورجلٌ يقالُ له: أبو عَبْسٍ، فأَتَوْه وهو في مجلسِ قومِه بالعوالي
(2)
، فلما رآهم ذُعِر منهم. وأنكر شأنَهم، وقالوا: جئناك لحاجةٍ. قال: فلْيَدْنُ إليَّ بعضُكم فلْيحدِّثْني بحاجتِه. فجاءه رجلٌ منهم فقال: جئناك لنبيعَك أدراعًا عندَنا، لنستنفِق بها. فقال: واللَّهِ لئن فعَلتم لقد جهِدتم منذ نزَل بكم هذا الرجلُ. فواعدوه أن يأتُوه عِشاءً حينَ يَهْدَأُ
(3)
عنهم الناسُ، فأتَوه فنادَوه، فقالت امرأتُه: ما طرَقك هؤلاء ساعتَهم هذه لشيءٍ مما تحِبُّ. قال: إنهم حدَّثوني بحديثِهم وشأنِهم. قال معمرٌ: فأخبرني أيوبُ، عن عكرمةَ، أنه أَشْرَف عليهم فكلَّمهم، فقال
(4)
: أتَرْهَنوني أبناءَكم - وأرادوا أن يبيعَهم تمرًا - قال: فقالوا: إنا نستحيى أن تُعَيَّرَ أبناؤُنا، فيقالَ: هذا رهينةُ وَسْقٍ، وهذا رهينةُ وَسْقين. فقال: أتَرْهَنوني نساءَكم؟ فقالوا: أنت أجملُ الناسِ، ولا نأمَنُك، وأيُّ امرأةٍ تمتنعُ منك لجمالِك؟ ولكنا نَرْهَنُك سلاحَنا، فقد علِمتَ حاجتَنا إلى السلاحِ اليومَ. فقال: ائتونى بسلاحِكم واحْتَمِلوا ما شئتُم. قالوا: فانزِلْ إلينا نأخُذْ عليك وتأخُذُ علينا. فذهَب ينزِلُ، فتعلَّقت به امرأتُه وقالت: أَرْسِلْ إلى أمثالِهم من قومِك يكونوا معك. قال: لو
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
العوالي: ضيعة بينها وبين المدينة أربعة أميال، وقيل: ثلاثة. وذلك أدناها، وأبعدها ثمانية. معجم البلدان 3/ 743.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"هدي"، وفى م:"هدأ". والمثبت من تفسير عبد الرزاق.
(4)
بعده في تفسير عبد الرزاق: "ما ترهنوني".
وجَدونى هؤلاء نائمًا ما أيقظونى. قالت: فكلِّمْهم من فوقِ البيتِ. فأبى عليها، فنزَل إليهم يفوحُ ريحُه، قالوا: ما هذه الريحُ يا أبا
(1)
فلانٍ؟ قال: هذا عطرُ أمِّ فلانٍ. امرأتِه، فدنا إليه بعضُهم يَشْتَمُّ
(2)
رأسَه
(3)
، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتُلوا عدوَّ اللَّهِ. فطعَنه أبو عَبْسٍ في خاصرتِه، وعلاه محمدُ بنُ مسلمةَ بالسيفِ، فقتَلوه، ثم رجَعوا، فأصبحت اليهودُ مذعورين، فجاءوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: قُتِل سيدُنا غِيلَةً. فذكَّرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم صنيعَه، وما كان يحضُّ عليهم، ويحرِّضُ في قتالِهم، ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتُبَ بينَه وبينَهم صُلْحًا. فقال: فكان ذلك الكتابُ مع عليٍّ رضوانُ اللَّهِ عليه
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
(5)
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}.
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: واذكرْ أيضًا من هؤلاءِ اليهودِ وغيرِهم من أهلِ الكتابِ منهم يا محمدُ، إذ أخَذ اللَّهُ ميثاقَهم لَيبيِّنُنَّ للناسِ أمرَك الذي أخَذ ميثاقَهم على بيانِه للناسِ، في كتابِهم الذي في أيديهم، وهو التوراةُ والإنجيلُ، وأنك للَّهِ رسولٌ مرسَلٌ بالحقِّ، (ولا يكتُمونه فنبذوه وراءَ ظهورَهم). يقولُ: فترَكوا أمرَ اللَّهِ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في الأصل، م:"يشم"، وفى تفسير عبد الرزاق:"ليشتم".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"رائحته".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 142، 143. والحديث له أصل في البخاري (4037) موصولًا من حديث جابر بن عبد الله.
(5)
هنا وفيما يأتى في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ليبيننه للناس ولا يكتمونه". وسنثبتها فيما يأتى بالياء. وهى القراءة التي رجحها المصنف. وسيذكر المصنف هاتين القراءتين بعدُ.
وضيَّعوه، ونقضُوا ميثاقَه الذي أخَذ
(1)
عليهم بذلك، فكتَموا أمرَك، وكذَّبوا بك، {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. يقولُ: وابتاعُوا بكتمانِهم ما أخَذ عليهم الميثاقَ ألَّا يكتُموه من أمرِ نبوَّتِك، عِوضًا منه، خسيسًا قليلًا من عَرَضِ الدنيا. ثم ذمَّ جَلَّ ثناؤُه شراءَهم ما اشْتَرَوا به من ذلك، فقال:{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} .
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في من عُنِى بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها اليهودَ خاصَّةً.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنى محمدُ بنُ أبي محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ، أنه حدَّثه عن ابن عباسٍ:(وَإذْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذيِن أُوتُوا الكِتابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ). إلى قولِه: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يعنى: فِنحاصَ وأشيعَ، وأشباهَهما من الأحبارِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي محمدٍ مولى آل زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ مولى ابن عباسٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ). كان أمَرهم أن يتَّبعوا النبيَّ الأُمِّيَّ الذي يؤمنُ باللَّهِ وكلماتِه، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
(1)
في س: "أخذه".
(2)
جزء من الأثر المتقدم تخريجه في ص 194.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 559، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 38 (4640) من طريق سلمة به.
فلما بعَث اللَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]. عاهَدهم على ذلك، فقال حينَ بعَث محمدًا: صدِّقوه، وتَلقَوْن الذي أحببتم عندِى
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ لَيُبِيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) الآية. قال: إن اللَّهَ أَخَذ ميثاقَ اليهودِ لَيُبِّنُنَّه للناسِ؛ محمدًا صلى الله عليه وسلم، (ولا يكتُمونه فَنَبَذُوهُ) اليهودُ
(2)
{وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن أبي الجَحَّافِ، عن مسلمٍ البَطينِ، قال: سأل الحجَّاجُ بنُ يوسفَ جلساءَه عن هذه الآيةِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . قال: فقام رجلٌ إلى سعيدِ بن جُبيرٍ فسأله، فقال: وَإِذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ أهلِ الكِتابِ: يهودُ، (لَيُبِيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) محمدًا صلى الله عليه وسلم (وَلَا يَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ)
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} . قال: وكان فيه: إن الإسلامَ دينُ اللَّهِ الذي افترَضه على عبادِه، وإن محمدًا يجدُونَه مكتوبًا عندَهم في التوراةَ والإنجيلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 835 (4623) عن محمد بن سعد به.
(2)
سقط من: م، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"فنبذوا العهد".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 836 عقب الأثر (4631)، وفى 3/ 837 (4635) من طريق أحمد بن المفضل به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 141، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 836 (4628) عن الحسن بن يحيى به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 835، 836، 838، 840 (4625، 4631، 4642، 4643، 4649) من طريق سفيان به.
وقال آخرون: عُنِى بذلك كلُّ من أُوتِىَ علمًا بأمرِ الدين.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} الآية: هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإيّاكم وكتمانَ العلمِ، فإن كتمان العلمِ هَلَكَةٌ، ولا يتكلَّفَنَّ رجلٌ ما لا عِلْمَ له به، فيخرُجَ من دينِ اللَّهِ، فيكونَ المتكلِّفين، كان يقالُ: مثَلُ علمٍ لا يقالُ به، كمثل كَنزٍ لا يُنفَقُ منه، ومثلُ حكمةٍ لا تُخرَجُ، كمثل صنمٍ قائمٍ لا يأكُلُ ولا يشرَبُ. وكان يقالُ: طُوبَى لعالمٍ ناطقٍ، وطُوبَى لمستمعٍ واعٍ، هذا رجلٌ عَلم علمًا فعلَّمه، وبذله ودعا إليه، ورجلٌ سمِع خيرًا فحفِظه ووعاه، وانتفع به
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيم المسعوديُّ، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّةً، عن أبي عُبيدةَ، قال: جاء رجلٌ إلى قومٍ في المسجدِ وفيه عبد الله بنُ مسعودٍ، فقال: إن أخاكم كعبًا يُقرئُكم السلام، ويبشِّرُكم أن هذه الآيةَ ليست فيكم:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} . فقال له عبد الله: وأنت فأقرِتْه السلام، وأخبره أنها نزلت وهو يهوديٌّ.
حدَّثني ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن أبي عُبيدةَ بنحوه، عن عبدِ اللهِ وكعبٍ
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 836، 837 (4627، 4629، 4632) من طريق يزيد به ببعضه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر بتمامه.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 50/ 172 من طريق جرير به بنحوه، وهو في تفسير الثورى ص 83 عن الأعمش به.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ الله ميثاقَ النبِّيين على قومهم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، قال: ثنى حبيبُ
(1)
بنُ أبى ثابتٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، قال: قلتُ لابن عباسٍ: إن أصحاب عبدِ اللهِ يقرءون: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنَ الذينَ أوتُوا الكِتابَ مِيثاقهم). قال: من النبيِّين على قومهم.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا قَبيصةُ، قال: ثنا سفيانُ، عن حبيبٍ، عن سعيدٍ قال: قلت لابن عباسٍ: إن أصحاب عبد الله يقرءون: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . ونقرأُ
(2)
: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81]. قال: فقال: أخذ الله ميثاق النبيِّين على قومهم
(3)
.
وأما قوله: (لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ). فإنه كما حدَّثنا عبدُ الوارث بنُ عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنى أبى، قال: ثنا محمدُ بن ذَكوانَ، قال: ثنا أبو نعامة السعديُّ، قال: كان الحسنُ يفسِّرُ قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يُكتُمُونَهُ): لَيتكلَّمُنَّ بالحقِّ، ولَيُصدِّقُنَّه بالعمل
(4)
.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأه بعضُهم: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} . بالتاء جميعًا
(5)
، وهى قراءةُ عُظْم قرأةِ أهلِ المدينةِ والكوفةِ
(6)
، على وجه المخاطبة
(7)
، بمعنى: قال الله لهم: لتَبينُنَّه للناس ولا تكتُمونه.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يحيى". ينظر ترجمة حبيب بن أبى ثابت في تهذيب الكمال 5/ 358.
(2)
سقط من: م، ت 2، ت 3، وفى ص، ت 1، س:"ويقرأ".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 835 (4624) من طريق به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 108 إلى المصنف.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
وهى قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص. السبعة لابن مجاهد ص 221.
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المخاطب".
وقرأ ذلك آخرون: (لَيُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ). بالياء جميعًا
(1)
، على وجهِ الخبرِ عن الغائبِ؛ لأنهم في وقتِ إخبارِ اللهِ جَلّ وعزَّ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بذلك عنهم كانوا غيرَ موجودين، فصار الخبرُ عنهم كالخبرِ كالخبرِ عن الغائبِ.
والقولُ في ذلك عندنا أنهما قراءتان صحيحةٌ وجوهُهما، مستفيضتان في قرأة الإسلامِ، غيرُ مختلِفَتى المعانى، فبأيتِهما قرأ القارئُ فقد أصاب الحقَّ والصوابَ في ذلك، غيرَ أن الأمرَ في ذلك وإن كان كذلك، فإن أحبَّ القراءتين إليَّ أن أقرأ بها
(2)
: (لَيُبَيِّنُنَّهُ للنَّاس وَلا يَكْتُمُونَهُ). بالياء جميعًا، استدلالًا بقوله:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . - أنه إذ كان قد خرَج مَخْرَجَ الخبر عن الغائب على سبيلِ قوله: {فَنَبَذُوهُ} . - حتى يكون الكلامُ متَّسقًا كله على معنًى واحدٍ ومثالٍ واحدٍ، ولو كان الأولُ بمعنى الخطاب، لكان أن يقالَ: فنبذتموه وراءَ ظهورِكم. أَوْلى من أن يقالَ: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} .
وأما قولُه: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . فإنه مثلٌ لتضييعهم القيام بالميثاق، وتركِهم العمل به.
وقد بيَّنَّا المعنى الذي من أجلِه قيل ذلك كذلك فيما مضَى من كتابنا هذا
(3)
، فكرهنا إعادتَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو وعاصم في رواية أبى بكر. المصدر السابق.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بهما".
(3)
ينظر ما تقدم في 2/ 311.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: أخْبرَنا يحيى بنُ أيوبَ البَجَليُّ، عن الشعبيِّ في قوله:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . قال: إنهم قد كانوا يقرءونه، إنما نبذوا العمل به
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . قال: نبذوا الميثاق
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سنانٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمر، قال: ثنا مالكُ بن مِغْولٍ، قال: نُبِّئتُ عن الشعبيِّ في هذه الآية: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . قال: قذَفُوه بين أيديهم، وترَكوا العمل به
(3)
.
وأما قولُه: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . فإن معناه ما قلنا، من أَخْذهم ما أخَذُوا على كتمانهم الحقَّ، وتحريفِهم الكتابَ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال، ثنا أحمدُ بن مفضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} : أخذوا طمعًا، وكتَموا اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وقولُه: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} . يقولُ: فبئس الشراءُ يشترُون في تضييِعهم الميثاقَ، وتبديلِهم الكتابَ.
كما حدَّثنا محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 873 (4634) من طريق ابن إدريس به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 108 إلى المصنف.
(3)
أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 4/ 174، 175 من طريق مالك بن مغول به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 836 عقب الأثر (4631) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.
نَجيحٍ، عن مجاهد:{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} . قال: تبديلُ اليهود التوارة
(1)
.
القولُ في تأويل قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)} .
اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: عُنِى بذلك قومٌ من أهل النفاقِ كانوا يقعُدون خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غَزا العدوَّ، فإذا انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وأحبُّوا أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن سهلٍ بن عَسكرٍ وابنُ عبدِ الرحيم البرقيُّ، قالا: ثنا ابن أبى مريمَ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفر بن أبى كثيرٍ، قال: ثنى زيدُ بنُ أسلمَ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدْرِيِّ، أن رجالًا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعَدِهم خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم النبيُّ من السفر اعتذروا إليه، وأحبُّوا أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا، فأَنْزَل الله تعالى فيهم:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . قال: هؤلاء المنافقون يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لو قد خرَجتَ لخرَجنا معك. فإذا خرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
تفسير مجاهد ص 263، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 837 (4638). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه مسلم (2777) عن محمد بن سهل به، وأخرجه البخارى (4567)، ومسلم (2777)، وابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 839 (4646)، والبيهقى في الشعب (4782)، والواحدى في أسباب النزول ص 101 من طريق ابن أبي مريم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 108 إلى ابن المنذر.
تخلَّفوا وكذَبوا، ويفرَحون بذلك، ويرَون أنها حِيلةٌ احتالوا بها
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك قومٌ من أحبارِ اليهودِ كانوا يفرَحون بإضلالِهم الناسَ، ونسبةِ الناس إيَّاهم إلى العلمِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن محمدِ بن أبى محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمة مولى ابن عباسٍ، أو سعيدِ بن جُبيرٍ:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : يعنى فِنْحاصَ وأشيعَ وأشباهَهما من الأحبارِ الذين يفرَحون بما يُصيبون من الدنيا على ما زيَّنوا للناس من الضلالة، {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}: أن يقول لهم الناسُ: علماءُ. وليسوا بأهل علمٍ، لم يحملوها
(2)
على هُدًى ولا خيرٍ، ويحبُّون أن يقولَ لهم الناس: قد فعلوا
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بن بُكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بن إسحاق، قال: ثنى محمدُ بنُ أبى محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن عكرمةَ، أنه حدَّثه عن ابن عباسٍ بنحوِ ذلك، إلا أنه قال: وليسوا بأهل علمٍ، لم يحملوهم على هُدًى
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك قومٌ من اليهودِ فرِحوا باجتماعِ كلمتهم على تكذيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويحبُّون أن يُحْمَدوا بأن يقال لهم
(5)
: هم أهلُ صلاة وصيامٍ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 109 إلى المصنف.
(2)
في م: "يحملوهم".
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 559، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 838، 840 (4640، 4650) من طريق سلمة به بدون ذكر سعيد بن جبير.
(4)
جزء من الأثر المتقدم في ص 278، 279.
(5)
في الأصل: "لكم".
ذكرُ من قال ذلك
حُدِّثت عن الحسينِ بن الفَرَج، قال: سمِعت أبا معاذٍ يقولُ: أخْبرَنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت الضحَّاكَ بنَ مُزاحمٍ يقولُ في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} : فإنهم فرِحوا باجتماعهم على كفرِهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: قد جمع الله كلمتنا، ولم يخالف أحدٌ منا أحدًا [أن محمدًا ليس بنبيٍّ]
(1)
". وقالوا: نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤُه، ونحن أهلُ الصلاة والصيام. وكذَبوا، بل هم أهلُ كفرٍ وشركٍ وافتراءٍ على الله، قال اللَّهُ:{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}
(2)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أخْبرَنا يزيدُ، قال: أخْبرَنا جُوَيبرٌ، عن الضحَّاكِ في قوله:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . قال: كانت
(3)
اليهودُ أمرَ بعضُهم
(4)
بعضًا، فكتَب بعضُهم إلى بعضٍ: إن محمدًا ليس بنبيٍّ، فأَجْمِعوا كلمتَكم، وتمسَّكُوا بديِنكم وكتابِكم الذي معكم. ففعلوا، وفرحوا
(5)
بذلك، وفرِحوا باجتماعِهم على الكفرِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: قال: كتَموا اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك
(7)
حين اجتَمعوا عليه، وكانوا يزكُّون أنفسَهم فيقولون: نحنُ أهلُ الصيامِ، وأهلُ الصلاةِ، وأهلُ الزكاةِ، ونحن على دين
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"أن بنبى"، وفى م، س:"أنه نبى"، وفى ت 2:"إلا نبى". والمثبت كما في الأثر التالى.
(2)
ينظر التبيان 3/ 76، والبحر المحيط 3/ 137.
(3)
في النسخ: "قالت". والصواب ما أثبتناه (4).
(4)
في م: "بعضكم".
(5)
في ص، ت 1، 2، ت 3:"ففرحوا".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 109 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(7)
بعده في ص، م، ت 1، ت 3، س:"وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. حدَّثنا محمد قال: ثنا أحمد قال: ثنا أسباط عن السدى قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وفرحوا بذلك". وهو تكرار خلط بين الأثر السابق وهذا الأثر.
إبراهيم. فأَنْزَل الله جل ثناؤه فيهم: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} من كتمانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، أحبُّوا أن تحمدَهم العربُ بما يزكُّون به أنفسهم، وليسوا كذلك
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاق، قال: أخْبرَنا الثوريُّ، عن أبى الجَحَّافِ، عن مسلمٍ البَطينِ، قال: سأل الحجَّاجُ جلساءَه عن هذه الآيةِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} . قال [سعيدُ بنُ جبيرٍ]
(2)
: بكتمانِهم محمدًا، {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}. قال: هو قولُهم: نحن على دين إبراهيم عليه السلام
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} : هم أهلُ الكتابِ، أُنْزِل عليهم الكتابُ، فحكَموا بغير الحقِّ، وحرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعِه، وفرِحوا بذلك، وأحبُّوا أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا، فرحوا بأنهم كفَروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وما أُنزل إليه
(4)
، وهم يزعُمون أنهم يعبُدون الله، ويصُومون، ويصلُّون، ويطيعُون الله، فقال الله جلَّ ثناؤُه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} ، كُفْرًا
(5)
بالله، وكُفْرًا
(5)
بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، من الصلاة والصوم، فقال الله جلَّ وعزَّ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم:{فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 109 إلى المصنف.
(2)
سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تقدم في ص 295.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الله".
(5)
في م وتفسير ابن أبي حاتم: "كفروا".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 838، 80 (4639، 4648) عن محمد بن سعد به.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تحسَبَنَّ الذين يفرَحون بما أَتَوْا من تبديلِهم كتابَ الله، ويحبُّون أن يحمَدَهم الناسُ على ذلك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} . قال: يهودُ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتابَ، وحمدِهم إيَّاهم عليه، ولا تملكُ يهودُ ذلك
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم فرحوا بما أعطَى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي المُعَلَّى، عن سعيدِ بن جُبير أنه قال في هذه الآية:{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . قال: اليهودُ، يفرَحون بما أتى الله إبراهيم عليه السلام
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهبُ بنُ جَريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي المُعَلَّى العطَّارِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: هم اليهودُ، فرِحوا بما أعطى اللَّهُ إبراهيمَ الكتاب
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك قومٌ من اليهودِ سألهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 263. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 109 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وينظر تفسير ابن أبي حاتم 3/ 837 (4638).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 109 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
فكتَموه، ففرِحوا بكتمانِهم ذلك إيَّاه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاق، قال: أخْبرَنا ابن جريجٍ، قال: أخبرني ابن أبى مُليكةَ، أن علقمة [بن وقاصٍ]
(1)
أخبره، أن مَرْوانَ قال لرافعٍ: اذهب يا رافعُ إلى ابن عباسٍ فقل له: لئن كان كلُّ امرئ منا فرح بما أتى
(2)
، وأحبَّ أن يُحْمَدَ بما لم يفعل معذَّبًا، ليعذِّبَنا الله أجمعين. فقال ابن عباسٍ: وما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يهودَ فسألهم عن شيءٍ فكتَموه إيَّاه، وأخبَروه بغيرِه، فأرَوه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم، وفرِحوا بما أَتَوْا
(3)
من كتمانهم إيَّاه، ثم قرأ
(4)
: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: أخبرني عبدُ الله بن أبى مُليكةَ، أن حميدَ بن عبدِ الرحمن بن عوفٍ أخبره، أن مَرْوانَ بنَ الحكم قال لبوَّابِه: يا رافعُ، اذهب إلى ابن عباسٍ فقل له: لئن كان كلُّ امرئ منا فرِح بما أَتَى، وأحبَّ أن يُحْمدَ بما لم يفعَلْ مُعذَّبًا، لَنُعذَّبَنَّ جميعًا. فقال ابن عباسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنْزِلت في أهلِ الكتابِ. ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} إلى قوله: {أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . قال ابن عباسٍ: سألهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ فكتَموه إياه، وأخبَروه
(1)
في م: "بن أبى وقاص". وينظر تهذيب الكمال 20/ 313.
(2)
في تفسير عبد الرزاق وصحيح البخارى: "أوتى".
(3)
في س: "أوتوا".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قال".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 141، 142، ومن طريقه أخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 101، 102. وقد أخرجه البخارى (4568)، والبغوى في تفسيره 2/ 150 من طريق ابن جريج به.
بغيرِه، فخرجوا وقد أَرَوه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، فاسْتَحْمَدوا بذلك إليه، وفرِحوا بما أَتَوْا من كتمانِهم إيَّاه ما سألهم عنه
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك قومٌ من يهودَ أَظْهَرُوا النفاقَ للنبى صلى الله عليه وسلم؛ محبةً منهم للحمدِ، والله عالمٌ منهم خلافَ ذلك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن أعداء الله اليهودَ؛ يهودَ خيبرَ، أتوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فزعَموا أنهم راضون
(2)
بالذي جاءهم به، وأنهم متابِعوه، وهم متمسِّكون بضلالتِهم، وأرادوا أن يحمَدَهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعَلوا، فأَنزل الله تعالى:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ قال: إن أهل خيبرَ أَتَوُا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه فقالوا: إنَّا على رأيِكم وهيئتِكم، وإنا لكم رِدْءٌ
(4)
. فأَكْذَبهم الله فقال: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} الآيتين
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن أبي عُبيدةَ، قال: جاء رجلٌ إلى عبدِ اللَّهِ فقال: إن كعبًا يقرأ
(1)
أخرجه أحمد 4/ 444، 445 (2712)، والبخارى (4568)، ومسلم (2778)، والترمذى (3014)، والنسائى (11086 - كبرى)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 839 (4647)، والطبرانى (10730)، والبيهقى في الشعب (7019) من طريق حجاج به، وأخرجه الحاكم 2/ 299 من طريق ابن جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 108 إلى ابن المنذر به.
(2)
في س: "رضوا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 109 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
في ت 2: "ردف"، وفى تفسير عبد الرزاق:"ود".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 144.
عليك السلامَ ويقولُ: إن هذه الآيةَ لم تنزل فيكم: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} . قال: أخبروه أنها نزلت وهو يهوديٌّ
(1)
.
وأَوْلَى هذه الأقوال بالصوابِ في تأويلِ قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} الآية. قولُ من قال: عُنِى بذلك أهلُ الكتاب الذين أَخْبَر الله جلَّ وعزَّ أنه أخذ ميثاقَهم، ليُبيِّنُنَّ للناسِ أمرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا يكتُمونه؛ لأن قوله:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} الآية. في سياق الخبرِ عنهم، وهو شبيهٌ بقصتِهم، مع اتفاقِ أهلِ التأويل على أنهم المعنيُّون بذلك.
فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الآيةِ: لا تحسَبَنَّ يا محمدُ الذين يفرَحون بما أَتَوا من كتمانِهم الناسَ أمرَك، وأنك لى رسولٌ مرسَلٌ بالحقِّ، وهم يجدونَك مكتوبًا عندَهم في كتُبِهم، وقد أخَذتُ عليهم الميثاقَ بالإقرار بنبوَّتِك وبيانِ أمرِك للناسِ، وألَّا يكتُموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقى الذي أخَذْتُ عليهم بذلك، يفرَحون بمعصيتِهم إياى في ذلك، ومخالفتهم أمرى، ويحبُّون أن يحمَدَهم الناسُ بأنهم أهلُ طاعةٍ لله وعبادةٍ وصلاةٍ وصومٍ، واتِّباعٍ لوحيِه وتنزيلِه الذي أنزله على أنبيائِه، وهم من ذلك أبرياءُ أَخْلِياءُ؛ لتكذيبهم رسولَه، ونقضِهم ميثاقَه الذي أخَذ عليهم، لم يفعلوا شيئًا مما يحبُّون أن يحمَدَهم الناسُ عليه، {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
[ويعنى بقوله]
(2)
: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} : فلا تظُنُّنَّهم بمنجاةٍ من عذابِ الله الذي أعدَّه لأعدائِه في الدنيا، من الخَسفِ والمَسْخِ والرَّجْفِ
(1)
تفسير سفيان ص 83 بنحوه. وينظر ما تقدم في ص 296.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وقوله".
والقتل، وما أشبَه ذلك من عقابِ اللهِ، ولا هم ببعيدٍ منه.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} . قال: بمنجاةٍ من العذابِ، [ولا هم ببعيدٍ منه]
(1)
.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يقولُ: ولهم عذابٌ في الآخرةِ أيضًا مؤلمٌ، مع الذي لهم في الدنيا مُعَجَّلٌ.
القولُ في تأويلِ قولهِ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} .
وهذا تكذيبٌ من الله للذين قالوا: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياءُ. يقولُ تعالى ذكرُه مكذِّبًا لهم: للَّهِ مُلكُ جميع ما حوته السماوات والأرضُ، فكيف يكونُ - أيها المفترون على الله - من كان مُلكُ ذلك له فقيرًا؟ ثم أَخْبَر جلَّ ثناؤه أنه القادرُ على تعجيل العقوبة لقائلى ذلك، ولكلِّ مكذِّبٍ به، ومفترٍ عليه، وعلى غير ذلك مما أراد وأحبَّ، ولكنه تفضَّلَ بحِلْمِه على خلقِه، فقال:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يعني: من إهلاك قائلى ذلك، وتعجيل عقوبتِه لهم، وغير ذلك من الأمور.
القولُ في تأويل قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} .
وهذا احتجاجٌ من الله تعالى ذكرُه على قائلِ ذلك، وعلى سائرِ خلقِه، بأنه المديِّرُ المصرِّفُ الأشياءَ، والمسخِّرُ ما أحبَّ، وأن الإغناءَ والإفقارَ إليه وبيدِه، فقال جلَّ ثناؤُه: تدبَّروا أيها الناسُ واعتبِروا، ففيما أنشأتُه فخلقتُه من
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 110 إلى المصنف.
السماواتِ والأرضِ لمعاشِكم وأقواتِكم وأرزاقِكم، وفيما عقَّبْتُ بينَه من الليل والنهارِ، فجعَلتُهما يختلِفان ويعتقبان عليكم، تتصرَّفون في هذا المعاشكم، وتسكُنون في هذا راحةً لأبدنِكم
(1)
- معتبرٌ ومدَّكرٌ، وآياتٌ وعظاتٌ، لمن كان منكم ذا لُبٍّ وعقل يعلَمُ به أن من نسبنى إلى أنى فقيرٌ وهو غنيٌّ، كاذبٌ مفترٍ، فإن ذلك كلَّه بيدى، أقلِّبُه وأصرِّفُه، ولو أبطَلْتُ ذلك لهلَكتم، فكيف يُنْسَبُ إلى فقرٍ من كان كلُّ ما به عيشُ ما في السماواتِ والأرض بيده وإليه؟ أم كيف يكون غنيًّا من كان رزقُه بيدِ غيره؟ إذا شاء رزَقه، وإذا شاء حرَمه، فاعتبروا يا أولى الألباب.
القولُ في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وقولُه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} . من نعتِ "أُولى الألباب"، و {الَّذِينَ} في موضع خفضٍ ردًّا على قوله:{لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .
ومعنى الآية: إن في خلق السماواتِ والأرض، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا، وعلى جنوبهم. يعنى بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهُدهم، وفى غيرِ صلاتِهم، وعلى جنوبِهم نيامًا.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ قوله:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} الآية. قال: هو ذكرُ الله في الصلاة وفى غير الصلاة، وقراءة القرآن
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} : وهذه حالاتُك كلُّها يابنَ آدمَ،
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لأجسادكم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 110 إلى المصنف وابن المنذر.
[فاذكر الله وأنت قائمٌ فإن لم تَستَطِعْ فاذكُره وأنت قاعدٌ، فإن لم تَستَطِعْ]
(1)
فاذكُره وأنت على جنبِك، يُسْرًا من الله وتخفيفًا
(2)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . فعطف به {عَلَى} وهى صفةٌ، على "القيام والقعود"، وهما اسمان؟
قيل: لأن قوله: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . في معنى الاسم، ومعناه: ونيامًا، أو:
(3)
مضطجعين على جنوبهم. فحسُن عطفُ ذلك على القيامِ والقعودِ لذلك
(4)
المعنى، كما قيل:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12]. فعطف بقوله: {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} . على قوله: {لِجَنْبِهِ} . لأن معنى قوله: {لِجَنْبِهِ} : مضطجعًا. فعطف بـ "القاعد والقائم" على معناه، فكذلك ذلك في قوله:{وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} .
وأما قولُه: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . فإنه يعنى بذلك أنهم يعتبِرون بصنعةِ صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنَعُ ذلك إلا من ليس كمثله شيءٌ، ومَن هو مالكُ كلِّ شيءٍ ورازقُه، وخالقُ كلِّ شيءٍ ومدبِّرُه، ومن هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وبيده الإغناءُ والإفقارُ، والإعزازُ والإذلالُ، والإحياءُ والإماتةُ، والشقاءُ والسعادةُ.
القولُ في تأويل قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} .
يعنى بذلك تعالى ذكره: وَيَتَفَكَّرُون في خَلق السماوات والأرض قائلين: رَبَّنَا
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 842 (4658) من طريق يزيد به.
(3)
بعده في ص، ت 1، س:"و".
(4)
بعده في الأصل، ص، ت 1، س:"من".
مَا خَلَقتَ هذا باطلًا. فترَك ذكر "قائلين"؛ إذ كان فيما ظهَر من الكلامِ دَلالةٌ عليه.
وقولُه: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . يقولُ: لم تخلُق هذا الخلقَ عبثًا ولا لعِبًا، ولم تخلُقْه إلا لأمرٍ عظيمٍ، من ثوابٍ وعقابٍ، ومحاسبةٍ ومجازاةٍ.
وإنما قال: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . ولم يقل: ما خلَقْتَ هذه. ولا: هؤلاء. لأنه أراد بـ {هَذَا} الخلق الذي في السماوات والأرض، يدلُّ على ذلك قولُه:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . ورغبتُهم إلى ربِّهم في أن يقيَهم عذابَ الجحيم. ولو كان المعنيُّ بقولِه: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . السماواتِ والأرضَ، لما كان لقولِه عَقِيبَ ذلك:{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . معنًى مفهومٌ؛ لأن السماواتِ والأرضَ أدلةٌ على بارئها، لا على الثواب والعقابِ، وإنما الدليلُ على الثوابِ والعقاب الأمرُ والنهىُ.
وإنما وصَف جلَّ ثناؤُه أولى الألبابِ الذين ذكَرهم في هذه الآيةِ أنهم إذا رأَوُا المأمورين المنهيين، قالوا: يا رَبَّنا، لم تخلُق هؤلاء باطلًا عبثًا.
{سُبْحَانَكَ} . يعني: تنزيهًا لك [وتعظيمًا لك]
(1)
من أن تفعَلَ شيئًا عبثًا، ولكنك خلقتهم
(2)
لعظيم من الأمرِ، لجنةٍ أو نارٍ. ثم فزِعوا إلى ربِّهم بالمسألةِ أن يُجيرَهم من عذابِ النار، وألَّا يجعَلَهم ممن عصاه وخالَف أمرَه، فيكونوا من أهل جهنَّمَ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ربَّنا إنك من تُدْخِل النارَ من عبادك فتخلِّده فيها فقد أَخْزَيتَه. قالوا
(3)
: ولا يُخْزَى مؤمِنٌ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في س: "جعلتهم".
(3)
في م، س:"قال".
مصيرُه إلى الجنةِ، وإن عُذِّب بالنارِ بعضَ العذابِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني أبو حفصٍ الجُبيريُّ ومحمدُ بنُ بشارٍ، قالا: أخْبرَنا المؤمَّلُ، أخْبرَنا
(1)
أبو هلالٍ، عن قتادةَ، عن أنسٍ في قوله:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} . قال: من تُخَلِّد فيها
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا الثوريُّ، عن رجلٍ، عن ابن المسيَّب:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} . قال: هي خاصَّةٌ لمن لا يخرُجُ منها
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمان عارمٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا قبيصةُ بنُ مَرْوانَ، عن الأشعثِ الحُمْليِّ، قال: قلتُ للحسنِ: يا أبا سعيدٍ، أرأيتَ ما تذكُرُ من الشفاعة حقٌّ هو؟ قال: نعم حقٌّ. قال: قلتُ: يا أبا سعيدٍ، أرأيتَ قول الله جل وعز:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37]. قال: فقال لي: إنك والله لا تَسْطُو
(4)
عليَّ بشيءٍ
(5)
، إن للنار أهلًا لا يخرُجون منها كما قال الله. قال: قلتُ:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وأخبرنا".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س. والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 842 (4660) من طريق قتادة به.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 142.
(4)
في م: "تستطيع". وأصل السطو القهر، يريد أنك لا تقهرنى وتغلبنى بحجة.
(5)
في م: "شيء".
يا أبا سعيدٍ: [فيمَ دَخَلوها وبم]
(1)
خرجوا؟ قال: كانوا
(2)
أصابوا ذُنوبًا في الدنيا، فأَخَذهم اللهُ بها، فأَدْخَلهم بها، ثم أَخْرَجهم بما يعلَمُ في قلوبِهم من الإيمانِ والتصديق به
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جريجٍ قوله:{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} . قال: هو من يُخلَّدُ فيها
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ربَّنا إنك من تُدْخِل النارَ من مخلَّدِ فيها وغيرِ مخلَّدٍ فيها، فقد أُخْرى بالعذابِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا الحارثُ بنُ مسلمٍ، عن بحرٍ
(5)
، عمرِو بن دينارٍ، قال: قدِم علينا جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ في عُمْرَةٍ، فانتهيتُ إليه أنا وعطاءٌ، فقلتُ:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} . قال: وما أَخزاه
(6)
حينَ أَحْرَقه
(7)
بالنار! إِنَّ دونَ ذاك لخزيًا
(8)
.
وأولى القولين بالصوابِ عندى قولُ جابرٍ أن من أُدْخِل النارَ فقد أُخْزِى بدخولِه إياها وإن أُخرج منها. وذلك أن الخزىَ إنما هو هتكُ سِترِ المُخْرَى وفضيحتُه، ومن
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"في من دخلوها ولم"، وفى م:"في من دخلوها ثم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كان".
(3)
أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (322) من طريق الأشعث بن جابر الحُمْلى بمعناه مختصرًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 280 إلى ابن المنذر ببعضه.
(4)
ينظر التبيان 3/ 82.
(5)
في النسخ: "يحيى"، والمثبت من مصدر التخريج. وهو بحر بن كَنِيز الباهلى السقاء. ينظر تهذيب الكمال 4/ 12.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إخزاؤه".
(7)
في ص: "أحروه"، وفى ت 1، ت 3، س:"أخزوه"، وفى ت 2:"أحزوه".
(8)
أخرجه الحاكم 2/ 300 من طريق الحارث بن مسلم به نحوه.
عاقبه ربُّه في الآخرةِ على ذنُوبِه، فقد فضَحه بعقابِه إياه، وذلك هو الخزىُ.
وأما قولُه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . يقولُ: وما لمن خالف أمر الله فعصاه، من ذى نصرة له ينصُرُه من الله، فيدفَعَ عنه عقابَه، أو يُنْقِذَه من عذابِه.
القولُ في تأويلِ قولِه {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ المنادِى الذي ذكَره الله تعالى في هذه الآية؛ فقال بعضُهم: المنادِى في هذا الموضع القرآنُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا قَبيصةُ بنُ عُقْبَةَ، قال: ثنا سفيانُ، عن موسى بن عُبيدةَ، عن محمدٍ بن كعبٍ:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} . قال: هو الكتابُ، ليس كلُّهم لَقِى النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا منصورُ بنُ حَكِيمٍ، عن خارجةَ، عن موسى بن عُبيدةَ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظيِّ في قوله:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} . قال: ليس كلُّ الناسِ سمع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ المنادِىَ القرآن
(2)
.
وقال آخرون: بل هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
(1)
تفسير سفيان ص 83، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 842 (4662) من طريق سفيان به.
(2)
أخرجه الخطيب البغدادى في المتفق والمفترق 1/ 579 (321) من طريق موسى بن عبيدة به مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 111 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جريجٍ قولَه:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} . قال: هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} . قال: ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ محمدِ بن كعبٍ، وهو أن يكونَ المنادِى القرآنَ؛ لأن كثيرًا ممن وصَفهم اللهُ جل ثناؤه بهذه الصفةِ في هذه الآياتِ، ليسوا ممن رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولا عاينه، فىَسْمَعُوا
(3)
دعاءَه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآنُ، وهو نظيرُ قولِه جلَّ ثناؤُه مخبرًا عن الجنِّ إذ سمِعوا كلام الله يُتْلَى عليهم، أنهم قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2].
وبنحو ذلك [كان قتادةُ يقول]
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} إلى قوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} : سمِعوا دعوةً من الله فأجابوها، [وأَحْسَنوا]
(5)
فيها، وصبَروا عليها. ينبِّئُكم الله عن مؤمنِ الإنس كيف قال، وعن مؤمنِ الجنِّ كيف قال؛ فأما [مؤمنُ الجنِّ فقال:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} . وأما]
(6)
مؤمنُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 843 (6464) من طريق ابن ثور عن ابن جريجٍ بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 111 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 111 إلى المصنف.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فسمعوا".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فأحسنوا الإجابة".
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
الإنس فقال: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الآية
(1)
.
وقيل: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} . يعنى: ينادى إلى الإيمان. كما قال تعالى ذكرُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]. بمعنى: هدانا إلى هذا. وكما قال الراجزُ
(2)
:
أَوْحَى لها القرارَ فَاسْتَقَرَّتِ
وشدَّها بالراسيات الثُّبَّتِ
بمعنى: أَوْحَى إليها. ومنه قولُه: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5].
وقيل: يحتملُ أن يكونَ معناه: إننا سمعنا مناديًا للإيمانِ ينادى: أن آمِنُوا بربِّكم. فتأويلُ الآية إذن: ربَّنا إننا سمعنا داعيًا يدعو إلى الإيمان. يقولُ: إلى التصديقِ بك، والإقرار بوحدانيتك، واتِّباع رسولك وطاعتِه، فيما أمَرنا به، ونهانا عنه، مما جاء به من عندك، {فَآمَنَّا رَبَّنَا}. يقولُ: فصدَّقنا بذلك يا ربَّنا، {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}. يقولُ: فاسْتُر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهادِ، بعقوبتِك إيانا عليها، ولكن كفِّرها عنا، وسيئات أعمالنِا، فامْحُها بفضلك ورحمتك إيانا، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}. يعنى بذلك: واقبضنا إليك - إذا قبَضتنا إليك - في عِدادِ الأبرار، واحْشُرْنا مَحْشَرَهم ومعهم.
والأبرارُ جمعُ بَرٍّ، وهم الذين برُّوا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه، وخدمتهم له، حتى أرضَوْه فَرضى عنهم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 843 (4663) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 111 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تقدم في 5/ 401، 402.
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} .
إن قال لنا قائلٌ: وما وجهُ مسألة هؤلاء القوم ربَّهم أن يؤتيَهم ما وعَدهم، وقد علِموا
(1)
أن الله منجزٌ وعدَه، وغير جائزٍ أن يكونَ منه إخلافُ موعدٍ؟
قيل: قد
(2)
اختَلف في ذلك أهلُ البحثِ؛ فقال بعضُهم: ذلك قولٌ خرج مَخْرَجَ المسألةِ، ومعناه الخبرُ. قالوا: وإنما تأويلُ الكلام: ربَّنا إِنَّنا سمِعنا مناديًا يُنادِى للإيمان أن آمنوا بربِّكم فآمنَّا، ربَّنا فاغفر لنا ذنوبَنا وكفِّر عنا سيِّئاتِنا وتوفَّنا مع الأبرار، لتؤتيَنا ما وعَدتنا على رسلِك، ولا تُخْزِنا يوم القيامة. قالوا: وليس ذلك على أنهم قالوا: إن توفَّيتَنا مع الأبرارِ فَأَنجز لنا ما وعَدتنا؛ لأنهم قد علِموا أن اللَّهَ لا يُخْلِفُ الميعادَ، وأن ما وعَد على ألسنةِ رسلِه، ليس يعطيه
(3)
بالدعاءِ، ولكنه تفضَّل بابتدائه
(4)
، ثم ينجزُه.
وقال آخرون: بل ذلك قولٌ من قائلِيه
(5)
على معنى المسألةِ والدعاء لله بأن يجعَلَهم ممن آتاهم ما وعَدهم من الكرامةِ على ألسُن رسلِه، لا أنهم كانوا قد استحقُّوا منزلة الكرامة عندَ اللهِ في أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتيَهم ما وعَدهم، بعد علمِهم باستحقاقهم عند أنفسهم، فيكون ذلك مسألةً لربِّهم ألا يُخلفَ وعده. قالوا: ولو كان القومُ إنما سألوا ربَّهم أن يؤتيهم ما وعَد الأبرار، لكانوا قد زكَّوْا أنفسَهم، وشهِدوا لها أنها ممن قد اسْتَوْجب كرامةَ اللهِ وثوابَه. قالوا: وليس ذلك صفةَ أهل الفضل من المؤمنين.
(1)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"علمت".
(2)
زيادة من: الأصل.
(3)
في ص: "بعطية"، وفى س:"معطيه".
(4)
في م: "بإيتائه".
(5)
في م: "قائله".
وقال آخرون: بل قالوا هذا القولَ على وجه المسألة والرغبةِ منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم؛ من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، والظَّفَرِ بهم
(1)
، وإعلاء كلمة الحقِّ على الباطلِ، فيعجِّل ذلك لهم
(2)
. قالوا: ومُحالٌ أن يكونَ القومُ مع وصف الله إياهم بما وصَفهم به، كانوا على غير يقينٍ من أن اللَّهَ لا يُخلِفُ الميعادَ، فيرغبوا إلى اللَّهِ جلَّ ثناؤُه في ذلك، ولكنهم كانوا وُعِدوا النصرَ، ولم يُوَقَّتْ لهم في [ذلك وقتٌ فرغبوا إلى الله في]
(3)
تعجيلِ ذلك لهم، لما في تعجيله
(4)
من سرور الظُّفَرِ وراحةِ الجسدِ.
والذي هو أولى الأقوالِ بالصواب في ذلك عندى، أن هذه الصفةَ صفةُ من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنِه ودارِه، مفارقًا لأهل الشركِ بالله، إلى اللَّهِ ورسولِه، وغيرِهم من تُبَّاعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نُصرتِهم على أعداءِ اللَّهِ وأعدائِهم، فقالوا: ربَّنا آتنا ما وعَدتنا من نصرتِك عليهم عاجلًا، فإنك لا تخلفُ الميعادَ، ولكن لا صبرَ لنا على أناتِك وحِلْمِك عنهم، فعجِّل خِزيَهم
(5)
، ولنا الظفرَ عليهم. يدلُّ على صحةِ ذلك آخرُ الآية الأخرى، وهو قولُه:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} الآيات بعدها.
وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيتُ قولَهم في شيءٍ. وذلك أنه غيرُ موجودٍ في كلامِ العربِ أن يقالَ: افعل بنا يا ربِّ كذا وكذا. بمعنى: [لتَفْعَل بنا كذا وكذا]
(6)
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
سقط من: ص، م ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
في م: "تعجله".
(5)
في م: "حربهم".
(6)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"افعل بنا كذا الذي"، وفى م:"افعل بنا لكذا الذي". والصواب ما أثبت، ويؤيده قوله بعد: أقبل إلى لتكلمنى.
ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائلُ لآخر
(1)
: أقبل إليَّ وكَلِّمْني. بمعنى: أقبل إليَّ لتُكلِّمنى. وذلك غيرُ موجودٍ في الكلام، ولا معروفٍ جوازُه، وكذلك أيضًا غيرُ معروفٍ في الكلام: آتنا ما وعدتنا. بمعنى: اجعلنا ممن آتيته ذلك. وإن كان كلُّ من أُعْطِيَ شيئًا سَنِيًّا، فقد صُيِّر نظيرًا لمن كان مَثلَه في المعنى الذي أُعطِيَه، ولكن ليس الظاهرُ من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يَئُولُ معناه إليه.
فتأويلُ الكلام إذن: ربَّنا أعطِنا ما وعدتنا على ألسُنِ رُسلك، إنك تُعلى كلمتك كلمة الحقِّ، فأيِّدنا
(2)
على من كفر بك، وحادَّك، وعبَد غيرَك، وعجِّل لنا ذلك، فإنا قد علمنا أنك لا تخلِفُ ميعادَك، ولا تُخْزِنا يوم القيامة، فتفضحنا بذنوبنا التي سلَفت منا، ولكن كفِّرها عنا، واغفرها لنا.
وقد حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جريجٍ قوله:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} . قال: يَسْتَنْجِزُ موعودَ اللهِ على رسله
(3)
.
القولُ في تأويل قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} .
يعنى بذلك جل ثناؤه: فأجاب هؤلاء الداعين - بما وصف الله عنهم أنهم دَعوه
(4)
به - ربُّهم، بأنى لا أضيعُ عمل عاملٍ منكم عمِل خيرًا؛ ذكرًا كان العاملُ أو أُنثى.
وذُكِر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالُ الرجال يُذكَرون ولا تُذْكَرُ النساءُ في الهجرةِ. فأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية.
(1)
في النسخ: "الآخر". والمثبت هو الصواب.
(2)
في ص: "يأيدينا"، وفى م، ت 2، ت 3:"بتأييدنا"، وفى ت 2:"بايداننا". غير منقوطة.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 843 (4665) من طريق ابن ثور عن ابن جريج.
(4)
في م، ت 2، ت 3، س:"دعوا".
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قالت أمُّ سَلَمةَ: يا رسولَ اللَّهِ، يُذْكَرُ الرجالُ في الهجرةٍ ولا نُذْكَرُ. فنزلت:{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآية
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاق، قال: أخْبرَنا ابن عُيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، قال: سمعت رجلًا من ولد أمِّ سَلَمَةَ زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: قالت أمُّ سَلَمَةَ: يا رسول الله، لا أسمعُ الله يذكُرُ النساءَ في الهجرة بشيءٍ. فأَنزل الله تبارك وتعالى:[{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ]
(2)
أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}
(3)
.
حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا أسدُ بنُ موسى، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرو بن دينارٍ، عن رجلٍ من ولد أمِّ سَلَمَةَ، عن أمِّ سَلَمَةَ، أنها قالت: يا رسول الله، لا أسْمَعُ الله ذكَر النساء في الهجرة بشيءٍ. فأَنزَل الله:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}
(4)
.
وقيل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} . بمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعرُ
(5)
:
وداعٍ دعا يا مَن يُجِيبُ إلى النَّدَى
…
فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 844 (4669)، والحاكم 2/ 416، من طريق سفيان الثورى به.
وجاء في تفسير ابن أبي حاتم قال: قالت أم سلمة، فذكر نحوه، وكأن فيه سقطًا؛ لأنه لم يسبق الأثر قبل.
(2)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3 س:"الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 144.
(4)
أخرجه الحميدى (301)، وسعيد بن منصور في سننه (552 - تفسير)، والترمذى (3023)، وأبو يعلى (6958)، والطبراني 23/ 294 (651)، والحاكم 2/ 300، والواحدى في أسباب النزول ص 103 من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 111 إلى ابن المنذر.
(5)
تقدم تخريج البيت في 1/ 335.
بمعنى: فلم يُجبه
(1)
عند ذاك مجيبٌ.
وأُدْخِلَت {مِنْ} في
(2)
قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . على الترجمة والتفسير عن قوله: {مِنْكُمْ} . بمعنى: لا أضيعُ عَمَلَ عاملٍ منكم من الذكور والإناث. وليست "من" هذه بالتي يجوزُ إسقاطُها وحَذْفُها من الكلام في الجحد؛ لأنها دخَلت بمعنًى لا يصلُحُ الكلام إلَّا به.
وزعم بعضُ نحويِّى البصرة أنها دخلت في هذا الموضع كما تدخُلُ في قولهم: قد كان من حديثٍ. قال: و {مِنْ} هاهنا أحسنُ؛ لأن حرف
(3)
النهى قد دخل في قوله: {لَا أُضِيعُ} .
وأنكَر ذلك بعضُ نحويِّى الكوفةِ، وقال: لا تدخُلُ "مِنْ" ولا
(3)
تخرج إلَّا في موضع الجحدِ. وقال: قولُه: {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} . لم يُدْرِكْه الجحدُ؛ لأنك لا تقولُ: لا أضرِبُ غلامَ رجلٍ في الدارِ ولا في البيت. فتُدخِلُ "ولا"؛ لأنه لم يَنَله الجحدُ، ولكن "من" مفسِّرةٌ.
وأما قوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . فإنه يعنى: {بَعْضُكُمْ} أيها المؤمنون الذين [يذكرون الله]
(4)
قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، {مِنْ بَعْضٍ} ؛ في النُّصرة والملَّة
(5)
والدين، وحكمُ جميعِكم فيما أنا بكم فاعلٌ
(6)
حكم أحدِكم، في أنى لا أضيعُ عمل
(7)
ذكرٍ منكم ولا أُنثَى.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يُجِبْ".
(2)
سقط من: ص، ت 2، س.
(3)
زيادة من: الأصل.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يذكرونى".
(5)
في م: "المسألة".
(6)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"على".
(7)
بعده في الأصل: "عامل".
يعنى بقوله جلَّ ثناؤه: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} : [يعنى هاجَرُوا]
(1)
قومَهم من أهلِ الكفرِ وعشيرتَهم، في الله، إلى إخوانهم من أهلِ الإيمان بالله والتصديق برسوله، {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} . وهم المهاجرون الذين أخرَجهم مشركو قريشٍ من ديارِهم بمكةَ، {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}. يعنى: وأُوذوا في طاعتهم ربَّهم، وعبادتهم إياه، مخلصين له الدينَ. وذلك هو سبيلُ الله التي أذى فيها المشركون من أهلِ مكةَ المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها، [(وقُتِلُوا). يعنى: وقُتِلُوا في سبيل الله، (وقاتَلُوا) فيها]
(2)
، {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}. يعنى: لأمْحُونَّها عنهم، ولأتَفَضَّلنَّ عليهم بعَفوى ورَحمتى، ولأغْفِرَنَّها لهم، {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، {ثَوَابًا}. يَعْنى: جزاءٌ لهم على ما عملوا وأبلَوا في الله وفى سبيله، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. يَعْنى: مِن قِبَلِ اللَّهِ لهم، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}. يَعْنى: أن الله عندَه مِن جزاء أعمالهم لهم
(3)
جميعُ صنوفِه، وذلك ما لا يَبْلُغُه وَصْفُ واصفٍ؛ لأنه مما لا عينٌ رأت، [ولا أُذنٌ سمعت]
(4)
، ولا خطَر على قلبِ بشرٍ.
كما حدَّثنا [أحمدُ بنُ]
(5)
عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثنا عمِّى عبد الله بنُ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
هكذا بالإبدال. وينظر القراءات التي سيذكرها المصنف بعد.
(3)
زيادة من: الأصل، ص.
(4)
سقط من: الأصل، ص.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
وهبٍ، قال: ثنى عمرُو بنُ الحارثِ، أن أبا عُشَّانةَ المَعافريَّ حدَّثه، أنه سمع عبدَ الله بنَ عمرِو بن العاصِ يقولُ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ثُلَّةٍ
(1)
تَدْخُلُ
(2)
الجنةَ لفقراءُ المهاجرين، الذين تُتَّقى بهم المكارهُ، إذا أُمِروا سمِعوا وأطاعُوا، وإن كانت لرجلٍ منهم حاجةٌ إلى السلطانِ لم تُقضَ
(3)
حتى يَمُوتَ وهى في صدرِه، وإن الله يَدْعُو يومَ القيامةٍ الجنةَ، فتأتى بزخرفها وزينتِها، فيقُولُ: أين عبادى الذين قاتَلوا في سبيلى وقُتلوا، وأُوذوا في سبيلى، وجاهَدوا في سبيلى؟ ادخُلوا الجنةَ. فيدْخُلونها بغير عذابٍ ولا حسابٍ، وتأتى الملائكةُ فيسْجُدون ويَقُولون: ربَّنا نحن نُسبِّحُ لك الليلَ والنهارَ، ونُقَدِّسُ لك، من هؤلاء الذين آثَرْتَهم علينا؟ فيقُولُ الربُّ جلَّ ثناؤه: هؤلاء عبادى الذين قاتلوا في سبيلى، وأُوذوا في سبيلى. فتَدْخُلُ الملائكة عليهم من كلِّ بابٍ:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}
(4)
[الرعد: 24].
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} فقرأ بعضُهم: (وَقَتَلُوا وقُتِلُوا). بالتخفيف
(5)
، بمعنى: أنهم قَتَلوا من قتلوا من المشركين، [ثم قتلهم المشركون]
(6)
.
وقرأ ذلك آخرون: (وَقاتَلُوا وَقُتُلُوا). بتشديد: (قُتِّلوا)
(7)
، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين، وقتَّلهم المشركون بعضًا بعد بعضٍ، وقتلًا بعد قتلٍ.
(1)
في الأصل: "ثلاثة".
(2)
في ص، ت 1:"يدخلوا".
(3)
بعده في الأصل: "لهم".
(4)
أخرجه الحاكم في 2/ 71، 72، والبيهقى في شعب الإيمان (4259) من طريق عبد الله بن وهب به، وأخرجه أحمد في المسند 11/ 131 - 133 (6570، 6571)، وعبد بن حميد (352)، والبزار (2457)، وابن حبان (7421)، والطبراني 13/ 61 (151)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 347 من طريق أبى عشانة به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 12 إلى أبى الشيخ.
(5)
وهى قراءة شاذة، حكاها أبو حيان عن عمر بن عبد العزيز. البحر المحيط 3/ 145.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
وهى قراءة ابن كثير وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 221.
وقرأ ذلك عامةُ قرأة المدينةِ وبعضُ الكوفىين: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} . بالتخفيف
(1)
، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين وقُتِلوا.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفيين: (وَقُتِلُوا): بالتخفيفِ، (وَقاتَلُوا)
(2)
. بمعنى: أن بعضَهم قُتِل، وقاتَل مَن بَقى منهم.
والقرأةُ التي لا أسْتَجِيزُ أن أغدُوَها إحدى هاتين القراءتين، وهى:{وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} . بالتخفيف، أو:(وقُتِلوا). بالتخفيف، (وَقاتَلُوا). لأنها القراءةُ المنقولة نقل وراثةٍ، وما عَدَاهما فشاذٌّ
(3)
. وبأيِّ هاتين القراءتين اللتين ذكَرتُ أنى لا أَسْتَجِيزُ أن أعْدُوهما، قرأ قارئٌ فمصيبٌ في ذلك الصوابَ مِن القراءة؛ لاستفاضة القراءة بكلِّ واحدةٍ منهما في قرَأة الإسلام، مع اتفاق معنَييهما.
القولُ في تأويل قولِه: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: {لَا يَغُرَّنَّكَ} يا محمدُ، {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} يَعْنى: تَصَرُّفُهم في الأرضٍ وضَرْبُهم فيها.
كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: هو {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} . يقولُ: ضربُهم في البلادِ
(4)
.
فنهى الله تعالى ذكرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بضربهم في البلاد وإمهال الله إياهم، مع شركهم وجحودهم نِعَمَه، وعبادتهم غيرَه. وخرج الخطابُ بذلك
(1)
وبها قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو. السبعة الموضع السابق.
(2)
وقرأ بها حمزة والكسائى. السبعة الموضع نفسه.
(3)
وتقدم أن ابن كثير وابن عامر - وهما من السبعة - قرأ: (وقاتَلوا وقتِّلوا). فليست قراءتهما شاذة.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 845 (4673) من طريق أحمد بن المفضل به.
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به غيرُه من أتباعه وأصحابه، كما قد بيَّنَّا فيما مضَى قبلُ [مِن أشكاله
(1)
، وما اغترَّ صلى الله عليه وسلم بهم ولا خدَعوه عن شيءٍ]
(2)
من أمر الله، ولكن كان بأمرِ الله صادِعًا، وإلى الحقِّ داعيًا.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال قتادةُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} : والله ما غرُّوا نبيَّ اللهِ، ولا وكَل إليهم شيئًا مِن أَمرٍ الله، حتى قبَضه الله على ذلك
(3)
.
وأما قولُه: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} . فإنه يعنى أن تَقَلُّبَهم في البلادِ وتَصَرُّفَهم فيها مُتعةٌ يُمَتَّعُون
(4)
بها قليلًا، حتى يبلُغوا آجالَهم فتَختَرِمَهم منيَّاتُهم، {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} بعدَ مماتِهم. والمأوى: الموضعُ
(5)
الذي يَأْوُون إليه يوم القيامةِ، فيَصِيرون فيه.
ويَعنى بقوله: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} : وبئس الفراشُ والمَضْجَعُ جهنمُ.
القولُ في تأويلِ قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} .
يعنى بقوله
(6)
: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} : لكن الذين اتَّقَوُا الله بطاعتِه واتباع مرضاتِه، في العمل بما أمرَهم به، واجتنابِ ما نهاهم عنه، {لَهُمْ جَنَّاتٌ}. يعني: بساتينُ، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}. يَقُولُ: باقين فيها
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 404 - 406.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 845 (4674) من طريق يزيد به.
(4)
في الأصل، ص، ت 1:"يتمتعون".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المصير".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بذلك جل ثناؤه".
أبدًا، {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. يعنى: إنزالًا مِن اللَّهِ إياهم فيها أَنزَلَهمُوها.
ونَصَبَ {نُزُلًا} على التفسير من قوله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . كما يُقالُ: لك عندَ اللهِ جناتٌ تجرى من تحتها الأنهارُ ثوابًا. وكما يُقَالُ: هو لك صدقةً. و: هو لك هبةً.
وقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . يَعْنى: مِن قِبَل الله، ومن كرامة الله إياهم، وعطاياه لهم.
وقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} . يقولُ: وما عند الله من الحياة والكرامة وحُسن المآب، خيرٌ للأبرار مما يَتَقَلَّبُ فيه الذين كفروا، فإن الذي يَتَقَلُّبون فيه زائلٌ فانٍ، وهو قليلٌ من المتاع خسيسٌ وما عندَ اللهِ
(1)
مِن كرامته للأبرار - وهم أهل طاعته - باقي غيرُ فانٍ ولا زائلٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمعت ابن زيدٍ يقولُ في قوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} . قال: لمن يُطِيعُ اللَّهَ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن الأعمشِ، عن خيثمةَ، عن الأسود، عن عبدِ اللهِ، قال: ما من نفسٍ برَّةٍ ولا فاجرةٍ إلا والموتُ خيرٌ لها. ثم قرأ عبد الله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} . وقرأ هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} الآية
(3)
.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"خير"، ومضروب عليها في ص.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 113 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س. والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 142، وينظر ما تقدم في ص 262.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن فرَجِ بن فَضالةَ، عن لقمانَ، عن أبي الدرداءِ، أنه كان يقولُ: ما من مؤمنٍ إلا والموتُ خيرٌ له، وما من كافرٍ إلا والموتُ خيرٌ له، ومَن لم يُصَدِّقْنى فإن الله يقولُ:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} ويَقُولُ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}
(1)
.
القولُ في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
اختلف أهلُ التأويل في من عُنى بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُنى بها أَصْحَمةُ النجاشيُّ، وفيه أُنزِلت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عصام
(2)
بن روَّادِ بن الجراحِ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذليُّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيَّب، عن جابرِ بن عبدِ اللهِ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"اخْرُجوا فصَلُّوا على أخٍ لكم". فخرج
(3)
فصلَّى بنا فكبَّر أربع تكبيراتٍ، فقال:"هذا النجاشيُّ أَصْحَمةُ". فقال المنافقون: انْظُروا إلى هذا يُصَلِّي على عِلْجٍ
(4)
نصرانيٍّ لم يَرَهُ قَطُّ. فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية
(5)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (547 - تفسير) عن فرج بن فضالة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 104 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في م: "بن زياد". وينظر الجرح والتعديل 7/ 26.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
العلج: الرجل من كفار العجم. اللسان (ع ل ج).
(5)
أخرجه ابن عدى في الكامل 3/ 1171 من طريق رواد بن الجراح به.
حدَّثنا [محمدُ بنُ بشَّارٍ]
(1)
، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبى، عن قتادة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخاكم النجاشيَّ قد مات فصلُّوا عليه". قالوا: تُصَلِّى على رجلٍ ليس بمسلمٍ؟ قال: فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} . قال قتادةُ: فقالوا: فإنه كان لا يُصَلِّي
(2)
القبلة. فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
(3)
[البقرة: 115].
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} : ذُكر لنا أن هذه الآية نزَلت في النجاشيِّ وفى ناسِ من أصحابه، آمنوا بنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم اسْتَغْفَرَ للنجاشيِّ وصلَّى عليه حينَ بلَغه موتُه، قال
(4)
لأصحابه: "صلُّوا على أخٍ لكم قد مات بغير بلادكم". فقال أناسٌ من أهلِ النفاقِ: يُصَلِّي على رجلٍ مات ليس من أهل دينه؟ فأَنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاق، قال: أخْبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ
(1)
في س: "بشر".
(2)
بعده في م: "إلى".
(3)
أسباب النزول للواحدي ص 103. وتقدم في 2/ 455.
(4)
في س: "وقال".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 113 إلى المصنف وعبد بن حميد.
إِلَيْهِمْ}. قال: نزلت في النجاشيِّ وأصحابه ممن آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، واسمُ النجاشيِّ أصحمُة. [قال الثوريُّ: واسمُ النجاشيِّ أصحمةُ]
(1)
.
حدَّثنا المثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: قال عبدُ الرزاقِ: وقال ابن عيينةَ: اسمُ النجاشيِّ بالعربيةِ عطيةُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: لما صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على النجاشيِّ، طعن في ذلك المنافقون، فنزلت هذه الآيةُ:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى آخِرِها
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ ومَن معه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال:[قال آخرون]
(4)
: نزلت - يَعنى هذه الآية {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية في عبد الله بن سلامٍ ومن معه
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} الآية كلها. قال: هؤلاء يهودٌ
(6)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 144.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 144.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 113 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
سقط من: م.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 113 إلى المصنف وابن المنذر، وينظر البحر المحيط 3/ 148.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 113 إلى المصنف.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك مُسْلِمةُ أهل الكتاب كلُّهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} : من اليهود والنصارى، وهم مُسْلِمةُ أهل الكتابِ
(1)
.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآيةِ ما قال مجاهدٌ، وذلك أن الله جلَّ ثناؤه عمَّ بقوله:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} . أهلَ الكتابِ جميعًا، فلم يخصُصْ منهم النصارى دونَ اليهود، ولا اليهودَ دونَ النصارى، وإنما أخبَر أن مِن أهل الكتاب مَن يُؤمِنُ بالله، وكلا الفريقين - أعنى اليهودَ والنصارى - من أهل الكتاب.
فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ في الخبرِ الذي رويتَ عن جابرٍ وغيره أنها نزلت في النجاشيِّ وأصحابِه؟
قيل: ذلك خبرٌ في إسنادِه نَظَرٌ، ولو كان صحيحًا لا شكَّ فيه لم يَكُنْ لما قلنا في معنى الآية بخلافٍ
(2)
، وذلك أن جابرًا ومَن قال بقوله إنما قالوا: نزلت في النجاشيِّ. وقد تَنْزِلُ الآيةُ في الشئ ثم يُعَمُّ بها كلُّ مَن كان في معناه. فالآيةُ وإن كانت نزلت في النجاشيِّ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكَم به للنجاشيِّ حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشيِّ، في اتباعِهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق بما جاءهم به مِن عندِ اللهِ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك، مِن اتباع أمرِ اللهِ، فيما أمر به عباده في الكتابين؛ التوراة والإنجيل.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 846 (4684) من طريق أبى حذيفة به.
(2)
في م: "خلاف".
فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الآية:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : التوراة والإنجيل، {لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ، فيُقرُّ بوحدانيته، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أيُّها المؤمنون. يقولُ: وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ}. يَعْنى: وما أُنزِل إلى أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراةُ والإنجيلُ والزَّبُورُ، {خَاشِعِينَ لِلَّهِ}. يَعْنى: خاضعين لله بالطاعة له، مُسْتَكِينين له بها متذلِّلين.
كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني ابن زيدٍ في قوله: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} . قال: الخاشع المتذلِّلُ للهِ الخائفُ.
ونَصَب قوله: {خَاشِعِينَ} . على الحالِ مِن قوله {لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} . وهو حالٌ مما في {يُؤْمِنُ} من ذكر {مِنْ} .
{لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . يقُولُ: لا يُحرِّفون ما أنزل الله إليهم في كتبه من نعتِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فيُبدِّلونه، ولا غيرَ ذلك مِن أحكامه وحُجَجه فيه، لعرضٍ من الدنيا خسيسٍ، يُعْطَوْنه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، ولكنَّهم يَنْقادُون للحقِّ، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنزل إليهم في كتبِه، ويَنْتَهُون عما نهاهم عنه فيها، ويُؤثرون أمر الله على هوى أنفسهم.
القولُ في تأويل قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} .
يعنى جلَّ ثناؤه بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ} : هؤلاء الذين يُؤْمِنون بالله وما أُنزل إليكم وما أُنزِل إليهم، {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. يَعْنى: لهم عِوَضُ أعمالهم التي عملوها، وثوابُ طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه، {عِنْدَ
رَبِّهِمْ}. يَعْنى: مذخورٌ ذلك لهم لديه، حتى يَصيروا إليه في القيامةِ فيُوَفِّيَهم ذلك، {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وسرعةُ حسابه تعالى ذكرُه أنه لا يَخْفَى عليه شيءٌ من أعمالهم قبل أن يَعْمَلوها وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الإحصاء إبطاءٌ، فلذلك قال:{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
القول في تأويل قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} .
اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: اصبِروا على دينكم، وصابروا الكفار ورابطوهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سويدُ بن نصرٍ، قال: أخْبرَنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أنه سمعه يقولُ في قولِ اللهِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، فلا يَدَعوه لشدّةٍ ولا رخاءٍ، ولا سرَّاءَ ولا ضرَّاءَ، وأمرهم أن يُصابروا الكفارَ، وأن يُرابطوا المشركين
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . أي: اصبروا على طاعة الله، وصابِروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(2)
.
(1)
الجهاد لابن المبارك (170)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 847 (4690) من طريق المبارك بن فضالة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 114 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . يقولُ: صابِروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{اصْبِرُوا} على الطاعة، {وَصَابِرُوا} أعداء الله، {وَرَابِطُوا} في سبيل الله.
حدَّثنا يحيى بنُ أبى طالب، قال: أخْبرَنا يزيدُ، قال: أخْبرَنا جويبرٌ، عن الضحاكِ في قوله:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . قال: اصبروا على ما أُمرتم به، وصابروا العدوَّ ورابطوهم.
وقال آخرون: [معنى ذلك]
(2)
: اصبروا على دينكم، وصابِروا وَعْدى إياكم على طاعتكم لى، ورابطوا أعداءَكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني أبو صخرٍ، عن محمدِ بن كعب القُرَظِيِّ، أنه كان يقولُ في هذه الآية:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} يقولُ: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتُكم، ورابطوا عدوِّى وعدوَّكم حتى يَتْرُكَ دينَه لدينِكم
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوَّكم ورَابطوهم.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 144، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 224 من طريق معمر به.
(2)
في س: "يعنى بذلك".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 847، 848، 850 (4689، 4697، 4704) عن يونس به، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 224 من طريق ابن وهب به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 114 إلى ابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: أخْبرَنا هشامُ بن سعدٍ، عن زيدِ بن أسلمَ في قوله:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . قال: اصبروا على الجهادِ، وصابروا عدوَّكم، ورابطوا على عدوِّكم
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا مُطَرِّفُ بنُ عبدِ الله المدنيُّ
(2)
، قال: ثنا مالكٌ - يعنى ابن أنسٍ - عن زيد بن أسلمَ، قال: كتب أبو عبيدة بنُ الجراح إلى عمر بن الخطاب، يَذْكُرُ له جموعًا من الروم، وما يَتَخوَّفُ منهم، فكتب إليه عمرُ: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبدٍ مؤمنٍ من منزلة شدَّةٍ، يجعَلُ الله له بعدَها فرجًا، وإنه لن يَغْلِبَ عسرٌ يُسرين، وإن الله تبارك وتعالى يَقُولُ في كتابه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(3)
.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَرَابِطُوا} . أي: رابطوا على الصلوات، أي: انتظروها واحدةً بعد واحدةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخْبرَنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابتِ بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنى داودُ بن صالحٍ، قال: قال لى أبو سلمةَ بنُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 848، 850 (4694، 4706)، والبيهقي في الشعب (4205) من طريق جعفر بن عون به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 114 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ص: "المرنى"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المرى". وينظر تهذيب الكمال 28/ 70.
(3)
الموطأ 2/ 446، وأخرج نحوه ابن المبارك في الجهاد (217)، وابن أبي شيبة 5/ 335، 13/ 37، 38، وابن أبي الدنيا - كما في الدر المنثور 2/ 114 - ومن طريقه البيهقى في الشعب (10010)، والحاكم 2/ 301، وابن عساكر في تاريخ دمشق 25/ 477 من طريق زيد بن أسلم عن أبيه بنحوه.
عبد الرحمن: يا بن أخى، هل تَدْرِى في أيِّ شيءٍ نزلت هذه الآيةُ:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} ؟ قال: قلتُ: لا. قال: [إنه يا بنَ أخى]
(1)
لم يَكُنْ في زمانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ يُرابَط فيه، ولكنه انتظارُ الصلاة خلف الصلاةِ
(2)
.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيلٍ، عن عبد الله بن سعيدٍ المقبريِّ، عن جدِّه، عن شُرَحبيلٍ، عن عليٍّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدُلُّكم على ما يُكَفِّرُ [الله به]
(3)
الذنوب والخطايا؟ إسباغُ الوضوء على المكاره، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ، فذلك الرِّباطُ
(4)
.
حدَّثنا موسى بنُ سهلٍ الرمليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ مهاجرٍ، قال: ثنى يحيى بنُ يزيدَ، عن زيدِ بن أبى أُنَيسةَ، عن شُرَحبيلٍ، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدُلُّكم على ما يَمْحُو الله به الخطايا، ويُكفِّرُ به الذنوب؟ قال: قلنا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: "إسباغُ الوضوء في أماكنها، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط"
(5)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ، عن العلاء بن عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا
(1)
في المستدرك: "يا ابن أخى إنى سمعت أبا هريرة يقول".
(2)
الزهد لابن المبارك (408)، ومن طريقه الحاكم 2/ 301، والبيهقة في الشعب (2897)، والواحدى في أسباب النزول ص (104)، وابن عبد البر في التمهيد 20/ 224. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 113 إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
أخرجه عبد بن حميد (91)، والبزار (528)، وأبو يعلى (488)، والحاكم 1/ 132، وابن عبد البر في التمهيد 20/ 224 من طريق سعيد بن المسيب، عن علي.
(5)
أخرجه ابن حبان (1039)، والبزار (449 - كشف) من طريق زيد بن أبى أنيسة به، وأخرجه البزار (450 - كشف) من طريق الشعبي، عن جابر بنحوه.
أدُلُّكم على ما يَحُطُّ الله به
(1)
الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدرجات"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغُ الوُضوء عند المكاره، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرِّباطُ"
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، عن العلاءِ بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى التأويلات بتأويل الآية قولُ مَن قال في ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : يا أيُّها الذين صدَّقوا الله ورسوله، {اصْبِرُوا} على دينِكم وطاعة ربِّكم. وذلك أن الله جل ثناؤُه لم يَخْصُصُ من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئًا فيَجُوزَ إخراجُه من ظاهرِ التنزيل؛ فلذلك قلنا: إنه عَنَى بقوله: {اصْبِرُوا} . الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر به ونهى؛ صعبها وشديدها، وسهلها
(4)
وخفيفها. {وَصَابِرُوا} . يعنى: وصابروا أعداءكم من المشركين.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة أن تكونَ من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكونُ من واحدٍ إلا قليلًا في أحرفٍ
(1)
في ص: "فيه".
(2)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 223 من طريق أبى كريب به.
(3)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 223، 224 من طريق الحسين بن داود سنيد به، وأخرجه مسلم (251)، والترمذى (51)، وأبو يعلى (6501)، وابن خزيمة (5) من طريق إسماعيل بن جعفر به، وأخرجه مالك 1/ 161، وعبد الرزاق - كما في الدر المنثور 2/ 113 - وعنه أحمد 12/ 143، 13/ 162 (7209، 7729)، ومسلم (251)، والنسائى 1/ 89 (143)، وابن خزيمة (5)، وأبو عوانة 1/ 231، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 849 (4703) من طريق العلاء بن عبد الرحمن به.
(4)
في الأصل: "ثقيلها".
معدودة. وإذ كان ذلك كذلك، فإنما أُمر المؤمنون أن يُصابروا غيرهم من أعدائهم حتى يُظْفِرَهم الله بهم، ويُعْلِيَ كلمته، ويُخْزِى أعداءهم، وألا يكونَ
(1)
عدوُّهم أصبرَ منهم.
وكذلك قوله: {وَرَابِطُوا} . معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشركِ في سبيل الله.
وأرَى أصلَ الرِّباط ارتباط الخيلِ للعدوِّ، كما ارتبط عدوُّهم لهم خيلهم
(2)
، ثم استُعمل ذلك في كلِّ مقيمٍ في ثغرٍ يَدْفَعُ عمن وراءه من أرادهم من أعدائهم بسوءٍ، ويَحْمى عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشرٍّ، كان ذا خيلٍ قد ارتَبَطها، أو ذا رُجْلةٍ
(3)
لا مَرْكبَ له.
وإنما قلنا: معنى: {وَرَابِطُوا} : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم؛ لأن ذلك هو المعنى المعروفُ من معاني الرِّباطِ، وإنما يُوَجَّهُ الكلامُ إلى الأغلب المعروفِ في استعمال الناسِ مِن معانيه دونَ الخَفَيِّ، حتى تأتى بخلاف ذلك - مما
(4)
يُوجِبُ صرفه إلى الخَفَيِّ مِن معانيه - حجةٌ يَجِبُ التسليمُ لها، من كتاب الله عز وجل، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماعٍ من أهل التأويل.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} .
قال أبو جعفرٍ: يعنى تعالى ذكرُه: واتَّقوا الله أيها المؤمنون، فاحذروه أن
(1)
في م: "يكن".
(2)
في ص، ت 1:"حناهم"، وفى ت:2: "حيالهم"، وفى ت 3:"خبالهم".
(3)
الرجلة: المشى راجلًا. اللسان (ر ج ل).
(4)
في النسخ: "ما". والمثبت ما يقتضيه السياق.
تخالِفوا أمرَه أو
(1)
تَتَقَدَّموا على نهيه، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. يقولُ: لتُفْلِحوا فتبقوا في نعيم الأبدِ، وتُنْجِحوا في طلباتكم عنده.
كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني أبو صخرٍ، عن محمد بن كعبٍ القرظيِّ أنه كان يقولُ في قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : واتَّقونى
(2)
فيما بينى وبينكم، لعلكم تُفلِحون غدًا إذا لَقِيتُموني
(3)
.
تمَّ التفسيرُ تفسيرُ سورة "آل عمران"
والحمدُ لله ربِّ العالمين
(1)
في م: "و".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"اتقوا الله".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 851، (4709، 4711) عن يونس به، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 20/ 224 من طريق ابن وهب به. وهو من تمام الأثر المتقدم في ص 333.
القولُ في تفسير السورة التي يُذكر فيها النساءُ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} .
قال أبو جعفر: يعنى جلَّ ثناؤُه بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . احْذَروا أيُّها الناسُ ربَّكم في أن تُخالفوه فيما أمركم أو فيما نهاكم، فيُحِلَّ بكم مِنْ عقوبته ما لا قبل لكم به، ثم وصف تعالى ذكرُه نفسه بأنه المتوحِّدُ بخلقِ جميع الأنامِ من شخصٍ واحدٍ، وعرَّف عبادَه كيف كان مبتدأُ انتشائِه ذلك من النفس الواحدة
(1)
، مُنَبِّهَهم بذلك على أن جميعهم بنو رجلٍ واحدٍ وأم واحدةٍ، وأن بعضهم من بعضٍ، وأن حقَّ بعضهم على بعضٍ واجبٌ وجوبَ حقَّ الأخ على أخيه؛ لاجتماعهم في النسب إلى أبٍ واحدٍ وأمِّ واحدةٍ، وأن الذي يَلْزَمُهم مِن رعاية بعضهم حقَّ بعض - وإن بُعد التلاقى في النسب إلى الأب الجامع بينَهم، مثلُ الذي يَلْزَمُهم مِن ذلك في النسب [إلى الأب]
(2)
الأدنى، وعاطفًا بذلك بعضهم على بعضٍ، ليتناصفوا ولا يَتَظالموا، وليَبْذُلَ القويُّ منهم من نفسه للضعيف حقَّه بالمعروفِ على ما ألزمه الله له، فقال:{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . يعنى: من آدم عليه السلام.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضلٍ، قال: ثنا
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"و".
(2)
ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
أَسْباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما خَلْقُكم من نفسٍ واحدةٍ فمن آدم
(1)
.
حدَّثنا
(2)
بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . يَعْنى: آدم صلى الله عليه وسلم
(3)
.
حدَّثنا [سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى]
(4)
، عن سفيان، عن رجلٍ واحدٌ
(5)
، عن مجاهدٍ:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . قال: آدمُ
(6)
.
ونظيرُ قوله: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، والمعنيُّ به رجلٌ، قول الشاعرِ
(7)
:
أبوك خليفةٌ ولدته أخرى
…
وأنت خليفةٌ ذاك الكمالُ
فقال: ولدته أخرى. وهو يُريدُ الرجل، فأنَّث للفظ الخليفة، وقال تعالى ذكرُه:{مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . لتأنيثِ النفس، والمعنى: من رجلٍ واحدٍ، ولو قيل:"من نفس واحدٍ". فأُخْرِج اللفظُ
(8)
على التذكير للمعنى كان صوابًا.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} .
يعنى بقوله جل ثناؤه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : وخلق من النفس الواحدة زوجها، يعنى بالزوج: الثاني لها. وهو فيما قال أهلُ التأويل، امرأتُها حواءُ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 852 (4714) من طريق أحمد بن المفضل به.
(2)
في ت 2: "كما حدَّثنا محمد بن الحسين قال حدَّثنا".
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 852 عقب الأثر (4714)، 5/ 1630 معلقا.
(4)
في س: "بشر بن معاذ قال حدَّثنا يزيد".
(5)
تفسير سفيان ص 85.
(6)
ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
تقدم في 5/ 362.
(8)
ليست في: الأصل.
[ذكرُ مَن قال ذلك]
(1)
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . قال: حوّاءُ مِن قُصَيْرَى
(2)
آدم وهو نائمٌ، فاستيقظ فقال: أثا. بالنَّبطيَّة امرأةٌ
(3)
.
حدَّثني المثَنّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : يَعْنى حوّاء، خُلِقت مِن آدمَ من ضِلَعٍ مِن أضلاعه
(5)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمَّادٍ، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: أَسْكن آدمُ الجنةَ، فكان يمشى فيها وَحْشًا ليس له زوجٌ يَسْكُنُ إليها، فنام نومةٌ فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأةٌ قاعدةً، خلقها الله من ضِلعِه، فسألها: ما أنت؟! قالت: امرأَةٌ. قال: ولم خُلِقْتِ؟ قالت: لتَسْكُنَ إليَّ
(6)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: أَلْقَى على آدم صلى الله عليه وسلم السِّنَةَ - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن
(1)
زيادة من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
القُصَيْرى: أسفل الأضلاع، وقيل: هي الضلع التي تلى الشاكلة بين الجنب والبطن. تاج العروس (ق ص ر).
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 104، وهو في تفسير مجاهد ص 265، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 853، (4719)، 5/ 1630، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 116 إلى عبد بن حميد وابن أبى شيبة وابن المنذر.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 105.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 105. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1631 من طريق يزيد به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 85 (372) من طريق عمرو بن حماد به. وتقدم تخريجه في 1/ 548.
عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخَذ ضِلَعًا من أضلاعه مِن شِقِّه الأيسر، ولأَم مكانه لحمًا
(1)
، وآدم نائمٌ لم يَهْبُبْ مِن نومتِه، حتى خلَق اللهُ مِن ضِلَعِه تلك زوجته حَوّاءَ، فسواها امرأةً ليَسْكُنَ إليها، فلما كشَفَ
(2)
عنه السِّنةَ وهَبَّ مِن نومتِه، رآها إلى جنبِه، فقال - فيما يَزْعُمون والله أعلم -: لحمى ودَمى وزوجتى. فسكن إليها
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : جَعَل مِن آدمَ حوّاءَ
(4)
.
وأما قولُه: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} . فإنه يعنى: ونشر منهما؛ يعنى من آدم وحواء عليهما السلام رجالًا كثيرًا ونساءً قد رآهم، كما قال جل ثناؤُه:{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4]. يقالُ منه: بثَّ الله الخلقَ، وأبَثَّهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّل، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} : وبثَّ: خلَق
(5)
.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} :
اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامَّة قرأة أهل المدينةِ والبصرةِ:
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3:"كشفت".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 104. وتقدم تخريجه ضمن حديث طويل في 1/ 549.
(4)
بعده في الأصل: "صلوات الله عليه".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 852 (4715، 4716) من طريق أحمد بن المفضل به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 853 (4720) من طريق أحمد بن المفضل به.
(تَسَّاءَلُونَ) بالتشديد
(1)
، بمعنى [تَتَساءَلون، ثم أدغم]
(2)
إحدى التاءين في السين، فجعلهما سينًا مشددةً. وقرَأه بعضُ قرأة الكوفة:{تَسَاءَلُونَ} بالتخفيف
(3)
، على مثالِ تَفَاعَلون.
وهما قراءتان معروفتان، ولغتان فَصيحتان، أعنى التشديد والتخفيف في قوله:{تَسَاءَلُونَ} . فبأيِّ ذلك قرأ القارئُ أصاب الصواب فيه؛ لأن معنى ذلك بأيِّ وجْهَيه قُرِيء غيرُ مختلفٍ.
وأما تأويلُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} . أيُّها الناسُ، الذي إذا سأل بعضُكم بعضًا سأل به، فقال السائلُ للمسئول: أسألُك بالله، وأَنْشُدُك بالله، وأعزِمُ عليك بالله. وما أشبه ذلك، يقولُ تعالى ذكرُه: فكما تعظِّمون أيُّها الناسُ ربَّكم بألسنتكم، حتى تَرَوا أن مَن أعطاكم عهدَه فأَخْفَرَكُمُوه
(4)
، فقد أتى عظيمًا، فكذلك فعظِّموه بطاعتكم إياه فيما أمركم به
(5)
، واجتنابكم ما نهاكم عنه،، واحْذَروا عقابه في
(6)
مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه.
كما حدَّثنى المُثَنّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبِرٍ، عن الضحّاكِ في قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} . قال: يَقُولُ: اتقوا الله الذي به تَعَاقدون وتَعاهَدون
(7)
.
(1)
قرأ بذلك ابن كثير ونافع وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 226.
(2)
في الأصل: "تتساءلون به ثم يدغم".
(3)
قرأ بذلك عاصم وحمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص 226.
(4)
أخفر: نقض عهده، يقال: أخفر الذمة، إذا لم يف بها وانتهكها. تاج العروس (خ ف ر).
(5)
ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 179.
حدَّثني المُثَنّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} . يَقُولُ: اتقوا الله الذي به تَعاقَدون وتَعاهَدون
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجّاجٌ، عن [ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه]
(2)
، عن [الرَّبيع بن أنسٍ بمثله.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال]
(3)
ابن عباسٍ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ} . قال: تعاطفون به
(4)
.
وأما قولُه: {وَالْأَرْحَامَ} . فإن أهل التأويل اختلَفوا في تأويله؛ فقال بعضُهم: معناه واتقُوا الله الذي إذا سألتم بينكم، قال السائلُ للمسئول: أسألُك به وبالرَّحم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن إبراهيم:(اتَّقُوا اللَّهَ الذي تساءلُونَ به والأرحام)
(5)
. [يَقُولُ: اتقوا الله الذي تعاطفون بهِ. (والأرحام)]
(6)
، يقول: الرجلُ يَسْأَلُ بالله وبالرحم
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 54 (4725) من طريق أبى جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى عبد بن حميد.
(2)
في الأصل: "أبى جعفر".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 116 إلى المصنف، وفيه:"تعاطون به".
(5)
هذا الأثر وما بعده على قراءة من قرأ بكسر الميم من قوله: {وَالْأَرْحَامَ} . وستأتى.
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
أخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة ص 151 (140) من طريق منصور به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: هو كقول الرجلِ: أسألك بالله أسألُكَ
(1)
بالرحم، يَعنى قوله:(اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ به وَالأَرْحَامِ)
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:(اتَّقُوا الله الذي تَسَاءَلُونَ بِه والأَرْحَامِ). قال: يَقولُ: أسألُك بالله وبالرحم"
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن مُغيرة، عن إبراهيمَ: هو كقولِ الرجلِ: أسألُك بالرحمِ.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:(اتَّقُوا اللَّهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِه والأَرْحَامِ). قال: يَقُولُ: أسألك بالله وبالرحم
(4)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا الحمّانيُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن منصورٍ أو مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في قوله:(اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِه والأَرْحَامِ). قال: هو قولُ الرجل: أسألك بالله وبالرَّحِمِ.
حدَّثني المُثَنّى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخْبرَنا ابن المُبَارَكِ، عن مَعْمَرٍ، عن الحسن، قال: هو قولُ الرجلِ: أَنْشُدُك بالله وبالرحمِ
(4)
.
(1)
في ت 2: "و".
(2)
تفسير سفيان ص 85.
(3)
تفسير سفيان ص 85، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 803 (4723) من طريق عبد الرحمن بن مهدى، وأخرجه ابن المبارك في البر والصلة ص 151 (141) عن الثورى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى ابن المنذر.
(4)
البر والصلة لابن المبارك ص 151 (142)، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 145 عن معمر به.
قال أبو جعفرٍ: وعلى هذا التأويل قرأ
(1)
بعضُ مَن قرأ قوله: (والأرْحامِ) بالخفض، عطفًا بالأرحام على الهاء التي في قوله:{بِهِ}
(2)
. كأنه أراد: واتقوا الله الذي تَسَاءَلون به وبالأرحام. فعطف بظاهر على مكنيٍّ مخفوضٍ، وذلك غيرُ فصيحٍ من الكلام عند العرب؛ لأنها [لا تَنْسُقُ بظاهرٍ على مَكْنيٍّ]
(3)
في الخفضِ إلا في ضرورة شعرٍ، وذلك لضيق الشِّعرِ. وأما الكلام فلا شيء يضطرُّ المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والردئ في الإعراب منه، ومما جاء في الشعر من ردِّ ظاهرٍ على مكنيٍّ في حال الخفض قولُ الشاعر
(4)
:
نُعَلِّقُ
(5)
في مثل السَّوارِى سُيوفنا
…
وما بينها والكَعْب [غَوْطٌ نَفَائِفُ]
(6)
فعطف بالكعب، وهو ظاهرٌ، على الهاءِ والألف في قوله:"بينها". وهى مكنيةٌ.
وقال آخرون: بل
(7)
تأويل ذلك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} . واتقوا الأرحام أن تَقْطَعوها.
(1)
في ص، م، ت 3، س:"قول".
(2)
هي قراءة حمزة. السبعة لابن مجاهد ص 226.
(3)
تنسق أي تعطف، فالنسق أو الرَّد: العطف، والمكنى: الضمير. وينظر مصطلحات النحو الكوفى ص 36، 60، ومعاني القرآن للفراء 1/ 252، 253.
(4)
هو مسكين الدارمى، والبيت في ديوانه (مجموع) ص 53. وينظر الحيوان 6/ 494، ومعاني القرآن للفراء 1/ 253، وخزانة الأدب 5/ 125.
(5)
في الحيوان: "تعلق".
(6)
في الحيوان: "منا تنائف". والغوط: المطمئن الواسع من الأرض. تاج العروس (غ و ط)، والنفنف: الهواء بين الشيئين. تاج العروس (غ و ط)، (نفنف).
(7)
ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بن المُفَضَّل، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السُّدِّي في قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . يَقُولُ: اتقُوا الله واتقوا الأرحام لا تقطعوها
(1)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(2)
. ذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان ما يَقُولُ: "اتقوا الله وصِلُوا الأرحامَ، فإنه أبقى لكم في الدنيا، وخيرٌ لكم في الآخرة"
(3)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبى طلحة، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . يَقُولُ: اتقوا الله الذي تَسَاءلون به، واتقوا الله في الأرحام فصِلُوها
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن منصورٍ، عن الحسنِ في قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . قال: اتقوا الله الذي تَسَاءَلون به، واتَّقوه في الأرحام
(5)
.
حدَّثنا سفيانُ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن خُصيفٍ، عن عِكْرِمَةَ في قولِ
(1)
ينظر التبيان 2/ 99.
(2)
بعده في س: "القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 854 (4726) من طريق أبى صالح به.
(5)
أخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة ص 151 (139 - زيادات المروزى) عن هشيم به.
الله عز وجل: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . قال: اتَّقوا الأرحام أن تَقْطَعوها
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يَحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ في قوله:(اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامِ). قال: هو قولُ الرجلِ: أنشدك باللهِ والرَّحِم
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يَحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اتقُوا الله وصلُوا الأرحام"
(3)
.
حدَّثنى المُثَنّى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . قال: اتقُوا الأرحام أن تَقْطَعوها
(4)
.
حدَّثنى المُثَنّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنى أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحّاك في قوله:{الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . قال: يَقُولُ: واتَّقُوا الله في الأرحام فصِلُوها
(5)
.
حدَّثني المُثنّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع:(اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ). قال: يَقُولُ: واتَّقُوا الله في الأرحامِ فصِلُوها
(6)
.
(1)
تفسير سفيان ص 85. وأخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة ص 151 (137 - زيادات المروزى)
من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى ابن المنذر.
(2)
هذا الأثر موضعه قراءة من قرأ بالكسر في قوله: {وَالْأَرْحَامَ} . ولعل وروده هاهنا خطأ، وينظر ما تقدم ص 344.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 145.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 179.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 854 عقب أثر (4726) معلقًا، وذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 179.
(6)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 99، وابن كثير في تفسيره 2/ 179.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، عن [عبد الرحمن]
(1)
بن أبى حمادٍ، [وأخْبرَنا أبو جعفرٍ]
(2)
الخَزّازُ، عن جويبرٍ، عن الضحّاكِ، أن ابن عباسٍ كان يَقْرَأُ:{وَالْأَرْحَامَ} . يَقُولُ: اتقوا الله لا تَقْطَعوها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: يقولُ اتَّقُوا الأرحام
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الرَّبيع، قال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} : أَن تَقْطَعوها
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [وَالْأَرْحَامَ} . قال: يقولُ: اتقوا الله الذي تساءلون به]
(6)
واتَّقُوا الأرحام أن تَقْطَعُوها .. وقرأ: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}
(7)
[الرعد: 21].
قال أبو جعفرٍ: وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبًا، بمعنى واتَّقُوا الله الذي تساءلون به، واتقُوا الأرحام أن تَقْطَعوها، عطفا بالأرحام في إعرابها بالنصب على اسم الله تعالى ذكره.
(1)
في س: "عبد الله".
(2)
في الأصل: "قال حدَّثني أبو حفص".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 100، وابن كثير في تفسيره 2/ 179، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى المصنف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى المصنف.
(5)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 100، وابن كثير في تفسيره 2/ 179.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 100.
قال: والقراءةُ التي لا أَسْتَجِيزُ لقارئ أن يقرأ غيرَها في ذلك النصبُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} .
بمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها؛ لما قد بينّا من أن العرب لا تَعْطِفُ بظاهرٍ من الأسماء على مكنيٍّ في حال الخفض إلا في ضرورة شعرٍ، على ما وصَفْتُ قبلُ.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
(1)}.
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكرُه بذلك: إن الله لم يَزَلْ عليكم رقيبًا، ويَعْنى بقوله:{عَلَيْكُمْ} : على الناس الذين قال لهم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} .
و [إنما قال {عَلَيْكُمْ} وهو يعنى الذين خوطبوا بالآية ومن قد مضى من بنى آدم؛ لأن]
(1)
المخاطَب والغائب إذا اجتمَعا في الخبر، فإن العرب تُخْرِج الكلامَ على الخطاب، فتقولُ - إذا خاطَبَتْ رجلًا واحدًا أو جماعةً فعَلتْ هي وآخرون غُيَّبٌ معهم فعلًا -: فعلتم كذا، وصنعتم كذا.
ويعنى بقوله: {رَقِيبًا} : حفيظًا مُحْصِيًا عليكم أعمالَكم، مُتَفَقِّدًا رعايتكم حرمة أرحامكم وصِلتَكم إياها، أو قَطْعَكُمُوها وتضييعَكم حرمتَها.
كما حدَّثنا المُثَنّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} له: حفيظًا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخْبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: سمعت ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . على أعمالكم، يَعْلَمُها ويَعْرفُها
(3)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 854 (4727) من طريق أبى حذيفة به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى المصنف.
ومنه قولُ أبى دُوادٍ الإيادِيِّ
(1)
:
كمقاعِد الرُّقباء للضُّـ
…
ـــرباءِ أيديهم نواهِدْ
(2)
القولُ في تأويل قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} .
قال أبو جعفرٍ: يَعنى بذلك تعالى ذكرُه أوصياء اليتامى، يَقُولُ لهم: وأعطُوا يا معشَرَ أوصياءِ اليتامى اليتامى
(3)
أموالهم، إذا هم بلغوا الحُلُمَ، وأُويس منهم الرُّشْدُ، {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} يَقُولُ: ولا تَسْتَبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله جل وعز:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . قال: الحلال بالحرام
(4)
.
حدَّثنى المُثَنّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، -، عن مجاهدٍ مثله
(5)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . قال: الحرام مكانَ الحلال
(5)
.
(1)
ديوانه ص 307 (مطبوع ضمن دراسة في الأدب العربى) لغرنباوم.
(2)
الرقباء جمع رقيب: وهو الذي يعقد أمينا المراقبة لاعبى الميسر. والضرباء: المتياسرون. والنواهد: المرتفعة. تاج العروس (ر ق ب)، (ض ر ب)، (ن هـ د).
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
تفسير مجاهد ص 265، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 855 (4733) من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
تفسير سفيان ص 85، 86 ومن طريقه البيهقى في الشعب (1184). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
قال أبو جعفرٍ: ثم اختلف أهلُ التأويلِ في صفة تبدُّلهم الخبيث
(1)
بالطَّيبِ الذي نُهُوا عنه ومعناه؛ فقال بعضُهم: كان أوصياءُ اليتامى يَأْخُذون الجيدَ مِن مالِهم
(2)
والرفيعَ منه، ويجعلون مكانه لليتيم الردئ والخسيسَ، فذلك تبديلُهم الذي نهاهم الله تعالى عنه.
ذكرُ مِن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن مُغيرة، عن إبراهيمَ:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . قال: لا تُعْطِ زَيْفًا وتأخذ جيدًا
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن سفيان، عن السديِّ، وعن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدٍ بن المسيبِ، ومَعْمَرٍ عن الزهريِّ، قالوا: يُعْطِى مَهْزولًا ويَأْخُذُ سمينًا.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن الضحاك، قال: لا تُعْطِ فاسدًا وتَأْخُذَ جيدًا
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أَسْباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} : كان أحدُهم يَأْخُذُ الشاةَ السمينةَ مِن غنمِ
(1)
بعده في الأصل: "كان".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ماله".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 (4737) من طريق يحيى بن يمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى ابن المنذر.
(4)
قول السدى في تفسير سفيان ص 86، وقول سعيد أخرجه ابن أبي حاتم 3/ 855 (4736) من طريق يحيى بن يمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى ابن المنذر. وقول الزهرى أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 855 عقب أثر (4736) معلقًا. وقول الضحاك في تفسير سفيان ص 86.
اليتيم، ويَجْعَلُ
(1)
مكانَها الشاةَ المهزولة، ويَقُولُ: شاةٌ بشاةٍ. ويَأْخُذُ الدرهم الجيدَ ويَطْرَحُ مكانَه الزيفَ، ويَقُولُ: درهمٌ بدرهمٍ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تَسْتَعْجِلِ الرزقَ الحرامَ وتَأْكُلُه قبل أن يَأتيَك الذي قد قُدِّر لك من الحلال.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن سفيانَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . قال: لا تَعْجَلْ بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلالُ الذي قُدِّر لك
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ عن سفيانَ، عن إسماعيل، عن أبي صالحٍ مثله
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك كالذى حدَّثني يونسُ بنُ عبد الأعلى، قال: أخْبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . قال: كان أهلُ الجاهلية لا يُورِّثون النساء ولا يُوَرِّثون الصغارَ، يَأْخُذُه الأكبرُ، وقرأ:{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]. قال: إذا لم يَكُنْ لهن
(5)
شيءٌ، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} لا [تُوَرِّثُونَهم شيئًا]
(6)
، قال: فنصيبُه من الميراث
(1)
بعده في ص، ت 2، س:"فيها".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 156 (4738) من طريق أحمد بن المفضل به.
(3)
أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (1184) من طريق أبى كريب به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 855 (4732) من طريق يحيى بن يمان به، وفى 3/ 855 (4734) من طريق يحيى بن يمان عن سفيان عن أبي صالح.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لهم".
(6)
في ص، م، ت 3:"يورثونهم".
طيبٌ، وهو للذى أخَذه خبيثٌ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوال بتأويل هذه الآية قولُ مَن قال: تأويلُ ذلك: ولا تَتَبدَّلوا أموالَ أيتامكم - أيُّها الأوصياءُ - الحرام عليكم، الخبيثَ لكم، فتأخُذوا رفائعَها وجيادَها وخيارَها، بالطيبِ الحلالِ لكم من أموالكم [وتجعلوا]
(2)
الردئ الخسيسَ بدلًا منه. وذلك أن تَبَدُّلَ الشئِ بالشئِ في كلام العربِ، أَخْذُ شيءٍ مكان آخر غيره، يُعْطِيه المأخوذ منه أو يَجْعَلُه مكان الذي أخَذه، فإذ كان ذلك معنى التَّبَدُّلِ والاستبدال، فمعلومٌ أن الذي قاله ابن زيدٍ - من أن معنى ذلك هو أخذُ أكبر ولد الميتِ جميعَ مالِ ميْتِه ووالده دونَ صغارِهم إلى ماله - قولٌ لا معنى له؛ لأنه إذا أخذ الأكبرُ من ولدِه جميع مالِه دونَ الأصاغر منهم، فلم يَسْتَبْدِلْ مما أَخَذ شيئًا، فما التبدُّلُ الذي قاله جل ثناؤه:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . ولم يبذُل الآخِذُ مكان المأخوذ بدلًا؟
وأما الذي قاله مجاهدٌ وأبو صالحٍ من أن معنى ذلك: لا تَتَعَجَّل الرزقَ الحرامَ قبلَ مجئ الحلال. فإنهما أيضًا إن لم يَكُونا أرادا بذلك نحو الذي رُوى عن ابن مسعودٍ أنه قال: إن الرجلَ ليُحْرَمُ الرزقَ بالمعصيةِ يَأْتيها. ففسادُه نظيرُ فسادِ قول ابن زيدٍ؛ لأن من اسْتَعْجَل الحرام فأكله، ثم آتاه الله رزقَه الحلال فأكله
(3)
، فلم يُبَدِّلُ شيئًا مكانَ شيءٍ. وإن كانا أرادا بذلك أن الله جل ثناؤه نهى عباده أن يَسْتَعْجِلُوا الحرام، فيَأْكُلوه قبل مجئ الحلالِ، فيكون أكلُهم ذلك سببًا لحرمان الطيِّب منه،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى المصنف.
(2)
سقط من: الأصل، ص، ت 1، س.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
فذلك وجهٌ معروفٌ ومذهبٌ مقولٌ
(1)
يَحْتَمِلُه التأويلُ. غير أن [أشبه من]
(2)
في ذلك بتأويل الآية ما قلنا؛ لأن ذلك هو الأظهرُ من معانيه؛ لأن الله جلّ ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصةِ أموال اليتامى وأحكامها، فَلأنُ
(3)
يكونُ ذلك من جنس حكم أوّل الآية [وآخرِها، أولى]
(4)
فأخرَجها مِن أَن يَكُونَ مِن غيرِ جنسِه.
القولُ في تأويل قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} .
قال أبو جعفر: يعنى بذلك تعالى ذكرُه: ولا تَخْلِطوا أموالهم - يَعْنى أموال اليتامى - بأموالكم فتأكُلوها مع أموالكم.
كما حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، [قال: ثنا عبدُ الرحمن]
(5)
قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} . [قال: أموالهم مع أموالكم
(6)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: نا أحمدُ، قال نا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ] (5). يَقُولُ: لا تَأْكُلوا أموالكم وأموالهم، تَخْلِطوها فتَأْكُلُوها جميعًا
(7)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن مباركٍ، عن
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"معقول".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الأشبه في".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فآخرها".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 عقب الأثر (4739) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقى في الشعب.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 (4739) من طريق أحمد بن المفضل به.
الحسنِ، قال: لما نزَلت هذه الآيةُ في أموال اليتامى، كرهوا أن يُخالطوهم، وجعَل وليُّ اليتيم يَعْزِلُ مالَ اليتيم عن مالِه، فشكَوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللهُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]. قال: فخالَطوهم واتقَوا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا
(2)}.
قال أبو جعفرٍ: يَعْنى بذلك عز ذكرُه: إن أكلَكم أموالَ أيتامِكم مع أموالِكم حُوبٌ كبيرٌ، والهاء في قوله {إِنَّه} دالَّةٌ على اسم الفعلِ، أَعْنى الأكلَ.
وأما الحُوبُ: فإنه الإثم. يقالُ منه: حاب الرجلُ يحوبُ حُوبًا وحَوْبا وحيابةً. ويُقالُ منه: قد تحوّب الرجلُ من كذا
(2)
. إذا تأثَّم منه، ومنه قولُ أميةَ بن الأَسْكَرِ الليثيِّ
(3)
:
وإِنَّ مُهَاجِرَين تَكنَّفَاهُ
…
غَدَاتَئِذٍ لقد خَطِئَا وحابَا
ومنه قيل: نزَلنا بحَوبةٍ مِن الأرضِ، وبحِيبةٍ من الأَرضِ. إذا نزَلوا بموضعِ سُوءٍ منها. والكبيرُ: العظيمُ، فمعنى ذلك: إن أكلَكم أموالَ اليتامى مع أموالِكم إثمٌ عندَ اللهِ عظيمٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في الحُوبِ، قال أهلُ التأويلِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى المصنف.
(2)
بعده في الأصل: "وكذا".
(3)
تقدم في 1/ 722.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو [وعمرُو]
(1)
بنُ عليٍّ، قالا: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ في قول اللهِ عز وجل:{حُوبًا كَبِيرًا} . قال: إثمًا
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} . قال: إثمًا عظيمًا
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضّلِ، قال: ثنا أَسْبَاطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} له قال: أما حُوبًا فإثمًا
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يَحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ:{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} . قال: إثمًا
(5)
.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} . يَقُولُ: ظلمًا كبيرًا
(6)
.
(1)
سقط من: ت 2، س.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 عقب أثر (4740) معلقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 857 (4743) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 عقب أثر (4740) من طريق أسباط به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 145.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 181 عن قتادة بلفظ: إثما كبيرًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: سمِعت ابنَ زيدٍ يَقُولُ في قولِه: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} . قال: ذنبًا كبيرًا، قال وهى لأهلِ الإسلامِ
(1)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا قرةُ بنُ خالدٍ، قال: سمِعت الحسنَ يَقُولُ: {حُوبًا كَبِيرًا} . قال: إثمًا واللهِ عظيمًا
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: وإن خفتم يا معشرَ أولياءِ اليتامى ألا تُقْسِطُوا في صَدَاقِهنَّ، فتَعْدِلُوا فيه، وتَبْلُغوا بصَداقِهن صَدُقات أمثالِهنّ، فلا تَنْكِحُوهنَّ، ولكن انْكِحوا غيرَهنَّ مِن الغرائبِ اللواتى أحلَّهنَّ الله لكم وطيَّبَهنَّ، من واحدةٍ إلى أربعٍ، فإن خِفتم أن تجُورُوا - إذا نكَحتم من الغرائبِ أكثرَ من واحدةٍ - فلا تعدِلوا، فانْكِحُوا منهنَّ واحدةً، أو ما ملَكتم
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا ابن المُباركِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزهريِّ، عن عُروةَ، عن عائشةَ:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . فقالت: يا بنَ أختى، هي اليتيمةُ تَكُونُ في حجرِ وليِّها، فيَرْغَبُ في مالِها وجمالِها، ويُرِيدُ أن يَنْكِحَها بأدنى من سُنَّةِ صداقها، فنُهوا أن يَنْكِحُوهُنَّ إلا أن يُقْسِطُوا لهنَّ في
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 عقب أثر (4740) معلقًا، وابن كثير في تفسيره 2/ 181.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 856 عقب أثر (4740) معلقًا، وابن كثير في تفسيره 2/ 181.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ملكت أيمانكم".
إكمالِ الصداقِ، وأُمِرُوا أَن يَنْكِحوا ما سواهنَّ مِن النساءِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرَنى يونسُ بْنُ يزيدَ، عن ابن شِهابٍ، قال: أخبَرني عُروةُ بنُ الزبيرِ، أنه سأَل عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن قولِ اللهِ تبارك وتعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . قالت: يا بنَ أختى، هذه اليتيمةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وليِّها، تُشارِكُه في مالِه، فيُعْجِبُه مالُها وجمالُها، فيُريدُ وليُّها أن يَتَزَوَّجَها بغيرِ أن يُقْسِطَ في صداقِها، فيُعْطِيَها مثلَ ما يُعطِيها غيرُه؛ فنُهوا
(2)
أن يَنْكِحُوهن إلا أن يُقْسِطُوا لهنَّ، ويَبْلُغُوا بهنَّ أعلى [سُنتهنَّ في]
(3)
الصداقِ، وأُمروا أن يَنْكِحُوا ما طاب لهم مِن النساءِ سواهنَّ
(4)
.
قال يونسُ بنُ يزيدَ، قال ربيعةُ في قولِ الله عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . قال: يَقُولُ: اتْرُكُوهن فقد أحلَلت لكم أربعًا
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ الجُنَيدِ، [قال: ثنا]
(6)
سعيدُ بنُ مَسْلمةَ، [قال: أنبأنا]
(7)
إسماعيلُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 145 عن معمر به.
(2)
في الأصل: "منعوا".
(3)
في الأصل: "سبيلهن من".
(4)
أخرجه مسلم (3018)، وأبو داود (2068)، والنسائى (3346)، وابن حبان (4073)، والبيهقى 7/ 142 من طريق ابن وهب به، وأخرجه البخارى (5064) من طريق يونس به، وأخرجه البخارى (2494، 2673، 4574، 5092، 6965)، ومسلم (3018)، والنسائى (11090 - كبرى)، والبيهقى 7/ 141، والبغوى في تفسيره 2/ 160 من طريق الزهرى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه أبو داود (2068)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 857، 858 (4745، 4749)، والبيهقى 7/ 142 من طريق ابن وهب به.
(6)
في ت 1: "وأبا"، وفى م:"وأبو"، وفى ص:"وأخبرنا"، وفى ت 2، ت 3، س:"أخبرنا". تهذيب الكمال 11/ 64.
(7)
في ص: "قانا"، وفى ت 2، ص:"فأنا"، وفى م:"قالا أنبأنا". وما أثبتاه هو الصواب. وينظر تهذيب الكمال 11/ 64.
ابن أُميةَ، عن ابن شهابٍ، عن عُروةَ بن الزبيرِ، قال: سأَلتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين، قلت: يا أمَّ المؤمنين، أرأيتِ قولَ اللهِ عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . قالت: يا بنَ أختى، هي اليتيمةُ تَكُونُ في حِجْرِ وليِّها، فيَرْغَبُ في جمالِها ومالِها، ويُريدُ أن يَتَزوَّجَها بأدنى مِن سُنَّةِ صَداقِ نسائها، فنُهوا عن ذلك أن يَنْكِحُوهُنَّ إلا أن يُقْسِطُوا، فيُكْمِلوا لهنَّ الصَّداقَ، ثم أُمِرُوا أَن يَنْكِحُوا سِوَاهُنَّ مِن النساءِ إن لم يُكْمِلُوا لهنَّ الصَّداقَ.
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني الليثُ، قال: ثني يونسُ، عن ابن شهابٍ، قال: ثنى عُروةُ بنُ الزُّبيرِ، أنه سأَل عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكرَ نحوَ حديث يونسَ عن ابن وَهْبٍ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ، عن عُروَةَ، عن عائشةَ، مثلَ حديثِ ابن حُمَيدٍ عن ابن المباركِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن هشامٍ، عن أبيه، عائشةَ، قالت: نزَلت - يعنى قولَه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية - في اليتيمةِ تَكُونُ عندَ الرجلِ وهى ذاتُ مالٍ، فلعله يَنْكِحُها لمالها وهى لا تُعْجِبُه، ثم يُضِرُّ بها، ويُسيءُ صُحبتَها، فوُعِظ في ذلك
(2)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 145.
(2)
أخرجه البخارى (4573، 4600، 5098، 5128، 5131)، ومسلم (3018) /7، 8، 9، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 857 (4744)، والبيهقى 7/ 142، والواحدى في أسباب النزول ص 105 من طريق هشام به.
قال أبو جعفرٍ: فعلى هذا التأويل جوابُ قولِه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} . قولُه: {فَانكِحُوا} .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: النهيُ عن نكاحِ ما فوقَ الأربعِ [من النساءِ حذارا]
(1)
على أموالِ الأيتامِ أن يُتْلِفَها أولياؤهم. وذلك أن قريشًا، كان الرجلُ منهم يَتَزوَّجُ العشْرَ من النساءِ، والأكثرَ والأقلَّ، فإذا صار مُعْدِمًا، مال على مالِ يتيمِه الذي في حِجْرِه فأنفَقه أو تزوَّج به، فنُهوا عن ذلك، وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموالِ أيتامِكم أن تُنْفِقوها فلا تَعْدِلُوا فيها، مِن أجلِ حاجتِكم إليها، لما يَلْزَمُكم مِن مُؤَنِ نسائِكم، فلا تُجاوِزوا فيما تَنْكِحون مِن عددِ النساءِ على أربعِ، وإن خِفْتم أيضًا مع الأربعِ، ألا تَعْدِلوا في أموالِهم، فاقْتَصِروا على الواحدةِ، أو على ما مَلَكت أيمانُكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، قال: سمِعت عِكرمةَ يَقُولُ في هذه الآيةِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . قال: كان الرجلُ مِن قريشٍ تَكونُ عندَه النِّسْوةُ ويَكونُ عندَه الأيتامُ، فيَذهَبُ مالُه، فيَميلُ على مالِ الأيتامِ. قال: فنزَلت هذه الآيةُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
(2)
.
حدَّثنا هنّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوَصِ، عن سِماكٍ، عن عِكرمةَ في قولِه:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: كان الرجلُ يَتَزَوَّجُ
(1)
في ص: "حذارا". وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حذرا". تاج العروس (ح ذ ر).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 359 عن محمد بن جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى ابن المنذر.
الأربعَ والخمسَ والستَّ والعَشْرَ، فيَقولُ الرجلُ: ما يَمْنَعُنى أن أَتَزَوَّجَ كما تَزَوَّج فلانٌ؟ فَيَأْخُذُ مالَ يتيمِه، فيَتَزَوَّجُ به، فنُهوا أن يتزوَّجوا فوقَ الأربعِ
(1)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن حَبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قُصِر الرجالُ على أربعٍ، مِن أجلِ أموالِ اليتامى
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولَه:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} له: فإن الرجلَ كان يَتَزَوَّجُ بمالِ اليتيمِ ما شاء اللهُ، فنَهى اللهُ عز وجل عن ذلك
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن القومَ كانوا يَتَحَوَّبون في أموالِ اليتامى ألا يَعْدِلُوا فيها، ولا يَتَحَوَّبون في النساءِ أَلا يَعْدِلُوا فيهنَّ، فقال
(4)
لهم: كما خِفْتُم أَلّا تَعْدِلوا في اليتامَى، فكذلك فخافوا في النساءِ ألَّا تعدلوا فيهنَّ، ولا
(5)
تَنْكِحُوا منهنَّ إلا مِن واحدةٍ إلى الأربعِ، ولا تَزيدوا على ذلك، وإن خِفْتُم ألا تعدِلوا أيضًا في [الزيادةِ على]
(6)
الواحدةِ، فلا تَنْكِحوا إلا ما لا تَخَافون أن تَجُوروا فيهن مِن واحدةٍ، أو ما ملَكت أيمانُكم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 859 (4755) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى الفريابي وابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى المصنف.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فقيل".
(5)
في الأصل: "فلا".
(6)
سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، [قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ]
(1)
، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: كان الناسُ على جاهليتِهم، إلا أن يُؤْمَروا بشيءٍ أو يُنْهَوا عنه، قال: فذكَروا اليتامى فنزَلت: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: فكما خِفْتم ألا تُقْسِطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا ألا تُقْسِطُوا في النساءِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مفضلٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : قال كانوا يُشَدِّدون في اليتامى ولا يُشَدِّدون في النساءِ، يَنْكِحُ أحدُهم النسوةَ فلا يَعْدِلُ بينَهنَّ، فقال اللهُ جل وعز: كما تخافون ألّا تَعْدِلُوا في اليتامى فخافُوا في النساءِ، فانْكِحوا واحدةً إلى أربعٍ، فإن خِفْتم ألا تَعْدِلوا فواحدةً أو ما ملَكت أيمانُكم
(3)
.
حدَّثنا بِشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . حتى بلَغ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . يَقُولُ: كما خِفْتم الجَوْرَ في اليتامى وهمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في جمعِ
(4)
النساءِ. وكان الرجلُ في الجاهليةِ يَتَزَوَّجُ العَشْرَ فما دونَ ذلك، فأحلَّ اللهُ جلَّ ثناؤه أربعًا، ثم صيرهنَّ إلى أربعٍ قولُه: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، س. وينظر تهذيب الكمال 3/ 23.
(2)
سيأتي تخريجه في الصفحة القادمة.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 103، والواحدى في أسباب النزول ص 105، والبغوي في تفسيره 2/ 161.
(4)
في ت 1، س:"جميع".
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. يقولُ: إِن خِفْتَ ألا تَعْدِلَ
(1)
في أربعٍ فثلاثٍ، وإلا فثنتين، وإلا فواحدةٍ، وإن خِفت ألا تَعْدِلَ في واحدةٍ فما ملَكت يمينُك
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . [قال خاف الناسُ ألا يقسطوا في اليتامى فنزلت]
(3)
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . يَقُولُ: ما حَلَّ لكم مَثْنَى وثُلاثَ ورُباع، فخافوا في النساءِ مثلَ الذي خِفْتُم في اليتامى ألا تُقْسِطُوا فيهن
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحَجّاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا حمادٌ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: جاء الإسلامُ والناسُ على جاهليتِهم إلا أن يُؤْمروا بشيءٍ فيَتَّبِعوه، أو يُنْهَوا عن شيءٍ فيَجْتَنِبوه، حتى سأَلوا عن اليتامى، فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى:{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مَّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمانِ عارمٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: بعَث اللهُ تبارك وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم والناسُ على أمرِ جاهليتِهم، إلا أن يُؤمَروا بشيءٍ أو يُنْهَوا عنه، وكانوا يَسْأَلونه عن اليتامى فأنزل اللهُ تبارك وتعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . قال: فكما تخافون ألا تُقْسِطوا في اليتامى، فخافوا ألا تُقْسِطُوا وتَعْدِلُوا في النساءِ
(5)
.
(1)
في الأصل: "تعدلوا".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 859 (4759) من طريق يزيد به ببعضه.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 145، 146.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (554 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 859 (4757) من طريق حماد بن زيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ الله بنُ صالحِ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . قال: كانوا في الجاهليةِ يَنْكِحُون عَشْرًا مِن النساءِ الأيامى، وكانوا يُعَظِّمون شأنَ اليتيمِ، فتَفَقَّدوا مِن دينِهم شأنَ اليتامى، وترَكوا ما كانوا يَنْكِحون في الجاهليةِ، [فقال:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . ونهاهم عما كانوا يَنْكِحون في الجاهلية]
(1)
.
حُدِّثت عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعت الضَّحَّاكَ يَقُولُ في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} : كانوا في جاهليتهم لا يَرْزَءون
(2)
من مالِ اليتيمِ شيئًا، وهم يَنْكِحُون عَشْرًا مِن النساءِ، ويَنْكِحُون نساءَ آبائهم فتفَقَّدوا من دينِهم شأنَ [اليتامى فسألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن مخالطتِهم ولم يتفقدوا من دِينهم شأنَ]
(3)
النساءِ، فوعَظهم اللهُ في اليتامى وفى النساءِ، فقال في اليتامى:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} إلى {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]. ووعَظهم في شأنِ النساءِ، فقال:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. وقال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} الآية
(4)
[النساء: 22].
حُدِّثت عن عمارٍ، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إلى {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . يَقُولُ: فإن
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، س.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 859 (4756) من طريق أبي صالح به.
(2)
لا يرزءون: لا يصيبون منه شيئًا. تاج العروس (ر ز أ).
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى المصنف.
خِفْتم الجَوْرَ في اليتامى وغمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في جمعِ
(1)
النساء، قال: وكان الرجلُ يَتَزَوَّجُ العَشْرَ في الجاهليةِ فما دونَ ذلك، فأحلَّ الله أربعًا، وصيَّرهنَّ إلى أربعٍ، يَقُولُ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . فإن خِفْت ألا تَعْدِلَ في واحدةٍ فما ملكت يمينُك
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فكما خِفْتم في اليتامى، فكذلك فتخوَّفوا في النساءِ أن تَزْنوا بهنَّ، ولكن انْكِحُوا ما طاب لكم مِن النساءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرَنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . يَقُولُ: إِن تَحَرَّجتم من ولايةِ اليتامى وأكلِ أموالِهم إيمانًا وتصديقًا، فكذلك فتَحَرَّجوا من الزنى، وانْكِحُوا النساءَ نكاحًا طيبًا:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(3)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإن خِفْتم ألا تُقْسِطوا في اليتامى اللاتي أنتم وُلاتُهن فلا تَنْكِحُوهُنَّ، وانْكِحُوا أنتم ما أحلَّ لكم منهنَّ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، س:"جميع".
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 103.
(3)
تفسير مجاهد ص 266. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 858 (474) من طريق ابن أبي نجيح به، وفي 3/ 857 (4748) من طريق ابن جريج عن مجاهد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 118 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . قالت
(1)
: نزَلت في اليتيمةِ تَكُونُ عندَ الرجلِ؛ هو وَلِيُّها ليس لها وليٌّ غيرُه، وليس أحدٌ يُنازِعُه فيها، ولا يُنْكِحُها لمالِها فيُضِرَّ بها ويسيءَ صحبتَها
(2)
.
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا يونسُ، عن الحسنِ في هذه الآيةِ:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} : أي ما حلَّ لكم [من يتامَاكم]
(3)
مِن قَراباتِكم: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوالِ التي ذكَرناها في ذلك بتأويلِ الآية قولُ مَن قال: تأويلُها: وإن خِفْتُم ألا تُقْسِطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساءِ فلا تَنْكِحوا منهنَّ إلا ما لا تَخافون أن تَجُوروا فيه منهنَّ، مِن واحدةٍ إلى الأربعِ، فإن خِفْتُم الجَوْرَ في الواحدةِ أيضًا، فلا تَنْكِحُوها ولكن عليكم بما ملَكت أيمانُكم، فإنه أحرى ألا تَجُوروا عليهنّ.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويلِ الآية؛ لأن الله جلَّ ثناؤه افتَتح الآيةَ التي قبلَها، بالنهي عن أكلِ أموالِ اليتامى بغيرِ حقِّها، وخلطِها بغيرِها مِن الأموالِ، فقال تعالى ذكرُه: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ
(1)
في النسخ: "قال". وما أثبتاه هو الصواب.
(2)
تقدم تخريجه في ص 359.
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، س.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 858 (4753) من طريق يزيد به بنحوه.
إنَّهُ كَانَ حُوبًا كبيرًا} [النساء: 2]. ثم أعلَمهم أنهم إن اتَّقَوُا الله في ذلك فتحرَّجوا فيه، فالواجبُ عليهم
(1)
مِن اتقاءِ اللهِ والتحرُّجِ في أمرِ النساءِ، مثلُ الذي عليهم من
(2)
التحرُّج في أمرِ اليتامى، وأعلَمهم كيف المَخْلَصُ لهم مِن الجَوْرِ فيهن، كما عرَّفهم المخلَصَ لهم من الجَوْرِ في أموالِ اليتامى، فقال: انْكِحُوا - إن أمِنتم الجَوْرَ في أمرِ النساءِ على أنفسِكم - ما أبَحْتُ لكم منهنّ وحلَّلته؛ مثنى وثلاثَ وَرُبَاعَ، فإن خِفتم أيضًا الجَوْرَ في أمرِهن على أنفسِكم [من [عَجْزٍ عن]
(3)
العدد إن نكحتموهن، فلا تجاوزوا واحدةً، وإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم]
(4)
في أمرِ الواحدِة، بألّا
(5)
تقدِرُوا على إنصافِها، فلا تَنْكِحوها، ولكن تَسَرَّوا
(6)
مِن المماليكِ، فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن؛ لأنهن أملاكُكم وأموالُكم، ولا يَلْزَمُكم لهن مِن الحقوقِ كالذي يَلْزَمُكم للحرائرِ، فيكونَ ذلك أقربَ لكم إلى السلامةِ مِن الإِثمِ والجَوْرِ.
ففى الكلامِ - إذ كان المعنى ما قلنا - متروكٌ استُغْنِى بدَلالةِ ما ظهَر مِن الكلامِ عن ذِكرِه، وذلك أن معنى الكلامِ: وإن خِفْتم ألّا تقسطوا في أموالِ اليتامى فتَعْدِلُوا فيها، فكذلك فخافوا ألا تُقْسِطوا في حقوقِ النساءِ اللّاتى
(7)
أوجَبها اللهُ عليكم، فلا تَتَزَوَّجوا منهن إلا ما أمِنتم معه الجَوْرَ؛ مثنى وثلاثَ ورُباعَ، وإن خِفْتم أيضًا من
(8)
ذلك فواحدةً، وإن خفتم في الواحدةِ فما ملَكت أيمانُكم. فتُرِك ذكرُ قولِه: فكذلك
(1)
في ص، ت 1:"عليهن".
(2)
في م: "ظن".
(3)
هاتان الكلمتان غير مقروءتين في المخطوط، والمثبت أقرب للمعنى وأنسب لقراءتهما.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
في م: "بأن".
(6)
في ت 1: "تشروا"، وفى ت 2:"تشتروا".
(7)
في م، ت 3، س:"التي".
(8)
في م، ت 3:"في".
فخافوا ألّا
(1)
تُقْسِطوا في حقوقِ النساءِ. بدَلالةِ ما ظهَر مِن قولِه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
فإن قال قائلٌ: فأين جوابُ قولِه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ؟ قيل: قولُه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} . غيرَ أن المعنى الذي يدلُّ على أن
(2)
المرادَ بذلك ما قلنا قولُه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} .
وقد بينا فيما مضى قبلُ
(3)
أنّ مَعْنى الإقساط في كلامِ العربِ: العدلُ والإنصافُ، وأن القَسْطَ: الجَوْرُ والحَيفُ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعِ. وأما اليتامى، فإنها جمعٌ لذُكرانِ الأيتامِ وإناثِهم في هذا الموضعِ.
وأما قولُه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . فإنه يَعْنى: فانْكِحُوا ما حلَّ لكم منهن دونَ ما حرُم عليكم منهن.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي مالكٍ في قوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} قال: ما حَلَّ لكم
(4)
.
نا حميدُ بنُ مسعدةَ قال: نا يزيدُ قال: نا يونسُ عن الحسنِ: قولَه: {مَا طَابَ لَكُم} أي ما حلَّ لكم
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمرٌ، عن
(1)
في م: "أن".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(3)
تقدم في 5/ 103، 278، 280.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 359، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 858 (4750) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف، وذكره القرطبي في تفسيره 5/ 15 عن الحسن.
أيوبَ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . يَقُولُ: ما أَحَلَّ لكم
(1)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . ولم يَقُلْ: فانْكِحُوا مَن طاب لكم، وإنما يُقالُ "ما" في غيرِ الناس؟ قيل: معنى ذلك على غيرِ الوجهِ الذي ذهبتَ إليه، وإنما معناه: فانكِحُوا نكاحًا طيبًا.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال:[حدثنا أبو عاصمٍ، قال]
(2)
: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مَّنَ النِّسَاءِ} : فانكِحُوا النساءَ نكاحًا طيبًا
(3)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
فالمعنيُّ بقوله: {مَا طَابَ لَكُم} . الفِعْلُ دونَ أعيانِ النساءِ وأشخاصِهنَّ؛ فلذلك قيل: "ما". ولم يُقَلْ: "مَن". كما يقالُ: خُذْ مِن رَقِيقى ما أَرَدْتَ. إذا عَنَيْت: خُذْ منهم إرادتَك. ولو أرَدتَ: خُذِ الذي تُرِيدُ منهم، لقلت: خُذْ مِن رَقيقى مَن أَرَدْتَ منهم. وكذلك قولُه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . بمعنى: أو مِلكَ أيمانِكم.
وإنما [عنى بقولِه]
(4)
جل ثناؤه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 145.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 858 (4754) من طريق ابن أبي نجيح به.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"معنى قوله".
وَرُبَاعَ}: فلْيَنْكِحْ كلُّ واحدٍ منكم مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ، كما قيل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. [يعنى به فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهم ثمانين جلدةً]
(1)
.
وأما قولُه: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . فإنهن
(2)
تُرِكَ إجْراؤُهن؛ لأنهن مَعْدولاتٌ عن اثْنينِ وثلاثٍ وأربعٍ، كما عُدِلَ عُمَرُ عن عامرٍ وزُفَرُ عن زافرٍ، فتُرِكَ إجْراؤُه. وكذلك أحادُ وثُناءُ، ومَوْحدُ ومَثْنَى ومَثلثْ ومَربعُ، لا يُجْرَى ذلك كلُّه؛ للعلةِ التي ذَكَرْتُ، من العُدولِ عن وُجوهِه. ومما يَدُلُّ على أن ذلك كذلك، أنَّ
(3)
الذكرَ والأُنثى فيه سواءٌ، فقيلَ
(4)
في هذه السورةِ
(5)
: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . [للإناث وقيل في موضعٍ آخر: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}]
(6)
يُرادُ به الجنَاحُ، والجَناحُ ذَكَرٌ، وأنه أيضًا لا يُضافُ إلى ما يُضافُ إليه الثلاثةُ والثلاثُ، وأن الألفَ واللامَ لا تَدْخلُه، فكان في ذلك دليلٌ على أنه اسمٌ للعددِ مَعْرفةٌ، ولو كان نَكِرةٌ لدخَله الألفُ واللامُ، وأُضيفَ كما يُضافُ الثلاثةُ والأربعةُ، ومما يُبَيِّنُ ذلك قولُ تَمِيمِ بن أُبَيٍّ بن مُقْبلٍ
(7)
:
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في م، ت 3:"فإنما".
(3)
في م، ت 3:"وأن".
(4)
في م، ت 3:"ما قيل".
(5)
بعده في م، ت 3:"وسورة فاطر".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
ديوانه ص 252.
تَرَى النُّعَرَاتِ
(1)
الزُّرْقُ
(2)
تَحْتَ لَبانِه
(3)
…
أُحَادَ
(4)
ومَثْنَى أَصْعَقَتْها صَوَاهِلُهْ
فردّ أُحادَ ومثنى على النُّعَراتِ، وهى معرفةٌ، وقد تَجْعَلُها العربُ نكرةً فتُجْرِيها، كما قال الشاعرُ
(5)
:
قتَلنا به مِن بين مَثْنًى وَمَوْحَدِ
بأربعةٍ منكمْ وآخَرَ خامسِ
(6)
ومما يُبَيِّنُ أن ثُناءَ وأُحادَ غيرُ جاريةٍ قولُ الشاعرِ
(7)
:
[ولقد قتَلْتُكُمُ]
(8)
ثُناءَ وموْحَدًا
…
وتَرَكْتُ [مُرَّةً مثلَ أمسِ]
(9)
المُدْبِرِ
(10)
ومنه قولُ [صخرٍ الغيِّ]
(11)
:
(1)
النعرات: جمع نُعَرَة: ذباب ضخم أزرق العين أخضر له إبرة في طرف ذَنَبه يلسع بها الدواب ذوات الحافر خاصة وربما دخل في أنف الحمار فيركب رأسه ولا يرده شيء. تاج العروس (ن ع ر).
(2)
في الديوان: "الخضر".
(3)
اللَّبَان: الصدر. لسان العرب (ل ب ن).
(4)
في الديوان: "فرادى".
(5)
معاني القرآن للفراء 1/ 254.
(6)
هذا البيت شطران من بيتين، فالشطر الأول منه هو عجز بيت، صدره:"وإن الغلام المستهامَ بذكره"، والشطر الثاني هو صدر البيت الثاني، عجزه "وسادٍ مع الإظلام في رمح معبد".
(7)
البيت لصخر بن عمرو بن الشريد السلمى، وهو في مجاز القرآن 1/ 115، والأغانى 15/ 100، والاقتضاب 3/ 414، وشرح أدب الكاتب ص 394.
(8)
في ص، ت 1، ت 2، س:"ولقد قتلكم"، وفى شرح أدب الكاتب:"إني سأقتلكم".
(9)
في شرح أدب الكاتب: "ناصركم كأمس".
(10)
في م، وشرح أدب الكاتب:"الدابر".
(11)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الشاعر". والمثبت موافق لمجاز القرآن 1/ 115، والبيت في ديوان الهذليين 3/ 117، وشرح الديوان 2/ 570، والمعانى الكبير 2/ 840 لعمرو ذى الكلب. وفي اللسان (م ن ي) غير منسوب.
مَنَت
(1)
لك أن تُلاقِيَنى المَنايا
…
أُحَادَ أُحَادَ في شهرٍ حلال
ولم يُسْمَعْ مِن العرب صرفُ ما جاوَز الرُّباعَ والمَرْبعَ عن جهتِه، لم يُسْمَعْ منها خُماسٌ ولا المخمسُ، ولا السُّباعُ ولا المَسْبعُ، وكذلك ما فوق الرُّباعِ، إلا في بيتِ الكُميْتِ، فإنه يُرْوى له في العشرةِ عُشارٌ، وهو قولُه:
(2)
فلم يَسْتَرِيثُوك
(3)
حتى رَمَيـ
…
ـت فوقَ الرجالِ خِصالًا عُشارَا
يُريدُ عَشْرًا، يقالُ: إنه لم يُسْمَعْ غيرُ ذلك.
وأما قولُه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [فَوَاحِدَةً} . فإن
(4)
نصبَ واحدةٍ، بمعنى: فإن خِفْتم ألا تَعْدِلوا]
(5)
- فيما يَلْزَمُكم مِن العدلِ بين
(6)
ما زاد على الواحدةِ مِن النساءِ عندَكم بنكاحٍ فيما أوجَبه اللهُ لهنّ عليكم - فانْكِحُوا واحدةً منهنَّ. ولو كانت القراءةُ جاءت في ذلك بالرفعِ كان جائزًا، بمعنى: فواحدةٌ كافيةٌ، أو فواحدةً مُجْزِئةٌ، كما قال جلَّ ثناؤه:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. وإن قال لنا قائلٌ: قد علِمت أن الحلالَ [لنا مِن جمعِ النساءِ الحرائرِ بالنكاحِ]
(7)
أربعٌ، فكيف قيل:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . وذلك في العددِ تسعٌ؟ قيل: إن تأويلَ ذلك: فانْكِحُوا ما طاب لكم مِن النساءِ، إما مَثْنَى إن أمِنتم الجَوْرَ مِن أنفسِكم فيما يَجِبُ لهما عليكم، وإما ثُلاثَ إن لم تخافوا
(1)
منت: أي قدَّرت لك الأقدار. لسان العرب (م ن ي).
(2)
ديوان الكميت، 1/ 191، ومجاز القرآن، 1/ 116، ولسان العرب (ع ش ر).
(3)
يستريثوك: يستبطئوك. تاج العروس (ر ى ث).
(4)
في الأصل: "فإنه".
(5)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لكم من جميع النساء الحرائر نكاح".
ذلك؛ وإما أربعٌ إن أمِنتم ذلك فيهن، يَدُلُّ على صحةِ ذلك قولُه:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . لأن المعنى: فإن خِفْتم في الثنتين، فانكحوا واحدةً، ثم قال: فإن خِفْتم ألا تَعْدِلُوا أيضًا في الواحدةِ، فما ملَكت أيمانُكم.
فإن قال قائلٌ: فإنّ [مِن قولِك: إن]
(1)
أمرَ الله ونهيَه على الإيجابِ والإلزامِ حتى تَقُومَ حجةٌ بأن ذلك على الندبِ
(2)
والإرشاد أو
(3)
الإعلامِ، وقد قال تعالى ذكرُه:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، وذلك أمرٌ، فهل مِن دليلٍ على أنه مِن الأمرِ الذي هو على غيرِ وجهِ الإلزامِ والإيجابِ؟ قيل: نعم، والدليلُ على ذلك قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . فكان معلومًا بذلك أن قولَه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . وإن كان مَخْرِجُه مَخْرَجَ الأمرِ، فإنه بمعنى الدَّلالةِ على النهيِ عن نكاحِ ما خاف الناكحُ الجَوْرَ فيه مِن عددِ النساءِ، لا بمعنى الأمرِ بالنكاح، وأنَّ المعنىَّ به: وإن خِفْتم ألا تُقْسِطوا في اليتامى فتَحَرَّجتم فيهم، فكذلك فتَحَرَّجوا في النساءِ، فلا تَنْكحوا إلا ما أمِنتم الجَوْرَ فيه منهن، مما أحْلَلْتُه لكم منهن مِن الواحدةِ إلى الأربعِ. وقد بيَّنا في غيرِ هذا الموضعِ، بأن العربَ تُخْرِجُ الكلامَ بلفظِ الأمرِ، ومعناها فيه النهيُ أو التهديدُ والوعيدُ، كما قال جلَّ ثناؤه:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وكما قال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55، والروم: 34]. فخرَج
(4)
ذلك مَخْرَجَ الأمرِ، والمقصودُ به التهددُ والوعيدُ، والزجرُ والنهيُ
(5)
، فكذلك قولُه:
(1)
سقط من: م، س.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"التأديب".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"و".
(4)
في الأصل: "فمخرج".
(5)
ينظر ما تقدم في 2/ 193، 194.
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . بمعنى النهي، فلا تَنْكِحُوا إلا ما طاب لكم من النساءِ، على النحوِ الذي [بينا، وبنحو الذي]
(1)
قلنا في معنى قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بِشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . يَقُولُ: فإن خِفْتَ أَلا تَعْدِلَ في واحدةٍ، فما ملَكت يمينُك
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيّ:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ} : السَّرَارِيُّ
(3)
.
حُدِّثْتُ عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : فإِن خِفْتَ
(4)
أَلا تَعْدِلَ في واحدةٍ، فما ملَكت يمينُك
(5)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: ثنا جويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} . قال: في الحُبِّ والمجامعةِ
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} .
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف وعبد بن حميد مطولًا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 859 (4760) من طريق أحمد بن المفضل به.
(4)
في الأصل: "خفتم".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف.
(6)
سقط من: ت 1. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف.
قال أبو جعفرٍ: يعنى بقوله جلَّ ثناؤه: {ذَلِكَ} وإن خِفْتم ألا تَعْدِلُوا في مَثْنَى أو ثُلاثَ أو رُباعَ، فنكَحتم واحدةً، أو خِفْتم ألا تَعْدِلوا في الواحدةِ فَتَسَرَّرتم ملكَ أيمانِكم - فهو {أَدْنَى} ؛ يَعْنى أقربَ {ألَّا تَعُولُوا} ، يَقُولُ: ألا تَجُوروا ولا تَمِيلوا، يُقَالُ منه: عال الرجلُ فهو يَعُول عَوْلًا وعِيالةً. إِذا مال وجار، ومنه عَوْلُ الفرائضِ؛ لأن سِهامَها إذا زادَت دخَلها النقصُ؛ وأما مِن الحاجةِ، فإنما يُقالُ: عال [فلانٌ يعيلُ]
(1)
عَيْلةً. وذلك إذا احتاج، كما قال الشاعرُ
(2)
:
وما
(3)
يَدْرِى الفقيرُ متى غِناه
…
وما
(4)
يَدْرى الغنيُّ متى يَعِيلُ
بمعنى متى يَفْتَقِرُ. وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا يونسُ، عن الحسنِ:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . قال: العَوْلُ: الميلُ في النساءِ
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنى حَكامٌ، عن عَنْبسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسم بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . [ألَّا تَمِيلوا]
(6)
.
(1)
في م، ت 3:"الرجل".
(2)
هذا البيت لأحيحة بن الجلاح الأوسى. وفى معاني القرآن للفراء 1/ 255، وجمهرة أشعار العرب 2/ 659، ولسان العرب (ع ى ل).
(3)
في الأصل: "لما"، وفي معاني القرآن:"لا"
(4)
في معاني القرآن وجمهرة أشعار العرب: "لا".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 361، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 859 (4758) من طريقين عن الحسن.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يقول لا تميلوا".
أخرجه الثورى في تفسيره ص 87، وابن أبي شيبة 4/ 361 من طريق آخر عن مجاهد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى ابن المنذر. وعند الثوري: ألا تضلوا.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} : ألا تَمِيلوا
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا [محمدُ بنُ]
(2)
المثنى، قال: ثنا أبو النعمان محمدُ بنُ الفضلِ عارمٌ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرَنا داودُ بنُ أبي هندٍ، عن عكرمةَ:{أَلَّا تَعُولُوا} . قال: ألا تَمِيلوا. قال ثم قال: أما سمِعت إلى قولِ أبي طالبٍ:
* بميزانِ قِسْطٍ وَزْنُه غيرُ عَائِلِ
(3)
*
حدَّثني المثنى، قال: ثنا حَجّاجٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن [الزبيرِ بن الخِرِّيتِ]
(4)
، عن عِكرمةَ في هذه الآيةِ {أَلَّا تَعُولُوا}. قال: ألا تميلوا. قال: وأنشد بيتًا مِن شعرٍ زعَم أن أبا طالبٍ قاله:
بميزانِ قِسْطٍ لا يُخِسُّ
(5)
شَعيرةً
…
ووَازنِ صدقٍ وَزْنُهُ غيرُ عائلِ
(6)
قال أبو جعفرٍ: ويُرْوَى هذا البيتُ على غيرِ هذه الروايةِ
(7)
:
(1)
تفسير مجاهد ص 266.
(2)
سقط من: م. ينظر تهذيب الكمال 26/ 287.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (557 - تفسير) عن هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في النسخ: "الزبير عن حريث". والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 9/ 301.
(5)
في مصدر التخريج: "يخيس".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 860 (4672) من طريق حماد بن زيد به.
(7)
ينظر سيرة ابن هشام 1/ 242، والبداية والنهاية 4/ 139، ولسان العرب (ع ى ل)، (ح ص ص).
بميزانِ قسْطٍ
(1)
لا يُغِلُّ شعيرةً
…
له شاهدٌ مِن نفسِه غيرُ عائلِ
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{أَلَّا تَعُولُوا} . قال: ألا تَمِيلوا
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبرَنا هشيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ مثلَه
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبرَنا هشيمٌ، عن أبي إسحاقَ الكوفيِّ، قال: كتَب عثمانُ بنُ عفانَ رضي الله عنه إلى أهلِ الكوفةِ في شيءٍ عاتَبوه عليه فيه: إنى لست بميزانٍ لا أعولُ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عثَّامُ
(4)
بنُ عليٍّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن أبي مالكٍ في قوله:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . قال: ألا
(5)
تَمِيلوا
(6)
.
حدَّثنا بِشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} يقولُ: أدنى ألا تَمِيلوا
(7)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قوله:{أَلَّا تَعُولُوا} . قال: تَمِيلوا
(8)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"صدق".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (555 - تفسير) عن هشيم به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عباد"، تقدم مرارا.
(5)
في م، ومصنف ابن أبي شيبة "لا".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 361 عن عباد به، وسفيان في تفسيره ص 86 عن إسماعيل بن أبي خالد به.
(7)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 860 عقب الأثر (4761) معلقًا.
(8)
تفسير عبد الرزاق 1/ 146.
حُدِّثت عن عمارٍ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بن أنسٍ:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . يَقُولُ: ألا تَمِيلوا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . يَقُولُ: ألّا تَمِيلوا
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . يعنى: ألا تَمِيلوا
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . يقولُ: ذلك أدنى ألا تَمِيلوا.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن أبي مالكٍ في قوله:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . قال: ألا تَجُورواه
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونِ، وعارمٌ أبو النعمانِ، قالا: ثنا هشيمٌ، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن يونسَ، عن أبي
(5)
إسحاقَ، عن مجاهدٍ:
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 165.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 860 عقب الأثر (4761) من طريق أسباط به.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (558 - تفسير)، وابن أبي شيبة 4/ 361 من طريق الشعبي عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (556 - تفسير) عن هشيم به.
(5)
في النسخ: "ابن" وهو خطأ. وينظر تهذيب الكمال 22/ 102.
{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . قال: تَمِيلوا
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . قال: ذلك أقلُّ لنَفَقَتِك، الواحدةُ أقلُّ مِن ثنتين وثلاثٍ وأربعٍ، وجاريتُك أهونُ نفقةً مِن حرَّةٍ، {أَلَّا تَعُولُوا}: أهونُ عليك
(2)
في العيالِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .
قال أبو جعفرٍ: يَعْنى بذلك تعالى ذكرُه: وأعطُوا النساءَ مُهورَهنَّ عطيةً واجبةً، وفريضةً لازمةً؛ يُقالُ منه: نحَل فلانٌ فلانًا كذا وكذا، فهو يَنْحَلُه نِحْلةً ونُحْلًا.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، في قولِه:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . يَقولُ: فَرِيضةً
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: أخبرَنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} : يعنى بالنِّحْلةِ المهرَ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . قال: فريضةً مسماةً
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 361 من طريق يونس به.
(2)
بعده في الأصل: "و".
(3)
في ص، ت 1:"القتال". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 861 عقب أثر (4769) معلقًا، والبغوى في تفسيره 2/ 163، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 861 (4770) من طريق أبي صالح به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 861 (4771) من طريق ابن ثور عن ابن جريج، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى ابن المنذر.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: سمِعت ابنَ زيدٍ يَقُولُ في قولِه: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . قال: النِّحْلَةُ في كلامِ العربِ: الواجبُ، يَقولُ: لا يَنْكِحُها إلا بشيءٍ واجبٍ لها؛ صَدُقةٍ يُسمِّيها لها واجبةٍ، وليس يَنْبَغى لأحدٍ - بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَنْكِحَ امرأةً إلا بصداقٍ واجبٍ، ولا يَنْبَغى أن يَكُونَ تسميةُ الصداقِ كذِبًا بغيرِ حقٍّ
(1)
.
وقال آخرون: بل عَنى بقولِه: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} : أولياءَ النساءِ، وذلك أنهم كانوا يَأخُذون صَدُقاتِهن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عون، قال: ثنا هشيمٌ، عن سيارٍ، عن أبي صالحٍ، قال: كان الرجلُ إذا زوَّج أَيِّمَه
(2)
أَخَذَ صَداقَها دونَها، فنهاهم اللهُ تبارك وتعالى عن ذلك، ونزَلت:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
(3)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك مِن أولياءِ النساءِ، بأن يُعْطِىَ الرجلُ أختَه الرجلَ، على أن يُعْطِيَه الآخرُ أختَه، على أن لا كثيرَ مهرٍ بينَهما، فنُهوا عن ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، قال: زعَم حضرميٌّ أن ناسًا كانوا يُعْطِى هذا الرجلَ أختَه، ويَأْخُذُ أَختَ الرجلِ، ولا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى المصنف.
(2)
الأيِّم من النساء: التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا، ومن الرجال الذي لا امرأة له. لسان العرب (أ ى م).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (559 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 860، 862 (4765، 4775) من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
يَأْخُذُون كبيرَ
(1)
مهرٍ، فقال اللهُ تبارك وتعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى التأويلاتِ التي ذكَرناها في ذلك التأويلُ الذي قلناه، وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدَأ ذكرَ هذه الآيةِ بخطابِ الناكحين النساءَ، ونهاهم عن ظُلْمِهن والجَورِ عليهن، وعرَّفهم سبيلَ النجاةِ من ظلمِهنّ. ولا دَلالةَ في الآيةِ على أن الخطابَ قد صُرِف عنهم إلى غيرِهم، فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الذين قيل لهم:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . هم الذين قيل لهم: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} . وأن معناه: وآتُوا مَن نكَحتم مِن النساءِ [صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلةً؛ لأنه قال في أوَّلِ الآيةِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}]
(3)
. ولم يقُلْ: "فأنكحوا". فيكونَ قولُه: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . مصروفًا إلى أنه معنيٌّ به أولياءُ النساءِ دونَ أزواجِهنَّ، وهذا أمرٌ مِن اللهِ أزواجَ النساءِ المدخولِ بهن، أو المسمَّى لهنّ الصداقُ، بإيتائهن
(4)
صَدُقاتِهن دون المطلقاتِ قبلَ المدخولِ بهن، ممن لم يُسمَّ لها في عقدِ النكاحِ صداقٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
(4)}.
يَعْنى بذلك جل ثناؤه: فإن وهَب لكم أيُّها الرجالُ نساؤكم شيئًا من صَدُقاتِهن طيبةً بذلك أنفسُهن، فكُلوه هنيئًا مريئًا.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا بِشرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كثير".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 119 إلى المصنف
(3)
سقط من: ت 1، ت 2.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، وفى م:"أن يؤتوهن".
عُمارةُ، عن عِكرمةَ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . قال: المهرُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى حَرَميُّ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا شعبةُ، عن عُمارةَ، عن عِكرمةَ
(2)
في قولِ اللهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . قال: الصَّدُقاتُ
(3)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا الحِمّاني، قال: ثنا شَريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . قال: الأزواجُ
(4)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبَرنا هشيمٌ، عن عُبَيدةَ، قال: قال لى إبراهيمُ: أكلتَ مِن الهَنئِ المرِئِ؟ قلت: ما ذلك؟ قال: امرأتُك أعطَتك مِن صداقِها
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: دخَل رجلٌ على علقمةَ وهو يَأْكُلُ من طعامٍ بينَ يَدَيه؛ مِن شيءٍ أعطَتْه امرأتُه مِن صداقِها أو غيرِه، فقال له علقمةُ: ادْنُ
(6)
، فَكُلْ مِن الهَنيءِ المَرِيءِ
(7)
.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 862 عقب الأثر (4778) معلقًا. وينظر الأثر التالى.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن عمارة"، وهو تكرار بيّن، وقد تقدم هذا الإسناد كثيرًا.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 861 (4772) من طريق سالم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (560 - تفسير) عن هشيم به.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إذن".
(7)
أخرجه الثورى في تفسيره ص 87 - ومن طريقه ابن سعد 6/ 87 - عن منصور به، نحوه.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . يَقُولُ: إذا كان غيرَ إضرارٍ ولا خديعةٍ، فهو هَنئٌ مَرِئٌ، كما قال اللهُ جل ثناؤه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . قال: الصَّداقُ {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} .
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: سمِعت ابنَ زيدٍ يَقُولُ في قولِه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . [قال: طِبن لكم بشيءٍ من الصَّداقِ
(2)
نفْسًا بعد أن تُوجِبوه لهن]
(3)
فكُلوه هنيئًا مريئًا.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المَعتمرُ، عن أبيه، قال: زعَم حَضْرَمِيٌّ أن أناسًا كانوا يَتَأَثَّمون أن يُراجِعَ
(4)
أحدُهم في شيءٍ مما ساق إلى امرأتِه، فقال الله عز وجل:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . يَقولُ: ما طابت به نفسُها في غيرِ كُرْهٍ
(6)
أو هوانٍ، فقد أحلَّ اللهُ لك ذلك أن تَأْكُلَه هنيئًا مَرِيئًا
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 862 (4780) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى ابن المنذر.
(2)
في الأصل: "الصدقات".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "يرجع".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى المصنف.
(6)
في ص، ت 1:"ذكره"، وفي ت 2:"ذلك".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 861 (4774) من طريق يزيد به.
وقال آخرون: بل عَنَى بهذا القولِ أولياءَ النساءِ، فقيل لهم: إن طابت
(1)
النساءُ اللواتي إليكم عِصْمةُ نكاحهنَّ بصَدُقاتِهن نفسًا، فكُلُوه هَنيئًا مَرِيئًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا سيارٌ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . قال: كان الرجلُ إذا زوَّج ابنتَه عمَدَ إلى صداقِها فأخَذه، قال: فنزلت هذه الآيةُ في الأولياءِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(2)
.
وأولى التأويلين في ذلك بالصوابِ التأويلُ الذي قُلْنا، وأن الآيةَ مخاطبٌ بها الأزواجُ؛ لأن افتتاحَ الآية مُبْتَدَأٌ بذكرِهم، وقولُه:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . في سياقِه.
وإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . وقد علمت أن معنى الكلامِ: فإن طابت لكم أنفسُهن بشيءٍ، وكيف وُحِّدت النفسُ والمعنى للجميعِ، وذلك أنه تعالى ذكرُه قال:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} ؟ قيل: أما نقلُ فعلِ النفوسِ إلى أصحابِ النفوسِ، فإن ذلك المستفيضُ في كلامِ العربِ، من كلامِها المعروفِ: ضِقْتُ بهذا الأمرِ ذراعًا وَذَرْعًا، وقَرِرْتُ بهذا الأمرِ عينًا. والمعنى: ضاق به ذراعى، وقرَّت به عينى، كما قال الشاعرُ
(3)
:
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أنفس".
(2)
تقدم تخريجه في ص 381.
(3)
البيت للقطامي، وهو في ديوانه ص 40، ومعاني القرآن للفراء 1/ 256، ولسان العرب (ت ى ز).
إذا التَّيَّازُ
(1)
ذو العَضَلاتِ قلنا
…
إليكَ إليكَ ضاقَ بها ذِراعًا
فنقَل صفةَ الذراعِ إلى ربِّ الذراعِ، ثم أخرَج الذراعَ مُفَسِّرةً
(2)
لموقِع الفعلِ، وكذلك وحَّد النفسَ في قولِه:{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مَّنْهُ نَفْسًا} . إذ كانت النفسُ مفسِّرةً لموقعِ الخبرِ. وأما توحيدُ النفسِ [فإن أهلَ العربيةِ اختلفوا فيه؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: أجزأ النفسُ]
(3)
مِن النفوسِ؛ لأنه إنما أراد الهوى، والهوى يكون جماعةً، كما قال الشاعرُ
(4)
:
بها جِيَفُ الحَسْرَى
(5)
فأما عِظامُها
…
فبِيضٌ وأما جلدُها فصَلِيبُ
(6)
وكما قال الآخرُ
(7)
:
في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِينا
(8)
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: جائزٌ في النفسِ في هذا الموضعِ، الجمعُ والتوحيدُ، فإن طِبْنَ لكم طِبْنَ لكم عن شيءٍ منه نفسًا وأنفسًا، وضِقْت به [ذَرْعًا وذراعًا، فيَكْفِي المصدرُ من الاسمِ، وضِقْنا به أَذْرعًا وذَرْعًا وذراعًا]
(9)
؛ لأنه
(1)
تَّيَاز كشداد: القصير الغليظ الملزَّز الخلق الشديد العضل مع كثرة لحم فيها. تاج العروس (ت ى ز).
(2)
مصطلح التفسير يطلق على التمييز. ينظر مصطلحات النحو الكوفي ص 29.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
البيت لعلقمة الفحل وهو في ديوانه ص 40.
(5)
الحسرى: البعير المعيى الذي كُلَّ من كثرة السير. تاج العروس (ح س ر).
(6)
الصليب: الصديد الذي يسيل من الميت. لسان العرب (ص ل ب).
(7)
البيت للمسيب بن زيد مناة، وهو في الكتاب لسيبويه 1/ 209، وشرح المفضليات ص 778، ولسان العرب (ش ج ا)، وهو عجز بيت صدره:
"لا تنكروا القتل وقد سُبِينا"
(8)
الشَّجا: ما اعترض في حلق الإنسان والدابة من عظم أو عود أو غيرهما. لسان العرب (ش ج ا).
(9)
سقط من: س، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ذراعا و ذرعا وذراعا"، وفى م:"ذراعا وذرعا وأذرعا".
منسوبٌ إليك، وإلى مَن تُخْبِرُ عنه، فاكتفى بالواحد من الجمعِ لذلك، ولم يَذْهَبِ الوهمُ إلى أنه ليس بمعنى جمعٍ؛ لأن قبلَه جمعًا.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن النفسَ وقَع موقعَ الأسماءِ التي تأتى بلفظِ الواحدِ مؤدّيةً [عن معنى الجميعِ، فتجمَعُ ذلك العرب أحيانًا لمعناه، وتوحِّدُه أحيانًا استغناءً بمعرفتِهم]
(1)
بمعناه
(2)
إذا ذكِر بلفظِ الواحدة أنه
(3)
بمعنى الجمعِ، عن الجمعِ.
وأما قولُه: {هَنِيئًا} . فإنه مأخوذٌ مِن هَنَأْتُ البعيرَ بالقطِرانِ: وذلك إذا جرِب فعولِج به، كما قال الشاعرُ
(4)
:
مُتَبَذِّلًا تَبْدُو محاسنُه
…
يَضَعُ الهِناءَ
(5)
مواضعَ النُّقْبِ
(6)
فكأن معنى قولِه: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . فكُلُوه دواءً شافيًا. يقالُ منه: هنَأنى الطعامُ ومرَأنى. أي: صار لي دواءً وعلاجًا شافيًا، وهَنِئَنى ومرِئَنى بالكسرِ، وهي قليلةٌ، والذين يَقولون هذا القولَ يقولون: يَهْنَأُنى ويَمْرَأُنى، والذين يَقولون: هنَأنى. يَقولون: يهنِئُنى ويمرِئُنى. فإذا أفرَدوا، قالوا: قد أمرَأنى هذا الطعامُ [ولا يقولون قد: أَهْنَأنى. والمصدرُ منه هَنْأً مَرْأً، وقد مَرُؤ هذا الطعامُ]
(7)
مراءةً
(8)
. ويقالُ:
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في م: معناه.
(3)
في م: "وأنه".
(4)
البيت لدريد بن الصِّمَّة. وهو في الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 343، والأغاني 10/ 22، ولسان العرب (ن ق ب).
(5)
الهِنَاء: القَطِران. تاج العروس (هـ ن أ).
(6)
النُّقْب، والنُّقَب: القطع المتفرقة من الجَرَب، الواحدة نُقبة. تاج العروس (ن ق ب).
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(8)
في م: "إمراء".
هنأتُ القومَ. إذا عُلْتَهم، سُمِع مِن العربِ يقولون: إنما سمِّيتَ هانئًا لِتَهنَأَ. بمعنى: لتَعولَ وتَكْفِي.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} .
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في السُّفَهاءِ الذين نَهَى اللهُ عبادَه أن يُؤْتُوهم أموالَهم؛ فقال بعضُهم: هم النساءُ والصبيانُ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن عبدِ الكريمِ، عن، عن سعيدٍ بن جُبَيْرٍ، قال: اليتامَى والنساءُ
(1)
.
حدَّثَنَا المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أَخْبَرَنَا هُشَيمٌ، عن يُونسَ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: لا تُعْطوا الصغارَ والنِّساءَ
(2)
.
حدَّثَنَا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن يُونسَ، عن الحسنِ، قال: المرأةُ والصبيُّ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4787) من طريق سالم عن سعيد بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (561 - تفسير) عن هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4784) من طريق يونس به. وذكره في 3/ 863 عقب الأثر (4786) معلقًا بلفظ: "النساء والصبيان".
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ
(1)
، عن أبي حُرَّةَ
(2)
، عن الحسن، قال: النِّساءُ والصغارُ. والنساءُ أَسْفَهُ السُّفَهاءِ
(3)
.
حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاق، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ في قوله:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: السفهاءُ: ابنُك السَّفِيهُ، وامرأتُك السفيهةُ وقد ذُكِرَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"اتَّقُوا الله فِي الضَّعِيفَيْنِ: اليتيمِ والمرأةِ"
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنى الحِمَّانِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا حُمَيدُ بنُ
(5)
عبدِ الرحمنِ الرُّؤاسيُّ، عن السُّديِّ - قال: يَرُدُّه إلى عبدِ اللهِ - قال: النساءُ والصبيانُ
(6)
.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . أما السفهاءُ فالولدُ والمرأةُ
(7)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعت أبا مُعاذٍ يقولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بنُ سُلَيمانَ، عن الضَّحاكِ قولَه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . يعنى بذلك: ولدَ الرجلِ وامرأتَه، وهى أسْفَهُ السُّفَهاءِ
(8)
.
(1)
بعده في ص، م:"عن شريك". والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 30/ 272.
(2)
في ص، م:"حمزة". وينظر تهذيب الكمال 30/ 272.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (561 - تفسير) عن هشيم به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 146.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن". وينظر تهذيب الكمال 7/ 375.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 عقب الأثر (4786) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى ابن المنذر.
(7)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 112، وأبو حيان في البحر المحيط 3/ 169.
(8)
ذكره البغوي في تفسيره 2/ 164 معلقًا.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: أَخْبَرَنَا يزيدُ، قال: أَخْبَرَنَا جُوَيبِرٌ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: السُّفَهَاءُ الولدُ والنساءُ أسْفَهُ السُّفَهاءِ، فيكونوا عليكم أرْبابًا
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ الغِفاريُّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن سلمةَ بن نُبَيطٍ، عن الضَّحاكِ، قال: أبناؤُكم ونساؤكم
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانِيُّ، قال: ثنى أبي، عن سَلَمَةَ، عن الضَّحاكِ، قال: النِّسَاءُ والصِّبيانُ.
حدَّثَنَا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: أَخْبَرَنَا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُميدٍ الأعْرَجِ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: النساءُ والولَدُ
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثني أبو نُعيمٍ، قال: ثنا ابن أبي غَنِيَّةَ
(4)
، عن الحَكمِ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: النساءُ والولَدُ
(5)
.
حدَّثَنَا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} : أمَر اللهُ بهذا المالِ أن يُخْزَنَ فتُحْسَنَ خِزانَتُه، ولا تُمَلَّكَه المرأةُ السَّفِيهةُ ولا الغلامُ السَّفِيهُ
(6)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 2/ 164 معلقًا.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 112، وابن كثير في تفسيره 2/ 186.
(3)
تفسير سفيان ص 88.
(4)
في ص: "عنية"، وفى ت 2:"عيينة"، وفى م:"عنبسة". وما أثبتاه هو الصواب. وينظر تهذيب الكمال 18/ 302.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 عقب الأثر (4786) معلقًا، وابن كثير في تفسيره 2/ 186.
(6)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 169 بنحوه.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن إسماعيلَ، عن أبي مالكٍ، قال: النساءُ والصبيانُ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: امرأتَك وبَنِيك. وقال: السفهاءُ الولدانُ، والنساءُ أسفَهُ السفهاءِ
(2)
.
وقال آخرون: بل السفهاءُ: الصِّبيانُ خاصةً.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أَخْبَرَنَا ابن المباركِ، عن شَريكٍ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: هم اليتامَى
(3)
.
حدَّثَنَا ابن وَكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن شَريكٍ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ، قال: السفهاءُ: اليتامَى.
حدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أَخْبَرَنَا يُونسُ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . يقولُ: لا تَنْحَلوا الصِّغارَ
(4)
.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك السفهاءَ مِن ولدِ الرجلِ.
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 112.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4786) من طريق الضحاك عن ابن عباس بنحوه، وأخرجه سفيان في تفسيره ص 88 من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ:"هي أسفه السفهاء".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4787) من طريق شريك به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4784) من طريق يونس به، وتقدم تخريجه في ص 388 من طريق هشيم به، حاشية (2).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا سعيدُ بنُ يحيى الأُمويُّ، قال: أَخْبَرَنَا ابن المباركِ، عن إسماعيلَ بن أبى خالدٍ، عن أبي مالكٍ قولَه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: لا تُعْطِ وَلَدَك السَّفِيهَ مالَك فيُفْسِدَه، الذي هو قوامُك بعدَ اللهِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . يقولُ: لا تُسَلِّطِ السَّفيهَ مِن ولدِك. فكان ابن عباسٍ يقول: نزَل ذلك في السفهاءِ، وليس اليَتامَى مِن ذلك في شيءٍ
(2)
.
حدَّثَنَا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن فِراسٍ، عن الشعبيِّ، عن أبي بُردةَ، عن أبي موسى الأشْعَريِّ أنه قال: ثلاثةٌ يَدعون الله فلا يَسْتَجِيبُ لهم: رجلٌ كانت له امرأةٌ سيئةُ الخُلُقِ فلم يُطَلِّقْها، ورجلٌ أَعْطَى مالَه سفيهًا، وقد قال اللهُ عز وجل:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . ورجلٌ كان له على رجلٍ دَينٌ، فلم يُشْهِدْ عليه
(3)
.
حدَّثَنَا يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: سمعت ابنَ زيدٍ يقولُ في قولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآية. قال: لا تُعْطِ السَّفِيهَ من ولدِك رأسًا ولا حائطًا، ولا شيئًا هو لك قَيِّمًا مِن مالِك
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4783) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 862 (4782) عن محمد بن سعد به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 309، 6/ 97 من طريق شعبة به، وأخرجه الطحاوي في المشكل (2530)، والحاكم 2/ 302، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى"، والبيهقى 10/ 146، وفي الشعب (8041) من طريق شعبة به مرفوعًا.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 114.
وقال آخرون: بل السفهاءُ في هذا الموضعِ النساءُ خاصةً دونَ غيرِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعْتمِرُ، عن أبيه، قال: زعَم حَضْرميٌّ أن رجلًا عَمَد فَدَفَع مالَه إلى امرأتِه، فوَضعتْه في غيرِ الحقِّ، فقال اللهُ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
(1)
.
حدَّثَنَا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ الثوريُّ، عن حُميدِ بن قيسٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: النساءُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: ثنا سفيانُ الثوريُّ، عن حُميدِ بن قَيسٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: هنَّ النساءُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله عز وجل:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . قال: نَهَى
(3)
الرجالَ أن يُعْطُوا النساءَ أموالَهم وهنَّ سفهاءُ، مَن كُنَّ أَزواجًا أو أمهاتٍ أو بناتٍ
(4)
.
حدَّثَنَا المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثَنَا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا هشامٌ، عن الحسنِ، قال: المرأةُ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى المصنف.
(2)
تفسير سفيان ص 88.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"نهوا".
(4)
تفسير مجاهد ص 266، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أَخْبَرَنَا جويبرٌ، عن الضَّحاكِ، قال: النساءُ مِن أسفهِ السفهاءِ
(1)
.
حدَّثَنَا المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أَخْبَرَنَا ابن المباركِ، عن أبي عَوانةَ، عن عاصمٍ، عن مُوَرِّقٍ، قال: مَرَّت امرأةٌ بعبدِ اللهِ بن عُمرَ، لها شارةٌ وَهْيئةٌ، فقال لها ابن عمرَ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في تأويلِ ذلك عندَى، أن الله عَزَّ ذكرُه عمَّ بقوله:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . فلم يَخْصُصْ سفيهًا دونَ سفيهٍ، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ أن يُؤتىَ سفيهًا مالَه، صبيًا صغيرًا كان أو رجلًا كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى. والسفيهُ الذي لا يجوزُ لوليِّه أن يُؤْتيَه مالَه، هو المُسْتَحِقُّ الحَجْرَ بتَضْيِيعِه مالَه، وفسادِه وإفسادِه، وسوءِ تَدْبيرِه ذلك.
وإنما قلنا ما قلنا مِن أن المعنيَّ بقولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . هو مَن وَصَفْنا دونَ غيرِه؛ لأن الله عز ذكرُه قال في الآيةِ التي تَتْلُوها: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. فأمَر أولياءَ اليَتامَى بدَفْعِ أموالِهم إليهم، إذا بَلَغوا النكاحَ، وأُونِسَ منهم الرُّشْدُ، وقد يَدْخُلُ في اليَتامَى الذكورُ والإناتُ، فلم يَخْصُصْ بالأمرِ بدفعِ ما لهم مِن الأموالِ الذكورَ دونَ الإناثِ، ولا الإناثَ دونَ الذكورِ.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الذين أُمِرَ أولياؤهم بدَفِعِهم أموالَهم إليهم وأُجِيزَ للمسلمين مُبايَعتُهم ومُعامَلتُهم، غيرُ الذين أُمِرَ أولياؤهم بمَنْعِهم أموالَهم وحُظِرَ على المسلمين مُداينتُهم ومُعامَلتُهم.
(1)
تقدم تخريجه في صفحة 390.
(2)
عزاه السيوطي الدر المنثور 2/ 120 إلى المصنف.
فإذا كان ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ أن السُّفهاء الذين نهَى الله المؤمنين أن يُؤْتُوهم أموالَهم هم المُسْتَحِقون الحَجْرَ والمُسْتَوْجِبون أن يُولَى عليهم أموالُهم، وهم مَن وَصَفْنا صِفَتَهم قبلُ، وأن مَن عدا ذلك فغيرُ سَفِيهٍ؛ لأن الحَجْرَ لا يَسْتَحِقُّه مَن قد بلَغ وأُونِسَ رُشْدُه.
وأما قولُ مَن قال: عنَى بالسفهاءِ النساءَ خاصةً. فإنه حمَل اللغةَ على غيرِ وجهِها، وذلك أن العربَ لا تكادُ تَجمَعُ "فعيلًا" على "فُعَلاءَ"، إلا في جمعِ الذكورِ، أو الذكورِ والإناثِ، فأما إذا أرادوا جمعَ الإناثِ خاصةً لا ذُكْرانَ معها، جمعوه على: فَعائِلَ وفَعِيلاتٍ، مثل غريبةٍ تُجمَعُ على غَرائبَ وغَريباتٍ؛ فأَما الغُرباءُ فجَمْعُ غريبٍ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قوله: {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} ؛ فقال بعضُهم: عَنَى بذلك: لا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ مِن النساءِ والصبيانِ - على ما قد ذَكَرْنا مِن اخْتِلافِ مَن حَكَيْنا قولَه قبلُ - أيُّها الرُّشداءُ، أموالَكم التي تَمْلِكونها، فتُسَلِّطوهم عليها فيُفْسِدوها ويُضَيِّعوها، ولكن ارْزُقوهم أنتم منها، إن كانوا ممن يَلْزَمُكم نَفَقَتُه، واكْسُوهم، وقولوا لهم قولًا مَعْروفًا.
وقد ذَكَرْنا الرِّوايةَ عن جماعةٍ ممن قال ذلك، منهم أبو موسى الأشعريُّ، وابنُ عباسٍ، والحسنُ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، والحَضْرَمِيُّ، وسَنَذْكُرُ أقوالَ الآخرين الذين لم يُذكَرْ قولُهم فيما مَضَى قبلُ.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} . يقولُ: لا تُعْطِ امرأتَك وولدَك مالَك، فيكونوا هم الذين يَقُومون عليك، وأطْعِمُهم
مِن مالِك واكْسُهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . يقولُ: لا تُسَلِّطِ السفيهَ مِن ولدِك على مالِك، وأمَرك أن تَرْزُقَه منه وتَكْسُوَه
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قال: لا تُعْطِ السفيهَ من مالِك شيئًا هو لك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تُؤْتُوا السفهاءَ أموالَهم، ولكنه أُضِيفَ إلى الوُلاةِ؛ لأنهم قُوَّامُها ومُدَبِّروها.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُويدُ بنُ نصرٍ، قال: أَخْبَرَنَا ابن المباركِ، عن شَريكٍ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . [قال: {أَمْوَالَكُمُ} أموالَهم. بمنزلةِ قولِه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. قال: وهم اليتامى يقولُ: لا تؤتوهم أموالَهم وارزقوهم منها واكسوهم
(3)
.
وأولى الأقوالِ بتأويلِ ذلك أن يقال: إن الله جلَّ وعزَّ نهى المؤمنين أن يُؤتوا السفهاءَ أموالَهم]
(4)
وقد يدخلُ في قولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . أَمْوالُ المَنْهِيين
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 114.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 862 (4782) عن محمد بن سعد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 863 (4790) من طريق شريك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى ابن المنذر.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
عن أن يُؤْتُوهم ذلك، وأموالُ السفهاءِ؛ لأن قولَه:{أَمْوَالَكُمُ} غيرُ مَخْصوصٍ منها بعضُ الأموال دونَ بعضٍ، ولا تمتنعُ العربُ أن تُخاطِبَ قومًا خِطابًا، فيَخْرُجَ الكلامُ بعضُه خبرٌ عنهم، وبعضُه عن غَيَبٍ، وذلك نَحْوُ أن يقولوا: "أكَلْتم يا فلانُ أموالَكم بالباطلِ. فخاطب الواحدَ خِطابَ الجميعِ، بمعنى إنك وأصحابَك وقومك أكَلْتم أموالَكم. فكذلك قولُه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} . معناه: ولا تُؤْتُوا أيُّها الناسُ سُفهاءَكم أموالَكم التي بعضُها لكم وبعضُها لهم، فتُضَيِّعوها (3).
وإذا كان ذلك كذلك، وكان اللهُ عز وجل قد عمَّ بالنهيِ عن إيتاءِ السفهاءِ الأموال كلَّها، ولم يَخْصُصُ منها شيئًا دونَ شيءٍ، كان بيِّنا بذلك أنّ معنى قولِه:{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . إنما هو التي جعَل اللهُ لكم ولهم قِيامًا، ولكن السُّفهاءَ دخَل ذِكْرُهم في ذكرِ المُخاطَبين بقولِه:{لَكُمْ} .
وأما قولُه: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . [فإنه يعنى: التي جعَلها اللهُ قوامَ معايشِكم ومعايشِ سُفهائِكم التي بها تقومون]
(1)
. "قيامًا" و "قِيَمًا" و "قِوَامًا" في معنًى واحدٍ. وإنما "القيامُ" أصلُه "القِوَامُ"، غيرَ أن القافَ التي قبلَ الواوِ لمّا كانت مكسورةً، جُعِلَت الواوُ ياءً لكسرةِ ما قبلَها، كما يُقالُ: صُمْتُ صيامًا، وحُلتُ حِيالًا، ويقالُ منه: فلانٌ قِوَامُ أهلِ بيتِه، وقيامُ أهلِ بيتِه.
واخْتَلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأه بعضُهم
(2)
: (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيمًا) بكسرِ القافِ وفتحِ الياءِ بغيرِ ألفٍ. وقرأه آخرون
(3)
: {قِيَامًا} بألفٍ.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فإن".
(2)
هي قراءة نافع وابن عامر. السبعة ص 226.
(3)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
والقراءةُ التي نَخْتارُها: {قِيَامًا} بالألفِ؛ لأنها القراءةُ المعروفةُ في قراءةِ أمصارِ الإسلامِ، وإن كانت الأُخْرَى غيرَ خَطأ ولا فاسدٍ. وإنما اخترنا ما اخترنا مِن ذلك؛ لأن القراءاتِ إِذا اخْتَلَفت في الألفاظِ واتفَقَت في المعنى، فأعجبُها إلينا ما كان أظهرُ وأشهرَ في قراءةِ أمصارِ الإسلامِ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ قولِه: {قِيَامًا} ، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا سعيدُ بنُ يحيى الأُمويُّ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي مالكٍ:{أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} : الذي هو قِوَامُك بعدَ اللهِ
(1)
.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} : فإن المالَ هو قِيَامُ الناسِ؛ قِوَامُ معايشِهم. يقولُ: كن
(2)
أنت قَيِّمَ أهلِك، ولا تُعْطِ امرأَتَك [وولدَك]
(3)
مالَك، فيكونوا هم الذين يَقُومون عليك
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . يقولُ اللهُ عز وجل: لا تَعْمِدُ إلى مالِك وما خَوَّلك اللهُ وجعَله لك معيشةً، فتُعْطِيَه امرأتَك أو بَنِيك ثم تَنْظُرَ إلى ما في أيديهم، ولكن أَمْسِكْ مالَك وأصْلِحْه، وكن أنت الذي تُنْفِقُ عليهم في كِسْوَتِهم ورِزْقِهم ومُؤْنَتِهم. قال: وقولُه: {قِيَامًا} . يعنى: قِوَامَكم في
(1)
تقدم تخريجه في ص 392، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 864 عقب الأثر (4792) معلقًا.
(2)
في م، ت 2، ت 3، س:"كنت".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
تقدم تخريجه في ص 396.
معايشِكم
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا معمرٌ، عن الحسنِ قولَه:{قِيَامًا} . قال: قِيامُ عيشِك
(2)
.
حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا
(3)
بَكْرُ بنُ شرودٍ، عن
(4)
مجاهدٍ أنه قرأ: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . [بالألفِ، يقولُ: قيِامُ عيشِك
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ]
(6)
. قال: لا تُعْطِ السفيهَ من ولدِك شيئًا هو لك قِيَمٌ مِن مالِك، وارزقوهم
(7)
.
وأما قولُه: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} . فإن أهلَ التأويلِ اخْتَلفوا في تأويلِه، فأما الذين قالوا: إنما عَنَى اللهُ جل ثناؤُه بقولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} : أموالَ
(8)
أولياءِ السُّفهاءِ، [لا أموالَ]
(9)
السفهاءِ، فإنهم قالوا: معنى ذلك: وارْزُقوا أيُّها الناسُ سفهاءَكم مِن نسائِكم وأولادِكم، مِن أموالِكم طعامَهم، وما لابدَّ لهم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 864 (4791) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 120 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 146.
(3)
بعده في ص: "ابن أبي جعفر أبا". وينظر لسان الميزان 2/ 52.
(4)
بعده في النسخ: "ابن". والمثبت من مصدر التخريج.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 121 إلى المصنف
(6)
سقط من: ت 1.
(7)
سقط من: م، ت 3، س. والأثر تقدم تخريجه في ص 392.
(8)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(9)
في ص، ت 1، ت 2:"لأموال".
منه، مِن مُؤنَتِهم
(1)
وكسْوَتِهم.
وقد ذَكَرنا بعضَ قائلى ذلك فيما مَضَى، وسَنَذْكُر مَن لم نَذْكُرْ مِن قائليه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمروٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: نا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: أُمِروا أن يَرْزُقوا سُفَهاءَهم، مِن أزواجِهم وأمهاتِهم وبناتِهم مِن أموالِهم
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: {وَارْزُقُوهُمْ} . قال: يقول: أنْفِقُوا عليهم
(3)
.
حدَّثَنَا [محمدُ بنُ الحسينِ]
(4)
، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} . يقولُ: أَطْعِمْهم
(5)
مِن مالِك واكْسُهْم
(6)
.
وأما الذين قالوا: إنما عَنَى بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} : أَموالَ السفهاءِ ألا يُؤْتيَهموها أولياؤُهم، فإنهم قالوا: معنى قولِه: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} : وارْزُقوا أيُّها الوُلاةُ - وُلاةُ أموالِ السفهاءِ - سفهاءَكم مِن أموالِهم، طعامَهم وما لابدَّ لهم مِن مُؤَنِهم وكِسْوتِهم، وقد مَضَى ذِكْرُ ذلك.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مؤنهم".
(2)
تقدم تخريجه في ص 390.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
في س: "المثنى".
(5)
في س: "أعطهم".
(6)
تقدم تخريجه في ص 396.
قال أبو جعفرٍ: وأما الذي نراه صوابًا في قولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . من التأويل، فقد ذَكَرناه، ودَلَّلنا على صحةِ ما قلنا في ذلك، بما أغْنَى عن إعادتِه.
فتأويلُ قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} - على التأويلِ الذي قلنا في قولِه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} -: وأَنْفِقُوا على سفهائِكم من أولادِكم ونسائِكم [الذي يجبُ عليكم نفقتُه في]
(1)
طعامِهم وكِسْوتِهم من
(2)
أموالِكم، ولا تُسَلِّطوهم على أموالِكم فيُهْلِكوها - وعلى سفهائِكم منهم، ممن لا تَجِبُ عليكم نَفَقَتُه، ومِن غيرِهم الذين تَلُون أنتم أمورَهم مِن أموالِهم، فيما لا بدَّ لهم مِن مُؤَنِهم في طعامِهم وشرابِهم وكِسْوتِهم؛ لأن ذلك هو الواجبُ مِن الحُكْمِ في قولِ جميعِ الحجةِ، لا خلافَ بينَهم في ذلك مع دَلالة ظاهرِ التنزيل على صحة ما قلنا في ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} :
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: عِدْهم عِدَةٌ جميلةٌ من البرِّ والصِّلَةِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: أُمِروا أن يقولوا لهم قولًا معروفًا في البرِّ والصَّلَةِ، يَعْنى النساءَ، وهن السفهاءُ عندَه
(3)
.
(1)
في م: "الذين تجب عليكم نفقتهم من".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"في".
(3)
تفسير مجاهد ص 266، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 864 (4795) من طريق أبي عاصم به ببعضه.
حدَّثَنَا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ
(1)
: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: عِدَةً تَعِدونهم
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادْعُوا لهم.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} : إن كان ليس مِن ولدِك، ولا ممن يَجِبُ عليك أن تُنْفِقَ عليه، فقل له
(3)
قولًا معروفًا، قل له (1): عافانا اللهُ وإياك، بارك
(4)
اللهُ فيك
(5)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوالِ في ذلك بالصحةِ ما قاله ابن جُرَيجٍ، وهو أن مَعْنَى قوله:{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . أي قولوا يا معاشَرَ وُلاةِ السفهاءِ قولًا معروفًا للسفهاء: إن صَلَحْتم ورَشَدْتم سَلَّمْنا إليكم أموالَكم، وخَلَّيْنا بينَكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسِكم وأموالِكم. وما أَشْبَهَ ذلك مِن القولِ الذي فيه
(6)
حثٌّ على طاعةِ الله، ونَهىٌ عن معصيتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .
يعني تعالى ذِكْرُه بقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} . واخْتَبِروا عقولَ يتاماكم في
(1)
بعده في م: "عن مجاهد". والمثبت من مصدر التخريج.
(2)
في الأصل، م، ت 1، ت 2، س:"تعدوهم". والمثبت موافق لما في مصدر التخريج. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى المصنف.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لهم".
(4)
في م: "وبارك".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى المصنف.
(6)
في الأصل: "هو".
أفهامِهم، وصلاحِهم في أديانِهم، وإصلاحِهم أموالَهم.
كما حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ والحسنِ في قوله:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} . قالا: يقولُ: اخْتَبِروا اليتامى
(1)
.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ: أما: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} . فجرِّبوا عقولَهم
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} . قال: عقولَهم
(3)
.
حدَّثني المُثنى، قال: حدَّثني عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ عن ابن عباسٍ قولَه:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} . قال: اخْتَبِروهم
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} . قال: اخْتَبِروه
(5)
في رأيِه وفي عقلِه كيف هو، إذا عُرِفَ أنه قد أُونِس منه رُشْدٌ، دُفِعَ إليه مالُه. قال: وذلك بعدَ الاحتلامِ
(6)
.
قال أبو جعفرٍ: وقد دَلَّلنا فيما مضَى قبلُ على أن مَعْنى الابتلاءِ الاختبارُ، بما فيه
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 146.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 864 عقب الأثر (4798) من طريق السدى به.
(3)
تفسير مجاهد ص 267، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 864 (4798) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 864 (4797)، والبيهقى 6/ 59 من طريق عبد الله بن صالح به، بأتم من هذا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى ابن المنذر.
(5)
في الأصل، ت 1، ت 2، س:"اختبروهم".
(6)
ينظر التبيان للطوسي 3/ 116.
الكفايةُ عن إعادتِه.
وأما قولُه: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} . فإنه يعنى: حتى إذا بَلَغوا الحُلُمَ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [قال: الحُلُمَ
(1)
.
نا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: نا أسباطُ، عن السديِّ:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ]
(2)
: حتى إذا احْتَلَموا
(3)
.
حدَّثني عليُّ بن داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ عن ابن عباسٍ:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} : قال: عندَ الحُلُمِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} . قال: الحُلُمَ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} .
يعنى بقوله تعالى ذكرُه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} : فإن وَجَدتم منهم وعَرَفتم.
كما حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} . قال: عَرَفتم منهم.
(1)
تفسير مجاهد ص 267.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 865 عقب الأثر (4800) معلقًا.
(4)
ينظر التبيان 3/ 116.
يقالُ منه: آنَسْتُ مِن فلانٍ خيرًا وبرًّا
(1)
- بمدِّ الألفِ - إيناسًا. وأَنَسْتُ به آنَسُ أُنْسًا. بِقَصْرِ أَلْفِها: إِذا أَلِفْتَه.
وقد ذُكِرَ أنها في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فإن أَحسْتُم
(2)
منهم رشدًا). بمعنى: أَحْسَسْتُم: أي وَجَدتم.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في معنى الرُّشْدِ في هذا الموضعِ الذي ذكَره اللهُ؛ فقال بعضُهم: معنى الرشدِ في هذا الموضعِ في هذه الآيةِ: العقلُ والصلاحُ في الدينِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحُسينِ، قال: ثنا أحمدُ بن المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} : عقولًا وصلاحًا
(3)
.
حدَّثَنَا بِشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} . يقولُ: صلاحًا في عقلِه ودينِه
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: صلاحًا في دينهم، وإصلاحًا لأموالِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا ابن وَكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن مباركٍ، عن الحسنِ، قال: رُشْدًا في
(1)
في ت 1: "وقرا"، وفى م:"وقرئ".
(2)
في ص: "أحسستم"، وفى م:"أحسيتم". وما أثبتاه موافق لما في معاني القرآن للفراء 1/ 275. وقد نبه محققه أن هذا تحريف عن "أحسيتم"، الذي بمعنى أحسستم. وليس كما قال. قال أبو حيان: (أحستم) يريد أحسستم، فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة. ينظر البحر المحيط 3/ 172.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى المصنف.
(4)
ينظر التبيان 3/ 116، 117.
الدين وصلاحًا وحفظًا للمالِ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} : في حالِهم، والإصلاحَ في أموالِهم
(2)
.
وقال آخرون: بل ذلك هو العقلُ خاصةً.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: لا يُدفَعُ
(3)
إلى اليتيمِ مالُه وإن أخَذ بلحيتِه، وإن كان شيخًا، حتى يُؤْنسَ منه رُشْدُه؛ العقلُ
(4)
.
[أنا ابن حميدٍ قال: نا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: الرشدُ العقلُ
(5)
.
حدَّثَنَا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} قال: العقلُ.
(1)
أخرجه البيهقى 6/ 59 من طريق هشام عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 865 (4805)، والبيهقى 6/ 59 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى ابن المنذر.
(3)
في ص، م:"ندفع"، وفى ت 2، س:"تدفع". والمثبت موافق لما في سنن سعيد.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (563 - تفسير)، وابن أبي شيبة 8/ 488 (5996) من طريق منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أَخْبَرَنَا أبو شُبْرُمةَ، عن الشعبيِّ، قال: سَمِعْتُه يقولُ: إن الرجلَ ليَأْخُذُ بلحيتِه وما بلَغ رُشْدَه
(1)
.
وقال آخرون: بل هو الصلاحُ، والعلم بما يُصْلِحُه.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} . قال: صلاحًا وعلمًا بما
(2)
يُصْلِحُهُ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى الأقوالِ عندى بمعنى الرُّشْدِ في هذا الموضعِ: العقلُ وإصلاحُ المالِ؛ لإجماعِ الجميعِ على أنه إذا كان كذلك لم يَكُنْ ممَن يَسْتَحِقُّ الحَجْرَ عليه في مالِه، وحَوْزَ ما في يدِه عنه، وإن كان فاجرًا في دينِه. فإذْ كان ذلك إجماعًا من الجميعِ، فكذلك حُكْمُه إذا بلَغ وله مالٌ في يدِ وَصِيِّ أبيه، أو في يَدِ حاكمٍ قد وَلِىَ مالَه لطفولتِه، واجبٌ عليه تَسْليمُ مالِه إليه إذا
(4)
كان عاقلًا بالغًا، مُصْلِحًا لمالِه غيرَ مفسدٍ؛ لأن المعنى الذي به يَسْتَحِقُّ أن يُولَّى على مالِه الذي هو في يدِه هو المَعْنَى الذي بهِ يَسْتَحِقُّ أن تُمْنَعَ يدُه مِن مالِه الذي هو في يَدِ وليِّ مالِه
(5)
لا فرقَ بينَ ذلك.
وفي إجماعِهم على أنه غيرُ جائزٍ حِيازةُ ما في يدِه في حالِ صحةٍ عَقْلِه وإصلاحِ ما في يدِه، الدليلُ الواضحُ على أنه غيرُ جائزٍ مَنْعُ يدِه مما هو له في مثلِ ذلك الحالِ، وإن كان قبلَ ذلك كان في يدِ غيرِه، لا فرقَ بينهما، ومَن فَرَّقَ بينَ ذلك عُكِسَ عليه
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (564 - تفسير) من طريق مغيرة عن الشعبي.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، س:"لما".
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 117.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"وإذا".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فإنه".
القولُ في ذلك، وسُئِلَ الفرقَ بينهما من أَصْلٍ أو نَظِيرٍ، فلن يقولَ في أحدِهما قولًا إِلا أُلْزِمَ في الآخرِ مثلَه.
فإذ كان ما وَصَفْنا من الجميعِ إجماعًا، فبَيِّنٌ أن الرُّشْدَ الذي به يَسْتَحِقُّ اليتيمُ - إذا بلَغ، فأُونِسَ منه - دَفْعَ مالِه إليه، هو ما قُلْنَا مِن صحةِ عَقْلِه وإصلاحِه مالَه.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} .
يعنى بذلك تعالى ذكْرُه وُلاةَ أموالِ اليتامى، يقولُ اللهُ لهم: فإذا بلَغ أيتامُكم الحُلُمَ، فآنَسْتُم منهم عقلًا وإصلاحًا لأموالِهم، فادْفَعوا إليهم حينَئذ أموالَهم، ولا تَحْبِسُوها عنهم.
وأما قولُه: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} . [فإنه يَعْنى: ولا تَأْكُلُوا يا معشرَ ولاةِ أموالِ اليتامَى أموالَهم {إِسْرَافًا}]
(1)
يعنى: بغيرِ ما أباحه اللهُ لكم
(2)
.
كما حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا معمرٌ، عن قتادةَ والحسنِ:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} . يقول: لا تُسْرِفُ فيها
(3)
.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} . قال: تُسْرِفُ في الأكلِ
(4)
.
وأصلُ الإسرافِ: تجاوزُ الحدِّ المباحِ إلى ما لم يُبَحْ، وربما كان ذلك في
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، س:"لك".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 146.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 866 (4812) من طريق أحمد بن المفصل به.
الإفراطِ، وربما كان في التقصيرِ
(1)
، غيرَ أنه إذا كان في الإفراطِ، فاللغةُ المستعملةُ فيه أن يقالَ: أَسْرَف يُسْرِف إسرافًا. وإذا كان كذلك في التقصير، فالكلامُ منه: سَرِفَ يَشرَفُ سَرَفًا. يقالُ: مَرَرْتُ بكم فسَرَفْتُكم. يرادُ به: فسَهَوْتُ عنكم وأَخْطَأْتُكم، كما قال الشاعرُ
(2)
:
أَعْطُوا هُنَيْدَةَ
(3)
يَحْدُوها ثمَانِيَةٌ
…
ما في عطَائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ يعنى بقولِه: ولا سَرَف: لا خطأَ فيه، يرادُ به: أنهم يُصِيبون مواضعَ العطاءِ، فلا يُخْطِئونها.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} .
يعنى بقولِه جل ثناؤه: {وَبِدَارًا} : ومبادرةً. وهو مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: بادَرْتُ هذا الأمرَ مُبادَرةً وبدارًا. وإنما يعنى بذلك جلّ ثناؤُه وُلاةَ أموالِ اليتامى، يقولُ لهم: لا تَأْكلوا أموالَهم إسرافًا - يعنى
(4)
: ما أباح اللهُ لكم أكْلَه - ولا مُبادرةً منكم بُلُوغَهم وإيناسَ الرُّشْدِ منهم؛ حذرًا أن يَبْلُغوا فيَلْزَمَكم تَسْليمُه إليهم.
كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِسْرَافًا وَبِدَارًا} . يعنى: يأكلُ
(5)
مالَ اليتيمِ يُبادِرُ
(6)
أن يَبْلُغَ، فيَحُولَ بينَه وبينَ مالِه
(7)
.
(1)
في ص، س:"التصعير"، وفى ت 2:"التصغير".
(2)
البيت لجرير، وهو في ديوانه 1/ 174.
(3)
هنيدة: اسم لكل مائة من الإبل وغيرها. تاج العروس (هـ ن د).
(4)
في الأصل: "بغير".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أكل".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فبادرا".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 867 (4813) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى ابن المنذر.
حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ والحسنِ:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا} . يقولُ: لا تُسْرِفْ فيها ولا تُبادِرْ
(1)
.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَبِدَارًا} : [أن تُبادِرَ]
(2)
أن يَكْبَروا فيَأْخُذُوا أموالَهم
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِسْرَافًا وَبِدَارًا} . قال: هذه لوليِّ اليتيمِ خاصةً
(4)
، جُعِلَ
(5)
له أن يَأْكُلَ معه، إذا لم يَجِدْ شيئًا يَضَعُ يدَه معه، فيذهبُ يُؤخِّرُه
(6)
، يقول: لا أَدْفَعُ إليه مالَه. وجعلْتَ تَأْكُلُه تَشْتَهِي أَكْلَه، لأنك إن
(7)
لم تَدْفَعْه إليه لك فيه نَصِيبٌ، وإذا دَفَعْتَه إليه، فليس لك فيه نصيبٌ.
ومَوْضِعُ "أن" في قولِه: {أَن يَكْبَرُوا} ، نَصْبٌ بـ"المُبادرةِ"
(8)
؛ لأن مَعْنَى الكلامِ: لا تَأْكُلوها مُبادرةَ كِبَرِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .
(1)
في ص، ت 1، س:"تبادره"، وفى ت 2:"تبدره". والأثر تقدم تخريجه في ص 408.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"تبادرا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 867 عقب الأثر (4813) من طريق أسباط به بنحوه.
(4)
سقط من ص، ت 1، س. وفى الأصل:"بدارا بل كله".
(5)
في الأصل، ص، ت 1، س:"جعلوا".
(6)
في م، س:"بوجهه"، وفى ت 1:"ترجمه".
(7)
سقط من: ص، ت 1. وفي الأصل:"ما".
(8)
يعنى نصب بالمصدر، كأنه قال: لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهى قبل أن يكبر اليتامى. ينظر الكشاف 1/ 502.
يعنى بقوله جلّ ثناؤُه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا} . مِن وُلاةِ أموالِ اليتامى عن أموالِهم فَلْيَسْتَعْفِفْ بمالِه عن أكلِها بغيرِ الإسرافِ والبِدارِ أن يَكْبَروا، وبما أباح اللهُ له أكلَها به.
كما حدَّثَنَا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ وابنِ أبي ليلى، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} . قال: بغِناهُ مِن مالِه حتى يَسْتَغْنِيَ عن مالِ اليتيمِ
(1)
.
حدَّثَنَا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، [عن إبراهيمَ]
(2)
في قولِه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} : بغِناهُ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن ليثٍ، عن الحكمِ، عن مِقْسَمٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: مِن مالِ نفسه، ومَن كان فقيرًا منهم إليها محتاجًا فليَأْكُلْ بالمعروفِ.
ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في "المعروفِ" الذي أَذِنَ اللهُ لوُلاةِ أموالِهم في أكلِها به، إذا كانوا أهلَ فقرٍ وحاجةٍ إليها؛ فقال بعضُهم: ذلك هو القَرْضُ يَسْتَقْرِضُه مِن مالِه ثم يَقْضِيه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 868 (4820) من طريق أبي أحمد الزبيرى به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 869 (4828)، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 299، والحاكم 2/ 302 من طريق سفيان به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 868 عقب الأثر (4820) معلقًا.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثَنَا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وَكيعٌ، عن سفيانَ وإسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن حارثةَ بن مُضَرِّبٍ
(1)
، قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ، رضي الله عنه: إنى أنزلتُ مالَ اللَّهِ منى بمنزلةِ والى
(2)
اليتيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيتُ اسْتَغْفَفْتُ، وإنِ افْتَقَرْتُ أَكلتُ بالمعروفِ، فإذا أَيْسَرْتُ قَضَيتُ
(3)
.
حدَّثَنَا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن عليةَ
(4)
، عن زُهيرٍ، عن العلاءِ بن المُسَيَّبِ، عن حمادٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: هو القَرْضُ
(5)
.
حدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سَمِعتُ يونسَ، عن محمدِ بن سيرينَ، عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ أنه قال في هذه الآية:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، قال: الذي يُنْفِقُ مِن مالِ اليتيمِ يكونُ عليه قرضًا.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: ثنا سلمةُ بنُ علقمةَ، عن محمدِ بن سيرينَ، قال: سألت عَبيدةَ عن قولِه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مصرف".
(2)
في ص، م، ت 2، ت 3، س:"مال".
(3)
أخرجه ابن سعد 3/ 276، وابن أبي شيبة 12/ 324 عن وكيع به، وأخرجه ابن سعد في الموضع السابق من طريق أبي إسحاق به، وأخرجه سعيد بن منصور في تفسيره (788 - تفسير)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 296، والبيهقى 6/ 354 من طريق أبي إسحاق، عن يرفأ مولى عمر عن عمر، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر.
(4)
في النسخ: "عطية".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى المصنف.
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. قال: إنما هو قرضٌ، ألا ترَى أنه قال:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} . قال: فظنَنتُ أنه قالها برَأْيِه
(1)
.
حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا هشامٌ، عن محمدٍ، عن عَبيدةَ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} : وهو عليه قرضٌ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن سَلَمةَ بن
(3)
علقمةَ، عن ابن سيرينَ، عن عَبيدةَ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: المعروفُ القرضُ، ألا ترَى إلى قولِه جلّ وعزّ:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}
(4)
؟
حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ، عن ابن سيرينَ، عن عبيدةَ مِثْلَ حديثِ عبدِ الرزّاقِ، عن هشامٍ، عن محمدٍ
(5)
.
حدَّثني المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . يعنى: القرضَ
(6)
.
[حدَّثَنَا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أَخْبَرَنَا معمرٌ عن أيوبَ، عن ابن سيرين، عن عبيدةَ مثلَه]
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 380 عن ابن علية به.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 147.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (574 - تفسير) عن هشيم به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 148.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 869 (4829) من طريق أبي صالح به.
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 148.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . يقولُ: إن كان غنيًّا فلا يَحِلُّ له مِن مالِ اليتيمِ أن يأكلَ منه شيئًا، وإن كان فقيرًا فليَسْتقرِضُ منه، فإذا وجد مَيْسرةً فليُعْطِه ما اسْتَقرضَ منه، فذلك أكلُه بالمعروفِ
(1)
.
حدَّثَنَا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن
(2)
إدريسَ، قال: سمِعت أبي يَذكُرُ عن حمادٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: يَأْكُلُ قرضًا بالمعروفِ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: هو القرضُ، ما أصاب منه مِن شيءٍ قَضَاه إِذا أَيْسَر. يعنى قولَه:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشامٍ الدَّسْتُوائيِّ، قال: ثنا حمادٌ، قال: سَأَلتُ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ عن هذه الآيةِ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إِن أَخَذ مِن مالِه قَدْرَ قُوتِه، قرضًا، فإن أَيْسَر بعدُ قَضَاه، وإن حَضَره الموتُ ولم يُوسِرْ تَحَلَّله
(4)
مِن اليتيمِ، وإن كان صغيرًا تَحَلَّله
(5)
مِن وَليِّه
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن حمادٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: هو
(1)
أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 248 من طريق محمد بن سعد به.
(2)
في ص، م، ت 2، س:"أبو".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (575 - تفسير) عن هشيم به.
(4)
في تفسير ابن أبي حاتم: "فليستحله".
(5)
في ص: "حلله". وفى تفسير ابن أبي حاتم: "فليستحله".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 870 (4831) من طريق هشام الدستوائي به.
القرضُ
(1)
.
حدَّثَنَا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرِو بن أبي قيسٍ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن الشعبيِّ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: لا يَأْكُلُه إلا أن يُضْطَرَّ إليه، كما يُضْطَرُّ إلى المَيْتَةِ، فإنْ أكَل منه شيئًا قَضَاه
(2)
.
حدَّثَنَا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بِشْرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا شعبةُ، عن عبدِ اللهِ بن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: قرضًا.
حدَّثَنَا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن عبدِ اللَّهِ بن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ مِثْلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: سَلَفًا مِن مالِ يَتِيمِه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنَا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا الثوريُّ، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، وعن حمادٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قالا: هو القرضُ. قال الثوريُّ: وقاله الحَكَمُ أيضًا: ألا ترَى أنه قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}
(4)
؟
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 870 (4830) من طريق عطاء عن دينار، عن سعيد بن جبير بنحوه.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 870 (4834) من طريق عمرو بن قيس به، وأخرجه في 3/ 868 (4821) من طريق عطاء به.
(3)
تفسير مجاهد ص 267، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (567 - تفسير)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 297، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 248 من طريق ابن أبي نجيح به.
(4)
تفسير الثورى ص 88، 89، وتفسير عبد الرزاق، 1/ 147، وأخرجه ابن أبي شيبة 6/ 381 عن =
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: ثنا حَجَّاجٌ، عن مجاهدٍ، قال: هو القَرْضُ، ما أصاب منه مِن شيءٍ قَضَاه إِذا أَيْسَر بغِنًى
(1)
: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
(2)
.
حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعٍ، عن أبي العاليةِ:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: القرضُ، ألا ترَى إلى قولِه:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
(3)
؟
حدَّثنا ابن وَكيعٍ قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، قال: قرضًا
(4)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: إذا احتاج الواليُّ
(5)
و
(6)
افْتَقَر فلم يَجِدْ شيئًا، أكَل مِن مالِ اليتيمٍ وكتَبه، فإن أَيْسَر قضاه، وإن لم يُوسِرْ حتى تَحْضُرَه الوفاةُ دعا اليتيمَ، فاستحلَّ منه ما أكَل.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، قال: أخبرنا ابن أبى نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . [قال: يَسْتَسْلِفُ منه فيَتَّجِرُ فيه]
(7)
(8)
.
= سفيان عن حماد به.
(1)
في م: "يعنى".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (575 - تفسير) من طريق هشيم عن حجاج عمن سمع مجاهدا به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 381 عن وكيع به. وأخرجه 6/ 380 من طريق الربيع به نحوه.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 870 عقب الأثر (4831) معلقًا.
(5)
في م: "الولى".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أو".
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 381 عن ابن علية به.
[حدَّثنا سعيدُ بن الربيعِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: يَسْتَسْلِفُ، فإذا أيَسَر أدَّى.
حدَّثنا حميدُ
(1)
بنُ سعدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا شعبةُ
(2)
، عن حمادٍ، عن سعيدِ بن جبير، قال: يأكلُ قرضًا
(3)
.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك: فليأكُلْ بالمعروف]
(4)
مِن مالِ اليتيمِ بغيرِ إسرافٍ، ولا قَضاءَ عليه فيما أكَل منه.
واخْتَلَف قائلو هذه المقالةِ في معنى أكلِ ذلك بالمعروفِ؛ فقال بعضُهم: هو أن يَأْكُلَ مِن طعامِه بأطرافِ الأصابعِ، ولا يَكْتسِىَ
(5)
منه.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّديِّ، قال: أخبرني مَن سمِع ابنَ عباسٍ يقولُ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: بأطرافِ أصابعِه.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ الأشْجَعيُّ، عن سفيانَ، عن السُّديِّ، عمن سمِع ابنَ عباسٍ يقولُ. فذكَر مثلَه
(6)
.
(1)
في الأصل: "ابن حميد".
(2)
في الأصل: "سعيد".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 147، وابن أبي شيبة 6/ 381 من طريق حماد به.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يلبس".
(6)
تفسير سفيان ص 89، وأخرجه البيهقى 6/ 4 من طريق عبيد الله به وفيه: عكرمة، عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 869 (4825) من طريق السدى، عن عكرمة عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 122 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . يقولُ: فمن كان غنيًّا [ممن ولِىَ]
(1)
مالَ اليتيمِ فليَسْتَعْفِفْ عن أكلِه
(2)
، ومَن كان فقيرًا [ممن ولِىَ](1) مالَ اليتيمِ فليَأْكُلْ [بالمعروفِ، يأكُلُ]
(3)
معه بأصابعِه، لا يُسْرِفُ في الأكلِ ولا يَلْبَسُ
(4)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا حَرَمِيُّ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا شُعْبةُ، عن عُمارةَ، عن عِكْرمةَ في مالِ اليتيمِ: يَدُك مع أيديهم، ولا تَتَّخِذُ منه قَلَنْسُوةً.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن عُيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ وعطاءٍ، قالا: تَضَعُ يَدَك مع يدِه
(5)
.
[حدَّثنا سعيدُ بن الربيعِ، قال: ثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ وعكرمةَ مثلَه]
(6)
.
وقال آخرون: بل المعروفُ في ذلك أن يَأْكُلَ ما [سَدَّ الجَوْعةَ]
(7)
، ويَلْبَسَ ما وارَى العَوْرةَ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا مُغِيرةً، عن إبراهيمَ، قال: إن المعروفَ ليس بلبسِ الكَتّانِ ولا الحُلَلِ، ولكن ما سدَّ الجوعَ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من والى".
(2)
في م، ت 2، س:"ماله".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 870 عقب الأثر (4831) من طريق عمرو، عن أسباط به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 148، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (566 - تفسير)، وابن أبي شيبة 6/ 382 عن ابن عيينة به.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يسد جوعه".
ووارَى العَوْرةَ
(1)
.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن مُغِيرة، عن إبراهيمَ، قال: كان يقالُ: ليس المعروفُ بلبسِ الكَتّانِ ولا الحُلَلِ، ولكنَّ المعروفَ ما سدَّ الجوعَ ووارَى العَوْرةَ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ نحوَه
(2)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا أبو مَعْبَدٍ، قال: سُئِلَ مَكْحولٌ عن والى
(3)
اليتيمِ: ما أكْلُه بالمعروفِ إذا كان فقيرًا؟ قال: يدُه مع يدِه. قيل له: فالكِسْوةُ؟ قال: يَلْبَسُ مِن ثيابِه، فأما أن يَتَّخِذَ مِن مالِه مالًا لنفسِه فلا
(4)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا الأشْجَعيُّ، عن سفيانَ، عن مُغِيرة، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: ما سدَّ الجوعَ ووَارَى العورةَ، أما إنه ليس لَبُوسَ الكَتَّانِ والحُلَلِ.
وقال آخرون: بل ذلك المعروفُ، أكْلُ ثَمَرِه
(5)
، وشُرْبُ رِسْلِ ماشيتِه، بقيامِه على ذلك، فأما الذهبُ والفِضَّةُ فليس له أخذُ شيءٍ منهما إلا على وجهِ القرضِ.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (568 - تفسير) عن هشيم به، وهو في تفسير مجاهد ص 268، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 870 (4832) من طريق مغيرة.
(2)
تفسير سفيان ص 89 - ومن طريقه ابن الجوزى في النواسخ ص 249 - وتفسير عبد الرزاق 1/ 147، ومن طريقه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 298.
(3)
في م: "ولى".
(4)
سقط من: ت 2، والأثر ذكره الطوسى في التبيان 3/ 119 بنحوه، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 249.
(5)
في م: "تمره".
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ، عن القاسمِ بن محمدٍ، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباسٍ، فقال: إن في حجْرِى أموالَ أيتامٍ وهو يَسْتأذِنُه أن يُصِيبَ منها. فقال ابن عباسٍ: ألستَ تَبْغِى ضالَّتَها؟ فقال: بلى. قال: ألستَ تَهْنَأُ
(1)
جَرْباها؟ قال: بلى. قال: ألستَ تَلوطُ
(2)
حياضَها؟ قال: بلى. قال: ألستَ تَفْرِطُ
(3)
عليها يومَ وِرْدِها
(4)
؟ قال: بلى. قال: فأَصِبْ مِن رِسْلِها. يعنى: من لبنِها
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسمِ بن محمدٍ، قال: جاء أعرابيٌّ إلى ابن عباسٍ، فقال: إن في حجْرِى أيتامًا، وإن لهم إبلًا، ولى إبلٌ، وأنا أَمْنَحُ
(6)
في
(7)
إبلى [وأفقِرُ]
(8)
، فماذا يحلُّ لى
(9)
مِن ألبانِها؟ قال: إِن كُنْتَ تَبْغِى ضالَّتَها، وتَهْنَأُ جَرباها، وتلوطُ حوضَها، وتَسْعَى
(10)
عليها، فاشْرَبْ غيرَ مُضِرٍّ بنسلٍ، ولا
(1)
في تفسير عبد الرزاق: "تهنئ"، وهَنَأ الإبل: طلاها بالهناء، وهو القطران. القاموس المحيط (هـ ن أ).
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"تليط". ولاط الحوض يلوطه ويليطه: أصلحه بالطين. تاج العروس (ل و ط).
(3)
فرط يفرط، فهو فارط وفرط بالتحريك: إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء، ويهيئ لهم الدِّلاء والأرشِية. النهاية 3/ 434.
(4)
في م، س:"ورودها".
(5)
تفسير عبد الرزاق، 1/ 146، وأخرجه البيهقى 6/ 4 من طريق معمر به.
(6)
منح الناقة: جعل له وبرها ولبنها وولدها ثم يعيدها. تاج العروس (م ن ح).
(7)
في م، ت 2، س:"من".
(8)
في م: "فقراء"، وفى ت 2:"ذا فقر". وأفقر بعيره: أعاره للركوب. تاج العروس (ف ق ر).
(9)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(10)
في الأصل، وتفسير عبد الرزاق، والناسخ والمنسوخ:"تسقى"، وفى ص، ت 1، ت 2، وتفسير سفيان:"تستقى". وما في المطبوعة موافق لما في سنن البيهقى والدر المنثور. ويسعى عليها، يعنى يسعى في رعايتها.
ناهكٍ في الحَلْبِ
(1)
.
حدَّثني ابن
(2)
المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن أبي العاليةِ في هذه الآيةِ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: مِن فَضْلِ الرُّسُلِ والثَّمَرةِ
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن أبي العاليةِ، في والى مالِ اليتيمِ، قال: يأكلُ مِن رِسْلِ الماشيةِ، ومِن الثَّمَرةِ لقيامِه عليها، ولا يأكلُ مِن المالِ، وقال: ألا تَرَى أنه قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ؟
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: ثنا داودُ، عن رُفيعٍ
(4)
أبى العاليةِ، قال: رُخِّصَ لوالى
(5)
اليتيمِ أن يُصِيبَ مِن الرِّسْلِ، ويأكلَ مِن الثمرةِ، فأما الذهبُ والفضةُ فلابد من أن يُرَدَّ. ثم قرَأ:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . ألا ترى أنه لا بدَّ مِن أن يَدْفَعَ؟
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا عوفٌ، عن الحسنِ أنه قال: إنما كانت أموالُهم [إذ ذاك]
(6)
النخلَ والماشيةَ، فرُخِّصَ لهم إذا كان أحدُهم مُحتاجًا أن
(1)
تفسير سفيان ص 91، وتفسير عبد الرزاق 1/ 147، وأخرجه مالك في الموطأ 2/ 934، وسعيد بن منصور في سننه (571 - تفسير)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 298، والبغوى في تفسيره 2/ 168 من طريق يحيى بن سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 122 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 42، وأبو حيان في البحر المحيط 3/ 173.
(4)
بعده في ص، ت 2:"عن".
(5)
في م: "لولى".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أدخال".
يُصِيبَ مِن الرَّسْلِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ
(2)
، قال: أخبرنا إسماعيلُ بنُ
(3)
سالمٍ، عن الشعبيِّ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إذا كان فقيرًا أكَل مِن الثمرِ، وشَرِبَ مِن اللبنِ، وأصاب مِن الرِّسْلِ
(4)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} : ذُكِرَ لنا أن عمَّ
(5)
ثابتِ بن رِفاعةَ - وثابتٌ يومَئذٍ يتيمٌ في حجْرِه - مِن الأنصارِ أتَى
(6)
نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ اللهِ، إن ابنَ أخى
(7)
يتيمٌ في حِجْرِى، فما يحلُّ لى مِن مالِه؟ قال:"أن تأْكُلَ بالمَعْرُوفِ مِن غيرِ أن تَقِىَ مالَك بمالِه، ولا تَتَّخِذَ مِن مالِه وَفْرًا". وكان اليتيمُ يكونُ له الحائطُ مِن النخلِ، فيَقُومُ وَليُّه على صلاحِه وسَقْيِه، فيُصِيبُ مِن ثمرتِه، أو تكونُ له الماشيةُ، فيقومُ وَليُّه على صلاحِها، أو يَلِى علاجَها ومؤنتَها، فيُصِيبُ مِن جُزازِها
(8)
وعَوارضِها
(9)
ورِسْلِها، فأما رِقابُ المالِ وأصولُ المالِ، فليس له
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (573 - تفسير) من طريق يونس ومنصور، عن الحسن بنحوه.
(2)
في الأصل: "هشام".
(3)
في الأصل: "عن".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 383 من طريق مغيرة، عن الشعبى بنحوه.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"عمر بن". وينظر الإصابة 1/ 387.
(6)
في ت 2: "وافى".
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"أختى".
(8)
في م: "جذاؤها". وفى ت 1: "حرارها"، وفى ت 2:"جذارها". والجزاز: صوف النعجة أو الكبش إذا جُزّ فلم يخالطه غيره. تاج العروس (ج ز ز).
(9)
العوارض جمع عارض: وهى الناقة المريضة أو الكسير التي أصابها كسر أو آفة. تاج العروس (ع ر ض).
أن يَسْتهلكَه
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سَمِعت أبا معاذٍ، يقولُ: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سَمِعت الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . يعنى: ركوبَ الدابةِ وخدمةَ الخادمِ، فإن أخَذ مِن مالِه قرضًا في غِنًى، فعليه أن يؤدِّيَه، وليس له أن يأكلَ مِن مالِه شيئًا
(2)
.
وقال آخرون منهم: له أن يأكلَ مِن جميعِ المالِ إذا كان يلى ذلك وإن أتَى على المالِ، ولا قضاءَ عليه.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ صُبَيحٍ، عن أبي أُوَيسٍ
(3)
، عن يحيى بن سعيدٍ ورَبِيعةَ جميعًا، عن القاسمِ بن محمدٍ، قال: سُئِلَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه عما يَصْلُحُ لوليِّ اليتيمِ؟ قال: إن كان غنيًّا فليَسْتَعْفِفْ، وإن كان فقيرًا فليَأْكُلْ بالمعروفِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرنا يحيى بنُ أيوبَ، عن محمدِ بن عَجْلانَ، عن زيدِ بن أسلمَ، عن أبيه، أن عمرَ بنَ الخطابِ كان يقولُ: يحلُّ لوالى الأمرِ ما يَحِلُّ لوليِّ اليتيمِ؛ مَن كان غنيًّا فليَسْتَعفِفْ، ومَن كان فقيرًا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 122 إلى المصنف وعبد بن حميد. وذكره الحافظ في الإصابة 1/ 387، وقال: ورواه ابن منده من طريق عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة. ثم قال: هذا مرسل ورجاله ثقات.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 869 عقب الأثر (4829) معلقًا.
(3)
في م: "إدريس". وينظر تهذيب الكمال 31/ 346.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 867، 871 (4818، 4835) من طريق يحيى بن سعيد وربيعة قولهما.
فليَأْكُلْ بالمعروفِ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا الفَضْلُ بنُ عطيةَ، عن عطاءِ بن أبى رباحٍ في قولِه:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إذا احتاج فليَأْكُلْ بالمعروفِ، فإن أَيْسَر بعدَ ذلك فلا قضاءَ عليه
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن يزيدَ النَّحْويِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصريِّ، قالا: ذكَر اللهُ مالَ اليتامى، فقال:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} : ومعروفُ ذلك أن يتقىَ الله في يتيمِه
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ أنه كان لا يرَى على والى اليتيمِ قضاءً إذا أكَل وهو محتاجٌ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ
(2)
، عن مغيرةَ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ في قولِه:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . في الوصيِّ، قال: لا قضاءَ عليه
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ أنه قال في هذه الآية:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . قال: إذا عَمِل فيه والى اليتيمِ أكَل بالمعروفِ
(1)
.
[حدَّثنا حمد بنُ مَسْعدة، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: إذا كان يعملُ فيه أكَلَ]
(3)
.
(1)
ينظر تفسير القرطبي 5/ 42.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن منصور". وينظر ما تقدم في 1/ 232، 417، 520.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ يقولُ: إذا احتاج أكَل بالمعروفِ مِن المالِ، طُعْمَةً مِن اللهِ [عز وجل]
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن عُيَينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن الحسنِ العُرَنيِّ
(2)
، قال: قال رجلٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إن في حجْرِى يتيمًا، أفأَضْرِبُه؟ قال: "مما
(3)
كُنْتَ ضَارِبًا منه ولدَك". قال: فأُصِيبُ مِن مالِه؟ قال: "بالمعروفِ غيرَ مُتَأثِّلٍ
(4)
مالًا، ولا واقٍ مالَك بمالِه"
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن الزبيرِ
(6)
بن موسى، عن الحسنِ العُرَنيِّ (2) مثلَه
(7)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ أنه قال: يَضَعُ يدَه مع أيديهم، فيَأْكُلُ معهم كقَدرِ
(8)
خدمتِه وقدرِ عملِه
(9)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن هشامِ بن عُروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: والِى اليتيمِ إذا كان محتاجًا يَأْكُلُ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"له".
(2)
في م: "البصرى".
(3)
في ص، ت 2:"فما"، وفى م:"فيما".
(4)
في ت 2: "متأثم". والتأثُّل: اتخاذ أصل مال. وتأثل مالًا: اكتسبه واتخذه وثَمّره. اللسان (أ ث ل).
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 148، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (572 - تفسير)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 300 من طريق ابن عيينة به، وأخرجه ابن أبي شيبة 6/ 379، والبيهقى 6/ 4 من طريق عمرو بن دينار به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 122 إلى عبد بن حميد.
(6)
في ت 2: "الزهرى".
(7)
تفسير عبد الرزاق 1/ 149.
(8)
في ت 1: "قدر"، وفى تفسير مجاهد:"بقدر".
(9)
تفسير مجاهد ص 267.
بالمعروفِ لقيامِه [في مالِه]
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، وسألتُه عن قولِ اللَّهِ عز وجل:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ؟ قال: إِن اسْتَغْنَى كفَّ، وإن كان فقيرًا أكَل بالمعروفِ. قال: أكَل بيدِه معهم، لقيامِه على أموالِهم، وحفظِه إياها، يَأْكُلُ مما يأكلون منه. وإن اسْتَغْنَى كفَّ عنه، ولم يَأْكُلْ منه شيئًا
(2)
.
[حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. قال: إذا افْتَقَر الوصيُّ، واحْتاجَ ولم يَجِدْ شيئًا، أكَلَ بالمعروفِ]
(3)
.
وأوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: المعروفُ
(4)
الذي عَنَاه اللَّهُ عز وجل في قولِه: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . أكلُ مالِ اليتيمِ عندَ الضرورةِ والحاجةِ إليه على وجهِ الاستقراضِ منه، فأما على غير ذلك الوجهِ فغيرُ جائزٍ له أكلُه
(5)
، وذلك أن الجميعَ مُجْمِعون على أن والىَ
(6)
اليتيمِ لا يَمْلِكُ مِن مالِ يتيمِه إلا القيامَ بمصلحتِه؛ فلما كان إجماعًا منهم
(7)
أنه غيرُ مالكِه، وكان غيرَ جائزٍ لأحدٍ أن يَسْتَهْلِكَ مالَ أحدٍ غيرِه - يتيمًا كان ربُّ المالِ أو مُدْرِكًا رشيدًا - وكان عليه إن تَعَدَّى
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بماله".
والأثر أخرجه البخارى (2212، 2765، 4575)، ومسلم (3019)، وابن أبي شيبة 6/ 382، والبيهقى 6/ 4 طريق هشام بن عروة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 121 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1419 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(4)
في النسخ: "بالمعروف". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"أكلها".
(6)
في م، ت 2، ت 3، س:"ولى".
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"منه".
فاسْتَهْلَكَه
(1)
، بأكلٍ أو غيرِه، ضمانُه لِمَن اسْتَهْلَكه عليه بإجماعٍ من الجميعٍ، وكان والى اليتيمِ سبيلُه سبيلُ غيرِه في أنه لا يَمْلِكُ مالَ يتيمِه، كان كذلك حُكْمُه فيما يلزمُه مِن قضائِه إذا أكَل منه، سبيلُه سبيلُ غيرِه، وإن فارَقه في أن له الاستقراضَ منه عندَ الحاجةِ إليه، [كما له الاستقراضُ عليه عندَ حاجتِه]
(2)
إلى ما يَسْتَقْرِضُ عليه له
(3)
، إذ كان قَيِّمًا بما فيه مصلحتُه.
ولا معنى لقولِ مَن قال: إنما عَنَى بالمعروفِ في هذا الموضعِ أكلَ والى اليتيمِ مِن مالِ يتيمِه، لقيامِه عليه
(4)
على وجهِ الاعتياضِ على عملِه وسعيِه له؛ لأن لوالى اليتيمِ أن يؤاجرَ نفسَه منه للقيامِ بأمورِه، إذا كان اليتيمُ محتاجًا إلى ذلك، بأجرةٍ معلومةٍ كما يَسْتَأْجِرُ له غيرَه مِن الأُجَراءِ، وكما يَشْتَرِى له مِن نفسِه
(5)
؛ غنيًّا كان الوالى أو فقيرًا.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان اللهُ تعالى ذِكْرُه قد دلَّ بقولِه:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . على أن أكلَ مالِ اليتيمِ إنما أُذِنَ لمن أُذِنَ له مِن وُلاتِه، في حالِ الفقرِ والحاجةِ، وكانت الحالُ التي للوُلاةِ أن يُؤاجِروا أنفسَهم مِن الأيتامِ، مع حاجةِ الأيتامِ إلى الأُجَراءِ، [كلَّ حالٍ]
(6)
غيرَ مخصوصٍ بها حالُ غِنًى ولا حالُ فَقْرٍ - كان معلومًا أن المعنى الذي أُبِيحَ لهم مِن أموالِ أيتامِهم في كلِّ أحوالهِم غيرُ المعنى الذي أُبِيحَ لهم ذلك فيه في حالٍ دونَ حالٍ.
(1)
في ت 1: "فاستملكه".
(2)
سقط من: ص، ت 1.
(3)
سقط من: م، ت 2، ت 3، س.
(4)
سقط من: م، ت 1، س.
(5)
في م: "نصيبه".
(6)
سقط من: م، ت 3، س، وفى ص، ت 2:"كان أحوالهم".
ومَن أبَى ما قلنا ممن زعَم أن لوالى اليتيمِ أكلَ مالِ يتيمِه عندَ حاجتِه إليه على غيرِ وجهِ القرضِ، استدلالًا بهذه الآيةِ، قيل له: أَمُجْمَعٌ على أن الذي قُلْتَ تأويلُ قولِه: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ؟ فإن قال: لا. قيل له: فما برهانُك على أن ذلك تأويلُه وقد عَلِمْتَ أنه غيرُ مالكٍ مالَ يتيمِه؟ فإن قال: لأن الله أذِن له بأكلِه. قيل له: أذِنَ له بأكلِه مطلقًا أم بشرطِ؟ فإن قال: بشرطٍ، وهو أن يَأْكُلَه بالمعروفِ. قيل له: فما ذلك المعروفُ وقد عَلِمْتَ القائلين مِن الصحابةِ والتابعين ومَن بعدَهم مِن الخالِفين أن ذلك هو أكلُه قرضًا وسلفًا؟.
ويقالُ لهم أيضا مع ذلك: أرأيتُم المُولَّى عليهم أموالُهم مِن المجانينِ والمعاتيهِ، ألِوُلاةِ أموالِهم أن يأكلوا مِن أموالِهم عندَ حاجتِهم إليه على غيرِ وجه القرضِ ولا الاعتياضِ مِن قيامِهم بها، كما قلتم ذلك في أموالِ اليتامى فأبَحْتُموها لهم؟ فإن قالوا: ذلك لهم. خرجوا مِن قولِ جميعِ الحُجَّةِ. وإن قالوا: ليس ذلك لهم. قيل لهم: فما الفرقُ بينَ أموالِهم وأموالِ اليتامى، وحكمُ وُلاتِهم واحدٌ في أنهم ولاةُ أموالِ غيرِهم؟ فلن يقولوا في أحدِهم شيئًا إلا أُلزِموا في الآخرِ مثلَه.
ويُسألون كذلك عن المحجورِ عليه: هل لمَن يَلِى مالَه أن يَأْكُلَ مالَه عندَ حاجتِه إليه؟ نحو سُؤالِناهُم عن أموالِ المجانينِ والمعاتيهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} .
قال أبو جعفرٍ: يعنى بذلك جل ثناؤُه: وإِذا دَفَعْتُم يا معشرَ وُلاةِ
أموالِ [اليتامى إلى اليتامى أموالَهم، {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}. يقولُ: فأشهِدوا على الأيتامِ باستيفائِهم ذلك منكم، ودَفْعِكُموه إليهم.
كما]
(1)
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} . يقولُ: إذا دفَع
(2)
إلى اليتيمِ مالَه، فليَدْفَعْه إليه بالشهودِ كما أمَره اللهُ تعالى
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه: وكفَى باللهِ كافيًا مِن الشهودِ الذين يُشْهِدُهم والى اليتيمِ على دَفْعِه مالَ يتيمِه إليه.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} . يقولُ: شهيدًا
(4)
.
يُقالُ منه: قد أَحْسَبنى الذي عندِى. يُرادُ به: كفانى. وسُمِعَ مِن العربِ: لأحْسِبَنَّكم مِن الأَسْوَدَين. يَعْنِى به: مِن الماءِ والتمرِ. والمُحْسِبُ مِن الرجالِ: المُرْتَفِعُ الحَسَبِ. والمُحْسَبُ: المَكْفِيُّ
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} .
يعنى بذلك تعالى ذِكْرُه: للذكورِ مِن أولادِ الرجلِ الميِّتِ حِصَّةٌ مِن ميراثِه، وللإناثِ منهم حِصَّةٌ منه، مِن قليلِ ما خَلَّف بعدَه وكثيرِه، حِصَّةً مفروضةٌ واجبةٌ، معلومةٌ مؤقتةٌ.
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
في ت 1: "دفعتم"، وفى س:"وقع".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 871 (4838) عن محمد بن سعد به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 122 إلى المصنف.
(5)
إلى هنا ينتهى الجزء الحادى عشر من مخطوط جامعة القرويين بفاس، وستجد أرقام المخطوط ت 1 بين معقوفتين فيما سيأتي من النص المحقق.
وذُكِرَ أن هذه الآيةَ نزَلت مِن أجلِ أن أهلَ الجاهليةِ كانوا يُورِّثون
(1)
الذكورَ دونَ الإناثِ.
كما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، قال: كانوا لا يُورِّثون النساءَ، فنزَلت:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن عِكرمةَ، قال: نزَلت في أمِّ كُجَّةَ
(3)
وابنةِ أُمِّ
(3)
كُجَّةَ
(4)
وثعلبةَ وأوسِ بن ثابتٍ
(5)
، وهم مِن الأنصارِ. كان أحدُهم زوجَها والآخرُ عمَّ ولدِها، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، تُوفِّيَ زوجِى وتَرَكنِى وابنتَه، فلم نُورَّثْ
(6)
! فقال عمُّ ولدِها: يا رسولَ اللهِ، ولدُها
(7)
لا يركبُ فرسًا، ولا يحْمِلُ كلًّا، ولا يَنْكَأُ
(8)
عدوًّا، يُكْسبُ عليها
(9)
ولا تَكْتَسِبُ!
(1)
في ص، ت 2، س:"يرزقون".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 149. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 872 (4845) عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 122 إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من: النسخ، والمثبت من الإصابة 8/ 285.
(4)
في ص، ت 1:"كحلة"، وفى م، وأسباب النزول:"كحة". والمثبت من تفسير البغوي والإصابة. قال الحافظ: ومما لم يتقدم من الاختلاف هناك أن الطبرى أخرج من طريق ابن جريج، عن عكرمة، قال: نزلت في أم كجة وبنت أم كجة، وثعلبة وأوس بن ثابت، وهم من الأنصار
…
وقال أيضًا في 8/ 286: وأما المرأة فلم يختلف في أنها أم كجة، بضم الكاف وتشديد الجيم، إلا ما حكى أبو موسى عن المستغفرى أنه قال فيها: أم كُحْلة بسكون المهملة بعدها لام.
(5)
في النسخ: "سويد". والمثبت من مصدرى التخريج. وقد اختلف في اسم زوج صاحبة القصة، فذكر ابن الأثير في أسد الغابة 1/ 166 في ترجمة أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصارى، أن الآية إنما نزلت فيه، وكذا ذكر ذلك الحافظ في الإصابة 1/ 144، 145، ثم عاد فذكر في 1/ 155 في ترجمة أوس بن سويد الأنصارى أن الباوردى ذكره في الصحابة، وساق أثرًا أخرجه الباوردى عن عكرمة أن الآية إنما نزلت في أوس بن سويد هذا.
(6)
في ت 1: "يورث"، وفى س:"تورث".
(7)
سقط من م، س. وينظر مصدرى التخريج. وإنما يعنون بولدها بناتها، فكل مولود ولد.
(8)
نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم: أي هزمته وغلبته. ينظر اللسان (ن ك أ).
(9)
يعنى: يكسب لها.
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . قال: كان النساءُ لا يُوَرَّثْنَ في الجاهليةِ مِن الآباءِ، وكان الكبيرُ يَرِثُ، ولا يَرِثُ الصغيرُ وإن كان ذَكرًا، فقال اللهُ تبارك وتعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قولِه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: ونُصِبَ قولُه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . وهو نعتٌ للنكرةِ، لخروجِه مخرجَ المصدرِ، كقولِ القائلِ: لك عليَّ حقٌّ واجبًا. ولو كان مكانَ قولِه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} اسمٌ صحيحٌ لم يَجُزْ نَصْبُه، لا يُقالُ: لك عندى حقٌّ درهمًا. فقولُه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . كقولِه: نصيبًا فريضةً وفرضًا، كما يُقالُ: عندِى درهمٌ هبةً مقبوضةً.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ذكرُه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في حكمِ هذه الآيةِ، هل هو مُحْكَمٌ أو مَنْسوخٌ؟ فقال بعضُهم: هو مُحْكَمٌ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدَّثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن الشيبانيِّ، عن
(1)
ذكره الواحدى في أسباب النزول ص 106، والبغوى في تفسيره. 2/ 169. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 872 (2844) من طريق ابن جريج عن ابن عباس مختصرًا.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 3/ 120.
عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: مُحكمةٌ وليست منسوخةً. يعنى قولَه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية
(1)
.
[حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: حدثنا الأشجعيُّ، عن سفيانَ، عن الشيبانيِّ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ مثلَه]
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا [ابن يمانٍ]
(3)
، عن سفيانَ، عن مُغِيرة، عن إبراهيمَ والشعبيِّ، قالا: هي مُحْكَمةٌ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: واجبٌ ما طَابت به أنفسُ أهلِ الميراثِ
(4)
.
وحدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا الأشجعيُّ، عن سفيانَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} . قال: هي واجبةٌ على أهلِ الميراثِ، ما طابت به أنفسُهم.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا الأشجعيُّ، عن سفيانَ، عن مُغِيرة، عن إبراهيمَ والشعبيِّ، قالا: هي مُحْكمةٌ، ليست بمنسوخةٍ
(5)
.
(1)
أخرجه البيهقى 6/ 266 من طريق المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 196 عن ابن يمان به، وأخرجه البخارى (4576)، والبيهقى 6/ 266، 267 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "الأشجعى". وسيأتي من طريق الأشجعى بعد قليل.
(4)
تفسير سفيان ص 89 وأخرجه أبو عبيد في الناسخ ص 30، وسعيد بن منصور في سننه (577 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 875 (4862)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 305 من طريق سفيان به.
(5)
أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 255 من طريق الأشجعى به.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عبدِ الرحمنِ، عن سفيانَ، وحدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: هي واجبةٌ على أهلِ الميراثِ ما طابت به أنفسُهم
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ أنه سُئِلَ عن قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . فقال سعيدٌ: هذه الآيةُ يَتَهاونُ بها الناسُ. قال: وهما وَليَّانِ: أحدُهما يَرِثُ، والآخرُ لا يَرِثُ، والذي يَرِثُ هو الذي أُمِرَ أن يَرْزُقَهم
(2)
- قال: يُعْطِيهم - قال: والذي لا يَرِثُ هو الذي أُمِرَ أن يقولَ لهم قولًا معروفًا، وهى مُحْكَمةٌ وليست بمنسوخةٍ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا مُغِيرةُ، عن إبراهيمَ بنحوِ ذلك، وقال: هي مُحْكمةٌ، وليست بمنسوخةٍ
(4)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن مَطَرٍ
(5)
، عن الحسنِ، قال: هي ثابتةٌ، ولكنَّ الناسَ بَخِلوا وشَحُّوا
(6)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 149.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"يرزقوهم".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 874 (4857)، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 254 من طريق هشيم به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (580 - تفسير)، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 254 من طريق هشيم به.
(5)
في النسخ: "مطرف". والمثبت من نواسخ القرآن. وينظر تهذيب الكمال 28/ 51.
(6)
أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 254 من طريق سعيد به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا مَنْصورٌ، عن
(1)
الحسنِ، قال
(2)
: هي مُحْكَمةٌ، وليست بمنسوخةٍ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عبادُ بنُ العوَّامِ، عن الحجاجِ، عن الحكمِ، عن مِقْسمٍ، عن ابن عباسٍ، قال: هي قائمةٌ يُعْمَلُ بها
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} : ما طابت به الأنفسُ حقًّا واجبًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن الحسنِ والزهريِّ، قالا في قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . قالا
(5)
: هي مُحْكمةٌ
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا منصورٌ، عن قتادةَ، عن يحيى بن يَعْمَرَ، قال: ثلاثُ آياتٍ مُحْكماتٍ مدنياتٍ ترَكهن الناسُ: هذه الآيةُ، وآيةُ الاسْتِئذانِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]. وهذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}
(7)
[الحجرات: 13].
(1)
في النسخ: "و". والمثبت من سنن سعيد. وينظر تهذيب الكمال 6/ 95.
(2)
في م: "قالا".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (580 - تفسير) عن هشيم به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 191 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى المصنف وابن المنذر.
(5)
في النسخ: "قال".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 149، وابن أبي شيبة 11/ 194، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 305، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 255 من طريق معمر به.
(7)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (578 - تفسير) عن هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى المصنف وابن المنذر.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ يقولُ: هي ثابتةٌ.
وقال آخرون: منسوخةٌ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ ومحمدُ بنُ المُثنى، قالا: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن سعيدٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} . قال: كانت هذه الآيةُ قِسمةً قبلَ المواريثِ، فلما أنزَل اللهُ المواريثَ لأهلِها جُعِلَتِ الوصيةُ لذَوِى القَرابةِ الذين يَحزنون ولا يَرِثون.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا قُرَّةُ بنُ خالدٍ، عن قتادةَ، قال: سألتُ سعيدَ بنَ المُسَيَّبِ عن هذه الآيةِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} . قال: هي منسوخةٌ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ، قال: كانت هذه قبلَ الفرائضِ وقِسمةِ الميراثِ
(1)
، فلما كانت الفرائضُ والمواريثُ نُسِخَتْ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ، قال: نَسَختها آيةُ الميراثِ
(3)
.
(1)
في ت 1، ت 2، س:"المواريث".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 149، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 31، 32، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 876 (4865)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 302، والبيهقى 6/ 267، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 257، من طريق قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى أبى داود في ناسخه وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 196، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 257 من طريق ابن يمان به.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا الأشجعيُّ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ مثلَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنا عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} الآية إلى قولِه: {قَوْلًا مَعْرُوفًا} : وذلك قبلَ أن تَنْزِلَ الفرائضُ، فأنزل اللهُ تبارك وتعالى بعدَ ذلك الفرائضَ، فأعْطَى كلَّ ذى حقٍّ حقَّه، فجُعِلت الصدقةُ فيما سمَّى المُتوفَّى
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا جُوبيرٌ، عن الضحّاكِ، قال: نسَختها المواريثُ
(2)
.
وقال آخرون: هي محكمةٌ وليست بمنسوخةٍ، غيرَ أن معنى ذلك:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} يَعْنِى بها قِسْمَةَ المَيِّتِ مالَه بوصيتِه لمَن كان يُوصِى له به. قالوا: وأُمِرَ بأن يَجْعَلَ وصيتَه في مالِه لمَن سمَّاه اللهُ تعالى في هذه الآيةِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا [سعيدُ بنُ يحيى]
(3)
الأُمَوِيُّ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن ابن جُرَيجٍ، عن ابن أبى مُلَيكةَ، عن القاسمِ بن محمدٍ أن عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الرحمنِ قسَم ميراثَ أبيه وعائشةُ حيةٌ، فلم يَدَعْ في الدارِ أحدًا إلا أعطاه، وتلا هذه الآيةَ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 873 (4850)، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 256 من طريق محمد بن سعد به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (582 - تفسير) عن هشيم به، وأخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 257 بإسناده إلى الضحاك.
(3)
في م، ت 1:"يحيى بن سعيد". وينظر تهذيب الكمال 11/ 104.
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}. قال القاسمُ: فذَكَرتُ ذلك لابنِ عباسٍ، فقال: ما أصاب، إنما هذه الوصيةُ، يريدُ المَيِّتَ أن يُوصِىَ لقرابتِه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن جُريجٍ، قال: أخبرني ابن أبى مُليكةَ، أن القاسمَ بنَ محمدٍ أخبره أن عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الرحمنِ بن أبي بكرٍ قسَم، فذكَر نحوَه
(1)
.
حدَّثنا عِمرانُ بنُ موسى القَزّازُ
(2)
، قال: ثنا عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بن المُسَيَّبِ في قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} . قال: أُمِرَ أن يُوصِىَ بثُلُثِه في قرابتِه
(3)
.
حدَّثنا [ابن المثنَّى]
(4)
، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بن المُسيبِ، قال: إنما ذلك عندَ الوصيةِ في ثُلُثِه (2).
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بن المُسيبِ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . قال: هي الوصيةُ مِن الناسِ (3).
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} . قال: القسمةُ الوصيةُ، كان الرجلُ إذا أَوْصَى قالوا: فلانٌ يَقْسِمُ مالَه. فقال: ارْزُقوهم منه. يقولُ: أَوْصُوا لهم. يقولُ للذى
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 149، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 875 (4863) عن الحسن بن يحيى به، وأخرجه البيهقى 6/ 276 من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى عبد بن حميد وأبى داود في ناسخه.
(2)
في النسخ: "الصفار". ولم نجد هذا اللقب إلا في هذا الموضع من التفسير، وتقدم كما أثبتناه في 3/ 175، وكذا سيأتي في 5/ 117، 5/ 255، وكذا روى عنه المصنف في تاريخه 1/ 134. وينظر الكمال 22/ 360.
(3)
ينظر التبيان 3/ 123.
(4)
في النسخ: "ابن المبارك". وظاهر أن ابن المبارك ليس شيخ المصنف، وأثبتاه كما تقدم في 3/ 190.
يُوصِى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . إن لم تُوصُوا لهم، فقولوا لهم خيرًا
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصحةِ قولُ مَن قال: هذه الآيةُ مُحكَمةٌ غيرُ منسوخةٍ، وإنما عنَى بها الوصيةَ لأُولِى قُرْبَى المُوصِى، وعنى باليتامى والمساكينِ أن يُقالَ لهم قولٌ معروفٌ.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصحةِ مِن غيرِه؛ لما قد بينَّا في غيرِ موضعٍ مِن كتابِنا هذا وغيرِه
(2)
أن شيئًا مِن أحكامِ اللهِ تبارك وتعالى التي أثْبَتها في كتابِه، أو بَيَّنها على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، غيرُ جائزٍ فيه أن يُقالَ له: ناسخٌ لحكمٍ آخرَ. أو: منسوخٌ لحكمٍ آخرَ. إلا والحُكمان اللذان قُضِىَ لأحدِهما بأنه ناسخٌ والآخرُ بأنه منسوخٌ، نافٍ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، غيرُ جائزٍ اجتماعُ الحُكْمِ بهما في وقتٍ واحدٍ، بوجهٍ مِن الوجوهِ، وإن كان جائزًا صرفُه إلى غيرِ النسخِ، أو يقومَ بأن أحدَهما ناسخٌ والآخرَ منسوخٌ
(3)
- حجةٌ يجِبُ التسليمُ لها.
وإذ كان ذلك كذلك؛ لما قد دلَّلنا في غيرِ موضعٍ - وكان قولُه تعالى ذِكْرُه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . مُحْتمِلًا أن يكونَ مرادًا به: وإذا حضَر قسمةَ مالِ قاسمٍ مالَه بوصيةٍ، أولو قرابتِه واليتامى والمساكينُ، فارزقوهم منه. يُرادُ به
(4)
: فأَوْصوا لأُولِى قرابتِكم الذين لا يرِثونكم منه، وقولوا لليتامى والمساكينِ قولًا معروفًا. كما قال في موضعٍ آخرَ: {كُتِبَ
(1)
ذكره النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 304.
(2)
ينظر ما تقدم في 2/ 388 - 390، 401، 402، 457، 458، 4/ 553، 554، 5/ 79، 80، 142، 143، 144.
(3)
سقط من ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1.
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. ولا يكونُ منسوخًا بآيةِ الميراثِ - لم يَكُنْ لأحدٍ صرفُه إلى أنه منسوخٌ بآيةِ الميراثِ، إذ كان لا دَلالةَ على أنه منسوخٌ بها مِن كتابٍ أو سنةٍ ثابتةٍ، وهو مُحْتَمِلٌ مِن التأويلِ ما بَيَّنا.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} . قِسْمةَ الموصِى مالَه بالوصيةِ أولو قرابتِه واليتامى والمساكينُ، {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}. يقول: فاقسِموا لهم منه بالوصيةِ. يعنى: فأَوْصوا لأُولِى القُرْبَى مِن أموالِكم، {وَقُولُوا لَهُمْ} . يعنى الآخرين، وهم اليتامى والمساكينُ، {قَوْلًا مَعْرُوفًا}. يعنى: يُدْعَى لهم بخيرٍ، كما قال ابن عباسٍ وسائرُ مَن ذكَرنا قولَه قبلُ.
وأما الذين قالوا: إن الآيةَ منسوخةٌ بآيةِ المواريثِ. والذين قالوا: هي مُحْكمةٌ، والمأمورُ بها ورثةُ المَيِّتِ. فإنهم وَجَّهوا قولَه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . [يقولُ: فأعطوهم منه]
(1)
وقولوا لهم قولًا معروفًا. وقد ذكَرنا بعضَ مَن قال ذلك، وسنذكُرُ بقيةَ مَن قال ذلك ممن لم نَذْكُرْه.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} : أمَر اللهُ جل ثناؤه المؤمنين عندَ قسمةِ مواريثِهم أن يَصِلوا أرحامَهم ويتاماهم مِن الوصيةِ إن كان أَوْصَى، وإن لم تَكُنْ وصيةٌ، وصَل إليهم مِن
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
مواريثِهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} . الآية. يعنى: عندَ قسمةِ الميراثِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن هشامِ بنِ عروةَ، أن أباه أعطاه مِن ميراثِ المُصْعَبِ حينَ قسَم مالَه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا عوفٌ، عن ابن سيرينَ، قال: كانوا يَرْضَخُون لهم عندَ القِسْمةِ
(3)
.
حدَّثنا بِشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن مطرٍ، عن الحسنِ، عن حِطَّانَ، أن أبا موسى أمَر أن يُعْطَوا إذا حضَر قِسْمةَ الميراثِ أولو القُرْبَى واليتامى والمساكينُ والجيرانُ مِن الفقراءِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وابنُ أبى عديٍّ ومحمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن قتادةَ، عن يونسَ بن جُبَيرٍ، عن حِطَّانَ بن عبدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، قال: قسَم أبو موسى بهذه الآيةِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ}
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 873،874 (4852، 4854، 4855)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص 303 من طريق عبد الله بن صالح به.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 149، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 195 من طريق هشام بن عروة بنحوه به.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في (581 - تفسير) عن هشيم به، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 194، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 254 من طريق ابن سيرين بنحوه.
(4)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 30 عن يحيى بن سعيد به، وابن أبي شيبة 11/ 194، =
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدٌ ويحيى بنُ سعيدٍ، عن شُعْبةَ، عن قتادةَ، عن يونسَ بن جُبَيرٍ، عن حِطَّانَ، عن أبي موسى في هذه الآيةِ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية. قال: قضَى بها أبو موسى.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغِيرة، عن العلاءِ بن بَدْرٍ في الميراثِ إذا قُسِم، قال: كانوا يُعْطُون منه التابوتَ والشئَ الذي يُسْتَحيا مِن قِسْمتِه
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن الحسنِ وسعيدِ بن جبيرٍ، كانا يقولان: ذاك عندَ قسمةِ الميراثِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن أبي العاليةِ والحسنِ، قالا: يَرْضَخون ويقولون قولًا معروفًا. في هذه الآيةِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ}
(3)
.
ثم اخْتَلف الذين قالوا: هذه الآيةُ مُحْكَمةٌ، وإن القسمةَ لأولِى القُرْبَى واليتامى والمساكينِ واجبةٌ على أهل الميراثِ، إن كان بعضُ أهلِ الميراثِ صغيرًا فقسَم عليه الميراثَ وليُّ مالِه؛ فقال بعضُهم: ليس لوليِّ مالِه أن يَقْسِمَ مِن مالِه
= 195 عن غندر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 875 (4861) من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(1)
في ت 1، ت 2:"قسمه". والأثر ذكره البغوي في تفسيره 2/ 170 عن الحسن بنحوه.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 873 عقب الأثر (4850) معلقًا.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 194 عن يحيى بن يمان به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 873 (4853) من طريق عاصم به بنحوه.
ووصيتِه
(1)
شيئًا؛ لأنه لا يَمْلِكُ مِن المالِ شيئًا، ولكنه يقولُ لهم قولًا معروفًا. قالوا: والذي أمَره اللهُ بأن يقولَ لهم قولًا
(2)
معروفًا، هو وليُّ مالِ اليتيمِ إذا قسَم مالَ اليتيمِ بينَه وبينَ شُرَكاءِ اليتيمِ، إلا أن يكونَ وليُّ مالِه أحدَ الورثةِ، فيُعْطِيَهم مِن نصيبِه، ويُعْطِيَهم مَن يجوزُ أمرُه في مالِه مِن أنصبائِهم. قالوا: فأما مِن مالِ الصغيرِ [الذي يُوَلَّى على]
(3)
مالِه، فلا يجوزُ لوليِّ مالِه أن يُعْطِيهَم منه شيئًا.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، عن أبى سعيدٍ، قال: سألت سعيدَ بنَ جُبَيرٍ عن هذه الآيةِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . قال: إن كان المَيِّتُ أَوْصَى لهم بشيءٍ أُنْفِذَتْ لهم وَصيتُهم، وإن كان
(4)
الورثةُ كبارًا رَضَخُوا لهم، وإن كانوا صغارًا، قال وليُّهم: إنى لست أمْلِكُ هذا المالَ، وليس لى، وإنما هو للصغارِ، فذلك قولُه:{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في هذه الآيةِ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: هما وَليَّان: وليُّ يَرِثُ، ووليٌّ لا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"نصيبه".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"فالذى يولى عليه"، وفى ت 2:"فالذى تولى عليه".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كانوا".
(5)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 27، 28 عن عبد الرحمن به، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 195، 196 من طريق الثورى به.
يَرِثُ، فأما الذي يَرِثُ فيُعْطَى، وأما الذي لا يَرِثُ، فقولوا له قولًا معروفًا
(1)
.
حدَّثني ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنى داودُ
(2)
، عن الحسنِ وسعيدِ بن جبيرٍ، كانا يقولان: ذلك عندَ قِسمةِ الميراثِ؛ إن كان الميراثُ لمَن قد أدرَك، فله أن يكسُوَ منه، وأن يُطْعِمَ الفقراءَ والمساكينَ، وإن كان الميراثُ ليتامى صغارٍ، فيقولُ الوليُّ: إنه لِيتامى صغارٍ. ويقولُ لهم قولًا معروفًا
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي سعيدٍ
(4)
، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: إن كانوا كبارًا رَضَخُوا، وإن كانوا صغارًا اعْتَذَروا إليهم.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبسةَ، عن سليمانَ الشيبانيِّ، عن عِكْرمةَ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} . قال: كان ابن عباسٍ يقولُ: إذا وَلِىَ شيئًا مِن ذلك يَرْضَخُ لأقرباءِ الميتِ، وإن لم يَفْعَلْ اعْتَذَر إليهم، وقال لهم قولًا معروفًا
(5)
.
حدَّثنا محمدُ
(6)
بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . هذه تكونُ على ثلاثةِ أوجهٍ: أمَّا وجهٌ
(7)
فيُوصِى لهم وصيةً،
(1)
تقدم تخريجه في ص 433.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ابن داود".
(3)
تقدم تخريجه في ص 441.
(4)
في ص: "سعد". وهو أبو سعد الأزدى، قارئ الأزد، ويقال: أبو سعيد. وأثبتناه هكذا ليوافق ما تقدم في الصفحة السابقة.
(5)
أخرجه الحاكم 2/ 302، 303، والبيهقى 6/ 266، 267، وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 253، 254 من طريق سليمان الشيبانى به.
(6)
في النسخ: "أحمد".
(7)
في م: "الأول".
فيَحْضُرون ويأخذون وَصِيتَهم. وأما الثاني: فإنهم يَحْضُرون فيَقْتَسِمون إذا كانوا رجالًا، فيَنْبغِى لهم أن يُعطوهم. وأما الثالثُ: فتكونُ الورثةُ صغارًا، فيقومُ وَلِيُّهم إذا قسَم بينَهم، فيقولُ للذين حضروا: حَقُّكم حقٌّ، وقرابتُكم قرابةٌ، ولو كان لى في الميراثِ نصيبٌ لأعْطَيتُكم، ولكنهم
(1)
صِغارٌ، فإِن [يَكْبَروا فسيعرِفون]
(2)
حَقَّكم. فهذا القولُ المعروفُ
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن رجلٍ، عن سعيدٍ أنه قال:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: إذا كان الوارثُ عندَ القسمةِ، فكان الإناءُ والشئُ الذي لا يُستطاعُ أن يُقْسَمَ، فليَرْضَخْ لهم، وإن كان الميراثُ لليتامى، فلْيقلْ لهم قولا معروفًا.
وقال آخرون منهم: ذلك واجبٌ في أموالِ الصغارِ والكبارِ لأُولِى القُربى واليتامى والمساكينِ، فإن كان الورثةُ كِبارًا تَوَلَّوا عندَ القِسمةِ إعطاءَهم ذلك، وإن كانوا صِغارًا تَولَّى إعطاءَ ذلك منهم وليُّ مالِهم.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن يونسَ في قولِه:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . فحدَّث عن محمدٍ، عن عَبِيدةَ أنه وَلِىَ وصيةً، فأمَر بشاةٍ فذُبِحت، وصنَع طعامًا لأهلِ
(4)
هذه
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"لكنكم".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تكبروا فستعرفون".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 873 (4851) من طريق أحمد بن مفضل به.
(4)
في م: "لأجل". وينظر تفسير البغوي 2/ 170.
الآيةِ، وقال: لولا هذه الآيةُ لكان هذا مِن مالى.
قال
(1)
: وقال الحسنُ: لم تُنْسَخْ، كانوا يَحْضُرون فيُعْطُون الشئَ والثوبَ الخَلِقَ.
قال يونسُ: إن محمدَ بنَ سيرينَ وَلِىَ وصيةً - أو قال: أيتامًا - فأمر بشاةٍ فذُبِحت، فصنَع طعامًا كما صنَع عَبِيدةُ
(2)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرنا هشامُ بنُ حسانَ، عن محمدٍ، أن عَبِيدةَ قسَم ميراثَ أيتامٍ، فأمر بشاةٍ فاشْتُريت مِن مالِهم، وبطعامٍ فصُنِعَ، وقال: لولا هذه الآيةُ لأحببتُ أن يكونَ مِن مالى. ثم قرَأ هذه الآيةَ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية
(3)
.
فكأن مَن ذهَب مِن القائلين القولَ الذي ذكَرناه عن ابن عباسٍ وسعيدِ بن جبيرٍ، ومَن قال: يَرْضَخُ عندَ قِسْمةِ الميراثِ لأُولِى القُرْبَى واليتامى والمساكينِ.
تَأوَّل قولَه: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} : فأَعْطُوهم منه. وكأن الذين ذهَبوا إلى ما قال عَبِيدةُ وابنُ سيرينَ تأوَّلوا قولَه: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} : فأَطْعموهم منه.
واخْتَلفوا في تأويلِ قولِه: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ؛ فقال بعضُهم: هو أمرٌ مِن اللهِ تعالى ذِكْرُه ولاةَ اليتامى أن يقولوا لأولِى قرابتِهم ولليتامى والمساكينِ إذا حَضَروا قِسْمَتَهم مالَ مَن وَلُوا عليه مالَه مِن الأموالِ بينَهم وبينَ شركائِهم مِن الورثةِ
(1)
أي: يونس.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 874 (4856،4859) من طريق ابن علية به، ليس فيه أثر ابن سيرين. وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 193 من طريق ابن سيرين به.
(3)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 28 من طريق هشام به.
فيها، أن يَعْتذِروا إليهم، على نحو ما قد ذكرناه فيما مضَى مِن
(1)
الاعتذارِ.
كما حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: ثنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: هو الذي لا يَرثُ، أُمِرَ أن يقولَ لهم قولًا معروفًا. قال: يقولُ: إن هذا المالَ لقومٍ غَيَبٍ، أو ليتامى صغارٍ، ولكم فيه حقٌّ، ولسنا نَمْلِكُ أن نُعْطِيَكم منه شيئًا. قال: فهذا القولُ المعروفُ.
وقال آخرون: بل المأمورُ بالقولِ المعروفِ الذي أمَر جل ثناؤُه أن يُقالَ له، هو الرجلُ الذي يُوصِى في مالِه، والقولُ المعروفُ هو الدعاءُ لهم بالرزقِ والغِنَى وما أَشْبَهَ ذلك مِن قولِ الخيرِ. وقد ذكَرنا قائلى ذلك أيضًا فيما مضَى
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} .
اختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: {وَلْيَخْشَ} : ليَخَفِ الذين يَحضُرون موصيًا يُوصِى في مالِه أن يَأْمُرَه بتفريقِ مالِه وصيةً به في من لا يَرِثُه، ولكن ليَأْمُرُه أَن يُبْقِىَ مالَه لولدِه، كما لو كان هو الموصِيَ، يَسُرُّه أَن يحثَّه مَن يحضُرُه على حفظِ مالِه لولده، وألا يَدَعَهم عالةً مع ضعفهم وعجزِهم عن التصرفِ والاحتيالِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"بما أغنى عن إعادته".
ابن صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} إلى آخرِ الآية: فهذا في الرجل يحضُرُه الموتُ، فيسمَعُه يُوصِى بوصيةٍ تضرُّ بورثتِه، فأمَر اللَّهِ سبحانَه الذي يسمَعُه أن يتقىَ اللَّهَ ويُوفِّقَه ويُسَدِّدَه للصوابِ، وليَنْظُرْ لورثتِه كما كان يُحِبُّ أن يصنَعَ لورثتِه إذا خَشِيَ عليهم الضَّيْعةَ
(1)
.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بن صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} : يعنى الذي يَحْضُرُه الموتُ، فيقال له: تَصَدَّقْ مِن مالِك، وأَعْتِقْ وأَعْطِ منه في سبيلِ اللَّهِ. فنُهوا أن يَأْمُروه بذلك، يعنى أن مَن حضَر منكم مريضًا عندَ الموتِ، فلا يَأْمُرُه أَن يُنْفِقَ مالَه في العتقِ، أو الصدقةِ، أو في سبيلِ اللَّهِ، ولكن يَأْمُرُه أن يُبَيِّنَ مالَه وما عليه مِن دَيْنٍ، ويُوصِيَ في مالِه لذَوِى قرابتِه الذين لا يَرِثون، ويُوصِيَ لهم بالخُمُسِ أو الرُّبُعِ، يقولُ: أليس يَكْرَهُ
(2)
أحدُكم إذا مات وله وَلَدٌ ضعافٌ - يعنى: صغارٌ - أن يَتْرُكَهم بغيرِ مالٍ، فيكونوا عِيالًا على الناسِ، فلا يَنبَغِى أن تَأْمُروه بما لا تَرْضَوْن به لأنفسِكم ولا أولادِكم، ولكن قولوا الحَقَّ مِن ذلك
(3)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير 3/ 877 (4874)، والبيهقي 6/ 271 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 123 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 876، 877 (4869)، والبيهقي 6/ 270، 271 من طريق عبد الله بن صالح به.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} . قال: يقولُ: مَن حضَر ميِّتًا فَلْيَأْمُرْه بالعدلِ والإحسانِ، وَليَنْهَه عن الحَيْفِ والجَورِ في وصيَّتِهِ، وَلْيَخْشَ على عِيالِه ما كان خائفًا على عيالِه لو نزَل به الموتُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} . قال: إذا حضَرتَ وصيةَ ميِّتٍ، فمُرْه بما كنتَ آمِرًا نفسَك بما تَتَقَرَّبُ به إلى اللَّهِ، وخَفْ في ذلك ما كنتَ خائفًا على ضَعَفةٍ
(1)
لو تركتَهم بعدَك. يقول: فاتَّقِ اللَّهِ وقل قولًا سديدًا إن هو زاغ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا: ثنا أسباطُ، عن السُدِّيِّ:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} : الرجلُ يحضُرُه الموتُ، فيحضُرُه القومُ عندَ الوصيَّةِ، فلا ينبغى لهم أن يقولوا له: أوص بمالِك كلِّه، وقدِّمْ لنفسِك، فإن اللَّهَ سيرزقُ عيالَك. ولا يترُكوه يُوصِي بمالِه كلِّه، يقولُ للذين حضَروا:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} . فيقولُ: كما يخافُ أحدُكم على عيالِه لو مات - إنْ يَتْركْهم صِغارًا ضعافًا، لا شيءَ لهم - الضيعةَ بعدَه، فَلْيَخَفْ ذلك على عيالِ أخيه المسلمِ، فيقولَ له القولَ السديدَ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حبيبٍ،
(1)
في م، ت 2:"ضعفتك".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 150.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 51، 52.
قال: ذهَبتُ أنا والحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ
(1)
إلى سعيدِ بن جُبيرٍ، فسألناه عن قولِه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} الآية. قال: قال: الرجلُ يَحْضُرُه الموتُ، فيقولُ له مَن يَحْضُرُه: اتَّقِ اللَّهَ، صِلْهم، أَعْطِهم، بِرَّهم. ولو كانوا هم الذين يأمُرُهم بالوصيَّةِ، لأحَبُّوا أن يُبْقُوا لأولادِهم
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن حبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} . قال: يَحْضُرُهم اليتامى فيقولون: اتقِ اللَّهِ وصِلْهم وأَعْطِهم. فلو كانوا هم لأَحَبُّوا أن يُبْقوا لأولادِهم
(3)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: أخبرَنا يزيدُ، قال: أخبرَنا جُويبرٌ، عن الضحَّاكِ في قولِه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} الآية. يقولُ: إذا حضَر أحدُكم مَن حضَره الموتُ عندَ وصيَّتِه، فلا يقلُ: أَعْتِقْ مِن مالِك، وتَصَدَّقْ. فيُفَرِّقَ مالَه، ويَدَعَ أهلَه عُيَّلًا، ولكن مُرُوه فَلْيَكْتُبُ مَا لَهُ مِن دَينٍ وما عليه، ويجعَلْ مِن مالِه لذَوِي قرابته خُمُسَ مالِه، ويَدَعْ سائرَه لورثتِه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} الآية. قال: هذا يُفَرِّقُ المالَ حين يُقَسِّمُ، فيقولُ الذين يَحْضُرون: أقللتَ، زِدْ فلانًا. فيقولُ اللَّهُ تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} .
(1)
في النسخ: "عيينة". وتقدم في 4/ 53، 155، 255.
(2)
تفسير سفيان ص 89، 90.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 150.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 52.
فَلْيَخْشَ أولئك، وليقولوا فيهم مثلَ ما يُحِبُّ أحدهم أن يقالَ في ولدِه بالعدلِ إذا أكْثَر: أبقِ على ولدِك
(1)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: وَلْيَخْشَ الذين يَحْضُرون المُوصِىَ وهو يُوصِى - - الذين لو ترَكوا مِن خلفِهم ذُرِّيَّةٌ ضعافًا، فخافوا عليهم الضيعةَ مِن ضعفِهم وطفولتِهم - أن يَنْهَوْه عن الوصيةِ لأقربائِه، وأن يَأْمُروه بإمساكِ مالِه، والتحفُّظِ به لولدِه، وهم لو كانوا مِن أقرباءِ المُوصِى، لسرَّهم أن يُوصِيَ لهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حبيبٍ، قال: ذهبتُ أنا والحكمُ بنُ عُتَيْبَةَ
(2)
، فأتيْنا مِقْسَمًا، فسألناه - يعنى عن قولِه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} الآية - فقال: ما قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ؟ فقلنا: كذا وكذا. فقال: ولكنه الرجلُ يَحْضُرُه الموتُ، فيقولُ له مَن يَحْضُرُه: اتق اللَّهِ وأَمْسِكْ عليك مالَك، فليس أحدٌ أحقَّ بمالِك مِن ولدِك. ولو كان الذي يُوصِى ذا قرابةٍ لهم، لأحَبُّوا أن يُوصِىَ لهم
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن حبيبِ بن أبي ثابتٍ، قال: قال مِقْسَمٌ: هم الذين يقولون: اتقِ اللَّهَ وأَمْسِكْ عليك مالَك. فلو كان ذا قرابةٍ لهم لأَحبُّوا أن يُوصِيَ لهم
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 268، والبيهقي 6/ 271، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (584 - تفسير) من طريق أبي إسحاق عن مجاهد به.
(2)
في النسخ: "عيينة".
(3)
تفسير سفيان ص 89، 90.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 150.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعْتَمِرُ بن سليمانَ، عن أبيه، قال: زعم حَضْرَميٌّ، وقرَأ:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} . قال: قالوا: حَقيقٌ أن يأمُرَ صاحبَ الوصيةِ بالوصيةِ لأهلِها، كما أن لو كانت ذُرِّيَّةُ نفسِه بتلك المنزلةِ، لأحبَّ أن يُوصِىَ لهم، وإن كان هو الوارثَ، فلا يَمْنَعْه ذلك أن يَأْمُرَه بالذي يَحِقُّ عليه، فإنَّ وَلَدَه لو كانوا بتلك المنزلةِ أحبَّ أن يُحَثَّ عليه، فَلْيَتَّقِ هو، [فَلْيَأْمُرْه]
(1)
بالوصيَّةِ وإن كان هو الوارثَ. أو نحوًا من ذلك
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أمرٌ مِن اللَّهِ ولاةَ اليتامى أن يَلُوهم بالإحسانِ إليهم في أنفسِهم وأموالِهم، ولا يأكُلوا أموالَهم إسرافًا وبِدارًا أن يَكْبَروا، وأن يكونوا لهم كما يُحِبُّون أن يكونَ وَلاهُ وَلَدِه الصغارِ بعدَهم لهم بالإحسانِ إليهم، لو كانوا هم الذين ماتوا وترَكوا أولادَهم يتامى صغارًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} : يعنى بذلك الرجلَ يموتُ وله أولاد صغار ضعاف، يخافُ عليهم العَيْلةَ والضَّيعةَ، ويخافُ بعده ألا يُحْسِنَ إليهم مَن يَليهم، يقولُ: فإِن وَلِى مثل ذُرِّيَّتِه ضعافًا يتامى، فَلْيُحْسِن إليهم، ولا يأكلْ أموالهم إسرافًا وبدارًا خشيةَ أن يَكْبَروا، فَلْيَتَّقوا اللَّهَ وَلْيَقُولوا قولًا سديدًا
(3)
.
(1)
في ص: "قلت أمره".
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 52 بنحوه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 124 إلى المصنف، وذكره ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 259.
وقال آخرون: معنى ذلك: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} : يَكْفِهم اللَّهُ أمرَ ذُرِّيتهم بعدَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ عطيةَ بن رُدَيحِ
(1)
بن عطيةَ، قال: ثني عمى محمدُ بنُ رُدَيحٍ
(1)
، عن أبيه، عن السَّيْبانيِّ
(2)
، قال: كنا بالقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَيامَ مَسْلَمَةَ بن عبدِ الملكِ، وفينا ابن مُحَيْرِيزٍ وابنُ الدَّيْلَميِّ وهانئُ بنُ كُلْثُومٍ، قال: فجَعَلْنَا نَتَذَاكَرُ ما يكونُ في آخرِ الزمانِ، قال: فضِقْتُ ذَرْعًا بما سمِعتُ. قال: فقلتُ لابنِ الدَّيْلَميِّ: يا أبا بشرٍ، بودِّى أنه لا يُولَدُ لى ولدٌ أبدًا. قال: فضرَب بيده على مَنْكِبي، وقال: يابنَ أخى لا تَفْعَلْ، فإنه ليست مِن نَسَمَةٍ كتَب اللَّهِ لها أن تَخْرُجَ مِن صُلْبِ رجلٍ إلا وهى خارجةٌ، إن شاء وإن أبَى. قال: ألا أَدُلُّك على أمرٍ إن أنت أدْرَكته نجَّاك اللَّهُ منه، وإن ترَكتَ ولدَك مِن بعدِك حفِظهم اللَّهُ فيك؟ قال: قلتُ: بلى. قال: فتلا عندَ ذلك هذه الآيةَ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى التأويلاتِ بالآيةِ قولُ مَن قال: تأويلُ ذلك: وَلْيَخْشَ الذين لو ترَكوا مِن خلفِهم ذريةً ضعافًا خافوا عليهم العَيْلَةَ، لو كانوا فرَّقوا أموالَهم في حياتِهم، أو قَسَّموها وصيةً منهم بها لأُولى قرابتِهم وأهلِ اليُتمِ والمسكنةِ، فأَبْقَوْا أموالَهم لولدِهم؛ خشيةَ العَيْلةِ عليهم بعدَهم، معَ ضعفِهم وعجزِهم عن المطالبِ، فَلْيَأْمُرُوا مَن حضَروه وهو يُوصِى لذَوِى قرابتِه، وفي اليتامى والمساكينِ، وفي غيرِ
(1)
في م: "دريج"، وفى ت 1، ت:"دويج". وينظر تهذيب الكمال 9/ 175.
(2)
في م: "الشيباني". والسيبانى هو يحيى بن أبي عمرو. وينظر الأنساب 3/ 354.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 124 إلى المصنف.
ذلك - بمالِه بالعدل، وَلْيَتَّقوا اللَّهَ وليقولوا قولًا سديدًا، وهو أن يُعَرِّفوه ما أباح اللَّهُ له مِن الوصيةِ، وما اختاره للمُوصِين
(1)
مِن أهلِ الإيمانِ باللَّهِ وبكتابِه وسُنَّتِه.
وإنما قلنا: ذلك بتأويلِ الآيةِ أَوْلَى مِن غيرِه من التأويلاتِ؛ لِما قد ذكَرنا فيما مضَى قبلُ مِن أن معنى قولِه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} : وإذا حضر الوصيَّةَ
(2)
أولو القربى واليتامى والمساكينُ فأوصوا لهم - بما قد دَلَّلنا عليه مِن الأدلةِ. فإذ كان ذلك تأويلَ قولِه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآية. فالواجبُ أن يكونَ قولُه تعالى ذكرُه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} . تأديبًا منه عبادَه في أمرِ الوصيةِ بما أذِنهم فيه، إذ كان ذلك عَقِيبَ الآيةِ التي قبلَها في حكمِ الوصيةِ، وكان أظهر معانيه ما قلنا، فإلحاقُ حكمِه بحكمِ ما قبلَه أولى، مع اشتباهِ معانيهما، مِن صرفِ حكمِه إلى غيرِه بما هو له غيرُ مُشْبِهٍ.
وبمعنى ما قلنا في تأويلِ قولِه: {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . قال مَن ذكَرنا قولَه في مُبْتَدأِ تأويلِ هذه الآيةِ، وبه كان ابن زيدٍ يقولُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . قال: يقولُ قولًا سديدًا، يَذْكُرُ هذا المسكينَ ويَنْفَعُه، ولا يُجْحِفُ بهذا اليتيمِ وارثِ المؤدِّي ولا يُضِرُّ به؛ لأنه صغيرٌ لا يَدْفَعُ عن نفسِه، فانْظُرْ له كما يُنْظَرُ لوَلَدِك لو كانوا صغارًا.
والسديدُ مِن الكلامِ هو العدلُ والصوابُ.
(1)
سقط من: س، وفى ص:"المؤمنين"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"المؤمنون". والمثبت هو الصواب.
(2)
في م، ت 2:"القسمة".
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} . يقولُ: بغيرِ حقٍّ. {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} يومَ القيامةِ، بأكلِهم أموالَ اليتامى ظلمًا في الدنيا، نارَ جَهَنَّمَ، {وَسَيَصْلَوْنَ} بأكلهم {سَعِيرًا} .
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مفضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} . قال: إذا قام الرجلُ يأكلُ مالَ اليتيمِ ظلمًا، يُبْعَثُ يومَ القيامةِ ولهبُ النارِ يخرُجُ مِن فيه ومِن مسامعِه ومِن أُذُنَيه وأنفِه وعينَيْهِ، يَعْرِفُه مَن رآه بأْكلِ
(1)
مالِ اليتيمِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، قال: أخبرَني أبو هارونَ العَبْدِيُّ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: حدَّثنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ أُسْرِى به، قال: "نظَرتُ فإذا أنا بقومٍ لهم مشافِرُ كمشافِرِ الإِبلِ، وقد وُكِّل بهم مَن يأخُذُ بمشافرِهم، ثم يجعَلُ في أفواهِهم صخرًا من نارٍ يخرُجُ مِن أسافِلِهم. قلتُ: يا جبريلُ، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يَأْكُلون أموالَ اليتامى ظُلمًا إنما يأكَلون في بطونِهم نارًا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
(1)
في م: "يأكل".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 879 (4882) من طريق أحمد بن مفضل به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 879 (4884) من طريق أبي هارون العبدي به نحوه.
سَعِيرًا}. قال: قال أبي: إن هذه لأهلِ الشرْكِ حين كانوا لا يُوَرِّثُونهم ويأكُلون أموالَهم
(1)
.
وأمَّا قولُه: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . فإنه مأخوذٌ من الصَّلا، والصَّلا: الاصْطِلاءُ بالنارِ، وذلك التسخُّنُ بها، كما قال الفَرَزْدَقُ
(2)
:
وقاتَلَ كَلْبُ الحَيِّ عن نارِ أهْلِهِ
…
ليَرْبضَ فيها والصَّلا مُتَكَنَّفُ
وكما قال العَجَّاجُ
(3)
:
وَصَالِيَاتٌ
(4)
للصَّلا صُلِيُّ
ثم اسْتُعْمِل ذلك في كلِّ مَن باشَر بيدِه أمرًا مِن الأمورِ، مِن حربٍ أو قتالٍ أو خصومةٍ أو غيرِ ذلك، كما قال الشاعرُ
(5)
:
لم أَكُنْ مِن جُنَاتِها علِم اللَّهُ
…
وإنِّي بحرِّها اليومَ صالِي
فجعَل ما باشر مِن شدَّةِ الحربِ وأَذَى
(6)
القتال بمنزلةِ مباشرةِ أذى النارِ وحرِّها.
واختلفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامَّةُ قَرَأَةِ المدينةِ والعراقِ: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ، بفتحِ الياءِ
(7)
، على التأويلِ الذي قلناه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 124 إلى المصنف.
(2)
ديوانه ص 560.
(3)
ديوانه ص 311.
(4)
في م: "وصاليان"، وفى ت 1، ت 3:"الصاليات". والصاليات: الأحجار التي يوضع عليها القِدْر.
(5)
هو الحارث بن عباد البكرى، والبيت في مجمع الأمثال 2/ 183، والكامل لابن الأثير 1/ 536، وخزانة الأدب 1/ 226.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أحرى"، وفى م:"إجراء". والمثبت هو الصواب.
(7)
وهى قراءة نافع وابن كثير وحفص عن عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 191.
وقرَأ ذلك بعضُ المكيِّين وبعضُ الكوفيِّين: (وَسَيُصْلَوْنَ سَعِيرًا). بضمِّ الياءِ
(1)
، بمعنى: يُحْرَقُون. مِن قولِهم: شاةٌ مَصْلِيَّةٌ. يعنى: مشويةٌ.
قال أبو جعفرٍ: والفتحُ بذلك أَوْلَى مِن الضمِّ؛ لإجماعِ جميعِ القَرَأَةِ على فتحِ الياءِ مِن قولِه: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: 15]. ولدلالةِ قولِه: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] علَى أن الفتحَ بها أولى من الضمِّ.
وأما السعيرُ، فإنه شدَّةُ حرِّ جهنَّمَ، ومنه قيل: اسْتَعرت الحربُ: إذا اشتدَّتْ. وإنما هو "مسعور"، ثم صُرِف إلى "سَعِير"، كما
(2)
قيل: كفٌّ خَضِيبٌ، ولحيةٌ دَهِينٌ. وإنما هي مخضوبةٌ صُرِفت إلى "فَعِيل".
فتأويلُ الكلامِ إذن: وسَيَصْلَوْن نارًا مُسْعَرَةً، أي: موقودةً مُشْعَلةٌ، شديدًا حرُّها.
وإنما قلنا: إن ذلك كذلك؛ لأن اللَّهِ جلَّ ثناؤُه قال: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12]. فوصَفها بأنها مسعورةٌ.
ثم أخْبَر جلَّ ثناؤُه أن أكَلَةَ أموالِ اليتامى يَصْلونها وهي كذلك، فالسعيرُ إذن في هذا الموضعِ صفةٌ للجحيمِ على ما وصَفنا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} : يَعْهَدُ اللَّهِ إليكم {فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . يقولُ يَعْهَدُ إليكم ربُّكم إذا مات الميِّتُ منكم،
(1)
هي قراءة ابن عامر، وأبي بكر عن عاصم. حجة القراءات ص 191.
(2)
سقط من: م.
وخلَّف أولادًا ذكورًا وإناثًا، فلوَلَدِه الذكورِ والإناثِ ميراثُه أجمعُ بينَهم، للذكَرِ منهم مثلُ حظِّ الأُنثيين، إذا لم يكنْ له وارثٌ غيرُهم، سواءٌ فيه صغارُ وَلدِه وكبارُهم
(1)
وإناثُهم، في أن جميعَ ذلك بينَهم، للذكرِ مثلُ حظِّ الأُنثيين.
ورُفِع قولُه: {مِثْلُ} . بالصفةِ، وهى اللامُ التي في قولِه:{لِلذَّكَرِ} . ولم يُنْصَبْ بقولِه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} . لأن الوصيةَ في هذا الموضعِ عهدٌ وإعلامٌ بمعنى القولِ، والقولُ لا يَقَعُ على الأسماءِ المُخْبَرِ عنها، فكأنه قيل: يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: لكم في أولادِكم للذكرِ منهم مثلُ حظِّ الأُنثيين.
وقد ذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم تبيينًا مِن اللَّهِ الواجبَ مِن الحكمِ في ميراثِ
(2)
مَن مات وخلَّف ورثةً، على ما بيَّن؛ لأن أهلَ الجاهليةِ كانوا لا يَقْسِمون مِن ميراثِ الميتِ لأحدٍ من ورثتِه بعدَه، ممن كان لا يُلاقى العَدُوَّ، ولا يُقاتِلُ في الحروبِ مِن صغارِ ولدِه، ولا للنساءِ منهم، وكانوا يَخُصُّون بذلك المُقاتِلَةَ دونَ الذُّرِّيَّةِ، فأخبَر اللَّهُ جلَّ ثناؤُه أن ما خلَّفه الميتُ بين مَن سَمَّى وفرَض له ميراثًا في هذه الآيةِ وفي آخرِ هذه السورةِ، فقال في صغارِ وَلَدِ الميتِ وكبارِهم وإناثِهم: لهم ميراثُ أبيهم إذا لم يكنْ له وارثٌ غيرُهم، للذكرِ منهم مثْل حظِّ الأنثيين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} : كان أهلُ
(1)
في ص: "كباره".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مواريث".
الجاهليةِ لا يُوَرِّثون الجوارىَ ولا الضعفاءَ
(1)
من الغِلْمانِ، لا يَرِثُ الرجلَ مِن وَلدِه إلا مَن أطاق القتالَ، فمات عبدُ الرحمنِ أخو حسَّانَ الشاعرِ
(2)
، وترَك امرأةً يُقالُ لها: أمُّ كُجَّةَ
(3)
، وترَك خمسَ أخواتٍ
(4)
، فجاءت الورثةُ يأخذون مالَه، فشكَت أمُّ كُجَّةَ (3) ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل اللَّهُ تبارك وتعالى هذه الآيةَ:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} . ثم قال في أُمِّ كُجَّةَ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ}
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} : وذلك أنه لمَّا نزَلت الفرائضُ التي فرَض اللَّهُ فيها ما فرَض للولدِ الذكرِ والأنثى والأبوين، كرِهها الناسُ أو بعضُهم، وقالوا: تُعْطَى المرأةُ الربعَ و
(6)
الثمنَ، وتُعْطَى الابنةُ النصفَ، ويُعْطَى الغلامُ الصغيرُ، وليس مِن هؤلاء أحدٌ يُقاتِلُ القومَ، ولا يَحُوزُ الغنيمةَ! اسْكُتوا عن هذا الحديثِ، لعلَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقولُ له فيُغَيِّره. فقال بعضُهم: يا رسولَ اللَّهِ، أَنُعْطِى الجاريةَ نصفَ ما ترَك أبوها وليست تَرْكَبُ الفرسَ ولا تُقاتِلُ القومَ! ونُعْطِى الصبيَّ الميراثَ وليس يُغْنى شيئًا! وكانوا يفعَلون ذلك في الجاهليةِ، لا يُعْطُون الميراثَ إلا مَن قاتَلَ، يُعْطُونه الأكبرَ
(1)
في م: "الصغار".
(2)
قال الحافظ في الإصابة 4/ 293 ولم أره لغيره، ولا ذكر أهل النسب لحسان أخا اسمه عبد الرحمن.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كحة". وينظر ما تقدم في ص 430.
(4)
في الإصابة: "جوار".
(5)
ذكره الحافظ في الإصابة 8/ 285، 286، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 125 إلى المصنف.
(6)
في س والدر المنثور: "أو".
فالأكبرَ
(1)
.
وقال آخَرون: بل نزَل ذلك مِن أجلِ أن المالَ كان للولدِ قبلَ نزولِه، وللوالدينِ الوصيةُ، فنسَخ اللَّهِ تبارك وتعالى ذلك بهذه الآيةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ أو عطاءٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} . قال: كان المالُ للولدِ، وكانت الوصيةُ للوالدينِ والأقربينَ، فنسَخ اللَّهُ مِن ذلك ما أحبَّ، فجعَل للذكرِ مثلَ حظِّ الأنثيين، وجعَل للأبوينِ لكلِّ واحدٍ منهما السدسَ مع الولدِ، وللزوجِ الشَّطْرَ والربعَ، وللزوجةِ الربَع والثمنَ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . قال: كان ابن عباسٍ يقولُ: كان المالُ، وكانتِ الوصيةُ للوالدينِ والأقربينَ، فنسَخ اللَّهُ تبارك وتعالى مِن ذلك ما أحبَّ، فجعَل للذَّكرِ مثلَ حظِّ الأنثيينِ. ثم ذكَر نحوَه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ مثله.
ورُوِى عن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ ما حدَّثنا به محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا وهبُ بنُ جرير، قال: ثنا شعبةُ، عن محمدِ بن المُنكَدِرِ، قال: سمِعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 882 (4896) عن محمد بن سعد به.
(2)
تفسير مجاهد ص 268 ومن طريقه البيهقى 6/ 226، 263، وأخرجه البخاري (4578)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 880 (4887)، من طريق ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 125 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
قال: دخَل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضٌ، فتوضَّأ ونضَح عليَّ مِن وَضُوئِه، فأفقتُ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنما يَرِثُنى كَلالةٌ، فكيف بالميراثِ؟ فنزلت آيةُ الفرائضِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجُ، عن ابن جُريجٍ، قال: ثنى محمدُ بنُ المُنكَدِرِ، عن جابرٍ، قال: عادني رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ رضي الله عنه في بني سِلمةَ يمشيان، فوَجَدانى لا أَعْقِلُ، فدعا بماءٍ
(2)
فتوضَّأَ، ثم رشَّ عليَّ، فأفقْتُ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، كيف أَصْنَعُ في مالى؟ فنزَلت:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} .
يعنى بقولِه: {فَإِنْ كُنَّ} : [فإن كان المتروكاتُ]
(4)
نساءً فوق اثنتين، ويعنى بقولِه:{نِسَاءً} : بنات الميتِ {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} . يقولُ: أكثرَ في العددِ مِن اثنتين، {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. يقولُ: فلِبَناتِه الثُّلثان مما ترَك بعدَه مِن ميراثِه دونَ سائرِ ورثتِه، إذا لم يكن الميتُ خلَّف ولدًا ذكرًا معَهن.
واختلف أهلُ العربية في المعنى بقولِه: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} ؛ فقال بعضُ نحويِّي
(1)
أخرجه مسلم (8/ 1616) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه البيهقى 6/ 212 من طريق وهب بن جرير به، وأخرجه الطيالسي (1815)، وأحمد 22/ 94 (14186)، والبخاري (194)، ومسلم (8/ 1616)، وابن حبان (1266)، والبيهقي 1/ 235 من طريق شعبة به.
(2)
سقط من: ص، ت 1، 2، ت 3، وفى م:"بوضوء".
(3)
أخرجه مسلم (1616) والنسائى في الكبرى (6323، 11091)، والواحدي في أسباب النزول ص 107 من طريق حجاج به، والبخارى (4577) وابن الجارود (956)، والبيهقي 6/ 212 من طريق ابن جريج به، وأخرجه الترمذى (2096)، وأبو داود (2886)، وابن ماجه (1436، 2728) وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 880 (4886)، والحاكم 2/ 303 من طريق ابن المنكدر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 124، 125 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر الدر المنثور 2/ 124، 125.
(4)
في س: "نساء، فإن كان المتروك".
البصرةِ بنحوِ الذي قلنا: فإن كان المتروكاتُ نساءً. وهو أيضًا قولُ بعضٍ نحويِّي الكوفةِ.
وقال آخَرون منهم: بل معنى ذلك: فإن كان الأولادُ نساءً. وقالوا: إنما ذكَر اللَّهِ الأولادَ، فقال:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} . ثم قسَم الوصيةَ، فقال:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} : وإن كان الأولادُ واحدةً
(1)
. ترجمةً منه بذلك عن "الأولادِ".
قال أبو جعفرٍ: والقولُ الأَوَّلُ الذي حكَيناه عمَّن حكَيْناه عنه مِن البصريِّين أَوْلَى بالصوابِ في ذلك عندى؛ لأن قولَه: وإن كُنَّ. لو كان معنيًّا به الأولادُ، لقيل: وإن كانوا. لأن الأولادَ تَجْمَعُ الذكورَ والإناثَ، وإذا كان كذلك، فإنما يقالُ: كانوا. لا: كنَّ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} .
يعنى بقولِه: وإن كانتِ المتروكةُ ابنةً واحدةً، {فَلَهَا النِّصْفُ}. يقولُ: فلِتِلْك الواحدةِ نصفُ ما ترَك المَيِّتُ مِن ميراثِه، إذا لم يكنْ مَعها غيرُها مِن ولدِ الميتِ ذكرٌ ولا أنثى.
فإن قال قائلٌ: فهذا فرضُ الواحدةِ مِن النساءِ وما فوقَ الاثنتين، فأين فريضةُ الاثنتينِ؟ قيل: فريضتُهم بالسُّنَّةِ المنقولةِ نقْلَ الوِراثةِ التي لا يجوزُ فيها الشكُّ
(2)
.
وأما قولُه: {وَلِأَبَوَيْهِ} . فإنه يعنى: ولأَبَوَي الميت، {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} مِن تَرِكَتِه، وما خلَّف مِن مالِه سواءٌ فيه الوالدةُ والوالدُ، لا يَزْدَادُ واحدٌ
(1)
تقدير الكلام: فإن كان الأولاد نساء، وإن كان الأولاد واحدة.
(2)
يشير إلى ما أخرجه أحمد 23/ 108 (14798)، وأبو داود (2891، 2892)، وابن ماجه (2720)، والترمذى (2092) وغيرهم من حديث جابر.
منهما على السدسِ، {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}: ذكَرًا كان الولدُ أو أنثى، واحدًا كان أو جماعةً.
فإن قال قائلُ: فإن كان كذلك التأويلُ، فقد يَجِبُ ألا يُزَادَ الوالدُ معَ الابنةِ الواحدةِ على السدسِ مِن ميراثِه عن ولدِه الميتِ. وذلك إن قلتَه، قولٌ خلافٌ لما عليه الأُمَّةُ مُجْمِعةٌ، مِن تصييرِهِم باقىَ تركةِ الميتِ مع الابنةِ الواحدةِ بعدَ أخذِها نصيبَها منها لوالدِه أجمعَ؟
قيل: ليس الأمرُ في ذلك كالذى ظننتَ، وإنما لكلِّ واحدٍ مِن أبويِ الميتِ السدسُ مِن تَرِكته مع ولدِه، ذكَرًا كان الولدُ أو أنثى، واحدًا كان أو جماعةً، فريضةً من اللَّهِ لهُ مُسَمَّاةً، فإمَّا
(1)
زِيدَ على ذلك مِن بقيةِ النصفِ مع الابنةِ الواحدةِ، إذا لم يكنْ غيرُه وغيرُ ابنةٍ للميتِ واحدةٍ، فإنما زِيدَها ثانيًا لقُربِ
(2)
عَصَبَةِ الميتِ إليه، إذ كان حكمُ كلِّ ما أبقَتْه سهامُ الفرائضِ فلأَوْلى عصَبةِ الميتِ، وأقربِهِم إليه بحكمِ ذلك لها على لسانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
، وكان الأبُ أقربَ عصبةِ ابنِه وأولاها به، إذا لم يكنْ لابنِه الميتِ ابنٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} .
يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ} : فإن لم يكنْ للميتِ {وَلَدٌ} ذكرٌ ولا أنثى، {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} دونَ غيرِهما من ولدٍ وارثٍ، {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. يقولُ: فلأُمِّه مِن تَرِكَتِه وما خلَّف بعدَه، ثلثُ جميعِ ذلك.
فإن قال قائلٌ: فمَن الذي له الثُّلُثَانِ الآخَرانِ؟ قيل له: الأبُ. فإن قال: بماذا؟
(1)
في م، س:"فإن".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قرب".
(3)
يشير إلى ما أخرجه الطيالسي (2731)، وأحمد 4/ 401 (2657)، والبخاري (6732، 6735، 6737)، ومسلم (1615) من حديث ابن عباس.
قلتُ: بأنه أقربُ أهلِ
(1)
الميتِ إليه، ولذلك ترَك ذكْرَ تسميةِ مَن له الثُّلثان الباقيان، إذ كان قد بيَّن على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم العبادِه أن كلَّ ميتٍ فأقربُ عصبتِه به أَوْلَى بميراثِه، بعدَ إعطاءِ ذَوِى السِّهامِ المفروضةِ سهامَهم مِن ميراثِه. وهذه العلةُ هي العلةُ التي مِن أجلِها سمَّى للأُمِّ ما سَمَّى لها، إذا لم يكنِ الميتُ خلَّف وارثًا غيرَ أبويه؛ لأن الأُمَّ ليست بعصبةٍ في حالٍ للميتِ، فبيَّن اللَّهُ جلَّ ثناؤه لعبادِه ما فرَض لها مِن ميراثِ ولدِها الميتِ، وترَك ذكرَ مَن له الثلثان الباقيان منه معها، إذ كان قد عرَّفهم في جملةِ بيانِه لهم مَن له بقايا تركةِ الأموالِ، بعدَ أخذِ أهلِ السهامِ سهامَهم وفرائضَهم، وكان بيانُه ذلك [مغنيًا لهم عن]
(2)
تكريرِ حكمِه معَ كلِّ مَن قسَم له حقًّا مِن ميراثِ ميتٍ، وسمَّى له منه سهمًا.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ذكرُه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} .
إن قال قائلٌ: وما المعنى الذي مِن أجلِه ذُكِر حكمُ الأبويْنِ
(3)
معَ الإخوةِ، وتُرِك ذكرُ حكمِهما معَ الأخِ الواحدِ؟ قلتُ
(4)
: اختلافُ حكمِهما مع الإخوةِ الجماعةِ والأخِ الواحدِ، فكان في إبانةِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤه لعبادِه حكمَهما فيما يَرِثان من ولدِهما الميتِ معَ إخوتِه غنًى وكفايةٌ عن أن حكمَهما فيما ورِثا منه غيرُ مُتغيِّرٍ عما كان لهما ولا أخَ للميتِ ولا وارثَ غيرُهما، إذ كان معلومًا عندهم أن كلَّ مُسْتَحِقٍّ حقًّا بقضاءِ اللَّهِ ذلك له لا يَنْتَقِلُ حقُّه الذي قضَى به له ربُّه جلَّ ثناؤه عما قضَى به له إلى غيرِه إلا بنقلِ اللَّهِ ذلك عنه إلى مَن نقَله إليه مِن خلقِه، فكان في فرْضِه تعالى ذكرُه للأُمِّ ما
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ولد".
(2)
في م: "معينا لهم على".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أبوين".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
فرَض - إذا لم يكن لولدِها الميتِ وارثٌ غيرُها وغيرُ والدِه، [ولا أخَ]
(1)
- الدَّلالةُ الواضحةُ للخلقِ، أن ذلك المفروضَ - و
(2)
هو ثُلُثُ مالِ ولدِها الميتِ - حقٌّ لها واجبٌ، حتى يُغَيِّرَ ذلك الفرضَ مَن فرَض لها، فلمَّا غيَّر تعالى ذكرُه ما فرَض لها مِن ذلك مع الإخوةِ الجماعةِ، وترَك تغييرَه مع الأخِ الواحدِ، عُلِم بذلك أن فرضَها غيرُ متغيِّرٍ عما فُرِض لها إلا في الحالِ التي غيَّره فيها مَن لزِم العبادَ طاعتُه، دونَ غيرِها مِن الأحوالِ.
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في عددِ الإخوةِ الذين عناهم اللَّهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} ؛ فقال جماعةُ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسانٍ، ومَن بعدهم مِن علماءِ أهلِ الإسلامِ، في كلِّ زمانٍ: عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثناؤه بقولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} : اثنين كان الإخوةُ أَو أكثرَ منهما، أُنثَيَيْنِ كانتا، أو كُنَّ إناثًا، أو ذكَرينِ كانا، أو كانوا ذكورًا، أو كان أحدُهما ذكرًا والآخرُ أنثى. واعتلَّ كثيرٌ ممن قال ذلك بأن ذلك قالتْه الأمةُ عن بيانِ اللَّهِ جل ثناؤُه على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فنقلته أُمَّة نبيِّه عليه السلام نقلًا مستفيضًا، قطَع العذرَ مجيئُه، ودفَع الشكَّ فيه عن قلوبِ الخلقِ ورودُه.
ورُوى عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنه كان يقولُ: بل عنَى اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه بقولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} : جماعةٌ أقلُّها ثلاثةٌ، وكان يُنْكِرُ أن يكونَ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه حجَب الأُمَّ عن ثلثِها معَ الأبِ
(3)
بأقلَّ من ثلاثةِ إخوةٍ، فكان يقولُ في أبوين وأخوين: للأمِّ الثلثُ، وما بقى فللأبِ. كما قال أهلُ العلمِ في أبوين وأخٍ واحد.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ولائح"، وفى م:"لوائح"، وفى س:"ولائج". والمثبت هو الصواب.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إلا".
ذكرُ الروايةِ عنه بذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا ابن أَبي فُدَيْكٍ، قال: ثني ابن أبي ذئبٍ، عن شُعْبَةَ مولى ابن عباسٍ، عن ابن عباسٍ أنه دخَل على عثمانَ رضي الله عنه، فقال: لمَ صار الأخَوان يَرُدَّان الأمَّ إلى السدسِ، إنما قال اللَّهُ:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} . والأخَوان في لسانِ قومِك وكلامِ قومك ليسا بإخوةٍ؟ فقال عثمانُ رضي الله عنه: هل أستطيعُ نقضَ أمرٍ كان قبلى، وتوارَثَه الناسُ، ومضَى في الأمصارِ
(1)
؟
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن المَعْنِيَّ بقولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} . اثنان من إخوةِ الميتِ فصاعدًا، على ما قاله أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دونَ ما قاله ابن عباسٍ رضي الله عنه؛ لنقلِ الأمَّةِ وراثةً صحةَ ما قالوه مِن ذلك عن الحجةِ، وإنكارِهم ما قاله ابن عباسٍ في ذلك.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل في الأخوين: إخوةٌ. وقد علِمتَ للأخوين في منطقِ العرب مثالًا لا يُشْبِهُ مثالَ الإخوةِ في منطقِها؟ قيل: إن ذلك وإن كان كذلك، فإن من شأنِها التأليفَ بين الكلامين [يتقاربُ معنياهما]
(2)
، وإن اختلفا في بعضِ وجوهِهما، فلمَّا كان ذلك كذلك، وكان مستفيضًا في منطقِها منتشرًا مُستعمَلًا في كلامِها: ضرَبتُ مِن عبدِ اللَّهِ وعَمْرٍو رءوسَهما، وأَوْجَعَتُ [مِن أَخَويْك]
(3)
ظهورَهما. وكان ذلك أشدَّ استفاضةً في منطقِها مِن أن يقالَ: أَوْجَعتُ منهما ظهرَهما. وإن كان مقولًا: أَوْجَعتُ ظهرَيهما
(4)
. كما قال
(1)
أخرجه الحاكم 4/ 335، والبيهقي 6/ 227 من طريق ابن أبي ذئب به بنحوه.
(2)
في م: "بتقارب معنييهما".
(3)
في م: "منهما".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ظهرهما".
الفَرَزْدَقُ
(1)
:
بما في فؤادَيْنا من الشوقِ
(2)
والهوى
…
فَيَبْرَأُ مُنْهاضُ الفؤادِ المُشَغَّفُ
(3)
غيرَ أن ذلك وإن كان مقولًا، فأفصحُ منه: بما في أفئدتِنا. كما قال جلَّ ثناؤُه: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
فلمَّا كان ما وصَفتُ مِن إخراجِ كلِّ ما كان في الإنسانِ واحدًا إذا ضُمَّ إلى الواحدِ منه آخرُ مِن إنسانٍ آخرَ، فصارا اثنين مِن اثنين، بلفظِ
(4)
الجمعِ
(5)
، أفصحَ في منطقِها، وأشهرَ في كلامِها، وكان الأخوان شخصين، كلُّ واحدٍ منهما غيرُ صاحبِه مِن نفسَيْن مختلفينِ، أشبَه معنياهما
(6)
معنى ما كان في الإنسانِ مِن أعضائِه واحدًا لا ثانيَ له، فأُخرِج اثناهما
(7)
بلفظِ اثْنَى
(8)
العضوَيْن اللذين وصَفتُ، فقيل: إخوةٌ. في معنى الأخَوَين، كما قيل ظهورٌ في معنى الظهرين، وأفواهٌ في معنى فموين، وقلوبٌ في معنى قلبين.
وقد قال بعضُ النحويين: إنما قيل إخوة لأن أقلَّ الجمعِ اثنان، وذلك [أن ذلك]
(9)
ضَمُّ شيءٍ إلى شيءٍ صارا جميعًا
(10)
بعدَ أن كانا فردَيْن، فَجُمِعا لِيُعْلَمَ أَن الاثنين جمعٌ.
(1)
ديوانه ص 554.
(2)
في م: "الحب"، وفى الديوان:"الهم".
(3)
في الديوان: "المسقف". والمشغف: هو الذي شغفه الحب إذا بلغ شغاف قلبه.
(4)
في م: "فلفظ".
(5)
في ص، س:"الجميع".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"معناهما".
(7)
في م: "أنثييهما".
(8)
في م: "أنثى".
(9)
في م: "أنه إذا".
(10)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"جمعا".
وهذا وإن كان كذلك في المعنى، فليس بعلَّةٍ تُنْبئُ عن جوازِ إخراجِ ما قد جرَى الكلامُ مستعملًا مستفيضًا على ألسنِ العربِ لاثْنَيْه بمثالٍ وصورةٍ، غيرِ مثالِ ثلاثةٍ فصاعدًا منه وصورتِها؛ لأن مَن قال: أخواك قاما. فلا شكَّ أنه قد علِم أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الأخوين فردٌ، ضُمَّ أحدُهما إلى الآخرِ فصارا جميعًا، بعد أن كانا شتَّى. [غيرَ أن]
(1)
الأمرَ، وإن كان كذلك فلا تَسْتَجِيزُ العربُ في كلامِها أن يقالَ: أخواك قاموا. فيَخْرُجُ قولُهم: "قاموا"، وهو لفظٌ للخبر عن الجميعِ خبرًا عن الأخوينِ، وهما بلفظِ الاثنين، لأن لكلِّ ما قد جرَى به الكلامُ على [ألسنتِهم معروفًا عندهم بمثالٍ]
(2)
وصورةٍ إذا غيَّره مغيِّرٌ عمَّا قد عرَفوه فيهم نَكِروه، فكذلك الأخوان، وإن كانا مجموعين ضُمَّ أحدُهما إلى صاحبِه، فلهما مثالٌ في المنطقِ وصورةٌ غيرُ مثالِ الثلاثةِ منهم فصاعدًا وصورتِهم، فغيرُ جائزٍ أن أن يُغَيَّرَ أحدُهما إلى الآخرِ إلا بمعنًى مفهومٍ، وإذ كان ذلك كذلك، فلا قولَ أوْلى بالصحةِ مما قلنا قبلُ.
فإن قال قائلٌ: ولم نُقِصتِ الأمُّ عن ثلثِها بمصيرِ إخوةِ الميتِ معَها؛ اثنين فصاعدًا؟ قيل: اخْتَلفتِ العلماءُ في ذلك؛ فقال بعضُهم: نُقصتِ الأمُّ عن ذلك [وورثه الأبُ]
(3)
؛ لأن على الأبِ مُؤَنَهم دون أمِّهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
(1)
في النسخ: "عنوان". وهو تحريف. والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
في م: "مثالًا معروفًا عندهم".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وردته الأم"، وفى م:"دون الأب". والمثبت هو الصواب.
السُّدُسُ}: [أَضَرُّوا بالأمِّ]
(1)
، ولا يَرِثون، ولا يَحْجُبُها الأخُ الواحدُ من الثلثِ، ويَحْجُبُها ما فوق ذلك. وكان أهلُ العلمِ يَرَوْن أنهم إنما حجَبوا أمَّهم مِن الثلثِ، لأن أباهم يَلِى نكاحَهم والنفقةَ عليهم دونَ أمِّهم
(2)
.
وقال آخَرون: بل نُقِصت الأمُّ السدسَ، وقُصِر بها على سدسٍ واحدٍ؛ معونةً لإخوةِ الميتِ بالسدسِ الذي حجَبوا أمَّهم عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: السدسُ الذي حجَبتْه الإخوةُ الأمَّ، لهم، إنما حجبوا أمَّهم عنه ليكونَ لهم دونَ أبيهم
(3)
.
وقد رُوِى عن ابن عباسٍ خلافُ هذا القولِ، وذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عَمْرِو بن دينارٍ، عن الحسنُ بن محمدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: الكَلالةُ مَن لا ولدَ له ولا والدَ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى ذلك بالصوابِ أن يقالَ في ذلك: إن اللَّهِ تعالى ذكرُه فرَض للأمِّ معَ الإخوةِ السدسَ؛ لما هو أعلمُ به مِن مصلحةِ خَلقِه، وقد يجوزُ أن يكونَ ذلك كان لِما أُلْزِم الآباءُ لأولادِهم، وقد يجوزُ أن يكونَ ذلك لغيرِ ذلك، وليس
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمروا الأمر"، وفى م:"أنزلوا الأم". والمثبت من مصدرى التخريج.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 883 (4905) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى عبد بن حميد.
(3)
في النسخ: "أمهم". والمثبت من مصادر التخريج، ومن تعقيب المصنف على هذا القول.
والأثر أخرجه عبد الرزاقِ في المصنف (19027)، ومن طريقه البيهقي 6/ 227.
(4)
سيأتي تخريجه في ص 477.
ذلك مما كُلِّفْنا عِلْمَه، وإنما أُمِرنا بالعملِ بما علِمنا
وأما الذي رُوِى عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، فقولٌ لما عليه الأُمَّةُ مخالفٌ، وذلك أنه لا خلافَ بين الجميعِ ألا ميراثَ لأخِي ميتٍ مع والدِه، فكَفى إجماعُهم على خلافِه شاهدًا على فسادِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
يعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . أن الذي قسَم اللَّهُ تبارك وتعالى لولدِ الميتِ الذكورِ منهم والإناثِ ولأبويه مِن تَرِكتِه مِن بعدِ وفاتِه، إنما يَقْسِمُه لهم على ما قسَمه لهم في هذه الآيةِ، مِن بعدِ قضاءِ دَينِ الميتِ الذي مات وهو عليه مِن تركتِه، ومِن بعدِ تنفيذِ وصيتِه في بابِها، بعدَ قضاءِ دَينِه كلِّه، فلم يَجْعَل تعالى ذكره لأحدٍ مِن ورثةِ الميتِ، ولا لأحدٍ ممن أوصَى له بشيءٍ، إلا مِن بعدِ قضاءِ دَينِه مِن جميعِ تركتِه، وإن أحاط بجميعِ ذلك، ثم جعَل أهلَ الوصايا بعدَ قضاءِ دَينِه شركاءَ ورثتِه فيما بقِى لِما أوصَى لهم به، ما لم يُجَاوِزُ ذلك ثلثَه، فإن جاوَز ذلك ثلثَه جُعِل الخيارُ في إجازةِ ما زاد على الثلثِ مِن ذلك أو ردِّه إلى ورثتِه، إِن أَحَبُّوا أجازوا الزيادةَ على ثلثِ ذلك، وإن شاءوا رَدُّوه، فأمَّا ما كان مِن ذلك إلى الثلثِ، فهو ماضٍ عليهم. وعلى كلِّ ما قلْنا من ذلك الأُمَّة مجمعةٌ.
وقد رُوِى عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بذلك خبرٌ، وهو ما حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرَنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ الأعورِ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: إنكم تقرَءون هذه الآيةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . وإن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قضَى بالدَّيْنِ قبلَ الوصيةِ
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذى (2094) عن محمد بن بشار به، وأخرجه عبد الرزاق (19003)، وابن أبي شيبة 10/ 160، 11/ 402، 403، وأحمد 2/ 331 (1091)، وابن ماجه (2715)، وأبو يعلى (625)، =
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: ثنا زكريا بنُ أبي زائدةَ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ رضوانُ اللَّهِ عليه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثلِه
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِيَاثٍ، قال: ثنا أشعثُ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مثلَه.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ، عن ابن مجاهدٍ، عن أبيه:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . قال: يُبْدَأُ بالدَّين قبلَ الوصيةِ
(2)
.
واخْتَلفتِ القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأَتُه عامَّةُ قَرَأَةِ أهلِ المدينةِ والعراقِ: {يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
(3)
.
وقرَأ بعضُ أهلِ مكةَ والشامِ والكوفةِ: (يُوصَى بها). على معنى ما لم يُسَمَّ فاعلُه
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى القراءتينِ بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأ ذلك: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . على مذهبِ ما قد سُمِّى فاعلُه؛ لأن الآيةَ كلَّها خبرٌ عمن قد سُمِّى فاعلُه، ألا ترَى أنه يقولُ:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} . فكذلك الذي هو أَوْلَى بقولِه: {يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . أن
= وابن الجارود (950)، والدارقطنى 4/ 86، 87، والحاكم 4/ 336 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(1)
أخرجه الترمذى عقب الحديث (2094) عن ابن بشار به، وأخرجه أحمد 2/ 392 (1222)، والبيهقي 6/ 267 من طريق يزيد بن هارون به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 383 (4906) من طريق أبي إسحاق به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى المصنف.
(3)
وهى قراءة نافع وحفص عن عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي. حجة القراءات ص 193.
(4)
وهى قراءة ابن كثير وأبي بكر عن عاصم وابن عامر. المصدر السابق.
يكونَ خبرًا عمن قد سُمِّى فاعلُه؛ لأن تأويلَ الكلامِ: ولأبويه لكلِّ واحدٍ منهما السدسُ مما ترَك إن كان له ولدٌ، مِن بعدِ وصيةٍ يُوصِى بها أو دَينٍ يُقْضَى عنه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} .
يعنى جلّ ثناؤُه بقولِه: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} : هؤلاء الذين أوصاكم اللَّهُ به فيهم - مِن قسمةِ ميراثِ ميتِكم فيهم، على ما سَمَّى لكم وبيَّنه في هذه الآيةِ - {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}. يقولُ: أعطُوهم حقوقَهم مِن ميراثِ ميتِهم الذي أوصيتُكم أن تُعْطُوهُموها، فإنكم لا تَعْلَمون أيُّهم أدنى وأشدُّ نفعًا لكم، في عاجلِ دنياكم وآجلِ أُخْراكم.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} ؛ فقال بعضُهم: يعنى بذلك: أيُّهم أقربُ لكم نفعًا في الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بن صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} . يقولُ: أطوعُكم للَّهِ مِن الآباءِ والأبناءِ، أرفعُكم درجةً يومَ القيامةِ؛ لأن اللَّهَ سبحانه يُشَفِّعُ المؤمنين بعضَهم في بعضٍ
(1)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك: لا تَدْرُون أَيُّهم أقربُ لكم نفعًا في الدنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 884 (4910) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى ابن المنذر.
نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} : في الدنيا
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفَة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} ، قال بعضُهم: في نفعِ الآخرةِ. وقال بعضُهم: في نفعِ الدنيا
(2)
.
وقال آخرون في ذلك بما قلنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} . قال: أيُّهم خيرٌ لكم في الدِّين والدنيا، الوالدُ أو الولدُ الذين يَرِثونكم، لم يُدْخِلْ عليكم غيرَهم، فرضِى لهم المواريثَ، لم يأتِ بآخَرين يَشْرَكُونهم في أموالِكم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} .
يعنى بقولِه جل ثناؤه: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} : وإن كان له إخوةٌ فلأُمِّه السدسُ {فَرِيضَةً} . يقولُ: سهامًا معلومةً مُوَقَّتَةً بيَّنها اللَّهُ لهم.
ونصب قولَه: {فَرِيضَةً} على المصدرِ من قولِه {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} - {فَرِيضَةً} . فَأَخْرَج {فَرِيضَةً}
(1)
تفسير مجاهد ص 269، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 884 عقب الأثر (4911) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 884 (4911) من طريق أحمد بن المفضل به.
مِن معنى الكلامِ، إذ كان معناه ما وصَفتُ.
وقد يجوزُ أن يكونَ نصَبَه على الخروجِ مِن قولِه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} - {فَرِيضَةً} ، فتكونُ "الفريضةُ" منصوبةً على الخروجِ مِن قولِه:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}
(1)
. كما تقولُ: هو لك هبةً، وهو لك صدقةً منِّي عليك.
وأمَّا قولُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} . فإنه يعنى جلَّ ثناؤُه: إن اللَّهَ لم يَزَلْ ذا علمٍ بما يُصْلِحُ خلقه أيُّها الناسُ، فانتهوا إلى ما يَأْمُرُكم، يُصْلِحْ لكم أمورَكم. {حَكِيمًا}. يقولُ: لم يَزَلْ ذا حكمةٍ في تدبيرِه، وهو كذلك فيما يَقْسِمُ لبعضِكم مِن ميراثِ بعضٍ، وفيما يَقْضِي بينكم مِن الأحكامِ، لا يَدْخُلُ حكمه خَلَلٌ ولا زَلَلٌ؛ لأنه قضاءُ مَن لا يخْفَى عليه مواضعُ المصلحةِ في البدءِ والعاقبةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: ولكم أيُّها الناسُ نصفُ ما ترَك أزواجُكم بعد وفاتهنَّ مِن مالٍ وميراثٍ، إن لم يكنْ لهنَّ ولدٌ يومَ يَحْدُثُ بهنَّ الموتُ، لا ذكَرٌ ولا أنثى، {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ}. أي: فإن كان لأزواجِكم يومَ يَحْدُثُ بهنَّ الموتُ ولدٌ ذَكَرٌ أو أنثى، {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} مِن مالٍ وميراثٍ، ميراثًا لكم عنهنَّ. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. يقولُ: ذلكم لكم ميراثًا عنهنَّ، مما يَبْقَى مِن تَرِكاتِهنَّ وأموالِهنَّ، مِن بعدِ قضاءِ دُيُونِهِنَّ التي يَمُتْنَ وهى عليهن، ومِن بعدِ إنفاذِ وصاياهن الجائزةِ، إن كُنَّ أَوْصِينَ بها.
(1)
بعده في ص: "فتكون الفريضة على الخروج مِن قوله له فلأمه السدس".
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
يعني جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} : ولأزواجِكم أيها الناسُ ربعُ ما ترَكتم بعدَ وفاتِكم مِن مالٍ وميراثٍ، إن حدَث بأحدِكم حَدَثُ الوفاةِ ولا ولدَ له ذكرٌ ولا أُنثى، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ}. يقولُ: فإن حدَث بأحدِكم حدثُ الموتِ، وله ولدٌ ذكَرٌ أو أنثى، واحدًا كان الولدُ أو جماعةً، {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} ، يقولُ: فلأزواجِكم حينَئذٍ مِن أموالِكم وتَركتِكم التي تُخَلِّفُونها بعدَ وفاتِكم، الثُّمُنُ، مِن بعد قضاءِ ديونِكم التي حدَث بكم حدثُ الوفاةِ وهى عليكم، ومِن بعدِ إنفاذِ وصاياكم الجائزةِ التي تُوصون بها.
وإنما قيل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . فقدَّم ذكرِ "الوصيةِ" على ذكرِ "الدَّينِ"؛ لأن معنى الكلامِ: إن الذي فرَضتُ لمن فرَضْتُ له منكم في هذه الآياتِ، إنما هو له مِن بعدِ إخراجِ أيِّ هذين كان في مال الميت منكم، مِن وصيةٍ أو دَينٍ. فلذلك كان سواءً تقديمُ ذكرِ الوصيةِ قبلَ ذكرِ الدَّينِ، وتقديمُ ذكرِ الدَّينِ قبلَ ذكرِ الوصيةِ؛ لأنه لم يُرِدْ مِن معنى ذلك إخراجَ
(1)
الشيئين؛ الدَّينِ والوصيةِ مِن مالِه، فيكونَ ذكرُ الدَّين أوْلَى أن يُبْدَأَ به مِن ذكرِ الوصيةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: وإن كان رجلٌ أو امرأةٌ يُورَثُ كَلالةً.
ثم اخْتَلفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قَرأَةِ أَهل الإسلامِ: {وَإِنْ
(1)
بعده في م، ت 1، ت 3، س:"أحد".
كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً}. بمعنى: وإن كان رجلٌ يُورَثُ مُتَكَلِّلُه
(1)
النَّسَبُ. فـ "الكلالةُ" على هذا القولُ مصدرٌ مِن قولِهم: تَكَلَّله النَّسَبُ تَكَلُّلًا وكَلالةً. بمعنى: تعطَّف عليه النسبُ.
وقرأه بعضُهم: (وإنْ كان رجلٌ يُورثُ كَلالَةً)
(2)
.
بمعنى: وإن كان رجلٌ يُورِثُ مَن يَتَكَلَّلُه. بمعنى: مَن يَتَعَطَّفُ عليه بنسَبه من أخٍ أو أُختٍ.
واختلف أهلُ التأويلِ في "الكلالةِ"؛ فقال بعضُهم: هي ما خلا الوالدَ والولدَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الوليدُ بنُ شُجَاعِ السَّكُونيُّ، قال: ثنى على بنُ مُسْهِرٍ، عن عاصمٍ، عن الشَّعْبيِّ، قال: قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: إنى قد رأيتُ في الكَلالةِ رأيًا، فإن كان صوابًا فمِن اللَّهِ وحدَه لا شريكَ له، وإن يَكُ خطأً فمنِّى والشيطانِ، واللَّهُ منه بريءٌ، وإن الكَلالةَ ما خلا الولدَ والوالدَ. فلمَّا اسْتُخْلِف عمرُ رضي الله عنه قال: إني لأَسْتَحْيِي مِن اللَّهِ تبارك وتعالى أن أُخَالِفَ أبا بكرٍ في رأيٍ رآه
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا عاصمٌ الأحولُ، قال: ثنا الشَّعْبِيُّ، أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكَلالةِ: أقولُ فيها برأيي، فإن
(1)
في م: "متكلل".
(2)
هذه قراءة الحسن. البحر المحيط 3/ 189، وهي قراءة شاذة.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في 11/ 415، 416، والدارمي 2/ 365 مِن طريق عاصم به بنحوه.
كان صوابًا فمن الله: هو ما دونَ الولدِ والوالدِ. قال: فلمَّا كان عمرُ رضي الله عنه قال: إنى لأَسْتَحْيِي
(1)
الله أن أُخَالِفَ أبا بكرٍ
(2)
.
حدَّثنا [يونسُ بنُ عبد الأعلى]
(3)
، قال: أخبرَنا سفيانُ، عن عاصمٍ الأحول، عن الشعبيِّ، أن أبا بكرٍ وعمرَ بنَ الخَطابِ رضي الله عنهما، قالا: الكَلالةُ مَن لا ولدَ له ولا والدَ
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن عِمرانَ بن حُدَيْرٍ، عن السُّمَيْطِ، قال: كان عمرُ رجلًا أَيْسَرَ
(5)
، فخرَج يومًا وهو يقولُ بيدِه هكذا، يُدِيرُها، إلا أنه قال: أَتَى عليَّ حينٌ ولستُ أدرى ما الكَلالةُ؟ ألا وإن الكَلالةَ ما خلا الولدَ والوالدَ
(6)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن عامرٍ، عن أبي بكرٍ، قال: الكَلالةُ ما خلا الولدَ والوالدَ
(7)
.
(1)
بعده في م: "من".
(2)
أخرجه البيهقى في المعرفة (3849) من طريق هشيم به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أبو بشر عبد الأعلى". وفى م: "أبو بشر بن عبد الأعلى".
وتقدم على الصواب في 1/ 63، 79.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19191)، وسعيد بن منصور في سننه (591 - تفسير)، والبيهقى 6/ 224 من طريق سفيان بن عيينة به، بأطول من هذا.
(5)
كذا في النسخ. وقد ورد في صفة عمر رضي الله عنه أنه كان أعسر أيسر، وأعسر يَسَر، بفتح السين. ورجل أعسر يسر، يعمل بكلتا يديه جميعًا، فإن عمل بالشمال فهو أعسر بين العسر. ينظر تاريخ دمشق 44/ 19، والنهاية 5/ 297، والتاج (ع س ر، ي س ر).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 417 عن وكيع به، والبيهقى 6/ 224 من طريق عمران به دون ذكر القصة.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19190) عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 250 إلى ابن المنذر.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا سفيانُ، عن عمرو بن دينارٍ، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس، قال: الكَلالةُ مَن لا ولدَ له ولا والدَ
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سَمِعتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ عن عمرو بن دينارٍ، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس، قال: الكَلالةُ مَن لا ولد له ولا والد
(2)
.
حدَّثنا محمد بن بشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد ابن الحَنَفِيَّةِ، عن ابن عباس، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد
(3)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ وابن وكيعٍ، قالا: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيلُ
(4)
، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْمِ بن عبدِ، عن ابن عباس بمثلِهِ
(5)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْمٍ بن عبدٍ السَّلُوليِّ، عن ابن عباس، قال: الكلالة ما خلا الوالد والولد
(6)
.
حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية بن صالح، عن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19189)، وسعيد بن منصور في سننه (588 - تفسير)، والبيهقى 6/ 225، من طريق سفيان بن عيينة به بزيادة. وتقدم في ص 468.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19189)، وابن أبي شيبة 11/ 416، من طريق ابن جريج به.
(3)
أخرجه الدارمي 2/ 366 من طريق الثورى به.
(4)
في م: "أبى عن إسرائيل".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 887 (4934) من طريق عبد الرحمن بن مهدى به.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 417 عن وكيع به، وأخرجه البيهقى 2/ 242 من طريق أبي إسحاق به.
عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة} . قال: الكَلالةُ من لم يترُك والِدًا ولا ولدًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُبَيْدٍ المُحَارِبيُّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْمِ بن عبدٍ، قال: ما رأيتُهم إلا قد اتَّفقوا أنه من مات ولم يَدَعْ ولدًا ولا والدًا أنه كلالةٌ.
حدَّثنا تَمِيمُ بنُ المُنتَصِرِ، قال: ثنا إسحاق بن يوسفَ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبدٍ، قال: ما رأيتُهم إلا قد أجمعوا أن الكلالة الذي ليس له ولدٌ ولا والدٌ.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبدِ، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن أشعثَ، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبدٍ، قال: أدركتُهم وهم يقولون: إذا لم يَدَعِ الرجل ولدًا ولا والدًا وُرِث كلالةً.
حدَّثنا بشرٌ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة} : والكلالةُ الذي لا ولد له ولا والد، لا أب ولا جَدَّ، ولا ابن ولا ابنة، فهؤلاء الإخوةُ مِن الأُمِّ.
حدَّثني محمد بن المثنَّى، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، عن شُعْبَةَ، عن الحكم، قال في الكلالةِ: ما دونَ الولدِ والوالدِ
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 250 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 416 من طريق شعبة به.
حدَّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: الكَلالَةُ كلُّ مَن لا يَرِثُه والدٌ ولا ولدٌ، وكلٌّ مَن لا ولد له ولا والد، فهو يُورَثُ كَلالَةٌ، مِن رجالهم ونسائهم.
حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ والزُّهْرِيِّ وأبى إسحاق، قال
(1)
: الكَلالةُ مَن ليس له ولدٌ ولا والدٌ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمد بن حميدٍ
(3)
، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ وقتادة وأبي إسحاق مثله.
وقال آخرون: الكلالة ما دون الولد. وهذا قولٌ عن ابن عباسٍ، وهو الخبر الذي ذكرناه قبلُ من رواية طاوس عنه، أنه ورث الإخوة من الأمِّ السدسَ معَ الأبوين
(4)
.
وقال آخرون: الكلالة ما خلا الوالد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا سهل بن يوسفَ، عن شُعْبَةَ، قال: سألتُ الحكَمَ عن الكلالة؟ قال: فهو ما دونَ الأبِ
(5)
.
واختلف أهل العربية في الناصب للكلالةِ؛ فقال بعضُ البصريين: إن شئتَ نصبتَ {كَلَالَةً} على خبر {كَانَ} ، وجَعَلْتَ {يُورَثُ} مِن صفةِ
(1)
كذا في النسخ. وينظر ما سيأتي في تخريج الأثر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 177 بدون ذكر أبي إسحاق، ثم رواه عن معمر، عن أبي إسحاق الهمذاني، عن عمرو بن شرحبيل قوله، وأخرجه في مصنفه (19192) عن معمر، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل قوله.
(3)
في م: "محمد". وينظر تهذيب الكمال 25/ 109.
(4)
تقدم تخريجه في ص 468.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 416 عن سهل به. وعنده: ما دون الولد والأب.
الرجل، وإن شئتَ جَعَلتَ {كَانَ} تَسْتَغْنى عن الخبر نحو "وقع"، وجعلتَ نصْبَ {كَلَالَةً} على الحال، أي: يُورث كَلالةً. كما يقال: يُضْرَبُ قائمًا.
وقال بعضُهم: قوله: {كَلَالَةً} خبر {كَانَ} ، لا يكون الموروثُ كلالةً، وإنما الوارث الكلالةُ.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى: أن "الكلالة" منصوبٌ على الخروج من قوله: {يُورَثُ} ، وخبرُ {كَانَ} - {يُورَثُ} ، والكلالة وإن كانت منصوبةً بالخروج من {يُورَثُ} ، فليست منصوبةً على الحالِ، ولكنْ على المصدر من معنى الكلام؛ لأن معنى الكلام: وإن كان رجلٌ يُورَثُ مُتَكَلِّلُه النَّسَبُ كَلالةً. ثم تَرَك ذكر "متكلّله"، اكتفاءً بدَلالة قوله:{يُورَثُ} . عليه.
واختلف أهل العلم في المُسَمَّى "كلالةً"؛ فقال بعضهم: الكلالةُ الموروثُ، وهو الميتُ نفسه، سُمِّى بذلك إذا ورثه غيرُ والده وولده.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ قوله
(1)
في "الكلالةِ"، قال: الذي لا يَدَعُ ولدًا ولا والدًا.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن سليمان الأحول، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كنتُ آخِرَ الناسِ عهدًا بعمر رضي الله عنه، فسمعتُه يقولُ: القولُ
(2)
ما قلتُ. قلتُ: وما قلت؟ قال: الكلالةُ مَن لا ولد له
(3)
.
(1)
في م: "قولهم".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19188) - وعنده: حسبت أنه قال: ولا والد - وأخرجه سعيد بن =
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سُليم
(1)
بن عبدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: الكَلالةُ مَن لا ولد له ولا والدَ.
وقال آخرون: الكلالة هي الورثة الذين يرثون الميت، إذا كانوا إخوةً أو أخوات أو غيرهم إذا لم يكونوا ولدًا ولا والدًا. على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك.
وقال آخرون: بل الكلالة الميتُ والحيُّ جميعًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: الكلالةُ الميتُ الذي لا ولد له ولا والد، والحيُّ، كلُّهم كَلالةٌ، هذا يَرِثُ بالكلالةِ، وهذا يُورَثُ
(2)
بالكلالة
(3)
.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندى ما قاله هؤلاء، وهو أن الكلالة الذين يرثون الميتَ مَن عدا ولده ووالده؛ وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابرِ بن عبدِ اللهِ أنه قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إِنما يَرِثْنى كَلالَةٌ، فكيف
= منصور في سننه (589 - تفسير)، وابن أبي شيبة 11/ 415، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 887 (4933) - ولفظه: قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد -، والحاكم 2/ 303، والبيهقى 6/ 225. من طريق ابن عيينة به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (19187) من طريق طاوس به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 250 إلى ابن المنذر.
قال الحاكم: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: كذا في هذه الرواية، والذي روينا عن عمر وابن عباس في تفسيره الكلالة أشبه بدلائل الكتاب والسنة من هذه الرواية، وأولى أن يكون صحيحًا لانفراد هذه الرواية وتظاهر الروايات عنهما بخلافها، والله أعلم.
(1)
في النسخ: "سليمان". والمثبت هو الصواب.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يرث".
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 135.
بالميراثِ
(1)
؟
ولما
(2)
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عَن ابْنِ عَونٍ، عَن عَمْرِو بن سعيدٍ، قال: كُنَّا مع حُميدِ بن عبدِ الرحمنِ في سوق الرقيق، قال: فقام من عندنا ثم رجع، فقال: هذا آخِرُ ثلاثةٍ من بنى سعدٍ حدثوني هذا الحديث، قالوا: مرض سعدٌ بمكة مرضًا شديدًا، قال: فأتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعودُه، فقال: يا رسول الله، لى مالٌ كثيرٌ، وليس لى وارثٌ إلا كلالةٌ، فأُوصى بمالى كُلِّه؟ فقال:"لا"
(3)
.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا إسحاق بن سُوَيدٍ، عن العلاء بن زيادٍ، قال: جاء شيخٌ إلى عمر رضي الله عنه، فقال: إنى شيخٌ، وليس لي وارثٌ إلا كلالةٌ، أعرابٌ مُتَراخٍ نسبُهم، أفأُوصِي بثلث مالي؟ قال: لا
(4)
.
فقد أنبأتُ هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى الكلالة، وأنها وَرَثَةُ الميتِ دون الميت ممن عدا والده وولده.
القول في تأويل قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} .
يعنى بقوله جل ثناؤُه: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} : وللرجل الذي يُورَثُ كَلالةً
(1)
تقدم تخريجه في ص 459، 460.
(2)
في النسخ: "بما" والمثبت ما يقتضيه السياق.
(3)
أخرجه أبو يعلى (781) من طريق ابن علية به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (331) من طريق ابن عون به، وأخرجه ابن سعد 3/ 145، وأحمد 3/ 50 (1440)، والبخارى في الأدب المفرد (520)، ومسلم (1628) / 9، وابن خزيمة (2355)، والبيهقى 9/ 18 من طريق عمرو بن سعيد به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (335)، والدارمى 2/ 408 من طريق إسحاق به سويد به.
{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ، يعنى: أَخًا أو أُختًا من أُمِّه.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن يعلى بن عطاءٍ، عن القاسم، عن سعدٍ أنه كان يقرأ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} . قال سعدٌ: لأُمِّه
(1)
.
حدَّثنا محمد بن المُثنَّى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن يَعْلَى بن عطاءٍ، قال: سمعتُ القاسم بن ربيعة يقولُ: قرأتُ على سعد: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} . قال سعدٌ: لأُمِّه
(2)
.
حدَّثني محمد بن المثنَّى، قال: ثنا وهب بن جريرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن يَعْلَى بَنِ عطاءٍ، عن القاسم بن ربيعة [بن قائِفٍ]
(3)
، قال: قرأتُ على سعدٍ. فذكر نحوه.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرنا يَعْلى بن عطاءٍ، عن القاسم بن ربيعة، قال: سمعتُ سعد بن أبي وقَّاصٍ قرأ: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة وَلَهُ أُخْتٌ من أُمِّه)
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} : فهؤلاء الإخوة من الأمِّ، إن كان واحدًا فله السدُسُ، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاءُ في الثلُث، ذكَرُهم وأُنثاهم فيه سواءٌ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة، 11/ 416، 417، والدارمي 2/ 366، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 887 (4936) من طريق سفيان به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 887 (4936) من طريق شعبة به.
(3)
في م: "عن فاتك" وتقدم في 2/ 392.
(4)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 169، وسعيد بن منصور في تفسيره (592 - تفسير)، والبيهقى 6/ 231 من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 126 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} : فهؤلاء الإخوةُ من الأُمِّ، فهم شركاء في الثلثِ، سواءٌ الذكرُ والأُنثى.
وقوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} . إذا انفرد الأخُ وحدَه، أو الأختُ وحدها، ولم يكن أخٌ غيرُه أو غيرُها من أُمِّه، فله السدُسُ من ميراث أخيه لأمِّه، فإن اجتمع أخٌ وأختٌ، أو أخوان لا ثالث معهما لأمِّهما، أو أختان كذلك، أو أخٌ وأختٌ ليس معهما غيرهما من أُمِّهما، فلكلِّ واحدٍ منهما من ميراث أخيهما لأمِّهما السدُسُ، {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ}. يعنى: فإن كان الإخوة والأخواتُ لأمِّ الميت الموروث كلالةً أكثر من اثنين، {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. يقولُ: فالثلثُ الذي فرَضْتُ لاثنيهم - إذا لم يكن غيرُهما من أمِّهما ميراثًا لهما من أخيهما الميتِ الموروثِ كَلالةً - شَرِكةٌ بينهم، إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددُهم، على عدد رءوسهم، لا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ منهم على أنثى في ذلك، ولكنه بينهم بالسَّوِيَّةِ.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} . ولم يُقَل: لهما أخٌ أو أختٌ. وقد ذُكر قبلَ
(1)
ذلك رجلٌ أو امرأة، فقيل:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَة} ؟
قيل: إن من شأن العرب إذا قدَّمت ذِكْرَ اسمين قبل الخبر، فعطفت أحدهما على الآخرِ بـ "أو"، ثم أتَت بالخبر - أضافت الخبرَ إليهما أحيانًا، وأحيانًا إلى أحدهما، وإذا أضافت إلى أحدهما، كان سواءً عندها إضافة ذلك إلى أيِّ الاسمين اللذين ذكرتهما، أضافته، فتقولُ: مَن كان عنده غلامٌ أو جاريةٌ، فَلْيُحْسِنُ إِليه - يعنى: فَلْيُحْسِنُ إلى الغلام - و: فَلْيُحْسِنْ إليها - يعنى: فَلْيُحْسِنْ
(1)
في النسخ: "مثل". والمثبت ما يقتضيه السياق.
إلى الجارية - و: فَلْيُحْسِنُ إليهما.
وأمَّا قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} - وقد تقدَّم ذكر الأخ والأختِ بعطف أحدهما على الآخر. والدَّلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} - فإن ذلك إنما جاز لأن معنى الكلام: ولكلِّ واحدٍ من المذكورين السدُسُ.
القولُ في تأويل قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} .
يعنى جلّ ثناؤه بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} . أي: هذا الذي فرضتُ لأخى الميت الموروث كلالةً وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثِه وتركتِه، إنما هو لهم من بعدِ قضاءِ دَيْنِ الميتِ الذي كان عليه يومَ حدَث به حدَثُ الموتِ مِن تَرِكتِه، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يُوصى بها في حياته لمن أَوْصَى له بها بعد وفاتِه.
كما حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} : والدَّيْنُ أحقُّ ما بُدِئَ به مِن جميع المال، فيُؤَدَّى عن أمانة الميت، ثم الوصيةُ، ثم يَقْسِمُ أهل الميراث ميراثَهم.
وأمَّا قوله: {غَيْرَ مُضَارٍّ} . فإنه يعنى تعالى ذكرُه: من بعدِ وصيةٍ يُوصَى بها غيرَ مُضَارٌّ ورثته في ميراثهم عنه.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{غَيْرَ مُضَارٍّ} . قال: في ميراث أهله
(1)
.
حدَّثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ قوله:{غَيْرَ مُضَارٍّ} . قال: في ميراث أهله.
(1)
تفسير مجاهد ص 269، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 889 (4945).
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذ، قال: حدَّثنا يزيد، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} . وإن الله تبارك وتعالى كره الضِّرارَ في الحياة وعند الموت، ونهَى عنه، وقدَّم فيه، فلا تَصْلُحُ مُضَارَّةٌ في حياةٍ ولا موتٍ
(1)
.
حدَّثني نصرُ بن عبد الرحمن الأوديُّ، قال: ثنا عبيدةُ بن حميدٍ، وثني يعقوبُ بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، جميعًا عن داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} . قال: الضِّرارُ في الوصية من الكبائرِ
(2)
.
حدَّثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: الضرار في الوصية من الكبائر.
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا بِشرُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داودُ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الحيْفُ في الوصية من الكبائر.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ وعبد الأعلى، قالا: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الضرارُ والحَيْفُ في الوصية من الكبائر.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 2/ 180.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (16456)، وسعيد بن منصور في سننه (258، 259، 260 - تفسير، وابن أبي شيبة 11/ 204، والنسائى في الكبرى (11092)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 888 (4940)، والبيهقى 6/ 271 من طريق داود بن أبي هند به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني موسى بن سهلٍ الرَّمليُّ، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم [أبو النَّضْرِ]
(1)
، قال: ثنا عمرُ
(2)
بن المُغيرة، قال: ثنا داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الضِّرارُ في الوصيةِ مِن الكبائرِ"
(3)
.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرنا أبو عمرٍو التَّيْمِيُّ، عن أبي الضُّحى، قال: دخَلت مع مسروقٍ على مريضٍ، فإذا هو يُوصى، قال: فقال له مسروقٌ: اعْدِلْ لا تَضْلِلْ
(4)
.
ونُصبت {غَيْرَ مُضَارٍّ} على الخروج من قوله: {يُوصَى بِهَا} .
وأما قوله: {وَصِيَّةٌ} . فإن نصبه من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . وسائرِ ما أَوْصى به في الاثنين، ثم قال:{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} مصدرًا من قوله: {يُوصِيكُمُ} .
وقد قال بعضُ أهل العربية
(5)
: ذلك منصوبٌ من قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} - {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} . وقال: هو مثلُ قولك: لك درهمان نفقةً إلى أهلك.
والذي قلناه بالصواب أولى؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه افتَتح ذكر قسمة المواريث في
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أبو النصر". وينظر تهذيب الكمال 2/ 389.
(2)
في النسخ: "عمرو". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 2/ 389.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم 3/ 888 (4939) من طريق أبي النضر به، وأخرجه العقيلي 3/ 189، والدارقطني 4/ 151، والطبرانى في الأوسط (8947)، والبيهقى 6/ 271 من طريق عمر بن المغيرة به.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (360، 361، 362)، والبيهقى 6/ 271 من طريق أبي الضحى به مطولًا.
(5)
هو الفراء في معاني القرآن 1/ 258.
هاتين الآيتين بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} . ثم ختَم ذلك بقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} . أخْبَر أن جميعَ ذلك وصيةٌ منه به عبادَه. فنصبُ قوله: {وَصِيَّةً} على المصدر من قولِه: {يُوصِيكُمُ} . أولى من نصبه على التفسيرِ مِن قولِه: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ؛ لما ذكرنا.
ويعنى بقوله تعالى ذكرُه: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} : عهدًا مِن اللهِ إليكم فيما يجبُ لكم من ميراث مَن مات منكم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}. يقولُ: والله ذو علمٍ بمصالح خلقِه ومضارِّهم، ومَن يَسْتَحِقُّ أن يُعْطَى مِن أقرباء مَن مات منكم وأنسبائِه مِن ميراثِه، ومَن يُحْرَمُ ذلك منهم، ومبلغ ما يَسْتَحِقُّ به كلُّ مَن استحقَّ منهم قَسْمًا، وغيرِ ذلك مِن أمورِ عبادِه ومصالِحهم. {حَلِيمٌ}. يقولُ: ذو حِلمٍ عن
(1)
خلقِه، وذو أناةٍ في تركه معاجلتَهم بالعقوبةِ، على ظلمِ بعضِهم بعضًا، في إعطائِهم الميراث لأهل الجلد والقوة من ولد الميتِ، وأهلِ الغَنَاءِ والبأسِ منهم، دونَ أهل الضعفِ والعجزِ مِن صِغار ولده وإناثهم.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} .
قال أبو جعفرٍ: اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ؛ فقال بعضُهم: يعني به: تلك شروطُ اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
في ص: "بمن"، وفى م:"على".
السُّدِّيِّ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . يقولُ: شروطُ اللهِ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك طاعةُ الله.
ذكرُ مَن قال ذلك:
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . يعني: طاعة الله. يعنى: المواريثُ التي سمَّى الله
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: تلك سنَّةُ اللهِ وأمرُه.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: تلك فرائضُ اللهِ.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوالِ في ذلك بالصواب ما نحن مُبَيِّنوه، وهو أن حدَّ كلِّ شيءٍ ما فصَل بينَه وبينَ غيره، ولذلك قيل لحدود الدارِ وحدودِ الأرَضين: حدودٌ؛ لفصولِها بيَن ما حُدَّ بها وبينَ غيره، فكذلك قولُه:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . معناه: هذه القسمةُ التي قسَمها لكم ربُّكم، والفرائضُ التي فرَضها لأحيائكم من موتاكم في هذه الآية، على ما فرَض وبيَّن في هاتين الآيتين، {حُدُودُ اللَّهِ}. يعنى: فصولُ ما بين طاعةِ الله ومعصيتِه في قَسْمِكم مواريثَ موتاكم. كما قال ابن عباسٍ، وإنما تُرِك "طاعة"
(3)
، والمعنيُّ بذلك حدودُ طاعة الله؛ اكتفاءً بمعرفة المخاطَبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها. والدليلُ على صحة ما
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 890 (4951) من طريق أحمد بن مفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 128 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 890 (4949) من طريق أبي صالح به.
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الله".
قلنا في ذلك قولُه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . [والآيةُ]
(1)
التي بعدها: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14].
فتأويلُ الآية إذن: هذه القسمةُ التي قسَم بينكم أيُّها الناسُ عليها ربُّكم مواريث موتاكم، فصولٌ فصَل بها لكم بيَن طاعتِه ومعصيتِه، وحدودٌ لكم تنتهون إليها، فلا تَتَعَدَّوْها؛ ليعلَمَ
(2)
منكم أهلَ طاعتِه مِن أهل معصيته، فيما أمَركم به مِن قسمةِ مواريثِ موتاكم بينَكم، وفيما نهاكم عنه منها. ثم أَخْبَر جَلَّ ثناؤُه عمَّا أعدَّ لكلِّ فريقٍ منهم، فقال لفريق أهلِ طاعتِه في ذلك:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في العملِ بما أمَره به، والانتهاء إلى ما حدَّه له، في قسمة المواريثِ وغيرها، ويَجْتَنِبُ ما نهاه عنه في ذلك وغيره، {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. فقوله:{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} . يعني: بساتين تَجْري من تحتِ غُروسِها وأشجارها الأنهارُ، {خَالِدِينَ فِيهَا}. يقولُ: باقين فيها أبدًا، لا يموتون فيها، ولا يَفْنَوْن، ولا يخرُجون منها، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. يقولُ: وإدخالُ الله إياهم الجِنانَ التي وصَفها على ما وصَف مِن ذلك، {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. يعنى: الفَلْجُ العظيمُ.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن
(1)
في النسخ: "الآية". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
في ص: "سلم" كذا بغير إعجام، وفى م:"وفصل"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فسلم"، وفى س:"بينكم"، والمثبت هو الصواب.
مجاهدٍ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ} الآيةَ.
قال: في شأن المواريث التي ذكَر قبلُ
(1)
.
حدَّثنا بِشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ: التي حدَّ لخلقه، وفرائضُه بينَهم مِن الميراث والقسمةِ، فانْتَهُوا إليها، ولا تَعَدَّوْها إلى غيرها
(2)
.
القولُ في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: ومن يَعْصِ الله ورسوله في العمل بما أمَراه به مِن قسمةِ المواريثِ على ما أمَراه بقسمةِ ذلك بينَهم، وغير ذلك من فرائضِ اللهِ، مخالفًا أمرَهما إلى ما نَهَياه عنه، {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}. يقولُ: ويَتَجاوَزْ فصولَ طاعتِه التي جعَلها تعالى فاصلةً بينَها وبينَ معصيتِه، إلى ما نهاه عنه من قسمةِ تَرِكاتِ موتاهم بين ورثتِه، وغير ذلك من حدوده، {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}. يقولُ: باقيًا فيها أبدًا، لا يموتُ، ولا يَخْرُجُ منها أبدًا، {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}. يعنى: وله عذابٌ مُذِلُّ مَن عُذِّب به، مُخْزٍ له.
وبنحوِ ما قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 128 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 128 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حُدُودَهُ} الآية: في شأن المواريثِ التي ذكَر قبلُ.
قال ابن جُرَيْج: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . قال: مَن أصاب من الذُّنوب ما يُعَذِّبُ اللهُ عليه.
فإن قال قائلٌ: أو مُخَلَّدٌ
(1)
في النار مَن عصَى الله ورسولَه في قسمة المواريث؟
قيل: نعم، إذا جمَع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرَض على عبادِه في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما، على ما ذكَر ابن عباس مِن قولِ مَن قال حين نزَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُ الله تبارك وتعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى تمام الآيتين. أَيُوَرَّثُ مَن لا يَرْكَبُ الفرسَ ولا يُقاتِلُ العدوَّ ولا يَحُوزُ الغنيمةَ، نصفَ المال أو جميع المال
(2)
؟ استنكارًا منهم قسمةَ اللهِ ما قسَم لصغارِ ولد الميتِ ونسائِه وإناثِ ولده، فمن
(3)
خالَف قسمةَ اللهِ ما قسَم مِن ميراثِ أهل الميراث بينَهم، على ما قسَمه في كتابِه، وخالَف حكمَه في ذلك وحكمَ رسولِه، استنكارًا منه حكمَهما، كما اسْتَنكره الذين ذكَر أمرَهم ابن عباسٍ، ممن كان بينَ أظهُرِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، الذين فيهم نزَلت وفي أشكالِهم هذه الآية - فهو من أهل الخلودِ في النار؛ لأنه باستنكاره حُكْمَ اللهِ في تلك يَصِيرُ باللهِ كافرًا، ومن ملَّةِ الإسلام خارجًا.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يخلد".
(2)
تقدم تخريجه في ص 455.
(3)
في النسخ: "ممن". والمثبت ما يقتضيه السياق.
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} : والنساءُ اللاتى يَأْتِينَ بالزنى، أي: يَزنِينَ، {مِنْ نِسَائِكُمْ} وهن مُحْصَنَاتٌ ذواتُ أزواجٍ، أو غيرُ ذواتِ أزواجٍ، {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}. يقولُ: فاسْتَشْهِدوا عليهنَّ بما أَتَيْنَ به من الفاحشةِ أربعةَ رجالٍ مِن رجالِكم، يعني: من المسلمين، {فَإِنْ شَهِدُوا} عَلَيْهِنَّ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}. يقولُ: فاحْبِسوهنَّ في البيوتِ {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} . يقولُ: حتى يمتن {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . يعنى: أو يَجْعَلَ اللهُ لهنَّ مَخْرَجًا وطريقًا إلى النجاة مما أَتَيْنَ به مِن الفاحشة.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ
(1)
محمدُ بنُ يزيدَ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي زائدةَ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} : أمر بحبسِهنَّ في البيوتِ حتى يمتن، {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}. قال: الحَدُّ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} . قال: الزنى، كان أمر بحبسِهنَّ حينَ يَشْهَدُ عليهنَّ أربعةٌ حتى يَمُتْنَ، {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} .
(1)
بعده في م: "عن".
(2)
أخرجه البيهقى 8/ 210 من طريق ابن أبي نجيح به بنحوه.
والسبيلُ: الحَدُّ
(1)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} . إلى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} : فكانت المرأة إذا زنَت حُبِست في البيت حتى تموتَ، ثم أنْزَل الله تبارك وتعالى بعدَ ذلك:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. فإن كانا مُحْصَنَيْن رُجِما، فهذا سبيلُهما الذي جعَل اللهُ لهما
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} : فقد جعَل الله لهنَّ، وهو الجَلْدُ والرجمُ.
حدَّثني بِشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} . حتى بلغ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} : كان هذا من قبل الحدودِ، فكانا يُؤْذَيانِ بالقول جميعًا، وبحبسِ المرأةِ، ثم جعَل الله لهنَّ سبيلًا، فكان سبيلَ مَن أَحْصَن جلدُ مائةٍ، ثم رَمْىٌ بالحجارة، وسبيلَ مَن لم يُحْصنْ جَلْدُ مائةٍ، ونفىُ سنةٍ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال عطاءُ بن أبي رَبَاحٍ وعبد الله بن كثيرٍ: الفاحشةُ الزنى. والسبيلُ:
(1)
تفسير مجاهد ص 269، وأخرجه البيهقي 8/ 210 من طريق أبي عاصم به.
(2)
أخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 310، والبيهقي 8/ 211 وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 263 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 129 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 264 من طريق سعيد به.
الحدُّ؛ الرجمُ والجلدُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . هؤلاء اللاتي قد نكَحن وأَحْصَنَّ. إذا زنَت المرأةُ فإنها كانت تُحبَسُ في البيتِ، ويَأْخُذُ زوجها مهرَها فهو له، فذلك قولُه:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] - {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]: الزنى
(2)
، {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . حتى جاءت الحدودُ فنسَختها، فجُلِدت ورُجِمت، وكان مهرُها ميراثًا، فكان السبيلُ هو الجلدَ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسين بن الفرجِ، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرَنا عُبيدُ بنُ سليمان، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ بن مُزاحِمٍ يقولُ في قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . قال: الحَدُّ، نسَخ الحدُّ هذه الآية
(4)
.
حدَّثنا أبو هشام الرِّفاعيُّ، قال: ثنا يحيى، عن إسرائيل، عن خُصيفٍ، عن مجاهدٍ:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . قال: جلدُ مائةٍ الفاعل والفاعلةَ.
(1)
ذكره ابن كثير 2/ 205، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 892، 893، 895 (4970، 4982) من طريق حجاج عن ابن جريجٍ وعثمان بن عطاء عن ابن عباس.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 129 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 204.
حدَّثنا الرفاعيُّ، قال: ثنا يحيى، عن وَرْقَاءَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الجلدُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا مُعاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن قَتادةَ، عن الحسن، عن حِطَّانَ بن عبدِ اللهِ الرَّقاشيِّ، عن عُبادة بن الصامت، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزَل عليه الوحيُ نكَس رأسَه، ونكَس أصحابُه رءوسَهم، فلمَّا سُرِّي عنه رفَع رأسَه فقال:"قد جعَل الله لهن سبيلًا، الثَّيِّبُ بالثَّيِّب، والبكْرُ بالبكر، أما الثَّيِّبُ فيجلدُ ثم يُرْجَمُ، وأمَّا البِكْرُ فيُجْلَدُ ثم يُنْفَى"
(1)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، [عن الحسن]
(2)
، عن حِطَّانَ بن عبدِ اللهِ، عن عُبادة بن الصامت، قال: قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عنِّي قد جعَل الله لهنَّ سبيلًا، الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، [البِكْرُ بالبكر]
(3)
، [والثَّيِّبُ](2) يُجْلَدُ مائةٌ ويُرْجَمُ بالحجارة، والبِكْرُ جلدُ مائةٍ ونفىُ سنَةٍ"
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، عن الحسن، عن حِطَّانَ بن عبدِ اللهِ أخى بنى رَقَاشِ، عن عُبادةَ بن الصامتِ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نُزِّل عليه
(5)
، كُرِب لذلك، وتَرَبَّد له وجهُه، فأنزل الله عليه ذاتَ يومٍ، فلقى ذلك، فلمَّا سُرِّي عنه، قال:"خُذُوا عنِّى؛ قد جعَل الله لهنَّ سبيلًا، الثَّيِّبُ بالثيِّبِ، جلدُ مائةٍ ثم رجمٌ بالحجارة، والبِكْرُ بالبكر، جلدُ مائةٍ ثم نفيُ سنةٍ"
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (1690/ 13) عن محمد بن بشار به.
(2)
سقط من: النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه مسلم (1690/ 13) من طريق محمد بن بشار به.
(5)
بعده في م: "الوحى".
(6)
أخرجه النسائي في الكبرى (7143) من طريق يزيد بن زريع به، وأخرجه أحمد 5/ 318، 320، 321 (الميمنية)، وأبو داود (4415)، وابن حبان (4443) من طريق سعيد به.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهَبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . قال: يقولُ: لا تَنْكِحوهنَّ حتى يتوفَّاهُنَّ الموتُ، ولم يُخْرِجْهنَّ مِن الإِسلام، ثم نسَخ هذا، وجعَل السبيل
(1)
أن يُجْعَلَ لهنَّ سبيلًا. قال: فجعل لها السبيل، إذا زنت وهى مُحْصَنَةٌ، رُجمت وأُخْرِجت، وجعَل السبيلَ للبكر جلدَ مائةٍ.
حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ [قال: أخبرنا يزيدُ]
(2)
، قال: أخبرنا جُوَيْبِرٌ، عن الضحَّاكِ في قوله:{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . قال: الجَلدُ والرَّجْمُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ
(4)
المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ
(5)
جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قَتادةَ، عن الحسن، عن حِطَّانَ بن عبد اللهِ الرَّقَاشيِّ، عن عُبادة بن الصامت، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، قد جعل الله لهنَّ سبيلًا، الثَّيِّبُ بالطَّيِّبِ، والبِكْرُ بالبِكْرِ، الثَّيِّبُ يُجْلَدُ ويُرْجَمُ، والبِكْرُ يُجْلَدُ ويُنفى"
(6)
.
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيم المسعوديُّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن
(1)
بعده في م: "التي ذكر".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 204.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبي".
(6)
أخرجه مسلم (14/ 1690)، والبزار (2686) عن ابن المثنى، وأخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 178، وأحمد 5/ 320 (الميمنية)، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 80، والطحاوى 3/ 134، وفى المشكل (4543) وابن حبان (4427) من طريق شعبة به، وأخرجه عبد الرزاق (13360)، والدرامي 2/ 181 وغيرهما من طريق قتادة به، وأخرجه الطيالسي (585)، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 178، 179، والترمذى (1434)، وابن الجارود (810)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 894، 895 (4981)، والنحاس ص 308 وغيرهم من طريق الحسن به، وأخرجه ابن ماجه (2550) من طريق حطان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 129 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الأعمش، عن إسماعيل بن مسلمٍ البصريِّ، عن الحسن، عن عُبادة بن الصامت، قال: كُنَّا جلوسًا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا احمرَّ وجهه، وكان يَفْعَلُ ذلك إذا نزل عليه الوحى، فأخذه كهيئةِ الغَشْى؛ لِما يَجِدُ مِن ثِقَل ذلك، فلمَّا أفاق قال:"خُذُوا عنِّى قد جعَل الله لهنَّ سبيلًا، البِكْرانِ يُجْلَدانِ ويُنْفَيانِ سَنَةً، والثَّيِّبَانِ يُجْلَدانِ ويُرْجَمانِ"
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} . قولُ مَن قال: السبيلُ التي جعلها الله جلَّ ثناؤُه للثَّيِّبَين المحَصَنين الرجمُ بالحجارة، وللبِكْرَيْنِ جلد مائةٍ ونفىُ سنةٍ؛ لصحَّة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجَم ولم يجلدْ
(2)
، وإجماع الحجَّة التي لا يجوز عليها فيما نقلته مجمعةً عليه - الخطأُ والسهو والكذبُ، وصحة الخبر عنه أنه قضى في البِكْرَيْنِ بجلدِ مائةٍ ونَفْي سَنةٍ، فكان في الذي صحَّ عنه من تركه جلدَ مَن رُجمِ مِن الزُّناةِ في عصره دليلٌ واضحٌ على وَهَاءِ الخبر الذي رُوى عن الحسن، عن حِطَّانَ، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"السبيلُ للثَّيِّبِ المُحصن الجلد والرجمُ".
وقد ذكر أن هذه الآيةَ في قراءةِ عبدِ اللهِ: (واللاتى يَأْتِينَ بالفاحشةِ مِن نسائكم)
(3)
. والعربُ تقولُ: أتيتُ أمرًا عظيمًا، وبأمرٍ عظيمٍ، وتكلَّمْتُ بكلامٍ قبيحٍ، وكلامًا قبيحًا.
القول في تأويل قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} .
يعنى جلَّ ثناؤُه بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} : والرجل والمرأة اللذان
(1)
أخرجه الشافعي (252)، وفى الرسالة (379)، والطيالسي (379)، والطيالسي (585)، وأحمد 5/ 327 (الميمنية)، والنسائى في الكبرى (7142)، والبيهقى 8/ 210، والبغوى (2580) وفي التفسير 2/ 181 من طريق الحسن به.
(2)
أخرجه البخارى (6814)، ومسلم (1692) / 117 من حديث جابر وينظر الطيالسي (1796).
(3)
تفسير القرطبي 5/ 83، البحر المحيط 3/ 195.
يَأْتِيَانِهَا}، يقولُ: يأتيان الفاحشة. والهاءُ والألفُ في قوله: {يَأْتِيَانِهَا} عائدةٌ على "الفاحشة" التي في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} . والمعنى: واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذُوهما.
ثم اختلف أهل التأويل في المَعْنِيِّ بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ؛ فقال بعضُهم: هما البِكْرانِ اللذان لم يُحْصنا، وهما غيرُ اللاتي عُنِينَ بالآية قبلها. وقالوا: قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} . مَعْنيٌّ به الثَّيِّبات المُحصنات بالأزواج. وقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} . يعني به: البكرانِ غير المُحَصَنين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: ذكر الجوارى والفتيان اللذين لم ينكحوا، فقال:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}
(1)
.
حدَّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} : البِكران {فَآذُوهُمَا} .
وقال آخرون: بل عُنى بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} : الرجلان الزانيان.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا يحيى، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 895 (4985) من طريق أحمد بن مفضل به.
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} . قال: الرجلان الفاعلان، لا يَكْنِى.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} : الزانيان
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك الرجلُ والمرأةُ، إلا أنه لم يُقصَد به بكرٌ دونَ ثَيِّبٍ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا يحيى، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} . قال: الرجلُ والمرأة
(2)
.
حدَّثنا محمد بن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيد النحويِّ، عن عكرمة والحسن البصريِّ، قالا:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} . إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]: فذكر الرجلَ بعد المرأة، ثم جمعهما جميعًا، فقال:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
(3)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال عطاءٌ وعبدُ اللهِ بنُ كَثِيرٍ قولَه: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} . قال: هذه للرجل والمرأة جميعًا
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 895 (4984) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى المصنف.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 205.
قال أبو جعفر: وأَوْلَى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} : قولُ مَن قال: عُنى به البكران غيرُ المحصنين إذا زَنَيا، وكان أحدُهما رجلًا والآخَرُ امرأةً؛ لأنه لو كان مقصودًا بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال، كما كان مقصودًا بقوله:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} . قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم. أو قيل: والذي يأتيها منكم. كما قيل في التي قبلها: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} . فَأَخْرَج ذكرهنَّ على الجميعِ، ولم يَقُلْ: واللتان يأتيان الفاحشة.
وكذلك تَفْعَلُ العربُ إذا أرادت البيانَ على الوعيد على فعلٍ، أو الوعد عليه، أَخْرَجَت أسماء أهله بذكر الجميع أو الواحد، وذلك أن الواحد يَدُلُّ على جنسه، ولا تُخْرِجُها بذكر اثنين، فتقولُ: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا. ولا تقولُ: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلًا لا يكون إلا من شخصين مختلفين، كالزنى لا يكونُ إلا من زانٍ وزانيةٍ. فإذا كان ذلك كذلك قيل بذكر الاثنين، يُرادُ بذلك الفاعل والمفعولُ به. فأَمَّا أَن يُذْكَرَ بذكرِ الاثنين، والمراد بذلك شخصان في فعل قد يَنْفَرِدُ كلُّ واحد منهما به، أو في فعلٍ لا يكونان فيه مشتركين، فذلك ما لا يُعْرَفُ في كلامها.
وإذا كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ فسادُ قولِ مَن قال: عُنى بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} . الرجلان، وصحة قول من قال: عُنى به الرجل والمرأةُ. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنهما غيرُ اللواتي تقدَّم بيانُ حُكْمِهن في قوله:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} ؛ لأن هذين اثنان، وأولئك جماعةٌ.
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الحبس كان للثَّيِّباتِ عقوبةً حتى يُتَوَفَّينَ من قبل أن يَجعَلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا؛ لأنه أغلَظُ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيفٌ
وتوبيخٌ، أو سَبٌّ وتغييرٌ، كما كان السبيل التي جُعلت لهنَّ من الرَّجم أغلظ من السبيل التي جُعِلَت للأبكارِ مِن جَلْدِ المائةِ ونَفْي السنة.
القولُ في تأويل قوله: {فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} .
اختلف أهل التأويل في "الأذى" الذي كان الله تعالى ذكرُه جعَله عقوبةً لِلَّذِين يأتيان الفاحشة من قبل أن يَجعَلَ لهما سبيلًا منه؛ فقال بعضُهم: ذلك الأذى، أذًى بالقول واللسان، كالتَّعْيير والتوبيخ على ما أتَيا من الفاحشة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بِشْرُ بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَآذُوهُمَا} . قال: كانا يُؤْذَيَانِ بالقول جميعًا
(1)
.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} : فكانت الجارية والفتى إذا زَنَيا يُعَنَّفان ويُعَيَّران حتى يَتْرُكا ذلك
(2)
.
وقال آخرون: كان ذلك الأذى أذًى باللسان، غير أنه كان سَبًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن عمرٍو
(3)
، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ،
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 2/ 182، والقرطبي في تفسيره 5/ 86 بنحوه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1 ت، 2 ت، 3، س:"سعد".
عن مجاهدٍ: {فَآذُوهُمَا} . يعنى: سبًّا
(1)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك الأذى باللسان واليد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباس قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} : فكان الرجلُ إذا زنَى أُوذِيَ بالتَّعْيير وضُرِب بالنِّعالِ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكرُه كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين إذا أتَيا ذلك وهما من أهل الإسلام، والأذى قد يَقَعُ بكلِّ
(3)
مَكْروهٍ نالَ الإنسانَ؛ مِن قولٍ سيِّئ باللسان، أو فعلٍ. وليس في الآية بيان أيِّ
(4)
ذلك كان أُمر به المؤمنون يومئذٍ، ولا خبرٌ به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن نَقْلِ الواحد ولا نقل الجماعة الموجبِ مَجِيئُها قطعَ العُذْرِ. وأهلُ التأويل في ذلك مُخْتَلِفون، وجائزٌ أن يكون ذلك أذًى باللسان أو
(5)
اليد، وجائزٌ أن يكون كان أذًى بهما
(6)
، وليس في العلم بأيِّ
(7)
ذلك كان من أيٍّ نفعٌ في دينٍ ولا دُنيا، ولا في
(1)
تفسير مجاهد ص 270، ومن طريقه البيهقى 8/ 210 وابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 263.
(2)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 177، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 895، 896 (4988)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 263 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى ابن المنذر.
(3)
في ص: "لكل".
(4)
في م: "أن".
(5)
في النسخ: "و". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(6)
في م: "بأيهما".
(7)
في النسخ: "بأن". والصواب ما أثبت.
الجهل به مَضَرَّةٌ إذ كان الله جلّ ثناؤُه قد نسَخ ذلك من مُحْكَمِه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما، وفى اللاتي قبلهما، فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما، فما أوجب في سورة "النور" بقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما، فالرَّجمُ الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، وأجمع أهلُ التأويل جميعًا على أن الله تعالى ذكرُه قد جعل لأهل الفاحشة من الزُّناة والزَّوانى سبيلًا بالحدود التي حكم بها فيهم.
وقال [جماعةٌ من]
(1)
أهل التأويل: إن الله سبحانه نسخ بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} . قال: كلُّ ذلك نَسَخته الآية التي في "النور" بالحدِّ المفروض
(2)
.
حدَّثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} الآية. قال: هذا نَسخته الآية في سورة "النور" بالحدِّ المفروض
(2)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، قال: ثنا الحسين بن واقدٍ، عن يزيد
(1)
في ت 1، س:"جماعة".
(2)
تفسير مجاهد ص 270، ومن طريقه البيهقى 8/ 210 نحوه.
النحويِّ، عن عكرمة والحسن البصريِّ، قالا في قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} الآية: نسخ ذلك بآية الجَلْدِ، فقال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليٍّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} : فَأَنزَل اللهُ بعد هذا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، فإن كانا مُحْصَنَين رُجِما في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّي:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية: جاءت الحدود فنسَخَتها.
حُدِّثْتُ عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا مُعاذٍ يقولُ: أَخبرنا عُبَيدُ بنُ سليمان، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ: نَسَخ الحدُّ هذه الآية
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سُفيان، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية. قال: نسختها الحدود. وقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} . نَسَختها الحدود
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} الآية: ثم نُسخ هذا، وجُعل السبيلُ لها إذا زَنَت
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 894 عقب الأثر (4979) معلقًا.
(2)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 177، 178 وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 895 (4988) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى ابن المنذر.
وهى مُحْصَنَةٌ رُجِمَت وأُخْرِجَت، وجُعِل السبيلُ للذَّكَرِ جلد مائة.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادة في قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15]. قال: نَسختها الحدود
(1)
.
وأما قوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} . فإنه يعنى به جلّ ثناؤُه: فإن تابا من الفاحشة التي أتيا، فراجعا طاعة الله بينهما، {وَأَصْلَحَا}. يقولُ: وأصلحا دِينَهما بمُراجعة التوبة من فاحشتهما، والعمل بما يُرْضِى الله. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}. يقولُ: فاصفَحوا عنهما، وكُفُّوا عنهما الأذى الذي كنتُ أمرتكم أن تُؤذوهما به عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة، ولا تُؤذوهما بعد توبتهما.
وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} . فإنه يعنى: إن الله لم يَزَلْ راجعًا لعبيده إلى ما يُحِبُّون، إذا هم راجعوا ما يُحِبُّ منهم من طاعته، رحيمًا بهم، يعني: ذا رحمة ورأفة.
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} .
يعنى بقوله جلَّ ثناؤه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} : ما التوبة على الله لأحدٍ من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ، يقولُ: ما اللهُ براجعٍ لأحدٍ من خلقه إلى ما
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 151 ومن طريقه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 264، وأخرجه النحاس ص 306 من طريق معمر به وسقط من المطبوع إسناده إلى معمر، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 129 إلى عبد بن حميد.
يُحِبُّه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سَلَفت منه، إلا للذين يأتُون ما يأتونه من ذنوبهم جهالةً منهم، وهم بربِّهم مؤمنون، ثم يُراجعون طاعةَ اللهِ، ويُنيبُونَ
(1)
منه إلى ما أمرهم الله به، من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله، من قبل نزول الموت بهم. وذلك هو "القريبُ" الذي ذكره الله تعالى ذكره فقال:{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في معنى قوله:{بِجَهَالَةٍ} ؛ فقال بعضُهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، عن أبي العالية أنه كان يُحدِّثُ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كلُّ ذنبٍ أصابه عبدٌ فهو بجهالة
(2)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قَتادةَ قوله:{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَأَوا أن كلَّ شيءٍ عُصِى به فهو جهالةٌ، عمدًا كان أو غيره
(3)
.
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} ، قال: كلُّ مَن
(1)
في م: "يتوبون". وفى س: "يتبعون".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى المصنف.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 151.
عَصَى ربَّه فهو جاهلٌ، حتى ينزِعَ عن معصيته
(1)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ قوله:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قال: كلُّ مَن عَمِل بمعصية الله، فذاك منه بجهلٍ حتى يَرْجِعَ عنه.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} : ما دام يَعْصِى الله فهو جاهلٌ.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فُضَيل بن غزوان، عن أبي النَّضْرِ، عن أبي صالح، عن ابن عباس:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قال: مَن عَمِل السوء فهو جاهلٌ؛ مِن جَهالته عَمِل السوءَ
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهد، قال: مَن عَصَى الله فهو جاهلٌ، حتى يَنْزِعَ عن معصيته.
قال ابن جُرَيج: وأَخبَرَنى عبد الله بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال: كلُّ عاملٍ بمعصية فهو جاهلٌ، حينَ عَمِل بها
(3)
.
قال ابن جريج: وقال لى عطاء بن أبي رَبَاحٍ نحوه
(4)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد في قول
(1)
تفسير مجاهد ص 270، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 897 (4999) وأخرجه البيهقي في الشعب (7073) من طريق أبي عاصم به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر 3/ 130 إلى المصنف.
(3)
ذكره ابن كثير في التفسير 2/ 206.
(4)
تفسير الثورى ص 92 عن ابن جريج به.
اللهِ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قال: الجهالة كلُّ امرئٍ عمل شيئًا من معاصى الله، فهو جاهلٌ أبدًا حتى يَنْزِعَ عنها. وقرأ:{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89]. وقرأ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]. قال: مَن عصى الله فهو جاهِلٌ حتى يَنْزِعَ عن معصيته.
وقال آخرون: معنى قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} : يعملون ذلك على عمدٍ منهم له.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن مجاهد:{يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قال: الجهالةُ العمدُ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثله
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاك:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قال: الجهالة العمدُ (1).
وقال آخرون: معنى ذلك: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوءَ في الدنيا.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 92.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 897 (5000) من طريق سفيان، عن جابر، عن مجاهد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمرُ بن سليمان، عن الحكمِ بن أبان، عن عكرمة قوله:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قال: الدنيا كلُّها جهالةٌ
(1)
.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوالِ بتأويل الآية قولُ مَن قال: تأويلُها: إنما التوبةُ على الله للذين يعملون السوء، وعملُهم السوء هو الجهالة التي جَهلوها، عامدين كانو للإثم أو جاهلين بما أعَدَّ اللهُ لأهلها، وذلك أنه غير موجودٍ في كلام العرب تَسْمِيةُ العامدِ للشيء؛ الجاهل به، إلا أن يكونَ مَعْنِيًّا به أنه جاهلٌ بقَدْر مَنْفعتِه ومَضَرَّتِه، فيقالُ: هو به جاهلٌ. على معنى جهله بمعنى
(2)
نفعه وضَرِّه، فأما إذا كان عالمًا بقَدْرِ مبلغ نفعه وضُرِّه، قاصدًا إليه، فغير جائز مِن أجلِ
(3)
قَصْدِه إليه أن يقال: هو به جاهلٌ؛ لأن الجاهل بالشيء هو الذي لا يعلَمُه ولا يَعرِفُه عند التقدم عليه، أو يَعلَمُه فيُشَبَّهُ فَاعِلُه، إذ كان خَطَأً ما فعله، بالجاهل الذي يأتى الأمر وهو به جاهلٌ، فيُخطِئُ موضعَ الإصابة منه، فيقالُ: إنه لجاهلٌ به. وإن كان به عالمًا؛ لإتيانه الأمر الذي لا يأتى مثله إلا أهل الجهل به.
وكذلك معنى قوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . قيل فيهم: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} . وإن أتوه على علمٍ منهم بمبلغ عقاب الله أهله، عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرامٌ؛ لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتى مثله إلا مَن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 570، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 898 (5003) من طريق معتمر بن سليمان به.
(2)
كذا في النسخ، ولعل الصواب "بمبلغ".
(3)
في النسخ: "غير". والمثبت ما يقتضيه السياق.
جَهِل عظيم عقاب الله عليه أهله، في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فقيل لمن أتاه وهو به عالمٌ: أتاه بجهالة. بمعنى أنه فعَل فِعلَ الجُهَّالِ به، لا أنه كان به جاهِلًا.
وقد زَعَم بعضُ أهل العربية
(1)
أن معناه أنهم جَهلوا كُنْهَ ما فيه من العقابِ، فلم يَعْلَموه كعلم العالم، وإن عَلِموه ذَنْبًا، فلذلك قيل:{يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} .
ولو كان الأمرُ على ما قال صاحبُ هذا القولِ لوَجَب أَلَّا تكونَ توبةٌ لَمَنْ علِم كُنْه ما فيه، وذلك أنه جلَّ ثناؤه قال:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . دون غيرهم، فالواجبُ على صاحب هذا القول ألا يكون للعالم الذي عَمِل سوءًا على علم منه بكُنه ما فيه، ثم تاب من قريب - توبةٌ، وذلك خلافُ الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن كلَّ تائبٍ عسى الله أن يتوب عليه
(2)
، وقوله:"بابُ التَّوبة مفتوحٌ ما لم تَطْلُع الشمسُ من مَغْربِها"
(3)
.
وخلافُ قولِ اللهِ عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70].
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} .
اختلف أهل التأويل في معنى "القريب" في هذا الموضع؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن
(1)
هو القراء كما في معاني القرآن 1/ 259.
(2)
يشير إلى ما أخرجه أحمد 28/ 112 (16907)، والنسائى (3955) والطبراني 19/ 364، 365 (856 - 858)، والحاكم 4/ 351 من حديث معاوية، وما أخرجه أبو داود (4270)، وابن حبان (5980)، والحاكم 4/ 351 من حديث أبي الدرداء.
(3)
أخرجه مسلم (2759) من حديث أبي موسى بلفظ آخر.
السُّدِّيِّ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} : والقريبُ قبل الموتِ ما دام في صحته
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن أبي النَّضْرِ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس:{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قال: في الحياة والصحة
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل مُعاينة مَلَكِ الموتِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس:{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} : والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بن سليمان، قال: سمعتُ عِمران بن حُديرٍ، قال: قال أبو مجلزٍ: لا يزالُ الرجلُ في توبةٍ حتى يُعايِنَ الملائكة (2).
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمد بن قيسٍ، قال: القريب ما لم تنزِلْ به آيةٌ من آياتِ اللهِ تعالى، ويَنزِلْ به الموتُ (2).
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 899 (5008) من طريق أحمد بن مفضل به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى المصنف.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 898 (5005) من طريق أبي صالح به.
قَرِيبٍ}: له التوبةُ ما بينه وبين أن يُعايِنَ مَلَكَ الموتِ، فإذا تاب حين ينظُرُ إلى مَلَكِ الموت، فليس له ذاك
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل الموت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن رجلٍ، عن الضحاك:{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قال: كلُّ شيءٍ قبل الموت فهو قَريبٌ
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قال: الدنيا كلُّها قَريبٌ
(3)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} : قبل الموتِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا مُعاذ بن هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن قَتادةَ، عن أبي قلابةَ، قال: ذُكِر لنا أن إبليس لمَّا لُعِن وأُنظِر، قال: وعِزَّتِك لا أخرُج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح. فقال تبارك وتعالى: وعِزَّتى لا أمنعه التوبة ما دامَ فيه الروح.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى المصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 151، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (596 - تفسير)، ومن طريقه البيهقى في الشعب (4074) - من طريق رجل من أهل الكوفة، عن الضحاك.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 570 عن معتمر بن سليمان به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 898 (5007) من طريق الحكم بن أبان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن قَتادةَ، قال: كُنَّا عندَ أنس بن مالكٍ وثَمَّ أبو قلابة، فحَدَّث أبو قلابة، قال: إن الله تبارك وتعالى لما لَعَن إبليس سأله النَّظِرةَ، فقال: وعِزَّتِك لا أخرج من قلب ابن آدم. فقال الله تبارك وتعالى: وعِزَّتى لا أمنعُه التوبة ما دامَ فيه الروح.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن الله تبارك وتعالى لما لَعَن إبليس سأله النَّظرة، فأنظره إلى يوم الدين، قال: وعزَّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح. قال: وعزَّتى لا أحجُبُ عنه التوبة ما دامَ فيه الروح
(1)
.
حدَّثني ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسن، قال: بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبليس لمَّا رأى آدمَ أجْوَفَ قال: وعِزَّتِك لا أخرُجُ مِن جَوْفِه ما دامَ فيه الروح. فقال الله تبارك وتعالى: وعِزَّتى لا أحُولُ بينه وبين التوبة ما دام فيه الروح"
(2)
.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا معاذ بن هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن قَتادةَ، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بُشير بن كعبٍ، أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ الله يقبل توبةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 187، وابن المبارك في الزهد (1045 - زيادات المروزي)، وأبو نعيم 2/ 284 من طريق عبد الوهاب به.
(2)
أخرجه أحمد 17/ 337، 344 (11237، 11244)، وأبو يعلى (1399)، والحاكم 4/ 261 من حديث أبي سعيد الخدري.
(3)
أخرجه أحمد 10/ 300، 461 (6160، 6408)، وابن ماجه (4253)، والترمذى (3537)، وابن حبان (628)، والحاكم 4/ 257، والبيهقى في الشعب (7063) من حديث ابن عمر.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، عن عُبادةَ بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. فذكر مثله
(1)
.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا ابن أبي عديٍّ، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الله تبارك وتعالى يَقْبَلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ"
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: تأويلُه: ثم يتوبون قبل مماتهم، في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه، وقبل أن يُغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة، وغَمِّ الغَرْغَرةِ، فلا يعرفوا أمرَ اللهِ ونهيه، ولا يعقِلوا التوبةَ؛ لأن التوبة لا تكون توبةً إلا ممَّن
(3)
ندم على ما سَلَف منه، وعزم فيه على تركِ المعاودة، وهو يعقِلُ الندم، ويختارُ ترك المعاودةِ، فأما إذا كان بكربِ الموتِ مَشْغولًا، وبغَمِّ الحَشْرجةِ مَغْمورًا، فلا إخالُه إلا عن الندم على ذنوبه مَغْلوبًا، ولذلك قال مَن قال: إن التوبة مقبولةٌ ما لم يُغَرْغِرِ العبد بنفسه. فإن كان المرءُ في تلك الحال يعقِلُ عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابةً من ذنوبه، ورَجعةٌ من شُرودِه عن ربِّه إلى طاعته، كان إن شاء الله ممن دخل في وعدِ الله الذي وَعَد التائبين إليه من إجرامهم من قريبٍ بقوله:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} .
القول في تأويل قوله: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ} : فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالةٍ ثم يتوبون من قريبٍ، {يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، دونَ مَن لم يَتُبْ، حتى غُلِب
(1)
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1085) من طريق قتادة به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 207 عن المصنف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".
على عقلِه، وغَمَرتُه حَشْرجةُ مِيتته، فقال وهو لا يفقَهُ ما يقولُ:{إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} . خداعًا لربِّه، ونفاقًا في دينه.
ومعنى قوله: {يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : يَرزُقُهم إنابةً إلى طاعتِه، ويَتَقَبَّلُ منهم أَوْبتَهم إليه وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم.
وأما قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . فإنه يعنى: ولم يَزَلِ الله جلَّ ثناؤُه عليمًا بالناس من عباده المُنيبين إليه بالطاعة، بعد إدبارهم عنه، المُقبلين إليه بعدَ التولية، وبغير ذلك من أمورِ خلقه، حكيمًا في توبته على من تابَ منهم من معصيته، وفى غير ذلك من تدبيره وتقديره، ولا يدخُلُ أفعاله خَلَلٌ، ولا يَخْلِطُه خطأٌ ولا زَلَلٌ.
القول في تأويل قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصى اللهِ، {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} يقولُ: إِذا حَشْرَج أحدُهم بنفسه، وعاين ملائكة ربِّه قد أقبلوا إليه لقبضِ روحه قال - وقد غُلب على نفسه، وحِيلَ بينه وبينَ فَهْمِه، بشُغْلِه بكربٍ حَشْرَجَتِهِ وَغَرْغَرتِه -:{إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} . يقولُ: فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبةٌ؛ لأنه قال ما قال في غير حالِ توبة.
كما حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن يَعْلى بن نَعْمَانَ، قال: أخبَرَنى من سمع ابن عمر يقولُ: التوبة مبسوطةٌ ما لم يُسَقْ. ثم قرأ ابن عمر: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} . ثم قال: وهل الحضور إلا
السَّوْقُ
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} . قال: إذا تَبَيَّن الموتُ فيه لم يقبل الله له توبةً.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن أبي النَّضْرِ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} : فليس لهذا عند الله تَوْبَةٌ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبة، قال: سمِعتُ إبراهيم بن ميمونٍ يُحدِّثُ عن رجل من بني الحارث، قال: ثنا رجلٌ مِنَّا، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو أنه قال: مَن تاب قبل موته بعامٍ تيب عليه. حتى ذكر شهرًا، حتى ذكر ساعةً، حتى ذكر فُوَاقًا
(3)
، قال: فقال رجلٌ: كيف يكون هذا، والله تعالى يقولُ:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} ؟ فقال عبد الله: أنا أحدِّثك ما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
تفسير سفيان ص 92 - ومن طريقه البيهقى في الشعب (7072) - وتفسير عبد الرزاق 1/ 150، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 900 (5017) عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى المصنف.
(3)
فواق الناقة هو ما بين الحلبتين الراحة، وتضم فاؤه وتفتح. النهاية 3/ 479.
(4)
أخرجه الطيالسي (2398)، وأحمد 11/ 517 (6920)، والبخارى في الكبير 1/ 427، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 889، 900 (5010، 5014)، والبيهقى في الشعب (7067) من طريق شعبة به.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إبراهيمَ بن مُهاجِرٍ، عن إبراهيم، قال: كان يقالُ: التوبة مبسوطةٌ ما لم يُؤْخَذْ بكَظَمِه
(1)
.
واختلف أهل التأويل في مَن عنَى بقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} ؛ فقال بعضُهم: عنَى به أهلَ النِّفاقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قال: نَزَلَت الأولى في المؤمنين، ونَزَلَت الوسطى في المنافقين - يعنى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} - والأخرى في الكفار. يعنى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}
(2)
.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أهل الإسلام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سُوَيدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سُفيانَ، قال: بلغنا في هذه الآيةِ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} . قال: هم المسلمون، ألا ترى أنه قال:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ؟
(1)
الكَظَم: مخرج النفس من الحلق. النهاية 4/ 178.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 130 إلى المصنف.
وقال آخرون: بل هذه الآية كانت نَزَلَت في أهل الإيمان، غير أنها نُسِخَت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية بن صالحٍ، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} : فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. فحَرَّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافرٌ، وأَرْجَأَ أهل التوحيد إلى مَشِيئَتِه، فلم يُؤيسْهم من المغفرة المغفرة
(1)
.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندى بالصواب ما ذكره الثوريُّ أنه بلغه أنه في الإسلام. وذلك أن المنافقين كفارٌ، فلو كان مَعْنِيًّا به أهلَ النِّفاقِ، لم يكن لقوله:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} . معنًى مفهومٌ؛ لأنهم [إن كانوا]
(2)
الذين قبلهم في معنًى واحدٍ، من أن جميعهم كفارٌ، فلا
(3)
وَجْهَ لتَفْريقِ أحكامهم
(4)
، و
(5)
المعنى الذي من أجلِه بَطَل أن تكونَ توبةٌ؛ واحدٌ
(6)
. وفى تفرقة الله جلّ ثناؤه بين أسمائهم وصِفاتِهم، بأن سَمَّى أحدَ الصِّنفين كافرًا، ووَصف الصِّنْفَ الآخَرَ بأنهم أهلُ سَيئاتٍ، ولم يُسَمِّهم كفارًا، ما دَلَّ على افتراقِ مَعانِيهم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 901 (5020) من طريق عبد الله بن صالح به، دون قوله: وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر.
(2)
في م: "إن كانوا هم و"، وفى س:"إما كانوا".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ولا".
(4)
في م، ت 1:"أحد منهم".
(5)
في م: "في".
(6)
بعده في م: "مقبولة".
وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا وفساد ما خالفه.
القول في تأويل قوله: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: ولا التوبة للذين يموتون وهم كفارٌ. فمَوضِعُ {الَّذِينَ} خَفْضٌ؛ لأنه معطوفٌ على قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} .
وقوله: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . يقولُ: هؤلاء الذين يموتون وهم كفارٌ أعتدنا لهم عذابًا أليمًا؛ لأنهم [من التوبة أبعد، لموتهم]
(1)
على الكفر.
كما حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن أبي النضر، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} : أولئك أبعد من التوبة
(2)
.
واختلف أهل العربية في معنى: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ} ؛ فقال بعضُ البصريين: معنى {أَعْتَدْنَا} : أفعلنا، من العتاد. قال: ومعناها: أعددنا.
وقال بعضُ الكوفيين: أعْدَدنا وأعتدنا معناهما واحدٌ.
فمعنى قوله: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ} : أعْدَدنا لهم. {عَذَابًا أَلِيمًا} . يقولُ: مؤلمًا مُوجِعًا.
القولُ في تأويل قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .
(1)
في م: "أبعدهم من التوبة كونهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى المصنف.
يعنى تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : يا أيُّها الذين صدَّقوا الله ورسوله {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . يقولُ: لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كَرْهًا.
فإن قال قائلٌ: كيف كانوا يرثونهن؟ وما وَجْهُ تَحريم وراثتهنَّ، وقد عَلِمتَ أن النساءَ مُوَرَّثاتٌ
(1)
كما الرجالُ مُوَرَّثون
(2)
؟
قيل: إن ذلك ليس من معنى وِراثتهنَّ إذا هن مِتْنَ فتَرَكنَ مالًا، وإنما ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهنَّ إذا مات زوجها، كان ابنه أو قَريبُه أَوْلَى بها من غيرِه، ومنها بنفسها، إن شاء نَكَحها، وإن شاء عَضَلها، فمنعها من غيرِه ولم يتزوَّجها
(3)
حتى تموت، فحَرَّم الله تعالى ذلك على عباده، وحَظَر عليهم نكاح حلائل آبائهم، ونهاهم عن عَضْلِهن عن النِّكاح.
وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريب، قال: ثنا أسباط بن محمدٍ، قال: ثنا أبو إسحاق - يعنى الشيبانيَّ - عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . قال: كانوا إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحقُّ بامرأته، إن شاء بعضُهم تَزوَّجَها، وإن
(1)
في ت 1: "موروثات".
(2)
في ت 1: "موروثون".
(3)
في م: "يزوجها".
شاءوا زَوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزَوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها، فنَزَلَت هذه الآية في ذلك
(1)
.
وحدثني أحمد بن محمد الطُّوسيُّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالحٍ، قال: ثني محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، عن أبيه، قال: لما تُوفِّى أبو قيس بن الأسلتِ أرادَ ابنُه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فأنزل اللهُ:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}
(2)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحويِّ، عن عكرمة والحسن البصري، قالا في قوله:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : وذلك أن الرجل كان يَرِثُ امرأة ذى قرابته، فيَعضُلُها حتى تموتَ أو تَرُدَّ إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، يعني أن الله نهاكم عن ذلك.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن سليمان التَّيميِّ، عن أبي مجلزٍ في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . قال: كانت الأنصارُ تفعل ذلك، كان الرجلُ إذا مات حَميمُه، وَرِثْ حَميمُه امرأته، فيكون أولى بها من وليِّ نفسها
(3)
.
(1)
أخرجه البخارى (4579)، وأبو داود (2089)، والنسائى في الكبرى (11094)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 902 (5029)، والبيهقى 7/ 138 والواحدى في أسباب النزول ص 107، 108 من طريق أسباط به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (11095)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 902 (5030) من طريق محمد بن فضيل به.
(3)
تفسير سفيان ص 92 عن التيمي به بنحوه.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حَجَّاجُ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباس في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} الآية. قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حَميمُه، فهو أحقُّ بامرأتِه، إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدى منه بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها
(1)
.
قال ابن جريجٍ: فأخبرنى عطاءُ بن أبي رباحٍ أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجلُ فتَرَك امرأةٌ، حَبَسها أهله على الصبيِّ يكون فيهم. فنزلت:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} الآية
(2)
.
قال ابن جريجٍ، وقال مجاهدٌ: كان الرجلُ إذا تُوفِّى أبوه كان أحقَّ بامرأتِه، يَنكِحُها إن شاء، إذا لم يكن ابنَها، أو يُنكِحُها مَن
(3)
شاء؛ أخاه أو ابنَ أخيه.
قال ابن جُريجٍ: وقال عكرمة: نزَلَت فِي كُبَيشَةَ بنتِ مَعْنِ بن عاصمٍ من الأوس، توفِّي عنها أبو قيس بنُ الأسلتِ، فَجَنَح عليها
(4)
ابنه، فجاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبيَّ الله، لا أنا ورثت زوجى، ولا أنا تُرِكتُ فأُنْكَحَ. فنزَلَت هذه الآيةُ
(5)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 131 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 902، 903 عقب الأثر (5032) معلقًا. وينظر تفسير ابن كثير 2/ 210.
(3)
في م: "إن".
(4)
جنح عليها: أي مال عليها ليحول بين الناس وبينها.
(5)
ذكره ابن الأثير في أسد الغابة 6/ 257، 7/ 250 عن حجاج، عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى ابن المنذر.
عن مجاهدٍ في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . قال: كان إذا توفِّى الرجلُ، كان ابنه الأكبر هو أحقَّ بامرأته، يَنكِحُها إذا شاء إذا لم يكن ابنَها، أو يُنكِحُها مَن شاء؛ أخاه أو ابن أخيه
(1)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عمرو بن دينارٍ مثل قول مجاهدٍ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شِبلٌ، قال: سمعتُ عمرو بن دينار يقول مثل ذلك.
حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما قوله: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . فإن الرجل في الجاهلية كان يموتُ أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سَبَق وارِثُ الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحقُّ بها أن يَنكِحَها بمَهْرِ صاحبِه، أو يُنكِحَها فيَأْخُذَ مهرها، وإن سبقته فذهَبَت إلى أهلها، فهم أحقُّ بنفسها
(2)
.
حُدِّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبَيدُ بنُ سليمان الباهليُّ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} : كانوا بالمدينة إذا ماتَ حَميمُ
(3)
الرجل وتَرَك امرأةً، ألقى الرجلُ عليها ثَوبَه، فوَرِث نكاحها، وكان أحقَّ بها، وكان ذلك عندهم نكاحًا، فإن شاء أمسَكها حتى تفتدِيَ منه، وكان هذا في الشِّرْكِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 270.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 902 (5031) من طريق السدى عن أبي مالك بنحوه.
(3)
في س: "منهم".
حدَّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . قال: كانت الوراثة
(1)
في أهل يثرب بالمدينة ههنا، فكان الرجلُ يموتُ فيَرِثُ ابنه امرأة أبيه، كما يَرِثُ أمَّه، لا يستطيعُ أَن يُمنع. فَإِن أَحَبَّ أن يَتخِذَها اتخَذَها، كما كان أبوه يتخِذُها، وإن كَرِه فارَقَها، وإن كان صغيرًا حُبِسَت عليه حتى يَكْبَرَ، فإن شاء أصابها، وإن شاء فارقها، فذلك قولُ الله تبارك وتعالى:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} : وذلك أن رجالًا من أهل المدينة كان إذا مات حَميمُ أحدهم، ألقَى ثوبَه على امرأتِه، فوَرِث نِكَاحَها، فلم ينكحها أحدٌ غيرُه، وحَبَسها عنده حتى تفتدِيَ منه بفديةٍ، فأنزل الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}
(3)
.
حدثني ابن وَكيع، قال: ثنى أبي، قال: ثنا سفيان، عن عليِّ بن بَذِيمةَ، عن مِقْسَمٍ، قال: كانت المرأةُ في الجاهلية إذا مات زوجُها، فجاء رجلٌ فألقى عليها ثوبه، كان أحقَّ الناس بها. قال: فنزلت هذه الآيةُ: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}
(4)
.
فتأويل الآية على هذا التأويل: يا أيُّها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن ترثوا آباءكم
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"الوارثة".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 903 (5033) عن يونس به وفيه زيادة.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 209.
وأقاربكم نكاح نسائهم كَرْهًا. فترك ذكر الآباء والأقارب والنكاح، ووجَّه الكلام إلى النهي عن وِراثة النساء؛ اكتفاء بمعرفة المخاطبين بمعنى الكلام، إذ كان مفهومًا معناه عندهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يَحِلُّ لكم أيُّها الناسُ أن تَرِثوا النساءَ تَرِكاتِهن كَرْهًا. قالوا: وإنما قيل ذلك كذلك لأنهم كانوا يَعضُلُونَ أَيَامَاهُنَّ وهُنَّ كَارِهاتٌ للعضل، حتى يَمُتْنَ فيرِثوهن أموالهن.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . قال: كان الرجل إذا مات وترك جاريةً، ألقى عليها حَميمُه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميلةٌ تَزَوَّجها، وإن كانت ذميمةً
(1)
حبسها حتى تموتَ فيرِثَها
(2)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن الزهريِّ في قوله:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . قال: نزلت في ناسٍ من الأنصار، كانوا إذا مات الرجلُ منهم، فأملك الناس بامرأتِه وَلِيُّه، فيُمسكها حتى تموتَ فيرِثَها، فنَزَلَت فيهم
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى القولين بتأويل الآية القولُ الذي ذكرناه عمَّن قال: معناه:
(1)
في م: "قبيحة"، وأثبتناه كباقى النسخ وابن أبي حاتم والدر المنثور 2/ 131، وعند ابن كثير:"دميمة".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 902 (5028) من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 151.
لا يَحِلُّ لكم أن ترثوا النساء
(1)
أقاربكم؛ لأن الله جل ثناؤه قد بَيَّن مَواريث أهل المواريث، فذلك لأهله، كره
(2)
وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء، [أو رضى]
(3)
.
فقد عُلم بذلك أنه جلّ ثناؤه لم يَحظُرْ على عباده أن يرثوا
(4)
النساء ما جعله لهم ميراثًا عنهن، وأنه إنما خطر أن يُكْرَهن موروثاتٍ، بمعنى حَظرِ وراثة نكاحهن، إذ كان ميِّتهم الذي ورثوه قد كان مالكًا عليهن أمرهن في النِّكاح مِلْكَ الرجل مَنْفعةَ ما استأجر من الدُّور والأرضين وسائر ما له منافعُ
(5)
.
فأبانَ الله جلّ ثناؤه لعباده أن الذي يملكه الرجلُ منهم من يُضْعِ زَوْجِه، معناه غيرُ معنى ما يملكُ أحدهم من منافع سائر المملوكات التي تجوز إجارتها، [بمعنى الإجارة](3)، فإن المالِكَ بُضْعَ زوجته إذا هو مات، لم يكن ما كان له ملكًا من زوجته بالنكاح لورثته بعده، كما لهم من الأشياء التي كان يملكها بشراءٍ أو هبةٍ أو إجارةٍ بعد موته بميراثه ذلك عنه.
وأما قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . فَإِن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضُهم: تأويله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . أي: ولا تحبسوا يا معشرَ وَرثَةٍ من مات من الرجال أزواجهم عن نكاحِ مَن أَرَدْنَ نِكَاحَه من
(1)
بعده في م، ت 1:"كرها".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"نحوه". وفى م: "نحو". وأثبتنا ما يتسق والسياق، يدل على صحته قوله بعد ذلك "أو رضى".
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يوتوا".
(5)
في ص: "نافع".
الرجال، كيما يمتن فتَذهَبوا ببعض ما آتيتموهن، أي: فتأخُذوا من أموالهن إذا مِتْنَ، ما كان موتاكم الذين ورثتموهم
(1)
ساقوا إليهن من صدُقاتهن. وممن قال ذلك جماعةٌ قد ذكرنا بعضهم، منهم ابن عباسٍ، والحسن البصريُّ، وعكرمة.
وقال آخرون: بل معني ذلك: ولا تَعْضُلوا أيُّها الناسُ نساءكم، فتحبسوهن ضرارًا، ولا حاجة بكم إليهن، فتُضِرُّوا بِهن، ليَفْتَدِين منكم بما آتيتموهن من صدقاتهن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . يقولُ: لا تَقْهَروهنّ. {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . يعنى: الرجلُ تكون له المرأة وهو كارِهٌ لصُحْبتِها، ولها عليه مَهْرٌ، فَيُضِرُّ بها لتَفْتِدِى
(2)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ في قوله:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . يقولُ: لا ينبغي
(3)
لك أن تحبس امرأتك ضرارًا حتى تَفْتدِيَ منك
(4)
. قال: وأَخبرنا مَعْمَرٌ، قال: وأخبرني سماكُ بن الفضل
(5)
، عن ابن البيلمانيِّ
(6)
، قال: نزلت هاتان الآيتان، إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ورثتموهن".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 903 (5037) من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
في م، ت 1:"يحل".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 210.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المفضل". وينظر تهذيب الكمال 12/ 125، 126.
(6)
في ت 1، س:"السلماني". وينظر تهذيب الكمال 8/ 17.
أمر الإسلام.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، قال: أخبرنا سماكُ بنُ الفضل
(1)
، عن عبدِ الرحمنِ بن البَيْلَماني
(2)
في قوله: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . قال: نزلت هاتان الآيتان، إحداهما في الجاهلية، والأخرى في أمر
(3)
الإسلام. قال عبد الله: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} في الجاهلية، {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} في الإسلامِ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحمَّانيُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن سالم، عن سعيدٍ:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . قال: لا تَحْبِسوهنّ
(5)
.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} : أما {تَعْضُلُوهُنَّ} ، فيقولُ: تُضارُّوهن ليَفْتَدِين منكم
(6)
.
حدِّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدُ بنُ سليمان، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} . قال: العَضْلُ أن يُكْرِهَ الرجل امرأته فيُضِرُّ بها حتى تفتدِى منه، قال الله تبارك وتعالى:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}
(7)
[النساء: 21].
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المفضل".
(2)
في ت 1، س:"السلماني".
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 152 عن معمر به، دون قول عبد الله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 132 إلى ابن المنذر.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 152 عقب الأثر (5034) معلقًا.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 903 عقب الأثر (5036) من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به.
(7)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 903 عقب الأثر (5036) معلقًا.
وقال آخرون: المعنيُّ بالنهي عن عَضْل النساء في هذه الآية أولياؤهنَّ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} : أن يَنْكِحْنَ أزواجهن، كالعضل في سورة "البقرة"
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ مثله.
وقال آخرون: بل المنهيُّ عن ذلك زوج المرأة بعد فراقه إياها. وقالوا: ذلك كان من فعل الجاهلية، فنُهوا عنه في الإسلام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونس بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: كان العَضْلُ في قريش بمكة؛ يَنكِحُ الرجلُ المرأة الشريفة، فلعلَّها لا
(2)
توافقه، فيُفارِقُها على ألا تَتزوَّجَ إلا بإذنه، فيأتى بالشهودِ، فيكتُبُ ذلك عليها ويُشْهِدُ، فإذا خطبها خاطِبٌ، فإن أعطته وأرضَتْه أذن لها، وإلا عَضَلها. قال: فهذا قولُ اللهِ تبارك وتعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية
(3)
.
قال أبو جعفر: قد بَيَّنَّا فيما مضى معنى "العَضْل"، وما أصله بشواهد ذلك من الأدلة
(4)
. وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ
(1)
تفسير مجاهد ص 237 بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ص: "ألا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى المصنف.
(4)
ينظر ما تقدم في 4/ 193، 194.
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}. قولُ مَن قال: نهى الله جلّ ثناؤه زوج المرأةِ عن التَّضْييقِ عليها والإضرار بها وهو لصُحْبتها كارهٌ، ولفِراقِها مُحِبٌّ، لتفتدِيَ منه ببعض ما آتاها من الصَّداق.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصحة؛ لأنه لا سبيل لأحدٍ إلى عَضْلِ امرأةٍ إِلَّا لأحدٍ رجلين؛ إمّا لزوجها بالتَّضييق عليها، وحَبْسِها على نفسه وهو لها كارِهٌ، مُضارَّةً منه لها بذلك؛ ليَأخُذَ منها ما آتاها، بافتدائها منه نفسَها بذلك، أو لوليِّها الذي إليه إنكاحُها، وإذا كان لا سبيل إلى عَضْلِها لأحدٍ غيرهما، وكان الوليُّ معلومًا أنه ليس ممّن آتاها شيئًا فيقال إن عَضَلَها عن النِّكاح: عَضَلها ليَذهَبَ ببعض ما آتاها. كان معلومًا أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عَضْلِها هو زوجها الذي له السبيلُ إلى عَضْلِها ضِرارًا لتفتدِى منه.
وإذا صحَّ ذلك، وكان معلومًا أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحدٍ السبيل على زوجته بعد فراقه إياها وبَيْنونَتِها منه، منه، فيكون له إلى عَضْلِها سبيلٌ لتَفْتِدِيَ منه مِن عَضْلِه إياها، أتَتْ بفاحشة أم لم تأتِ بها، وكان الله جلّ ثناؤه قد أباحَ للأزواج عَضْلَهن إذا أَتَيْنَ بفاحشةٍ مُبَيِّنَةٍ حتى يَفْتدِين منه - كان بَيِّنًا بذلك خطأُ التأويل الذي تأوَّله ابن زيد، وتأويل من قال: عُنى بالنهي عن العَضْل في هذه الآية أولياء الأيامى. وصحةُ ما قلنا فيه.
{لَا تَعْضُلُوهُنَّ} . في موضع نَصْبٍ عطفًا على قوله: {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} . ومعناه: لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا ولا أَنْ تَعْضُلوهن. وكذلك هي فيما ذُكر في حرف ابن مسعودٍ
(1)
.
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 259.
ولو قيل: هو في موضع جزم على وَجْهِ النهي. لم يكن خطأً.
القول في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤه: لا يَحِلُّ لكم أيُّها المؤمنون أن تَعْضُلوا نساءكم، ضِرارًا منكم لهن، وأنتم لصُحْبتهن كارهون، وهُنَّ لكم طائعاتٌ، لتذهَبوا ببعض ما آتيتُمُوهن مِن صَدُقَاتِهِنَّ، إلا أن يَأْتين بفاحشةٍ مُبيِّنةٍ، فيَحِلَّ لكم حينئذٍ الضِّرارُ بهنَّ؛ ليَفْتَدِين منكم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الفاحشة" التي ذكرها الله جلّ ثناؤه في هذا الموضع؛ فقال بعضُهم: معناها: الزِّنَى. وقال: إذا زَنَت امرأة الرجل، حَلَّ له عَضْلُها والضِّرارُ بها لتفتدِى منه بما آتاها من صداقها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعثُ، عن الحسن في البِكْرِ تَفْجُرُ، قال: تُضرَبُ مائةً، وتُنفَى سنةً، وتَرُدُّ إلى زوجها ما أخَذَت منه. وتأوَّلَ هذه الآيةَ:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
(1)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن عطاءٍ الخراساني، في الرجل إذا أصابت امرأتُه فاحشةً، أخذ ما ساق إليها وأخرجها، فنَسَخ ذلك الحدود
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 4/ 264 عن ابن إدريس به بنحوه.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 152، وفي مصنفه (11020)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا أحمد بن منيعٍ، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إذا رأى الرجلُ مِن امرأته فاحِشَةً، فلا بأس أن يُضارَّها، ويَشُقَّ عليها حتى تختلِعَ منه
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرني مَعْمَرٌ، عن أيوب، عن أبي قلابة في الرجل يَطَّلِعُ من امرأته على فاحشةٍ. فذكر نحوه.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : وهو الزِّنَى، فإِذا فَعَلْن ذلك فَخُذُوا مُهورهنَّ
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: أخبرني عبد الكريم أنه سمع الحسن البصريَّ: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} . قال: الزِّنَى. قال: وسمِعتُ الحسنَ وأبا الشَّعْثاءِ يَقولان: فإِن فَعَلَت، حَلَّ لزوجها أن يكون هو يسألُها الخُلْعَ لِتفتدِىَ
(3)
.
وقال آخرون: الفاحشة المبيِّنة في هذا الموضع النُّشُوزُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية بن صالحٍ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى ابن المنذر بنحوه، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 203 عن أبي قلابة. وينظر ابن أبي شيبة 5/ 107.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 95.
(3)
في ص: "يعتدى مسلها"، وفى ت 1:"لفتدى مسلها"، وفى: ت 2: "لتفتدى نسكها"، وفى س:"فيفتدى منها". وليس في مصدر التخريج. ورأى الشيخ شاكر أن صواب قراءتها: "لتفتدي نفسها".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى المصنف.
على بن أبي طلحة، عن ابن عباس:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : وهو البُغْضُ والنُّشُوزُ، فإذا فَعَلَت ذلك، فقد حَلَّ له منها الفِدْية
(1)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، قال: ثنا عَنْبسةُ، عن عليِّ بن بَذِيمةَ، عن مقسمٍ في قوله:(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتذهبوا ببعض ما آتيتموهُنَّ إلا أَنْ يُفْحِشْنَ) في قراءة ابن مسعودٍ، قال: إذا عصتك
(2)
وآذتك، فقد حلَّ لك أخذُ ما أخَذَتْ منك
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُطَرِّفِ بن طَرِيفٍ، عن خالدٍ، عن الضحَّاكِ بن مُزَاحِمٍ:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . قال: الفاحشة هاهنا النشوزُ، فإذا نشَزت حلَّ له أن يَأْخُذَ خُلْعَها منها (1).
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قتادة في قوله:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . قال: هو النشوزُ
(4)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال عطاءُ بن أبي رَبَاحٍ: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : فَإِن فَعَلْنَ؛ إِن شِئتُم أمْسَكتُموهنَّ، وإِن شِئتُم أَرْسَلْتُموهنَّ.
حدِّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أَخبرنا عبيدُ بنُ سليمان، قال: سمعتُ الضحَّاكَ بنَ مُزاحِمٍ يقولُ في قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . قال: عدل ربُّنا تبارك وتعالى في القضاء، فرجع إلى النساء،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 132 إلى المصنف.
(2)
في م: "عضلت".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 108 من طريق على بن بذيمة مختصرًا.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 152، وفى مصنفه (11020).
فقال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : والفاحشة العصيانُ والنُّشُوزُ، فإذا كان ذلك مِن قِبَلِها، فإن قبلها، فإن الله أمره أن يَضْرِبَها، وأمره بالهجرِ، فإن لم تدع العصيان والنشوز، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يَأْخُذَ منها الفدية
(1)
.
قال أبو جعفر: وأَوْلَى ما قيل في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . أَنَّه مَعْنيٌّ به كلُّ فاحشةٍ من بذاءةٍ باللسان على زوجها، وأذًى له، وزِنًى بفرجها، وذلك أن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . كل فاحشة مبيِّنةٍ ظاهرة، فكلُّ زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زِنًى أو نشوزٌ، فله عَضْلُها على ما بيَّن الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تَفْتَدِى منه - بأيِّ معاني فواحش أتت، بعد أن تكونَ ظاهرةٌ مُبيِّنةً - بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كالذي حدَّثني يوسف
(2)
بن سلمان
(3)
البصريُّ، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"اتَّقوا الله في النساء، فإنكم أخَذْتُموهنَّ بأمانةِ اللهِ، واستحلَلْتُم فُروجَهنَّ بكلمة الله، وإنّ لكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكْرَهُونه، فإن فعَلْنَ ذلك، فاضْرِبُوهُنَّ ضربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكسْوَتُهنَّ بالمعروف"
(4)
.
حدَّثنا موسى بن عبدِ الرحمنِ المَسْرُوقيُّ، قال: ثني زيدُ بن الحُبابِ، قال: ثنا
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 108 من طريق خالد السجستاني، عن الضحاك مختصرًا.
(2)
في م: "يونس".
(3)
في النسخ: "سليمان". وينظر تهذيب الكمال 32/ 432.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة القسم الأول من الجزء الرابع ص 377 - 381، وعبد بن حميد (1135)، ومسلم 2/ (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074) وابن خزيمة (2687، 2802، 2809، 2812، 2826، 2855، 2944)، والطحاوى 2/ 190، وفى المشكل (2434، 4300) وابن حبان (3944)، والبيهقى 5/ 433 - 438 من طريق حاتم بن إسماعيل به.
موسى بنُ عُبيدَةَ الرَّبَذِيُّ، قال: ثنى صدقةُ بنُ يَسَارٍ، عن ابن عمرَ، أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّها الناسُ، إن النساء عندكم عَوَانٍ
(1)
، أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانةِ اللهِ، واسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهِنَّ حقٌّ، ولهنَّ عليكم حقٌّ، ومن حقِّكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فرشكم أحدًا، ولا يَعْصِينَكم في معروف، فإذا فعلن ذلك، فلهنَّ رزقهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروفِ"
(2)
.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حقِّ الزوج على المرأة ألا تُوطِئَ فراشه أحدًا، وألا تعصيه في معروفٍ، وأن الذي يجبُ لها من الرزق والكسوة عليه، إنما هو واجبٌ عليه إذا أدَّت هي إليه ما يجب عليها من الحقِّ، بتركها إيطاءَ فراشه غيره، وتركها معصيته في معروفٍ، ومعلومٌ أن معنى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"من حقِّكم عليهنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا". إنما هو: ألّا يُمَكِّنَّ أنفسَهنَّ مِن أحدٍ سواكم. وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيِّنٌ أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره، وأمكنت من جماعها سواه، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف، وإذا كان ذلك له، فمعلومٌ أنه غيرُ مانعٍ لها - بمنعه إيَّاها ما له منعها - حقًّا لها واجبًا عليه، وإذا كان ذلك كذلك فبيِّنٌ أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما أعطَتْه، أنه لم يَأْخُذْ ذلك عن عضْلٍ مَنْهيٍّ عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عَضْلٍ له مُباحٍ، وإذ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أنه داخلٌ في استثناءِ الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . وإذ صحَّ ذلك، فبيِّنٌ فسادُ قولِ مَن قال: قولُه: {إِلَّا
(1)
عوان: جمع عانية، وهى الأسيرة. أي: أسراء، أو كالأسراء. ينظر النهاية 3/ 314.
(2)
أخرجه عبد بن حميد (856) من طريق زيد بن الحباب به مطولا.
أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. منسوخٌ بالحدود؛ لأن الحد حقُّ الله جل ثناؤه على مَن أتى الفاحشة التي هي زنًى، وأمَّا العَضْلُ لِتَفْتَدِى المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحقٌّ لزوجها، كما عَضْلُه إيَّاها وتضييقه عليها إذا هي نشرت عليه لِتَفْتَدِى منه، حقٌّ له، وليس حكم أحدهما يُبْطِلُ حكم الآخرِ.
فمعنى الآية: ولا يَحِلُّ لكم أيها الذين آمنوا أن تَعْضُلُوا نساءكم، فتضيِّقوا عليهنَّ، وتمنعوهنَّ رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف؛ لِتَذْهَبوا ببعض ما آتَيْتُموهنَّ مِن صَدُقاتِكم، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} مِن زنًى أو بذاءٍ عليكم، وخلاف لكم فيما يَجِبُ عليهنَّ لكم. {مُبَيِّنَةٍ}: ظاهرة. فيحلَّ لكم حينئذٍ عَضْلُهنَّ والتضييق عليهنَّ؛ لِتَذْهَبوا ببعض ما آتيتموهنَّ مِن صَداقٍ، إن هنَّ افْتَدَيْنَ منكم به.
واخْتَلفت القَرَأَةُ في قراءة قوله: {مُبَيِّنَةٍ} ؛ فقرأ ذلك بعضُهم: (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء
(1)
، بمعنى أنها قد بُيِّنت لكم، وأُعلنت وأُظْهِرت.
وقرأه بعضُهم: {مُبَيِّنَةٍ} بكسر الياء
(2)
، بمعنى أنها ظاهرةٌ بيِّنةٌ للناس أنها فاحشةٌ.
وهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَةِ أمصار الإسلام، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ في قراءته الصوابَ؛ لأن الفاحشة إذا أظْهَرها صاحبها فهي ظاهرةٌ بَيِّنةٌ، وإذا ظهرت فبإظهارِ صاحبها إيَّاها ظهرت، فلا تكون ظاهرةً بيِّنةٌ إلا وهي مُبَيَّنَةٌ، ولا مُبَيَّنَةٌ إلا وهى مُبَيِّنَةٌ، فلذلك رأيتُ القراءةَ بأيِّهما قرأ القارئ صوابًا.
القول في تأويل قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
(1)
وهى قراءة ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر، وحجة القراءات ص 196.
(2)
وهى قراءة نافع وعاصم في رواية حفص وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
يعنى جلّ ثناؤهُ بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} : وخالِقُوا
(1)
أَيُّها الرجالُ نساءَكم، وصاحبوهنَّ بالمعروف. يعنى: بما أمرتُكم به من المصاحبة، وذلك إمساكهنَّ بأداءِ حقوقهنَّ التي فرض الله جل ثناؤُه لهنَّ عليكم إليهنَّ، أو تسريحٌ منكم لهنَّ بإحسانٍ.
كما حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . يقولُ: وخالطوهنَّ. كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو: خالِقوهنَّ. مِن العِشْرَةِ وهى المُصَاحَبَةُ.
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: لا تَعْضُلوا نساءكم لتَذْهَبوا ببعض ما آتَيْتُمُوهُنَّ مِن غير ريبةٍ ولا نشوزٍ كان منهنَّ، ولكن عاشروهنَّ بالمعروف وإن كرهتموهنَّ، فلعلَّكم أن تَكْرَهُوهنَّ فتُمْسِكُوهُنَّ، فيجعل الله لكم في إمساككم إيَّاهنَّ على كُرهٍ منكم لهنَّ، خيرًا كثيرًا، مِن ولدٍ يَرْزُقُكم منهنَّ، أو عطفكم عليهنَّ بعد كراهتكم إيَّاهنَّ.
كما حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . يقولُ: فعسى الله أن يَجْعَل في الكراهة خيرًا كثيرًا
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
(1)
في س: "خالطوا".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 905 (5046) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 133 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ في قوله:{وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . قال: الولد
(1)
.
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} : والخير الكثير أن يَعْطِفَ عليها، فيُرْزَقَ الرجلُ ولدها، ويجعَلَ اللهُ في وَلدِها خيرًا كثيرًا
(2)
.
والهاء في قوله: {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . على قول مجاهدٍ الذي ذكرناه، كنايةٌ عن مصدرِ {تَكْرَهُوا}. كأن معني الكلام عنده: فإن كرِهْتُموهنَّ، فعسى أن تكرهوا شيئًا، ويجعَلَ اللهُ [في كرهِهِ]
(3)
خيرًا كثيرًا. ولو كان تأويل الكلام: فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعَلَ اللهُ في ذلك الشيء الذي تكرهونه خيرًا كثيرًا. كان جائزًا صحيحًا.
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} .
يعنى جلَّ ثناؤُه بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} : وإن أَرَدْتُم أَيُّها المؤمنون نكاح امرأةٍ مكانَ امرأة لكم تُطَلِّقونها، {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ}. يقولُ: وقد أعْطَيتُم التي تُرِيدُون طلاقها من المهر {قِنْطَارًا} . والقنطار المالُ الكثيرُ. وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه، والصواب من القول في ذلك عندنا
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 905 (5049) من طريق أحمد بن مفضل به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 905 (5045، 5048) عن محمد بن سعد به.
(3)
في ص، م، س:"فيه"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"في ذلك الشيء الذي تكرهونه" انتقال نظر من العبارة الآتية. والمثبت هو الصواب على ما يقتضيه أثر مجاهد المتقدم.
(4)
تقدم في 5/ 254 - 260.
{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} . يقولُ: فلا تَضُرُّوا بِهِنَّ إِذا أَرَدْتُم طَلاقَهُنَّ؛ ليَفْتَدِينَ منكم بما أتيتُموهنَّ.
كما حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} : طلاق امرأة مكانَ أخرى، فلا يَحِلُّ له مِن مالِ المطلقة شيءٌ وإن كثر
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
القولُ في تأويل قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)}
يعنى بقوله تعالى ذكرُه: {أَتَأْخُذُونَهُ} : أتأخذون ما آتيتموهنَّ مِن مُهورهنَّ، {بُهْتَانًا}. يقولُ: ظلمًا بغير حقٍّ، {وَإِثْمًا مُبِينًا}. يعنى: وإثمًا قد أبان أمرُ آخذه أنه بأخذه إيَّاه لمن أخَذه منه ظالمٌ.
القول في تأويل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} .
يعنى جلَّ ثناؤه بقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} : وعلى أيِّ وجهٍ تأخُذون مِن نسائكم ما آتيتموهنَّ مِن صَدُقَاتِهِنَّ إذا أردتُم طلاقهنَّ، واستبدال غيرِهنَّ بهنَّ أزواجًا، {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ، فتباشَرتُم وتلامَسْتُم.
وهذا كلامٌ وإن كان مَخْرَجُه مخرجَ الاستفهام، فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقولُ الرجلُ لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راضٍ به؟ على معنى التهدُّدِ
(2)
والوعيد.
(1)
تفسير مجاهد ص 271. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 133 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "التهديد".
وأمَّا الإفضاء إلى الشيء، فإنه الوصول إليه بالمباشرة له، كما قال الشاعر
(1)
:
بِلًى [وثأًى]
(2)
أَفضَى إلى كلِّ
(3)
كُتبةٍ
…
بدا سيرُها من باطنٍ بعد ظاهرِ
يعنى بذلك أن الفساد والبِلَى وصل إلى الخُرَزِ.
والذي عُنى به الإفضاء في هذا الموضع، الجماعُ في الفرج.
فتأويلُ الكلام - إذ كان ذلك معناه -: وكيف تأخُذون ما آتيتموهنَّ وقد أفْضَى بعضُكم إلى بعضٍ بالجماع؟
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبد الحميد بن بيانٍ القَنَّادُ، قال: ثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم، عن بكرِ بن عبدِ اللهِ، عن ابن عباس، قال: الإفضاء المباشرة، ولكنَّ الله كريمٌ، يَكْنِي عمَّا يشاءُ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن بكرٍ، عن ابن عباس، قال: الإفضاءُ الجماعُ، ولكنَّ الله يَكْنِى
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ، عن
(6)
بكرِ بن عبدِ اللهِ المزنيِّ،
(1)
البيت في التبيان 3/ 153 غير منسوب.
(2)
مكانها بياض في النسخ، والمثبت من التبيان.
(3)
سقط من النسخ، والمثبت من التبيان.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10826) عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 133 إلى ابن المنذر.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 908 (5066) من طريق سفيان به دون آخره.
(6)
في م: "بن".
عن ابن عباس، قال: الإفضاء هو الجماع.
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} . قال: مجامعة النساءِ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّل، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} : يعنى المجامعة
(2)
.
القولُ في تأويل قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} .
أي: ما وثَّقتم
(3)
به لهنَّ على أنفسكم، من عهد وإقرار منكم بما أقْرَرْتُم به على أنفسكم، من إمساكهنَّ بمعروف، أو تسريحهنَّ بإحسان، وكان في عقد المسلمين النِّكاح قديمًا، فيما بلغنا، أن يقال للناكح: الله عليك، لَتُمْسِكُنَّ بمعروف، أو لَتُسَرِّحَنَّ بإحسانٍ.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} : والميثاق الغليظُ الذي أخذه للنساء على الرجال؛ إمساكٌ بمعروفٍ، أو تسريحٍ بإحسانٍ، وقد كان في عقد
(4)
المسلمين عند
(1)
تفسير مجاهد ص 271، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 133 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 908 عقب الأثر (5066) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.
(3)
في النسخ: "وثقت". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(4)
في م: "عهد".
إنكاحهم: اللهِ عليك لَتُمْسِكَنَّ بمعروفٍ، أو لَتُسَرِّحَنَّ بإحسانٍ
(1)
.
واختلف أهل التأويل في الميثاقِ الذي عنَى اللهُ جَلَّ ثناؤُه بقوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} ؛ فقال بعضُهم: هو إمساكٌ بمعروفٍ، أو تسريحٌ بإحسان.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاكِ في قوله:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسانٍ
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبرٍ، عن الضحَّاك مثله.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادةَ في قوله:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على الرجال؛ فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. قال: وقد كان ذلك يُؤْخَذُ عندَ عقدِ النكاحِ
(3)
.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ: أَمَّا: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . فهو أن يَنْكِحَ المرأة فيقول
(1)
أخرجه البغوي في تفسيره 2/ 187 من طريق شيبان ومعمر عن قَتادةَ به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 143 من طريق جويبر به، ووقع عنده جرير بدلًا من جويبر، وذكره البغوي في تفسيره 2/ 187.
(3)
تفسير عبد الرزاق 12/ 152. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 133 إلى عبد بن حميد.
وَلِيُّها: أَنْكَحْناكَها بأمانةِ اللهِ، على أن تُمسكها بالمعروف، أو تُسَرِّحَها بإحسانٍ
(1)
.
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ في قوله:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: الميثاق الغليظ الذي أخذه الله للنساء؛ إمساك بمعروفٍ، أو تسريح بإحسانٍ، وكان
(2)
في عُقدة المسلمين عند نكاحهنَّ: للهِ
(3)
عليك، لَتُمْسِكَنَّ بمعروف، ولَتُسَرِّحَنَّ بإحسانٍ.
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَليُّ، عن الحسن ومحمد بن سيرين في قوله:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسانٍ
(4)
.
وقال آخرون: هو كلمة النِّكاح التي اسْتَحَلَّ بها الفرج.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: كلمة النِّكاح التي اسْتَحَلَّ بها فروجَهنَّ
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 909 عقب الأثر (5071) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.
(2)
في ص، ت 1، ت 3:"وكانت"، وفى ت 2، س:"فكانت".
(3)
في م: "أيم الله". واللام في "لله" لام القسم. ينظر الكتاب 3/ 497.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 909 عقب الأثر (5071) معلقًا عن الحسين، وذكره الطوسي في التبيان 3/ 153، والبغوى 2/ 187 عن الحسن وابن سيرين.
(5)
تفسير مجاهد ص 271، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 909 (5069).
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشمٍ المكِّيِّ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: قوله: نكَحت.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، قال: ثنا عَنْبسةُ، عن محمد بن كعبٍ القُرَظيِّ:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: هو قولهم: قد ملَكْتُ النِّكاح.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سفيان، عن سالمٍ الأفطس، عن مجاهد:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: كلمة النِّكاح
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: الميثاق النِّكاح.
حدَّثنا عَمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثنى سالم الأفطس، عن مجاهدٍ:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: كلمةُ النِّكاح، قوله: نكَحتُ
(1)
.
وقال آخرون: بل عنى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أخَذْتُموهنَّ بأمانةِ اللهِ، واسْتَحْلَلْتُم فُروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ"
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن
(3)
عكرمة:
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 143 من طريق سفيان به.
(2)
تقدم تخريجه ص 532.
(3)
في النسخ: "و". والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة. وينظر تهذيب الكمال 4/ 465.
{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال
(1)
: "أخذتموهنَّ بأمانة الله، واسْتَحللتم فُروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ"
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} : والميثاق الغليظُ: "أَخَذْتُموهنَّ بأمانة الله، واسْتَحللتم فُروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ"
(3)
.
قال أبو جعفر: وأَوْلَى هذه الأقوالِ بتأويل ذلك قولُ مَن قال: الميثاق الذي عُنِى به في هذه الآية، هو ما أُخِذ للمرأة على زوجها عند عقد
(4)
النِّكاح، من عهدٍ على إمساكها بمعروفٍ، أو تسريحها بإحسانٍ، فأقرَّ به الرجلُ؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه بذلك أوْصَى الرجال في نسائهم.
وقد بيَّنَّا معنى الميثاق فيما مضى قبل
(5)
، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف في حكم هذه الآية؛ أمُحكَمٌ أم منسوخٌ؟ فقال بعضُهم: مُحْكَمٌ، وغير جائزٍ للرجل أخذُ شيءٍ مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدةَ الطلاق.
وقال آخرون: هي مُحكمةٌ، وغير جائز له أخذُ شيءٍ مما آتاها منها بحالٍ، كانت هي المريدة الطلاق أو هو. وممن حكى عنه هذا القولُ بكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزنيُّ.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قالا".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 143 عن وكيع به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 909 (5070) من طريق أبي جعفر الرازى به.
(4)
في م، ت 1:"عقدة".
(5)
تقدم في 1/ 439.
حدَّثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا عُقْبَةُ بنُ أبي الصَّهْباءِ
(1)
، قال: سألتُ بكرًا عن المختلعة: أيَأْخُذُ منها شيئًا؟ قال: لا، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}
(2)
.
وقال آخرون: بل هي منسوخةٌ، نسخها قوله {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} . إلى قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: ثم رخَّص بعد، فقال:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . قال: فنسَخت هذه تلك
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى الأقوال بالصواب في ذلك قولُ مَن قال: إنها مُحْكَمَةٌ غير منسوخةٍ، وغير جائز للرجل أخذُ شيءٍ مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غيرِ نُشوزٍ كان منها، ولا ريبةٍ أتَتْ بها. وذلك أن الناسخَ من الأحكام ما نفى خلافه من الأحكام، على ما قد بيَّنَّا في سائر كتبنا، وليس في
(4)
قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 3، س:"المهنا"، وفى ت 2:"المنهال". والمثبت مما تقدم في 4/ 161. وينظر الجرح والتعديل 6/ 312، وتعجيل المنفعة 2/ 18.
(2)
تقدم تخريجه في 4/ 161.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 134 إلى المصنف.
(4)
سقط من: م، س.
زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}. نفى حكم قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . لأن الذي حرَّم الله على الرجل بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} . أخذُ ما آتاها منها، إذا كان هو المريد طلاقها.
وأمَّا الذي أباح له أخذه منها بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه، وهو له كارهٌ، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع
(1)
، وليس في حكم إحدى الآيتين نفيُ حكم الأخرى.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يجز أن يُحْكم لإحداهما بأنها ناسخةٌ، وللأخرى بأنها منسوخةٌ، إلا بحجَّةِ يَجِبُ التسليم لها.
وأمَّا ما قاله بكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزَنيُّ، مِن أنه ليس لزوج المختلعة أخذُ ما أعطته على فراقه إيَّاها، إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكارة، [فليس بصوابٍ]
(2)
، لصحَّة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قيس بن شَمَّاسٍ بأخذ ما كان ساق إلى زوجته، وفراقها إن طلبتْ فراقه، وكان النشوزُ مِن قِبَلِها
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} .
ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يَخْلُفُون على حلائل آبائهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فحرَّم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهنَّ، وعفا لهم
(1)
ينظر ما تقدم في 4/ 134 وما بعدها.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
تقدم تخريجه في 4/ 138، 139.
عمّا كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم، من فعل ذلك، لم يُؤَاخِذْهم به إن هم اتقَوُا الله في إسلامهم، وأطاعوه فيه.
ذكرُ الأخبار التي رُويت في ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ المُخَرِّميُّ
(1)
، قال: ثنا قُرَادٌ، قال: ثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن
(2)
عمرٍو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهليَّةِ يُحَرِّمون ما يُحَرَّمُ إلا امرأةَ الأب، والجمع بين الأختين. قال: فأنزل الله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ في قوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. قال: كان أهلُ الجاهليَّةِ يُحَرِّمون ما حرَّم الله، إلا أن الرجل كان يَخْلُفُ على حَليلةِ أبيه، ويَجْمَعون بين الأختين، فمِن ثَمَّ قال الله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}
(4)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ عن عكرمة في قوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} . قال: نزلت في أبي قيس بن الأَسْلَتِ، خَلَف على أُمِّ عُبيدٍ بنتِ ضَمْرَةَ
(5)
، كانت تحتَ الأَسْلَتِ أبيه؛ وفى الأسودِ بن خَلَفٍ، وكان خلف على بنتِ
(1)
في ت 1: "الحرمى"، وفى ت 2:"مخرومي"، وفى س:"المخزومي". وينظر تهذيب الكمال 25/ 534، 535.
(2)
في النسخ: "و". والمثبت من تفسير ابن كثير. وعمرو هو ابن دينار. ينظر تهذيب الكمال 22/ 5.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 215 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 134 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 215.
(5)
كذا في النسخ والدر المنثور، وفى أسد الغابة 7/ 364 والإصابة 8/ 255:"صخر".
أبي طلحةَ بن عبدِ العُزَّى بن عثمانَ بن عبد الدارِ، وكانت عند أبيه خلفٍ؛ وفى فاختةَ بنتِ الأسودِ بن المُطَّلِبِ بن أَسَدٍ، وكانت عند أُمَيَّةَ بن خلفٍ، فخلف عليها صفوانُ بنُ أُمَيَّةَ؛ وفي منظورِ بن زَبَّانَ
(1)
، وكان خلَف على مُلَيْكَةَ ابنة خارجةَ، وكانت عند أبيه زَبَّانَ
(1)
بن سَيَّارٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قلتُ لعطاءِ بن أبي رباحٍ: الرجلُ يَنْكِحُ المرأة ثم لا يراها حتى يُطَلِّقَها، أَتُحِلُّ لابنه؟ قال: هي مرسَلةٌ، قال الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: قلتُ لعطاءٍ: ما قولُه: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ؟ قال: كان الأبناءُ يَنْكِحون نساءَ آبائِهم في الجاهلية
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. يقولُ: كلُّ امرأةٍ تزوَّجها أبوك وابنُك، دخَل أو لم يدخُلْ، فهى عليك حرامٌ
(4)
.
واخْتُلِف في معنى قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، فقال بعضُهم: معناه: لكن ما قد سلَف فدَعُوه. وقالوا: هو مِن الاستثناءِ المنقطِع.
وقال آخَرون: معنى ذلك: ولا تَنْكِحوا نكاحَ آبائِكم. بمعنى: ولا تَنْكِحوا
(1)
في م والدر المنثور، "رباب". وينظر المؤتلف والمختلف 2/ 1081، 1082.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 134 إلى المصنف، وذكره ابن كثير في التفسير 2/ 214 عن المصنف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10805، 10816)، وابن أبي شيبة 4/ 173 عن ابن جريج به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 910 (5074)، والبيهقى 7/ 161، من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 134 إلى ابن المنذر.
كنكاحِهم، كما نَكَحوا على الوجوه الفاسدةِ التي لا يجوزُ مثلُها في الإسلام. {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}. يعنى: أن نكاحَ آبائِكم الذي كانوا يَنْكِحونه في جاهليتِهم، كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا، إلا ما قد سلَف منكم في جاهليتِكم، مِن نكاح لا يجوزُ ابتداءُ مثلِه في الإسلام، فإنه معفوٌّ لكم عنه.
وقالوا: قولُه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . كقول القائلِ للرجل: لا تَفْعَلْ ما فعلتُ، ولا تَأْكُلْ ما أكلتُ. بمعنى: ولا تأكل كما أكلتُ. ولا تفعَلْ كما فعلتُ.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم من النساءِ بالنكاحِ الجائز كان عقدُه بينهم، إلا ما قد سلَف منهم من وجوه الزنى عندهم، فإن نكاحَهنَّ لكم حلالٌ
(1)
؛ لأنهنَّ لم يَكُنَّ لهم حلائل، وإنما كان
(2)
ما كان من آبائِكم [ومنهنَّ]
(3)
من ذلك فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} الآية. قال: الزنى، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، فزاد ههنا المقت
(4)
.
قال أبو جعفر: وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب - على ما قاله أهلُ التأويل في
(1)
بعده في م: "كان".
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"منهن".
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 5/ 105. ويعنى بقوله: زاد ههنا المقت. أي على ما جاء في سورة الإسراء من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} الآية 32.
تأويله - أن يكون معناه: ولا تَنْكِحوا من النساء نكاحَ آبائِكم، إلا ما قد سلَف منكم فمضَى في الجاهليةِ، فإنه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا. فيكونُ قولُه:{مِنَ النِّسَاءِ} . من صلة قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا} . ويكونُ قولُه: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} . بمعنَى المصدر، ويكونُ قولُه:{إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} . بمعنى الاستثناء المنقطع؛ لأنه يحسُنُ في موضعِه: لكن ما قد سلَف فمضَى، إنه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكونُ هذا القولُ موافقًا قولَ مَن ذَكَرتَ قولَه مِن أهل التأويل، وقد علِمتَ أن الذين ذكرت قولَهم في ذلك إنما قالوا: أُنْزِلت هذه الآيةُ في النهي عن نكاحِ حلائلِ الآباءِ، وأنت تذكُرُ أنهم إنما نُهوا أن يَنْكِحوا نكاحَهم.
قيل له: إنما
(1)
قلنا: إن ذلك هو التأويلُ الموافقُ لظاهر التنزيل؛ إذ كانت "ما" في كلام العرب لغيرِ بنى آدم، وأنه لو كان المقصود بذلك النهيُ عن حلائل الآباء، دونَ سائر ما كان من مناكِحِ آبائهم حرامًا ابْتداءُ مثله في الإسلام، بنهي الله جلَّ ثناؤُه عنه، لقيل: ولا تَنْكِحوا مَن نكَح آباؤُكم من النساء إلا ما قد سلف. لأن ذلك هو المعروفُ في كلام العرب؛ إذ كان "من" لبنى آدم، و "ما" لغيرهم، ولم
(2)
يُقَل: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . [وأما قولُه]
(3)
: فإنه يدخُلُ في "ما" ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يَتَناكَحونها في جاهليتِهم، فحرَّم عليهم في الإسلام بهذه الآية نكاحَ حلائلِ الآباء، وكلَّ نكاحٍ
(1)
في النسخ: "إن". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
في النسخ: "لا". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(3)
زيادة يقتضيها السياق، وينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع من التفسير.
سواه نهَى الله تعالى ذكرُه ابتداءَ مثله في الإسلام، مما كان أهلُ الجاهليَّةِ يَتَناكَحونه في شِركِهم.
ومعنى قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} : إلا ما قد مضَى، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}. يقولُ: إن نكاحَكم الذي سلَف منكم كنكاح آبائكم المُحَرَّم عليكم ابتداءُ مثلِه في الإسلام، بعد تحريمى ذلك عليكم، {فَاحِشَةً}. يقولُ: معصيةٌ. {وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} . أي: بئس طريقًا ومنهجًا ما كنتم تَفْعَلُون في جاهليتِكم، مِن المناكِحِ التي كنتم تَناكَحُونها.
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: حُرِّم عليكم نكاحُ أمهاتِكم. فتَرَك ذكرَ النِّكاح اكتفاءً بدلالة الكلام عليه.
وكان ابن عباسٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا به أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا ابن أبي زائدةَ، عن الثوريِّ، عن الأعمش، عن إسماعيلَ بن رجاءٍ، عن عُميرٍ مولى ابن عباسٍ، عن ابن عباسٍ، قال: حرُم من النسبِ سبعٌ، ومن الصِّهْرِ سبعٌ، ثم قرأ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . حتى بلغ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} . قال: والسابعةُ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}
(1)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا مُؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاءٍ، عن عُميرٍ مولى ابن عباسٍ، عن ابن عباسٍ، قال: يَحْرُمُ مِن النسب سبعٌ، ومن الصِّهْرِ سبعٌ. ثم قرأ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
حدَّثنا ابن بشَّارٍ مرةً أخرى، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاءٍ، عن عُميرٍ مولى ابن عباسٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن الزُّهريِّ بنحوه.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن حبيبٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: حُرِّم عليكم سبعٌ نَسَبًا، وسبعٌ صِهْرًا:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن عليِّ بن صالحٍ، عن سمَاكِ بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
(1)
تفسير الثورى ص 93، ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه (10808)، والطبراني (12222)، والحاكم 2/ 304، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 135 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 911، 914 (5082، 5098) من طريق أبي أحمد الزبيرى به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 911 (5081)، والإسماعيلي في مستخرجه - كما في الفتح 9/ 154، والبيهقى 7/ 158 من طريق عبد الرحمن به. وأخرجه البخارى (5105)، والبيهقى 7/ 158 من طريق سفيان به.
وَأَخَوَاتُكُمْ}. قال: حرَّم الله مِن النَّسَبِ سبعًا، ومِن الصِّهْرِ سبعًا. ثم قرأ:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} الآية
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُطَرِّفٍ، عن عَمرِو بن سالمٍ مولى الأنصارِ، قال: حُرِّم مِن النَّسَبِ سبعٌ، ومِن الصِّهْرِ سبعٌ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} . ومن الصِّهْرِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، ثم
(2)
قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} .
فكلُّ هؤلاء اللواتى سمَّاهنَّ الله تبارك وتعالى وبيَّن تحريمهن في هذه الآية، مُحَرَّماتٌ غيرُ جائزٍ نكاحُهنَّ لمن حرَّم الله ذلك عليه من الرجال، بإجماعِ جميعِ الأمةِ، لا اختلافَ بينهم في ذلك، إلا في أمهات نسائِنا اللواتي لم يَدْخُلْ بهِنَّ أزواجهنَّ، فإن في نكاحِهنَّ اختلافًا بيْن بعض المتقدِّمين من الصحابة، إذا بانت
(3)
الابنةُ قبل الدخول بها من زوجها، هل هنَّ مِن المُبْهَماتِ
(4)
، أم هنَّ مِن المشروط
(1)
أخرجه الطبراني (11772) من طريق علي بن صالح به، وعبد الرزاق في مصنفه (13951) من طريق سماك به بنحوه.
(2)
في ت 1، ت 3:"وإياه"، وغير منقوطة في ص، ت 2.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"كانت".
(4)
في س: "الأمهات". وقال القرطبي في تفسيره 5/ 107: تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي: لا باب فيه، ولا طريق إليه، لانسداد التحريم وقوته. وينظر تهذيب اللغة 6/ 335، 336.
فيهنَّ الدخولُ ببناتِهنَّ؟
فقال جميعُ أهل العلم متقدِّمُهم ومتأخرُهم: مِن المبهَماتِ، وحرامٌ على من تزوَّج امرأةً؛ أمُّها، دخَل بامرأتِه التي نكَحها أو لم يَدْخُلْ بها. وقالوا: شرطُ الدخول في الربيبة دونَ الأُمِّ، فأمَّا أمُّ المرأة فمُطْلَقَةٌ بالتحريم. قالوا: ولو جاز أن يكون شرطُ الدخول في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . يَرْجِعُ
(1)
موصولًا به قولُه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} . جاز أن يكونَ الاستثناءُ في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . مِن جميع المُحَرَّماتِ بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} الآية. قالوا: وفى إجماع الجميع على أن الاستثناءَ في ذلك إنما هو مما وَليَه من قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} . أبينُ الدلالة على أن الشرط في قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . مما وليَه من قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . دونَ أمهاتِ نسائِنا.
ورُوى عن بعض المتقدِّمين أنه كان يقولُ: حلالٌ نكاحُ أمهاتِ نسائِنا اللواتي لم نَدْخُلْ بهنَّ، وإن حكمَهنَّ في ذلك حكمُ الربائبِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا ابن أَبي عَدِيٍّ وعبدُ الأعلى، عن سعيدٍ، عن قَتادةَ، عن خِلَاسِ بن عَمْرٍو، عن عليٍّ رضي الله عنه، في رجلٍ تزوَّج امرأةً فطلَّقها قبل أن يَدْخُلَ بها، أَيَتَزَوَّجُ أَمَّها؟ قال: هي بمنزلة الرَّبِيبةِ
(2)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"موضع"، وفى م:"فوضع". ولعل الصواب ما أثبت، وينظر تعليق الشيخ شاكر.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 171، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 911 (5085) من طريق سعيد بن أبي عروبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 136 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، قال: ثنا قتادةُ، عن خلاسٍ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: هي بمنزلة الرَّبيبة.
حدَّثنا حُميدٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، قال: ثنا قتادةُ، عن سعيد بن المُسَيَّبِ، عن زيد بن ثابتٍ، أنه كان يقولُ: إذا ماتت امرَأتُه عندَه، فأخَذ ميراثَها، كُرِه أن يَخْلُفَ على أمِّها، وإذا طلَّقها قبلَ أن يَدْخُل بها، فإن شاء فعل
(1)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا يحيى، عن
(2)
سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيَّبِ، عن زيدِ بن ثابتٍ، قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأته قبل أن يَدْخُلَ بها، فلا بأسَ أن يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، قال: قال ابن جُرَيْجٍ: أخبرني عكرمةُ بنُ خالدٍ، أن مجاهدًا قال له:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} : أريد بهما الدخولُ جميعًا
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: والقولُ الأولُ أولى بالصوابِ، أعنى قولَ من قال: الأمُّ من المبهَماتِ؛ لأن الله لم يَشْرُط معَهنَّ الدخول ببناتِهنَّ، كما شرَط ذلك مع أمَّهاتِ الربائب، مع أن ذلك أيضًا إجماعٌ مِن الحُجَّةِ التي لا يجوزُ خلافُها فيما جاءت به مُتَّفقةً عليه.
وقد رُوِى بذلك أيضًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، خبرٌ، غير أن في إسناده نظرًا، وهو ما حدَّثنا به المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بن موسى، قال: أخبَرنا ابن المُبارك، قال: أخبَرنا
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 172 من طريق سعيد بن أبي عروبة به، والبيهقى 7/ 160 من طريق سعيد بن المسيب به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 136 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في النسخ: "بن".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10817)، وابن أبي شيبة 4/ 173، من طريق ابن جريج به.
المُثَنَّى بنُ الصَّبَّاحِ، عن عَمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا نكَح الرجلُ المرأةَ، فلا يَحِلُّ له أن يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، دخل بالابنة أمْ لم يَدْخُلْ، وإذا تزوَّج الأُمَّ فلم يَدْخُلْ بها، ثم طلَّقها، فإن شاء تزوَّج الابْنة"
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبرٌ، وإن كان في إسنادِه ما فيه، فإن في إجماعِ الحُجَّةِ على صحة القولِ به مُسْتَغْنًى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قلنا لعطاءٍ: الرجلُ يَنْكِحُ المرأة لم يَرَها ولا يُجَامِعُها حتى يُطَلِّقَها، أَتَحِلُ له أَمُّها؟ قال: لا، هي مرسَلةٌ. قلتُ لعطاءٍ: أكان ابن عباس يَقْرَأَ: (وأمهاتُ نسائِكم اللَّاتى دَخَلْتم بهنَّ). قال: لا. تَتْرَى
(2)
. قال حجَّاجٌ: قلتُ لابن جُرَيجٍ: مَا تَتْرَى
(2)
؟ قال: كأنه قال: لا، لا
(3)
.
وأما "الربائبُ" فإنَّها
(4)
جمعُ رَبيبةٍ، وهى ابنةُ امرأة الرجل، قيل لها: ربيبةٌ. لتربيته إيَّاها، وإنما هي مربوبةٌ، صُرفت إلى ربيبةٍ، كما يقالُ: هي قتيلةٌ
(5)
. من مقتولةٍ
(6)
، وقد يقالُ لزوج المرأةِ: هو ربيبُ ابن امرأته. يعنى به: هو رابُّه. كما يقالُ: هو [خابرٌ وخبيرٌ]
(7)
، وشاهدٌ وشهيدٌ.
(1)
أخرجه البيهقى 7/ 160 من طريق ابن المبارك به، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (10821) من طريق المثنى بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 135 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "تبرأ".
(3)
ينظر ما تقدم تخريجه في ص 550.
(4)
في م، س:"فإنه".
(5)
في النسخ: "قبيلة". وينظر التبيان 3/ 157.
(6)
في النسخ: "مقبولة".
(7)
في النسخ: "جابر وجبير". والخابر والخبير: العالم بالخبر. اللسان. (خ ب ر). وينظر التبيان 3/ 158.
واخْتَلف أهلُ التأويل في معنى قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، فقال بعضُهم: معنى الدخول في هذا الموضع الجماع.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباس قوله:{مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} : والدخولُ النِّكاح
(1)
.
وقال آخرون: الدخولُ في هذا الموضع هو التجريد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجَّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قلت لعطاءٍ: قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . ما الدخولُ بهنَّ؟ قال: أن تُهْدَى إليه فيَكْشِفَ، ويَعْتَسَّ
(2)
، ويَجْلِسَ بين رجليها. قلتُ: أرأيتَ إن فعل ذلك في بيتِ أهلها؟ قال: هو سواءٌ، وحَسْبُه، قد حرَّم ذلك عليه ابنتها. قلتُ: تَحْرُمُ الربيبة ممن يَصْنَعُ هذا بأمِّها، ألا
(3)
يَحْرُمُ عليَّ مِن أَمَتى إن صنَعْتُه بأمِّها؟ قال: نعم، سواءٌ. قال عطاءٌ: إذا كشف الرجلُ أمَتَه وجلس بين رجلَيْها، أَنْهاه عن أمها وابنتها
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى القولين عندى بالصواب في تأويل ذلك ما قاله ابن عباس، مِن أن معنى الدخول الجماعُ والنكاح؛ لأن ذلك لا يَخْلُو معناه مِن أحدِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 912 (5091)، والبيهقى 7/ 162، من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 136 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص: "يعيس"، وفى م:"يعس".
(3)
في النسخ: "إلا ما". وينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10822) عن ابن جريج به.
أمرين؛ إما أن يكون على الظاهرِ المتعارفِ من معاني الدخول في الناس، وهو الوصول إليها بالخلوة بها، أو يكون بمعنى الجماع. وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يُحَرِّمُ عليه ابنتها، إذا طلَّقها قبلَ مَسِيسِها ومباشرتها، أو قبل النظر إلى فرجها بالشهوة، ما يَدُلُّ على أن معني ذلك هو الوصول إليها بالجماع. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الصحيح من التأويل في ذلك ما قلناه.
وأما قوله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . فإنه يقولُ: فإن لم تكونوا أيُّها الناسُ دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم، فجامَعْتُموهنَّ حتى طلَّقْتُمُوهُنَّ
(1)
، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. يقولُ: فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك.
وأما قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} . فإنه يعنى: وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم. وهى جمعُ حَلِيلةٍ، وهي امرأته. وقيل: سُمِّيت امرأةُ الرجل حليلته؛ لأنها تحلُّ معه في فراشٍ واحدٍ.
ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل حرامٌ عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النِّكاح، دخل بها أو لم يَدْخُلْ بها.
فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ في حلائلِ الأبناء من الرضاع، فإن الله تعالى إنما حرَّم حلائل أبنائنا مِن أصلابنا؟
قيل: إن حلائل الأبناء من الرضاع، وحلائل الأبناء من الأصلاب، سواءٌ في التحريم، وإنما قال
(2)
: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} . لأن معناه:
(1)
سقط من: س، وفى، ص، ت 2، ت 3:"طالقتموهن"، وفى ت 1:"خالفتموهن".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قيل".
وحلائلُ أبنائكم الذين ولدتموهم، دون حلائل أبنائكم الذين تَبَنَّيتُموهم.
كما حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريجٍ، قال: قلتُ لعطاء: قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} ؟ قال: كنَّا نَتَحَدَّثُ - والله أعلم - أنها نزلت في محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة، قال المشركون في ذلك، فنزلت:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} . ونزلت: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، ونزَلت:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}
(1)
[الأحزاب: 40].
وأمَّا قولُه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} . فإن معناه: وحُرِّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح. فـ {وَأَنْ} في موضع رفعٍ، كأنه قيل: والجمع بين الأختين. {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} : لكن ما قد مضى منكم، فإن الله كان غفورًا لذنوب عباده، إذا تابوا إليه منها، رحيمًا بهم فيما كلَّفهم من الفرائض، وخفَّف عنهم فلم يُحَمِّلْهم فوق طاقتِهم.
يُخْبِرُ بذلك جل ثناؤه أنه غفورٌ لمن كان جمع بين الأختين بنكاح في جاهليته، وقبل تحريمه ذلك، إذا اتَّقى الله تبارك وتعالى بعد تحريمه ذلك عليه، فأطاعه باجتنابه، رحيمٌ به وبغيره من أهل طاعته من خلقه.
القول في تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
يعنى بذلك جل ثناؤه: حُرِّمت عليكم المحصنات من النساء إلا ما ملكت
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10837)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 913 (5096) من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 136 إلى ابن المنذر.
أيمانُكم.
واختلف أهل التأويل في المُحْصَناتِ التي عناهنَّ
(1)
الله في هذه الآية؛ فقال بعضُهم: هنَّ ذواتُ الأزواج غير
(2)
المَسْبيَّاتِ منهنَّ، [ومِلْكُ]
(3)
اليمين السبايا اللَّواتي فرَّق بينَهنَّ وبين أزواجهنَّ السِّباءُ، فحلَلْنَ لمن صِرْنَ له بملك اليمين، من غيرِ طلاقٍ كان من زوجها الحربيِّ لها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كلُّ ذاتِ زوجٍ إتيانها زنًى، إلا ما سَبَيْتَ
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن عُلية
(5)
، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس مثله.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . يقولُ: كلُّ امرأة لها زوجٌ فهى عليك حرامٌ، إلا أمةً ملكتها ولها زوجٌ بأرض الحرب، فهى لك حلالٌ إذا اسْتَبرأتها
(6)
.
(1)
في ت 2، س:"عنى".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وقالوا".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ملك".
(4)
أخرجه الحاكم 2/ 304، والبيهقى 7/ 167، من طريق أبي حصين به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 268 من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 138 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في النسخ: "عطية" وتقدم مرارًا.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 916 (5114) من طريق عبد الله بن صالح به.
وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبرنا هُشَيْمٌ، عن خالدٍ، عن أبي قلابة في قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: ما سبيتُم من النساء، إذا سُبيت المرأة ولها زوجٌ في قومها، فلا بأس أن يطأها
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: كلُّ امرأةٍ محصنة لها زوجٌ فهي محرَّمةٌ، إلا ما ملكت يمينك من السبي وهى محصنةٌ لها زوج، فلا تَحْرُمُ عليك به. قال: كان أبي يقولُ ذلك
(1)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عُتْبَةُ بنُ سعيد الحِمْصِيُّ، قال: ثنا سعيدٌ، عن مكحولٍ في قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: السَّبايا
(2)
.
واعتلَّ قائلو هذه المقالة بالأخبار التي رُويت أن هذه الآية نزلت في من سُبِى مِن أوطاسٍ.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثنا بشرٌ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشميِّ، عن أبي سعيد الخدري، أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعَث جيشًا إلى أوطاس، فلَقُوا عدوًّا، فأصابوا سبايا لهنَّ أزواجٌ من المشركين، فكان المسلمون يتأَثَّمون من غِشْيانِهِنَّ، فَأَنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . أي: هنَّ حلالٌ لكم إذا ما انقضت عِدَدُهنَّ
(3)
.
(1)
ينظر البحر المحيط 3/ 214.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 916 عقب الأثر (5112) معلقًا.
(3)
أخرجه مسلم (1456/ 33)، وأبو داود (2155)، والنسائي (3333)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3930)، والواحدى في أسباب النزول ص 110 من طريق يزيد بن زريع به.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، عن صالح أبي الخليل، أن أبا علقمة الهاشميَّ حدَّث، أن أبا سعيد الخدرى حدَّث، أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم بعث يومَ حُنينٍ سَرِيَّةً، فأصابوا حيًّا من أحياء العرب يومَ أوطاس، فهزموهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناسٌ من أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأثَّمون من غِشْيانِهِنَّ مِن أجل أزواجهنَّ، فأنزل الله تبارك وتعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} منهنَّ، فحلالٌ لكم ذلك
(1)
.
حدَّثني عليُّ بن سعيدٍ الكنديُّ
(2)
، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمانَ، عن أَشْعَثَ بن سَوَّارٍ، عن عثمان البَتِّيِّ، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، قال: لمَّا سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ أوطاس قلنا: يا رسول الله، كيف نَقَعُ على نساءٍ قد عرفنا أنسابَهنَّ وأزواجهنَّ؟ قال: فنزلت هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(3)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن عثمان البتِّيِّ، [عن أبي الخليل]
(4)
، عن أبي سعيد الخدري، قال: أَصَبْنا نساءً مِن سبي أوطاسٍ لهنَّ أزواج، فكرهنا أن نقع عليهنَّ ولهنَّ أزواجٌ، فَسَأَلْنَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . فَاسْتَحْلَلْنا فُروجَهنَّ
(5)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن
(1)
أخرجه مسلم (1456/ 34) عن محمد بن بشار به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 265 عن عبد عبد الأعلى به.
(2)
في النسخ: "الكناني". وسيأتي على الصواب في ص 569، وينظر تهذيب الكمال 20/ 450.
(3)
أخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 109 من طريق عبد الرحيم به.
(4)
سقط من النسخ، والمثبت من مصادر التخريج.
(5)
أخرجه أحمد 18/ 223 (11691) عن عبد الرزاق به، والنسائى في الكبرى (5491)، وأبو يعلى (1148)، والطحاوي في المشكل (3927)، والواحدى في أسباب النزول ص 109 من طريق سفيان الثوري به.
قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم أوطاسٍ، أصاب المسلمون سبايا لهنَّ أزواجٌ في الشركِ، فقال:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . يقول: إلا ما أفاء الله عليكم. قال: فاسْتَحْلَلْنا بها فُروجَهنَّ
(1)
.
وقال آخرون - ممن قال: المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع -: بل هنَّ كلُّ ذاتِ زوجٍ من النساء، حرامٌ على غير أزواجهنَّ، إلا أن تكون مملوكةً اشتراها مشترٍ من مولاها فتَحِلَّ لَمُشْتَرِيها، ويُبْطِلُ بيع سيِّدها إيَّاها النِّكاح بينها وبين زوجها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ سَلْمُ بنُ جُنادَةَ، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: كلُّ ذاتِ زوجٍ عليك حرامٌ إلا أن تَشْتَرِيَها، أو ما مَلَكَتْ يمينك
(2)
.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا محمد
(3)
بن جعفرٍ، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، أنه سُئل عن الأَمَةِ تُباع ولها زوجٌ، قال: كان عبد الله يقولُ: بيعها طلاقها. ويتلو هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيم، عن عبدِ اللهِ في
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 153.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (605 - تفسير)، وابن أبي شيبة 4/ 267 عن أبي معاوية به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 138، إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "أحمد".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1942) من طريق المغيرة به دون ذكر الآية.
قولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: كلُّ ذاتِ زوجٍ عليك حرامٌ، إلا ما اشتريتَ بمالِك. وكان يقولُ: بيعُ الأَمَةِ طلاقُها.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ، عن ابن المسيَّبِ قولَه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: هنَّ ذواتُ الأزواجِ، حرَّم اللهُ نكاحَهنَّ، إلا ما ملَكتْ يمينُك، فبيعُها طلاقُها. قال مَعْمَرٌ: وقال الحسنُ مثلَ ذلك
(1)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: إذا كان لها زوجٌ فبيعُها طلاقُها
(2)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، أن أُبَيَّ بنَ كعبٍ، وجابرَ بنَ عبدِ اللهِ، وأنسَ بنَ مالكٍ، قالوا: بيعُها طلاقُها
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، أن أُبَيَّ بنَ كعبٍ، وجابرًا، وابنَ عباسٍ، قالوا: بيعُها طلاقُها.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ عُبيدٍ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: قال عبدُ اللهِ: بيعُ الأَمَةِ طلاقُها.
(1)
تفسير عبد الرزاق (1/ 153).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 84) من طريق سعيد بن أبي عروبة به بنحوه.
(3)
أثر أُبي أخرجه عبد الرزاق في المصنف (13168)، من طريق سعيد به، وأثر جابر أخرجه (13170)، من طريق قتادة به.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ ومغيرةَ والأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ، قال: بيعُ الأمةِ طلاقُها
(1)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ مثلَه
(2)
.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ مثلَه.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن خالدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: طلاقُ الأمةِ سِتٌّ
(3)
، بيعُها طلاقُها، وعِتْقُها طلاقُها، وهِبَتُها طلاقُها، وبراءتُها طلاقُها، وطلاقُ زوجِها طلاقُها
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ المغيرةِ الحِمْصِيُّ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن عيسى بن أبى إسحاقَ، عن أَشْعَثَ، عن الحسنِ، عن أُبَيِّ بن كعبٍ أنه قال: بيعُ الأَمَةِ طلاقُها.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: بيعُ الأمَةِ طلاقُها، وبيعُه طلاقُها
(5)
.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا خالدٌ، عن أبي قِلابةَ، قال: قال عبدُ اللهِ: مشتريها أحقُّ ببُضْعِها. يعنى الأمةَ تُباعُ ولها زوجٌ.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 224). وقال: وهو منقطع.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13169) من طريق حماد به.
(3)
كذا في النسخ وتفسير ابن كثير والدر المنثور، والمعدود بعده خمس، ولعل السادس هو الإرث. ينظر ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 84) مجاهد.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 224)، عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى المصنف. وأخرج بعضه سعيد بن منصور في سننه (1947) من طريق خالد به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 84) عن عبد الأعلى به.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعْتَمِرُ، عن أبيه، عن الحسنِ، قال: طلاقُ الأَمَةِ بيعُها
(1)
.
حدَّثنا حُميدٌ، قال: ثنا سفيانُ بنُ حبيبٍ، قال: ثنا يونسُ، عن الحسنِ، أن أُبَيًّا قال: بيعُها طلاقُها
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا سفيانُ، عن خالدٍ، عن أبي قِلابةَ، عن ابن مسعودٍ، قال: إذا بِيعتِ الأمةُ ولها زوجٌ، فسيِّدُها أحقُّ ببُضْعِها
(3)
.
حدَّثنا حُميدٌ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثني سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن إبراهيمَ، قال: بيعُها طلاقُها. قال: فقيلَ لإبراهيمَ: فبيعُه؟ قال: ذلك
(4)
ما لا نقولُ فيه شيئًا.
وقال آخَرون: بل معنى المحصناتِ في هذا الموضعِ العفائفُ. قالوا: وتأويلُ الآيةِ: والعفائفُ مِن النساءِ حرامٌ أيضًا عليكم، إلا ما ملَكتْ أيمانُكم منهنَّ بنكاحٍ وصَدَاقٍ وبَيِّنَةٍ
(5)
وشهودٍ، مِن واحدةٍ إلى أربعٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن أبي العاليةِ، قال: يقولُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . ثم حرَّم ما حرَّم مِن النَّسَبِ والصِّهْرِ، ثم قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13173) عن المعتمر بن سليمان به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1943) عن يونس به.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 224) عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى المصنف.
(4)
في ص، ت 2:"ذاك".
(5)
في النسخ والدر المنثور: "سنة". والمثبت من التبيان (3/ 163). وينظر ما سيأتي في أثر ابن عباس ص 567، 568. وينظر تعليق الشيخ شاكر في هذين الموضعين.
أَيْمَانُكُمْ}. قال: فرجَع إلى أولِ السورةِ إلى أربعٍ، فقال: هنَّ حرامٌ أيضًا، إلا بصَداقٍ وبَيِّنَةٍ
(1)
وشهودٍ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا مَعْمَرٌ، عن أيوبَ، عن ابن سِيرِينَ، عن عَبِيدَةَ، قال: أَحَلَّ اللهُ لك أربعًا في أولِ السورةِ، وحرَّم نكاحَ كلِّ مُحْصَنَةٍ بعدَ الأربعِ، إلا ما ملَكت يمينُك. قال مَعْمَرٌ: وأخبرني ابنُ طاوسٍ، عن أبيه: إلا ما ملَكت يمينُك، قال: فزوجُك مما ملَكت يمينَك، يقولُ: حرَّم اللهُ الزنى، لا يَحِلُّ لك أن تَطَأَ امرأَةً إلا ما ملَكت يمينُك
(3)
.
حدَّثني عليُّ بنُ [سعيدِ بن]
(4)
مسروقٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ بنُ سليمانَ، عن هشامِ بن حسَّانَ، عن ابن سِيرِينَ، قال: سألتُ عَبِيدَةَ عن قولِ اللهِ تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . قال: أربعٌ
(5)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عبدُ الرحيمِ، عن أَشْعَثَ بن سَوَّارٍ، عن ابن سيرِينَ، عن عَبيدَةَ، عن عمرَ بن الخطابِ مثلَه
(6)
.
حدَّثنا أبو كَريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: الأربعُ، فما بعدَهنَّ حرامٌ
(7)
.
(1)
في النسخ والدر المنثور: "سنة". والمثبت من التبيان (3/ 163).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
تفسير عبد الرزاق (1/ 153).
(4)
سقط من: م، وفى س:"سعيد عن". وينظر تهذيب الكمال (20/ 450).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 266) من طريق هشام وأشعث به بنحوه.
(6)
ينظر تفسير ابن كثير (2/ 225).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 267) عن ابن يمان به دون آخره.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سألتُ عطاءً عنها، فقال: حرَّم اللهُ ذواتِ القرابةِ، ثم قال:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . يقولُ: حرَّم ما فوقَ الأربعِ منهنَّ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: الخامسةُ حرامٌ كحرمةِ الأُمَّهاتِ والأخواتِ.
ذكرُ مَن قال: عَنى بالمُحْصَناتِ في هذا الموضعِ العفائفَ مِن المسلمين وأهلِ الكتابِ
حدَّثني إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بن حبيبِ بن الشهيدِ، قال: ثنا عتَّابُ بنُ بَشِيرٍ، عن خَصيفٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَالْمُحْصَنَتُ} . قال: العفيفةُ العاقلةُ؛ مِن مسلمةٍ [أو مِن]
(2)
أهلِ الكتابِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كَريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن بعضِ أصحابِه، عن مجاهدٍ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: العفائفُ
(4)
.
وقال آخَرون: المحصناتُ في هذا الموضعِ ذواتُ الأزواجِ، غيرَ أن الذي حرَّم اللهُ منهنَّ في هذه الآيةِ الزنى بهنَّ، وأباحَهنَّ بقولِه:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . بالنكاحِ أو المِلْكِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى المصنف.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"و".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (611 - تفسير)، من طريق عتاب به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 360) عن ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{والْمُحْصَنَاتُ} . قال: نهَى عن الزنى
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: نهَى عن الزنى؛ أن تَنْكِحَ المرأةُ زوجَيْنِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: كلُّ ذاتِ زوجٍ عليكم حرامٌ، إلا الأربعَ اللاتى يُنْكَحْنَ بالبيِّنةِ والمهرِ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عثمانَ، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا أبي، قال: سمِعتُ النعمانَ بنَ راشدٍ يُحَدِّثُ عن الزُّهْرِيِّ، عن سعيدِ بن المُسَيَّبِ، أَنه سُئِل عن المُحْصَناتِ من النساءِ، قال: هنَّ ذواتُ الأزواجِ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حمَّادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ، قال:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: ذواتُ الأزواجِ مِن المسلمينِ والمشركينِ. وقال عليٌّ: ذواتُ الأزواجِ مِن المشركين
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 268، 269) من طريق ابن أبي نجيح به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 916)(5111) من طريق عبد الله بن صالح به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى الطبراني.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 266)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 916)(5110) من طريق الزهرى به.
(4)
أخرجه الطبراني (9036) من طريق سفيان به، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 265، 266)، عن عبد الرحمن به مقتصرًا على قول على.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: كلُّ ذاتِ زوجٍ عليكم حرامٌ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن عبدِ الكريمِ، عن مكحولٍ نحوَه
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن الصَّلْتِ بن بَهْرامَ، عن إبراهيمَ نحوَه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . إلى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : يعني ذواتِ الأزواجِ مِن النساءِ لا يَحِلُّ نكاحُهنَّ، يقولُ: لا تَخْلُبْ
(3)
ولا تَعِدْ فتَنْشُزَ على زوجِها، وكلُّ امرأةٍ لا تُنْكَحُ إلا ببَيِّنَةٍ ومهرٍ فهى مِن المُحْصناتِ التي حرَّم اللهُ، {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . يعنى التي أحَلَّ اللهُ مِن النساءِ، وهو ما أحَلَّ مِن حرائرِ النساءِ مثنى وثُلاثَ ورُباع
(4)
.
وقال آخَرون: بل هنَّ نساءُ أهلِ الكتابِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عيسى بنُ عُبيدٍ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 268) من طريق عبد الكريم به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 266) من طريق الصلت بن بهرام به.
(3)
خلب فلانا خِلابة: خدعه وفتن قلبه أو خدعه برقيق الحديث. ينظر الوسيط (خ ل ب).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 915، 917)(5109، 5110) عن محمد بن سعد به.
أيوبَ بن
(1)
أبي العَوْجاءِ عن أبي مِجْلَزٍ في قولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: نساءُ أهلِ الكتابِ.
وقال آخَرون: بل هنَّ الحرائرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنى حَمَّادُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا سليمانُ، عن
(2)
عَزْرةَ
(3)
في قولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: الحرائرُ.
وقال آخَرون: المحصناتُ هن العفائفُ وذواتُ الأزواجِ، وحرامٌ كلٌّ مِن الصَّنْفيْنِ إلا بنكاحٍ أو مِلْكِ يمينٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني الليثُ، قال: ثني عُقَيْلٌ، عن ابن شهابٍ، وسُئِل عن قولِ اللهِ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. قال: نرى أنه حرَّم في هذه الآيةِ المحصناتِ مِن النساءِ ذواتِ الأزواجِ أن يُنْكَحْنَ مع أزواجِهنَّ، والمحصناتُ العفائفُ، ولا يَحْلِلْنَ إلا بنكاحٍ أو مِلْكِ يمينٍ، والإحصانُ إحصانان؛ إحصانُ تزويجٍ، وإحصانُ عفافٍ في الحرائرِ والمملوكاتِ، كلَّ ذلك حرَّم اللهُ، إلا بنكاحٍ أو مِلْكِ يمين
(4)
.
(1)
في النسخ: "عن". وينظر الجرح والتعديل (2/ 254).
(2)
في النسخ: "بن". وينظر تهذيب الكمال (20/ 51، 52).
(3)
في م: "عرعرة"، وفى س:"عروة".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى المصنف، وأخرج بعضه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 915)(5105)، من طريق الزهرى، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعًا.
وقال آخَرون: نزَلت هذه الآيةُ في نساءٍ كنَّ يُهَاجِرْنَ
(1)
إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولهنَّ أزواجٌ، فيَتَزَوَّجُهنَّ بعضُ المسلمين، ثم يَقْدَمُ أزواجُهنَّ مهاجرينَ، فنُهِي المسلمون عن نكاحِهنَّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: ثنى حبيبُ بنُ أبي ثابتٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: كان النساءُ يَأْتِينَنَا ثم يُهاجِرُ أزواجُهنَّ، فمُنِعْناهنَّ. يعنى بقولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(2)
.
وقد ذُكِرَ عن
(3)
ابن عباسٍ وجماعةٍ غيرِه أنه كان مُلْتَبِسًا عليهم تأويلُ ذلك.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عَمرِو بن مُرَّةَ، قال: قال رجلٌ لسعيدِ بن جُبيرٍ: أمَا رأيتَ ابنَ عباسٍ حينَ سُئِل عن هذه الآيةِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . فلم يَقُلْ فيها شيئًا؟ قال: فقال: كان لا يَعْلَمُها
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا عبدُ الرحمنِ بن يحيى، عن مجاهدٍ، قال: لو أَعْلَمُ مَن يُفَسِّرُ لى هذه الآيةَ لضرَبتُ إليه أكبادَ الإبلِ؛ قولَه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى قولِه: {فَمَا
(1)
في س: "مهاجرات".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 138) إلى المصنف.
(3)
سقط من: م، س.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى المصنف.
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} إلى آخرِ الآيةِ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: فأَمَّا المُحْصَنَاتُ، فإنهنَّ جمعُ مُحْصَنَةٍ، وهي التي قد مُنِع فرجُها بزوجٍ: يقالُ منه: أَحْصَنَ الرجلُ امرأتَه فهو يُحْصِنُها إحصانًا، وحصَنتْ هي فهي تَحْصُنُ حصانةً، إذا عفَّتْ، وهى حاصنٌ مِن النساءِ، عفيفةٌ، كما قال العجَّاجُ
(2)
:
وحاصِنٍ مِن حاصناتٍ مُلْسِ
من [الأذَى ومن]
(3)
قِرافِ الوَقْسِ
(4)
ويقالُ أيضًا إذا هي عفّت فحفِظتْ فرجَها مِن الفجورِ: قد أحْصَنت فرجَها فهي مُحْصَنَةٌ. كما قال جلَّ ثناؤه: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]. بمعنى: حفِظتْه مِن الريبةِ، ومنَعتْه مِن الفجورِ. وإنما قيل لحصونِ المدائنِ والقرى: حُصُونٌ. لمنعِها مَن أرادها وأهلَها، وحفْظِها ما وراءَها ممن بغاها مِن أعدائِها، ولذلك قيل للدرعِ: درعٌ حَصِينةٌ.
فإذ كان أصلُ الإحصانِ ما ذكَرنا مِن المنعِ والحفظِ، فبيِّنٌ أن معنى قولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} : والممنوعاتُ مِن النساءِ حرامٌ عليكم، {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . وإذ كان ذلك معناه، وكان الإحصانُ قد يكونُ بالحُرِّيَّةِ، كما قال جل ثناؤُه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. ويكونُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى المصنف.
(2)
ديوانه ص 481.
(3)
في م: "عن".
(4)
الوقس: الجَرَب، ضربه مثلًا للفاحشة. اللسان (و ق س).
بالإسلامِ، كما قال تعالى ذكرُه:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . ويكونُ بالعِفَّةِ، كما قال جل ثناؤُه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (النور: 4). ويكونُ بالزوجِ، ولم يكنْ تبارك وتعالى خصَّ محصَنةً دونَ محصَنةٍ في قولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} - فواجبٌ أن تكونَ كلُّ محصَنةٍ - بأيِّ معاني الإحصانِ كان إحصانُها - حرامًا علينا، سفاحًا أو نكاحًا، إلا ما ملَكتْه أيمانُنا منهنَّ؛ بشراءٍ، كما أباحه لنا كتابُ اللهِ جلَّ ثناؤه، أو نكاح
(1)
، على ما أطْلَقه لنا تنزيلُ اللهِ. فالذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحًا مِن الحرائرِ، الأربعُ سوى اللَّواتى حُرِّمن علينا بالنَّسَبِ والصِّهْرِ، ومِن الإماءِ ما سبَيْنا مِن العدوَّ سوى اللواتى وافَق معْناهن معَنى ما حُرّم علينا مِن الحرائرِ بالنَّسَبِ والصِّهْرِ، فإنهن والحرائرَ فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ بذلك المعنى متفقاتُ المعانى، وسوى اللَّواتى سبَيْناهنَّ مِن أهل الكتابَيِنْ ولهنَّ أزواجٌ، فإن السِّباءَ يُحِلُّهنَّ لمن سباهنَّ بعدَ الاستبراءِ، وبعدَ إخراجِ حقِّ اللهِ تبارك وتعالى الذي جعَله لأهلِ الخُمْسِ منهنَّ.
فأمَّا السِّفاحُ، فإن الله تبارك وتعالى حرَّمه مِن جميعِهن، فلم يُحِلَّه مِن حُرَّةٍ ولا أَمَةٍ، ولا مسلمةٍ ولا كافرةٍ مشركةٍ.
وأمَّا الأمَةُ التي لها زوجٌ، فإنها لا تَحِلُّ لمالِكها إلا بعدَ طلاقٍ زوجِها إيَّاها، أو وفاتِه وانقضاءِ عدَّتِها منه. فأمَّا بيعُ سيدِها إيَّاها، فغيرُ مُوجِبٍ بينَها وبيَن زوجِها فراقًا ولا تحليلًا لمشترِيها؛ لصحَّةِ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه خيَّر بَرِيرةَ إذ أعْتَقَتْها عائشةُ، بينَ المُقام معَ زوجِها، الذي كان سادتُها زوَّجوها منه في حالِ رقِّها، وبينَ فِراقِه
(2)
، ولم يَجْعَلْ صلى الله عليه وسلم عتقَ عائشةَ إيَّاها لها طلاقًا. ولو كان عتقُها وزوالُ مِلْكِ عائشةَ إِيَّاها
(1)
في ص، ت 2، ت 3، س:"نكاحا".
(2)
أخرجه البخارى (5280 - 5282)، ومسلم (1504).
لها
(1)
طلاقًا، لم يكن لتخييرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاها بينَ المُقامِ مع زوجِها والفراقِ معنًى، [ولوجَب]
(2)
بالعتقِ الفِراقُ، وبزوالِ ملكِ عائشةَ عنها الطلاقُ. فلمَّا خيَّرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَ الذي ذكَرْنا وبينَ المُقامِ مع زوجِها والفِراقِ، كان معلومًا أنه لم يُخَيِّرْ بينَ ذلك إلا والنكاحُ عقدُه ثابتٌ، كما كان قبلَ زوالِ ملكِ عائشةَ عنها، فكان نظيرًا للعتقِ - الذي هو زوالُ ملكِ مالكِ المملوكةِ ذاتِ الزوجِ عنها - البيعُ الذي هو زوالُ ملكِ مالِكها عنها؛ إذ كان أحدُهما زوالًا ببيعٍ، والآخرُ بعتقٍ، في أن الفُرْقةَ لا تجِبُ
(3)
بينَها وبينَ زوجِها بهما ولا بواحدٍ منهما، [ولا يجِبُ بهما ولا بواحدٍ منهما]
(4)
طلاقٌ
(5)
وإن اختلفا في معانٍ أُخَرَ، مِن أن لها في العتقِ الخيارَ في المُقامِ مع زوجِها والفِراقِ، لعلةٍ مفارقةٍ معنى البيعِ، وليس ذلك لها في البيعِ.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكونُ معنيًّا بالاستثناءِ مِن قولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . ما وراءَ الأربعِ مِن الخَمْسِ إلى ما فوقَهنَّ بالنكاحِ، والمنكوحاتُ به غيرُ مملوكاتٍ؟
قيل له: إن الله تعالى لم يَخُصَّ بقولِه: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . المملوكاتِ الرقابَ دونَ المملوكِ عليها بعقدِ النكاحِ أمرُها، بل عمَّ بقولِه:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . كلا المعنيينِ، أعنى ملكَ الرقبةِ وملكَ الاستمتاعِ بالنكاحِ؛ لأن جميعَ ذلك ملَكتْه أيمانُنا، أمَّا هذه فملكُ استمتاعٍ، وأمَّا هذه فملكُ استخدامٍ واستمتاعٍ وتصريفٍ فيما أُبِيح لمالِكِها منها.
(1)
بعده في ص، ت 2:"عنها".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وقد وجب".
(3)
بعده في م: "بها".
(4)
سقط من النسخ، وأثبتناه لاستقامة السياق، وينظر تعليق الشيخ شاكر.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وطلاق".
ومَن ادَّعى أن الله تبارك و تعالى عنَى بقولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . محصَنةً وغيرَ محصَنةٍ سوى مَن ذكَرْنا أولًا بالاستثناءِ بقولِه: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} - بعضَ أملاكِ أيمانِنا دونَ بعضٍ، غيرَ الذي دللْنا على أنه غيرُ معنيٍّ به، سُئِل البرهانَ على دعواه مِن أصلٍ أو نظيرٍ، فلن يقولَ في ذلك قولًا إلا أُلْزِم في الآخَرِ مثلَه.
فإن اعتلَّ معتلٌّ منهم
(1)
بحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ أن هذه الآيةَ نزَلت في سبايا أوطاسٍ، قيل له: إن سبايا أوطاسٍ لم يُوطَأْنَ بالمِلْكِ والسِّباءِ دونَ الإسلامِ؛ وذلك أنهنَّ كنَّ مشركاتٍ مِن عَبَدَةِ الأوثانِ، وقد قامت الحجةُ بأن نساءَ عبدةِ الأوثانِ لا يَحْلِلْنَ بالملكِ دونَ الإسلامِ، وأنهنَّ إذا أسلمْنَ فَرَّق الإسلامُ بينهنَّ وبينَ الأزواجِ، سبايا كنَّ أو مُهاجِراتٍ، غيرَ أنهن إذا كنَّ سبايا، حلَلْنَ إذا هنَّ أَسْلَمْنَ بالاستبراءِ، فلا حجةَ لمحتجٍّ في أن المحصَناتِ اللاتى عناهنَّ بقولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . ذواتُ الأزواجِ مِن السبايا دونَ غيرِهن، بخبرِ أبى سعيدٍ الخُدْريِّ في
(2)
أن ذلك نزَل في سبايا أوطاسٍ؛ لأنه وإن كان فيهن نزَل، فلم يَنْزِلْ في إباحةِ وطئِهِنَّ بِالسَّباءِ خاصَّةً دون غيرِه مِن المعانى التي ذكَرْنا، معَ أن الآيةَ تَنْزِلُ في معنىً، فتَعُمُّ ما نزَلت به فيه وغيرَه، فيَلْزَمُ حكمُها جميعَ ما عمَّتْه؛ لِما قد بيَّنَّا مِن القولِ في العمومِ والخصوصِ في كتابِنا "كتابِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ".
القولُ في تأويلِ قولِ اللهِ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
يعنى تعالى ذكرُه: كتابًا مِن اللهِ عليكم. فأخْرج الكتابَ مَصْدَرًا
(3)
مِن غيرِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"منكم".
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
المراد بالمصدر هنا المفعول المطلق. المصطلح النحوى ص 139.
لفظِه. وإنما جاز ذلك لأن قولَه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . إلى قولِه: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . بمعنى
(1)
: كتَب اللهُ تحريمَ ما حرَّم مِن ذلك، وتحليلَ ما حلَّل مِن ذلك عليكم، كتابًا.
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . قال: ما حرَّم عليكم
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: حدَّثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سألتُ عطاءً عنها، فقال:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . قال: هو الذي كتَب عليكم الأربعَ ألا تَزِيدوا
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن ابن عونٍ، عن محمدِ بن سِيرينَ، قال: قلتُ لعَبِيدَةَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . وأشار ابن عونٍ بأصابعِه الأربعِ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرَنا هشامٌ، عن ابن سِيرِينَ، قال: سألتُ عَبيدَةَ عن قولِه: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . قال: أربعٌ
(5)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يعني".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 917)(5118)، من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 917) عقب الأثر (5117) معلقًا.
(4)
ينظر ما تقدم في ص 565.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 917)(5117) من طريق هشام به.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : الأربعُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . قال: هذا أمرُ اللهِ عليكم. قال: يُريدُ ما حرَّم عليهم مِن هؤلاءِ، وما أحلَّ لهم. وقرَأ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} إلى آخِرِ الآيةِ. قال: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : الذي كتَبه، وأمْرُه الذي أمَرَكم به، {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: أمرُ اللهِ.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ
(2)
يَزْعُمُ أن قولَه: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . منصوبٌ على وجهِ الإغراءِ، بمعنى: عليكم كتابَ اللهِ: الْزَموا كتابَ اللهِ.
والذي قال مِن ذلك غيرُ مستفيضٍ في كلامِ العربِ، وذلك أنها لا تكادُ
(3)
تَنْصِبُ بالحرفِ الذي تُغْرِى به، [إذا أخَّرت الإغراءَ وقدَّمت المُغْرَى به]
(4)
. لا تكادُ تَقولُ: أخاك عليك، وأباك دونَك. وإن كان جائزًا.
والذي هو أَوْلَى بكتابِ اللهِ أن يكونَ محمولًا على المعروفِ مِن لسانِ مَن نزَل بلسانِه، هذا مع ما ذكَرْنَا مِن تأويلِ أهلِ التأويلِ ذلك بمعنَى ما قلناه، وخلافِ ما وجَّهه إليه مَن زعَم أنه نُصِب على وجهِ الإغراءِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 917) عقب الأثر (5117) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.
(2)
نسبه القرطبي في تفسيره (5/ 123، 124) إلى الزجاج والكوفيين. وذكره الفراء في معاني القرآن (1/ 260) ولم يذكر قائله.
(3)
سقط من النسخ، والمثبت ما يقتضيه السياق، وليوافق قول المصنف: وإن كان جائزًا.
(4)
تكملة لازمة، وينظر كلام المصنف على الإغراء في (1/ 118)، وينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: وأُحِلَّ لكم ما دونَ الخَمْسِ، أن تَبْتَغوا بأموالِكم على وجهِ النكاحِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : ما دونَ الأربع، {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}
(1)
.
حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن هشامٍ، عن ابن سِيرينَ، عن عَبِيدَةَ السَّلْمانيِّ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : يعنى ما دونَ الأربع
(2)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ؛ مَن سَمَّى لكم تحريمَه مِن أقاربِكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سألتُ عطاءً عنها، فقال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . قال: ما وراءَ ذاتِ القرابةِ، {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}
(3)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: وأُحِلَّ لكم ما وراءَ
(4)
عددِ ما أُحِلَّ لكم مِن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 918)(5123) من طريق أحمد بن المفضل به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 918)(5122) من طريق هشام به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى المصنف.
(4)
بعده في م: "ذلكم".
المحصَناتِ مِن النساءِ الحرائرِ؛ مِن
(1)
الإماءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . قال: ما ملَكت أيمانُكم
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ ما نحن مُبَيِّنوه
(3)
، وهو أن الله جلَّ ثناؤه بيَّن لعبادِه المحرَّماتِ بالنَّسَبِ والصِّهْرِ، ثم المحرَّماتِ مِن المحصَناتِ مِن النساءِ، ثم أخبرَهم جلَّ ثناؤه أنه قد أحلَّ لهم ما عدا هؤلاء المحرَّماتِ المبيَّناتِ في هاتيْن الآيَتيْنِ أن نَبْتَغِيَه بأموالِنا نكاحًا ومِلْكَ يمينٍ، لا سَفاحًا.
فإن قال قائلٌ: عرَفْنا المحلَّلاتِ اللواتى هنَّ وراءَ المحرَّماتِ بالأنسابِ والأصهارِ، فما المحلَّلاتُ مِن المحصناتِ والمحرَّماتُ منهنَّ؟
قيل: هو ما دونَ الخَمْسِ مِن واحدةٍ إلى أربعٍ - على ما ذكَرْنا عن عَبِيدَةَ والسُّدِّيِّ - مِن الحرائرِ، فأمَّا ما عدا ذواتِ الأزواجِ، فغيرُ عددٍ محصورٍ بمِلْكِ اليمينِ.
وإنما قلنا: إن ذلك كذلك؛ لأن قولَه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} عامٌّ في كلِّ مُحَلَّلٍ لنا مِن النساءِ أن نبتغِيَها بأموالِنا، فليس توجيهُ معنى ذلك إلى بعضٍ منهنَّ بأولى من بعضٍ، إلا أن تقومَ بأن ذلك كذلك حجةٌ يجِبُ التسليمُ لها، ولا حُجَّةَ بأن ذلك كذلك.
(1)
في م: "ومن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى المصنف وابن المنذر. وينظر تفسير ابن كثير (2/ 225).
(3)
في س: "نبينه".
واختلَفتِ القرأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ؛ فقرأ ذلك بعضُهم: (وأَحَلَّ لَكُمْ). بفتحِ الألفِ مِن (أَحَلَّ)
(1)
. بمعنى: كَتب اللهُ عليكم، وأحَلَّ لكم ما وراءَ ذلكم.
وقرَأه آخَرون: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
(2)
. اعتبارًا بقولِه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} - {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
قال أبو جعفرٍ: والذي نقولُ في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قَرَأَةِ الإسلامِ، غيرُ مختَلِفَتَى المعنى، فبأَيِّ ذلك قرَأ القارئُ فمصيبٌ الحقَّ.
وأمَّا معنى قولِه: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . فإنه يعنى: ما عدا هؤلاءِ اللواتي حرَّمْتُهن عليكم، {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}. يقولُ: أَن تَطْلُبُوا وتَلْتَمِسوا بأموالِكم؛ إما شراءً بها، وإما نكاحًا بصَداقٍ معلومٍ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91]. يعني: بما عداه وبما سواه.
وأمَّا موضعُ: {أَنْ} . مِن قولِه: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} . فرفعٌ؛ ترجمةً عن {مَّا} التي في قولِه: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . في قراءةِ مَن قرَأ: {وَأُحِلَّ} . بضمِّ الألفِ، ونصبٌ على ذلك في قراءةِ مَن قرَأ ذلك:(وأَحَلَّ). بفتح الألفِ. وقد يَحْتَمِلُ النصبُ في ذلك في القراءتيِن على معنى: وأحلَّ لكم ما وراءَ ذلكم لأن تَبْتَغوا. فلمَّا حُذِفتِ اللَّامُ الخافضةُ اتَّصلت بالفعلِ قبلَها فنُصِبت.
(1)
وهى قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل. السبعة لابن مجاهد ص 231.
(2)
وهى قراءة حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص. المصدر السابق، وينظر حجة القراءات ص 198.
وقد يَحْتَمِلُ أن تكونَ في موضعِ خفضٍ بهذا
(1)
المعنى، إذ كانت اللامُ في هذا الموضعِ معلومًا أن بالكلامِ إليها الحاجةَ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {مُحْصِنِينَ} : أعفَّاءَ بابتغائِكم ما وراءَ ما حُرِّم
(2)
عليكم مِن النساءِ بأموالِكم، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. يقولُ: غَيرَ مُزَانِينَ
(3)
.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مُحْصِنِينَ} . قال: متناكِحِين، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. قال: زانِينَ بكلِّ زانيةٍ
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال:{مُحْصِنِينَ} : مُتَناكِحِين، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}: السِّفاحُ الزنَى.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} . يقولُ: مُحْصِنين غيرَ زُناةٍ
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} .
(1)
في النسخ: "فهذا". والمثبت ما يستقيم به السياق.
(2)
بعده في ت 2: "الله".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"مرتابين".
(4)
تفسير مجاهد ص 272، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 918)(5125، 5127)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 139) إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 918) عقب الأثر (5128) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: فما نكَحْتُم منهنَّ فجامَعْتُموهنَّ، يعنى مِن النساءِ، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. يعنى: صَدُقاتِهنَّ فريضةً معلومةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} . يقولُ: إذا تزوَّج الرجلُ منكم المرأةَ، ثم نكَحها مرةً واحدةً، فقد وجَب صداقُها كلُّه، والاستمتاعُ هو النكاحُ، وهو قولُه:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرَنا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ في قولِه:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} . قال: هو النكاحُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} : النكاحُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} . قال: النكاحَ أراد.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَمَا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 861، 919)(4770، 5131، 5133)، والنحاس في ناسخه ص 329 من طريق عبد الله بن صالح به.
(2)
تفسير عبد الرزاق (1/ 154)، ومن طريقه النحاس في ناسخه ص 325.
(3)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 325 من طريق ابن أبي نجيح به.
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} الآية. قال: هذا النكاحُ، وما في القرآنِ إِلَّا نكاحٌ، إذا أخَذْتَها واسْتَمتعتَ بها، فأعْطِها أجرَها؛ الصداقَ، فإن وضَعَتْ لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ، فرَض اللهُ عليها العِدَّةَ، وفرَض لها الميراثَ. قال: والاسْتِمْتاعُ هو النكاحُ ههنا إذا دخَل بها
(1)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: فما تمتَّعْتُم به منهنَّ بأجرٍ تمتُّعَ اللذةِ، لا بنكاحٍ مطلقٍ على وجهِ النكاحِ الذي يكونُ بوليٍّ وشهودٍ ومهرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:(فما اسْتَمْتَعْتُم به منهنَّ إلى أجلٍ مسمًّى فآتُوهُنَّ أجورَهُنَّ فريضةً ولا جُناحَ علَيكم فِيما تراضَيْتُم به مِن بعدِ الفريضةِ): فهذه المتعةُ؛ الرجلُ يَنْكِحُ المرأةَ بشرطِ إلى أجلٍ مسمًّى، ويُشْهِدُ، شاهديْنِ، ويَنْكِحُ بإذنِ وليِّها، وإذا انْقَضت المدةُ، فليس له عليها سبيلٌ، وهى منه بَرِيَّةٌ، وعليها أن تَسْتَبْرِئَ ما في رحمِها، وليس بينَهما ميراثُ، ليس يَرِثُ واحدٌ منهما صاحبَه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} . قال: يعنى نكاحَ المتعةِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، قال: ثنا نُصَيْرُ بنُ أَبي الأشعثِ، قال: ثني ابن
(4)
حبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن أبيه، قال: أعطانى ابن عباسٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 140) إلى المصنف. وينظر تفسير ابن كثير (2/ 226).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 140) إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
سقط من: م.
مصحفًا، فقال: هذا على قراءةِ أُبَيٍّ. قال أبو كُريبٍ
(1)
: قال يحيى: فرأيتُ المصحفَ عندَ نُصيرٍ فيه: (فما اسْتَمْتَعْتُم به منهنَّ إلى أجلٍ مسمًّى).
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا داودُ، عن أبي نَضْرَةَ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن متعةِ النساءِ، قال: أمَا تَقْرَأ سورةَ "النساءِ"؟ قال: قلتُ: بلى. قال: فما تَقْرَأُ فيها: (فما اسْتَمْتَعْتُم به منهنَّ إلى أجلٍ مسمًّى)؟. قلتُ: لا، لو قرأتُها هكذا ما سألتُك. قال: فإنها كذا.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنى عبدُ الأعلى، قال: ثنى داودُ، عن أبي نَضْرَةَ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن المتعةِ. فذكَر نحوَه.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي مَسْلَمةَ
(2)
، عن أبي نَضْرَةَ، قال: قرَأتُ هذه الآيةَ على ابن عباسٍ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} . فقال ابن عباسٍ: (إلى أجلٍ مسمًّى). قال: قلتُ: ما أَقْرَؤُها كذلك. قال: واللهِ لأَنْزَلَها اللهُ كذلك. ثلاثَ مراتٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن هُبَيرةَ
(4)
، أن ابنَ عباسٍ قرَأ:(فما اسْتَمْتَعْتُم به منهنَّ إلى أَجَلٍ مسمًّى)
(5)
.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا ابن أَبي عَدِيٍّ، عن شعبةَ، وحدَّثنا خلَّادُ بنُ
(1)
في النسخ: "بكر". والمثبت هو الصواب.
(2)
في النسخ: "سلمة". والمثبت من المصاحف والمستدرك، وينظر تهذيب الكمال (11/ 114).
(3)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 81، والحاكم (2/ 305) من طريق شعبة به.
(4)
في ص، م:"عمير"، وفى ت 1، ت 2، ت 3، س:"عمر". والمثبت من المصاحف، وينظر تهذيب الكمال (30/ 150).
(5)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 81 من طريق شعبة به، وفى ص 77، 81، من طرق عن أبي إسحاق به.
أَسْلَمَ، قال: أخبرَنا النَّضْرُ، قال: أخبرَنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن ابن عباسٍ بنحوِه.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: في قراءةِ أُبَيِّ بن كعبٍ: (فما اسْتَمْتَعْتُم به منهنَّ إلى أَجَلٍ مسمًّى)
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكَمِ، قال: سألتُه عن هذه الآيةِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . إلى هذا الموضع: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} أمنسوخةٌ هي؟ قال: لا. قال الحكمُ: وقال عليٌّ رضي الله عنه: لولا أن عمرَ رضي الله عنه نهَى عن المتعةِ، ما زنَى إلا شقيٌّ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا عيسى بنُ عمرَ القارئُ الأَسَديُّ، عن عَمْرِو بن مُرَّةَ، أنه سمِع سعيدَ بنَ جُبيرٍ يَقْرَأ:(فما اسْتَمتعتم به منهنَّ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى التأويلين في ذلك بالصوابِ تأويلُ مَن تأوَّلَه: فما نَكَحْتُموه منهنَّ فجامَعْتُموه، فآتُوهُنَّ أجورَهنَّ. لقيامِ الحجةِ بتحريمِ اللهِ مُتْعَةَ النساءِ على غيرِ وجهِ النكاحِ الصحيحِ أو المِلْكِ الصحيحِ، على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن عبدِ العزيزِ بن عمرَ بن عبدِ العزيزِ، قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 140) إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 270 من طريق محمد بن المُثَنَّى به، وينظر مصنف عبد الرزاق (14029).
(3)
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 53، من طريق عيسى بن عمر به.
ثنى الربيعُ بنُ سَبْرَةَ الجُهَنِيُّ، عن أبيه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"اسْتَمْتِعوا مِن هذه النساءِ". والاستمتاعُ عندنا يومَئذٍ التزويجُ
(1)
.
وقد دَلَّلْنا على أن المتعةَ على غيرِ النكاحِ الصحيحِ حرامٌ، في غيرِ هذا الموضعِ مِن كُتُبِنا، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ.
وأمَّا ما رُوِى عن أُبَيِّ بن كعبٍ وابنِ عباسٍ مِن قراءتِهما: (فما اسْتَمْتَعتم به منهنَّ إلى أَجَلٍ مسمًّى). فقراءةٌ بخلافِ ما جاءت به مصاحفُ المسلمين، وغيرُ جائزٍ لأحدٍ أن يُلْحِقَ في كتابِ اللهِ تعالى شيئًا لم يأتِ به الخبرُ القاطعُ العذرَ عَمَّن لا يجوزُ خلافُه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)} .
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: لا حرَجَ عليكم أيُّها الأزواجُ، إن أدْرَكتكُم عُسْرَةٌ بعدَ أن فرَضْتُم لنسائِكم أجورَهُنَّ فريضةً، فيما تراضَيْتُم به مِن حطٍّ وبراءةٍ، بعد الفرضِ الذي سلَف منكم لهنَّ ما كنتم فرَضتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، قال: زعَم حَضْرَميٌّ أن رجالًا كانوا يَفْرِضون المهرَ، ثم عسى أن يُدرِكَ أحدَهم العسرةُ،
(1)
جزء من حديث طويل أخرجه أحمد (24/ 68)(15351)، وابن الجارود (699)، وابن حبان (4147) من طريق وكيع به. وأخرجه مسلم (1406/ 21)، وابن ماجه (1962) من طريق عبد العزيز به.
فقال اللهُ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جُناحَ عليكم أيُّها الناسُ فيما تراضَيتُم أنتم والنساءُ اللواتى اسْتَمْتَعْتُم بهنَّ إلى أجَلٍ مسمًّى، إذا انْقَضى الأجلُ الذي أجَّلْتموه بينَكم وبينهنَّ في الفراقِ، أَن يَزِدْنَكم
(2)
في الأجلِ، وتَزِيدوا مِن الأجرِ والفريضةِ، قبلَ أَن يَسْتَبْرِئْنَ أرحامَهنَّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} : إن شاء أرضاها مِن بعدِ الفريضةِ الأُولَى - يعنى الأجرةَ التي أعطاها على تمتُّعِه بها - قبلَ انقضاءِ الأجلِ بينَهما، فقال: أَتَمَتَّعُ منكِ أيضًا بكذا وكذا، فازداد قبلَ أن يَسْتَبْرِئَ رحِمَها، ثم تَنْقَضِى المُدَّةُ، وهو قولُه:{فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}
(3)
.
وقال آخَرون: معنى ذلك: ولا جُناحَ عليكم أيُّها الناسُ فيما تراضَيْتُم به أنتم ونساؤُكم بعدَ أن تُؤتُوهُنَّ أجورَهنَّ على استِمْتاعِكم بهنَّ مِن مُقامٍ وفراقٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى المصنف.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يزيدوكم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى المصنف.
مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}: والتراضى أن يُوَفِّيَها صداقَها ثم يُخَيِّرَها
(1)
.
وقال آخَرون: بل معنى ذلك: ولا جُناحَ عليكم فيما وضَعتْ عنكم نساؤكم مِن صدُقاتِهنَّ مِن بعدِ الفريضةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} . قال: إن وضَعتُ لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: ولا حرجَ عليكم أيُّها الناسُ، فيما تَراضَيْتُم به أنتم ونساؤُكم، مِن بعدِ إعطائِهنَّ أجورَهُنَّ على النكاحِ الذي جرَى بينَكم وبينهنَّ، مِن حطِّ ما وجَب لهنَّ عليكم، أو إبراءٍ، أو تأخيرٍ ووضعٍ. وذلك نظيرُ قولِه جلَّ ثناؤه:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . فأمَّا الذي قاله السُّدِّيُّ فقولٌ لا معنى له؛ لفسادِ القولِ بإحلالِ جماعِ امرأةٍ بغير نكاحٍ ولا ملكِ يمينٍ.
وأمَّا قولُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، فإنه يعنى: إن الله كان ذا علمٍ بما يُصْلِحُكم أيُّها الناسُ، في مناكحِكم وغيرِها مِن أمورِكم وأمورِ سائرِ خلقِه، بما يُدَبِّرُ لكم ولهم مِن التدبيرِ، وفيما يأمرُكم وينهاكم، لا يَدْخُلُ حكمتَه خَلَلٌ ولا زَلَلٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الطَّوْلِ الذي ذكَره اللهُ تعالى في هذه الآيةِ؛ فقال
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 920)(5136) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى ابن المنذر والنحاس في ناسخه.
(2)
جزء من الأثر المتقدم ص 585، 586 وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى المصنف.
بعضهُم: هو الفضلُ والمالُ والسَّعَةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عَمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} . قال: الغِنَى.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} . يقولُ: مَن لم يكنْ له سَعَةٌ
(2)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} . يقولُ: من لم يَسْتَطِعْ منكم سَعَةً
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: ثنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ قولَه:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} . قال: الطولُ الغِنَى
(4)
.
حدَّثنا المُثَنَّى
(5)
، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، قال:
(1)
تفسير مجاهد ص 272، ومن طريقه البيهقى (7/ 174)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 142) إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 920)(5139)، والبيهقى (7/ 173) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى ابن المنذر.
(3)
ينظر التبيان (3/ 168).
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (728)، (617 - تفسير)، والبيهقى (7/ 174) من طريق هشيم به.
(5)
في م: "ابن المُثَنَّى"، وهو خطأ، وسيأتي على الصواب في الصفحة التالية.
أخبَرنا هُشَيْمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِه:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} . قال: الطَّوْلُ السَّعَةُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} : أمَّا قولُه: {طَوْلًا} . فَسَعةٌ مِن المالِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية. قال: {طَوْلًا} : لا يَجِدُ ما يَنْكِحُ به حُرَّةً
(2)
.
وقال آخرون: معنى الطَّوْلِ في هذا الموضعِ، الهَوَى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: ثنى عبدُ الجبَّارِ بنُ عمرَ
(3)
، عن رَبيعةَ، أنه قال في قولِ اللهِ:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} . قال: الطَّوْلُ الهَوَى. قال: يَنكِحُ الأَمَةَ إذا كان هَوَاهُ فيها
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: كان رَبيعةُ يُلَيِّنُ فيه بعضَ التَّلْبِينِ، كان يقولُ: إذا خَشِى على نفسِه إذا أحَبَّها - أي الأمةَ - وإن كان يَقْدِرُ على نِكاحِ غيرِها، فإني أرَى أن يَنْكِحَها.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابن المباركِ، قال: أخبرَنا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 920) عقب الأثر (5139) من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به.
(2)
ينظر التبيان (3/ 168).
(3)
في النسخ: "عمرو". وهو عبد الجبار بن عمر الأيلى أبو عمر. ينظر تهذيب الكمال (16/ 388).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 920)(5140) من طريق ابن وهب به.
حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن أبي الزُّبيرِ، عن جابرٍ، أنه سُئِل عن الحُرِّ يَتزوَّجُ الأمةَ، فقال: إن كان ذا طَوْلٍ فلا. قيل: إن وَقَع حُبُّ الأَمَةِ في نفسِه؟ قال: إِن خَشِي العَنَتَ فلْيَتَزَوَّجُها
(1)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن عُبَيدةَ، عن الشَّعْبيِّ، قال: لا يَتَزَوَّجُ الحرُّ الأمةَ إلا أن لا يَجِدَ. وكان إبراهيمُ يقولُ: لا بأسَ به
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابن المباركِ، قال: أخبرَنا ابن جُرَيجٍ، قال: سمِعتُ عطاءً يقولُ: لا نَكْرَهُ
(3)
أن يَنْكِحَ ذو اليَسارِ اليومَ
(4)
الأَمَةَ إِذا خَشِي أَن يَشْقَى
(5)
بها.
قال أبو جعفرٍ: وأَولى القولَين في ذلك بالصوابِ، قولُ مَن قال: معنى الطَّوْلِ في هذا الموضعِ، السَّعَةُ والغِنى من المالِ؛ لإجماعِ الجميعِ على أن الله تبارك وتعالى لم يُحَرِّمْ شيئًا من الأشياءِ، سوى نكاحِ الإماءِ لِوَاجِدِ الطَّوْلِ إلى الحُرَّةِ، فأَحَلَّ ما حَرَّم من ذلك عندَ غَلَبَةِ
(6)
المُحَرَّمِ عليه له، لقضاءِ لَذَّةٍ. فإذ كان ذلك إجماعًا من الجميعِ فيما عَدا نكاحِ الإماءِ لِواجِدِ الطَّوْلِ، فمِثْلُه في التحريمِ نكاحُ الإماءِ لِواجِدِ الطَّوْلِ؛ لا يَحِلُّ له مِن أجلِ غَلَبةِ هوًى عندَه
(7)
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 142) إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (737) من طريق آخر عن الشعبي بمعناه، دون قول إبراهيم.
(3)
في ص، س:"يكره".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م، ت 2، س:"يسعى"
(6)
في م: "غلبته".
(7)
في م: "سره"، وفى ص، ت 1، ت 2، س "غيره". والمثبت هو الصواب.
فيها؛ لأن ذلك - مع وجودِه الطولَ إلى الحُرَّةِ - منه قَضاءُ لَذَّةٍ وشَهْوةٍ، وليس بمَوضعِ ضَرورةٍ [تُرْفَعُ برُخْصَةٍ]
(1)
، كالميتِة للمُضطرِّ الذي يَخافُ هلاكَ نفسِه، فيَتَرَخَّصُ في أكِلها ليُحْيِيَ بها نفسَه، وما أشْبَهَ ذلك من المُحَرَّماتِ اللواتى رَخَّص اللهُ لعبادِه في حالِ الضرورةِ والخوفِ على أنفسِهم الهلاكَ منه، ما حَرَّم عليهم منها في غيرِها من الأحوالِ، ولم يُرَخَّصِ اللهُ تبارك وتعالى لعبدٍ في حرامٍ لقضاءِ لَذَّةٍ.
وفي إجماعِ الجميعِ على أن رجلًا لو غَلَبه هوى امرأةٍ حرةٍ أو أمَةٍ
(2)
، أنها لا تَحِلُّ له إلا بنكاحٍ، أو شراءٍ على ما أَذِنَ اللهُ به، ما يُوضِّحُ فسادَ قولِ مَن قال: معنى الطَّوْلِ في هذا الموضعِ، الهَوَى. وأجاز لِواجِدِ الطَّوْلِ لحُرَّةٍ نِكَاحَ الإماءِ.
فتأويلُ الآيةِ، إذْ كان الأمرُ على ما وَصَفْنا: ومَن لم يَجِدْ منكم سَعَةً من مالٍ لِنكاحِ الحَرائرِ، فلْيَنكِحْ مما مَلَكَت أيمانُكم.
وأصلُ الطَّوْلِ: الإفضالُ. يقالُ منه: طالَ عليه يَطُولُ طَوْلًا. في الإفضالِ. وطالَ يَطولُ طُولًا. في الطُّولِ الذي هو خلافُ القِصَرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .
يعنى بذلك: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ} أَيُّها الناسُ {طَوْلًا} يعنى: من الأحرارِ، {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} وهنَّ الحَرَائرُ المؤمناتُ اللواتي قد صَدَّقْن بتوحيدِ اللهِ وبما جاء به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الحقِّ.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"تدفع ترخصه"، وفى ت 1:"برفع يرخصه"، وفى س:"تدفع برخصة".
(2)
في م: "امرأة".
وبنحوِ ما قلنا في المُحصناتِ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللِه بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} . يقولُ: أن يَنكِحَ الحَرائرَ، فلْيَنْكِحْ مِن إماءِ المؤمنين
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: المُحصناتُ الحَرَائرُ، فَلْيَنْكِحِ الأَمَةَ المؤمنةَ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أمَّا {فَتَيَاتِكُمُ} ، فإماؤُكم
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: أخبرَنا هُشَيمٌ، قال: أخبرَنا أبو بِشْرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ:{أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . قال: أما مَن لم يَجِدْ ما يَنْكِحُ به
(4)
الحُرَّةَ؛ تَزَوَّجَ
(5)
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 920، 921)(5141، 5145)، والبيهقى (7/ 173) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 141) إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 272، ومن طريقه البيهقى (7/ 174).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 921) عقب الأثر (5145) من طريق أسباط به.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س. والمثبت موافق لما في مصادر التخريج.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"فيتزوج".
الأَمَةَ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . قال: لا
(2)
يَجِدُ ما يَنْكِحُ به حُرَّةً، فيَنكِحُ هذه الأمَةَ، فيَتَعَفَّفُ بها، ويَكفِيه أهلُها مُؤْنتَها، ولم يُحِلُّ اللهُ ذلك لأحدٍ إلَّا أَلَّا
(3)
يَجِدَ ما يَنْكِحُ به حُرَّةً ويُنفِقُ عليها، ولم يُحِلَّ له حتى يَخْشَى العَنَتَ.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبرَنا ابن المباركِ، قال: أخبرَنا سُفيانُ، عن هشامٍ الدَّسْتُوائيِّ، عن عامرٍ الأحْوَلِ، عن الحسنِ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهَى أن تُنْكَحَ الأَمَةُ على الحُرَّةِ، وتُنْكَحَ الحُرَّةُ على الأَمَةِ، ومَن وجَد طَوْلًا لحُرَّةٍ، فلا يَنْكِحْ أَمَةً
(4)
.
واختَلَفتِ القَرأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأَته جماعةٌ مِن قرأَةِ الكوفيين والمَكِّيين: (أن يَنكِحَ المُحْصِنَاتِ) بكسر الصادِ
(5)
مع سائرِ ما في القرآنِ من نظائرِ ذلك سوى قولِه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. فإنهم فَتحوا الصادَ منها، وَوَجَّهوا تأويلَه إلى أنهن مُحْصَناتٌ بأزواجِهن، وأن أزواجَهن هم
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (728)، (617 - تفسير)، والبيهقى (7/ 174) من طريق هشيم به، وهو تتمة الأثر السابق تخريجه ص 592.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"من لم".
(3)
في م: "لمن لا"، وسقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه البيهقى (7/ 175) من طريق هشام عن عاصم به، وابن أبي شيبة (4/ 148) من طريق هشام عن رجل عنه به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13099، 13101)، وسعيد بن منصور في سننه (741)، والبيهقى (7/ 175) من طرق عن الحسن به.
(5)
وهى قراءة الكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 230.
أحْصَنوهنَّ. وأما سائرُ ما في القرآنِ، فإنهم تَأَوَّلوا في كسرِهم الصادَ منه إلى أن النساءَ هنَّ أَحصَنَّ أَنفُسَهن بالعفةِ.
وقرَأَت عامةُ قَرَأَةِ المدينةِ والعراقِ ذلك كلَّه بالفتحِ
(1)
، بمعنى أن بعضَهن أحصنَهنَّ أزواجُهن، وبعضَهن أحصَنَهنَّ حُرِّيَّتُهن أو إسلامُهن.
وقرَأ بعضُ المُتقدِّمِين كلَّ ذلك بالكسرِ، بمعنى أنهن عَفَفْنَ وأَحصَنَّ أَنفسَهنَّ.
وذُكِرَت هذه القراءةُ - أعنى بكسرِ الجميعِ - عن عَلْقمةَ، على اختلافٍ
(2)
في الروايةِ عنه
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ عندَنا من القولِ في ذلك أنهما قراءتان مُسْتَفِيضَتان في قرأةِ الأمصارِ مع اتفاقِ ذلك في المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ، إلا في الحرفِ الأولِ مِن سورةِ "النساءِ"، وهو قولُه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . فإني لا أستَجِيزُ الكسرَ في صادِه؛ لاتِّفَاقِ قَرَأَةِ الأمصارِ على فتحِها، ولو كانت القراءةُ بكسرِها مُسْتفيضةً استفاضَتَها بفتحِها، كان صوابًا القراءةُ بها كذلك، لِما ذكَرْنا من تَصَرُّفِ الإحصانِ في المعاني التي بَيَّنَّاها، فيكونُ معني ذلك لو كُسِر: والعَفائفُ من النساءِ حرامٌ عليكم، إلا ما ملكَت أيمانُكم. بمعنى أنهنَّ أَحْصَنَّ أنفسَهنَّ بالعِفَّةِ.
وأما الفتياتُ، فإنهن جمعُ فتاةٍ، وهنَّ الشَّوَابُّ من النساءِ، ثم يقالُ لكلِّ مملوكةٍ ذاتِ سِنٍّ أو شَابَّةٍ: فتاةٌ. والعبدُ: فَتًى.
ثم اخْتَلف أهلُ العلمِ في نكاحِ الفَتَياتِ غيرِ المؤمناتِ، وهل عنَى اللهُ بقولِه:
(1)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة. المصدر السابق.
(2)
في م: "الاختلاف".
(3)
ذكر أبو حيان في البحر المحيط (3/ 214) أن قراءة علقمة بفتح الصاد.
{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . تحريمَ ما عدا المؤمناتِ مِنهنَّ، أم ذلك مِن اللهِ تأديبٌ للمؤمنين؟ فقال بعضُهم: ذلك مِن اللهِ تعالى ذكرُه دَلالةٌ على تَحريمِ نِكاحِ إماءِ المشركين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: أخبرَنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . قال: لا يَنْبغِى أَن يَتزوَّجَ مملوكةً نَصْرانيةً.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . قال: لا ينبغى للحُرِّ المسلمِ أن يَنْكِحَ المملوكةَ مِن أهلِ الكتابِ
(1)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: سمِعتُ أبا عمرٍو، و
(2)
وسعيدَ بنَ عبدِ العزيزِ، ومالكَ بنَ أنسٍ، [وأبا بكرِ]
(3)
بنَ عبدِ اللهِ ابن أبي مريمَ يقولون: لا يَحِلُّ لحُرٍّ مسلمٍ ولا لعبدٍ مسلمٍ، الأَمَةُ النصرانيةُ؛ لأَنَّ الله يقولُ:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . يعنى بالنكاحِ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 160) عن وكيع به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13106)، وسعيد بن منصور في سننه (619 - تفسير)، والبيهقى (7/ 177) من طريق سفيان الثورى به.
(2)
سقط من النسخ، وينظر تهذيب الكمال (17/ 307)، (10/ 539).
(3)
في النسخ: "ومالك". وهو أبو بكر بن عبد الله الغساني الشامي. ينظر تهذيب الكمال (33/ 108).
(4)
ذكَر قولَ مالك والأوزاعى ابن عبد البر في الاستذكار (16/ 262، 264)(24365، 24367، 24376)، وذكَر الطوسى قولَ مالك وسعيد وأبي بكر في التبيان (3/ 169).
وقال آخرون: ذلك من اللهِ على الإرشادِ والنَّدْبِ، لا على التحريمِ. وممن قال ذلك جماعةٌ من أهلِ العراقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ
(1)
، عن مُغِيرةَ، قال: قال أبو مَيسرةَ: إماءُ
(2)
أهلِ الكتابِ بمنزلةِ الحَرائرِ
(3)
.
ومنهم أبو حنيفةَ وأصحابُه
(4)
، واعْتَلُّوا لقولِهم بقولِ اللهِ:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]. قالوا: فقد أحَلَّ اللهُ محصَناتِ أهلِ الكتابِ عامًّا، فليس لأحدٍ أن يَخُصَّ منهن أَمَةً ولا حُرَّةً. قالوا: ومعنى قولِه: {فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} : غيرَ المشركاتِ مِن عَبدَةِ الأوثانِ.
قال أبو جعفرٍ: وأَولى القولَين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: هو دَلالةٌ على تَحريمِ نِكاحِ إِماءِ أهلِ الكتابِ، فإنهن لا يَحْلِلْنَ إلا بملْكِ اليَمينِ، وذلك أن الله، جلَّ ثناؤه، أحَلَّ نِكَاحَ الإماءِ بشروطٍ، فما لم تَجْتَمِعِ الشروطُ التي سَمَّاهُنَّ
(5)
فيهن، فغيرُ جائزٍ لمسلمٍ نِكاحُهنَّ.
(1)
بعده في م: "عن منصور".
(2)
في م: "أما".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 160) عن جرير به.
(4)
ينظر الحجة لمحمد بن الحسن (3/ 337)، (349 - 355).
(5)
في م: "سماها".
فإن قال قائلٌ: فإن الآيةَ التي في "المائدةِ" تَدُلُّ على إباحتِهنَّ بالنكاحِ.
قيل: إن التي في "المائدةِ" قد أبان أن حكمَها في خاصٍّ مِن مُحْصناتِهم، وأنها مَعْنِيٌّ بها حرائرُهم دونَ إمائِهم، قولُه:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . وليست إحدى الآيتين دافعًا
(1)
حكمُها حكمَ الأخرى، بل إحداهما مُبَيِّنَةٌ حكمَ الأخرى، وإنما تكونُ إحداهما دافعةً حكمَ الأخرى، لو لم يكنْ جائزًا اجتماعُ حُكْمَيْهما على صحةٍ .. فأمَّا وهما جائزٌ اجتماعُ حُكْمَيْهما
(2)
على الصحةِ، فغيرُ جائزٍ أن يُحْكَمَ لإحداهما بأنها دافِعةٌ حكمَ الأخرى، إلا بحُجَّةٍ يجبُ التسليمُ لها من خبرٍ أو قياسٍ، ولا خبرَ بذلك ولا قياسَ، والآيةُ مُحتَمِلةٌ ما قلنا: والمَحصَناتُ من حَرائرِ الذين أوتوا الكتابَ من قَبْلِكم دونَ إمائِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} .
وهذا من المُؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ.
وتأويلُ ذلك: ومَن لم يَسْتَطِعْ منكم طَوْلًا أن يَنكِحَ المحصناتِ المؤمناتِ، فمما مَلَكَت أيمانُكم من فَتياتِكم المؤمناتِ، فلْيَنْكِحْ بعضُكم من بعضٍ. بمعنى: فلْيَنْكِحْ هذا فتاةَ هذا. فـ "البعضُ" مرفوعٌ بتأويلِ الكلامِ ومعناه؛ إذ كان قولُه: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، في تأويلِ: فليَنكِحْ مما مَلَكَت أيمانُكم. ثم رُدَّ {بَعْضُكُمْ} على ذلك المعنى فرُفِع.
ثم قال جلّ ثناؤه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} . أي: واللهُ أعلمُ بِإِيمانِ مَن آمَن منكم باللهِ ورسولِه، وما جاء به من عندِ اللهِ، فصَدَّق بذلك كلِّه، منكم.
(1)
في م: "دافعة".
(2)
في النسخ: "حكمهما". والمثبت ما تستقيم به العبارة مع سابقتها.
يقولُ: فليَنكِحْ مَن لم يَسْتَطِعْ منكم طَوْلًا لحرةٍ، مِن فَتياتِكم المؤمناتِ، ليَنكِحْ هذا المُقْتِرُ الذي لا يَجِدُ طَوْلًا لحرَّةٍ، من هذا المُوسِرِ فتاتَه المؤمنةَ التي قد أبْدَتِ الإيمانَ فأَظْهَرَتْه، وكِلُوا سَرائرَهُنَّ إِلى اللهِ، فإِنَّ عِلْمَ ذلك إلى اللهِ دونَكم، واللهُ أعلمَ بسَرائرِكم وسَرائرِهنَّ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
يعنى بقولِه جلَّ ثناؤه: {فَانْكِحُوهُنَّ} : فتَزَوَّجوهنَّ، وبقولِه:{بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} : بإذن أرْبابِهنَّ وأمرِهم إيَّاكم بنِكاحِهنَّ ورضاهم. ويعنى بقولِه: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} : وأعطُوهنَّ مُهورَهنَّ.
كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . قال: الصَّداقُ. ويعنى بقولِه: {بِالْمَعْرُوفِ} : على ما تَراضَيْتم به مما أحَلَّ اللهُ لكم، وأباحَه لكم أن تجعَلوه مُهورًا لهن.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} .
يعني بقولِه: {مُحْصَنَاتٍ} : عفيفاتٍ، {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}: غيرَ مُزانِياتٍ، {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}. يقولُ: ولا مُتَّخِذاتِ أصدقاءَ على السِّفاحِ.
وذُكِر أن ذلك قيل كذلك؛ لأن الزَّوَانيَ كُنَّ في الجاهليةِ في العربِ، المُعلِناتِ بالزِّنى. والمُتَّخِذات الأخدانِ: اللواتى قد حَبَسْن أنفسَهن على الخليلِ والصديقِ،
للفجورِ بها سِرًّا دونَ الإعلانِ بذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} . يعني: تَنْكِحُوهُنَّ عَفَائفَ غَيرَ زَوَانٍ
(1)
في سِرٍّ ولا علانيةٍ. {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} . يعنى: أخِلَّاءَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} : المُسافِحاتُ المُعالِناتُ
(3)
بالزِّنى، {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فذاتُ الخليلِ الواحدِ. قال: كان أهلُ الجاهليةِ يُحَرِّمون ما ظهَر مِن الزِّنى، ويَسْتَحِلُّون ما خَفِي، يقولون: أما ما ظهَر منه فهو لُؤْمٌ، وأما ما خَفِى فلا بأسَ بذلك. فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
(4)
[الأنعام: 151].
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعْتَمِرٌ، قال: سمِعتُ داودَ يُحدِّثُ عن عامرٍ، قال: الزِّنى زِناءَانِ؛ تَزْنى بالخِدْنِ ولا تَزْنى بغيرِه، وتكونُ المرأةُ سَوْمًا
(5)
.
(1)
في م: "زواني".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 922)(5152، 5153، 5155) من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
في ص: "المعاليات"، وفى س:"العالنات".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 142) إلى المصنف.
(5)
في م: "شؤما"، وفى س:"شوما". والسوم: عَرْضُ السلعة على البيع. وقال شمر: ساموهم: أرادوهم به، وقيل: عرضوا عليهم. لسان العرب (س و م).
ثم قرَأ: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} .
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما المُحصناتُ فالعَفائفُ، فليَنْكِحِ الأَمَةَ بإذنِ أهلِها مُحصَنةً - والمُحصَناتُ العَفائفُ - غيرَ مُسافِحةٍ - والمُسافِحَةُ المُعَالِنَةُ بالزِّني - ولا مُتَّخِذَةً صديقًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} . قال: الخَليلَةُ يَتَّخِذُها الرجلُ، والمرأةُ تَتخِذُ الخليلَ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} : المُسافِحَةُ: البَغِيُّ التي تُؤاجِرُ نفسَها مَن عرَض لها، وذاتُ الخِدْنِ: ذاتُ الخليلِ الواحدِ، فنَهاهم اللهُ عن نكاحِهما جميعًا.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضَّحاكَ بنَ مُزاحِمٍ يقولُ في قولِه: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} : أما المُحصَناتُ فَهُنَّ الحَرَائرُ، يقولُ: تَزَوَّجْ حُرَّةً. وأما المُسافِحاتُ [فهُنَّ المُعلنِاتُ]
(3)
بغيرِ مَهْرٍ، وأما مُتَّخِذَاتُ أخدانٍ فذاتُ الخليلِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 921، 922)(5142، 5149، 5154) من طريق أحمد بن المفضل به.
(2)
تفسير مجاهد ص 272.
(3)
في ص، ت 2:"فهى المعالنة"، وفى س:"فهي المبالغة".
الواحدِ المُسْتَسِرَّةُ به، نهَى اللهُ عن ذلك
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أَخبَرَنا إِسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن الشعبيِّ، قال: الزِّنا وَجْهان قَبيحان، أحدُهما أخبَثُ من الآخرِ؛ فأما الذي هو أخبَثُهما، فالمُسافِحةُ التي تَفْجُرُ بَمن أتاها، وأما الآخرُ: فذاتُ الخِدْنِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} . قال: المُسافِحُ الذي يَلْقَى المرأةَ فيَفجُرُ بها، ثم يَذهَبُ وتذهَبُ، والمُخادِنُ
(2)
الذي يُقِيمُ معها على معصيةِ اللهِ وتُقِيمُ معه؛ فذاك الأخْدانُ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} .
اخْتَلفتِ القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك
(3)
، فقرَأه بعضُهم:(فَإِذَا أَحْصَنَّ). بفتحِ الأَلِفِ، بمعنى: إِذا أَسْلَمْنَ، فصِرْنَ ممنوعاتِ الفُروجِ من الحرامِ بالإسلامِ.
وقرَأه آخرون: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، بمعنى: فإِذا تَزَوَّجْنَ، فصِرْنَ ممنوعاتِ الفُروجِ من الحرامِ بالأزواجِ.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أنهما قِراءتان مَعْروفَتان مُسْتَفيضَتان في أمصارِ الإسلامِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصِيبٌ في قراءتِه الصوابَ.
فإن ظَنَّ ظَانٌّ أن ما قلنا في ذلك غيرُ جائزٍ؛ إذ كانتا مُخْتَلِفَتَي المعنى، وإنما تجوزُ
(1)
أخرج ابن أبي حاتم بعضه في تفسيره (3/ 923)(5156) من طريق أبي معاذ به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الأخدان".
(3)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {أُحْصِنَّ} مضمومة الألف. وقرأ الكسائي وحمزة (أَحْصَنَّ) مفتوحة الألف. واختُلف عن عاصم فروى عنه حفص {أُحْصِنَّ} مضمومة. وروى عنه المفضل وأبو بكر (أَحْصَنّ) بالفتح. ينظر السبعة في القراءات ص 230، 231، وحجة القراءات ص 198.
القراءةُ بالوجهين فيما اتفَقَت عليه المعانى، فقد أغْفَل، وذلك أن مَعْنَيَىْ ذلك وإن اختَلَفا، فغيرُ دافعٍ أحدُهما صاحبَه؛ لأن الله قد أوجَب على الأَمَةِ ذاتِ الإسلامِ وغيرِ ذاتِ الإسلامِ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، الحَدَّ.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فلْيَجْلِدُها، كتابَ اللهِ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن عادَت فلْيَضْرِبْها، كتابَ اللهِ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن عادَت فليَضْربْها، كتابَ اللهِ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زَنَتِ الرابعةَ فليَضْرِبْها، كتابَ اللهِ، ولْتَبِعْها ولو بحبلٍ من شَعَرٍ"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَقِيموا الحدودَ على ما مَلَكَت أيمانُكم"
(2)
.
فلم يَخْصُصْ بذلك ذاتَ زوجٍ منهن، ولا غيرَ ذاتِ زوجٍ، فالحدودُ واجبةٌ على مَوالى الإماءِ إقامتُها عليهن - إذا فَجَرْنَ - بكتابِ اللهِ وأمرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ فيما حَدَّثكم به ابن بَشَّارٍ قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا مالكُ بنُ أنسٍ، عن الزهريِّ، عن عُبَيدِ اللهِ بن عبدِ اللهِ، عن أبي هُريرةَ وزيدِ بن خالدٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الأَمةِ تَزْنى ولم تُحْصَنْ، قال:"اجْلِدُها، فإن زَنَتْ فاجْلِدْها، فإن زَنَتْ فاجْلِدْها، فإن زَنَتْ - فقال في الثالثةِ أو الرابعةِ - فبِعْها ولو بضَفِيرٍ"
(3)
. والضَّفِيرُ الشَّعَرُ.
(1)
أخرجه البخارى (2152)، ومسلم (1703)، والنسائى في الكبرى (7245) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 138)(736)، وأبو داود (4473)، والنسائى في الكبرى (7239، 7268، 7269) وغيرهم من حديث على بن أبي طالب.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 826، 827)، ومن طريقه البخارى (2153، 2154)، ومسلم (1704/ 33).
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن عُيَينةَ، عن الزهريِّ، عن عُبَيدِ اللهِ بن عبدِ اللهِ، عن أبي هُريرةَ وزيدِ بن خالدٍ
(1)
، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِل
(2)
. فذكر نحوَه
(3)
.
فقد بَيَّنَ أن الحَدَّ الذي وجَب إقامتُه بسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الإماءِ، هو ما كان قبلَ إحصانِهنَّ، فأما ما وجَب من ذلك عليهنَّ بالكتابِ، فبعدَ إحصانِهنَّ.
قيل له: قد بَيَّنَّا أن أحدَ معاني الإحصانِ الإسلامُ، وأن الآخَرَ منه: التزويجُ، وأن الإحصانَ كلمةٌ تَشْتَمِلُ على معانٍ شَتَّى، وليس في روايةِ مَن رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الأمةِ تَزْنى قبلَ أن تُحْصَنَ، بيانُ أن التي سُئِل عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، هي التي تَزْني قبلَ التزويجِ، فيكونَ ذلك حُجَّةٌ لمُحْتَجٍّ في أن الإحصانَ الذي سَنَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّ الإماءِ في الزِّنى هو الإسلامُ دونَ التزويجِ، ولا أنه هو التزويجُ دونَ الإسلامِ.
وإذ كان لا بيانَ في ذلك، فالصوابُ من القولِ أن كلَّ مملوكةٍ زَنَتْ، فواجِبٌ على مَولاها إقامةُ الحَدِّ عليها، مُتروِّجَةً كانت أو غيرَ مُتَزَوِّجَةٍ، بظاهرِ
(4)
كتابِ اللهِ والثابتِ من سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا مَن أَخْرَجه مِن وجوبِ الحدِّ عليه مِنهنَّ بما يَجِبُ التسليمُ له، وإذ كان ذلك كذلك، تَبَيَّن به صحةُ ما اخْتَرنا من القراءةِ
(5)
في قولِه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} .
فإِن ظَنَّ ظانٌّ أن في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ
(1)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وسئل".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
أخرجه البخاري (2555، 2556) من طريق سفيان بن عيينة به.
(4)
في م: "لظاهر".
(5)
كذا قال المصنف، وهو لم يختر قراءة من القراءتين - كما سبق - بل الصواب عنده أنهما قراءتان صواب.
يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}. دَلالةً على أن قولَه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} . معناه تَزَوَّجْن، إذ كان ذكرُ ذلك بعدَ وَصْفِهنَّ بالإيمانِ بقولِه:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، وحَسِبَ أن ذلك لا يَحْتَمِلُ معنًى غيرَ معنى التَّزْويجِ، مع ما تَقدَّم ذلك مِن وَصْفِهِنَّ بالإيمانِ - فقد ظَنَّ خطأً؛ وذلك أنه غيرُ مستحيلٍ في الكلامِ أن يكونَ معنى ذلك: ومَن لم يَسْتطِعْ منكم طَوْلًا أن يَنْكِحَ المُحصَناتِ المؤمناتِ فمما مَلَكَت أيمانُكم من فُتياتِكم المؤمِناتِ، فإِذا هُنَّ آمَنَّ، فإن أتَينَ بفاحشةٍ، فعليهنَّ نصفُ ما على المُحْصناتِ مِن العذابِ. فيكونُ الخبرُ مُبْتَدَأَ
(1)
عما يَجِبُ عليهنَّ من الحَدِّ إذا أَتَيَن بفاحشةٍ بعدَ إيمانِهنَّ، بعدَ البَيانِ عما لا يجوزُ لناكِحِهنَّ من المؤمنين من نِكَاحِهنَّ، وعمَّن يجوزُ نِكاحُه له مِنهنَّ.
فإذْ كان ذلك غيرَ مُسْتحيلٍ في الكلامِ، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ صَرْفُ معناه إلى أنه التَّزْويجُ دونَ الإسلامِ؛ من أجلِ ما تَقدَّم مِن وَصْفِ اللهِ إياهنَّ بالإيمانِ.
غيرَ أن الذي نختارُ لمن قرَأ: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} بِفَتْحِ الصادِ في هذا الموضعِ، أن يقرَأ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} . بضَمِّ الأَلِفِ. ولَمَن قرأ: (مُحْصِناتٍ) بكسرِ الصادِ فيه، أن يَقْرَأَ:(فإذا أَحْصَنَّ) بفتحِ الألِفِ؛ لتَأْتَلِفَ قراءةُ القارئَ على معنًى واحدٍ وسياقٍ واحدٍ؛ لقُرْبِ قولِه: (مُحصِناتٍ). من قولِه: (فإذا أَحْصَنَّ). ولو خالَف مِن ذلك لم يكنْ لَحْنًا، غيرَ أن وَجْهَ القراءةِ ما وصَفتُ.
وقد اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك نظيرَ اختلافِ القَرَأةِ في قراءتِه؛ فقال بعضُهم: معنى قولِه: (فَإِذَا أَحْصَنَّ): فإِذا أَسْلَمْنَ.
(1)
في م: "بيانا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ، عن سعيدِ، عن
(1)
أبي مَعْشرٍ، عن إبراهيمَ، أن ابنَ مسعودٍ، قال: إسلامُها إحصانُها
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبَرني جَريرُ بنُ حازمٍ، أن سليمانَ بنَ مِهْرانَ حَدَّثه عن إبراهيمَ بن يَزِيدَ، عن هَمَّامٍ بن الحارثِ، [عن عمروِ بن شرحبيلَ]
(3)
أن مَعْقِلَ
(4)
بنَ مُقَرْنٍ سأل عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، فقال: أَمَتِي زَنَتْ. فقال: اجلِدْها خمسين جلدةً. قال: إنها لم تُحْصَنْ. فقال ابن مسعودٍ: إحصانُها إسلامُها
(5)
.
حدَّثنا ابن بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حَمَّادٍ، عن إبراهيمَ، أن معقلَ
(6)
بنَ مُقَرِّنٍ سأل ابنَ مسعودٍ عن أَمَةٍ زَنَتْ وليس لها زوجٌ، فقال: إسلامُها إحصانُها
(7)
.
(1)
في النسخ: "بن". وينظر تهذيب الكمال (11/ 5، 9/ 504).
(2)
أخرجه الطحاوى في شرح مشكل الآثار (9/ 345) عقب حديث (3727) من طريق سعيد بن أبي عروبة به. وأيضًا في (9/ 346) من طريق أبي معشر به بنحوه.
(3)
سقط من النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.
(4)
في النسخ: "النعمان بن عبد الله". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر الإصابة (6/ 183، 184).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 514، 540) من طريق الأعمش به، وسعيد بن منصور في سننه (773 - تفسير)، والطبراني (9692)، والبيهقى (8/ 243) من طريق إبراهيم به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (774 - تفسير) من طريق إبراهيم النخعى عن همام دون ذكر عمرو بن شرحبيل. وسيأتي تتمة الأثر في (8/ 650) عند تفسير الآية 89 من سورة المائدة.
(6)
في م: "النعمان".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (13604) ومن طريقة الطبراني (9691) من طريق سفيان - وهو الثورى - به.
حدَّثني ابن المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعبةُ، عن حَمَّادٍ، عن إبراهيمَ، أن معقلًا
(1)
قال: قلت لابنِ مسعودٍ: أَمَتِى زَنَتْ. قال: اجلِدْها. قلتُ: فإنها لم تُحْصَنْ. قال: إحصانُها إسلامُها.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغِيرة، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ، قال: كان عبدُ اللهِ يقولُ: إحصانُها إسلامُها.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرَنا إسماعيلُ بنُ سالم، عن الشَّعْبيِّ، أنه تَلا هذه الآيةَ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . قال: يقولُ: إِذا أَسْلَمْنَ
(2)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي زائدةَ، عن أَشْعَثَ، عَن الشعبيِّ، قال: قال عبدُ اللهِ: الأَمَةُ إحصانُها إسلامُها.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: مُغِيرَةُ أَخْبَرَنَا عن إبراهيمَ، أنه كان يقولُ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . يقولُ: إذا أَسْلَمْنَ
(3)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبى زائدةَ، عن أَشْعَثَ، عن الشَّعْبِيِّ، قال: الإحصانُ الإسلامُ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن بُرْدِ بن سِنانٍ، عن الزهريِّ، قال: جَلَد عمرُ، رضي الله عنه، وَلائدَ أبكارًا من وَلائدِ الإمارةِ في الزِّنى
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا
(1)
في م: "النعمان".
(2)
أخرجه البيهقى (8/ 243) من طريق إسماعيل به.
(3)
أخرجه البيهقى (8/ 243) من طريق هشيم به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (13611) من طريق الزهرى به بمعناه.
أسباطُ، عن السُّدِّي:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . يقولُ: إِذا أَسْلَمْنَ.
حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن سالمٍ والقاسمِ، قالا: إحصانُها إسلامُها وعَفافُها في قولِه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}
(1)
.
وقال آخرون: معنى قولِه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} : فإِذا تَزَوَّجن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . يعنى إِذا تَزَوَّجْنَ حُرًّا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ
(3)
، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أَخبَرَنا حُصَينٌ، عن عِكْرمةَ، عن ابن عباسٍ، أنه كان يقرَأُ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . يقولُ: إِذا تَزَوَّجْنَ
(4)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ
(5)
، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغِيرةَ، عن عِكْرمةَ، أن ابنَ عباسٍ كان يقرَأُ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . يقولُ: تَزَوَّجْنَ.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ لَيْثًا، عن مجاهدٍ، قال: إحصانُ الأَمَةِ أن يَنْكِحَها الحرُّ، وإحصانُ العبدِ أن يَنْكِحَ الحُرَّةَ
(6)
.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعبةُ، عن عمرِو بن
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 923) عقب الأثر (5157) معلقًا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924)(5160) من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الحسن". وينظر تهذيب الكمال (12/ 161).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 394)، والبيهقى (8/ 243) من طريق هشيم به.
(5)
في م: "وكيع". وينظر تهذيب الكمال (25/ 97).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 67) عن ابن إدريس به.
مُرَّةَ، أنه سَمِع سعيدَ بنَ جُبَيرٍ يقولُ: لا تُضْرَبُ الأَمَةُ إِذا زَنَتْ ما لم تَتَزَوَّجْ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . قال: أَحْصَنَتْهُنَّ البُعُولَةُ
(2)
.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} . قال: أَحصَنَتْهُنَّ البُعُولَةُ.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبَرني عِياضُ بنُ عبدِ اللهِ، عن أبى الزِّنادِ، أن الشعبيَّ أخبرَه، أن ابنَ عباسٍ أخبرَه، أنه أصابَ جاريةً له قد كانت زَنَتْ، وقال: حَصَّنْتُها
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا التأويلُ على قراءةِ مَن قرَأَ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} . بضَمِّ الألِفِ، وعلى تأويلِ مَن قرَأ:(فَإِذَا أَحْصَنَّ). بفَتْحِها. وقد بَيَّنا الصوابَ مِن القولِ والقراءةِ في ذلك عندَنا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} .
يعنى جل ثناؤه بقولِه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} : فإن أتَتْ فَتَياتُكم - وهُنَّ إماؤُكم - بعدَ ما أَحْصَنَّ بإسلامٍ، أو أُحْصِنَّ بنكاحٍ، بفاحشةٍ وهى الزنا، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. يقولُ: فعليهنَّ نصفُ ما على الحرائرِ مِن الحدِّ، إذا هُنَّ زَنَيْنَ قبلَ الإحصانِ بالأزواجِ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 518) من طريق شعبة به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 394) عن عبد الأعلى به.
(3)
في م: "أحصنتها". والأثر أخرجه عبد الرزاق في المصنف (12810). وسعيد بن منصور في سننه (2040، 2041) من طريق آخر عن ابن عباس.
والعذابُ الذي ذكَره اللهُ تبارك وتعالى في هذا الموضعِ هو الحَدُّ، وذلك النصفُ الذي جعَله اللهُ عذابًا لمَن أتَى بالفاحشةِ مِن الإماءِ إِذَا هُنَّ أُحْصِنَّ، خمسونَ جلدةً، ونَفْىُ ستةِ أشهرٍ، وذلك نصفُ عامٍ؛ لأن الواجبَ على الحُرَّةِ إذا هي أَتَتْ بفاحشةٍ قبلَ الإحصانِ بالزوجِ، جَلْدُ مائةٍ ونَفْىُ حَوْلٍ، فالنصفُ من ذلك خمسون جَلْدةٌ ونَفْىُ نصفِ سنةٍ، وذلك الذي جعَله اللهُ عذابًا للإماءِ المُحْصَنَاتِ إِذَا هُنَّ أَتَينَ بفاحشةٍ.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(1)
.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} : خمسون جَلْدةً، ولا نَفْىَ، ولا رَجْمَ.
فإن قال قائلٌ: وكيف: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ؟ وهل يكونُ الجَلْدُ على أحدٍ؟
قيل: إن معنى ذلك: فلازمُ أبدانِهنَّ أن تُجْلَدَ نصفَ ما يَلْزَمُ أبدانَ المُحصناتِ، كما يقالُ: عليَّ صلاةُ يومٍ. بمعنى: لازِمٌ عليَّ أن أُصَلِّيَ صلاةَ يومٍ. وعليَّ الحَجُّ والصَّيامُ. مثلَ ذلك. وكذلك: عليه الحَدُّ. بمعنى: لازمٌ له إمكانُ نفسِه من الحدِّ ليُقامَ عليه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924)(5163) من طريق عبد الله بن صالح به.
القولُ في تأويلِ قولِه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكَ} : هذا الذي أَبَحْتُ أَيُّها الناسُ مِن نكاحِ فَتياتِكم المؤمناتِ لَمن لا يَسْتطيعُ منكم طَوْلًا لِنكاحِ المحصناتِ المؤمِناتِ، أَبَحْتُه لمن خَشِي العَنَتَ منكم دونَ غيرِه، ممن لا يَخْشَى العَنَتَ.
واخْتَلف أهلُ التأويلِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: هو الزِّنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ لَيْثًا، عن مجاهدٍ قولَه:{لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . قال: الزِّنا
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن العَوَّامِ، عمَّن حدَّثه، عن ابن عباسٍ، أنه قال: ما ازْلَحَفَّ
(2)
ناكِحُ الأَمَةِ عن الزِّنا إلا قليلًا
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني مُعاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ، قال: العَنَتُ الزنا
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عُبَيدُ بنُ يحيى، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: العَنَتُ الزنا.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرَنا أبو بِشْرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ،
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924) عقب الأثر (5164) معلقًا.
(2)
ما ازْلَحَفَّ: أي ما تَنَحَّى وما تَباعَد. يقال: ازْلحفّ وازْحَلَفّ، على القَلْب، وتزَلْحف. النهاية (2/ 308).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (620 - تفسير)، وابن أبي شيبة (4/ 146) عن هشيم به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924)(5164) من طريق عبد الله بن صالح به.
قال: ما ازْلَحَفَّ ناكِحُ الأَمَةِ عن الزنا إلا قليلًا؛ {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}
(1)
.
حدَّثنا أبو سَلَمةَ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعبةُ، عن أبي بِشْرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ نحوَه.
حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبَرَنا ابن المُباركِ، قال: أخبَرَنا فُضَيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ في قولِه:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . قال: الزنا
(2)
.
حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي حمَّادٍ، قال: ثنا فُضَيلٌ، عن عطيةَ العَوفيِّ مثلَه.
حدَّثني المثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . قال: الزنا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أَخبَرَنَا عُبَيدةٌ
(4)
، عن الشعبيِّ وجُوَيبرٌ، عن الضحاك، قالا: العَنَتُ الزنا
(5)
.
(1)
أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث (4/ 438)، وسعيد بن منصور في سننه (732)، (618 - تفسير)، وابن أبي شيبة (4/ 146)، والبيهقى (7/ 174) عن هشيم به، وعبد الرزاق في المصنف (13100) عن ابن جريج عن سعيد بن جبير به.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924) عقب الأثر (5164) معلقًا.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (731)، (621 - تفسير) من طريق جويبر به.
(4)
في م: "عبيد". وهو عبيدة بن مُعتِّب الضَّبِّي. ينظر تهذيب الكمال (19/ 273).
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (730) من طريق هشيم عن عبيدة عن الشعبي - وحده - به.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: ثنا أبو نُعَيمٍ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . قال: العَنَتُ الزنا.
وقال آخرونَ: معنى ذلك، العقوبةُ التي تُعْنِتُه، وهى الحدُّ.
والصوابُ مِن القولِ في قولِه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} ؛ ذلك لمَن خافَ منكم ضَرَرًا في دينِه وبَدَنِه.
وذلك أن العَنَتَ هو ما ضَرَّ الرجلَ، يقالُ منه: قد عَنِتَ فلانٌ فهو يَعْنَتُ عَنَتًا. إذا أَتَى ما يَضُرُّه في دينٍ أو دنيا. ومنه قولُ اللهِ تبارك وتعالى: {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]. ويقالُ: قد أَعْنَتَنى فلانٌ، فهو يُعْنِتُنى. إذا نالَنى بَمَضَرَّةٍ. وقد قيل: العَنَتُ الهَلاكُ.
فالذين وَجَّهوا تأويلَ ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضَرَرٌ في الدينِ، وهو من العَنَتِ. والذين وَجَّهوه إلى الإثمِ، قالوا: الآثامُ كلُّها ضَرَرٌ في الدينِ، وهى من العَنَتِ. والذين وَجَّهوه إلى العقوبةِ التي تُعْنِتُه في بَدنِه من الحدِّ، فإنهم قالوا: الحَدُّ مَضَرَّةٌ على بدنِ المحدودِ في دُنياه، وهو من العَنَتِ.
وقد عَمَّ اللهُ بقولِه: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . جميعَ معاني العَنَتِ، ويجمعُ جميعَ ذلك الزنا؛ لأنه يُوجِبُ العقوبةَ على صاحبِه في الدنيا بما يُعْنِتُ بدنَه، ويَكْتَسِبُ به إثمًا ومَضَرَّةً في دينِه ودُنياه. وقد اتَّفَق أهلُ التأويلِ الذين هم أهلُه، على أن ذلك معناه: فهو وإن كان في عينِه لَذَّةً وقَضاءَ شهوةٍ، فإنه بأدائِه إلى العَنَتِ، منسوبٌ إليه موصوفٌ به، إذْ
(1)
كان للعَنَتِ سَبَبًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} .
(1)
في م: "أن".
يعنى جلَّ ثناؤه بذلك: وأن تَصْبِروا أيُّها الناسُ عن نِكاحِ الإماءِ خيرٌ لكم، واللهُ غفورٌ لكم نِكاحَ الإماءِ أن تَنْكِحوهنَّ على ما أحلَّ لكم وأذِن لكم به، وما سلَف منكم في ذلك؛ إن أصلحتم أمورَ أنفسِكم فيما بينَكم وبينَ اللهِ، رحيمٌ بكم، إذ أذِن لكم في نكاحِهن عندَ الافتقارِ وعدمِ الطَّوْلِ للحرةِ.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . قال: عن نكاحِ الأمةِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ لَيْثًا، عن مجاهدٍ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . قال: عن نكاحِ الإماءِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . يقولُ: وأن تَصْبرَ
(3)
ولا تَنْكِحَ الأمةَ فيكونَ وَلَدُكَ مَمْلُوكِين، فهو خيرٌ لك
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . يقولُ: وأن تَصْبِروا عن نكاحِ الإماءِ خيرٌ لكم، وهو حِلٌّ
(5)
.
(1)
هو تتمة الأثر الذي تقدم تخريجه ص 611 حاشية (1).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 143) إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر.
(3)
في ت 1، س:"تصبروا".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 925)(5166) من طريق أحمد بن المفضل به.
(5)
تفسير مجاهد ص 272، ومن طريقه البيهقي في (7/ 174).
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . يقولُ: وأن تَصْبِروا عن نكاحِهنَّ - يعنى: نكاحِ الإماءِ - خيرٌ لكم
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبَرَنا ابن المباركِ، قال: أخبَرَنا فُضَيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ في قولِه:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . قال: أن تَصْبروا عن نكاحِ الإماءِ خيرٌ لكم
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا حِبانُ، قال: ثنا ابن المباركِ، قال: أخبَرَنا ابن جُريجٍ، قال: أخبَرَنا ابن طاوسٍ، عن أبيه:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . قال: أن تَصْبِرُوا عن نكاحِ الأمةِ خيرٌ لكم
(2)
.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدَ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . قال: وأن تَصْبِروا عن
(3)
نكاحِ
(4)
الأمةِ فهو
(5)
خيرٌ لكم
(6)
.
و {وَأَنْ} في قولِه: {وَأَنْ تَصْبِرُوا} . في موضعِ رفعٍ بـ {خَيْرٌ} . بمعنى: والصبرُ عن نكاحِ الإماءِ خيرٌ لكم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924، 925) عقب الأثر (5165) معلقًا.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (13097) عن ابن جريج به.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 924، 920)(5165)، والبيهقى (7/ 173)، من طريق عبد الله صالح به.
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}.
يَعْنى جل ثناؤه بقولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} حلالَه وحرامَه، {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. يقولُ: وليُسَدِّدَكم {سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، يَعْنى: سُبُلَ مَن قبلَكم مِن أهلِ الإيمانِ باللهِ وأنبيائِه، ومناهجَهم، فيما حرَّم عليكم مِن نكاحِ الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ، وسائرِ ما حرَّم عليكم في الآيتيْن اللتين بيَّنَ فيهما ما حرَّم مِن النساءِ، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}. يقولُ: ويُريدُ اللهُ أَن يَرْجِعَ بكم إلى طاعتِه في ذلك، مما كنتم عليه مِن معصيتِه في فعلِكم ذلك قبلَ الإسلامِ، وقبلَ أن يُوحِىَ ما أوحَى إلى نبيِّه مِن ذلك عليكم، ليَتَجاوزَ لكم - بتوبتِكم - عما سلَف منكم مِن قبيحِ ذلك، قبلَ إنابتِكم وتوبتِكم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}. يقُولُ: واللهُ ذو علمٍ بما يُصْلِحُ عبادَه في أديانِهم ودنياهم، وغيرِ ذلك مِن أمورِهم، وبما يَأْتون ويَذَرون؛ مما أحلَّ أو حرَّم عليهم، حافظٌ ذلك كلَّه عليهم، {حَكِيمٌ} بتدبيرِه فيهم، في تصريفِهم فيما صرَّفهم فيه.
واختلَف أهلُ العربيةِ في معنى قولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، فقال بعضُهم: معنى ذلك: يريدُ اللهُ هذا مِن أجلِ أن يُبَيِّنَ لكم. وقال ذلك كما قال: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]. بكسرِ اللامِ؛ لأن معناه: أُمِرتُ بهذا مِن أجلِ ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: يُريدُ اللهُ أن يُبَيِّنَ لكم، ويهديَكم سُنَنَ الذين مِن قبلِكم. وقالوا: مِن شأنِ العربِ التعقيبُ بينَ كَيْ و لامِ كَيْ وأَنْ، وَوَضْعُ كلِّ واحدةٍ منهن موضعَ كلِّ واحدةٍ مِن أختِها مع "أَرَدتُ" و "أَمَرتُ"، فيقولون: أَمَرْتُك أن تَذْهَبَ ولِتَذْهَبَ. وأرَدتُ أن تَذْهَبَ وَلِتَذْهَبَ. كما قال اللهُ جلَّ ثناؤه: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]. وقال في موضعٍ
آخرَ: {[إِنِّي أُمِرْتُ]
(1)
أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14]. وكما قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8]. ثم قال في موضع آخرَ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} [التوبة: 32]. واعتلُّوا في تَوْجيهِهم "أنْ" مع "أَمَرتُ" و "أَرَدتُ" إلى معني "كَىْ"، وتوجيه "كَىْ" مع ذلك إلى معنى "أنْ"، لطَلَبِ "أَرَدتُ" و "أمَرتُ" الاستقبالَ، وأنَّهما
(2)
لا يَصْلُحُ معهما
(3)
الماضي؛ لا يُقالُ: أَمَرتُك أن قُمْتَ. ولا: أرَدتُ أن قُمْتَ. قالوا: فلما كانت "أنْ" قد تَكُونُ مع الماضي في غيرِ "أرَدتُ" و "أمَرتُ"، وكَّدوا
(4)
لها معنى الاستقبالِ بما لا يَكُونُ معه ماضٍ مِن الأفعالِ بحالٍ، مِن "كَىْ" و "اللامِ" التي في معنى "كَىْ". قالوا: ولذلك جَمَعتِ العربُ بينَهن أحيانًا في الحرفِ الواحدِ، فقال قائلُهم في الجمعِ
(5)
:
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَن تَطِيرَ بِقِرْبَتِي
…
فتَتْرُكَها شَنًّا بِبَيْدَاءَ
(6)
بَلْقَعِ
(7)
فجمَع بينَهنَّ لاتفاقِ مَعانِيهنَّ واختلافِ ألفاظِهن، كما قال الآخرُ
(8)
:
* قد يَكْسِبُ المالَ الهِدانُ الجافِى
(9)
*
(1)
في النسخ: "وأُمِرتُ". وقد أثبتنا نص التلاوة.
(2)
في في م: "أيهما".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"معها".
(4)
في م: "ذكروا".
(5)
معاني القرآن (1/ 262)، وخزانة الأدب (1/ 16، 8/ 481، 484 - 487)، غير منسوب لقائله.
(6)
في م: "ببلقاء".
(7)
الشَّنّ: القِرْبة الخلَق الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيرها. والبيداء: الفلاة؛ وهى الأرض الواسعة المُقْفِرة. والبلقع: الخالى من كل شيء. ينظر الوسيط (ش ن ن)، (ب ي د)، (ف ل و)، (بلقع).
(8)
ديوان العجاج ص 112، ومعاني القرآن (1/ 262) - ونَسَبه لرؤبة ولم نجده في ديوانه - ولسان العرب (ص ر ف)، (ع ص ف)، (هـ د ن) - ونسبه للعجاج في الموضعين الأولين ولرؤبة في الثالث -، وخزانة الأدب (8/ 486)، ونسبه لرؤبة أيضًا. ولم يذكر كلا البيتين إلا صاحب اللسان. وهما من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة، ولعل ذلك ما سبَّب الخلط، والصحيح أنها للعجاج كما أثبت ذلك صاحب اللسان.
(9)
الهدان: الأحمق الجافى الوخم الثقيل في الحرب. اللسان (هـ د ن).
*بغَيْرِ لا عَصْفٍ ولا اصْطِرَافِ
(1)
*
فجمَع بينَ "غيرِ" و "لا"، توكيدًا للنفى، قالوا: وربما يَجُوزُ أَن يُجْعَلَ "أنْ" مكانَ "كَىْ"، و "كَىْ" مكانَ "أنْ"، في الأماكنِ التي لا يَصْحَبُ جالبَ ذلك ماضٍ مِن الأفعالِ أو غيرُ المستقبلِ. فأما ما صَحِبَه ماضٍ مِن الأفعالِ وغيرُ المستقبلِ، فلا يَجوزُ ذلك. لا يَجُوزُ عندَهم أن يُقالَ: ظَنَنتُ ليَقُومَ. ولا: أظنُّ ليَقُومَ. بمعنى: أظنُّ أن يقُومَ. لأنَّ التي
(2)
تدخُلُ مع الظنِّ تكُونُ مع الماضي مِن الفعلِ؛ يقالُ: أظنُّ أن قد قام زيدٌ. ومع المستقبلِ، ومع الأسماءِ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى القولَيْن في ذلك بالصوابِ عندى، قولُ مَن قال: إن اللامَ في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} بمعنى: يُريدُ اللهُ أَن يُبَينَ لكم. لِمَا ذَكَرتُ مِن علةِ مَن قال أن ذلك كذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} .
يَعْنى بذلك تعالى ذكرُه: واللهُ يُريدُ أن يُراجعَ بكم طاعتَه والإنابةَ إليه؛ ليَعْفُوَ لكم عما سلَف مِن آثامِكم، ويَتَجاوزَ لكم عما كان منكم في جاهليَّتِكم؛ مِن استحلالِكم ما هو حرامٌ عليكم مِن نكاحِ حلائلِ آبائِكم وأبنائِكم، وغيرِ ذلك مما كنتم تَسْتَحِلُّونه وتَأْتُونه، مما كان غيرَ جائزٍ لكم إتيانُه مِن معاصى اللهِ، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ}. يقولُ: ويُريدُ الذين يَطْلُبون لذَّاتِ الدنيا وشهواتِ أنفسِهم فيها {أَنْ تَمِيلُوا} عن أمرِ اللهِ تبارك وتعالى، فتَجُوروا عنه بإتيانِكم ما حرَّم
(1)
العصف: الكسب. والاصطراف: يصطرف لعياله: أي يكتسب لهم اللسان (ع ص ف)، (ص ر ف).
(2)
أي: لأنَّ "أَنْ" التي .. إلى آخر الكلام.
عليكم، وركوبِكم معاصيَه، {مَيْلًا عَظِيمًا} جَوْرًا وعدولًا عنه شديدًا.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الذين وَصَفَهم اللهُ بأنهم يَتَّبِعون الشهواتِ؛ فقال بعضُهم: هم الزناةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} . قال: الزنا. {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} . قال: يُريدُون أن تَزْنُوا
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} : أن تكُونوا مثلَهم تَزْنُون كما يَزْنُون.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} . قال: الزنا. {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} . قال: يَزْنى أهلُ الإسلامِ كما يَزْنُون. قال: هي كهيئةِ {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي زائدةَ، عن ورقاءَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} . قال: الزنا. {أَنْ تَمِيلُوا} قال: أن تَزْنُوا.
وقال آخرون: بل هم اليهودُ والنصارى.
(1)
تفسير مجاهد ص 273، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 926)(5172، 5173). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 143) إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} . قال: هم اليهودُ والنصارى، {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}
(1)
.
وقال آخرون: بل هم اليهودُ خاصةً، وكانت إرادتُهم مِن المسلمين اتِّباعَ شهواتِهم في نكاحِ الأخواتِ مِن الأبِ، وذلك أنهم يُحِلُّون نكاحَهنَّ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين: ويُريدُ الذين يُحَلِّلون نكاحَ الأخواتِ مِن الأبِ، أن تَميلوا عن الحقِّ، فتَسْتَحِلُّوهن كما استَحَلُّوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: كلُّ مُتَّبِعٍ شهوةً في دينِه لغيرِ الذي أُبيح له.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: سمِعتُ ابنَ زيدٍ يقولُ في قولِه: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} الآية. قال: يُرِيدُ أَهلُ الباطلِ وأهلُ الشهواتِ في دينِهم، {أَنْ تَمِيلُوا} في دينِكم، {مَيْلًا عَظِيمًا} تتَّبِعون أمرَ دينِهم، وتَتْرُكون أمرَ اللهِ وأمرَ دينِكم.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: ويُرِيدُ الذين يَتَّبعون شهواتِ أنفسِهم مِن أهلِ الباطلِ وطُلَّابِ الزنا ونِكَاحِ الأخواتِ مِن الآباءِ وغيرِ ذلك مما حرَّمه اللهُ، أن تميلوا
(2)
عن الحقِّ وعما أذِن اللهُ لكم فيه،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 925)(5171) من طريق أحمد بن مفضل به.
(2)
بعده في النسخ: "ميلًا عظيما". وهي زيادة عن سبق قلم من الناسخ. حذفناها ليستقيم السياق مع آخر الفقرة.
فتَجُوروا عن طاعتِه إلى معصيتِه، وتَكُونوا أمثالَهم في اتِّباعِ شهواتِ أنفسِكم فيما حرَّم اللهُ، وتَرْكِ طاعتِه، ميلًا عظيمًا.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصوابِ؛ لأن الله عز وجل عَمَّ بقولِه: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} ، فَوَصَفَهم باتِّباعِ شهواتِ أنفسِهم المذمومِة، وعمَّهم بوَصْفِهم بذلك، مِن غيرِ وصفِهم باتباعِ بعضِ الشهواتِ المذمومةِ. فإذ كان ذلك كذلك، فأوْلى المعانى بالآيةِ ما دلَّ عليه ظاهرُها، دونَ باطِنِها الذي لا شاهدَ عليه مِن أصلٍ أو قياسٍ. وإذا كان ذلك كذلك، كان داخلًا في الذين يَتَّبعون الشهواتِ، اليهودُ والنصارى والزناةُ، وكلُّ مُتَّبعٍ باطلًا؛ لأنَّ كلَّ مُتَّبعٍ ما نهاه اللهُ عنه فمتبعٌ شهوةَ نفسِه. وإذا كان ذلك بتأويلِ الآيةِ أولى، وَجَبَتْ صحةُ ما اخترنا مِن القولِ في تأويلِ ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} .
يَعْنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} : يُرِيدُ اللهُ أَن يُيَسِّرَ عليكم، بإذنِه لكم في نكاحِ الفتياتِ المؤمناتِ إذا لم تَسْتَطِيعوا طَوْلًا لحرَّةٍ، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. يقولُ: يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مُسْتَطيعى الطَّوْلِ للحرائرِ؛ لأنكم خلِقتُم ضعفاءَ عَجَزَةً عن تَرْكِ جماعِ النساءِ قليلى الصبرِ عنه، فأذِن لكم في نكاحِ فتياتِكم المؤمناتِ، عندَ خوفِكم العَنَتَ على أنفسِكم، ولم تجدوا طولًا لحرةٍ، لِئَلَّا تَزْنُوا؛ لقلةِ صبرِكم على تَرْكِ جماعِ النساءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} : في نكاحِ الأمةِ، وفى كلِّ شيءٍ فيه يُسْرٌ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. قال: في أمرِ الجِماعِ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . قال: في أمرِ النساءِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا معمرٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . قال: في أمورِ النساءِ، ليس يَكُونُ الإنسانُ في شيءٍ أضعفَ منه في النساءِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} . قال: رخَّص لكم في نكاحِ هؤلاءِ الإماءِ حين اضْطُرُّوا إليهنَّ، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. قال: لو لم يُرَخِّصْ له فيها لم يَكُنْ إلا الأمرُ الأولُ، إذا لم يَجِدْ حرّةً
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
(1)
تفسير مجاهد ص 273، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 926)(5175)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 143) إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 926)(5177) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 143) إلى ابن المنذر.
(3)
تفسير عبد الرزاق (1/ 154).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 143) إلى المصنف.
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
يَعْنى بذلك جلَّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : صَدَّقوا الله ورسولَه {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، يَقُولُ: لا يَأْكُلْ بعضُكم أموالَ بعضٍ بما حُرِّم عليه مِن الرِّبا
(1)
والقِمارِ، وغيرِ ذلك من الأمورِ التي نهاكم اللهُ عنها، {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} .
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} : أمَّا
(2)
أَكْلُهم أموالَهم بينَهم بالباطلِ، فبالرِّبا
(3)
والقمارِ والنَّجْشِ
(4)
والظلمِ، إلا أن تَكُونَ تجارةً، لِيَرْبَحْ في الدرهمِ ألفًا إن اسْتَطاع
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا خالدٌ الطَّحّانُ، قال: أخبَرنا داودُ بنُ أبى هندٍ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . قال: الرجلُ يَشْتَرى السِّلعةَ، فيَرُدُّها ويردُّ معها درهمًا
(6)
.
(1)
في ص، س، ت 1:"الزنا".
(2)
في م: "نهى عن".
(3)
في م: "وبالربا"، وفى ت 1:"فالزنا"، وفى س:"والزنا"، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"فبالزنا".
(4)
في م، ت 1:"البخس"، وفى س:"النجس". والنَّجْش: هو أن يريد الإنسان أن يبيع بياعة فتساومه فيها بثمن كثير؛ لينظر إليك ناظر فيقع فيها. التاج (ن ج ش).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 927، 928 (5183، 5185) من طريق أحمد بن المفضل به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 321 (1703)، 3/ 927 (5182) من طريق داود بن أبي هند به بمعناه. وقد تقدم في 3/ 278 من طريق خالد عن داود عن عكرمة قوله.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ في الرجلِ يَشْتَرى مِن الرجلِ الثوبَ، فَيَقُولُ: إن رَضِيته أَخَذْته، وإلا رَدَدْته وردَدت معه درهمًا. قال: هو الذي قال اللهُ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
وقال آخرونَ: بل نَزَلَتْ هذه الآيةُ بالنَّهْيِ عن أن يَأْكُلَ بعضُهم طعامَ بعض إلا بِشِراءٍ، فأما قِرًى فإنه كان محظورًا بهذه الآيةِ، حتى نُسِخ ذلك بقولِه في سورةِ النورِ:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الآية [النور: 61].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسنِ بن واقدٍ، عن يزيدَ النَّحْويِّ، عن عِكرمةَ والحسنِ البصريِّ، قالا في قولِه:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} الآية. فكان الرجلُ يَتَحَرَّجُ أن يَأْكُلَ عندَ أحدٍ من الناسِ بعدما نزَلتْ هذه الآيةُ، فنُسِخ ذلك بالآيةِ التي في "النورِ"، فقال:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ}
(1)
إلى قولِه: {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61]. فكان الرجلُ الغنيُّ يَدْعو الرجلَ من أهلِه إلى الطعامِ، فيَقُولُ: إني لأَتَجَنَّحُ - والتَّجَنُّحُ: التَّحَرُّجُ - ويَقُولُ: المساكينُ أحقُّ به منى، فأحلَّ مِن ذلك أن تَأْكُلوا مما ذكِر اسمُ اللهِ عليه،
(1)
في النسخ: "ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم"، وأثبتنا نصَّ التلاوة.
وأحلَّ طعامَ أهلِ الكتابِ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذين القولين بالصوابِ في ذلك، قولُ السديِّ؛ وذلك أن الله تعالى ذكرُه حرَّم أكْلَ أموالِنا بينَنا بالباطلِ. ولا خلافَ بينَ المسلمين أن أكلَ ذلك حرامٌ علينا، فإن الله لم يُحِلُّ قَطُّ أكلَ الأموالِ بالباطلِ.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا معنَى لقولِ مَن قال: كان ذلك نهيًا عن أكلِ الرجلِ طعامَ أخيه قِرًى، على وَجْهِ ما أُذِن له، ثم نُسِخ ذلك. لنقلِ علماءِ الأمةِ جميعًا وجُهَّالِها؛ أن قِرَى الأضيافِ وإطعامَ الطعامِ كان مِن حميدِ أفعالِ أهلِ الشركِ والإسلامِ، التي حَمِد اللهُ أهلَها عليها
(2)
ونَدَبَهم إليها، وأن الله لم يُحَرِّمْ ذلك في عصرٍ مِن العصورِ، بل ندَب اللهُ عبادَه وحَثَّهم عليه. وإذا كان ذلك كذلك، فهو من معنى الأكْلِ بالباطلِ خارجٌ، ومِن أنْ يَكُونَ ناسخًا أو منسوخًا بمَعْزِلٍ؛ لأن النَّسْخَ إنما يَكُونُ لمنسوخٍ، ولم يَثْبتِ النهيُ عنه، فيَجُوزَ أن يَكُونَ منسوخًا بالإباحةِ. وإذا كان ذلك كذلك، صحَّ القولُ الذي قلناه - من أن الباطلَ الذي نهَى اللهُ عن أكلِ الأموالِ به، هو ما وَصَفْنا مما حرَّمه على عبادِه في تنزيلِه، أو على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وفَسَد
(3)
ما خالَفه. واخْتَلَفت القرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ؛ فقرَأها بعضُهم: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ). رَفْعًا
(4)
، بمعنى: إلا أن تُوجَدَ تجارةٌ، أو: تَقَعَ تجارةٌ، عن تراضٍ منكم، فيَحِلَّ لكم أكلُها حينَئذٍ بذلك المعنى. ومذهبُ مَن قرأ ذلك على هذا الوجهِ
(5)
، أَنَّ "تكونَ" تامَّةٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 143 إلى المصنف مختصرًا.
(2)
في م: "عليهم".
(3)
في م: "شد"، وفى س:"فساد".
(4)
قرأ بذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. السبعة في القراءات ص 231، وحجة القراءات ص 199.
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"إلا".
ههنا لا حاجةَ بها إلى خبرٍ، على ما وَصَفتُ. وبهذه القراءةِ قرَأ أكثرُ أهلِ الحجازِ وأهلِ البصرةِ. وقرَأ ذلك، آخرون وهم عامةُ قرَأةِ الكوفيين:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} . نصبًا
(1)
، بمعنى: إلا أن تَكُونَ الأَمْوَالُ التي تَأْكُلُونها بينَكم تجارةً، عن تراضٍ منكم، فيَحِلَّ لكم هنالك أكْلُها. فتكونُ الأموالُ مُضْمَرَةً في قولِه:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ} ، والتجارةُ منصوبةً على الخبرِ. وكلتا القراءتَيْن عندَنا صوابٌ جائزةٌ
(2)
القراءةُ بها
(3)
، لاستفاضتِهما
(4)
في قَرَأَةِ الأمصارِ مع تقارُب معانِيهما. غيرَ أن الأمرَ وإن كان كذلك، فإن قراءةَ ذلك بالنصبِ أَعْجَبُ إليَّ مِن قراءتِه بالرفعِ؛ لقوّةِ النصبِ من وجهين؛ أحدُهما: أنّ في {تَكُونَ} ذكرًا من الأموال والآخَرُ: أنه لو لم يُجْعَل فيها ذِكرٌ منها، ثم أُفرِدَتْ بـ "التجارةِ"، وهى نكرةٌ، كان فصيحًا في كلامِ العربِ النَّصْبُ، إذ كانت مَبْنِيَّةً على اسمٍ وخبرٍ، فإذا لم يَظْهَرْ معها إلا نكرةٌ واحدةٌ، نَصَبوا ورَفَعوا، كما قال الشاعرُ
(5)
:
* إذا كان طَعْنًا بينَهم وعِنَاقا *
ففى هذه الآيةِ إبانةٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن تكذيبِ قولِ الجهلةِ من المُتَصَوِّفةِ، المنكرين طَلَبَ الأقواتِ بالتجاراتِ والصناعات، واللهُ تعالى يَقُولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
(1)
قرأ بذلك حمزة والكسائي وعاصم. السبعة في القراءات ص 231 وحجة القراءات ص 199.
(2)
في م: "جائز".
(3)
في م: "بهما".
(4)
في ت 2: "لاستفاضتها".
(5)
تقدم البيت بتمامه في 5/ 107.
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}: اكتسابًا منا
(1)
ذلك بها
(2)
.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . قال: التجارة رزقٌ مِن رزقِ اللهِ، وحلالٌ مِن حلالِ الله لمن طَلَبها بصدقِها وبِرِّها، وقد كنا نُحَدَّثُ أن التاجرَ الأمينَ الصدوقَ مع السبعةِ في ظِلِّ العرشِ يومَ القيامةِ
(3)
.
وأما قولُه: {عَنْ تَرَاضٍ} ، فإن معناه كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تبارك وتعالى:{عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} : في تجارةٍ أو بيعٍ أو عطاءٍ يُعطيه أحدٌ أحدًا
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} : في تجارةٍ أو بيعٍ أو عطاءٍ يُعْطيه أحدٌ أحدًا.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن القاسمِ بن
(5)
سليمانَ الجُعْفيِّ، عن أبيه، عن ميمونِ بن مِهْرانَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "البيعُ عن تَراضٍ، والخيارُ بعدَ الصَّفْقَةِ، ولا يَحِلُّ المسلمٍ أن يَغُشَّ مسلمًا"
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال:
(1)
في م: "أحل"، وفى س:"من".
(2)
سقط من: س. وفى ص، م، ت 2:"لها". وأثبتنا ما يقتضيه السياق. والمراد؛ أن ذلك المال أو القوت اكتسابًا منا بالتجارة إذ هي أكل للمال بالحلال. كما سيأتي في الأثر التالي.
(3)
أخرجه البيهقى 5/ 263 من طريق سعيد به ببعضه.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 927 (5184) من طريق ابن أبي نجيح به.
(5)
في م: "عن". وينظر الجرح والتعديل 7/ 124، والميزان 3/ 383، واللسان 4/ 469.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 83، 84 عن وكيع به، وعنده:"يغبن" بدل "يغش".
قلتُ لعطاءٍ: المُماسَحَةُ
(1)
، بَيْعٌ هي؟ قال لا، حتى يُخَيِّرَه، التَّخْيِيرُ بعدَما يَجِبُ البيعُ؛ إن شاء أخَذ، وإن شاء ترَك.
واختلَف أهلُ العلم في معنى التراضى في التجارةِ؛ فقال بعضُهم: هو أن يُخَيَّرَ كلُّ واحدٍ من المُتَبايِعَيْنِ بعدَ عَقْدِهما البيعَ بينَهما فيما تَبَايَعا فيه؛ مِن إمضاءِ البيعِ أو نَقْضِه، أو يَتَفرَّقا عن مجلسِهما - الذي تَواجَبًا فيه البيعَ بأبدانِهما - عن تَرَاضٍ منهما بالعَقْدِ الذي تَعاقَداه بينهما قبلَ التَّفاسُخِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن قتادةَ، عن محمدِ بن سيرينَ، عن شُرَيحٍ، قال: اخْتَصَم رجلان، باع أحدُهما مِن
(2)
الآخرِ بُرْنُسًا، فقال: إنى بِعْتُ مِن هذا بُرْنُسًا، فَأَرْضَيتُه
(3)
فلم يُرْضِنى. فقال: أَرْضِه كما أرْضاك. قال: إني قد أعطَيْتُه دراهمَ ولم يَرْضَ. قال: أَرْضِه كما أرْضاك. قال: قد أَرْضَيْته فلم يَرْضَ. فقال: البَيِّعان
(4)
بالخيارِ ما لم يَتَفَرَّقا
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ اللهِ بن أبي السَّفَرِ، عن الشَّعْبِيِّ، عن شُرَيحٍ، قال: البَيِّعان بالخيارِ ما لم يَتَفَرَّقا
(6)
.
(1)
المماسحة من: تَمَاسَحَا: إذا تَبَايَعا فتَصافَقَا. ينظر تاج العروس (م س ح).
(2)
باع منه: باع له. ينظر اللسان (ب ى ع).
(3)
في م: "فاسترضيته".
(4)
البيعان: هما البائع والمشترى، يقال لكل واحدٍ منهما: بَيِّع وبائع. النهاية 1/ 173.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (14269)، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 339 من طريق ابن سيرين به.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (14271) وابن أبي شيبة 7/ 126، ووكيع في أخبار القضاة 2/ 246، 260 من طريق سفيان الثورى به.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شُعْبَةَ، عن الحَكَمِ، عن شُرَيحٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن جابرٍ، قال: ثني أبو الضُّحَى، عن شُرَيحٍ أنه قال: البيِّعان بالخيارِ ما لم يَتَفرَّقا. قال: قال أبو الضُّحى: كان شُرَيحٌ يُحَدِّثُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(2)
.
وحدَّثنى الحُسينُ
(3)
بنُ يزيدَ الطّحانُ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ، عن عبدِ السلامِ، عن رجلٍ، عن أبي حَوْشَبٍ، عن ميمونٍ، قال: اشْتَرَيْتُ مِن ابن سيرينَ سابِرِيًّا
(4)
، فسام عليَّ سَوْمَه، فقلتُ: أَحْسِنْ، فقال: إما أن تَأْخُذَ، وإما أن تَدَعَ، فَأَخَذْتُ منه، فلَمَّا وَزَنتُ الثمنَ وضَع الدراهمَ، فقال: اخْتَرْ؛ إمَّا الدراهمَ، وإمَّا المتاعَ. فاختَرتُ المَتاعَ فأخَذتُه.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن إسماعيلَ بن سالمٍ، عن الشعبيِّ، أنه كان يقولُ في البَيِّعَين: إنهما بالخيارِ ما لم يَتَفَرَّقا، فإذا تَصادَرا
(5)
فقد وَجَب البيعُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ الأحْمَسيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عُبَيدٍ، قال: ثنا
(1)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 267 من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه ابن أبي شيبة 7/ 126 من طريق شعبة به.
(2)
أخرجه ابن حزم في المحلى 9/ 300 من طريق أبي الضحى في سياق قصة بنحوه، دون قوله: "قال أبو الضحى: كان شريح يحدث
…
".
(3)
في النسخ: "الحسن". والمثبت من تهذيب الكمال 6/ 501.
(4)
السابِريُّ: ثوبٌ، كما جاء في حديث حبيب بن أبي ثابت: رأيت على ابن عباس ثوبا سابريًّا أستشفُّ ما وراءه. كلُّ رَقيقٍ عندهم سابريٌّ، والأصل فيه الدِّرْعُ السابرية، وهى درعٌ دقيقةُ النسجِ في إحكامِ صَنْعةٍ، منسوبة إلى الملك سابور. ينظر النهاية 2/ 334، وتاج العروس (س ب ر).
(5)
تصادرا: انصرفا. ينظر التاج (ص د ر).
سفيانُ بنُ دينارٍ، عن طَيْسَلَةَ
(1)
، قال: كنتُ في السوقِ وعليٌّ رضي الله عنه في السوقِ، فجاءتْه جاريةٌ إلى بَيِّعِ فاكهةٍ بدرهمٍ، فقالت: أعْطِنى هذا، فأعطاها إياه، فقالت: لا أُريدُه، أَعْطِني درهمي. فأبى، فأَخَذَه منه عليٌّ فأعطاها إياه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرة، عن الشعبيِّ، أنه أتى في رجلٍ اشترى مِن رجلٍ بِرْذَونًا
(2)
ووجَب له، ثم إن المُبْتاعَ ردَّه قبلَ أَن يَتَفَرَّقا، فقَضَى أَنه قد وجَب عليه، فشَهِد عندَه أبو الضُّحى: أن شُرَيحًا قضى في مثلِه أَن يَرُدَّه على صاحبِه، فرجع الشعبيُّ إلى قضاءِ شريحٍ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: ثنا هشامٌ، عن ابن سيرينِ، عن شُرَيحٍ، أنه كان يَقُولُ في البَيِّعَيْن: إذا ادَّعى المُشترِى أنه قد أوجَب له البيعَ، وقال البائعُ: لم أوجِبْه
(4)
له. قال: شاهدان عَدْلان أنكما افْتَرَقْتُما عن تراضٍ بعدَ بيعٍ أو تخايُرٍ، وإلَّا فيمينُ البائِع أنكما ما
(5)
افترقتما عن [بيعٍ ولا]
(6)
تخايُرٍ
(7)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، قال: كان شُرَيحٌ يَقُولُ: شاهدان ذوا عدلٍ أنكما افْتَرَقْتُما عن تراضٍ بعدَ بيعٍ وتخايرٍ، وإلا فيمينُه باللهِ
(1)
في ص: "طسه" غير منقوطة، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"طيبه"، وفى س:"ظبية"، وينظر تهذيب الكمال 13/ 467، والتاريخ الكبير 4/ 367، والجرح والتعديل 4/ 501.
(2)
البرذون: يُطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوى الأرجل، عظيم الحوافر. ينظر الوسيط (برذن).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 126 عن جرير به.
(4)
في م: "أوجب".
(5)
زيادة يقتضيها السياق.
(6)
في س: "تراض بعد بيع أو".
(7)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 362 من طريق هشام بمعناه مختصرا.
ما تَفَرَّقْتما عن تراضٍ بعدَ بيعٍ أو تخايرٍ.
حدَّثنا حُمَيدُ بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا ابن عَوْنٍ، عن محمدِ بن سِيرينَ، عن شُرَيحٍ، أنه كان يقولُ: شاهدان ذَوَا عدلٍ أنهما تَفَرَّقا عن تراضٍ بعدَ بيعٍ أو تخايرٍ.
وعلةُ مَن قال هذه المقالةَ ما حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن [عُبَيدِ اللهِ]
(1)
، قال: أخبَرنى نافعٌ، عن ابن عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"كلُّ بَيِّعَين فلا بيعَ بينَهما حتى يَتَفَرَّقا إلا أن يَكُونَ خيارًا"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاويةَ، قال: ثني يحيى بنُ أيوبَ، قال: كان أبو زُرْعَةَ إذا بايَع رجلًا يَقُولُ له: خيِّرْني. ثم يَقولُ: قال أبو هريرةَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَفْتَرقِ اثنانِ إلا عن رضًا"
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن أبي قِلابةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا أهلَ البَقيعِ". فسَمِعوا صوتًا، ثم قال:"يا أهلَ البقيعِ". فاشرَأَبُّوا يَنْظُرون حتى عرَفوا أنه صوتُه، ثم قال:"يا أهلَ البقيعِ، لا يَتَفَرَّقَنَّ بَيِّعان إلا عن رِضًا"
(4)
.
(1)
في النسخ: "عبد الله". والمثبت من مصادر التخريج.
(2)
أخرجه مسلم (1531) من طريق ابن المثنى به، وأخرجه أحمد 9/ 151 (5158)، ومسلم (1531)، والنسائي (4478) من طريق يحيى بن سعيد به.
(3)
أخرجه أبو داود (3458)، والبيهقي في سننه 5/ 271، من طريق مروان بن معاوية به، وأخرجه أحمد 16/ 537 (10922)، والترمذى (1248) من طريق يحيى بن أيوب به.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 82 عن ابن علية به مختصرا، وأخرجه عبد الرزاق (14268) من طريق أيوب به، وأخرجه البيهقى 5/ 271 من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطُّوسيُّ، قال: ثنا أبو داودَ الطيالسيُّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا سِماكٌ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بايَع رجلًا ثم قال له:"اخْتَرْ". فقال: قد اخْتَرْتُ. فقال: "هكذا البيعُ"
(1)
.
قالوا: فالتجارةُ عن تراضٍ، هو ما كان على ما بيَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن تَخْيِيرِ كلِّ واحدٍ مِن المُشترى والبائعِ في إمضاءِ البيعِ فيما يَتَبَايَعانِه بينَهما، أو نقضِه بعدَ عقدِ البيعِ بينَهما وقبلَ الافتراقِ، أو ما تفرَّقا عنه بأبدانِهما عن تراضٍ منهما بعدَ مُواجَبَةِ البيعِ فيه عن مجلِسِهما. فما كان بخلافِ ذلك، فليس مِن التجارةِ التي كانت بينَهما عن تراضٍ منهما.
وقال آخرون: بل التراضى في التجارةِ تَواجُبُ عقدِ البيع فيما تَبايَعَه المتبايعان بينَهما، عن رِضًا مِن كلِّ واحدٍ منهما ما مُلِّك عليه صاحبُه، ومَلَّك صاحبَه عليه، افْتَرَقا عن مجلسِهما ذلك أو لم يَفْتَرِقا، تَخايَرا في المجلسِ أو لم يَتَخَايَرا فيه بعدَ عَقْدِه.
وعلةُ من قال هذه المقالةَ، أن البيعَ إنما هو بالقولِ، كما أن النكاحَ بالقولِ، ولا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ في الإجبارِ في النكاحِ لأحدِ المُتَناكِحَين على صاحبِه، افْتَرَقا أو لم يَفْتَرِقا عن مجلسِهما الذي جرَى ذلك فيه. قالوا: فكذلك حكمُ البيعِ. وتأوَّلوا قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "البيِّعان بالخيارِ ما لم يَتَفَرَّقا". على أنه: ما لم يَتَفَرَّقا بالقولِ. وممن قال هذه المقالةَ مالكُ بنُ أنسٍ وأبو حنيفةَ وأبو يوسفَ ومحمدٌ
(2)
.
(1)
أخرجه الطيالسي (2797)، ومن طريقه البزار (1283 - كشف)، وابن عدي 3/ 1122، والبيهقي 5/ 270.
(2)
المدونة الكبرى 4/ 188، والموطأ رواية محمد بن الحسن الشيباني ص 253 عقب الحديث (785)، والحجة على أهل المدينة 2/ 680 - 694.
قال أبو جعفرٍ: وأولى القولين بالصوابِ في ذلك عندَنا، قولُ مَن قال: إن التجارةَ التي هي عن تراضٍ بينَ المتبايعين، ما تفرَّق المتَبايِعان على المجلسِ - الذي تَوَاجَبا فيه بينَهما عُقْدةَ البيعِ - بأبدانِهما، عن تراضٍ منهما بالعقدِ الذي جرَى بينهما، وعن تخييرِ كلِّ واحدٍ منهما صاحبَه؛ لصحةِ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبرَنا أيوبُ، وحدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعان بالخيارِ ما لم يَتَفَرَّقا، أو يَكونُ بيعَ خيارٍ". وربما قال: "أو يَقُولُ أحدهما للآخَرِ: اخْترْ"
(1)
.
فإذ كان ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صحيحًا، فليس يَخْلو قولُ أحدِ المُتبابِعَين لصاحبِه: اخْتَر. مِن أن يَكُونَ قبلَ عقدِ البيعِ أو معه أو بعدَه؛ فإن يَكُنْ قبلَه، فذلك الخَلْفُ مِن الكلامِ
(2)
الذي لا معنى له؛ لأنه لم يَمْلِكْ قبلَ عقدِ البيعِ أحدُ المُتبايِعَين على صاحبِه، ما لم يَكُنْ له مالكًا، فيَكُونَ لتخييرِه صاحبَه فيما مَلَك
(3)
عليه وجهٌ مفهومٌ، ولا فيهما مَن يَجْهَلُ أنه بالخيارِ في تمليكِ صاحبِه ما هو له غيرُ مالكٍ بعِوَضٍ يَعْتاضُه منه، فيقالُ له: أنت بالخيارِ فيما تُريدُ أن تُحدِثَهُ مِن بيعٍ أو شراءٍ. أو يَكُونَ - إن بطَل هذا المعنى - تخييرُ كلِّ واحدٍ منهما صاحبَه مع عقدِ البيعِ، ومعنى التخييرِ في تلك الحال نظيرُ معنى التخييرِ قبلَها؛ لأنها حالةٌ لم يَزُلْ فيها عن
(4)
أحدِهما ما كان مالكَه قبلَ ذلك إلى صاحبِه، فيكون للتخييرِ وجهٌ مفهومٌ، أو يكونَ ذلك بعدَ
(1)
أخرجه أحمد 8/ 64 (4484)، ومسلم (1531)، والنسائى (4482) من طريق ابن علية به.
(2)
الخلف من الكلام: الردئ من القول. ينظر الوسيط (خ ل ف).
(3)
في م: "يملك".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"عين".
عقدِ البيعِ، إذا فسَد هذان المعنيان. وإذا كان ذلك كذلك، صحَّ أن المعنى الآخرَ مِن قولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - أعنى قولَه:"ما لم يَتَفَرَّقا" - إنما هو التَّفَرُّقُ بعدَ عقدِ البيعِ، كما كان التخييرُ بعدَه. إذا صحَّ ذلك، فسَد قولُ مَن زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرُّقُ بالقولِ الذي به يَكُونُ البيعُ. وإذا فسَد ذلك، صحَّ ما قلنا مِن أن التخييرَ والافتراقَ إنما هما مَعْنَيانِ بهما يَكُونُ تمامُ البيعِ بعدَ عقدِه، وصحَّ تأويلُ مَن قال: معنى قولِه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} : إلا أن يَكُونَ أكلُكم الأموالَ التي تأكُلُها بعضُكم لبعضٍ، عن مِلْكٍ منكم عمن ملَكْتُموها عليه، بتجارةٍ تَبايَعْتُموها بينَكم، وافْتَرَقتم عنها عن تَراضٍ منكم بعدَ عقدِ البيعِ بينَكم بأبدانِكم، أو يُخَيِّرَ بعضُكم بعضًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} .
يعني بقولِه
(1)
جلّ ثناؤُه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : ولا يَقْتُلْ بعضُكم بعضًا وأنتم أهلُ ملَّةٍ واحدةٍ ودعوةٍ واحدةٍ ودينٍ واحدٍ. فجعَل جلَّ ثناؤُه أهلَ الإسلامِ كلَّهم بعضَهم مِن بعضٍ، وجعَل القاتلَ منهم قتيلًا، في قتلِه إياه منهم، بمنزلةِ قَتْلِه نفسَه، إذ كان القاتلُ والمقتولُ أهلَ يدٍ واحدةٍ على مَن خالَف ملتَهما.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مفضلٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن
(1)
في م: "بذلك".
السُّدِّيِّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . يَقولُ: أهل ملَّتِكم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءِ بن أبي رَباحٍ:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . قال: قَتْلُ بعضِكم بعضًا
(2)
.
وأما قولُه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . فإنه يَعْنى أن الله تبارك وتعالى لم يَزَلْ رحيمًا بخلقِه، ومِن رحمتِه بكم كفُّ بعضِكم عن قتلِ بعضٍ أيُّها المؤمنون، بتحريمِ دماءِ بعضِكم على بعضٍ إلا بحقِّها، وحَظْرِ أكلِ مالِ بعضِكم على بعضٍ بالباطلِ، إلا عن تجارةٍ يَمْلِكُ بها عليه برِضاه وطِيبِ نفسِه، لولا ذلك هَلَكتم وأهْلَك بعضُكم بعضًا، قَتْلًا وسَلْبًا وغَصْبًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ومَن يَقْتُلْ نفسَه. بمعنى: ومَن يَقْتُلْ أخاه المؤمنَ عدوانًا وظلمًا {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: أرأيتَ قولَه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} ، في كلِّ ذلك، أو في قولِه:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ؟ قال: بل في قولِه:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 144 إلى المصنف وابن المنذر، بلفظ: أهل دينكم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 144 إلى المصنف.
{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومَن يَفْعَلْ ما حَرَّمْتُه عليه مِن أوّلِ هذه السورةِ إلى قولِه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ؛ مِن نكاحِ مَن حَرَّمْتُ نكاحَه، وتعدِّى حدودِه، وأكْلِ أموال الأيتامِ ظلمًا، وقَتْلِ النفسِ المحرَّمِ قتلُها ظلمًا بغيرِ حقٍّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومَن يَأْكُلْ مالَ أخيه المسلمِ ظلمًا بغيرِ طِيبِ نفسٍ منه، وقَتَلَ أخاه المؤمنَ ظلمًا، فسوف نُصلِيه نارًا.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يُقالَ: معناه: ومَن يَفْعَلْ ما حرَّم اللهُ عليه مِن قوِله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} إلى قولِه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} . مِن نكاحِ المحرَّماتِ، وعَضْلِ المحرَّمِ عَضْلُها مِن النساءِ، وأكْلِ المالِ بالباطلِ، وقَتْلِ المحرَّمِ قتلُه من المؤمنينِ؛ لأن كلَّ ذلك مما وعَد اللهُ عليه أهلَه العقوبةَ.
فإن قال قائلٌ: فما مَنَعك أن تَجْعَلَ قولَه: {ذَلِك} معنِيًّا به جميعَ ما أوعَد اللهُ عليه العقوبةَ مِن أولِ السورةِ؟ قيل: مَنَعَنى
(2)
ذلك، أن كلَّ فَصْلٍ مِن ذلك قد قد قُرِن بالوعيدِ، إلى قولِه:{أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ، ولا ذِكْرَ للعقوبةِ مِن بعدِ ذلك على ما حرَّم اللهُ في الآيِ التي بعدَه، إلى قولِه:{فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} . فكان قولُه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ؛ معنيًّا به ما قلنا مما لم يُقْرَنْ بالوعيدِ، مع إجماع الجميعِ على أن الله تعالى قد تَوَعَّد على كلِّ ذلك، أَوْلَى مِن أَن يَكُونَ معنيًّا به ما يتسلَّفُ
(3)
فيه الوعيدُ بالنَّهي مقرونًا قبلَ ذلك.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 145 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م: "منع".
(3)
في م: "سلف". ويتسلَّف: يتقدم.
وأما قولُه: {عُدْوَانًا} . فإنه يعْنى به: تَجاوُزًا لما أباح اللهُ له، إلى ما حرَّمه عليه، {وَظُلْمًا} يَعْنى: فعلًا منه ذلك بغيرِ ما أذِن اللهُ به، ورُكوبًا منه ما قد نهاه اللهُ عنه.
وقولُه: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} . يَقُولُ: فسوف نُورِدُه نارًا يَصْلَى بها فيَحْتَرِقُ فيها. {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} ، يعني: وكان إصلاءُ فاعلِ ذلك النارَ وإحراقُه بها، على اللهِ سهلًا يسيرًا؛ لأنه لا يَقْدِرُ على الامتناعِ على ربِّه مما أراد به مِن سوءٍ، وإنما يَصْعُبُ الوفاءُ بالوعيدِ لِمَنْ تَوَعَّده، على مَن كان إذا حاول الوفاء به قَدَر المُتَوَعَّدُ من الامتناعِ منه، فأمَّا مَن كان في قَبْضَةِ مُوعِدِه، فيَسيرٌ عليه إمْضاءُ حُكمِه فيه، والوفاءُ له بوَعِيدِه، غيرُ عَسيرٍ عليه أمرٌ أرادَه به (*).
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الكبائرِ التي وعَد اللهُ جلَّ ثناؤُه عبادَه باجتنابِها تكفيرَ سائرِ سيئاتِهم عنهم؛ فقال بعضُهم: الكبائرُ التي قال اللهُ تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . هي ما تقدَّم اللهُ إلى عبادِه بالنَّهْي عنه من أوّلِ سورةِ "النساءِ" إلى رأسِ الثلاثين منها.
(*) بعده في ص: "نجز الجزء السادس من الكتاب بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. يتلوه في الجزء السابع إن شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}. وكان الفراغ منه في بعض شهور سنة خمس عشرة وسبعمائة، أحْسَنَ اللهُ تَقَضِّيَها وخاتمتَها في خير وعافية بمنه وكرمه. غفر الله لصاحبه ولكاتبه ولمؤلفه والجميع المسلمين. الحمد لله رب العالمين. طالعه الفقير إليه سبحانه محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفى، عُفى عنهم بمنِّه، وأتمه بتاريخ ثانى شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين واثنى عشر مئة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. بسم الله الرحمن الرحيم. ربِّ أعن".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ، قال: الكبائرُ مِن أَوَّلِ سورةِ النساءِ إلى ثلاثين منها
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ بمثلِه.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا حَجَّاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن إبراهيمَ، عن ابن مسعودٍ مثلَه.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا وكيعٌ، قال: ثنا الأعمشُ، عن إبراهيمَ، قال: ثنى علقمةُ، عن عبدِ اللهِ، قال: الكبائرُ مِن أوّلِ سورةِ النساءِ إلى قولِه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}
(2)
.
حدَّثنا الرفاعيُّ، قال: ثنا أبو معاويةَ وأبو خالدٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: الكبائرُ مِن أوّلِ سورةِ النساءِ إلى قولِه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}
(3)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: سُئل عبدُ اللهِ عن الكبائرِ، قال: ما بينَ فاتحةِ سورةِ النساءِ إلى رأسِ
(1)
أخرجه الطحاوى في المشكل 2/ 354 عقب حديث (899) من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 148 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 933 (5214) من طريق وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 148 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه البزار في مسنده (1532) من طريق أبى معاوية به، بلفظ: ما بين أول سورة النساء إلى رأس =
الثلاثين.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مغيرةَ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، عن ابن مسعودٍ، قال: الكبائرُ ما بينَ فاتحةِ سورةِ "النساء" إلى رأسِ الثلاثين.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مغيرةَ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، عن ابن مسعودٍ، قال: الكبائرُ ما بينَ فاتحةِ سورةِ "النساءِ" إلى ثلاثين آيةً منها، {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} .
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا مغيرةُ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ اللهِ، أنه قال: الكبائرُ من أوّلِ سورةِ النساءِ إلى الثلاثين منها؛ {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} .
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّة، عن ابن عَونٍ، عن إبراهيمَ، قال: كانوا يَرَوْن أن الكبائرَ فيما بينَ أول هذه السورةِ؛ سورةِ "النساءِ" إلى هذا الموضعِ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا آدمُ العَسْقَلانيُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصمِ بن أبى النَّجودِ، عن زِرِّ بن حُبَيشٍ، عن ابن مسعودٍ، قال: الكبائرُ مِن أوَّلِ سورةِ النساءِ إلى ثلاثين آيةً منها. ثم تلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا مِسْعرٌ، عن عاصمِ بن أبي النَّجودِ،
= الثلاثين، والطحاوى في المشكل 2/ 354 من طريق إبراهيم به.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 148 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 2/ 245، 246.
عن زِرِّ بن حُبَيشٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: الكبائرُ ما بينَ أوّلِ سورةِ النساءِ إلى رأسِ الثلاثين.
وقال آخرونَ: الكبائرُ سبعٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرَنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بن سهلِ بن أبي حَثْمَةَ، عن أبيه، قال: إنى لفى هذا المسجدِ؛ مسجدِ الكوفةِ، وعليٌّ رضي الله عنه يَخْطُبُ الناسَ على المنبرِ، فقال: ياأيُّها الناسُ إن الكبائرَ سبعٌ. فأصاخ الناسُ، فأعادَها ثلاثَ مراتٍ، ثم قال: ألا
(1)
تَسْأَلونى عنها؟ قالوا: يا أميرَ المؤمنين؛ ما هي؟ قال: الإشراكُ باللهِ، وقتلُ النفسِ التي حرَّم اللهُ، وقَذْفُ المُحْصنةِ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وأكلُ الرِّبا، والفرارُ يومَ الزحفِ، والتَّعَرُّبُ بعدَ الهجرةِ. فقلت لأبي: يا أَبَتِ
(2)
؛ التَّعَرُّبُ بعدَ الهجرةِ، كيف لحِق
(3)
ههنا؟ فقال: يا بُنيَّ؛ وما أعْظَمُ مِن أن يُهاجِرَ الرجلُ، حتى إذا وقَع سهمُه في الفَيْءِ ووجَب عليه الجهادُ، خلَع مِن ذلك عنقِه فرجَع أعرابيًّا كما كان
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُبيدٍ المُحارِبيُّ، قال: ثنا أبو الأَحْوَصِ سَلَّامُ بنُ سُلَيمٍ، عن ابن إسحاقَ، عن عُبَيدِ
(5)
بن عُميرٍ، قال: الكبائرُ سبعٌ، ليس منهن كبيرةٌ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لا". وفي تفسير ابن كثير: "لم لا".
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".
(3)
في: ص، ت 2، س:"نحن".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 244 عن المصنف.
(5)
في م: "عبيدة".
إلا وفيها آيةٌ مِن كتابِ اللهِ؛ الإشراكُ باللهِ منهن {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] و {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] و {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23]، والفرارُ مِن الزَّحْفِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، والتَّعرُّبُ بعدَ الهجرةِ {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25]، وقَتْلُ النفسِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن ابن إسحاقَ، عن عُبيدِ بن عُميرٍ اللَّيْثيِّ، قال: الكبائرُ سبعٌ؛ الإشراكُ باللهِ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ، وقَتْلُ النفسِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: 93]، وأكلُ الرِّبا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآية، وأكْلُ أموالِ اليَتامَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية، وقَذْفُ المُحْصَنَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية، والفِرارُ مِن الزحفِ:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} الآية [الأنفال: 16]، والمُرْتَدُّ أعْرابيًّا بعدَ هجرتِه {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} الآية.
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن ابن عَوْنٍ، عن محمدٍ، قال: سأَلت عَبِيدةَ عن الكبائرِ، فقال: الإشراكُ باللهِ، وقتلُ النفسِ التي حرَّم اللهُ بغيرِ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 247 عن المصنف.
حقِّها، وفرارٌ يومَ الزحفِ، وأكلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حقِّه، وأكلُ الرِّبا، والبُهتانُ. قال: ويَقُولون: أعْرابِيَّةٌ بعدَ هِجْرةٍ. قال ابن عونٍ: فقُلْتُ لمحمدٍ فالسحرُ؟ قال: إن البُهتانَ يَجْمَعُ شرًّا كثيرًا
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا منصورٌ وهشامٌ، عن ابن سيرينَ، عن عَبيدةَ أنه قال: الكبائرُ؛ الإشراكُ، وقتلُ النفسِ الحرامِ، وأكلُ الرِّبا، وقذفُ المُحْصَنةِ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والفرارُ مِن الزحفِ، والمرتدُّ أعرابيًّا بعدَ هجرتِه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: ثنا هشامٌ، عن ابن سيرينَ، عن عَبيدةَ بنحوِه.
وعلةُ من قال هذه المقالةَ ما حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: أخبَرنى الليثُ، قال: ثنى خالدٌ، عن سعيدِ بن أبي هلالٍ، عن نُعَيْمٍ المُجْمِرِ، قال: أخبَرني صُهَيبٌ مولى العُتْوَاريِّ أنه سَمع مِن أبى هريرةَ وأبي سعيدٍ الخُدْريِّ، يَقولانِ: خَطَبَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال:"والذي نفسي بيدِه" ثَلاثَ مراتٍ. ثم أكَبَّ، فأكبَّ كلُّ رجلٍ منا يَبْكى، لا يَدْرِى على ماذا حلَف، ثم رفَع رأسَه
(2)
في وجهه البِشْرُ، فكان أحبَّ إلينا مِن حُمْرِ النَّعَمِ، فقال:"ما مِن عبدٍ يُصَلِّي الصلواتِ الخمسَ، ويَصُومُ رمضانَ، ويُخْرِجُ الزكاةَ، ويَجْتَنِبُ الكبائر السبعَ، إلا فُتحتْ له أبوابُ الجنةِ، ثم قيل: ادخُلْ بسلامٍ"
(3)
.
(1)
نقله ابن كثير في تفسيره 2/ 247 بإسناده ولفظه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 148 إلى المصنف.
(2)
بعده في م: "و". والمثبت كما في سنن النسائي.
(3)
أخرجه البخارى في تاريخه الكبير 4/ 316 من طريق عبد الله بن صالح به، والنسائي في سننه (2437) من طريق الليث به، وابن خزيمة (315) من طريق سعيد بن أبي هلال به.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن عطاءٍ، قال: الكبائرُ سبعٌ: قتلُ النفسِ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، ورَمْيُ المحصنةِ، وشهادةُ الزُّورِ، وعقوقُ الوالدَيْنِ، والفرارُ يومَ الزحفِ.
وقال آخرون: هي تسعٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا زيادُ بنُ مِخْراقٍ، عن طَيْسَلةَ بن مَيَّاسٍ، قال: كنتُ مع النَّجَداتِ
(1)
، فأصبتُ ذُنوبًا لا أُراها إلا مِن الكبائرِ، فلَقِيتُ ابنَ عمرَ، فقُلْتُ: إنى أصبتُ
(2)
ذُنوبًا لا أُراها إلا مِن الكبائرِ. قال: وما هي؟ قلتُ: أصبتُ
(3)
كذا وكذا. قال: ليس مِن الكبائرِ - قال: بشيءٍ
(4)
لم يُسَمِّهِ
(5)
طَيْسَلةُ - قال: هي تِسعٌ، وسأَعُدُّهنّ عليك؛ الإشراكُ باللهِ، وقَتْلُ النَّسَمةِ بغيرِ حلِّها، والفرارُ من الزحفِ، وقذفٌ المُحْصَنةِ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ ظلمًا، وإلحادٌ في المسجد الحرام، والذي يَسْتَسْحِرُ، وبكاء الوالدين مِن العُقوقِ. قال
(6)
زيادٌ: وقال طَيْسَلةُ: لَمَّا رأى ابن عمرَ فَرَقِى قال: أَتَخافُ النارَ أَن تَدْخُلَها؟ قُلْتُ: نعم. قال: وتُحِبُّ أن تَدْخُلَ الجنةَ؟ قُلْتُ
(7)
: نعم. قال: أَحَيٌّ والِدَاك؟
(1)
في م: "الحدثان". والنجدات أصحاب نَجْدَة بن عامر الحَرُورى الحَنَفيّ، من بني حَنِيفة، خارجيٌّ من اليَمامة، وأصحابه قوم من الحروريةِ، ويقال لهم أيضًا النجدية. ينظر تاج العروس (ن ج د).
(2)
في ص، م:"أصيب".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "أشيء".
(5)
في م، س:"يسمعه".
(6)
بعده في م: "ابن".
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
قلت: عندى أُمِّي. قال: فواللهِ لئن أنت ألَنْتَ لها الكلامَ، وأطْعَمْتَها الطعامَ، لتَدْخُلَنَّ الجنةَ ما اجْتَنَبْتَ المُوجِباتِ
(1)
.
حدَّثنا سليمانُ بنُ ثابتٍ الخَرّازُ الواسطيُّ، قال: أَخبَرنا سَلْمُ بنُ سَلَّامٍ، قال: أخبَرنا أيوبُ بنُ عُتْبَةَ، عن طَيْسَلةَ بن عليٍّ النَّهْدِيِّ
(2)
، قال: أَتَيْتُ ابنَ عمرَ، وهو في ظلِّ أراكٍ يومَ عَرَفةَ، وهو يَصُبُّ الماءَ على رأسِه ووجهِه قال: قُلْتُ: أخبِرني عن الكبائر؟ قال: هي تِسعٌ. قلتُ: ما هنَّ؟ قال: الإشراكُ باللهِ، وقذفُ المحصنةِ - قال: قلت: قبلَ القتلِ؟ قال: نعم، ورَغْمًا - وقتلُ النفسِ المؤمنةِ، والفرارُ من الزحفِ، والسحرُ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وعقوقُ الوالِدَيْن المسلمَيْن، وإلحادٌ
(3)
بالبيتِ الحرامِ قبلتِكم أحياءً وأمواتًا
(4)
.
حدَّثنا سليمانُ بنُ ثابتٍ الخَرّازُ، قال: أخبَرنا سَلْمُ بنُ سَلَّامٍ، قال: أخبَرنا أيوبُ بن عتبةَ، عن يحيى، عن
(5)
عُبيدِ بن عُميرٍ، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بمثلِه. إلا أنه قال: بدَأ بالقتلِ قبلَ القذفِ
(6)
.
(1)
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده - كما في المطالب العالية 8/ 545 (3935) - والبخاري في الأدب المفرد (8) عن ابن علية به، وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 2/ 238 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 146 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والقاضي في أحكام القرآن.
(2)
كذا في النسخ. وهو في تاريخ البخارى وغيره: "البهدلى". قال البخارى: وبهدلة من بنى سعد، والنهدى لا يصح. التاريخ 4/ 367.
(3)
في م: "الإلحاد"، وفى ت 1:"الخلا"، وفى س:"الجلاس".
(4)
أخرجه البغوي في الجعديات 2/ 80 (3339)، والخرائطى في مساوئ الأخلاق ص 118 (247)، والبيهقى 3/ 409، والخطيب في الكفاية ص 105 من طريق أيوب بن عتبة به.
(5)
في النسخ: "بن". والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 31/ 504.
(6)
أخرجه الطبراني 17/ 48 (102) من طريق أيوب بن عتبة به، وأبو داود (2875)، والنسائي (4023)، والطبراني 17/ 47، 48 (101)، والحاكم 1/ 59، 4/ 259، 260 من طريق يحيى بن أبي =
وقال آخرون: هي أربعٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامُ بنُ سَلْمٍ، عَن عَنْبَسَةَ، عَن مُطَرِّفٍ، عن وَبَرَةَ، عن ابن مسعودٍ، قال: الكبائرُ؛ الإشراكُ باللهِ، والقُنوطُ مِن رحمةِ اللهِ، والإياسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والأمنُ مِن مكرِ اللهِ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ. قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا مُطَرِّفٌ، عن وَبَرةَ بن عبدِ الرحمنِ، عن أبي الطُّفيلِ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: أكبرُ الكبائرِ الإشراكُ باللهِ، والإياسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والقُنوطُ من رحمةِ اللهِ، والأمنُ مِن مكرٍ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن وَبَرةَ بن عبدِ الرحمنِ، قال: قال عبدُ اللهِ: إن الكبائرَ الشركُ باللهِ، والقُنوطُ مِن رحمةِ اللهِ، والأمنُ مِن مكرِ اللهِ، والإياسُ مِن رَوْحِ اللهِ.
حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، قال: سَمِعْت مُطَرِّفًا عن وَبَرَةَ، عن أبي الطُّفَيلِ، قال: قال عبدُ اللهِ: الكبائرُ أربعٌ؛ الإشراكُ باللهِ، والقُنوطُ مِن رحمةِ اللهِ، واليأسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والأمنُ مِن مكرِ اللهِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا عبيد
(2)
الله، قال: أخبَرنا شَيْبانُ،
= كثير عن عبد الحميد بن سنان عن عبيد بن عمير به.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 243 عن المصنف.
(2)
في النسخ: "عبد الله". وقد تقدم مرارًا.
عن الأعمشِ، عن وَبَرَةَ، عن أبي الطُّفيلِ، قال: سمِعت ابنَ مسعودٍ يقول: أكبرُ الكبائرِ الإشراكُ باللهِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيد
(1)
اللهِ، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن وَبَرةَ، عن أبي الطفيلِ، عن عبدِ اللهِ بنحوِه
(2)
.
حدَّثني ابن المثنى، قال: ثنى وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عبدِ الملكِ عن
(3)
أبي الطُّفَيْلِ، عن عبدِ اللهِ، قال: الكبائرُ أربعٌ؛ الإشراكُ باللهِ، والأمنُ مِن مكرِ اللهِ، والإياسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والقُنوطُ مِن رحمةِ اللهِ
(4)
.
وبه قال: ثنا شعبةُ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن أبي الطُّفَيلِ، عن عبدِ اللهِ بمثلِه.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن القاسمِ بن أبى بَزَّةَ، عن أبي الطُّفيلِ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودِ بنحوِه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ العزيزِ بن رُفَيْعٍ، عن أبي الطُّفيلِ، عن ابن مسعودٍ، قال: الكبائرُ أربعٌ؛ الإشراكُ باللهِ، وقتلُ النفسِ التي حرَّم اللهُ، والأمنُ لمكرِ اللهِ، والإياسُ مِن رَوْحِ اللهِ.
(1)
في النسخ: "عبد الله". وقد تقدم مرارًا.
(2)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه (19701) عن أبي إسحاق به، وعنه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 155، والطبراني (8784).
(3)
في النسخ: "بن".
(4)
أخرجه الطبراني (8783) من طريق عبد الملك به، وأخرجه (8785) من طريق أبي وائل عن ابن مسعود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 147 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي الدنيا في التوبة.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن المَسْعوديِّ، عن فُراتٍ القَزَّازِ، عن أبي الطُّفيلِ، عن عبدِ اللهِ، قال: الكبائرُ؛ القُنوطُ مِن رحمةِ اللهِ، والإياسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والأمنُ لمكرِ اللهِ، والشركُ باللهِ.
وقال آخرون: كلُّ ما نهَى اللهُ عنه فهو كبيرةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن منصورٍ، عن ابن سيرينَ، عن ابن عباسٍ، قال: ذُكِرت عندَه الكبائرُ، فقال: كلُّ ما نهى اللهُ عنه فهو كبيرةٌ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبَرَنا أيوبُ، عن محمدٍ، قال: أُنْبِئتُ أن ابنَ عباسٍ كانَ يَقُولُ: كلُّ ما نهَى اللهُ عنه كبيرةٌ. وقد ذُكِرت الطَّرْفَةُ، قال: هي النَّظْرةُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعتمِرٌ، عن أبيه، عن طاوسٍ، قال: قال رجلٌ لعبدِ اللهِ بن عباسٍ: أخبِرْنى بالكبائرِ السبعِ. قال: فقال ابن عباسٍ: هي أكثرُ مِن سبعٍ وسبعٍ
(3)
. فما أدرى كم قالها مِن مرةٍ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن سليمانَ التَّيْمِيِّ
(5)
، عن طاوسٍ، قال: ذكَروا عندَ ابن عباسٍ الكبائرَ، فقالوا: هي سبعٌ. قال: هي أكثرُ مِن
(1)
أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (292، 7150) من طريق ابن سيرين به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 247 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 145، 146 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والطبراني.
(3)
في م: "تسع".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 246 عن المصنف.
(5)
في م: "التميمى". وينظر تهذيب الكمال 12/ 5.
سبعٍ وسبعٍ
(1)
. قال سليمان: فلا أدرى كم قالها مِن مرةٍ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ وابنُ أبى عديٍّ، عن عوفٍ، قال: قام أبو العاليةِ الرِّيَاحيُّ على حَلْقَةٍ أنا فيها، فقال: إن ناسًا يَقُولُون: الكبائرُ سبعٌ. وقد خِفْتُ أن تَكُونَ الكبائرُ سبعين أو يَزِدْنَ على ذلك
(2)
.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا الوليدُ، قال: سمِعت أبا عمرٍو يُخْبِرُ عن الزُّهْريِّ، عن ابن عباسٍ، أنه سئِل عن الكبائرِ: أسبعٌ هي؟ قال: هي إلى السبعين أقربُ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن قيسِ بن سعدٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، أن رجلًا قال لابنِ عباسٍ: كم الكبائرُ؟ سبعٌ هي؟ قال: إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبعٍ، غيرَ أنه لا كبيرةَ مع استغفارٍ، ولا صغيرةَ مع إصرارٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباسٍ فقال: أرأيت الكبائرَ السبعَ التي ذكَرهنَّ اللهُ ما هن؟ قال: هن إلى سبعين
(4)
أدنى منها إلى سبعٍ
(5)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، قال: قيل لابنِ عباسٍ: الكبائرُ سبعٌ؟ قال: هي إلى السبعين أقربُ
(6)
.
(1)
في م: "تسع".
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 934 عقب الأثر (5216) معلقا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 934 (5217) من طريق شبل به.
(4)
في م، وتفسير ابن أبي حاتم:"السبعين".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 934 (5216) من طريق ليث به.
(6)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه (19702) عن ابن طاوس به، وعنه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره 1/ 155، والبيهقي في الشعب (294)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 146 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ، قال: أخبَرَنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ مَعْدانَ
(1)
، عن أبي الوليدِ، قال: سأَلتُ ابنَ عباسٍ عن الكبائرِ، قال: كلُّ شيءٍ عُصِى اللهُ فيه فهو كبيرةٌ
(2)
.
وقال آخرون: هي ثلاثٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن مسعودٍ قال: الكبائرُ ثلاثٌ؛ اليأسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والقُنوطُ مِن رحمةِ اللهِ، والأمنُ مِن مكرِ اللهِ.
وقال آخرون: كلُّ مُوجِبَةٍ، وكلُّ ما أَوْعَد الله أهلَه عليه النار فكبيرةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} . قال: الكبائرُ كلُّ ذنبٍ ختَمه اللهُ بنارٍ أو غضَبٍ، أو لعنةٍ، أو عذابٍ
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا هشامُ بنُ حَسَّانَ، عن محمدِ بن واسعٍ، قال: قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: كلُّ مُوجِبةٍ في القرآنِ كبيرةٌ.
(1)
في النسخ: "سعدان". والمثبت من مصدر التخريج. وينظر التاريخ الكبير 5/ 210، والجرح والتعديل 5/ 176.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 247 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 146 إلى المصنف.
(3)
أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (290) من طريق عبد الله بن صالح به.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن محمدِ بن مِهْزَمٍ الشَّعّابِ، عن محمدِ بن واسعٍ الأزديِّ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: كلُّ ذنبٍ نسَبه اللهُ إلى النارِ، فهو مِن الكبائرِ
(1)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن سالمٍ أنه سمِع الحسنَ يَقُولُ: كلُّ مُوجِبةٍ في القرآنِ كبيرةٌ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} . قال: الموجباتُ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا جُويبِرٌ، عن الضحاكِ، قال: الكبائرُ كلُّ مُوجبةٍ أوجَب اللهُ لأهلِها النارَ، وكلُّ عملٍ يُقامُ به الحدُّ فهو مِن الكبائرِ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: والذي نَقولُ به في ذلك ما ثبَت به الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ما حدَّثنا به أحمدُ بنُ الوليدِ القرشيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنى عبيدُ اللهِ بنُ أبى بكرٍ، قال: سَمِعتُ أنسَ بنَ مالكٍ قال: ذكَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الكبائرَ - أو سئِل عن الكبائرِ - فقال: "الشركُ باللهِ، وقَتْلُ النفسِ،
(1)
أخرجه البخاري في تاريخه 1/ 230 من طريق محمد بن مهزم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 146 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 934 عقب الأثر (5215) معلقًا بنحوه.
(3)
تفسير مجاهد ص 273.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 146 إلى المصنف.
وعُقوقُ الوالِدَيْنِ". فقال: "ألا أُنَبِّئُكُم بأكبرِ الكبائرِ؟ " قال: "قولُ الزُّورِ". أو قال: "شهادةُ الزُّورِ". قال شعبةُ: وأكبرُ ظَنِّي أنه قال: "شهادةُ الزُّورِ"
(1)
.
حدَّثنا يحيى بنُ حَبيبِ بن عَرَبيٍّ، قال: حدَّثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: حدَّثنا شعبةُ، قال: أخبَرنا عبيدُ اللهِ بنُ أبى بكرٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الكبائرِ، قال:"الشركُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَيْنِ، وقَتْلُ النفسِ، وقولُ الزُّورِ"
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ كَثيرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عُبيدِ اللهِ بن أبى بكرٍ، عن أنسٍ، قال: ذكَروا الكبائرَ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"الإشراك باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَيْن، وقتلُ النفسِ، ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائرِ؟ قولُ الزُّورِ".
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن فِراسٍ، عن الشَّعْبيِّ، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال
(3)
: "الكبائرُ: الإشراكُ بالله، وعُقوقُ الوالِدَيْن، أو
(4)
قتل النفسِ" - شعبةُ الشاك - "واليمينُ الغَمُوسُ"
(5)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا [عُبيدُ اللهِ]
(6)
بنُ موسى، قال: ثنا
(1)
أخرجه أحمد 19/ 343، 344 (12336)، والبخارى (5977)، ومسلم (88) من طريق محمد بن جعفر به.
(2)
أخرجه مسلم (88/ 144)، وابن منده في الإيمان (474) من طريق يحيى بن حبيب به، والترمذي (1207، 3018)، والنسائى (4021، 4882) من طريق خالد بن الحارث به. وينظر الطيالسى (2188).
(3)
بعده في م: "أكبر".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"و".
(5)
أخرجه أحمد 11/ 475، 476 (6884)، والبخارى (6870)، والترمذى (3021) من طريق محمد بن جعفر به.
(6)
في النسخ: "عبد الله". والمثبت من مصادر التخريج.
شَيْبانُ، عن فراسٍ، عن الشعبيِّ، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما الكبائر؟ قال: "الشركُ باللهِ". قال: ثم مَهْ؟ قال: "وعُقوقُ الوالِدَين". قال: ثم مَهْ؟ قال: "واليمينُ الغَمُوسُ". قلت للشعبيِّ: ما اليمينُ الغَموسُ؟ قال: الذي يَقْتَطِعُ مالَ امرئ مسلمٍ بيَمينِه وهو فيها كاذبٌ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا ابن أبى السَّرِيِّ محمدُ بنُ المُتوكِّلِ العسقلانيُّ، قال: ثنا بَحِيرُ
(2)
بنُ سعدٍ، عن خالدِ بن مَعْدَانَ، عن أبي رُهمٍ، عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من أقام الصلاةَ، وآتى الزكاةَ، وصام رمضانَ، واجْتَنَب الكبائرَ فله الجنةُ". قيل: وما الكبائرُ؟ قال: "الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوَالِدَين، والفِرارُ يومَ الزحفِ"
(3)
.
حدَّثني عباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا [سعدُ بنُ عبدِ الحميدِ بن جعفرٍ]
(4)
، عن ابن أبي الزِّنادِ، عن موسى بن عُقْبةَ، عن [عُبيدِ اللهِ سَلْمَانَ]
(5)
الأَغَرِّ، عن أبيه أبي عبدِ اللهِ سلمانَ الأغرِّ، قال: قال أبو أيوبَ خالدُ بنُ
(1)
أخرجه البخارى (6920)، وابن حبان (5562)، والبيهقي في 10/ 35 من طريق عبيد الله بن موسى به.
(2)
في م، س:"محمد". وهو بَحير بن سعد السحولي أبو خالد الحمصى. ينظر تهذيب الكمال 4/ 20.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 413، 414 (الميمنية)، والنسائى (4020)، والطحاوي في مشكل الآثار (896)، من طريق بحير بن سعد به.
(4)
في النسخ: "سعد بن عبد الحميد عن جعفر عن ابن أبي جعفر" وهذا تخليط من النساخ، وينظر تهذيب الكمال 10/ 285، 286.
(5)
في م: "عبد الله بن سلمان"، وفى ت 2:"عبيد بن سليمان"، وفى س:"عبد بن سلمان". وقد جاء في بعض مصادر التخريج "عبيد الله بن سليمان"، وفي أحدها "عبد الله بن سلمان".
زيدٍ
(1)
الأنصاريُّ عَقَبيٌّ بَدْرِيٌّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما مِن عبدٍ يَعْبُدُ اللهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا، ويُقيمُ الصلاةَ، ويُؤْتى الزكاةَ، ويَصُومُ رمضانَ ويَجْتَنِبُ الكبائرَ إلا دخَل الجنةَ". فسأَلوه: ما الكبائرُ؟ قال: "الإشراكُ باللهِ، والفِرارُ مِن الزحفِ، وقَتْلُ النفسِ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا عَبَّادُ بنُ عَبّادٍ، عن جعفرِ بنِ الزبيرِ، عن القاسمِ، عن أبي أُمامةَ أن ناسًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذكَروا الكبائرَ، وهو مُتَّكِئٌ، فقالوا
(3)
: الشركُ باللهِ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وفِرارٌ مِن الزحفِ، وقذفُ المُحصَنةِ، وعقوقُ الوالِدَين، وقولُ الزُّورِ والغُلولُ والسِّحرُ وأكلُ الربا. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فأين تَجْعَلُون: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخرِ الآيةِ
(4)
[آل عمران: 77].
حدَّثنا عُبيدُ اللهِ بنُ محمدِ الفِرْيابيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي معاويةَ، عن أبي عمرٍو الشَّيْبَانيِّ، عن عبدِ اللهِ، قال: سأَلْتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما الكبائرُ؟ قال: "أن تَدْعُوَ لله نِدًّا خلَقك، وأن تَقْتُلَ ولدَك مِن أجلِ أن يَأْكُلَ معك، وأن تَزْنِيَ بحليلةِ جارِك". وقرَأ علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
(1)
فى النسخ: "أيوب". وهو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة أبو أيوب الأنصاري الخزرجي. ينظر ترجمته أسد الغابة 2/ 94، والإصابة 2/ 234، وتهذيب الكمال 8/ 66.
(2)
أخرجه ابن حبان (3247)، وابن منده في الإيمان (478)، والحاكم 1/ 23 ثلاثتهم من طريق موسى بن في عقبة به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فقال".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 244، 245 عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 147 إلى المصنف.
يَزْنُونَ}
(1)
[الفرقان: 68].
حدَّثنى هذا الحديثَ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الزُّهْريُّ، فقال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو معاويةَ النَّخَعيُّ -وكان على السجنِ- سمِعه مِن أبي عمرٍو، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: سأَلْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قلتُ
(2)
: أيُّ العملِ شرٌّ؟ قال: "أَن تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقك، وأن تَقْتُلَ ولدَك [من أَجْلِ]
(3)
أن يَأْكُلَ معك، وأن تَزْنِيَ بجارتِك". وقرَأ عليَّ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى ما قيل في تأويلِ الكبائرِ بالصحةِ، ما صحَّ به الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دونَ ما قاله غيرُه، وإن كان كلُّ قائلٍ فيها قولًا مِن الذين ذَكَرنا أقوالَهم، قد اجتهَد وبالَغ فى نفسِه، ولقولِه فى الصحةِ مذهبٌ. فالكبائرُ إذن؛ الشركُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَيْن، وقتلُ النفسِ المحرَّمِ قتلُها، وقولُ الزُّورِ -وقد يَدْخُلُ فى قولِ الزُّورِ شهادةُ الزورِ- وقذفُ المُحصَنةِ، واليمينُ الغَموسُ، والسِّحرُ- ويَدْخُلُ في قتلِ النفسِ المحرَّمِ قتلُها، قتلُ الرجلِ ولدَه مِن أجلِ أن يَطْعَمَ معه- والفرارُ مِن الزحفِ، والزِّنا بحليلةِ الجارِ.
وإذ
(5)
كان ذلك كذلك، صحَّ كلُّ خبرٍ رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائرِ، وكان بعضُه مصدِّقًا بعضًا؛ وذلك أن الذى رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هي سبعٌ"، يَكُونُ معنى قولِه حينَئذٍ:"هي سَبْعٌ". على التفصيلِ، ويَكُونُ معنى قولِه في الخبرِ الذى رُوِى عنه أنه قال: "هي الإشراكُ باللهِ، وقتلُ
(1)
أخرجه الحميدى (103)، والبيهقى 8/ 18 من طريق سفيان بن عيينة به.
(2)
في م: "فقلت".
(3)
في م: "خشية".
(4)
أخرجه الطبراني (9811) من طريق أبي عمرو به.
(5)
في ص، ت 1، س:"إذا".
النفسِ، وعُقوقُ الوالِدَين، وقولُ الزُّورِ". على الإجمالِ؛ إذ كان قولُه:"وقولُ الزُّورِ". يَحْتَمِلُ معانيَ شَتَّى، وأَن يَجْمَعَ جميعَ ذلك قولُ الزورِ.
وأما خبرُ ابنِ مسعودٍ الذى حدَّثني به الفِريابيُّ على ما ذكَرتُ، فإنه عندى غَلَطٌ مِن عُبيدِ اللهِ بنِ محمدٍ؛ لأن الأخبارَ المُتَظاهِرةَ مِن الأوجهِ الصِّحاحِ عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بنحوِ الروايةِ التي رَواها الزُّهْريُّ عن ابن عُيَينةَ، ولم يَقُلْ أحدٌ منهم في حديثِه عن ابنِ مسعودٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الكبائرِ. فنَقْلُهم ما نقَلوا مِن ذلك عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْلَى بالصحةِ مِن نَقْلِ الفريابيِّ.
فمَنِ اجْتَنَب الكبائرَ التي وعَد اللهُ مُجْتَنِبَها تكفيرَ ما عَداها مِن سيئاتِه، وإدخالَه مدخلًا كريمًا، وأدَّى فرائضَه التى فرَضها اللهُ عليه، وجَد اللهَ لما وعَده مِن وَعْدٍ مُنْجِزًا، وعلى الوفاءِ له
(1)
ثابتًا
(2)
.
وأما قولُه: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . فإنه يعنى به: نُكَفِّرْ عنكم أيُّها المؤمنون باجتنابِكم كبائرَ ما يَنهاكم عنه ربُّكم صغائرَ سيئاتِكم. يعني صغائرَ ذُنوبِكم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ
(3)
، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} : الصَّغَارَ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ عَوْنٍ، عن الحسنِ، أن ناسًا لَقُوا عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو بمصرَ، فقالوا: نَرَى أشياءَ مِن كتابِ اللهِ أَمَر أَن يُعْمَلَ
(1)
في م: "به".
(2)
فى م: "دائبا". وفى ت 1: "ثانيا"، وفى ص، س: غير منقوطة.
(3)
في النسخ: "الحسن". وقد تقدم مرارًا.
(4)
فى م: "الصغائر". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 934 (5220) من طريق أسباط به.
بها، لا يُعْمَلُ
(1)
بها، فأرَدْنا أن نَلْقَى أميرَ المؤمنين فى ذلك. فقَدِم وقدِموا معه، فلَقِيَه عمرُ، رضي الله عنه، فقال: متى قدمت؟ قال: منذُ كذا وكذا. قال: أبإِذْنِ قدِمتَ؟ قال: فلا أدرى كيف ردَّ عليه. فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن ناسًا لَقُونى بمصرَ، فقالوا: إنّا نَرَى أشياءَ مِن كتابِ اللهِ تبارك وتعالى أمَر أن يُعْمَلَ بها، لا يُعْمَلُ
(2)
بها. فأَحَبُّوا أن يَلْقَوْك فى ذلك. فقال: اجْمَعْهم لى. قال: فجمَعتُهم له -قال ابنُ عونٍ: أظُنُّه قال: في بَهْوٍ
(3)
- فأخذ أدناهم رجلًا، فقال: أنْشُدُك باللهِ وبحقِّ الإسلامِ عليك، أقرَأتَ القرآنَ كلَّه؟ قال: نعم. قال: فهل أحْصيْتَه في نفسِك؟ قال: اللهمَّ لا. قال: ولو قال: نعم. لخَصَمَه. قال: فهل أحصيتَه في بصرِك؟ هل أحصَيْته فى لفظِك؟ هل أَحْصَيْتَه فى أثَرِك
(4)
؟ قال: ثم تَتَبَّعَهم حتى أتَى على آخرِهم، فقال: ثَكِلَتْ عمرَ أمُّهُ، أَتُكَلِّفونه أن يُقيمَ الناسَ على كتابِ اللهِ، قد علِم ربُّنا أن ستَكُونُ لنا سيئاتٌ. قال: وتلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} . هل علِم أهلُ المدينةِ -أو قال: هل علِم أحدٌ- فيما
(5)
قَدِمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علِموا لَوَعَظْتُ بكم
(6)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا زيادُ بنُ مِخْراقٍ، عن معاويةَ بنِ قُرَّةَ، قال: أَتَيْنا أنسَ بنَ مالكٍ، فكان فيما حدَّثنا قال: لم أَرَ مثلَ الذي بَلَغَنا عن ربِّنا، لم نَخْرُجْ له عن كلِّ أهلٍ ومالٍ. ثم سكَت هُنَيْهَةً، ثم قال: واللهِ لقد كلَّفَنا ربُّنا
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"نعمل".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2:"نعمل".
(3)
في النسخ: "نهر". والمثبت من تفسير ابن كثير. والبهو: البيت المقدم أمام البيوت. اللسان (ب هـ و).
(4)
في تفسير ابن كثير: "أمرك".
(5)
فى م، وتفسير ابن كثير:"بما".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 245 عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 145 إلى المصنف.
أهونَ من ذلك، لقد تجاوَز لنا عما دونَ الكبائرِ، فما لنا ولها. ثم تلا:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية
(1)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية: إنما وعَد اللهُ المغفرةَ لمن اجتنَب الكبائرَ. وذكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنِبوا الكبائرَ، وسدِّدُوا، وأبْشِروا"
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن رجلٍ، عن ابنِ مسعودٍ. قال في خمسِ آياتٍ من سورةِ "النساءِ": لَهُنَّ أَحبُّ إليَّ مِن الدنيا جميعًا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وقولُه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]. وقولُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
(3)
[النساء: 152].
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو النَّضْرِ، عن صالحٍ المُرِّيِّ، عن قتادةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ثمانِ آياتٍ نزَلت فى سورةِ "النساءِ" هي خيرٌ لهذه
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 364 من طريق معاوية بن قرة به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 2/ 145 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 248 عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 148 إلى عبد بن حميد، وأخرج أحمد 23/ 397 (15238) الجزء المرفوع عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 155 وأخرجه الطبراني (9069)، والحاكم 2/ 305 من طريق معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه عن جده بنحوه، وأخرجه البيهقى فى شعب الإيمان (7141) من طريق عطاء البزاز عن بشير الأزدي عن ابن مسعود نحوه.
الأمةِ مما طَلَعَتْ عليه الشمسُ وغَرَبتْ؛ أُولاهُنَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]. والثانيةُ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]. والثالثةُ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]. ثم ذكَر مثلَ قولِ ابنِ مسعودٍ سواءً، وزاد فيه: ثم أقبَل يُفَسِّرُها فى آخرِ الآيةِ: {وَكَانَ اللَّهُ} للذين عمِلوا الذَّنوبَ {غَفُورًا رَحِيمًا}
(1)
.
وأما قولُه: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} . فإن القَرَأةَ اخْتَلَفَتْ في قراءتِه؛ فقرَأتْه عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ وبعضُ الكوفيين: (وَنُدْخِلْكُمْ مَدْخَلًا كَرِيمًا) بفتحِ الميمِ
(2)
، وكذلك الذى فى "الحجِّ":(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مَدْخَلًا يَرْضَوْنه)[الحج: 59]، فمعنى:(ونُدْخِلْكُمْ مَدْخَلًا). فيَدْخُلون دُخولًا كَرِيمًا. وقد يَحْتَمِلُ على مذهبِ مَن قرَأ هذه القراءةَ أن يَكُونَ المعنى في المَدْخَلِ: المكانَ والموضِعَ؛ لأن العربَ ربما فَتَحتِ الميمَ من ذلك بهذا المعنى، كما قال الراجزُ
(3)
:
* بِمَصْبَحِ الحَمْدِ وحيثُ يُمْسى *
وقد أنشدنى بعضُهم سَماعًا مِن العربِ
(4)
:
الحمدُ للهِ مَمْسانا ومَصْبَحَنا
…
بالخيرِ صَبَّحنا ربي ومَسَّانا
وأنشَدني آخرُ غيرَه:
(1)
أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان (7145) من طريق صالح المرى به.
(2)
هي قراءة نافع وحده. السبعة لابن مجاهد ص 232.
(3)
معانى القرآن 1/ 264، واللسان (ص ب ح) غير منسوب فيهما.
(4)
البيت لأمية بن أبي الصلت، وهو في ديوانه ص 46.
* الحمدُ للهِ مُمْسانا ومُصْبَحَنا *
لأنه مِن أصبَح وأمْسَى. وكذلك تَفْعَلُ العربُ فيما كان مِن الفعلِ بناؤُه على أربعةٍ؛ تَضُمُّ ميمه فى مثلِ هذا، فتَقُولُ: دَحْرَجتُه [أُدَحْرِجُه دَحْرَجَةً ودِحْراجًا]
(1)
فهو مُدَحْرَجٌ، ثم يُحْمَلُ ما جاء على "أَفْعَلَ
(2)
يُفْعِلُ" على ذلك؛ لأنَّ "يُفْعِلُ" من "يُدْخِلُ"، وإن كان على أربعةٍ، فإن أصلَه أن يكونَ على "يُؤَفِّعِلُ
(3)
": يُؤَدْخِلُ، ويُؤَخْرِجُ. فهو نظيرُ: يُدَحْرِجُ.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفيين والبصريين: {مُدْخَلًا} بضمِّ الميمِ
(4)
، يعني: ونُدْخِلْكم إدخالًا كرِيما.
قال أبو جعفر: وأَوْلَى القراءتَيْن بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأ ذلك: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} بضمِّ الميمِ؛ لما وصَفْنا مِن أن ما كان مِن الفِعْلِ بناؤُه على أَربعةٍ في "فَعَل"
(5)
، فالمصدرُ منه "مُفْعَلٌ"، وأن أدْخَل ودَحْرَج "فَعَل" منه على أربعةٍ، فالمُدخَلُ مصدرُه أَوْلى مِن "مَفْعَلٍ"، مع أن ذلك أفصحُ في كلامِ العربِ في مصادرِ ما جاء على "أفْعَلَ"، كما يُقالُ: أقام بمكانٍ فطاب له المُقامُ، إذا أُرِيد به الإقامةُ.
(1)
سقط من: س، وفى ص بياض بقدر ثلاث كلمات. وفى م:"مدحرجًا". وفي ت 1 بياض بقدر كلمتين. وقد أثبتنا مقتضى ما أورده صاحب تاج العروس (مادة: دحرج) فإنه قال: دحرجه يدحرجه دحرجة، بالفتح على القياس، ودحراجًا، بالكسر وهو مقيس أيضًا كالأول. انتهى قوله. وقد رد -أى الزبيدي صاحب التاج- بعد ذلك على من قال أنه لم يسمع في دحرج: دحراج.
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"فعل".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يفتعل".
(4)
هي قراءة ابن كثير المكى وأبى عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي.
(5)
يعنى: أن ما كان من الأفعال من أربعة حروف -كـ "أدخل" و "أخرج" وغيرهما- في "فعل"؛ أي في الفعل الماضي.
وقام في موضعِه فهو في مَقامٍ واسع. كما قال جلّ ثناؤه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51]. من: قام يَقُومُ. ولو أُريد به الإقامةُ لقُرِئَ: (إِنَّ المُتَّقِينَ في مُقَامٍ أمينٍ). كما قُرِئَ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]، بمعنى الإدخالِ والإخراجِ، ولم يَبْلُغْنا عن أحدٍ أنه قرَأ: مَدْخَلَ صِدْقٍ
(1)
، ولا: مَخْرَجَ صِدْقٍ. بفتحِ الميمِ.
وأما المُدْخَلُ الكريمُ فهو الطيبُ الحسنُ، المكرَّمُ بنَفْيِ الآفاتِ والعاهاتِ عنه، وبارتفاعِ الهمومِ والأحزانِ ودخولِ الكَدَرِ في عيشِ مَن دَخَلَه، فلذلك سَمَّاه اللهُ كريمًا.
كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} . قال: الكريمُ هو الحسَنُ في الجنةِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
يَعْنى بذلك جلَّ ثناؤه: ولا تَتَشَهَّوْا ما فضَّل اللهُ به بعضَكم على بعضٍ. وذُكِر أن ذلك نزَل في نساءٍ تَمَنَّيْنَ منازلَ الرجالِ، وأن يَكُونَ لهم ما لهم، فنهَى اللهُ عبادَه عن الأمانيِّ الباطلةِ، وأمرهم أن يسألوه مِن فضلِه، إذْ كانت الأمانيُّ تُوَرِّثُ أَهلَها الحسدَ والبَغْيَ بغيرِ الحقِّ.
ذكرُ الأخبارِ بما ذَكَرنا
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قالت أمُّ سَلَمةَ: يا رسولَ اللهِ، لا نُعْطَى الميراثَ، ولا نَغْزُو في
(1)
سقط من: ص، ت 1، س.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 934 (5221) من طريق أحمد بن المفضل به.
سبيل الله فتُقْتَلَ؟! فنَزَلتْ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ هشامٍ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قالت أمُّ سَلَمَةَ: يا رسولَ اللهِ، تَغْرُو الرجالُ ولا نَغْرُو، وإنما لنا نصفُ الميراثِ؟! فنَزَلَتْ:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} . ونزَلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35].
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . يقولُ: لا يَتَمَنَّى الرجلُ يقولُ: ليت أنَّ لي مالَ فلانٍ وأهلَه. فنهَى اللهُ سبحانَه عن ذلك، ولكن لِيسْأَلِ اللهَ مِن فضلِه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، قال: قولُ النساءِ: ليتَنا رجالًا
(3)
فتَغْزُوَ، ونَبْلُغَ ما يَبْلُغُ الرجالُ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 935 (5224، 5225)، والحاكم 2/ 305، 306 من طريق سفيان الثورى به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 935 (5226) من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح به.
(3)
في م: "رجال" وقد جاء في مصدر التخريج: "ليتنا كنا رجالًا". وقد أجاز الفراء نصب اسم ليت وخبرها فقال: ليت زيدًا قائما على معنى ليت، فكأنه قال: أتمنى زيدا قائما. وأجاز الكسائي نصبهما أيضا، على إضمار "كان"، والتقدير عنده: ليت زيدًا كان قائما، وينظر تفصيلًا أكثر في شرح المفصل لابن يعيش 8/ 84.
(4)
تفسير مجاهد ص 273، 274.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} : قولُ النساءِ يَتَمَنَّين: ليتنا رجالٌ فَنَغْزُوَ. ثم ذكَر مثلَ حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ عُيَينةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قالت أمُّ سَلَمَةَ: أَي رسولَ اللهِ، أَتَغْزُو الرجالُ ولا تَغْزُو، وإنما لنا نصفُ الميراثِ؟! فنزَلت:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن شيخٍ مِن أهلِ مكةَ قولَه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . . قال: كان النساءُ يَقُلْن: ليتَنا رجالٌ فنُجاهدَ كما يُجاهِدُ الرجالُ، ونَغْزُوَ في سبيلِ اللهِ. فقال اللهُ:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(2)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال:[لا تَمَنَّ]
(3)
مالَ فلانٍ، ولا
(4)
مالَ فلانٍ، وما يُدْريك لعلَّ هلاكَه في ذلك المالِ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال ثنا الحسينُ قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عكرمةَ ومجاهدٍ، أنهما قالا: نزلت في أمِّ سَلَمَةَ ابنةِ أبى أميةَ بن المغيرةِ
(6)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 156، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (624 - تفسير)، وأحمد 6/ 322 (الميمنية)، والترمذى (3022)، وأبو يعلى (6959)، والواحدى فى أسباب النزول ص 110 من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 149 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 156.
(3)
في م: "تتمنى".
(4)
سقط من: م.
(5)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 935 عقب الأثر (5226) معلقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 149 إلى المصنف.
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 149 إلى المصنف.
وبه قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، قال: هو الإنسانُ يَقُولُ: وَدِدتُ أن لى مالَ فلانٍ. قال: اسْأَلوا اللهَ مِن فضلِه. وقولُ النساءِ: ليتَنا رجالٌ فتَغْزُو، ونَبْلُغَ ما يَبْلُغُ الرجالُ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يَتَمَنَّ بعضُكم ما خَصَّ اللهُ بعضًا مِن منازلِ الفضلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} : فإن الرجالَ قالوا: تُريدُ أن يَكُونَ لنا مِن الأجرِ الضِّعْفُ على أجرِ النساءِ، كما لنا في السهامِ سهمان، فنُريدُ أن يَكُونَ لنا فى الأجرِ أجران. وقالت النساءُ: نُرِيدُ أَن يَكُونَ لنا أجرٌ مثلُ أجرِ الرجالِ، فإنا لا نَسْتَطيعُ أن تُقاتِلَ، ولو كُتِب علينا القتالُ لقاتَلْنا. فأَنزَل اللهُ تعالى ذلك
(2)
، وقال لهم: سَلُوا اللهَ مِن فضلِه يَرْزُقْكم الأعمالَ، وهو خيرٌ لكم
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، قال: نُهِيتُم عن الأمانيِّ، ودُلِلْتُم على ما هو خيرٌ منه، وسَلُوا اللهَ مِن فضلِه
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عارِمٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، قال: كان محمدٌ
(5)
إذا سمِع الرجلَ يَتَمَنَّى فى الدنيا، قال: قد نهاكم اللهُ عن هذا: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، ودلَّكم على خيرٍ منه: {وَاسْأَلُوا
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 935 عقب الأثر (5226) معلقًا، وينظر تفسير ابن كثير 2/ 251.
(2)
في م: "الآية".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 936 (5229) من طريق أحمد بن المفضل به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 935 عقب الأثر (5226) بنحوه معلقا.
(5)
أى محمد بن سيرين.
اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: فتأويلُ الكلامِ على هذا التأويلِ: ولا تَتَمَنَّوْا أيها الرجالُ والنساءُ الذي فضَّل اللهُ به بعضَكم على بعضٍ مِن منازلِ الفضلِ ودرجاتِ الخيرِ، ولْيَرْضَ أحدُكم بما قسَم اللهُ له مِن نصيبٍ، ولكنْ سَلُوا اللهَ مِن فضلِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} .
اختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: للرجالِ نصيبٌ مما اكتَسَبوا مِن الثوابِ على الطاعةِ، والعقابِ على المعصيةِ، وللنساءِ نصيبٌ من ذلك مثلُ ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} : كان أهلُ الجاهليةِ لا يُوَرِّثون المرأةَ شيئًا، ولا الصَّبِيَّ شيئًا
(2)
، وإنما يَجْعَلُون الميراثَ لمن يَحْتَرِفُ ويَنْفَعُ ويَدْفَعُ، فلما لَحِق للمرأةِ نصيبُها وللصبيِّ نصيبُه، وجُعِل للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأنثيين، قال النساءَ: لو كان جُعِل أنصِباؤنا
(3)
في الميراثِ كأَنْصِباءِ الرجالِ. وقالتِ الرجالُ: إنا لنَرْجُو أن نُفَضَّلَ على النساءِ بحسناتِنا فى الآخرةِ، كما فُضِّلْنا عليهنّ فى الميراثِ. فأنْزَل اللهُ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا فى كتاب المتمنين ص 78 (131) من طريق حماد بن زيد به.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(3)
فى م، والدر المنثور:"أنصباءنا".
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} يقولُ: المرأةُ تُجْزَى بحسنتِها عَشْرَ أمثالِها كما يُجْزَى الرجلُ، قال اللهُ تعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حمادٍ، قال: ثني أبو ليلى، قال: سَمِعتُ أبا حَرِيزٍ
(2)
يَقُولُ: لما نزَل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. قالت النساءُ: كذلك عليهم نَصِيبان من الذنوبِ، كما لهم نَصِيبان مِن الميراثِ. فأنزَل اللهُ:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} يعني: الذُّنوبَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ} يا معشرَ النساءِ {مِنْ فَضْلِهِ}
(3)
.
وقال آخرون: بل مَعْنى ذلك: للرجال نصيبٌ مما اكْتَسبوا مِن ميراثِ موتاهم، وللنساءِ نصيبٌ منهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} . يَعْنى: ما ترَك الوالِدان والأقرَبون، يَقُولُ:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن أبي إسحاقَ، عن عكرمةَ أو غيرِه في
(1)
ذكره الواحدى فى أسباب النزول ص 110، 111 بنحوه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 149 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(2)
فى ص: "حرير" غير منقوطة، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"جرير". والمثبت من مصدر التخريج. ينظر تهذيب الكمال 14/ 420، 16/ 196.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 149 إلى المصنف.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 936 (5227) من طريق عبد الله بن صالح به.
قولِه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} . قال: في الميراثِ، كانوا لا يورِّثون النساءَ.
قال أبو جعفرٍ: وأوْلى القولين فى ذلك بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال معناه: للرجالِ نصيبٌ مِن ثوابِ اللهِ وعقابِه مما اكتَسَبوا، فعَمِلوه مِن خيرٍ أو شرٍّ، وللنساءِ نصيبٌ مما اكتسَبن من ذلك كما للرجالِ.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويلِ الآيةِ مِن قولِ مَن قال: تأويلُه: للرجالِ نصيبٌ مِن الميراثِ وللنساءِ نصيبٌ منه؛ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخبرَ أن لكلِّ فريقٍ مِن الرجالِ والنساءِ نصيبًا مما اكْتَسَب، وليس الميراثُ مما اكْتَسَبَه الوارثُ، وإنما هو مالٌ أورثه اللهُ عن مَيِّتِه بغيرِ اكتسابٍ. وإنما الكَسْبُ العملُ، والمكتسِبُ المُحْتَرِفُ، فغيرُ جائزٍ أن يَكُونَ معنى الآيةِ، وقد قال اللهُ:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} : للرجالِ نصيبٌ مما ورِثوا وللنساءِ نصيبٌ مما وَرِثْنَ. لأن ذلك لو كان كذلك لَقِيلَ: للرجالِ نصيبٌ مما لم يَكْتسبوا، وللنساءِ نصيبٌ مما لم يَكْتَسِبن.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} .
يعنى بذلك جلَّ ثناؤه: واسْأَلوا الله من عونِه وتوفيقِه للعملِ بما يُرْضِيه عنكم من طاعتِه. ففَضْلُه في هذا الموضِع: توفيقُه ومعونتُه.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ مسلمٍ الرازيُّ، قال: ثنا أبو جعفرٍ النُّفَيْليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن أشعثَ، عن سعيدٍ:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} . قال: العبادةُ ليست مِن أمرِ الدنيا
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 936 (5231) من طريق أبي جعفر النفيلي به.
حدَّثنا محمدُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنى أبو جعفرٍ، قال: ثنا موسى، عن لَيْثٍ، قال: فضلُه: العبادةُ، ليس مِن أمرِ الدنيا.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا هشامٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} . قال: ليس بعرَضِ الدنيا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مفضلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} : يَرْزُقُكم الأعمالَ، وهو خيرٌ لكم
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا إسرائيلُ، عن حُكَيمِ بنِ جبيرٍ، عن رجلٍ لم يُسَمِّه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلُوا اللهَ مِن فضلِه، فإنه يُحِبُّ أن يُسْأَلَ، وإن مِن أفضلِ العبادةِ انتظارَ الفرجِ"
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} .
يَعْنى بذلك جلَّ ثناؤه: إن اللهَ كان بما يُصْلِحُ عبادَه فيما قسَم لهم مِن خيرٍ، ورفَع بعضَهم فوق بعضٍ فى الدينِ والدنيا، وبغيرِ ذلك من قضائِه وأحكامِه فيهم {عَلِيمًا}. يَقُولُ: ذا علمٍ، ولا تَتَمنَّوا غيرَ الذي قضى لكم، ولكنْ عليكم بطاعتِه، والتسليمِ لأمرِه، والرضا بقضائِه، ومسألتِه مِن فضلِه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} .
(1)
أخرجه ابن أبى شيبة 13/ 569، وأحمد في الزهد ص 381، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 936 (5230) وأبو نعيم في الحلية 3/ 281 من طريق ليث به.
(2)
جزء من أثر تقدم تخريجه ص 666.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 149 إلى المصنف.
يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} : ولكلِّكم أيُّها الناسُ {جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . يقولُ: وَرَثَةً مِن بنى عمِّه وإخوتِه وسائرِ عَصَبَتِه غيرِهم. والعربُ تُسَمَّى ابنَ العمِّ المَوْلَى، ومنه قولُ الشاعرِ:
ومَوْلًى رمَيْنا حولَه وَهُوَ مُدْغِلٌ
(1)
…
بأعْراضِنا والمُنْدياتُ
(2)
سُروعُ
يعنى بذلك: وابن عمٍّ رمَينا حولَه، ومنه قولُ الفضلِ بنِ العبَّاسِ
(3)
:
مهلًا بنى عمِّنا مهلًا مَوالِينا
…
لا [تُظْهِرُنَّ لنا]
(4)
ما كان مَدْفُونَا
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثنا إدريسُ، قال: ثنا طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . قال: وَرَثَةً
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} . قال: المَوَالى العَصَبةُ، يعنى الوَرَثَةَ
(6)
.
(1)
رجل مدغل: مُخابٌّ مفسد. اللسان (د غ ل).
(2)
المنديات: المخزيات. اللسان (ن دى).
(3)
مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 125، والكامل للمبرد 4/ 46.
(4)
في الكامل: "تنبشوا بيننا".
(5)
أخرجه البخارى (4580)، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 937 (5233) من طريق أبي أسامة به.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 937 (5234) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 149 إلى ابن المنذر والنحاس وابن مردويه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . قال: المَوَالَى العَصَبَةُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . قال: هما الأولياءُ
(1)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . يَقُولُ: عَصَبةً
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . قال: الموالى أولياءُ الأبِ، أو
(3)
الأخُ، أو ابنُ الأخِ، أو غيرُهما من العَصَبَةِ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} : أما {مَوَالِيَ} ، فهم أهلُ الميراثِ
(5)
.
حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . قال: الموالِى العصبةُ، هم كانوا في الجاهليةِ الموالِيَ، فلما دخَلت العَجَمُ على العربِ لم يَجِدوا لهم اسمًا، فقال اللهُ تبارك وتعالى:{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. فسُمُّوا
(6)
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 157، وهو فى مصنفه (19198).
(2)
ذكره ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 937 عقب الأثر (5234) معلقا.
(3)
سقط من: م.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 156.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 937 عقب الأثر (5234) من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به.
(6)
في ص، ت 1، س:"فسمي".
المَوالِيَ. قال: والمَوْلى اليومَ مَوْلَيان؛ مولًى يَرِثُ وَيُورَثُ، فهؤلاء ذَوُو الأرحامِ
(1)
، ومَوْلى يُورَثُ ولا يَرِثُ، فهؤلاء العتاقةُ
(2)
. وقال: ألا تَرَوْن قولَ زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5]. فالموالى ههنا الوَرَثَةُ
(3)
.
ويَعْنى بقولِه: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} : [من تَرِكةِ والديه وأَقْرَبيه]
(4)
مِن الميراثِ.
فتأويلُ الكلامِ: ولكلِّكم أيُّها الناسُ جعَلنا عَصَبَةً يَرِثون به مما ترَك والِدَه وأقْربوه مِن ميراثِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
(5)
أَيْمَانُكُمْ}.
اختلفت القرأةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُهم: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . بمعنى: والذين عقَدت أيمانُكم الحلِفَ بينَكم وبينَهم. وهى قراءةُ عامَّةِ قرأةِ الكوفيين
(6)
.
وقرأ ذلك آخرون: (والذين عاقدتْ أيمانُكم)
(7)
بمعنى: والذين عاقَدت أيمانُكم وأيمانُهم الحلِفَ بينَكم وبينَهم.
قال أبو جعفرٍ: والذى نَقُولُ به فى ذلك أنهما قراءتان معْروفتان مستفيضتان في
(1)
بعده فى س: "وموالى يرثون فهؤلاء العصبة".
(2)
العتاقة: مصدر مثل العتق، والمراد المعتقون.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 150 إلى المصنف.
(4)
فى م: "مما تركه والده وأقرباؤه".
(5)
في النسخ: "عاقدت". وأثبتنا ما رجحه المصنف كما في الصفحة التالية.
(6)
قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي. حجة القراءات ص 201.
(7)
وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. المصدر السابق.
قرأَةِ أمصارِ المسلمين بمعنًى واحدٍ.
وفى دَلالةِ قولِه: {أَيْمَانُكُمْ} . على أنها أيمانُ العاقِدين والمعقودِ عليهم الحِلفُ، مستغنًى عن الدَّلالةِ على ذلك بقراءةِ قولِه:{عَقَدَتْ} ، (عاقدَتْ). [وذلك]
(1)
أن الذين قرَءوا ذلك: (عاقَدَتْ). قالوا: لا يَكُونُ عَقْدُ الحِلْفِ إلا مِن فريقين، ولابدَّ لنا مِن دَلالةٍ في الكلامِ على أن ذلك كذلك. وأغفَلوا موضعَ دَلالةِ قولِه:{أَيْمَانُكُمْ} . على أن معنى ذلك: أيمانُكم وأيمانُ المعقودِ عليهم، وأن العقْدَ إنما هو صفةٌ للأيمانِ دونَ العاقِدين الحِلْفَ. حتى زعَم بعضُهم أن ذلك إذا قُرِئ:{عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . [فالكلامُ]
(2)
محتاجٌ إلى ضميرِ [صفةٍ تَقِي]
(3)
الكلامَ حتى يَكُونَ الكلامُ معناه: والذين عقَدت لهم أيمانُكم. ذَهابًا منه عن الوجهِ الذي قلنا في ذلك؛ مِن أن الأيمانَ معنيٌّ بها أيمانُ الفريقين.
وأما: (عاقَدَت أيمانُكم). فإنه فى تأويلِ: عاقدت أيمانُ هؤلاء أيمانَ هؤلاء الحِلْفَ. فهما متقاربا المعنى، وإن كانت قراءةُ مَن قرَأ ذلك:{عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . بغيرِ
(4)
ألفٍ، أصحَّ معنًى مِن قراءةِ مَن قرَأه:(عَاقَدَتْ). للذى ذكَرنا مِن الدَّلالةِ على المعنيِّ
(5)
في صفةِ الأيمانِ بالعقدِ، على أنها أيمانُ الفريقين مِن الدَّلالةِ على ذلك بغيرِه.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ذلك".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"والكلام".
(3)
فى م: "صلة فى"، ويقصد بالضمير هنا: الإضمار، وبالصفة: حرف الجر. ينظر ما تقدم في 1/ 310، 453.
(4)
فى س: "من غير".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"المعنيه". وجعل الشيخ شاكر العبارة هكذا: الدلالة المغنية. وينظر تفسيره للضمائر في هذه الجملة.
وأما معنى قولِه: {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . فإنه: وصَلَت وشَدَّت ووكَّدت، {أَيْمَانُكُمْ}. يعنى: مواثيقُكم التى واثَق بعضُكم
(1)
بعضًا.
{فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى "النصيب" الذي أمَر اللهُ أهلَ الحلِفِ أن يُؤْتِيَ بعضُهم بعضًا في الإسلامِ؛ فقال بعضُهم: هو نصيبُه مِن الميراثِ؛ لأنهم في الجاهليةِ كانوا يَتَوارَثون، فأوجَب اللهُ في الإسلامِ من بعضِهم لبعضٍ بذلك الحِلفِ، وبمثلِه فى الإسلامِ، مِن المُوارثةِ مثلَ الذي كان لهم في الجاهليةِ، ثم نسَخ ذلك بما فرَض مِن الفرائضِ لذوى الأرحامِ والقراباتِ.
ذكرُ مِن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسينِ بنِ واقدٍ، عن يزيدَ النحويِّ، عن عكرمةَ والحسنِ البصريِّ فى قولِه: (والذين عاقَدَتْ
(2)
أيمانكم فآتوهم نصيبَهم إنَّ اللهَ على كلِّ شَيْءٍ شهيدًا) قال: كان الرجلُ يحالِفُ الرجلَ، ليس بينَهما نسبٌ، فيرِثُ أحدُهما الآخرَ، فنسَخ اللهُ ذلك في "الأنفالِ"، فقال:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(3)
[الأنفال: 75].
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في قولِ اللهِ:(والذين عَاقَدَتْ أيمانُكم). قال: كان الرجلُ يُعاقِدُ الرجلَ فيَرِثُه، وعاقَد أبو بكرٍ رضي الله عنه مولًى فورِثَه
(4)
.
(1)
فى النسخ: "بعضهم". والمثبت هو الصواب.
(2)
كذا في النسخ، وستأتى فى موضع أخرى {عقدت} . وأثبتنا القراءة في كل أثر كما جاء في النسخ.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 938 عقب الأثر (5237) معلقًا.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (258)، (625 - تفسير) عن هشيم عن أبي بشر به، وعزاه =
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:(وَالَّذِينَ عَاقَدَت أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ): فكان الرجلُ يُعاقِدُ الرجلَ؛ أيُّهما مات ورِثه الآخرُ، فَأَنزَلَ اللهُ:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} يَقُولُ: إلا أن يُوصُوا لأوليائِهم الذين عاقَدوا وصيةً، فهو لهم جائزٌ مِن ثُلُثِ مالِ الميتِ، وذلك هو المعروفُ
(1)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} : كان الرجلُ يُعاقدُ الرجلَ فى الجاهليةِ فيُقُولُ: دمى دمُك، وهَدَمى هَدَمُك وتَرِثُنى
(2)
وأرِثُك، وتَطْلُبُ بى وأطْلُبُ بك. فجعَل له السُّدُسَ مِن جميعِ المالِ في الإسلامِ، ثم يَقْسِمُ أهلُ الميراثِ ميراثَهم، فنسِخ ذلك بعدُ في سورةِ "الأنفالِ"، فقال اللهُ:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:(والذين عاقَدَتْ أيمانُكم) قال: كان الرجلُ في الجاهليةِ يعاقِدُ الرجلَ فيَقُولُ: دمى دمُك
(4)
، وتَرِثُنى وأرِثُك، وتَطْلُبُ بى وأطْلُبُ بك. فلما جاء الإسلامُ بقى منهم
= السيوطى فى الدر المنثور 2/ 50 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(1)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 333 من طريق عبد الله بن صالح.
(2)
قال ابن الأثير في حديث بيعة العقبة: "بل الدم الدم والهدم الهدم". قال: فالهدم بالتحريك: القبر، يعني إني أقبر حيث تقبرون. وقيل: هو المنزل: أى منزلكم منزلى. والهدم بالسكون وبالفتح أيضا: هو إهدار دم القتيل، والمعنى: إن طُلب دمكم فقد طُلب دمى، وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمى .. وهو قول معروف للعرب عند المعاهدة والنصرة. النهاية 5/ 251.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 150 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
بعده في س: "وثوبى ثوبك".
ناسٌ، فأُمِروا أن يُؤْتُوهم نصيبَهم مِن الميراثِ وهو السُّدُسُ، ثم نسِخ ذلك بالميراثِ، فقال:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا همامُ بنُ يحيى، قال: سمِعتُ قتادةَ يَقُولُ فى قولِه: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ): وذلك أن الرجلَ كان يُعَاقِدُ الرجلَ فى الجاهليةِ فيَقُولُ: هَدَمى هَدَمُك، ودمى دمُك، وتَرِثْنى وأَرِثُك، وتَطْلُبُ بي وأطْلُبُ بك. فجعَل له السُّدُسَ مِن جميعِ المالِ، ثم يَقْتَسِمُ أهلُ الميراثِ ميراثَهم، فنسَخ ذلك بعدُ فى "الأنفالِ"، فقال:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فصارَت المواريثُ لذَوِى الأرحامِ.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عِكْرمةَ، قال: هذا خِلْفٌ كان في الجاهليةِ، كان الرجلُ يقولُ للرجلِ: تَرِثُنى وأَرِثُكَ، وتَنْصُرُني وأنصُرُك، وتَعْقِلُ عنى وأعقِلُ عنك
(2)
.
حُدِّثت عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: (وَالذِينَ عَاقَدَتْ أَيَمَانُكُم): كان الرجلُ يَتْبَعُ الرجلَ فيُعاقِدُه: إِن مِتُّ فَلَكَ مثلُ ما يَرِثُ بعضُ ولدى. وهذا منسوخٌ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَتَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ): كان
(4)
الرجلُ في الجاهليةِ قد كان
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 157، وهو في مصنفه (19197).
(2)
عقل عنه: أدَّى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه. اللسان (ع ق ل).
(3)
ذكره النحاس في ناسخه ص 333 معلقًا.
(4)
فى م: "فإن".
يُلْحِقُ به الرجلَ، فيكونُ تابِعَه، فإذا مات الرجلُ صار لأهلِه وأقاربِه الميراثُ، وبَقِى تابعًا
(1)
ليس له شيءٌ، فأنزَل اللهُ، (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَتُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). فكان يُعْطَى من ميراثِه، فأنزَل اللهُ بعدَ ذلك:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(2)
.
وقال آخرون: بل نزَلَت هذه الآيةُ فى الذين آخى بينَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصارِ، فكان بعضُهم يَرِثُ بعضًا بتلك المُؤاخاةِ، ثم نَسَخ اللهُ ذلك بالفرائضِ، وبقولِه:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو أُسامةً، قال: ثنا إدريسُ بنُ يزيدَ، قال: ثنا طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَتُكُمْ فَتَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). قال: كان المهاجِرون حينَ قَدِموا المدينةَ [يرِثُ المهاجرِيُّ الأنصاريَّ]
(3)
دونَ ذوى رَحِمِه
(4)
، للأخوةِ التي أخَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَهم، فلما نزَلَت هذه الآيةُ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . نُسِخَت
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِه: (وَالَّذِينَ
(1)
فى م: "تابعه".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 150 إلى المصنف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يورث الأنصار"، وفى س، وسنن أبى داود، والكبرى للنسائي:"تورث الأنصار"، وفي تفسير ابن أبي حاتم:"يورث الأنصارى". والمثبت من المطبوعة موافق لما في صحيح البخاري.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"رحمهم".
(5)
أخرجه البخاري (4580، 6747)، وأبو داود (2922)، والنسائى فى الكبرى (6417، 11103)، وابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 937 (5236)، والنحاس في ناسخه ص 331، والحاكم 2/ 306، والبيهقى 10/ 296 من طريق أبي أسامة به.
عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ): الذين عَقَد رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} إذا لم يأْتِ رَحِمٌ يحولُ بينَهم. قال: وهو لا يكونُ اليومَ، إنما كان في نَفَرٍ آخَى بينَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وانقطَع ذلك، ولا يكونُ هذا لأحدٍ إلا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، كان آخى بينَ المُهاجِرين والأنصارِ، واليومَ لا يُؤاخَى بينَ أحدٍ
(1)
.
وقال آخرون: بل نزَلَت هذه الآيةُ في أهلِ العَقْدِ بالحِلْفِ، ولكنهم أُمِروا أن يُؤْتِيَ بعضُهم بعضًا أنصباءَهم من النُّصْرَةِ والنصيحةِ وما أشبَه ذلك، دونَ الميراثِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو أُسامةَ، قال: ثنا إدريسُ الأَوْدِيُّ، قال: ثنا طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : من النصرِ والنصيحةِ والرِّفادةِ
(2)
، ويُوصِى لهم، وقد ذهَب الميراثُ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سُفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: كان حِلْفٌ في الجاهليةِ، فأُمِروا في الإسلامِ أن يُعْطوهم نصيبَهم من العَقْلِ والمَشورةِ والنصرةِ، ولا ميراثَ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 150 إلى المصنف.
(2)
الرفادة: العطية. فتح البارى 8/ 249.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 3/ 938 (5239) من طريق أبي أسامة به. وهو تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 938 (5240)، والنحاس في ناسخه ص 334 من طريق سفيان به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 150 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ أنه قال في هذه الآيةِ:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَشَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ): من العونِ والنصرِ والحِلْفِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). قال: كان هذا حِلْفًا في الجاهليةِ، فلما كان الإسلامُ أُمِروا أن يُؤتوهم نصيبَهم من النصرِ والوَلاءِ والمشورةِ، ولا ميراثَ
(1)
.
حدَّثنا زكريا بنُ يحيى بنِ أبي زائدةَ، قال: ثنا حجاجٌ، قال ابنُ جُرَيجٍ:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ): أخبرَني عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ أنه سمِع مجاهدًا يقولُ: هو الحِلْفُ، عقَدت أيْمانُكم. قال:{فَآتُوهُمْ}
(2)
. قال: النصرُ.
حدَّثني زكريا بنُ يحيى، قال: ثنا حجاجٌ، قال ابنُ جُرَيجٍ: أخبرَني عطاءٌ، قال: هو الخَلْفُ. قال: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . قال: العَقْلُ والنصرُ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). قال: لهم
(4)
نصيبُهم من النصرِ والرِّفادةِ والعَقْلِ
(5)
.
(1)
هو من تمام الأثر المتقدم في ص 668 حاشية (1).
(2)
في النسخ: "وآتوهم"، وأثبتنا قراءة الآية.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 188.
(4)
في س: "فآتوهم".
(5)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (260)، (626 - تفسير) عن سفيان عن ابن أبي نجيح به.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال: هم الحلفاءُ
(1)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا عَبَّادُ بنُ العَوَّامِ، عَن خُصَيفٍ، عن عِكرمةَ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : أَما {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . فالحِلْفُ، كان الرجلُ في الجاهليةِ يَنْزِلُ في القومِ فيُحالِفونه على أنه منهم، يُواسُونه بأنفسِهم، فإذا كان لهم حقٌّ أو قتالٌ كان مثلَهم، وإذا كان له حقٌّ أو نُصْرَةٌ خَذَلوه، فلما جاء الإسلامُ سألوا عنه، وأبَى اللهُ إلا أن يُشَدِّدَه، وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لم يَزِدِ الإسلامُ الحُلفاءَ إلا شِدَّةً"
(2)
.
وقال آخرون: بل نزَلَت هذه الآيةُ فى الذين كانوا يَتَبَنَّون أبناءَ غيرِهم في الجاهليةِ، فأُمِروا [في الإسلامِ]
(3)
أن يُوصوا لهم عندَ الموتِ وصيةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني الليثُ، عن عُقَيلٍ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: ثني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: إن اللهَ قال: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). قال
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 938 عقب الأثر (5237) معلقا.
(2)
سيأتى تخريج المرفوع منه في ص 679.
(3)
في م: "بالإسلام".
سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: إنما نزَلَت هذه الآيةُ فى الذين كانوا يَتَبَنَّون رجالًا غيرَ أبنائِهم ويُوَرِّثونهم، فأنزَل اللهُ فيهم، فجعَل لهم نَصيبًا فى الوصيةِ، ورَدَّ الميراثَ إلى الموالى فى ذِى
(1)
الرحمِ والعَصَبةِ، وأبَى اللهُ للمُدَّعَيْن ميراثًا ممن ادَّعاهم وتَبَنَّاهم، ولكنَّ اللهَ جعَل لهم نَصيبًا في الوصيةِ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَولى الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ قولِه: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قولُ مَن قال: والذين عَقَدَت أيمانُكم على المُخَالفةِ، وهم الحلفاءُ. وذلك أنه معلومٌ عندَ جميعِ أهلِ العلِم بأيامِ العربِ وأخبارِها، أَن عَقْدَ الحِلْفِ بينَها كان يكونُ بالأيمانِ والعهودِ والموَاثيقِ، على نحوِ ما قد ذكَرنا من الروايةِ في ذلك. فإذ كان اللهُ جلّ ثناؤُه إنما وَصَف الذين عَقَدَت أيمانُهم مَا عَقَدوه بها بينَهم، دونَ مَن لم يَعْقِدْ عقدَ ما بينهم أيمانُهم، وكانت مُؤاخاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بينَ مَن آخَى بينَه وبينَه من المُهاجِرِين والأنصارِ، [لم تكنْ]
(3)
بينَهم بأيمانِهم، وكذلك التَّبَنِّى - كان معلومًا أن الصوابَ من القولِ فى ذلك قولُ مَن قال: هو الحِلْفُ. دونَ غيرِه؛ لِما وَصفنا من العِلَّةِ.
وأمَّا قولُه: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . فإن أَولى التأويلَين به ما عليه الجميعُ مُجْمِعون من حكمِه الثابتِ، وذلك إيتاءُ أهلِ الحِلْفِ الذي كان في الجاهليةِ دونَ الإسلامِ، بعضِهم بعضًا أنصباءَهم؛ من النُّصْرَةِ والنصيحةِ والرأيِ، دونَ الميراثِ؛ وذلك لصحةِ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا حِلْفَ في الإسلامِ، وما كان من حِلْفٍ في الجاهليةِ، فلم يَزِدْه الإسلامُ إِلا شِدَّةً".
(1)
في م: "ذوى".
(2)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 332، والبيهقى 6/ 263 من طريق الزهرى به.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
حدَّثنا بذلك أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن شَريكٍ، عن سِماكٍ، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وحدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا مصعبُ بنُ المِقْدامِ، عن إسرائيلَ بن يونسَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ مولى آلِ، طلحةَ، عن عِكْرمةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا خِلْفَ في الإسلامِ، وكلُّ حِلْفٌ كان في الجاهليةِ فلم يَزِدْه الإسلامُ إلا شِدَّةً، وما يَسُرُّنى أن لى حُمْرَ النَّعَمِ وأَني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دارِ الندوةِ"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغِيرةَ، عن أبيه، عن شعبةَ بن التوأمِ الضَّبِّيِّ، أن قيسَ بنَ عاصمٍ سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الحِلْفِ، فقال:"لا حِلْفَ في الإسلامِ، ولكن تَمَسَّكوا بحِلْفِ الجاهليةِ"
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا مُغيرةُ، عن أبيه، عن شعبةَ بنِ التوأمِ، عن قيسِ بنِ عاصمٍ، أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الحِلْفِ، قال: فقال: "ما كان مِن حِلْفٍ فى الجاهليةِ فتَمَسَّكوا به، ولا حِلْفَ فى الإسلامِ"
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن داودَ بنِ أبي عبدِ اللهِ، عن ابنِ جُدْعانَ، [عَن جَدَّتِه]
(5)
، عن أمِّ سَلَمَةَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"لا حِلْفَ في الإسلامِ، وما كان مِن حِلْفٍ في الجاهليةِ لم يَزِدْه الإسلامُ إلا شِدَّةً"
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد 5/ 80، 167 (2909، 3045)، والدارمي 2/ 243، وأبو يعلى (2336)، وابن حبان (4370)، والطبراني (11740) من طرق عن شريك به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 253 عن المصنف.
(3)
أخرجه الطيالسي (1180)، والطبراني 18/ 337 (684) من طريق جرير به.
(4)
أخرجه أحمد 5/ 61 (ميمنية) عن هشيم به.
(5)
في م، ص:"عمن حدثه". والمثبت من مصدرى التخريج.
(6)
أخرجه أبو يعلى (6902)، والطبراني 23/ 375 (888) من طريق وكيع به.
حدَّثنا [حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا حُسينٌ المُعَلِّمُ]
(1)
، وحدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ قال: ثنا حُسينٌ المُعَلِّمُ، وحدَّثنا حاتمُ بنُ بكرٍ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، [عن حسينٍ المُعَلِّمِ، قال: ثنا أبي، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ]
(1)
، عن أبيه، عن جدِّه، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال في خُطبتِه يومَ فتحِ مكةَ:"فُوا بحِلْفِ، فإنه لا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شِدَّةً، ولا تُحْدِثوا حِلْفًا في الإسلامِ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وعَبْدَةُ بنُ عبدِ اللهِ الصَّفَارُ، قالا: ثنا محمدُ بنُ بِشْرٍ، قال: ثنا زكريا بنُ أبي زائدةَ، قال: ثني سعدُ بنُ إبراهيمَ، عن أبيه، عن جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا حِلْفَ فى الإسلامِ، وأيُّما حِلْفٍ كان في الجاهليةِ، فلم يَزِدْه الإسلامُ إلا شِدَّةً"
(3)
.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ ومحمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قالا: ثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ إسحاقَ، وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ إسحاقَ، عن الزهريِّ، عن محمدِ بنِ جُبيرِ بن مُطْعِمٍ، عن أبيه، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"شَهِدْتُ خِلْفَ المُطَيِّبِين وأنا غُلامٌ مع عُمومتى، فما أُحِبُّ أَن لِى حُمْرَ النَّعَمِ وأَنِّى أَنْكُثُه". زادَ يعقوبُ في حديثِه
(1)
كذا في النسخ، وقد وقع هنا في هذين الإسنادين خطأان؛ أولهما: أن حميد بن مسعدة شيخ الطبرى توفى سنة 244 هـ، فمن المحال أن يروى عن حسين المعلم وقد توفى سنة 145 هـ، أي إن بين وفاتهما 99 سنة، فلا بد من وجود واسطة بينهما كما في الإسنادين الآخرين. الثاني: المعروف أن حسينًا المعلم يروى مباشرة عن عمرو بن شعيب، وذكوان -والد حسين- ليس له ذكر فى دواوين الرجال -فيما نعلم- فالراجح أنها زيادة مقحمة من النساخ. وينظر تهذيب الكمال 6/ 372، 7/ 395، وتعليق الشيخ شاكر 8/ 285.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 2/ 150، 151 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
أخرجه أبو داود (2925) من طريق محمد بن بشر به، وأخرجه أحمد 27/ 325 (16761)، ومسلم (2530)، وأبو داود (2925)، وغيرهم من طرق عن زكريا بن أبي زائدة به.
عن ابنِ عُليَّةَ، قال: وقال الزهريُّ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لم يُصِبِ الإسلامُ حِلْفًا إِلا زَادَه شِدَّةً". قال: "ولا حِلْفَ في الإسلامِ". قال: وقد أَلَّف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ قريشٍ والأنصارِ
(1)
.
حدَّثنا تَميمُ بن المُنْتصِرِ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عمرٍو ابنِ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: لمَّا دخَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مكةَ عامَ الفتحِ، قام خَطيبًا في الناسِ فقال:"يا أيُّها الناسُ، ما كان مِن حِلْفٍ في الجاهليةِ فإن الإسلامَ لم يَزِدْهُ إِلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ فى الإسلامِ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: ثنا سليمانُ بنُ بلالٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ الحارِث، عن عمرِو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه
(4)
.
فإذ كان ما ذكَرنا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صحيحًا، وكانت الآيةُ إذا اختُلف في حُكْمِها منسوخٌ هو
(5)
أم غيرُ منسوخٍ، غيرُ جائزٍ القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ - مع
(1)
أخرجه أحمد 3/ 193 (1655)، وابن عدى فى الكامل 4/ 1610، والبزار (1000)، وأبو يعلى (845)، والبيهقى 6/ 366 من طريق بشرٌ بن المفضل به، وأحمد 3/ 210 (1676)، والبخاري في الأدب المفرد (567)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (221)، وأبو يعلى (846)، وابن حبان (4373)، والحاكم 2/ 219، 220، والبيهقى 6/ 366، وفى الدلائل 2/ 37 من طرق عن إسماعيل ابن علية به.
(2)
أخرجه أحمد 11/ 288 (6692) عن يزيد به، بأطول من هذا.
(3)
أخرجه البيهقى 8/ 29 من طريق يونسُ بن بكير به.
(4)
أخرجه البخارى فى الأدب المفرد (570) عن خالد بن مخلد به.
(5)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"هي".
اختلافِ المُخْتلِفين فيه، ولوجوبِ حُكْمِها ونَفْيِ النسخِ عنها وَجْهٌ صحيحٌ -إلا بحُجَّةٍ يجبُ التسليمُ لها؛ لِما قد بَيَّنَّا في غير موضعٍ من كُتُبِنا الدلالةَ على صحةِ القولِ بذلك- فالواجبُ أن يكونَ الصحيحُ من القولِ في تأويلِ قولِه:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . هو ما ذكَرنا من التأويلِ، وهو أن قوله:{عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . من الحِلفِ، وقولَه:{فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . مِن النُّصْرةِ والمعونةِ والنصيحةِ والرأيِ، على ما أمَر به مِن ذلك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الأخبارِ التي ذكَرْناها عنه، دونَ قولِ مَن قال: معنى قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . مِن الميراثِ، وأن ذلك كان حُكْمًا ثم نُسِحَ بقولِه:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . [ودون]
(1)
ما سِوى القولِ الذي قلناه في تأويلِ ذلك.
وإذا صَحَّ ما قلنا في ذلك، وَجَب أن تكونَ الآيةُ مُحْكَمةً لا منسوخةً. القولُ في تأويلِ قولِه:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: فآتُوا الذين عَقَدَتْ أيمانُكم نصيبَهم من النُّصْرةِ والنصيحةِ والرأيِ، فإن اللَّهَ شاهدٌ على ما تفعَلون من ذلك، وعلى غيرِه من أفعالِكم، مُرَاعٍ لكلِّ ذلك حافظٌ، حتى يُجازِيَ جميعَكم على جميعِ ذلك جزاءَه، أما المُحسِنَ منكم المُتَّبِعَ أمرى وطاعتى، فبالحُسْنى، وأما المُسِيءَ منكم المُخالِفَ أمرى ونَهْيِي، فبالسوأى.
ومعنى قولِه: {شَهِيدًا}
(2)
: ذو شهادةٍ على ذلك.
(1)
فى النسخ: "دون". والمثبت هو الصواب.
(2)
بعده فى ت 1، ت 2، ت 3:"يعني".
القولُ في تأويلِ قولِه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} : الرجالُ أَهلُ قيامٍ على نسائِهم، في تأديبِهن والأَخْذِ على أيديهن فيما يَجِبُ عليهن للَّهِ ولأنفسِهم، {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. يعني: بما فَضَّل اللَّهُ به الرجالَ على أزواجِهم؛ من سَوْقِهم إليهنَّ مُهورَهن، وإنفاقِهم عليهن أموالَهم، وكِفايتِهم إياهن مُؤَنَهن، وذلك تفضيلُ اللَّهِ تبارك وتعالى إياهم
(1)
عليهنَّ، ولذلك صاروا قُوَّامًا عليهن، نافِذى الأمرِ عليهن، فيما جعَل اللَّهُ إليهم من أمورِهن.
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} : يعنى أمراءَ، عليها أن تُطِيعَه فيما أمَرها اللَّهُ به مِن طاعتِه، وطاعتُه أن تكونَ مُحْسِنةً إلى أهلِه، حافِظةً لمالِه، وفضْلُه عليها بنفَقَتِه وسَعْيِه
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضَّحاكِ في قولِه:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : يقولُ: الرجلُ قائمٌ على المرأةِ، يأمُرُها بطاعةِ اللَّهِ، فإن أبَتْ فله أن يَضْرِبَها ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، وله عليها الفضلُ بنفقتِه وسَعْيِه
(3)
.
(1)
في م: "إياهن".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 939، 940 (5245، 5247) من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . قال: يأخُذون على أيديهن ويُؤدِّبوهن
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ، موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: سمِعتُ سُفيان يقولُ: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . قال: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ الرجالَ على النساءِ
(1)
.
وذُكر أن هذه الآيةَ نَزَلَت في رجلٍ كان
(2)
لَطَم امرأتَه، فخُوصِم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقَضَى لها بالقصاصِ.
ذكرُ الخبرِ بذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ثنا الحسنُ، أن رجلًا لَطَم امرأته، فأَتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقصَّها منه، فأنزَل اللَّه:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . فدعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فتَلَاها عليه، وقال:"أردتُ أمرًا وأراد اللَّهُ غيرَه"
(3)
.
حدَّثنا بِشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف وعبد بن حميد، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 940 (5246) من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن نحوه.
أَمْوَالِهِمْ}: ذُكِر لنا أن رجلًا لَطَم امرأتَه، فأتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكَر نحوَه. حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن
قتادةَ في قولِه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ، قال: صَكَّ رجلٌ امرأتَه، فأتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِيدَها منه، فأنزَل اللَّهُ:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن جريرِ بنِ حازمٍ، عن الحسنِ، أن رجلًا من الأنصارِ لطَمَ امرأتَه، فجاءت تلتمِسُ القصاصَ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاصَ، فنزَلَت:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]. ونزَلَت: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: لَطَم رجلٌ، امرأتَه، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم القصاصَ، فبينما هم كذلك نزَلَت الآيةُ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . فإن رجلًا من الأنصارِ كان بينَه وبينَ امرأتِه كلامٌ فلَطَمها، فانطلَق أهلُها، فذكَروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرَهم:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . الآية
(3)
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 157.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف.
وكان الزهريُّ يقولُ: ليس بيَن الرجلِ وامرأتِه قصاصٌ فيما دونَ النفسِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، سمِعتُ الزُّهْرى يقولُ: لو أن رجلًا شَجَّ امرأتَه أو جرَحها، لم يكنْ عليه في ذلك قَوَدٌ، وكان عليه العَقْلُ، إلا أن يَعْدُو عليها فيَقْتُلَها، فيُقتَلَ بها
(1)
.
وأما قوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . فإنه يعنى: وبما ساقُوا إليهن من صَداقٍ، وأنفَقُوا عليهن من نَفَقةٍ.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بن صالحٍ، عن عليٍّ ابن أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: فَضْلُه عليها بنفقتِه وسَعْيه
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو زُهَيرٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ، موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: سمِعتُ سُفيان يقولُ: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} : بما ساقوا من المَهْرِ
(3)
.
فتأويلُ الكلامِ إذن: الرجالُ قَوَّامون على نسائِهم بتفضيلِ اللَّهِ إياهم عليهن، وبإنفاقِهم عليهن مِن أموالِهم.
و "ما" التي في قوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} . والتي في قولِه: {وَبِمَا أَنْفَقُوا} . في معنى المصدرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} .
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 157 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
جزء من الأثر المتقدم تخريجه ص 683.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 940 (5249) من طريق ابن المبارك به.
يعنى بقولِه جلّ ثناؤُه: {فَالصَّالِحَاتُ} : المستقيماتُ الدينِ، العاملاتُ بالخيرِ.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ المُباركِ، قال: سمِعتُ سُفيان يقولُ: {فَالصَّالِحَاتُ} يَعْمَلُن بالخيرِ
(1)
.
وقوله: {قَانِتَاتٌ} . يعنى: مطيعاتٌ للَّهِ ولأزواجِهن.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قَانِتَاتٌ} . قال: مُطيعاتٌ
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قَانِتَاتٌ} . قال: مُطِيعاتٌ
(3)
.
حدَّثني عليُّ بنُ
(4)
داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{قَانِتَاتٌ} : مُطِيعاتٌ
(5)
.
حدَّثنا بِشْرُ
(6)
بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَانِتَاتٌ} : أي: مُطِيعاتٌ للَّهِ ولأزواجِهنَّ
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 940 (5252) من طريق ابن المبارك به.
(2)
تفسير مجاهد ص 275.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح مثله، وكذا في س دون قوله: "مثله". ثم أعاده مرة أخرى في ت 2 كما هو في المتن. وكله تكرار لا معنى له.
(4)
في النسخ: "عن"، وقد تقدم مرارًا.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 940 (5253) من طريق أبي صالح به.
(6)
في النسخ: "الحسن"، وتقدم مرارًا.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن قتادةَ، قال:{قَانِتَاتٌ} : مُطِيعاتٌ
(1)
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ: القانِتاتُ المُطِيعاتُ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ، موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: سمِعتُ سُفيان يقولُ في قولِه: {قَانِتَاتٌ} : مُطيعاتٌ لأزواجِهن
(3)
.
وقد بَيَّنَّا مَعنى القُنوتِ فيما مضَى، وأنه الطاعةُ، ودَلَّلنا على صحةِ ذلك من الشواهدِ بما أغنَى عن إعادتِه
(4)
.
وأما قوله: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} . فإنه يعني: حافِظاتٌ لأنفسِهنَّ عندَ غَيْبة أزواجِهنَّ عنهن، في فُروجِهن وأموالِهم، وللواجبِ عليهنّ من حقِّ اللَّهِ في ذلك وغيرِه.
كما حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} . يقولُ: حافظاتٌ لِما استَودَعَهنَّ اللَّهُ من حقِّه، وحافِظاتٌ لغَيْبِ أزواجِهن
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . يقولُ: تَحفَظُ على زوجِها مالَه
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 157.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 940 عقب الأثر (5253) من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 189.
(4)
ينظر ما تقدم في 2/ 462 وما بعدها.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
وفَرْجَها حتى يَرْجِعَ، كما أمَرها اللَّهُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: ما قولُه: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} ؟ قال: حافِظاتٌ للزوجِ
(2)
.
حدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ، قال: ثنا حَجَّاجُ، قال: قال ابنُ جُرَيجٍ: سألتُ عطاءً عن: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} . قال: حافِظاتٌ للأزواجِ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: سمِعتُ سُفيانَ يقولُ: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} : حافِظاتٌ لأزواجِهنَّ لِما غابَ من
(3)
شأنِهنَّ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا أبو مَعْشَرٍ، قال: ثنا سعيدُ بنُ
(4)
أبي سعيدٍ المقبرِيُّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النساء امرأةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْك، وإذا أمَرْتَها أَطاعَتك، وإذا غِبْتَ عنها حَفِظَتْك في نفسِها ومَالِهَا
(5)
". قال: ثم قرأ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الآيةَ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى آخر الآية
(6)
.
قال أبو جعفر: وهذا الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدلُّ على صحةِ ما قلنا في تأويلِ ذلك، وأن معناه صالحاتٌ في أديانهنَّ، مُطِيعاتٌ لأزواجِهنَّ، حافِظاتٌ [لهم في أنفسهنَّ]
(7)
وأموالِهم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 189.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"عن".
(4)
في النسخ: "عن". والمثبت من مصدرى التخريج.
(5)
في م: "ومالك".
(6)
أخرجه البغوى في تفسيره 2/ 207 من طريق أبي معشر به. وينظر الطيالسي (2424).
(7)
في ت 1، ت 2، ت 3:"لأنفسهن".
وأما قولُه: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . فإن القَرأةَ اختَلفت في قراءتِه؛ فقرَأته عامةُ القَرأةِ في جميعِ أمصارِ الإسلامِ: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . برفعِ اسمِ (اللَّه)، على معنى: بحِفْظِ اللَّهِ إياهنَّ إذ صَيَّرَهن كذلك.
كما حدَّثني زكريا بنُ يحيى بنِ أبي زائدةَ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُرَيج: سألتُ عطاءً عن قولِه: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . قال: يقولُ: حَفِظَهِنَّ اللَّهُ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ، موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قال: سمِعتُ سُفيانَ يقولُ في قولِه: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . قال: بحِفْظِ اللَّهِ إيَّاها أنه جعَلها كذلك
(2)
.
وقرَأ ذلك أبو جعفرٍ يزيدُ بنُ القَعْقَاع المَدَنىُّ
(3)
: (بما حفظ اللَّه)
(4)
يعنى: بحفظهنَّ
(5)
اللَّه في طاعتِه، وأداءِ حَقِّه بما
(6)
أمرهنَّ مِن حِفْظِ غَيْبِ أَزواجهنَّ، كقولِ الرجلِ للرجلِ: ما حَفِظْتَ اللَّه في كذا وكذا. بمعنى: راقَبْتَه [ولا حَظْتَه]
(7)
.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القراءةِ في ذلك ما جاءت به قرأةُ المسلمين مِن القراءةِ مَجِيئًا يقطَعُ عُذْرَ مَن بَلَعَه، ويُثْبِتُ عليه حُجَّته، دونَ ما انفرَد به أبو جعفرٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 941 (5259) من طريق ابن المبارك به.
(3)
تابعى أحد القراء العشرة كان إمام أهل المدينة في القراءة، تصدى لإقراء القرآن دهرًا، قليل الحديث، وثقه ابن معين والنسائى. معرفة القراء الكبار للذهبى ص 58.
(4)
النشر 2/ 187.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حفظهن".
(6)
في ص، ت 2:"فيما".
(7)
في ص، ت 1، ت 3:"ولا خفته".
فشَذَّ عنهم -وذلك
(1)
القراءةُ برفعِ اسمِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . مع صحةِ ذلك في العربيةِ وكلامِ العربِ، وقُبْحِ نَصْبِه في العربيةِ؛ لخروجِه عن المعروفِ مِن مَنْطقِ العربِ، وذلك أن العربَ لا تَحذِفُ الفاعلَ مع المصادرِ، من أجلِ أن الفاعلَ إذا حُذِف معها لم يكنْ للفعلِ صاحبٌ معروفٌ
(2)
.
وفى الكلامِ متروكٌ استُغْنِىَ بدلالةِ الظاهرِ من الكلامِ عليه من ذكرِه، ومعناه: فالصالحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغيبِ بما حفِظ اللَّهُ، فأحسِنوا إليهنَّ وأصلِحوا.
وكذلك هو فيما ذُكِر في قراءةِ ابنِ مسعودٍ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حَمَّادٍ، قال: ثنا عيسى الأعمَى، عن طلحةَ بنِ مُصَرِّفٍ، قال: في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فالصالحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغيبِ بما حفِظ اللَّهُ فأصلِحُوا إليهن واللاتى تخافُونَ نُشوزهنَّ)
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباط، عن السُّدّى:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} ، فأحسِنوا إليهن
(3)
.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} ، فأصلِحوا إليهنَّ
(4)
.
(1)
في م، ت 2:"تلك".
(2)
وتقدم أن القراءة بنصب لفظ الجلالة قراءة أبي جعفر المدنى أحد العشرة، وقراءته متواترة، وقال أبو حيان: وهذا كله توجيه شذوذ أدى إليه قول من قال في هذه القراءة: إن "ما" مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول، بل ينزه القرآن عنه، البحر المحيط 3/ 240.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 152 إلى المصنف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 151 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ ابن أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} : يعنى إذا كُنَّ هكذا فأَحْسِنوا
(1)
إليهنَّ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
(2)
}.
اختلف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: واللاتي تعلَمون نشوزَهنَّ.
ووَجْهُ صَرْفِ الخوفِ في هذا الموضعِ إلى العلمِ في قولِ هؤلاء نظيرُ صرفِ الظنِّ إلى العلمِ؛ لتَقاربِ
(3)
معنييْهما، إذ كان الظنُّ شكًّا، وكان الخوفُ مقرونًا برَجاءٍ، وكانا جميعًا من فعلِ المرءِ بقلبِه، كما قال الشاعرُ
(4)
:
ولا تَدْفِتَنِّي في الفَلَاةِ فإنَّني
…
أخافُ إذا ما مِتُّ أَن لا أَذُوقُها
بمعنى
(5)
: فإننى أَعلَمُ. وكما قال الآخرُ
(6)
:
أَتاني كلامٌ عن نُصَيْبٍ يَقُولُهُ
…
وما خِفْتُ يا سَلَّامُ أَنَّكَ عَائِبي
بمعنى: وما ظَنَنتُ.
وقال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ: معنى الخوفِ في هذا الموضعِ الخوفُ الذي هو خلافُ الرجاءِ. قالوا: ومعنى ذلك: إذا رأيتُم منهن ما تَخافون أن يَنْشُزْنَ عليكم،
(1)
في ص، م:"فأصلحوا".
(2)
ليست في النسخ، وسيفسرها المصنف في هذا الموضع بعد.
(3)
في ص، ت 1، س:"لتفاوت".
(4)
تقدم تخريجه في 4/ 136.
(5)
في م، ت 2:"معناه".
(6)
تقدم تخريجه في 4/ 135.
من نَظَرٍ إلى ما لا ينبغى لهنَّ أَن يَنْظُرْنَ إليه، ويَدخُلنَ ويَخْرُجْنَ، واستَرَبْتُم بِأَمرِهنَّ، فعظوهنَّ واهجروهنَّ. وممن قال ذلك محمدُ بنُ كعبٍ
(1)
.
وأما قولُه: {نُشُوزَهُنَّ} . فإنه يعنى: استعلاءَهنَّ على أزواجِهن، وارتفاعهنَّ عن فُرُشِهم بالمعصيةِ منهن، والخلافَ عليهم فيما لَزِمَهن طاعتُهم فيه، بُغْضًا منهن
(2)
، وإعراضًا عنهم.
وأصلُ النُّشوزِ الارتفاعُ. ومنه قيل للمكانِ المرتفعِ من الأرضِ: نَشْزٌ ونَشَازٌ.
{فَعِظُوهُنَّ} . يقولُ: ذَكِّروهن اللَّه، وخَوِّفوهن وَعيدَه، في ركوبِها ما حَرَّم اللَّهُ عليها من معصيةِ زوجِها فيما أوجب عليها طاعتَه فيه.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال: النشوزُ البُغْضُ ومَعصيةُ الزوجِ
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} . قال: بُغْضُهنَّ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} . قال: التى تخافُ مَعْصيتَها. قال: النُّشُورُ معصيتُه وخِلافُه
(4)
.
(1)
سيأتى الأثر عن محمد بن كعب في ص 699.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"منهم".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 942 (5263) من طريق أحمد بن مفضل به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى المصنف.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} : تلك
(1)
المرأةُ تَنْشُزُ، وتَسْتَخِفُّ بحَقِّ زوجِها ولا تطيعُ أمرَه
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا رَوْحُ، قال: ثنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قال عطاءٌ: النُّشورُ أن تُحِبَّ فِراقَه، والرجلُ كذلك.
ذكرُ الرواية عمَّن قال ما قلنا في قولِه: {فَعِظُوهُنَّ} .
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَعِظُوهُنَّ} : يعني: عِظُوهُنَّ بكتابِ اللَّهِ. قال: أمَره اللَّهُ إذا نَشَرَت أن يَعِظُها ويُذَكِّرَها اللَّهَ، ويُعَظِّمَ حَقَّه عليها
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} . قال: إذا نَشَرَت المرأةُ عن فراشِ زوجِها يقولُ لها: اتقى اللَّهَ وارجِعى إلى فِراشِك. فإن أطاعَته فلا سبيلَ له عليها
(4)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قال: إذا نَشَزَت المرأةُ على زوجِها فليعِظُها بلسانِه. يقولُ: يأمُرُها بتقوى اللَّهِ وطاعتِه.
(1)
في النسخ: "قيل". والمثبت من تفسير ابن أبي حاتم، وفي سنن البيهقي:"فتلك".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 941 (5260، 5261)، والبيهقى 7/ 303، من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 154، 155 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 942 (5261، 5264)، والبيهقي 7/ 303 من طريق عبد الله صالح به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 942 (5266) من طريق أبي حذيفة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عُبَيدةَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ، قال: إذا رأى الرجلُ [خِفَّةً في بَصرِهَا و]
(1)
مَدْخَلَها ومَخْرَجَها. قال: يقولُ لها بلسانِه: قد رأيتُ منكِ كذا وكذا فانتَهِى. فإن أعتَبَت
(2)
فلا سبيلَ له عليها، وإِن أَبَتْ هَجَر مَضْجَعَها
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: ثنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَعِظُوهُنَّ} . قال: إِذا نَشَرَت المرأةُ عن فراشِ زوجِها، فإنه يقولُ لها: اتقى اللَّهَ وارجِعى.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عطاءٍ:{فَعِظُوهُنَّ} . قال: بالكلامِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيج قولَه:{فَعِظُوهُنَّ} . قال: بالألسنةِ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرِو بنِ أبي قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{فَعِظُوهُنَّ} . قال: عِظُوهنَّ باللسانِ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فعِظُوهنَّ في
(1)
في م: "تقصيرها في حقه في".
(2)
في س: "انتهت". وأعتبنى فلان: ترك ما كنت أجد عليه من أجله ورجع إلى ما أرضاني عنه بعد إسخاطه إياى عليه. التاج (ع ت ب).
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 2/ 258.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 942 معلقا عقب الأثر (5265).
نُشوزهن عليكم أيُّها الأزواجُ، فإن أبَيْنَ مُراجعة الحقِّ في ذلك والواجبِ عليهن لكم، فاهجُروهنَّ بتَرْكِ جِماعِهن في مضاجعتِكم إياهن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : يعنى: عِظُوهنَّ، فإن أطَعْنَكم، وإلا فاهجُرُوهنَّ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : يعنى بالهِجْرانِ أن يكونَ الرجلُ وامرأتُه على فِراشٍ واحدٍ لا يُجامِعُها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ. قال: الهَجْرُ هَجْرُ الجِماعِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: أما: {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} . فإن على زَوْجِهَا أَن يَعِظُها، فإن لم تَقْبَلْ فليَهْجُرُها في المَضْجَعِ. يقولُ: يَرْقُدُ عندَها ويُولِّيها ظهرَه، ويَطَؤُها، ولا يُكَلِّمُها (1). هكذا في كتابي: ويَطَؤُها ولا يُكَلِّمُها.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: يُضاجِعُها ويَهْجُرُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى المصنف.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 3/ 190.
كلامَها، ويُوَلِّيها ظَهْرَه
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: ثنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا شَرِيكٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدٍ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: لا يُجامِعُها
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجُروا كلامَهن في تَرْكِهِنَّ مُضاجَعَتَكم
(3)
، حتى يَرْجِعْن إلى مُضاجَعَتِكم
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابنُ إدريسَ، عن الحسنِ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ، عن أبي الضُّحَى، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : إنها [لا تُتْرَكُ]
(4)
في الكلامِ، ولكنَّ الهِجْرانَ في أمرِ المَضْجَعِ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو حمزةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . يقولُ: حتى يَأْتِينَ مَضاجِعَكم.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : في الجِماعِ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 257.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"مضاجعكم".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"لو تركت".
عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: يَعِظُها، فإن هي قَبِلَت، وإلا هَجَرها في المَضْجَعِ، ولا يُكَلِّمُها، من غيرِ أَن يَذَرَ نِكَاحَها، وذلك عليها شديدٌ
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ، موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: أخبَرنا شَرِيكٌ، عن خُصَيفٍ، عن عِكْرمةَ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : الكلامَ والحديثَ
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحسنُ بنُ زُرَيقِ الطَّهَوِيُّ، قال: ثنا أبو بكرِ بن عَيَّاشٍ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: لا تُضاجِعوهن
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغِيرةً، عن الشعبيِّ، قال: الهِجْرانُ ألّا يُضاجِعَها
(4)
.
وبه قال: ثنا جَريرٌ، عن مُغِيرةَ، عن عامرٍ وإبراهيمَ، قالا: الهِجْرانُ في المَضْجَعِ ألّا يُضاجِعَها على فراشٍ
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا مُغِيرةً، عن إبراهيمَ
(1)
أخرجه البيهقى 7/ 303 من طريق عبد الله بن صالح به، وهو تمام الأثر المتقدم في ص 695.
(2)
أخرجه جه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 943 (5272) من طريق خصيف به بنحوه. والسياق بعده في النسخ كما ترى، وهو قول آخر في تفسير الهجر وأنه ترك قربها في الفراش حتى ترجع، فصوابه أن يزاد هذا أو نحوه في هذا الموضع، وينظر تعليق الشيخ شاكر على هذا الموضع.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 401 عن أبي بكر بن عياش به.
(4)
تفسير مجاهد ص 275
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 401 عن جرير به.
والشعبيِّ، أنهما قالا في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قالا: يَهْجُرُ مُضاجَعَتَها حتى تَرجِعَ إلى ما يُحِبُّ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن مُغِيرةً، عن إبراهيمَ والشعبيِّ، أنهما كانا يقولان:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قالا: يَهْجُرُها في المَضْجَعِ.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ، قال: ثنا ابنُ المباركِ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن خُصيفٍ، عن مِقْسَمٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: هَجْرُها في مَضْجَعِها ألا يَقرَبَ فِراشَها
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن موسى بن عُبَيدةَ، عن محمد بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ، قال:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: يَعِظُها بلسانِه، فإِن أَعْتَبَت فلا سبيلَ له عليها، وإِن أَبَت هَجَر مَضْجَعَها
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن الحسنِ وقتادةَ في قولِه:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} . قالا: إذا خاف نُشوزَها وَعَظَها، فإن قَبِلَت وإلا هَجَر مَضْجَعَها
(4)
.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: تَبدَأُ يا بنَ آدمَ فَتَعِظُها، فإن أَبَت عليك فاهجُرْها. يعنى به فِراشَها.
(1)
تفسير مجاهد ص 275، وأخرجه ابن أبى شيبة 4/ 401 من طريق مغيرة به بنحوه.
(2)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 401 من طريق شريك عن حصين عن مقسم وعكرمة.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 943 عقب الأثر (5271) معلقا.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 158.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : قولوا لهنَّ مِن القولِ هُجْرًا فِي تَرْكِهِنَّ مُضاجَعَتَكُم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن رجلٍ، عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: يَهْجُرُها بلسانه، ويُغْلِظُ لها بالقولِ، ولا يَدَعُ جِماعَها
(1)
.
وبه قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن خُصَيفٍ، عن عِكْرمةَ، قال: إنما الهِجْرانُ بالمنطقِ أن يُغْلِظَ لها، وليس بالجِماعِ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا مُغيرةٌ، عن أبي الضُّحَى في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: يَهجُرُ بالقولِ، ولا يَهجُرُ مُضاجَعتَها حتى تَرجِعَ إلى ما يريدُ
(3)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بن موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ، عن رجلٍ، عن الحسنِ، قال: لا يَهجُرُها إلا في المَبيتِ
(4)
؛ في المَضْجَعِ، ليس له أن يَهجُرَ في كلامٍ ولا شيءٍ إلا في الفراشِ.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنى يَعْلَى، عن سُفيانَ في قولِه:
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 158.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 158، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 943 (5272) عن الحسن بن يحيى به، وابن أبي شيبة 4/ 402 من طريق حصين، عن عكرمة.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 943 عقب الأثر (5272) معلقًا.
(4)
في ص، ت 1، س:"البيت".
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . قال: في مُجامَعتِها، ولكن يقولُ لها: تَعالَىْ، وافعَلى. كلامًا فيه غِلْظَةٌ، فإذا فَعَلَت ذلك، فلا يُكَلِّفها أن تُحيَّه، فإن قلبَها
(1)
ليس في يَدَيها.
ولا معنَى للهَجْرِ في كلامِ العربِ إلا على أحدِ ثلاثةِ أَوجُهٍ:
أحدُها: هَجْرُ الرجلِ كلامَ الرجلِ وحديثَه. وذلك رَفْضُه وتَرْكُه، يقالُ منه: هَجَر فلانٌ أهلَه يَهْجُرُها هَجْرًا وَهِجْرانًا
والآخرُ: الإكثارُ من الكلامِ بتَرْديدٍ، كهيئةِ كلامِ الهازئِ، يقالُ منه: هَجَر فلانٌ في كلامه يَهْجُرُ هَجْرًا. إذا هَذَى ومَدَّد الكلمةَ. وما زالَتْ تلك هِجِّيراه وإهْجِيرَاه. ومنه قولُ ذي الرُّمَّةِ
(2)
:
رَمَى فَأَخْطَأ والأقدارُ غالِبةٌ
…
فانْصَعْنَ
(3)
والوَيلُ هِجيرَاهُ
(4)
والحَرَبُ
(5)
والثالثُ: هجْرُ البعيرِ، إذا رَبَطَه صاحبه بالهِجَارِ؛ وهو حبلٌ يُربَطُ في حَقْوَيها ورُسْعِها، ومنه قولُ امرئِ القيسِ
(6)
:
رَأَتْ هَلَكًا
(7)
بنِجَافِ
(8)
الغَبيطِ
(9)
…
فَكادَت تَجُدُّ
(10)
لذاكَ الهِجَارا
فأما القولُ الذى فيه الغِلْظةُ والأذَى، فإنما هو الإهجارُ، ويقالُ منه: أَهْجَر فلانٌ
(1)
في ص: "قلبه".
(2)
ديوانه 1/ 71.
(3)
انصعن: تفرقن. التاج (ص و ع).
(4)
هجيراه: دأبه وديدنه وشأنه وعادته. التاج (هـ ج ر) والبيت فيه.
(5)
الحرب: أن يسلب الرجل ماله. التاج (ح ر ب).
(6)
ديوانه ص 206.
(7)
الهلك: المهواة بين الجبلين. اللسان (هـ ل ك). والبيت فيه.
(8)
النجاف جمع نجَفَة: أرض مستديرة مشرفة على ما حولها. التاج (ن ج ف) والبيت فيه.
(9)
الغبيط: أرض لبنى يربوع. معجم البلدان 3/ 774.
(10)
تجد: تقطع. اللسان (ج د د).
في مَنْطِقِه -إذا قال الهُجْرَ، وهو الفُحْشُ من الكلامِ- يُهْجِرُ إهجارًا وهُجْرًا.
فإذ كان لا وَجْهَ الهَجْرِ في الكلامِ إلا أحدَ المعاني الثلاثةِ، وكانت المرأةُ المخوفَ نُشورُها، إنما أُمِر زوجُها بوَعْظِها لتُنِيبَ إلى طاعتِه فيما يجبُ عليها له من مُوافاتِه عندَ دعائه إياها إلى فِراشِه -فغيرُ جائزٍ أن تكونَ عِظَتُه لذلك، ثم تَصيرُ المرأةُ إلى أمرِ اللَّهِ وطاعةِ زوجِها في ذلك، ثم يكونُ الزوجُ مأمورًا بهَجْرِها في الأمرِ الذي كانت عِظَتُه إياها عليه.
وإذ كان ذلك كذلك، بَطَل قولُ مَن قال: معنى قولِه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} : واهجُروا جِماعَهن.
أو يكونُ -إذ بطَل هذا المعنى- بمعنَى
(1)
: واهجُروا كلامهنَّ بسببِ هَجْرِهن مَضاجِعَكم. وذلك أيضًا لا وَجْهَ له مفهومٌ؛ لأن اللَّه تعالى ذكرُه قد أخبر على لسانِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم أنه لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهْجُرَ أخاه فوقَ ثلاثٍ
(2)
. على أن ذلك لو كان حَلالًا لم يكنْ لهَجْرِها في الكلامِ معنًى مفهومٌ؛ لأنها إذا كانت عنه مُنصرِفةٌ، وعليه ناشِزًا، فمن سُرورِها ألا يُكلِّمها ولا يَراها ولا تَراه، فكيف يُؤْمَرُ الرجلُ في حالِ بُغْضِ امرأتِه إياه، وانصِرافِها عنه بتَرْكِ ما في تَرْكِه سُرورُها مِن تَرْكِ جِماعِها ومُحَادَثَتِها
(3)
وتَكْليمِها، وهو يُؤمَرُ بِضَرْبِها لتَرْتدِعَ عما هي عليه؛ من تَرْكِ [طاعةِ اللَّهِ في تركِ]
(4)
طاعته إذا دَعاها إلى فِراشِه، وغيرِ ذلك مما يَلزَمُها طاعتُه فيه.
أو يكونُ -إذ فَسَد هذان الوجهان- يكونُ معناه: واهجُروا في قولِكم لهم.
(1)
في النسخ: "فمعنى". والمثبت صواب السياق.
(2)
أخرجه البخارى (6076) من حديث أنس، وفى (6077) من حديث أبي أيوب.
(3)
في م: "مجاذبتها".
(4)
سقط من: م.
بمعنى: رَدِّدُوا عليهنَّ كلامَكم إذا كَلَّمْتُموهنَّ بالتَّغليظِ لهنَّ. فإن كان ذلك معناه، فلا وَجْهَ لإعمالِ الهَجْرِ في كنايةِ أسماءِ النساءِ الناشزاتِ -أعنى في الهاءِ والنونِ مِن قوله:{وَاهْجُرُوهُنَّ} . لأنه إذا أُرِيد به ذلك المعنى، كان الفعلُ غيرَ واقعٍ
(1)
، إنما يقالُ: هَجَر فلانٌ في كلامِه. ولا يقالُ: هَجَرَ فلانٌ فلانًا.
فإذ كان في كلِّ هذه المعانى ما ذَكَرنا من الخَلَلِ اللاحِقِ، فأَولى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك أن يكونَ قوله:{وَاهْجُرُوهُنَّ} . مُوَجَّها معناه إلى معنى الرَّبْطِ بالهِجَارِ، على ما ذكَرنا من قبلِ العربِ للبعيرِ إذا رَبَطه صاحبُه بحبلٍ على ما وَصَفنا: هَجَره فهو يَهْجُرُه هَجْرًا
(2)
.
وإذا كان ذلك معناه، كان تأويلُ الكلامِ: واللاتى تَخافون نُشُوزَهنّ: فعِظُوهُنَّ في نُشُورهنَّ عليكم، فإن اتَّعَطِّنَ فلا سبيلَ لكم عليهنَّ، وإِن أَبَيْنَ الأَوْبةَ من نُشوزهن، فاستوثقوا منهنَّ رِباطًا في مَضاجِعِهِنَّ
(3)
. يعني: في مَنازِلِهِنَّ وبُيُوتِهِنَّ التي يَضْطَجِعن فيها ويُضاجِعْنَ فيها أزواجَهنَّ.
كما حدَّثني عباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبى بُكَيرٍ، عن شِبْلٍ، قال: سمِعتُ أبا قَرَعَةَ يُحدِّثُ عن
(4)
عمرِو بنِ دينارٍ، عن حكيمِ بنِ مُعاويةً، عن أبيه، أنه جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما حَقُّ زوجةِ أحدِنا عليه؟ قال: "يُطْعِمُها،
(1)
غير واقع يعنى لازما والفعل الواقع: هو المتعدى. المصطلح النحوى ص 180.
(2)
رد العلماء على المصنف في اختياره هذا القولُ في تفسير قولِه تعالى: {فاهجروهن} ينظر مثلًا أحكام القرآن لابن العربى 1/ 418 وما بعدها، والكشاف 1/ 524، 525.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مضاجعتهن".
(4)
قوله: "عن". كذا في النسخ ومطبوعة مسند أحمد، والصواب حذفها كما في مخطوطة الرياض من المسند -ذكره الشيخ شاكر- وتفسير النسائي، ومعجم الطبرانى. وينظر أطراف المسند 5/ 326 (7235).
ويكْسُوها، ولا يَضْرِبُ الوَجْهَ، ولا يُقَبِّحُ، ولا يَهْجُرُ إلا في البيتِ
(1)
".
حدَّثنا الحسنُ بنُ عَرفةَ، قال: ثنا يزيدُ
(2)
، عن شُعبةَ بنِ الحَجَّاجِ، عن أَبي قَزَعَةَ، عن حكيمِ بنِ مُعاويةَ، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: ثنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا بَهْزُ ابنُ حكيمٍ، [عن أبيه]
(4)
، عن جدِّه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، نِساؤُنا، ما نأتى منها وما نَذَرُ؟ قال: "حَرْثُكَ، فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ، غير ألا تَضْرِبَ الوَجْهَ، ولا تُقَبِّحَ، ولا تَهْجُرَ إلا في البيتِ، وأَطْعِمْ إذا طَعِمْتَ، واكْسُ إذا اكتَسَيتَ، كيف وقد أفضَى بعضُكم إلى بعضٍ؟ إلا بما حَلَّ عليها
(5)
".
وبنحوِ الذى قُلنا في تأويلِ ذلك قال عِدَّةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: أخبَرنا هُشَيمٌ، عن الحسنِ، قال: إذا نَشَرَت المرأةُ على زوجِها، فليَعِظْها بلسانِه، فإن قَبِلَت فذاك، وإلا ضَرَبها
(1)
في م: "المبيت".
والحديث أخرجه أحمد 4/ 446 (الميمنية)، والنسائي في الكبرى (11431)، والطبراني في 19/ 427 (1038)، من طريق يحيى بن أبى بكير به بأطول مما هنا.
(2)
بعده في س: "بن محمد". ومكان كلمة "محمد" بياض في ص، ت 1، ت 2، ت 3. وصوابه يزيد ابن هارون.
(3)
أخرجه أحمد 4/ 447 (الميمنية)، والنسائي في الكبرى (11104)، وابن ماجه (1850)، والطبراني 19/ 428 (1039)، من طريق يزيد به.
(4)
سقط من النسخ، والمثبت من مصادر التخريج.
(5)
في س: "عليهن"، وهي رواية في المسند.
والحديث أخرجه أحمد 5/ 3، 5 (الميمنية) وأبو داود (2143)، والنسائي في الكبرى (9160) من طريق بهز به.
ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، فإن رَجَعَت فذاك، وإلا فقد حَلَّ له أَن يَأْخُذَ منها ويُخَلِّيها.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن الحسنِ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ، عن أبي الضُّحَى، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: يَفعَلُ بها ذاك ويَضْرِبُها حتى تُطِيعَه في المَضاجعِ، فإذا أطاعتَه [في المَضْجَعِ]
(1)
، فليس له عليها سبيلٌ إذا ضاجَعَته
(2)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ، قال: ثنا ابنُ المُباركِ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ بِشْرٍ، أنه سمِع عِكْرمةَ يقولُ في قولِه:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} : ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ. قال: قال رسولُ اللَّهِ: "اضْرِبُوهُنَّ إذا عصينكم في المعروفِ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ"
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: فكلُّ هؤلاء الذين ذكرنا قولهم لم يُوجبوا للهَجْرِ معنًى غير الضَّرْبِ، ولم يُوجِبوا هَجْرًا -إذ كان هَيْئَةٌ من الهَيئاتِ التي تكونُ بها المضروبةُ عندَ الضَّرْبِ، مع دَلالةِ الخبرِ الذي رواه عِكْرمة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه أمَر بضَرْبهِنَّ إذا عَصَين أزواجهنَّ في المعروفِ، من غير أمر منه أزواجهنَّ بهَجْرِهنَّ -لِما وَصَفنا من العِلَّةِ.
فإِن ظَنَّ ظانٌّ أن الذى قُلنا في تأويلِ الخبرِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي رَواه عِكْرمةُ، ليس كما قلنا، وصَحَّ أن تَرْكَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجلِ بهَجْرِ زوجتِه إذا عَصَته في المعروفِ، وأمره بضَرْبها قبلَ الهَجْرِ، لو كان دليلًا على صحةِ ما قُلنا من أن معنى الهَجْرِ هو ما بَيَّنَّاه -لَوَجَب أن يكونَ لا معنى لأمر اللَّه زوجها أن يَعِظُها إذا هى
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 401 من طريق الحسن بن عبيد الله به بنحوه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى المصنف.
نَشَزَتَ، إذ كان لا ذِكْرَ للعِظَةِ في خبرِ عِكْرمةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم - فإن الأمرَ في ذلك بخلافِ ما ظَنَّ، وذلك أن قولَه صلى الله عليه وسلم:"إذا عَصَيْنَكم في المعروفِ". دَلالةٌ بَيِّنةٌ أنه لم يُبِحْ للرجلِ ضَرْبَ زوجتِه إلا بعد عِظَتِها مِن نُشوزِها، وذلك أنه لا تكونُ له عاصِيةٌ إلا وقد تقدَّم منه لها أمرٌ أو عِظَةٌ بالمعروفِ على ما أمَر اللَّهُ تعالى ذكرُه به.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاضْرِبُوهُنَّ} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: فعِظُوهنَّ أَيُّها الرجالُ في نُشوزِهنَّ، فإِن أَبَينَ الإيابَ إلى ما يَلْزَمُهنَّ لكم، فشُدُّوهنَّ وَثاقًا في منازِلِهنَّ، واضربوهنَّ ليَؤُبْنَ إلى الواجبِ عليهن من طاعةِ اللَّهِ في اللازمِ لهنّ مِن حُقوقِكم.
وقال أهلِ التأويلِ: صفةُ الضَّرْبِ التى أباحَ اللَّهُ لزوج الناشزِ أَن يَضْرِبَها، الضَّرْبُ غير المُبَرِّحِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ {وَاضْرِبُوهُنَّ}. قال: ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: أخبَرنا أبو حمزةَ، عن عطاءِ ابنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغيرةَ، عن الشعبيِّ، قال: الضَّرْبُ غيرُ مُبَرِّحٍ
(1)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: ثنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا
(1)
في م: "المبرح".
شَرِيكٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: ضَرْبًا غَيرَ مُبَرِّحٍ
(1)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: تَهْجُرُها في المَضْجَعِ، فإن أقبَلَت وإلا فقد أذِن اللَّهُ لك أن تَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، ولا تَكْسِرُ لها عَظْمًا، فإن أقبلَت، وإلا فقد حَلَّ لك منها الفِدْيةُ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن الحسن وقتادةَ في قولِه:{وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ
(3)
.
وبه قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ جُرَيجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} قال: ضربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ
(3)
.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: تَهْجُرُها فِي المَضْجَعِ، فَإِن أَبَتْ عليك فاضرِبْها ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، أي: غيرَ شائنٍ.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ عُيَينةَ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن عطاءٍ [في قولِه:{وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: يَضْرِبُها ضربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ]
(4)
. قال: السَّوَاكُ وشِبْهُهُ، يَضْرِبُها به.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 258.
(2)
أخرجه البيهقى 7/ 303 من طريق أبي صالح به، وهو من تمام الأثر المتقدم في ص 694.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 158.
(4)
في م، ت 2: قال: "قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ ".
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجَوْهَرِيُّ، قال: ثنا ابنُ عُبَينَةَ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ، ما الضربُ غيرُ المُبَرِّحِ؟ قال: بالسَّوَاكِ ونحوِه
(1)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ بنُ موسى، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: أخبَرنا ابنُ عُيَينةَ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في خُطبتِه: "ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ". قال: السَّوَاكُ ونحوُه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجَّاجُ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَهْجُروا النساءَ إلا في المضاجِعِ، واضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ". يقولُ: غيرَ مُؤَثِّرٍ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عطاءٍ:{وَاضْرِبُوهُنَّ} . قَالَ: ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.
حدَّثنا المثنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ، قال: أخبَرنا ابنُ المُباركِ، قال: ثنا يحيى بنُ بِشْرٍ، عن عِكْرمةَ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: إن أقبَلَت في الهِجْرانِ، وإلا ضرَبَها ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن موسى بنِ عُبَيدةَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 944 (5275) من طريق ابن عيينة به دون المرفوع.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 155 إلى المصنف.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 402 من طريق حصين، عن عكرمة.
قال: تَهْجُرُ مَضْجَعَها ما رأيتَ أن تَنْزعَ، فإن لم تَنْزِعُ ضَرَبها ضَرْبًا غَيرَ مُبَرِّحٍ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن يونسَ، عن الحسنُ:{وَاضْرِبُوهُنَّ} . قال: ضربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ، قال: ثنا ابنُ المباركِ، قال: أخبَرنا عبدُ الوارثِ ابن سعيدٍ، عن رجلٍ، عن الحسنِ: ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ: غَيرَ مُؤَثْرٍ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: فإن أطَعْنَكم
(2)
أيُّها الناسُ نساؤكم اللاتي تَخافون نُشوزهنَّ عندَ وَعْظِكم إيَّاهن، فلا تَهْجُرُوهن في المَضاجعِ، فإن لم يُطعنَكم، فاهجُرُوهنَّ في المَضاجعِ واضربوهنَّ، فإن راجَعْنَ طاعتَكم عندَ ذلك، وفِتْنَ
(3)
إلى الواجب عليهنَّ، فلا تَطْلُبُوا طريقًا إلى أذاهنَّ ومَكْرُوهِهِنَّ، ولا تَلْتَمِسوا سبيلًا إلى ما لا يَحِلُّ لكم من أبدانِهنَّ وأموالِهن بالعِلَل، وذلك أن يقولَ أحدُكم لإحداهن وهى له مُطِيعةٌ: إنكِ لستِ تُحبِّيني، وأنت لى مُبْغِضَةٌ. فيَضرِبُها على ذلك أو يُؤذيها. فقال اللَّهُ تعالى للرجال:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} . أى: على بُغْضِهِنَّ لكم، فلا تَجنُّوا عليهن، ولا تُكَلِّفُوهُنَّ مَحَبَّتكم؛ فإن ذلك ليس بأيدِيهن، فتَضْرِبوهنَّ أو تُؤْذُوهُنَّ عليه.
ومعنى قولِه: {فَلَا تَبْغُوا} : لا تَلْتَمِسوا ولا تَطْلُبوا. من قولِ القائلِ: بَغَيتُ الضَّالَّةَ. إذا التَمسْتَها، ومنه قولُ الشاعرِ في صفةِ الموتِ
(4)
:
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 402، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 944 (5274) من طريق حميد، عن الحسن.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أطاعكم".
(3)
في س: "رجعن".
(4)
تقدم تخريج البيت في 3/ 502.
بَغاكَ وما تَبْغِيه حتى وَجَدْتَه
…
كأنَّك قد وَاعَدْتَه أَمسِ مَوْعِدَا
بمعنى: طَلَبك وما تَطْلُبُه.
وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} . قال: إذا أطاعَتْكَ فلا تَتَجَنَّ عليها العِلَلَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: حدَّثنا جريرٌ، عن الحسنِ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ، عن أبي الضُّحَى، عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا أطاعَتْه فليس له عليها سبيلٌ إذا ضاجَعَتْه
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابنُ جُرَيجٍ قولَه: {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} . قال: العِلَلُ
(3)
.
وقال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: قال الثوريُّ في قولِه: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} قال: إن أَتَتِ
(4)
الفِراشَ وهى تُبْغِضُه
(5)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا يَعْلَى، عن سُفيانَ، قال: إذا فَعَلَت ذلك لا يُكَلِّفُها أن تُحِبَّه؛ لأن قلبَها ليس في يدَيها.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 944 (5277)، والبيهقى 7/ 303، من طريق أبي صالح به، وهو تمام الأثر المتقدم في ص 698.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 401، وابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 944 (5276) من طريق الحسن به بنجوه.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 158.
(4)
في ص، ت 1، س:"أبت".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 158، وفي مصنفه (11878).
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: إن أطاعَتْه فَضاجَعَته، فإن اللَّه يقولُ:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} .
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} . يقوّلُ: فإن أطاعَتْكَ فلا تَبْغِ عليها العِلَلَ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)} .
يقولُ: إن اللَّه ذو عُلُوٍّ على كلِّ شيءٍ، فلا تَبْغُوا أَيُّها الناسُ على أزواجِكم إذا أَطَعْنَكم فيما أَلْزَمَهنَّ اللَّهُ لكم من حَقٍّ سبيلًا؛ لعُلُوِّ أيديكم على أيديهن، فإن اللَّهَ أعلى منكم ومن كلِّ شيءٍ، [وأعلى]
(2)
منكم عليهن، وأكبر منكم، ومن كلِّ شيءٍ، وأنتم في يَدِه وقَبْضتِه، فاتَّقُوا اللَّهَ أن تَظْلِموهنّ وتَبْغُوا عليهنّ سبيلًا وهن لكم مُطِيعات، فيَنْتَصِرَ لهن منكم رَبُّكم الذي هو أعلى منكم ومن كلِّ شيءٍ، وأكبرُ منكم ومن كلِّ شيءٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} .
يعنى بقولِه جلّ ثناؤُه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} : وإِن عَلِمتُم أَيُّها الناسُ {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ، وذلك مُشَاقَّةُ كلِّ واحدٍ منهما صاحِبَه، وهو إتيانُه ما يَشُقُّ عليه من الأمورِ. فأما من المرأةِ فالنُّشوزُ، وتَرْكُها أداءَ حَقِّ اللَّهِ عليها الذى ألزَمَها اللَّهُ لزوجِها، وأما مِن الزوجِ، فتَرْكُه إمساكَها بالمعروفِ أو تَسْريحَها بإحسانٍ.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 944 عقب الأثر (5277) معلقًا.
(2)
في ص، ت 1، س:"عليم".
والشَّقَاقُ مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: شاق فلانٌ فلانًا. إذا أتى كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبِه ما يَشُقُّ عليه من الأمورِ -فهو يُشَاقُّه مُشَاقَّةٌ وشِقاقًا، وذلك قد يكونُ عَداوةً.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قولِه:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} . قال: إن ضَرَبها فَأَبَت أن تَرْجِعَ وشَاقَّتْه. يقولُ: عادَتْه.
وإنما أُضِيفَ "الشَّقاقُ" إلى "البَينِ"؛ لأن البَيْنَ قد يكونُ اسمًا، كما قال جلّ ثناؤُه:(لقد تقطَّعَ بَيْنُكم)[الأنعام: 94]. فى قراءةِ مَن قرَأ ذلك
(1)
.
وأما قولُه: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . فَإِن أَهْلَ التأويلِ اختَلَفوا فى المُخاطَبِين بهذه الآيةِ؛ من المأمورُ ببَعْثَةِ الحكمَين؟ فقال بعضُهم: المأمورُ بذلك السلطانُ الذي يُرْفَعُ ذلك إليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا أيوبُ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنه قال في المُخْتَلِعَةِ: يَعِظُها، فإن انتَهَت وإلا هَجَرها، فإن انتهت وإلا ضَرَبها، فإن انتَهَت وإلا رَفَع أمرَها إلى السلطانِ، فيَبعَثُ حَكَمًا من أهلِه وحَكَمًا من أهلِها، فيقولُ الحَكَمُ الذى من أهلِها: يَفعَلُ بها كذا. ويقولُ الحَكَمُ الذى مِن أهلِه: تَفعَلُ به كذا
(2)
. فأيُّهما كان الظالمَ
(3)
ردَّه السلطانُ، وأخذ فوقَ يَديه، وإن
(1)
أي برفع البين، وسيأتى تخريج هذه القراءة في موضعها من التفسير.
(2)
بعده في ص، ت 2:"وتفعل به كذا".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"الحكم".
كانت ناشِزًا أَمَره أن يَخْلَعَ
(1)
.
حدَّثنا يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا جُوَيبرٌ، عن الضحاكِ:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . قال: بل ذلك إلى السلطانِ.
وقال آخرون: بل المأمورُ بذلك الرجلُ والمرأةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} : إنْ ضَرَبها، فإن رَجَعَت فإنه ليس له عليها سبيلٌ، فإن أَبَت أن تَرْجِعَ وشاقَّتْه، فليَبعَثْ حَكَمًا مِن أهلِه، وتَبْعَثُ حَكَمًا مِن أهلِها.
ثم اختَلف أهلُ التأويلِ فيما يُبعَثُ له الحكمان، وما الذى يجوزُ للحكَمَين من الحُكْمِ بينَهما، وكيف وَجْهُ بَعْثهما بينَهما؟ فقال بعضُهم: يَبعَثُهما الزوجان بتوكيلٍ
(2)
منهما إياهما بالنظرِ بينَهما، وليس لهما أن يَعْمَلا شيئًا في أمرِهما إلا ما وكلاهما به، أو وكله كلُّ واحدٍ منهما بما إليه، فيَعْمَلان بما وَكَّلهما به مَن وَكَّلَهما مِن الرجلِ والمرأةِ فيما يجوزُ توكيلُهما فيه، أو توكيلُ مَن وُكِّل منهما في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 156 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بتوكل"، وفى س:"بقول كل".
عَبِيدَةَ، قال: جاء رجلٌ وامرأتُه بينهما شِقاقٌ إلى عليٍّ رضي الله عنه، مع كلِّ واحدٍ منهما فِئامٌ من الناسِ، فقال عليٌّ رضي الله عنه: ابعَثوا حَكَمًا مِن أَهلِهِ وحَكَمًا من أهلِها. [ثم قال للحكَمَين: تَدْرِيان ما عليكما؟ عليكما]
(1)
إن رأيتُما أن تَجْمَعَا، أن تَجْمَعا، وإن رأيتُما أن تُفَرِّقا، أن تُفَرِّقا. قالت المرأةُ: رَضِيتُ بكتابِ اللَّهِ بما عليَّ فيه ولى. وقال الرجلُ: أما الفُرْقَةُ فلا. فقال عليٌّ رضي الله عنه: كَذَبْتَ واللَّه، لا تَنْقَلِبُ حتى تُقِرَّ بمثلِ الذى أقرَّتُ به
(2)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا هشامُ بْنُ حَسَّانَ وعبدُ اللَّهِ ابنُ عَوْنٍ، عن محمدٍ، أن عليًّا رضِي اللَّهُ أتاه رجلٌ وامرأتُه، ومع كلِّ واحدٍ منهما فِئامٌ من الناسِ، فأمَرهما عليٌّ رضي الله عنه أن يَبْعَثًا حَكَمًا مِن أَهلِهِ وحَكَمًا من أهلِها ليَنْظُرا، فلما دَنا منه الحَكَمان قال لهما عليٌّ رضي الله عنه: أتدرِيان ما لَكما؟ لكما إن رأيتُما أن تُفَرِّقا فَرَّقْتُما، وإن رأيتُما أن تَجْمَعا جَمَعْتُما. قال هشامٌ في حديثِه: فقالت المرأةُ: رَضِيتُ بكتابِ اللَّهِ لى وعليَّ. فقال الرجلُ: أما الفُرْقةُ فلا. فقال عليٌّ: كَذَبْتَ واللَّهِ، حتى تَرْضَى مثلَ ما رَضِيتَ. به. وقال ابنُ عَوْنٍ في حديثِه: كذَبتَ واللَّهِ، لا تَبْرَحُ حتى تَرْضَى بمثلِ ما رَضِيتَ به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا منصورٌ وهشامٌ، عن ابنِ سيرينَ، عن عِبِيدةَ، قال: شَهِدتُ عليًّا رضي الله عنه. فذكَر مثلَه
(3)
.
(1)
سقط من ص، ت 1، ت 2، ت 2، س.
(2)
أخرجه الشافعي في الأم 5/ 195، ومن طريقه البيهقى 7/ 306، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 158، 159، وفى المصنف (11883) ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 945 (5282)، سعيد بن منصور في سننه (628 - تفسير)، من طريق أيوب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 156 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (629 - تفسير) - ومن طريقه البيهقي 7/ 306 - عن هشيم به.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: إذا هَجَرها في المَضْجَعِ وضَرَبها، فَأَبَت أَن تَرْجِعَ وشاقَّتْه، فليَبعَثْ حَكَمًا من أهلِه، وتَبعَثْ حَكَمًا من أهلِها، تقولُ المرأةُ لحَكَمِها: قد وَلَّيتُك أمرى، فإن أمَرتَني أن أرجِعَ رَجَعْتُ، وإن فَرَّقتَ تَفَرَّقْنا. وتُخبِرْه بأمرِها؛ إن كانت تريدُ نَفَقةً
(1)
، أو كَرِهَت شيئًا من الأشياءِ، وتأمُرُه أن يَرفَعَ ذلك عنها وتَرجِعَ، أو تُخبِرُه أنها لا تريدُ الطلاقَ، ويَبعَثُ الرجلُ حَكَمًا من أهلِه يُولِّيه أمرَه، ويُخبِرُه، يقولُ له حاجتَه إن كان يريدُها، أو لا يريدُ أن يُطَلِّقَها، أعطاها ما سألَت وزادَها في النفقةِ، وإلا قال له: خُذْ لي منها ما لَها عليَّ وطَلِّقها. فيُولِّيه أمرَه، فإن شاء طَلَّق، وإن شاء أمسَك، ثم يَجتمِعُ الحَكَمان، فيُخْبِرُ كلُّ واحدٍ منهما ما يريدُ لصاحبِه، ويَجْهَدُ كلُّ واحدٍ منهما ما يريدُ لصاحبِه، فإن اتَّفَق الحَكَمان على شيءٍ فهو جائزٌ، إن طَلَّقا، وإن أمسَكا، فهو قولُ اللَّهِ:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . فإن بَعَثَت المرأةُ حَكَمًا وأتى الرجلُ أن يَبعَثَ، فإنه لا يَقْرَبُها حتى يَبْعَثَ حَكَمًا.
وقال آخرون: إن الذى يَبْعَثُ الحَكَميَن هو السلطانُ، غيرَ أنَّه إنما يَبعَثُهما ليَعْرِفا الظالمَ من المظلومِ منهما، ليَحْمِلَهما على الواجبِ لكلِّ واحدٍ منهما قِبَلَ صاحبِه، لا
(2)
التفريق بينَهما.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، عن الحسن -وهو قولُ قتادةَ- أنهما قالا: إنما يُبْعَثُ الحَكَمان ليُصْلِحا ويَشْهَدا على
(1)
في ص، س:"نفقته".
(2)
في س، ت 2:"إلا".
الظالمِ بظلمِه، وأما الفُرْقةُ فليست [في أيديهما]
(1)
، ولم يَمْلِكا ذلك. يعنى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}
(2)
.
حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} الآية: إنما يُبْعَثُ الحَكَمان ليُصْلِحا، فإن أعيَاهما أن يُصْلِحا، شَهِدا على الظالمِ بظُلْمِه، وليس بأيدِيهما فُرْقةٌ، ولا يَمْلِكان ذلك
(3)
.
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ
(4)
، عن قيسِ بنِ سعدٍ، قال: وسألتُ عن الحَكَمَين، قال: ابعَثوا حَكَمًا مِن أهلِه وحَكَمًا مِن أهلِها، فما حَكَم الحَكَمان مِن شيءٍ فهو جائزٌ، يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . قال: يَخْلو حكَمُ الرجلِ بالزوجِ، وحكَمُ المرأةِ بالمرأةِ، فيقولُ كلُّ واحدٍ منهما لصاحبِه: اصدُقْنى ما في نفسِك. فإذا صَدَق كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، اجتَمَع الحَكَمان، وأخَذ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبِه مِيثَاقًا لتَصْدُقَنِّي الذي قال لك صاحبُك، ولأَصْدُقَنَّك الذى قال لى صاحبي. فذاك حينَ أرادا الإصلاحَ، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . فإذا فَعَلا ذلك اطَّلَع كلُّ واحدٍ منهما على ما أفضَى به صاحبُه إليه، فيَعْرِفان عندَ ذلك مَن الظالمُ والناشِرُ منهما، فَأتَيا عليه، فحَكَما عليه، فإن كانت المرأةُ، قالا: أنتِ الظالِمِةُ العاصِيةُ، لا يُنفِقُ عليك حتى تَرْجِعى إلى الحقِّ، وتُطِيعى اللَّهَ فيه. وإن كان الرجلُ هو الظالمَ، قالا: أنتَ الظالمُ المُضارُّ، لا تَدخُلْ بَيْتًا
(1)
في ص، ت 1، ت، ت 2، س:"بأيديهما".
(2)
أخرجه البيهقى 7/ 307 من طريق سعيد به، من قول الحسن وحده.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 946 (5285) من طريق يزيد به.
(4)
بعده في م: "عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد".
حتى تُنْفِقَ عليها، وتَرْجِعَ إلى الحقِّ والعدلِ. فإن
(1)
كانت هي الظالِمَة العاصيةَ، أخَذ
(2)
منها مالَها، وهو له حلالٌ طيبٌ، وإن كان هو الظالمَ المُسِيءَ إليها المُضارَّ لها، طَلَّقها، ولم يَحِلَّ له مِن مالِها شيءٌ، فإن أمسَكها أمسَكها بما أمَر اللَّهُ، وأنفَق عليها وأحسَن إليها.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن موسى بنِ عُبَيدةَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ، قال: كان عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه يَبْعَثُ الحَكَمَين، حَكَمًا مِن أهلِه وحَكَمًا مِن أهلِها، فيقولُ الحَكَمُ من أهلِها: يا فلانُ، ما تَنْقِمُ مِن زوجتِك؟ فيقولُ: أَنْقِمُ منها كذا وكذا. قال: فيقولُ: أفرأيتَ إِن نَزَعَت عما تَكْرَهُ إلى ما تُحِبُّ، هل أنتَ مُتَّقِى اللَّهَ فيها، ومُعاشِرُها بالذى يَحِقُّ عليك في نَفَقَتِها وكِسْوتِها؟ فإذا قال: نعم. قال الحَكَمُ مِن أهلِه: يا فلانةُ، ما تَنْقِمين من زوجِك فلانٍ؟ فيقولُ مثلَ ذلك. فإن قالت: نعم. جُمع بينَهما. قال: وقال عليٌّ رضي الله عنه: الحَكَمان بهما يَجمَعُ اللَّهُ وبهما يُفَرِّقُ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، قال: قال الحسنُ: الحَكَمان يَحْكُمان في الاجتماعِ، ولا يَحْكُمان في الفُرْقة
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} : وهى المرأةُ التي تَنْشِزُ على زوجِها، فلزوجِها أن يَخْلَعَها حينَ يأمُرُ الحَكَمان بذلك، وهو بعدَ ما تقولُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ما رأيت ذلك".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وأخذ".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 157 إلى المصنف.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 159.
لزوجِها: واللَّهِ لا أَبَرُّ لك قَسَمًا، ولآذَنَنَّ
(1)
في بيتِك بغيرِ أمرِك. ويقولُ السلطانُ: لا نُجيزُ لك خُلْعًا حتى تقولَ المرأةُ لزوجِها: واللَّهِ لا أغتسِلُ لك من جَنابةٍ، ولا أُقِيمُ لك صلاةً. فعندَ ذلك يقولُ السلطانُ: اخْلَعِ المرأةَ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} . قال: تَعِظُها، فإن أبَت وغَلَبَت، فاهجُرْها في مَضْجَعِها، فإن غَلَبَت هذا أيضًا فاضرِبْها، فإن غَلَبَت هذا أيضًا، بُعِثَ حَكَمْ مِن أهلِه وحَكَمٌ مِن أهلِها، فإن غَلَبَت هذا أيضًا وأرادَت غيرَه، فإنَّ
(3)
أبِي كان
(4)
يقولُ: ليس بيَدِ الحَكَمَين مِن الفراقِ
(5)
شيءٌ، إن رأيا الظلْمَ مِن ناحيةِ الزوجِ، قالا: أنتَ يا فلانُ ظالمٌ، انْزِعُ. فإن أبَى رَفَعا ذلك إلى السلطانِ، [وإن رآها ظالمةً، قال لها: أنت ظالمةٌ، انزعى. فإن أبت رفعا ذلك إلى السلطانِ]
(6)
، ليس إلى الحَكَمَين من الفِراقِ شيءٌ.
وقال آخرون: بل إنما يَبْعَثُ الحَكَمَين السلطانُ على أنّ حُكْمَهما ماضٍ على الزوجَين في الجمعِ والتَّفْريقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ بنِ
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3، س:"لا دين"، وغير منقوطة في ص، وفي تفسير ابن أبي حاتم:"لا أدبر".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 942 (5262) عن محمد بن سعد به.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قال و".
(4)
بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"أبي".
(5)
في م: "الفرقة".
(6)
سقط من: م.
أبي طلحة، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} : فهذا الرجلُ والمرأةُ، إذا تَفاسَد الذي بينهما، فأمَر اللَّهُ سبحانه أن يَبْعَثوا رجلًا صالحًا من أهلِ الرجلِ، ومثلَه مِن أهلِ المرأةِ، فينظران أيَّهما المُسِئَ، فإن كان الرجلُ هو المُسِئَ، حَجَبوا عنه امرأتَه، وقَصَروه
(1)
على النفقةِ، وإن كانت المرأةُ هي المَسِيئةَ، قَصَروها على زوجها، ومَنَعوها النفقةَ، فإن اجتَمَع رأيُهما على أن يُفَرِّقا أو يَجْمَعا، فأمرُهما جائزٌ، فإن رَأيا أن يَجْمَعا، فرَضِى أحدُ الزوجَين وكَرِه ذلك الآخَرُ، ثم مات أحدُهما، فإن الذي رَضِي يَرِثُ الذى كَرِه، ولا يَرِثُ الكارِهُ الراضِيَ، وذلك قولُه:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} . قال: هما الحَكَمان، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا عوفٌ، عن محمدِ بنِ سيرينَ، أن الحَكَمَ من أهلِها والحَكَمَ مِن أهلِه يُفَرِّقان ويَجْمَعان إذا رَأيا ذلك، {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} .
حدَّثني محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، قال: سألتُ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ عن الحَكَمَين، فقال: لم أُولَدْ إذ ذاك
(3)
. فقلتُ: إنما أعنى حَكَمَ الشِّقاقِ. قال: يُقْبِلان على الذي جاء التدارِي
(4)
من عندِه، فإن فعَل وإلا أقبَلا على الآخَرِ، فإن فعَل وإلا حَكَما، فما حَكَما
(1)
يقال: قصرت نفسى على الشيء: إذا حبستها عليه وألزمتها إياه. التاج (ق ص ر).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 945 (5280، 5283)، والبيهقى 7/ 306 مختصرًا من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 156 إلى ابن المنذر.
(3)
يعنى الحكمين في أمر على ومعاوية رضي الله عنهما.
(4)
في م: "الأذى"، وفى س:"الراوى" والتدارى من التدارؤ ترك همزه، والمراد: المشاغبة والمخالفة والاختلاف. ينظر اللسان (د ر أ).
من شيءٍ فهو جائزٌ
(1)
.
حدَّثنا عبد الحميد بنُ بَيانٍ، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ يزيدَ، عن إسماعيلَ، عن عامرٍ في قولِه:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . قال: ما قَضَى الحَكَمان من شيءٍ فهو جائزٌ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن مُغِيرةً، عن داودَ، عن إبراهيمَ، قال: ما حَكَما من شيءٍ فهو جائزٌ، إن فَرَّقا بينهما بثلاثِ تَطليقات أو تطليقتين فهو جائزٌ، وإن فَرَّقا بتطليقة فهو جائزٌ، وإن حَكَما عليه بهذا مِن ماله فهو جائزٌ، فإن أصلحا فهو جائزٌ، وإن
(3)
وَضَعا من شيءٍ فهو جائزٌ
(4)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا حِبَّانُ، قال: أخبَرنا ابنُ المباركِ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن المُغيرةِ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . قال: ما صَنَع الحَكَمان من شيءٍ فهو جائزٌ عليهما، إن طَلَّقا ثلاثًا فهو جائزٌ عليهما، وإن طلَّقا
(5)
واحدةً أو طَلَّقاها
(6)
على جُعْلٍ، فهو جائزٌ، وما صَنَعا من شيءٍ فهو جائزٌ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11888)، وسعيد بن منصور في سننه (633 - تفسير)، والبيهقي 7/ 306، من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 156 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 211، وسعيد بن منصور في سننه (631 - تفسير) -ومن طريقه البيهقي في 7/ 306 - من طريق إسماعيل به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11884) من طرق عن الشعبي.
(3)
في ص، ت،1، ت 2، ت:"ما".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور (632 - تفسير) -ومن طريقه البيهقي 7/ 306 - من طريق عبيدة، عن إبراهيم، وأحالا على لفظ الشعبي.
(5)
في م: "طلقها".
(6)
في ص، ت،1، ت 2، ت 3:"طلقها".
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخبرنا مَعْمَرٌ، عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، عن أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، قال: إن شاء الحَكَمان أن يُفَرِّقا فَرَّقا، وإن شاءا أن يَجْمَعا جَمَعًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن حُصَينٍ، عن الشعبيِّ، أن امرأةً نَشَرَت على زوجِها، فاختَصَموا إلى شُرَيحٍ، فقال شُرَيحٌ: ابعَثوا حَكَمًا مِن أهلِه وحَكَمًا مِن أهلِها. فنَظَر الحَكَمان في أمرِهما، فَرَأيا أن يُفَرِّقا بينهما، فكَرِه ذلك الرجلُ، فقال شُرَيحٌ: فَفِيمَ كانا اليومَ؟ وأجاز قولَهما
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ، عن ابنِ طاوسٍ، عن عِكْرمةَ بنِ خالدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: بُعِثْتُ أنا ومعاويةُ حَكَمَين. قال مَعْمَرٌ: بَلَغَنى أن عثمانَ رضي الله عنه بَعَثهما، وقال لهما: إن رأيتُما أن تَجْمَعا جَمعْتُما، وإن رأيتُما أن تُفَرِّقا فَرَّقْتُما
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ عُبادةَ، قال: ثنا ابْنُ جُرَيجٍ، قال: ثني ابنُ أبي مُلَيكةَ، أن عقيلَ بن أبي طالبٍ تَزوَّج فاطمةَ ابنةَ عُتْبَةَ، فكان بينَهما كلامٌ، فجاءت عثمانَ، فذكَرَت ذلك له، فأرسَل ابنَ عباسٍ ومُعاويةَ، فقال ابنُ عباسٍ: لأَفَرْقَنَّ بينَهما. فقال مُعاويةُ: ما كنتُ لأُفَرِّقَ بينَ شيخَين من بنى عبدِ منافٍ. فأتَياهما وقد اصطَلَحا
(4)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 159، وفى مصنفه (11882)، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 212 من طريق يحيى به.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (630 - تفسير) -ومن طريقه البيهقي 7/ 306 - عن هشيم به، بلفظ: فقيم كنا فيه.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 159، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 156 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه البيهقي 7/ 306 من طريق ابن جريج به.
حدَّثني يحيى بنُ أبى طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبَرنا جُوَييرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} : يكونان عَدْلَين عليهما وشاهِدَين، وذلك إذا تَدَارَأ الرجلُ والمرأةُ وتَنازَعا إلى السلطانِ، جَعَل عليهما حَكَمَين، حَكَمًا من أهلِ الرجلِ وحَكَمًا مِن أهلِ المرأةِ، يكونان أمينَين عليهما جميعًا، ويَنْظُران من أيِّهما يكونُ الفسادُ، فإنْ كان الأمْرُ
(1)
مِن قِبَلِ المرأةِ، أُجْبِرَت على طاعةِ زوجِها، وأُمر أن يَتَّقِيَ اللَّهَ ويُحْسِنَ صُحْبَتَها، ويُنْفِقَ عليها بقَدْرِ ما آتاه اللَّهُ، إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ، وإن كانت الإساءةُ من قِبَلِ الرجلِ أُمِر بالإحسانِ إليها، فإن لم يَفْعَلْ، قيل له: أعطِها حَقَّها، وخَلِّ سبيلَها. وإنما يَلِى ذلك منهما السلطانُ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ بالصوابِ في قولِه: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . أن اللَّهَ خاطَب المسلمين بذلك، وأمَرهم ببَعْثةِ الحَكَمين عندَ خوفِ السِّقاقِ بينَ الزوجَين، للنظرِ في أمرِهما، ولم يَخْصُصُ بالأمرِ بذلك بعضَهم دونَ بعضٍ.
وقد أجمَع الجميعُ على أن بَعثةَ الحَكَمين في ذلك ليست لغيرِ الزوجَين وغيرِ السلطانِ الذى هو سائسٌ أمْرَ المسلِمين، أو مَن أَقامَه في ذلك مُقامَ نفسِه.
واختَلَفوا في الزوجَين والسلطانِ، ومَن المأمورُ بالبَعْثةِ في ذلك؛ الزَّوْجان، أو السلطانُ، ولا دَلالةَ في الآيةِ تَدُلُّ على أن الأمرَ بذلك مخصوصٌ به أحدُ الزوجَين، ولا أَثَرَ به عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والأمةُ فيه مُخْتلِفةٌ. وإذ كان الأمرُ على ما وَصَفنا، فأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يكونَ مخصوصًا من الآيةِ مَن أجْمع الجميعُ على
(1)
سقط من: م.
أنه مخصوصٌ منها
(1)
. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجبُ أن يكونَ الزوجان والسلطانُ ممن قد شَمِله حُكْمُ الآية والأمرُ بقولِه:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . إذ كان مُخْتلَفًا بينَهما
(2)
؛ هل هما مَعْنِيَّان بالأمرِ بذلك أم لا؟ وكان ظاهرُ الآيةِ قد عَمَّهما، فالواجبُ مِن القولِ إذ كان صحيحًا ما وَصَفنا، صحيحًا
(3)
أن يقالَ: إن بعَث الزوجانِ كلُّ واحدٍ منهما حَكَمًا مِن قِبَلِه، ليَنْظُرَ في أمرِهما، وكان لكلِّ
(4)
واحدٍ منهما ممن
(5)
بَعَثه مِن قِبَلِه في ذلك طاقةٌ على صاحبِه ولصاحبِه عليه، فتَوكيلُه بذلك مَن وُكِّل جائزٌ له وعليه.
وإن وَكَّله ببعضٍ ولم يُوَكِّلْه بالجميعِ، كان ما فعَله الحَكَمُ مما
(6)
وَكَّله به صاحبُه ماضِيًا جائزًا على ما وَكَّله به، وذلك أن يُوَكَّلَه أحدُهما بما لَه دونَ ما عليه، [وإن]
(7)
لم يُوَكَّلْ كلُّ واحدٍ من الزوجَين بمالَه وعليه، أو بما لَه، أو بما عليه، [إلا الحَكَمَين]
(8)
كليهما، [لم يَجُزْ]
(9)
إلا ما اجتَمَعا عليه دونَ ما انفرَد به أحدُهما، وإن لم يُوَكِّلْهما واحدٌ منهما بشيءٍ، وإنما بَعَثاهما للنظرِ بينهما (2)؛ ليَعْرِفا الظالمَ مِن المظلومِ منهما، ليَشْهَدا عليهما عندَ السلطانِ، إن احْتاجا إلى شهادتِهما، لم يكنْ لهما أن يُحْدِثا بينَهما شيئًا غيرَ ذلك؛ من طَلاقٍ، أو أخْذِ مالٍ، أو غيرِ ذلك، ولم يَلْزَمِ الزوجَين ولا
(1)
بعده في ص، ت 1، س:"أم لا".
(2)
في ص، ت 2، س:"منهما".
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، ت 1، س:"كل".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"من".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ما".
(7)
في م: "أو".
(8)
في م: "فليس للحكمين".
(9)
زيادة لازمة، وينظر تعليق الشيخ شاكر.
واحدًا منهما شيءٌ مِن ذلك.
فإن قال قائلٌ: وما معنى الحَكَمَين إذ كان الأمرُ على ما وَصَفتَ؟
قيل: قد اختُلِف في ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى الحَكَم النَّظِرُ العَدْلُ، كما قال الضَّحاكُ بن مُزاحِمٍ في الخبرِ الذي ذكَرناه، الذي حدَّثنا به يحيى بنُ أبي طالبٍ، عن يزيدَ، عن جُوَيبرٍ، عنه: لا، أنتما قاضِيان تَقْضِيان بينَهما. على السبيلِ التي بَيَّنَّا مِن قولِه.
وقال آخرون: معنى ذلك أنهما القاضِيان يَقْضِيان بينَهما ما فَوَّض إليهما
(1)
الزوجان.
وأيُّ الأمرَين كان، فليس لهما ولا لواحدٍ منهما الحُكْمُ بينَهما بالفُرْقةِ، ولا بأخذِ مالٍ إلا برضا المحكومِ عليه بذلك، وإلا ما لَزِم مِن حَقٍّ لأحدِ الزوجَين على الآخرِ في حُكْمِ اللَّهِ، وذلك ما لَزِم الرجلَ لزوجتِه مِن النفقةِ والإمساكِ بمعروفٍ، إن كان هو الظالمَ لها.
فأما غيرُ ذلك، فليس ذلك لهما ولا لأحدٍ مِن الناسِ غيرِهما، لا السلطانِ، ولا غيرِه، وذلك أن الزوجَ إن كان هو الظالمَ للمرأةِ، فللإمامِ السبيلُ إلى أخْذِه بما يَجِبُ لها عليه من حَقٍّ، وإن كانت المرأةُ هى الظالمةَ زوجَها، الناشِزَ
(2)
عليه، فقد أباحَ اللَّهُ له أخْذَ الفِدْية منها، وجَعَل إليه طلاقَها على ما قد بَيَّنَّاه في سورةِ "البقرةِ"
(3)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إليه".
(2)
في م: "الناشزة".
(3)
ينظر ما تقدم في 4/ 125 وما بعدها.
وإذ كان الأمرُ كذلك، لم يكنْ لأحدٍ الفُرْقةُ بينَ رجلٍ وامرأةٍ بغيرِ رِضا الزوجِ، ولا أَخْذُ مالٍ مِن المرأةِ بغيرِ رضاها بإعطائِه، إلا بحُجَّةٍ يجبُ التسليمُ لها من أصلٍ أو قياسٍ.
وإن بَعَث الحَكَمَين السلطانُ، ولا يجوزُ لهما أن يَحْكُما بينَ الزوجَين بفُرْقةٍ إلا بتَوكيلِ الزوجِ إياهما بذلك، ولا لهما أن يَحْكُما بأخْذِ مالٍ من المرأةِ إلا برضا المرأةِ، يَدلُّ على ذلك ما قد بَيَّناه قبلُ مِن فعلِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، بذلك، والقائلين بقولِه، ولكن لهما أن يُصْلِحا بينَ الزوجَين، ويَتَعرَّفا الظالمَ منهما مِن المظلومِ، ليَشْهَدا عليه إن احتاجَ المظلومُ منهما إلى شهادتِهما.
وإنما قلنا: ليس لهما التَّفْرِيقُ. للعلة التي ذكَرناها آنفًا، وإنما يَبْعَثُ السلطانُ الحَكَمَين إذا بَعَثهما، إذا ارتَفَع إليه الزوجان فَشَكا كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، وأَشْكَل عليه المُحِقُّ منهما من المُبْطِلِ؛ لأنه إذا لم يُشْكِل المُحِقُّ من المُبْطِلِ، فلا وَجْهَ لبَعْثِه الحَكَمَين في أمرٍ قد عُرِف الحُكْمُ فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} .
يعنى بذلك جلّ ثناؤُه: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} : إن يُرِدِ الحَكَمان إصلاحًا بينَ الرجلِ والمرأةِ -أعنى بينَ الزوجَين المخوفِ شِقاق بينِهما- يقولُ: يُوَفِّقِ اللَّهُ بينَ الحَكَمَين، فيَتَّفِقا على الإصلاحِ بينَهما، وذلك إذا صَدَق كلُّ واحدٍ منهما فيما
(1)
أفضَى إليه مَن بُعِثَ للنظر في [أمرِ الزوجَين]
(2)
.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"عما"، و في ت 2:"على".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمره بين الزوجين".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سُفيانَ، عن أبي هاشمٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} . قال: أمَا إنه ليس بالرجلِ والمرأةِ، ولكنه الحَكَمان
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . قال: هما الحَكَمان، إن يُرِيدا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بينَهما
(2)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بنِ أبى طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} : وذلك الحَكَمان، وكذلك كلُّ مُصْلِحٍ يُوفقه اللَّهُ للحَقِّ والصوابِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} : يعنى بذلك الحَكَمَين.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} . قال: إن يُرد الحَكَمان إصلاحًا أصلحا (2).
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11889)، وابن أبى شيبة 5/ 212 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 157 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 946 عقب الأثر (5286) معلقًا.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 946 (5287) من طريق عبد الله بن صالح به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن أبي هاشمٍ، عن مجاهدٍ:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} : يُوَفِّقِ اللَّهُ بينَ الحَكَمَينَ
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا جُوَيبرٌ، عن الضحاكِ قولَه:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} : قال: هما الحَكَمان إذا نَصَحا المرأةَ والرجلَ جميعًا
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} .
يعنى جلّ ثناؤُه: إنَّ اللَّهَ كان عليمًا بما أراد الحَكَمان من إصلاحٍ بينَ الزوجَين وغيرِه، خبيرًا بذلك وبغيرِه من أمورِهما وأمورِ غيرِهما، لا يَخْفَى عليه شيءٌ منه، حافظٌ عليهم، حتى يُجازِىَ كُلًّا منهم جزاءَه، بالإحسانِ إحسانًا، وبالإساءةِ غُفرانًا أو عِقابًا.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 159.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 157 إلى المصنف.