المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌ ‌ ‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ - تفسير الطبري جامع البيان - ت التركي - جـ ١٠

[ابن جرير الطبري]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} : وهذا القرآنُ الذي أنْزَلْناه إلى نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم كتابٌ أنْزَلْناه مباركٌ، {فَاتَّبِعُوهُ}. يقولُ: فَاجْعَلوه إمامًا تَتَّبِعونه، وتَعْمَلون بما فيه أيُّها الناسُ، {وَاتَّقُوا}. يقولُ: واحْذَرُوا الله في أنفسِكم أن تُضَيِّعوا العملَ بما فيه، وتَتَعَدَّوْا حدودَه، وتَسْتَحِلُّوا. محارمَه.

كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} : وهو القرآنُ الذي أنْزَله اللهُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {فَاتَّبِعُوهُ}. يقولُ: فاتَّبِعوا حلالَه، وحرِّموا

(1)

حرامَه

(2)

.

وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . يقولُ: لتُرْحَموا، فتَنْجُوا مِن عذابِ اللهِ وأليمِ عقابِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)} .

اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في العاملِ في {أَنْ} التي في قولِه: {أَنْ تَقُولُوا} .

(1)

سقط من: ص، ف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1424، 1425 (8122، 8123) من طريق يزيد به إلى قوله: فاتبعوا حلاله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 56 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 5

هذا وفي معنى الكلامِ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: معنى ذلك: ثم آتَيْنا موسى الكتابَ [تمامًا على الذي أحسنَ]

(1)

، كراهيةَ أن تقولوا: إنما أُنزِل الكتابُ على طائفتين من قبلِنا

(2)

.

وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: بل ذلك في موضعِ نصبٍ بفعلٍ مُضْمَرٍ. قال: ومعنى الكلامِ: فاتَّبِعوه واتَّقُوا لعلكم تُرْحَمون؛ اتَّقُوا أن تَقُولوا. قال: ومِثْلُه يقولُ

(3)

اللهُ: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].

وقال آخرُ

(4)

منهم: هو في موضعِ نصبٍ. قال: ونصبُه مِن مكانَيْن؛ أحدُهما: أَنْزَلْناه لئلا تقُولوا: إِنما أُنزِل الكتابُ على

(5)

. والآخرُ: مِن قولِه: {وَاتَّقُوا} . قال: و "لا" يَصْلُحُ في موضعِ "أن" كقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176].

وأولى هذه الأقوالِ عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: نَصْبُ "أن" لتعلُّقها بالإنزال؛ لأن معنى الكلامِ: وهذا كتابٌ أَنْزَلْناه مباركٌ لئلا تقولوا: إنما أُنزل الكتابُ على طائفتين من قبلِنا.

فأما الطائفتان اللتان ذكَرَهما الله، وأَخْبَر أنه إنما أَنْزَل كتابَه على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم لئلا يقولَ المشركون: لم يَنْزِلْ علينا كتاب فنَتَّبِعَه، ولم نُؤْمَرُ، ولم نُنْهَ، فليس علينا حُجَّةٌ فيما نَأْتى ونَذَرُ، إذ لم يَأْتِ مِن اللهِ كتابٌ ولا رسولٌ، وإنما الحجةُ على

(1)

سقط من: ص، ف.

(2)

الأرجح أن صواب هذه العبارة: معنى ذلك: وهذا كتاب أنزلناه مبارك كراهية أن تقولوا

. وهو القول الذي سيختاره المصنف، وينظر أيضًا تفسير القرطبي 7/ 144، والبحر المحيط 4/ 256، 257.

(3)

في م: "بقول".

(4)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"آخرون". وهذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1/ 366.

(5)

سقط من: ف. وفى معاني القرآن وقف عند قوله: أنزل.

ص: 6

الطائفَتيْن اللتين أُنْزِل عليهما الكتابُ مِن قبلنا، فإنهما اليهودُ والنصارى.

وكذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} : وهم اليهودُ والنصارَى

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} : اليهودُ والنصارى، يخافُ

(2)

أن تقولَه قريشٌ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} . قال: اليهودُ والنصارى. قال: أن تقولَ قريشٌ.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} : وهم اليهودُ والنصارى.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} : أما الطائفتان فاليهودُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1425 (8126) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 56 إلى ابن المنذر.

(2)

في م: "نخاف"، وأولها غير منقوط في باقى النسخ، وفي تفسير ابن أبي حاتم والدر المنثور:"خاف".

(3)

تفسير مجاهد ص 331 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1425 (8125)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 56 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 7

والنصارى

(1)

.

وأما: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} . فإنه يعنى: أن تقولوا: وقد كنا عن تِلاوةِ الطائفتين الكتابَ الذي أنْزَلْتَ عليهم غافلين لا نَدْرِى ما هي

(2)

، ولا نَعْلَمُ ما يَقْرءُون وما يقولون، وما أُنْزِل إليهم في كتابهم؛ لأنهم كانوا أهلَه دونَنا، ولم نُعْنَ به، ولم نُؤْمَرْ بما فيه، ولا هو بلساننا. فيَتَّخِذوا ذلك حجةً، فقَطَع اللَّهُ بإنزاله القرآن على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم حجتَهم تلك.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ:{وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} . يقولُ: إن كنّا عن تلاوتِهم لَغافلين

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} . أي: عن قراءتهم.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} . قال: الدِّراسةُ القراءةُ والعلمُ. وقرأَ: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169]. قال: علموا ما فيه، لم يَأْتوه بجهالةٍ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 (8130) من طريق أحمد بن المفضل به.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"هم".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1425 (8127) من طريق أبي صالح به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1425 (8128) من طريق أصبغ عن ابن زيد به.

ص: 8

السديِّ: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} . يقولُ: وإن كنا عن قراءتِهم لَغافلين، لا نَعْلَمُ ما ما هي

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وهذا كتابٌ أَنزَلْناه مُبارَكٌ؛ لِئَلَّا يقولَ المشركون مِن عَبَدة الأوثان مِن قريشٍ: إنما أُنْزِل [الكتابُ على طائفتَيْن مِن قَبْلِنَا. أو لِئَلَّا يقولوا: لو

(2)

أَنَّا أُنزِل]

(3)

علينا الكتابُ كما أُنْزِل على هاتين الطائفتين مِن قبلِنا، فأُمِرْنا فيه ونُهِينا، وبُيِّن لنا فيه خطأُ ما نحن فيه مِن صوابِه، {لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}. أَي: لَكُنا أَشدَّ اسْتِقامةً على طريقِ الحقِّ، واتباعًا للكتاب، وأحْسَنَ عملًا بما فيه مِن الطائفتين اللتين أُنْزِل عليهما الكتابُ مِن قبلِنا. يقولُ اللَّهُ:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ: فقد جاءكم كتابٌ بلسانِكم عربيٌّ مبينٌ، حجةٌ عليكم واضحةٌ بيِّنةٌ مِن ربِّكم، {وَهُدًى}. يقولُ: وبيانٌ للحقِّ، وفُرْقانٌ بينَ الصوابِ والخطأ، {وَرَحْمَةٌ} لمن عمِل به واتَّبعه.

كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ: قد جاءكم بينةٌ، لسانٌ عربيٌّ مبينٌ، حينَ لم تَعْرِفوا دراسةَ الطائفتَيْن، وحينَ قُلْتم: لو جاءَنا كتابٌ لكُنا أهْدَى منهم

(4)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1425 (8129) من طريق أحمد بن المفضل به.

(2)

سقط من: ص.

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 (8131، 8133)، مِن طريق أحمد بن المفضل به.

ص: 9

أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}: فهذا قولُ كفارِ العربِ، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: فمَن أخطأُ فِعلًا وأشدُّ عُدوانًا منكم أيُّها المشركون المكذِّبون بحُججِ اللهِ وأدلتِه، وهى آياتُه، {وَصَدَفَ عَنْهَا}. يقولُ: وأَعْرَض عنها بعدَ ما أتَتْه، فلم يُؤْمِنْ بها، ولم يُصَدِّقْ بحقيقتِها.

وأَخْرَج جلَّ ثناؤُه الخبر بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} . مُخْرَجَ الخبر عن الغائبِ، والمعنيُّ به المخاطَبون به مِن مشركي قريشٍ.

وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ قولِه: {وَصَدَفَ عَنْهَا} . قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباس قوله:{وَصَدَفَ عَنْهَا} . يقولُ: أَعْرَضَ عنها

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا} : يُعْرِضون عنها، والصَّدْفُ الإعْراضُ

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 (8132) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 56 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 (8134) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 57 إلى ابن المنذر. وينظر ما تقدم تخريجه في 9/ 253.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 عقب الأثر (8134) معلقا، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 365 عن مجاهد بنحوه. وينظر ما تقدم تخريجه في 9/ 253.

ص: 10

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَصَدَفَ عَنْهَا} : أعْرَض عنها، {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}. أي: يُعْرِضون

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَصَدَفَ عَنْهَا} : فصدَّ عنها

(2)

.

وقولُه: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} .

يقولُ: سيُثيبُ اللَّهُ الذين يُعْرِضون عن الذين يُعْرِضون عن آياته وحججه ولا يَتَدَبَّرونها، ولا يَتَعَرَّفون حقيقتَها فيُؤْمِنوا بما دلَّتْهم عليه مِن توحيدِ اللهِ، وحقيقةِ

(3)

نبوةِ نبيِّه، وصدقِ ما جاءهم به مِن عندِ ربِّهم - {سُوءَ الْعَذَابِ}. يقولُ: شديدَ العذابِ

(4)

، وذلك عذابُ النارِ التي أعَدَّها اللهُ لكفَرةِ خلقِه به، {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}. يقولُ: يَفْعَلُ اللهُ ذلك بهم جَزاءً بما كانوا يُعْرِضون عن آياتِه في الدنيا، فلا يَقْبَلون ما جاءهم به نبيِّهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .

يقولُ جلَّ ثناؤه: هل يَنْتَظِرُ هؤلاء العادِلون باللهِ

(5)

الأوثانَ والأصنامَ إلا أن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 (8135) من طريق يزيد به مقتصرا على آخره، وذكر أوله ابن كثير في تفسيره 3653 وينظر ما تقدم تخريجه في 9/ 253.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 عقب الأثر (8134) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به، وينظر ما تقدم تخريجه في 9/ 253.

(3)

في م: "حقية".

(4)

في م، ف:"العقاب".

(5)

في م: "بربهم".

ص: 11

تأْتيَهم الملائكةُ بالموتِ، فتَقْبِضَ

(1)

أرواحَهم، أو يَأْتِيَهم ربُّك يا محمدُ بينَ خلقِه في موقفِ القيامةِ، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}. يقولُ: أو أن يَأْتِيَهم بعضُ آياتِ ربِّك، وذلك فيما قال أهلُ التأويلِ طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

‌ذكرُ مَن قال مِن أهلِ التأويلِ ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} . يقولُ: عند الموتِ حينَ توَفَّاهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: ذلك يومَ القيامةِ، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : بالموتِ، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: يومَ القيامةِ، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}. قال: آيةٌ مُوجِبةٌ؛ طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها، أو ما شاء اللهُ

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} . يقولُ: بالموتِ، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: وذلك يومَ القيامةِ، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : عندَ الموتِ، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ

(1)

في ت 1، ف:"بقبض".

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 عقب الأثر (8136) معلقا مقتصرًا على أوله.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 222 عن معمر به.

ص: 12

آيَاتِ رَبِّكَ}. يقولُ: طلوعُ الشمسِ من مغربِها

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ وابنُ حُميدٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، قال: قال عبدُ اللهِ في قولِه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: يُصبْحون والشمسُ والقمرُ مِن ههنا مِن قِبَلِ المغربِ كالبعيرَيْن القَرِينَيْن

(2)

. زاد ابن حُميدٍ في حديثِه: فذلك حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} وقال: كالعَيْرَيْن

(3)

المقترنَيْن

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : بقَبْضِ

(5)

الأنفُسِ بالموتِ {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} : يومَ القيامةِ، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} .

يقولُ تعالى ذكرُه: يومَ يأتى بعضُ آياتِ رَبِّك لا يَنْفَعُ مَن كان قبلَ ذلك مشركًا باللَّهِ أَن يُؤْمِنَ بعد مجيءِ تلك الآيةِ.

وقيل: إن تلك الآيةَ التي أخْبَر اللهُ جلَّ ثناؤه أن الكافرَ لا يَنْفَعُه إيمانُه عندَ مجيئها، طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1426 عقب الأثر (8136) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به مختصرا.

(2)

في س: "المقترنين".

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"كالبعيرين".

(4)

سيأتي تخريجه في ص 24.

(5)

في م، س: تقبض".

ص: 13

‌ذكرُ مَن قال ذلك، وما ذُكِر فيه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

حدَّثني عيسى بنُ عثمانَ الرَّمْليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: "طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها".

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ وجريرٌ، عن

(2)

عُمارةً، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَقومُ الساعةُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مَغْرِبها". قال: "فإذا رآها الناسُ آمَن مَن عليها، فتلك حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "

(3)

.

حدَّثنا عبد الحميد بنُ بَيانِ السُّكَّريُّ

(4)

وإسحاقُ بنُ شاهينٍ.، قالا أخبَرنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، عن يونُسَ، عن إبراهيمَ التَّيْميِّ، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَدْرُون أين تَذْهَبُ هذه الشمسُ؟ ". قالوا:

(1)

أخرجه الترمذى (3071) عن ابن وكيع به. وأخرجه أحمد 17/ 368 (11266)، وعبد بن حميد (900)، وأبو يعلى (1353)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1427 (8141)، من طريق وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 57 إلى أبى الشيخ وابن مردويه.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"بن". ينظر تهذيب الكمال 21/ 262.

(3)

أخرجه أحمد 12/ 78 (7161)، ومسلم عقب الحديث (157)، وأبو داود (4312)، وابن ماجه (4068)، والنسائى في الكبرى (11177) من طريق محمد بن فضيل به، وأخرجه مسلم عقب الحديث (157)، وأبو يعلى (6085) من طريق جرير به، وأخرجه البخاري (4635) من طريق عمارة به.

(4)

في م، س:"اليشكرى". وينظر تهذيب الكمال 16/ 413.

ص: 14

اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "إنها تَذْهَبُ إلى مُسْتَقَرِّها تحتَ العرشِ فتَخِرُّ ساجدةً، فلا تَزالُ كذلك حتى يقالَ لها: ارْتَفِعى مِن حيثُ شئتِ. فتُصْبِحُ طالعةً مِن مَطْلِعِها

(1)

، ثم تَجْرِى إلى أن تَنْتَهِيَ إلى مُسْتَقَرٍّ لها تحت العرشِ، فتَخِرَّ ساجدةً، فلا تَزالُ كذلك حتى يقالَ لها: ارتَفِعى مِن حيث شئتِ. فتُصْبِحُ طالعةً مِن مَطْلِعِها ثم تَجْرِى لا يُنْكِرُ الناسُ منها شيئًا، حتى تَنْتَهِي فتَخِرَّ ساجدةً في مستَقرٍّ لها تحتَ العرش، فيُصبحُ الناسُ لا يُنكرون منها شيئًا، فيُقالُ لها: اطْلَعى مِن مغربِك. فتُصْبحُ طالعةً مِن مغربِها". قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يوم ذلك؟ " قالوا: اللَّهِ الله ورسولُه أعلمُ. قال: "ذاك يومُ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}

(2)

.

حدَّثنا مُؤَمَّلُ بنُ هشامٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا ابن عُلَيةَ، عن يونُسَ، عن إبراهيمَ بن يزيدَ التَّيْميِّ، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه

(3)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن صفوانَ بن عَسَّالِ، قال: ثنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن مِن قبَلِ مغربِ الشمسِ بابًا مفتوحًا للتوبةِ، حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِنْ نَحْوِه

(4)

، فإذا طلَعَت الشمسُ مِن نحوِه لم يَنْفَعْ نفسًا إيمانُها لم تَكُنْ آمَنَت مِن قبلُ أو كسَبَت في إيمانها خيرًا"

(5)

حدَّثنا المفضلُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أشعتُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن زُبَيْدٍ

(1)

في ت 1، س، ف:"مطالعها".

(2)

أخرجه مسلم (159) عن عبد الحميد بن بيان به نحوه، وعنده في الموضعين:"ارجعي من حيث جئت" بدل "ارتفعى من حيث شئت". وسيورده المصنف في ص 21 من طريق آخر عن إبراهيم التيمي به مختصرا، بلفظ "ارجعي من حيث جئت".

(3)

أخرجه البزار (4011) عن مؤمل، عن ابن علية به.

(4)

النحو: الطريق والجهة. القاموس المحيط (ن ح و).

(5)

أخرجه ابن ماجه (4070) من طريق عبيد الله به نحوه.

ص: 15

الإيَاميُّ

(1)

، عن أبيه، عن زُبَيْدٍ، عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ، عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ المُراديِّ، قال: ذُكِرَت التوبةُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"للتوبةِ بابٌ بالمغربِ مَسيرةُ سبعين عامًا، أو أربعين عامًا، فلا يَزالُ كذلك حتى يَأْتى بعضُ آياتِ رَبِّك"

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا سهلُ بنُ عامرٍ، قال: ثنا مالكٌ، عن عاصمٍ بن أبي النَّجودِ، عن زِرّ بن حُبَيشٍ، عن صَفْوانَ بن عَسَّالٍ أنه قال: إن بالمغربِ

(3)

بابًا مفتوحًا للتوبةِ مسيرةَ سبعين عامًا، فإذا طلعت الشمسُ مِن مغربِها، لم يَنْفَعْ نفسًا إيمانُها لم تَكُنْ آمَنَت مِن قبلُ أو كسَبَت في إيمانِها خيرًا

(4)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن عُمارَةَ بن القَعْقاعِ، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هريرةَ، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا تَقومُ الساعةُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مغربِها، فإذا طلَعَت ورآها الناسُ آمَن مَنْ عليها، فذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ".

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن العَلاءَ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَقومُ الساعةُ حت تَطْلُعَ الشمسُ مِن مغربِها، فيومَئذٍ يُؤْمِنُ الناسُ كلُّهم أَجْمَعون، وذلك حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "

(5)

.

(1)

في م: "اليامي". وكلا النسبتين صواب؛ ينظر الأنساب 1/ 233.

(2)

أخرجه الطبراني (7348) من طريق عبد الرحمن به نحوه مطولًا.

(3)

في النسخ: "بالمشرق". وينظر مصادر التخريج.

(4)

أخرجه الطيالسي (1264)، والحميدى (881)، وأحمد (30/ 18 - 20 (18095)، 30/ 24 (18100) والترمذى (3535، 3536)، والطبراني (7359 - 7361، 7365، 7383)، وأبو نعيم في الحلية 6/ 285، 286 من طريق عاصم به.

(5)

أخرجه أحمد 14/ 442 (8850)، ومسلم (157)، من طريق العلاء به نحوه.

ص: 16

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن ابن

(1)

عَوْنٍ، عن ابن سيرينَ، عن أبي هريرةَ، قال:"التوبةُ مقبولةٌ ما لم تَطْلُعِ الشمسُ مِن مغربِها".

حدَّثنا أحمدُ بنُ الحسنِ الترمذيُّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا ابن عيَّاش

(2)

، قال: ثنا ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ، عن شُرَيْحٍ بن عُبيد، عن مالكِ بن يَخَامِرٍ، عن معاويةَ بن أبي سفيانَ وعبدِ الرحمنِ بن عوفٍ وعبدُ اللهِ بن عمرِو بن العاصِ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تَزالُ التوبةُ مَقبولةً حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مغربِها، فإذا طلَعَت طُبِع على كلِّ قلبٍ بما فيه، و

(3)

كُفى الناسُ العملَ"

(4)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ وجعفرُ بنُ عونٍ بنحوِه.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن أبي حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عن أبي زُرْعَةَ، قال: جلس ثلاثةٌ مِن المسلمين إلى مَرْوانَ بن الحكمِ بالمدينةِ، فسمِعوه وهو يُحَدِّثُ عن الآياتِ أن أولَها خروجًا الدجالُ، فانْصَرَف القومُ إلى عبدِ اللهِ بن عمرٍو، فحدَّثوه بذلك، فقال: لم يَقُلْ مَرْوانُ شيئًا، قد حفِظْتُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا لم أَنْسَه، لقد سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أولَ الآياتِ خروجًا طُلوعُ الشمسِ مِن مغربِها، أو خروجُ الدَّابَّةِ على الناسِ ضُحًى، أَيَّتُهما ما

(5)

كانت قبلَ صاحِبَتِها، فالأُخرى على أثَرِها قريبًا. ثم قال عبدِ اللهِ بن عمرٍو، وكان يَقْرَأُ الكتبَ:

(1)

في م: "أبى". وينظر تهذيب الكمال 15/ 394.

(2)

في ص ت 1، س ف:"عباس". وينظر تهذيب الكمال 3/ 163.

(3)

سقط مِن: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

أخرجه الطبراني 19/ 381 (895)، والبيهقى في شعب الإيمان (7125)، من طريق سليمان بن عبد الرحمن به نحوه، وأخرجه أحمد 3/ 206 (1671) من طريق إسماعيل بن عياش به نحوه.

(5)

سقط من: م.

ص: 17

أَظُنُّ أولَهما خروجًا طلوعَ الشمسِ مِن مغربِها، وذلك أَنَّهَا

(1)

كُلَّما غَرَبَت أَتَتْ تحتَ العرشِ فسجَدَت واستَأْذَنَت في الرجوعِ، [فيُؤذَنُ لها في الرجوعِ، حتى إذا [بدا للهِ]

(2)

أن تَطْلُعَ مِن مغربِها، فعَلَت كما كانت تَفْعَلُ، أنتْ تحتَ العرشِ فسجَدَت واستَأْذَنَت في الرجوع]

(3)

، فلم يَرُدَّ عليها شيئًا. فتَفْعَلُ ذلك ثلاث مراتٍ، لا يَرُدُّ عليها بشيءٍ، حتى إذا ذهَب مِن الليلِ ما شاء اللهُ أن يَذْهَبَ، وعرَفَت أن لو أذِن لها لم تُدْرِكِ المَشْرقَ، قالت: ما أبعدَ المشرقَ، ربِّ مَن لى بالناس، حتى إذا صار الأُفُق كأنه طَوْقٌ، اسْتَأْذَنَت في الرجوعِ، فقيل لها: اطْلُعى مِن مكانِك. فتَطْلُعُ مِن مغربِها. ثم قرَأ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} إلى آخرِ الآيةِ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو رَبيعةَ فَهْدٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن يحيى بن سعيدٍ

(5)

أبي حَيَّانَ، عن الشعبيِّ، أن ثلاثةَ نفرٍ دخَلوا على مَرْوانَ بن الحكمِ. فذكَر نحوَه عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو

(6)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، قال: سمِعْتُ عاصمَ بنَ أبى النُّجودِ يُحَدِّثُ عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ، عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ،

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"دأبها". والمثبت من: م موافق لما في مصنف ابن أبي شيبة ومسند أحمد، ومنتخب عبد بن حميد ومستدرك الحاكم.

(2)

عند ابن أبي شيبة: "شاء الله"، وعند عبد بن حميد:"أراد الله".

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

أخرجه أحمد 11/ 469، 470 (6881)، وأبو داود (4310)، ومن طريق ابن علية به، بنحوه مختصرا عند أبي داود، وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 67، وأحمد 11/ 86 (6531)، وعبد بن حميد (326)، ومسلم (2941)، وابن ماجه (4069)، والحاكم، 4/ 547، 548، من طريق أبي حيان به، بنحوه مختصرا عند أحمد ومسلم وابن ماجه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي.

(5)

بعده في ت 1، س ف:"عن". وينظر تهذيب الكمال 31/ 323.

(6)

أخرجه البزار (3401 - كشف) من طريق حماد به نحوه مختصرا.

ص: 18

قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبةِ مسيرةَ سبعين عامًا، لا يُغْلَقُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن نَحْوِه"

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ، عن حجاجٍ، عن عاصمٍ، عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ، عن صَفْوانَ بن عَمَّالٍ، قال: إذا طلَعَت الشمسُ مِن مغربِها، فيومَئذٍ لا يَنفَعُ نفسًا إيمانُها لم تَكُنْ آمَنَت مِن قبلُ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو ربيعةَ فَهْدٌ، قال: ثنا عاصمُ بن بَهْدَلَةَ، عَن زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قال: غَدَوتُ إلى صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ، فقال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إن بابَ التوبة مفتوحٌ مِن قِبَلِ المغربِ، عرْضُه مسيرةُ سبعين عامًا، فلا يَزالُ مفتوحًا حتى تَطْلُعَ مِن قِبَلِه الشمسُ". ثم قرَأ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . إلى: {خَيْرًا} .

حدَّثني الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا شعيبُ بنُ الليثِ، قال: ثنا الليثُ، عن جعفرِ بن ربيعةَ، عن عبدِ الرحمنِ بن هُرْمُزَ أنه قال: قال أبو هريرةَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن المغربِ". قال: "فإذا طلَعَت الشمسُ مِن المغربِ آمَن الناسُ كلُّهم، وذلك حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن أيوب، عن ابن سيرينَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن تاب قبلَ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 222، وفى مصنفه 1/ 204، 205 (793)، ومن طريقه ابن خزيمة (193)، والطبراني (7352)، وأخرجه الدارقطنى 1/ 196، 197 من طريق الحسن بن يحيى به.

(2)

أخرجه البخارى (6506)، ومسلم (157) من طريق عبد الرحمن بن هرمز به نحوه.

ص: 19

أن تَطْلُعَ الشمسُ مِن مغربِها قُبِل منه"

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا فهدٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن يونُسَ

(2)

بن عُبيدٍ، عن إبراهيمَ بنَ يزيدِ التَّيْميِّ، عن أبي ذرٍّ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمسَ إذا غرَبَت أتَتْ تحتَ العرشِ فسجَدَت، فيقالُ

(3)

لها: اطْلَعى مِن حيث عَرَبْتِ". ثم قرَأ هذه الآيةَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} إلى آخرِ الآية.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن سفيانَ بن حسينٍ، عن الحكمِ، عن إبراهيمَ التيميِّ، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، قال: كنتُ رِدْفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ على حمارٍ فنظَر إلى الشمسِ حينَ غرَبَت، فقال: "إنها تَغْرُبُ في عينٍ حاميةٍ

(4)

، تَنْطَلِقُ حتى تَخِرَّ لربها ساجدةً تحتَ العرشِ، حتى يَأْذَنَ لها، فإذا أراد أن يُطْلِعَها مِن مَغْرِبها حبَسَها، فتقولُ: يا ربِّ، إن مسيرى بعيدٌ. فيقولُ لها: اطْلَعى مِن حيث غرَبْتِ. فذلك حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} "

(5)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عَبْدةُ، عن موسى بن المسيبِ، عن إبراهيمَ التيميِّ عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، قال: نظَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الشمسِ فقال: "يُوشِكُ أن

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 221 وعند أحمد 13/ 138 (7711)، وأخرجه النسائي في الكبرى (11179) من طريق ابن سيرين به نحوه. وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 367 عن المصنف.

(2)

في ص، ت 1، س ف:"يوسف".

(3)

في ف: "فقال".

(4)

في م س: "حمئة".

وينظر ما سيأتي في تفسير الآية (86) من سورة (الكهف).

(5)

أخرجه البزار (4010)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1427، 1428 (8143) من طريق يزيد بن هارون به نحوه.

ص: 20

تَجئَ حتى تَقِفَ بين يديِ اللهِ، فيقول: ارْجِعى مِن حيث جئتِ. فعندَ ذلك {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "

(1)

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} : فهو أنه

(2)

لا يَنْفَعُ مشركًا إيمانُه عندَ الآياتِ، ويَنْفَعُ أهلَ الإيمانِ عند الآياتِ، إن كانوا اكْتَسَبوا خيرًا قبل ذلك. قال ابن عباسٍ: خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً مِن العشيَّاتِ، فقال لهم: "يا عبادَ اللهِ، تُوبوا إلى اللهِ، فإنكم تُوشِكون أن تَرَوُا

(3)

الشمسَ مِن قبل المغربِ، فإذا فَعَلَت ذلك حُبِسَت التوبةُ، وطُوِى العملُ، وخُتِم الإيمانُ

(4)

". فقال الناسُ: هل لذلك مِن آية يا رسولَ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن آيةَ تِلكُمُ الليلة أن تَطولَ كقَدْرِ ثلاثِ ليالٍ، فَيَسْتَيْقِظُ الذين يَخْشَوْن ربَّهم، فيُصَلُّون له، ثم يَقْضُون صلاتَهم، والليلُ مكانَه

(5)

[لم يَنْقَضِ]

(6)

، ثم يَأْتُون مَضاجعَهم فينامون، حتى إذا اسْتَيْقَظوا والليلُ مكانَه، فإذا رأَوْا ذلك خافوا أن يَكونَ

(7)

بينَ يدَىْ أمرٍ عظيمٍ، فإذا أصْبَحوا، وطال عليهم

(8)

طُلوعُ الشمسِ، فبيْنا

(9)

هم يَنْتَظِرونها إذ طلَعَت عليهم مِن قِبَلِ المغربِ، فإذا فعَلَت ذلك لم

(1)

تقدم تخريجه في ص 14، 15 من طريق آخر عن إبراهيم التيمي به مطولًا.

(2)

في مصدرى التخريج: "آية ".

(3)

في ص: "برول" بغير نقط، وفى ت 1، س، ف:"تزول".

(4)

في ص، ت 1، س، ف:"العمل".

(5)

في مصدري التخريج: "كأنه".

(6)

سقط من: ت 1، س، ف. وفى ص، وابن أبي حاتم:"لم ينقص".

(7)

بعده في م، ومصدرى التخريج:"ذلك".

(8)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"راث عليهم".

(9)

في ص، والدر المنثور:"فبينما".

ص: 21

يَنْفَعْ نفسًا إيمانُها لم تَكُنْ آمَنَت مِن قَبْلُ"

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن صالحٍ مولى التَّوْءَمَةِ، عن أبي هريرةَ، أنه سمِعه يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَقومُ الساعةُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مغربِها، فإذا طلَعَت ورآها الناسُ، آمَنوا كلُّهم أجْمَعون، فيومئذٍ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} " الآية.

وبه قال: حدَّثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُريج: أَخْبَرَنِى ابن أَبِي عَتِيقٍ، أنه سمِع عُبيد بن عُميرٍ يَتْلُو:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: يقولُ: يُتَحَدَّثُ

(2)

واللهُ أعلمُ، أنها الشمسُ تَطْلُعُ مِن مغربِها.

قال ابن جُريج: وأَخْبَرَنى عمرُو بنُ دينار، أنه سمع عُبيد بن عُميرٍ يقولُ ذلك.

قال ابن جُريجٍ: وأخْبرَنى عبدُ اللهِ بنُ أبي مُلَيْكةَ، أنه سمِع عبدِ اللهِ بن عمرٍو يقولُ: إن الآيةَ التي لا يَنْفَعُ نفسًا إيمانُها، إذا طلَعَت الشمسُ مِن مغربِها

(3)

.

قال ابن جُريجٍ: وقال مجاهدٌ ذلك أيضًا.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن شعبةَ، عن قتادةَ، عن زُرارةَ بن

(4)

أَوْفَى، عن ابن مسعودٍ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1428 (8145) عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 58 إلى ابن مردويه.

(2)

في م: "نتحدث".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1428 (8144) من طريق ابن أبي مليكة به نحوه.

(4)

بعده في ت 1، ص ف ومصنف ابن أبي شيبة:(أبى). وينظر تهذيب الكمال 9/ 339.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 15/ 179 عن وكيع به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (939 - تفسير)، =

ص: 22

حدَّثنا محمدُ بنُ بشار ومحمدُ بنُ المثنى، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سَمِعْتُ قتادةَ يُحَدِّثُ عن زِرارةَ بن

(1)

أَوْفَى، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ في هذه الآية:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ وعبدُ الوهَّابِ، عن

(2)

عوفٍ، عن ابن سيرينَ، قال: ثني أبو عُبيدة بنُ عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، قال: كان عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ يقولُ: ما ذُكر مِن الآياتِ فقد مضَيْن غير أربع؛ طلوعِ الشمسِ مِن مغربِها، ودابَّة الأرضِ، والدجَّالِ، وخروجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، والآيةُ التي تُخْتَمُ بها الأعمالُ طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها ألم تَرَ أن الله قال:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} . قال

(3)

: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها

(4)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أَبي عَدِيٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ، عن أبى الضُّحَى، عن مَسْروقٍ، قال: قال عبد الله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها مع القمرِ، كأنهما بَعيران

= والطبرانى في الكبير (9020) من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 57 إلى عبد بن حميد.

(1)

بعده في ت 1، س، ف:"أبي".

(2)

في النسخ: "بن". وتقدم في 1/ 175، 2/ 362.

(3)

بعده في م، والدر المنثور:"فهي".

(4)

أخرجه الحاكم 4/ 545 من طريق سفيان الثورى عن عوف عن أنس بن سيرين به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 371 عن عوف عن محمد بن سيرين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 59 إلى عبد بن حميد وابن مردويه. وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 179، 180، من طريق ابن عون، عن ابن سيرين - لم يعين أنسا أو محمدا - يرسله عن ابن مسعود.

ص: 23

مَقْرونان.

قال شعبةُ: وحدَّثنا قتادة، عن زُرارةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها مع القمرِ كالبعيرَيْن المُقْتَرِنَين

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن منصورٍ والأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللَّهِ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها مع القمرِ، كالبعيرَيْن القرينَيْن

(2)

.

قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ وأبيه، عن أشعثَ بن أبى الشَّعثاءِ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ، قال: التوبةُ مبسوطةٌ ما لم تَطْلُعِ الشمسُ مِن مغربِها.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكر لنا أن ابنَ أمِّ عبْدٍ كان يقولُ: لا يَزالُ بابُ التوبةِ مفتوحًا حتى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مغربِها، فإذا رأَى الناسُ ذلك آمَنوا، وذلك حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} .

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَقومُ الساعةُ حتى تَطْلُعَ

(1)

أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1848) من طريق الأعمش به.

(2)

تفسير سفيان ص 110 - ومن طريقه نعيم بن حماد في الفتن (1848)، والطبراني (9019)، وابن أبي حاتم 5/ 1427 (8142 - عن منصور وحده به، وسقط ذكر مسروق من تفسير سفيان، وينظر ص 13.

ص: 24

الشمسُ مِن مغربِها، فإذا طلَعَت آمن الناسُ كلُّهم، فيومَئذٍ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} .

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عبيدِ بن عميرٍ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها

(1)

.

قال: حدَّثنا أبي، عن الحسنِ بن عقبةَ أبي

(2)

كِيرانَ، عن الضحاكِ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبَرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، قال: أخْبَرني أشعثُ بنُ أبى الشَّعْثاء، عن أبيه، عن ابن مسعودٍ في قولِه:{لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} . قال: لا تَزالُ التوبةُ مَبْسوطةً ما لم تَطْلُع الشمسُ مِن مغربِها

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها

(4)

.

حدَّثني يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخْبَرنى أبو صخرٍ، عن القُرَظيِّ أنه كان يقولُ في هذه الآية:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: إذا جاءت الآيات لم يَنْفَعْ نفسًا

(1)

أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1847) عن ابن عيينة به.

(2)

في ف: "ابن". وينظر الجرح والتعديل 3/ 28.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 221، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (937 - تفسير) من طريق أشعث بن مسعود، بدون ذكر أبى الشعثاء.

(4)

تفسير مجاهد ص 331.

ص: 25

إيمانُها. يقولُ: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا سفيانُ الثوريُّ، عن عاصمِ بن أبي النَّجودِ

(1)

، عن زِرّ بن حُبَيْشٍ، عن صَفْوانَ بن عَسَّالٍ:{يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن وهبِ بن جابرٍ، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . قال: طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها

(2)

.

وقال آخرون: بل ذلك بعضُ الآياتِ الثلاثة؛ الدابة، ويأجوجَ ومأجوجَ، وطلوعُ الشمسِ مِن مغربِها.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، عن المسعوديِّ، عن القاسمِ، قال: قال عبدُ اللهِ: التوبةُ مَعْروضةٌ على ابن آدم إن قبِلَها، ما لم تَخْرُجْ إحدى ثلاثٍ؛ ما لم تَطْلُعِ الشمسُ مِن مغربِها، أو الدابَّةُ، أو فتحُ يأجوجَ ومأجوجَ

(3)

.

حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا المسعوديُّ، عن القاسمِ بن عبدِ الرحمنِ، قال: قال عبدُ اللَّهِ: التوبةُ معروضةٌ على ابن آدم إن قبِلَها، ما لم تَخْرُجْ إحدى ثلاثٍ؛ الدابةِ، وطلوعِ الشمسِ مِن مغربِها، وخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إسحاق".

(2)

تفسير عبد الرزاق 3/ 142 عن معمر، عن أبي إسحاق به نحوه مطولا.

(3)

ينظر البحر المحيط 4/ 259.

ص: 26

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن عامرٍ، عن عائشةَ، قالت: إذا خَرَجَتْ

(1)

أولُ الآياتِ طُرِحَت الأقلامُ، وحُبسَت الحَفَظةُ، وشَهِدَت الأجسادُ على الأعمالِ

(2)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن فُضيلٍ، عن أبيه، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ إذا خَرَجْنَ

(3)

لا يَنْفَعُ نفسًا إيمانُها لم تكُن آمَنَت مِن قبلُ، أو كسَبَت في إيمانِها خيرًا؛ طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها، والدجالُ، ودابَّةُ الأرضِ"

(4)

.

حدَّثنا بشرٌ بنُ معاذٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ عبدِ الكَريمِ، قال: ثنا الحسنُ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمالِ ستًّا؛ طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها، والدجالَ، والدُّخَانَ، ودابةَ الأرضِ، [وخُوَيصَّةً أحدكم، وأمْرَ العامة"]

(5)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكر لنا

(6)

أن نبيَّ

(1)

في م، وتفسير عبد الرزاق:"خرج".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 15/ 179 عن وكيع به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 222 عن سفيان الثورى به.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"خرجت". والمثبت موافق لما في مصدر التخريج.

(4)

أخرجه مسلم (158) عن أبي كريب به.

(5)

خويصة أحدكم: حادثة الموت التي تخص كل إنسان، وهى تصغير خاصة، وصغرت لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث والعرض والحساب وغير ذلك، والعامة: القيامة؛ لأنها تعم الناس بالموت. النهاية 2/ 37، 3/ 302.

والحديث أخرجه أحمد 14/ 56، 15/ 159 (8303، 9278)، ومسلم (2947)، وابن حبان (6790)، وابن منده في الإيمان (1007، 1008)، وأبو عمرو الدانى في الفتن (526)، والمزي في تهذيب الكمال 9/ 464 من طريق قتادة، عن الحسن، عن زياد بن رياح، عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه الطيالسي (2672) من طريق قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة مرفوعا. وينظر تتمة تخريجه في الطياسي.

(6)

سقط من: م.

ص: 27

اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ. فذكَر نحوَه

(1)

.

وأولى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك ما تَظاهَرت به الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذلك حينَ تَطْلُعُ الشمسُ مِن مغربِها".

وأما قولُه: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} . فإنه يعنى: أو عمِلَت في تصديقِها باللهِ خيرًا مِن عملٍ صالحٍ، يُصَدِّقُ قِيلَه ويُحَقِّقُه، مِن قبلِ طلوعِ الشمسِ مِن مغربِها، لا يَنْفَعُ كافرًا لم يَكُنْ آمَن باللهِ قبل طلوعِها، كذلك إيمانُه باللَّهِ إِن آمَن، وصدَّق باللهِ ورسلِه؛ لأنها حالةٌ لا تَمْتَنِعُ نفسٌ مِن الإقرارِ باللهِ؛ لعظيمِ الهَوْلِ الواردِ عليهم مِن أمر اللهِ، فحُكْمُ إيمانِهم [كحكمِ إيمانهم]

(2)

عندَ قيامِ الساعةِ، وتلك حالٌ لا يَمْتَنِعُ الخَلْقُ مِن الإقرارِ بوَحْدانيةِ اللهِ؛ لمعاينتِهم مِن أهوالِ ذلك اليوم ما تَرْتَفِعُ معه حاجتُهم إلى الفكرِ والاستدلالِ والبحثِ والاعتبارِ. ولا يَنْفَعُ مَن كان باللهِ وبرسلِه مُصَدِّقًا، ولفرائضِ اللَّهِ مُضَيِّعًا، غيرَ مُكْتَسِب بجَوارحِه للهِ طاعةً، إذا هي طَلَعَت مِن مغربِها - أعمالُه إن عمل، وكَسْبُه إِن اكْتَسَب؛ لِتَفْريطِه الذي سلَف قبلَ طلوعِها في ذلك.

كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} . يقولُ: كسَبَت في تصديقها خيرًا؛ عملًا صالحًا، فهؤلاء أهلُ القبلةِ، وإن كانت مُصَدِّقةً ولم تَعْمَلْ قبل ذلك خيرًا، فعمِلَت بعدَ أن رأَت الآية لم يُقْبَلْ منها، وإن عمِلَت قبلَ الآية خيرًا، ثم عمِلَت بعدَ الآية خيرًا، قُبِل

(1)

تفسير عبد الرزاق 2/ 143 عن معمر، عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 58 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

سقط من: ص ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 28

منها

(1)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . قال: مَن أَدْرَكه بعضُ الآياتِ وهو على عملٍ صالحٍ مع إيمانه، قبِل اللهُ منه العملَ بعدَ نزولِ الآية، كما قِبل منه قبلَ ذلك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} .

يقولُ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاء العادِلِين بربِّهم الأوثانَ والأصْنامَ، انْتظِروا أن تَأْتِيَكم الملائكةُ بالموتِ، فتَقْبِضَ أرَواحَكم، أو أن يَأْتِيَ ربُّكم لفَصْلِ القَضاءِ بيننا وبينكم في موقف القيامة، أو أن يَأْتِيَكم طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها، فتُطْوَى صُحُفُ

(2)

الأعمال، ولا يَنْفَعُكم إيمانكم حينَئذٍ إن آمنتُم، حتى تَعْلَموا حينَئذٍ المُحِقَّ منا مِن المُبْطِلِ، والمُسِيءَ مِن المُحْسِن، والصادقَ مِن الكاذبِ، وتَتَبَيَّنوا عند ذلك بمَن يَحِيقُ عذابُ اللهِ وأليمُ نَكالِه، ومَن الناجي منا ومنكم، ومَن الهالكُ، إنا مُنتَظِروا ذلك؛ ليُجْزِلَ اللهُ لنا ثوابَه على طاعتِنا إياه، وإخْلاصِنا العبادةَ له، وإفْرادِناه بالربوبيةِ دونَ ما سواه، ويَفْصِل بينَنا وبينَكم بالحقِّ، وهو خيرُ الفاصلين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}

اخْتَلَفَتِ القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {فَرَّقُوا} ؛ فرُوِى عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضِى

(1)

ينظر التبيان 4/ 327.

(2)

في م: "صحائف".

ص: 29

اللهُ عنه ما [حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرٍو [ذى مُرٍّ]

(1)

، أَنَّ عليًّا رضي الله عنه قرَأ:(إن الذين فارَقوا دينهم)]

(2)

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، قال: قال حمزةُ الزَّيَّاتُ: قرَأها عليٌّ رضي الله عنه: (فارقوا دينَهم)

(4)

.

وكأن عليًّا ذهَب بقولِه: (فارَقوا دينَهم)؛ خرجوا فارْتَدُّوا عنه، مِن المُفارَقةِ.

وقرَأ ذلك عبدُ اللهِ بن مسعودٍ كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ رافعٍ، عن زُهَيْرٍ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، أن عبدُ اللهِ كان يَقْرَؤُها:{فَرَّقُوا دِينَهُمْ}

(5)

.

وعلى هذه القراءة - أعْنِى قراءةَ عبدِ اللَّهِ - قرأةُ المدينةِ والبصرةِ وعامةُ قرأةِ الكوفيين

(6)

. وكأن عبدُ اللهِ تأوَّل بقراءتِه ذلك كذلك أن دينَ اللهِ واحدٌ، وهو دينُ إبراهيمَ الحَنيفيةُ المسلمةُ، ففرَّق ذلك اليهودُ والنصارى، فتهوَّد قومٌ، وتنَصَّر آخَرون، فجعَلوه شِيَعًا مُتَفرقةً.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إنهما قراءتان معروفتان، قد قرَأَت بكلِّ

(1)

في م: "بن دينار". وينظر تهذيب الكمال 22/ 302.

(2)

سقط من: ت 1.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1429 (8152) من طريق أبي إسحاق به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(4)

بعده في ص: قال: ثنا حسن بن علي، عن سفيان، عن قتادة:(فارقوا دينهم)"، وفى م: وقال: ثنا الحسن بن علي، عن سفيان، عن قتادة: (فارقوا دينهم) ". وسيأتي هذا الأثر على الصواب في موضعه ص 32.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى عبد بن حميد.

(6)

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم {فَرَّقُوا} مشددة، مشددة، وقرأ حمزة والكسائي (فارقوا). حجة القراءات ص 278.

ص: 30

واحدةٍ منهما أئمةٌ مِن القرأة، وهما مُتَّفقتا المعنى غيرُ مُخْتَلِفَتَيْه؛ وذلك أن كلَّ صَالٌ فلِدينِه مفارقٌ، وقد فرَّق الأحزابُ دينَ اللَّهِ الذي ارْتَضاه لعبادِه، فتَهَوَّد بعضٌ، وتنَصَّر آخرون، وتَمَجَّس بعضٌ. وذلك هو التفريقُ بعينه، ومصيرُ أهلِه شِيَعًا متفرِّقين غيرَ مجتمعين، فهم لدينِ اللهِ الحقِّ مفارِقون، وله مُفَرِّقون. فبأيِّ ذلك قرَأ القارئُ فهو للحقِّ مصيبٌ، غير أنى أَخْتارُ القراءة بالذي عليه عُظْمُ القرأةُ، وذلك تشديدُ الراءِ مِن {فَرَّقُوا} .

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في المَعْنِيِّين بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا

(1)

دِينَهُمْ}؛ فقال بعضُهم: عَنى بذلك اليهودَ والنصارى.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني

(2)

محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَكَانُوا شِيَعًا} . قال: يهودُ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَرَّقُوا دِينَهُمْ} . قال: هم اليهودُ والنصارى

(4)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوَله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا

(1)

في النسخ: "فارقوا". وما أثبتناه كرسم مصحفنا.

(2)

في م: "حدثنا".

(3)

تفسير مجاهد ص 331.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 222 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1430 (8154) - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 31

دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}: مِن اليهودُ والنصارى.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} : هؤلاء اليهودُ والنصارى. وأما قولُه: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} . فيقولُ: تركوا دينَهم وكانوا شيعًا

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} : وذلك أن اليهودَ والنصارى اخْتَلَفوا قبل أن يُبْعَثَ محمدٌ فتفَرَّقوا، فلمَّا بُعِث محمدٌ أَنْزَل اللهُ:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}

(2)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أَبا مُعاذٍ يقولُ: أَخْبرَنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} . يعنى: اليهودَ والنصارى

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حسينُ بنُ عليٍّ، عن شَيْبانَ عن قتادةَ:(فارقوا دينَهم). قال: هم اليهودُ والنصارى

(4)

.

وقال آخَرُونَ: عنى بذلك أهلَ البدعِ مِن هذه الأمة الذين اتَّبَعوا مُتَشَابِهَ القرآنِ دونَ مُحْكَمِه.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1430، 1431 (8156، 8163) من طريق أحمد بن المفضل به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1430 (8153) عن محمد بن سعد به.

(3)

ينظر البحر المحيط 4/ 260، وتفسير ابن كثير 3/ 372.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1430 (8155) من طريق حسين به، بلفظ: اليهود. وفيه: فرقوا.

ص: 32

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشار، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، عن أبي هريرةَ قال:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} . قال: [نزَلت هذه الآيةُ في هذه الأمةِ]

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، عن عن أبي هريرة:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} . قال: هم أهلُ الصلاةِ

(2)

.

حدَّثني سعيدُ بنُ عمرٍو السَّكُونيُّ، قال: ثنا بقيةُ بن الوليدِ، قال: كتَب إليَّ عَبَّادُ بن كثيرٍ، قال: ثنى ليثٌ، عن طاوسٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} : "وليسوا منك، هم أهلُ البدَعِ وأهلُ الشُّبُهات، وأهلُ الضَّلالة، مِن هذه الأمةِ"

(3)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يقال: إن الله أَخْبَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه بَرئٌ ممَّن فارَق دينَه الحقَّ وفرَّقه، وكانوا فِرَقًا فيه وأحزابًا شِيَعًا، وأنه ليس منهم ولا هم منه؛ لأن دينَه الذي بعَثه اللهُ به هو الإسلامُ دينُ إبراهيمَ الحَنيفيةُ، كما قال له ربُّه وأمَرَه أن يقولَ:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161].

(1)

في ص، ت 2، س، ف:"نزلت في هذه الأمة، أو في هذه الأمة، وفى ت 1: "نزلت هذه في الأمة". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1429 (8151) من طريق عبد الرحمن به، وأخرجه أشيب في جزئه 1/ 68 من طريق طاوس به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 372 عن سفيان به، وذكره البخاري في خلق أفعال العباد ص 67 عن طاوس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبى الشيخ وابن مردويه.

(2)

في م، س:"الضلالة".

(3)

أخرجه الطبراني في الأوسط (664) من طريق طاوس به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 372 عن المصنف، وقال: هذا الإسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى الحكيم الترمذى والشيرازى في الألقاب وابن المنذر. وينظر علل الدارقطني 8/ 321.

ص: 33

فكان مِن فارَق دينه الذي بُعِث به صلى الله عليه وسلم؛ مِن مشركٍ، ووَثَنَيٍّ

(1)

، ويهوديٍّ، ونصرانيٍّ، ومُتَحَنِّفٍ مُبْتَدِعٍ قد ابْتَدَع في الدينِ ما ضلَّ به عن الصراطِ المستقيمِ والدينِ القيِّمِ ملةِ إبراهيمَ المسلمِ - فهو برئٌ مِن

(2)

محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومحمدٌ منه برئ، وهو داخلٌ في عمومِ قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} .

وأما قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} . فإن أهلُ التأويلِ اخْتَلَفوا في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: نزَلَت هذه الآيةُ على نبيِّ اللهِ بالأمرِ بتركِ قتالِ المشركين قبلَ وُجوب فرضِ قتالِهم، ثم نسَخَها الأمرُ بقتالِهم في سورةِ "براءةَ"، وذلك قولُه:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ قولَه:{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} : لم يُؤْمَرُ بقتالهم، ثم نُسِخت، فأُمِر بقتالهم في سورة "براءةَ"

(3)

.

وقال آخرون: بل نزَلَت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم إعلامًا مِن اللَّهِ لَه أَن مِن أُمتِه مَن يُحْدِثُ بعدَه في دينِه، وليست بمنسوخةٍ؛ لأنها خبرٌ لا أمرٌ، والنسخُ إنما يكونُ في الأمرِ والنهيِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أَخْبَرنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ، عن عليِّ

(1)

سقط مِن: ص، ت 1، س.

(2)

بعده في ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أمة".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1431 (8162) من طريق أحمد بن المفضل به.

ص: 34

ابن الأقمَرِ، عن أبي الأحْوَصِ أنه تلا هذه الآيةِ:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . ثم يقولُ: بُرِّئ نبيُّكم صلى الله عليه وسلم منهم

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامةَ ويحيى بنُ آدمَ، عن مالكِ بن مِغْوَلٍ بنحوِه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا شُجاعٌ أبو بدرٍ، عن عمرِو بن قيسٍ المُلَائيِّ

(2)

، قال: قالت أُمُّ سلمةَ: ليَتَّقِ امرؤٌ ألا يكونَ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شيءٍ. ثم قرَأَت: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . قال عمرُو بنُ قيسٍ: قالها مُرَّةُ الطَّيِّبُ، وتلا هذه الآية

(3)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقال: إن قولَه: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} .

إعلام مِن الله نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه مِن مبتدعة أمتِه المُلْحِدة في دينِه بَرِيءٌ، ومِن الأحزاب مِن مشركي قومِه ومن اليهودِ والنصارى، وليس في إعلامِه ذلك ما يُوجِبُ أن يكونَ نهاه عن قتالِهم؛ لأنه غيرُ مُحالٍ أن يقالَ في الكلامِ: لستَ مِن دينِ اليهودِ والنصارى في شيءٍ، فقاتِلْهم؛ فإِنَّ أَمْرَهم إلى اللهِ في أَن يَتَفَضَّلَ على مَن شَاء منهم فيَتُوبَ عليه، ويُهْلِكَ مَن أراد إهلاكَه منهم كافرًا، فيَقْبِضَ رُوحَه، أو يَقْتُلَه بيدِك على كفرِه، ثم يُنَبِّئهم بما كانوا يَفْعَلون عندَ مَقْدَمِهم عليه. وإذ كان غيرَ مستحيلٍ اجتماعُ الأمرِ بقتالِهم وقولِه:{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} ، ولم يَكُنْ في الآية دليلٌ واضحٌ على أنها منسوخةٌ، ولا ورد بأنها منسوخةٌ عن الرسولِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1431 (8161) من طريق ابن إدريس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى عبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في م: "الملأ". وينظر تهذيب الكمال 22/ 200.

(3)

أخرجه أحمد بن منيع - كما في المطالب العالية (3975) - عن شجاع أبي بدر عن عمرو بن قيس عن رجل، عن أم سلمة، دون قول مرة الطيب، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى أبى الشيخ. وقول مرة أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1431 (8160)، وأبو نعيم في الحلية 4/ 163 من طريق شجاع أبي بدر به.

ص: 35

خبرٌ - كان غيرَ جائزٍ أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخةٌ، حتى تقومَ حُجَّةٌ مُوجِبةً صحةَ القولِ بذلك؛ لما قد بَيَّنَّا مِن أن المنسوخَ هو ما لم يَجُزِ اجتماعُه وناسخُه في حالٍ واحدةٍ، في كتابِنا "كتاب اللطيفِ عن أصولِ الأحكامِ".

وأما قولُه: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} . فإنه يقولُ: أنا الذي إليَّ أمرُ هؤلاء المشركين الذين فارَقوا ديَنهم وكانوا شِيَعًا، والمبتدعةِ مِن أمِتك الذين ضلُّوا عن سبيِلك دونَك، ودونَ كلّ أحدٍ؛ إما بالعقوبةِ إن أقاموا على ضّلالِتهم وفِراقِهم

(1)

دينَهم، فأُهْلِكُهم بها، وإما بالعفوِ عنهم بالتوبةِ عليهم والتَّفضُّلِ منى عليهم، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. يقولُ: ثم أُخْبِرُهم في الآخرةِ عندَ ورودِهم عليَّ يوم

(2)

القيامةِ بما كانوا يَفْعَلون، فأُجازِى كلًّا منهم بما كانوا في الدنيا يّفْعَلون، المحسن منهم بالإحسانِ، والمسيءَ بالإساءةِ. ثم أَخْبَر جلَّ ثناؤُه ما مَبْلَغُ جزائِه مَن جازَى منهم بالإحسانِ أو بالإساءةِ، فقال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: مَن وافَى ربّه يومَ القيامةِ في موقفِ الحسابِ، مِن هؤلاء الذين فارَقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا، بالتوبةِ والإيمانِ، والإقلاعِ عما هو عليه مقيمٌ من ضلالتِه، وذلك هو الحسنةُ التي ذكَرها الله فقال: مَن جاء بها فله عَشْرُ أمثالها.

ويعنى بقوله: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} : فله عشْرُ حسَناتٍ أمثالِ حسنتِه التي جاء بها، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}. يقولُ: ومَن وافَى يومَ القيامةِ منهم بفراقِ الدِّين

(1)

في م: "فرقتهم"، وفى، ت 1، ت 2، س، ف:"فرقوا".

(2)

سقط من: ص، ت 1، س، ف.

ص: 36

الحقِّ والكفرِ باللَّهِ، فلا يُجْزَى إلا ما ساءَه مِن الجزاءِ، كما وافَى الله به مِن عمله السيئَ. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. يقولُ: ولا يَظْلِمُ الله الفريقين؛ لا فريق الإحسانِ، ولا فريقَ الإساءةِ، بأن يُجازِيَ المحسنَ بالإساءةِ، والمسيءَ بالإحسانِ، ولكنه يُجازِى كلا الفريقين مِن الجزاءِ ما هو له؛ لأنه جلَّ ثناؤُه حكيمٌ، لا يَضَعُ شيئًا إلا في موضعِه الذي يَسْتَحِقُّ أَن يَضَعَه فيه، ولا يُجازِى أحدًا إلا بما يَسْتَحِقُّ من الجزاءِ.

وقد دلَّلْنا فيما مضَى على أن معنى "الظلمِ" وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، بشَواهدِه المُغْنيةِ عن إعادتِها في هذا الموضعِ

(1)

.

فإن قال قائلٌ: فإن كان الأمرُ كما ذكَرْتَ مِن أن معنى الحسنةِ في هذا الموضع الإيمانُ باللَّهِ، والإقرارُ بوَحْدانيتِه، والتصديقُ برسولِه، والسيئةِ فيه الشركُ به، والتكذيبُ لرسولِه، أَفَلِلإيمان

(2)

أمثالٌ فيُجازَى بها المؤمنُ؟ وإن كان له مِثْلٌ فكيف يُجازَى به، والإيمانُ إنما هو عنَدك قولٌ وعملٌ، والجزاءُ مِن اللهِ لعبادِه عليه الكرامة في الآخرةِ، والإنعامُ عليهم

(3)

بما أعَدَّ لأهلِ كرامتِه مِن النعيمِ في دارِ الخلودِ، وذلك أعيانٌ تُرَى وتُعايَنُ وتُحسُّ ويُلْتَذُّ بها، لا قولٌ يُسْمَعُ، ولا كسبُ جوارحَ؟

قيل: إن معنى ذلك غيرُ الذي ذهَبْتَ إليه، وإنما معناه: مَن جاء بالحسنةِ فوافَى الله بها له مطيعًا، فإن له مِن الثوابِ ثوابَ عشرِ حسناتٍ أمثالِها.

فإن قلتَ: فهل لقولِ: لا إلهَ إلا اللهُ. مِن الحسناتِ مِثْلُ؟

(1)

تقدم في 1/ 559، 560.

(2)

في م: "فللإيمان".

(3)

في م: "عليه".

ص: 37

قيل: له مثلٌ هو غيرُه؟! ولكنْ

(1)

له مثلٌ هو قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ. وذلك هو الذي وعَد اللهُ جلَّ ثناؤُه مَن أتاه به أن يُجازِيَه عليه مِن الثوابِ بمثلِ عَشَرةِ أضعافِ ما يَسْتَحِقُه قائلُه، وكذلك ذلك في مَن جاء بالسيئةِ التي هي الشركُ، إلا أنه لا يُجازَى صاحبُها عليها إلا ما يَسْتَحِقُه عليها، مِن غيرِ إضعافِه عليه. وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأولِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرِ بن أبي المغيرة، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: لما نزلت {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . قال رجلٌ مِن القومِ: فإنَّ لا إلهَ إلا اللهُ حسنةٌ؟ قال: نعم، أفضلُ الحسنات

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِيَاثٍ، عن الأعمشِ والحسنِ بن عُبيد اللهِ، عن جامعِ بن شدَّادٍ، عن الأسودِ بن هلالٍ، عن عبدِ اللَّهِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} : لا إلهَ إلا اللهُ

(3)

.

حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا حفصٌ، قال: ثنا الأعمشُ والحسنُ بنُ عُبيدِ اللهِ، عن جامعِ بن شدَّادٍ، عن الأسودِ بن هلالٍ، عن عبدِ اللهِ، قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: مَن جاء بـ: لا إلهَ إلا اللهُ. قال: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: الشركِ.

(1)

في م: "ليس".

وقوله: "له مثل هو غيره ولكن له مثل هو. .". قد يبدو غير مفهوم مما حدا ناشره إلى وضع "ليس" مكان "لكن"، وصحة الأمر أن أبا جعفر مهد للإجابة على السؤال بسؤال استنكارى فقال:"مثل هو غيره؟ " ثم استدرك موضحًا جلية الأمر: "ولكن له مثل هو قول: لا إله إلا الله". ليس مثلًا غيره. والله أعلم.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 63 إلى عبد بن حميد مرفوعا.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة - كما في الدر المنثور 3/ 66 - ومن طريقه الطبراني في الدعاء (1502) عن حفص، عن الأعمش وحده به.

ص: 38

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فُضَيْل، عن الحسنِ بِن عُبيدِ اللهِ، عن جامع بن شدَّادٍ، عن الأسودِ بن هلالٍ، عن عبدِ اللهِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ عمرٍو المَعْنِيُّ، عن زائدة، عن عاصمٍ، عن شقيقٍ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ كلمةِ الإخلاصِ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}. قال: الشركِ

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، وعن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ والقاسمِ بن أبى بَزَّةَ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قالوا: لا إلهَ إلا اللهُ كلمةِ الإخلاصِ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}. قالوا: بالشركِ وبالكفرِ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نُمَيْرٍ وابنُ فُضَيْلٍ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}. قال: الشركِ.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: جابرُ بنُ نُوحٍ، قال: ثنا موسى بنُ عُبيدةَ، عن محمدِ بن كعبٍ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة - كما في الدر المنثور 3/ 63 - ومن طريقه الطبراني في الدعاء (1503) - عن ابن فضيل به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1431 (8165)، وأبو نعيم في الحلية 9/ 43، والبيهقي في الأسماء والصفات (203) من طريق الحسن بن عبيد الله، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1529) من طريق معاوية بن عمرو به.

(3)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1516) من طريق ابن يمان به من قول سعيد وحده.

(4)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1527) من طريق موسى بن عبيدة به.

ص: 39

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي المُحَجَّل

(1)

، عن إبراهيم:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}. قال: الشركِ

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْريُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي المحجلِ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن إبراهيمَ مثلَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن أبي المحجلِ، عن إبراهيمَ مثله.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن أبي المحجلِ، عن أبي مَعْشَرٍ، قال: كان إبراهيمُ يَحْلِفُ باللَّهِ، ما يَسْتَثنى، أنَّ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}: لا إلهَ إلا اللهُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}: مَن جاء بالشركِ

(3)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ في قولِه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: كلمةِ الإخلاصِ لا إلهَ إلا اللهُ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} قال: بالشركِ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، وحدَّثنا المثنى بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، جميعًا عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن أبي صالحٍ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: الشركِ

(5)

.

(1)

أبو المحجل هو رُدَينيُّ بن مرة - ويقال: ابن خالد، ويقال: ابن مخلد - البكرى: ينظر التاريخ الكبير 3/ 331، والجرح والتعديل 3/ 516.

(2)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1537) من طريق عبد الرحمن به مقتصرًا على أوله وفيه: عن أبي معشر، عن إبراهيم.

(3)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1536) من طريق جرير به مقتصرا على أوله.

(4)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1526) من طريق هشيم وزائدة، عن عبد الملك به.

(5)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1524) من طريق أبي نعيم به، وأخرجه (1525) من طريق أبي أحمد، =

ص: 40

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نُمَيْرٍ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن القاسم بن أبى بَزَّةَ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: كلمةِ الإخلاصِ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: الكفرِ

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سلمةَ، عن الضحاكِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ، عن أشعثَ، عن الحسنِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثله

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . يقولُ: مَن جاء بلا إلهَ إِلا اللَّهُ {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: الشركِ

(6)

= عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح.

(1)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1534) من طريق عثمان به

(2)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1530) من طريق وكيع به، وأخرجه (1531) من طريق جويبر، عن الضحاك.

(3)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1522) من طريق أبي خالد به، وأخرجه (1519 - 1521، 1523) من طرق عن الحسن به.

(4)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1513) من طريق الحماني به، وأخرجه (1514، 1515، 1517، 1518) من طرق عن سعيد.

(5)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1511) من طريق الحماني به.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2935، والطبراني في الدعاء (1505)، والبيهقى - مطولا - في الأسماء والصفات (206) من طريق عبد الله بن صالح به، وأخرجه الطبراني (1504، 1506) من طرق عن ان عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى ابن المنذر.

ص: 41

حدَّثنا بشرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيْئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . ذكِر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "الأعمالُ ستةٌ؛ مُوجبةٌ ومُوجبةٌ، ومُضْعِفةٌ ومُضْعِفةٌ، ومِثْلٌ ومِثْلٌ؛ فأَمَّا الموُجِبتان: فمَن لَقِى اللَّهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا دخل الجنةَ، ومَن لَقِى اللَّهَ مُشْرِكًا به دخَل النارَ، وأمَّا المُضْعِفُ والمُضْعِفُ: فنَفَقةُ المؤمنِ في سبيلِ اللَّهِ سبعمائةِ ضِعْفٍ، ونفقتُه على أهلِ بيتِه عشرُ أمثالِها، وأمَّا مِثْلٌ ومِثْلٌ: فإذا همَّ العبدُ بحسنةٍ فلم يَعْمَلُها كُتِبَت له حسنةً، وإذا همَّ بسيئةٍ ثم عمِلها كُتِبَت عليه سيئةً

(1)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن شِمْرِ بن عطيةَ، عن شيخٍ مِن التَّيْمِ، عن أبي ذرّ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، علَّمْنى عملا يُقَرِّبُني إلى الجنةِ، ويُباعِدُنى مِن النِار، قال:"إذا عمِلْتَ سيئةً فاعْمَلْ حسنةً، فإنها عَشْرُ أمثالِها". قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، لا إلهَ إلا اللهُ مِن الحسناتِ؟ قال:"هي أحسنُ الحسناتِ"

(2)

.

وقال قومٌ: عُنِى بهذه الآيةِ الأعرابُ، فأما المهاجرون، فإن حسناتهم بسبعِمِائةِ ضِعفٍ أو أكثرُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مُعاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن قتادةَ،

(1)

أخرجه أحمد 4/ 345 (الميمنية)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (1047)، وابن حبان (6171)، والحاكم 2/ 87، والبيهقى في الشعب (4269) نحوه من حديث خريم بن فاتك الأسدى، وقوله: (إذا هم العبد بحسنة

). أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1433 (8172) من طريق يزيد به. وأصله أخرجه أحمد 4/ 315 (2519)، والبخارى (6491)، ومسلم (131، 208) من حديث ابن عباس.

(2)

أخرجه الطبراني في الدعاء (1498) من طريق أبي نعيم به، وأخرجه أحمد 5/ 69 - ومن طريقه الطبراني في الدعاء (1501) - وابن أبي حاتم في تفسيره - - مختصرا - - 5/ 1431 (8164)، وابن حبان في الثقات، 8/ 411، والطبراني في الدعاء (1499، 1500)، والبيهقى في الأسماء والصفات (202)، والقزويني في التدوين 2/ 458، 459 من طريق الأعمش به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 218، والبيهقي =

ص: 42

عن أبي الصِّدِّيقِ الناجيِّ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ في قوله:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . قال: هذه للأعراب، وللمهاجرين سبعُمائةٍ

(1)

.

حدَّثنا محمدٌ أبو

(2)

نَشِيطِ بنُ هارونَ الحربيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ أبى بُكَيْرٍ

(3)

، قال: ثنا فُضَيْلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ العَوْفيِّ، عن عبدِ اللهِ بن عمرَ، قال: نزَلَت هذه الآيةُ في الأعرابِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . قال: قال رجلٌ: فما للمُهاجرين؟ قال: ما هو أعظمُ من ذلك؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وإذا قال اللهُ لشيء: عظيمٌ. فهو عظيمٌ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، قال: نزَلَت هذه الآية: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . وهم يَصومون ثلاثةَ أيامٍ مِن الشهرِ، ويُؤَدُّون عُشْرَ أموالِهم، ثم نزَلَت الفَرائضُ بعد ذلك، صومُ رمضانَ والزكاةُ

(5)

.

فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فأُضِيف "العشرُ" إلى "الأمثالِ"، وهى "الأمثالُ"؟ وهل يُضافُ الشيءُ إلى نفسهِ؟

قيل: أُضِيفَت إليها لأنه مُرادٌ بها: فله عَشْرُ حسناتٍ أمثالِها. فـ "الأمثالُ" حلَّت محَلَّ المفسِّرِ، وأُضِيف "العشرُ" إليها، كما يقال: عندى عَشْرُ نِسْوةٍ. فلأنه

= في الأسماء والصفات (201) من طريق الأعمش، عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبي ذر. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 64 إلى ابن المنذر وابن مردويه. وينظر علل الدارقطني 6/ 268.

(1)

ينظر التبيان 4/ 332، والبحر المحيط 4/ 261.

(2)

في النسخ: "ابن". وينظر تهذيب الكمال 26/ 560.

(3)

في النسخ: "بكر". وتقدم على الصواب في 7/ 36، وينظر تهذيب الكمال 31/ 245.

(4)

تقدم تخريجه في 7/ 36.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 46 إلى المصنف.

ص: 43

أُرِيد بالأمثالِ، مَقامَها، فقيل:{عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . فَأُخْرِج العَشرُ مُخْرَجَ عددِ الحسناتِ

(1)

، و "المِثْلُ" مذكَّرٌ لا مؤنتٌ، ولكنها لما وُضِعَت موضعَ الحسناتِ

(2)

- وكان "المِثْلُ، يَقَعُ للمذكِر والمؤنثِ، فجُعِلَت خَلَفًا منها - فُعِل بها ما ذكَرْتُ، ومَن قال: عندى عشرُ أمثالِها. لم يَقُلْ: عندى عشرُ صالحاتٍ. لأن "الصالحاتِ" فعلٌ لا يُعَدُّ، وإنما تُعَدّ الأسماءُ، و "المثلُ" اسمٌ، ولذلك جاز العددُ به.

وقد ذُكِر عن الحسنِ البصريَّ أنه كان يَقْرَأُ ذلك: "فله عَشْرُ" بالتنوينِ "أمثالُها" بالرفع

(3)

. وذلك على وجهٍ صحيحٍ في العربيِة، غيرَ أن القرأةَ في الأمصارِ على خلافها، فلا نَسْتَجِيزُ خلافَها فيما هي عليه مُجْمِعَةٌ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لهؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . يقولُ: قلْ لهم: إننى أَرْشَدَنِي ربي إلى الطريقِ القويمِ، هو دينُ اللهِ الذي ابتَعَثَه به، وذلك الحنيفيةُ المسلِمةُ، فوَفَّقَنى له. {دِينًا قِيَمًا}. يقولُ: مستقيمًا. {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . يقولُ: دينَ إبراهيمَ. {حَنِيفًا} . يقولُ: مستقيمًا.

{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . يقولُ: وما كان مِن المشركين باللهِ، يعنى: إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه؛ لأنه لم يكنْ ممن يَعْبُدُ الأصنامَ. واختلَفت القرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {دِينًا قِيَمًا} . فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ

وبعضُ البَصْرِيين: "دِينا قَيِّمًا" بفتحِ القافِ وتشديدِ الياءِ

(5)

، إلحاقًا منهم ذلك بقولِ

(1)

في النسخ: "الآيات". والمثبت هو الصواب فلا مناسبة لذكر الآيات هنا.

(2)

في النسخ: "الآيات".

(3)

مختصر الشواذ لابن خالويه ص 47، والبحر المحيط 4/ 261، وقرأ بها يعقوب، وهو من العشرة. النشر 2/ 200.

(4)

في م: "مجتمعة".

(5)

وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. ينظر حجة القراءات ص 279.

ص: 44

اللهِ: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36، يوسف: 40، الروم: 30]. وبقولِه: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيَّمَةِ} [البينة: 5].

وقرأ ذلك عامةُ قَرَأةِ الكُوفيين: {دِينًا قِيَمًا} بكسرِ القافِ، وفتحِ الياءِ وتخفيفِها، وقالوا: القيِّمُ والقِيَمُ بمعنىً واحدٍ، وهما لغتان معناهما: الدينُ المستقيمُ

(1)

.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصارِ، مُتَّفقتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فهو للصوابِ مصيبٌ، غيرَ أن فتحَ القافِ وتشديدَ الياءِ أعجبُ إليَّ؛ لأنه أفصحُ اللغتين وأشهرُهما.

ونُصِب قولُه: {دِينًا} على المصدرِ مِن معنى قولِه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وذلك أن المعنى: هداني ربي إلى دينٍ قويمٍ، فاهتديتُ له دينًا قِيَمًا. فـ "الدينُ" منصوبٌ مِن المحذوفِ الذي هو "اهتديتُ"، الذي ناب عنه قوله:{إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

وقال بعضُ نَحْويِّى البصرةِ: إنما نُصِب ذلك لأنه لما قال: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . قد أخبَر أنه عَرَفَ شيئًا، فقال:{دِينًا قِيَمًا} . كأنه قال: عرَفتُ دينًا قِيَمًا ملةَ إبراهيمَ.

وأما معنى "الحنيفِ"، فقد بينتُه في مكانِه في "سورةِ البقرةِ" بشواهدِه، بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاء العادلين بربِّهم

(1)

وهى قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 278.

(2)

تقدم في 2/ 591 وما بعدها.

ص: 45

الأوثانَ والأصنامَ الذين يَسْألونك أن تَتَّبِعَ أهواءَهم على الباطلِ، مِن عبادةِ الآلهةِ والأوثانِ:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} . يقولُ: وذَبْحي. {وَمَحْيَايَ} . يقولُ: وحياتى. {وَمَمَاتِي} . يقولُ: ووَفاتى {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . يعنى: أن ذلك كله له خالصًا دونَ ما أشركتم به أيُّها المشركون مِن الأوثانِ

{لَا شَرِيكَ لَهُ} في شيءٍ مِن ذلك مِن خلقِه، ولا لشيءٍ منهم فيه نصيبٌ؛ لأنه لا يَنْبَغِي أن يكونَ ذلك إلا له خالصًا، {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}. يقولُ: وبذلك أَمَرني ربى، {وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}. يقولُ: وأنا أولُ مَن أَقَرَّ وأَذْعَن وخَضَعَ مِن هذه الأمة لربِّه بأن ذلك كذلك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال: النُّسُكُ في هذا الموضعِ الذبحُ

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عنبسةَ، عن محمد بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} . قال: النُّسُكُ الذبائح في الحجِّ والعُمْرةِ.

[حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَنُسُكِي} : ذبيحتى

(1)

في الحجِّ والعمرةِ]

(2)

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{وَنُسُكِي} : ذبيحتى في الحجِّ والعمرةِ.

(1)

في ص: "ذبحي".

(2)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

تفسير مجاهد ص 332 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1434 (8181)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 66 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 46

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ - وليس بابنِ أبي خالدٍ - عن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله:{صَلَاتِي وَنُسُكي} . قال: ذَبْحى

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن إسماعيلَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{صَلَاتِي وَنُسُكِي} . قال: ذَبيحتى

(2)

.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، عن سفيانَ، عن إسماعيلَ، [عن سعيدِ]

(3)

بن جبيرٍ - قال ابن مهديٍّ: لا أدرى من إسماعيلُ هذا -: {صَلَاتِي وَنُسُكِي} . قال: صلاتي وذبيحتى]

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: ثنا الثوريُّ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله:{صَلَاتِي وَنُسُكِي} . قال: وذبيحتى.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَنُسُكِي} . قال: ذَبْحى

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَنُسُكِي} . قال: ذبيحتى

(6)

.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 377 من طريق الثورى، عن السدي، عن سعيد.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 223، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 66 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(3)

سقط من: م.

(4)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 222 عن معمر به. وفيه: وذبيحتى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 66 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1434 عقب الأثر (8181) من طريق عمرو، عن أسباط به.

ص: 47

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جويبرٍ، عن الضحاك:{صَلَاتِي وَنُسُكِي} . قال: الصلاةُ: الصلاة، والنُّسُكُ: الذبحُ.

وأما قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . فإن محمدَ بنَ عبدِ الأعلى حدَّثنا، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . قال: أوّلُ المسلمين مِن هذه الأمةِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ، الداعِيك إلى عبادةِ الأصنامِ، واتباعِ خطواتِ الشيطانِ:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} ؟ يقولُ: أسِوَى اللَّهِ أَطْلُبُ سَيِّدًا يَسُودُنى؟ {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: سيدُ كلَّ شيءٍ دونَه ومُدَبِّرُه ومُصْلِحُه. {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} . يقولُ: ولا تَجْتَرِحُ نفسٌ إثمًا إلا عليها. أي: لا يُؤْخَذُ بِما أَتَت مِن معصيةِ اللَّهِ تبارك وتعالى، ورَكِبَت مِن الخطيئةِ - سِواها، بل كلُّ ذى إثمٍ فهو المُعاقَبُ بإثِمه. والمأخوذُ بذنبِه. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. يقولُ: ولا تأثَمُ نفسٌ آثمةٌ بإثمِ نفسٍ أُخرى غيرِها، ولكنها تأثَمُ بإثمِها، وعليه تُعاقَبُ، دونَ إثم أُخرى غيرِها.

وإنما يعنى بذلك المشركين الذين أَمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَقُولَ هذا القولَ لهم، يقولُ: قلْ لهم: إنا لسنا مأْخوذِين بآثامِكم [ولا مُعاقَبين بإجرامِكم]

(2)

، وعليكم عقوبةُ إجرامِكم، ولنا جزاءُ أعمالنِا. وهذا كما أمَره اللهُ جلّ ثناؤُه في موضعٍ آخرَ أن

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 223 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1435 (8184) - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 66 إلى ابن المنذر.

(2)

سقط من: م.

ص: 48

يقولَ لهم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].

وذلك كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال: كان في ذلك الزمانِ لا مخرجَ للعلماءِ العابدين إلا إحدى [خَلَّتَين، إحداهما]

(1)

أفضلُ مِن صاحبتِها؛ إما أمرٌ ودعاءٌ إلى الحقِّ، أو الاعتزالُ؛ فلا تُشاركُ أهلَ الباطلِ في عملِهم، وتؤدِّى الفرائضَ فيما بينَك وبين ربِّكَ، وتحبُّ للَّهِ، وتُبغِضُ للَّهِ، ولا تشاركُ أحدًا في إثمٍ. قال: وقد أُنزِل في ذلك آيةٌ محكمة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} . إلى قوله: {فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . وفي ذلك قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4].

يقالُ مِن الوِزْرِ: وَزَرَ يَوْزَرُ، [ووزَر يَزِرُ]

(2)

، ووُزِرَ يُوزَرُ فهو مَوْزُورٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ لهؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ: كلُّ عاملٍ منَّا ومنكم فله ثوابُ عملِه، وعليه وزرُه، فاعمَلوا ما أنتم عامِلوه، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ} أيها الناسُ {مَرْجِعُكُمْ}. يقولُ: ثم إليه مصيرُكم ومُنقلَبُكم {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ} في الدنيا {تَخْتَلِفُونَ} من الأديانِ والمللِ، إذ كان بعضُكم يَدِينُ باليهوديِة، وبعضٌ بالنصرانيةِ، وبعضٌ بالمجوسيةِ، وبعضٌ بعبادةِ الأصنامِ وادِّعاءِ الشركاءِ مع اللهِ والأندادِ، ثم يُجازِى جميعَكم بما كان يَعْمَلُ في الدنيا مِن خيرٍ أو

(1)

في ت 2: "حالين أحدهما".

(2)

في ص، ت 1، س، ف:"ووزير"، وفى م:"فهو وزير". والمثبت هو الصواب الموافق لمعاجم اللغة. ينظر اللسان (و ز ر).

ص: 49

شرٍّ، فتَعْلَموا حينَئذٍ مَن المحسنُ منا والمسيءُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمتِه: واللهُ الذي جعَلكم أيُّها الناسُ خلائفَ الأرضِ بأنْ أهلَك مَن كان قبلَكم مِن القرونِ والأممِ الخاليةِ، واستَخلفكم، فجعَلكم خلائفَ منهم في الأرضِ، تَخْلُفونهم فيها، وتَعْمُرونها بعدهم.

والخلائفُ جمعُ خليفةٍ، كما الوصائفُ جمعُ وصيفةٍ، وهى مِن قولِ القائلِ: خَلَفَ فلانٌ فلانًا في دارِه، يَخْلُفُه خلافةً، فهو خليفةٌ فيها. كما قال الشَّمَّاخُ

(1)

:

تُصِيبُهُم وتُخْطِئُنى المَنايا

وأَخْلُفُ فِي رُبُوعٍ عَن رُبُوعِ

وذلك كما حدَّثني [محمدُ بن]

(2)

الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مفضلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} . قال: أما {خَلَائِفَ الْأَرْضِ} : فأهلَكَ القرون واستَخْلَفَنا فيها بعدهم

(3)

.

وأما قولُه: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} . فإنه يقولُ: وخالَفَ بينَ أحوالِكم، فجعَل بعضَكم فوقَ بعضٍ، بأن رَفع هذا على هذا، بما بَسَط لهذا مِن الرزقِ، ففَضَّله بما أعطاه مِن المالِ والغِنى، على هذا الفقير فيما خَوَّله مِن أسبابِ الدنيا، وهذا على هذا بما أعطاه مِن الأيْدِ والقوةِ، على هذا الضعيفِ الواهنِ القُوَى، فخالَفَ بينَهم، بأن رَفَع مِن درجةِ هذا على درجِة هذا، وخَفَضَ مِن درجةِ هذا عن

(1)

ديوانه ص 224.

(2)

سقط من: م

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1435 (8189) من طريق أحمد بن مفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 67 إلى أبي الشيخ.

ص: 50

درجةِ هذا.

وذلك كالذى حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} . يقولُ: في الرزقِ

(1)

.

وأما قولُه: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} . فإنه يعنى: ليَخْتَبِرَكم فيما خَوَّلكم مِن فضلِه، ومنَحكم مِن رزقِه، فيَعْلَمَ المطيعَ له منكم فيما أمرَه به ونَهاه عنه، والعاصىَ، ومَن المؤدِّي مما آتاه الحقَّ الذي أمرَه بأدائِه منه، والمُفرِّطُ في أدائِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} .

يقولُ جلّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك يا محمدُ لسريعُ العقابِ لمَن أسْخَطَه. بارتكابِه معاصيَه، وخلافِه أمْرَه فيما أمَره به ونهاه، ولَمن ابتُلِي منه فيما منَحه مِن فضلِه وطَوْلِهِ، تَوَلِّيًا وإدبارًا عنه، مع إنعامِه عليه، وتَمْكينِه إياه في الأرضِ، كما فعَل بالقرونِ السالفةِ، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ}. يقولُ: وإنه لساترٌ ذنوبَ مَن ابْتُلِي منه إقبالًا إليه بالطاعةِ عندَ ابتلائِه إياه بنعمتِه

(2)

، واختبارِه إياه بأمرِه ونَهْيِه، فمُغَطٍّ عليه فيها، وتاركٌ فضيحتَه بها في موقفِ الحسابِ. {رَّحِيمُ} بتركِه عقوبتَه على سالفِ ذنوبِه التي سَلَفَت بينَه وبينَه إذ تابَ وأنابَ إليه قبلَ لقائِه ومصيرهِ إليه.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1436 (8191) من طريق أحمد بن مفضل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 67 إلى أبى الشيخ.

(2)

في م: "نعمة".

ص: 51

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تفسيرُ السورةِ التي يُذكرُ فيها الأعرافُ

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه وتقدَّست أسماؤه: {المص

(1)}.

قال أبو جعفرٍ: اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِ الله تعالى ذكره: {المص} ؛ فقال بعضُهم: معناه: أنا اللهُ أَفصِلُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سلّامٍ، قال: ثنا عمارُ بنُ محمدٍ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولهِ:{المص} : أنا اللهُ أفصِلُ

(1)

.

وقال آخرون: هو هجاءُ حروف اسمِ اللهِ تعالى الذي هو المُصَوِّرُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ {المص}. قال: هي هجاءُ المُصوّرِ

(2)

.

وقال آخرون: هي اسمٌ مِن أسماءِ اللَّهِ أَقسَم ربُّنا به.

(1)

تقدم تخريجه في 1/ 208.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1437 (8202) من طريق أحمد بن المفضل به.

ص: 52

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليِّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{المص} : قَسَمٌ أقسَمه اللهُ، وهو مِن أسماءِ اللهِ

(1)

.

وقال آخرون: هو اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{المص} . قال: اسمٌ مِن أسماءِ القرآنِ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه

(2)

.

وقال آخرون: هي حروفُ هجاءٍ مقطعةٌ.

وقال آخرون: هي مِن حسابِ الجُمَّلِ.

وقال آخرون: هي حروفٌ تَحْوى معانىَ كثيرةً، دلَّ اللهُ بها خلقَه على مرادِه مِن كلِّ ذلك.

وقال آخرون: هي حروفُ اسمِ اللهِ الأعظم.

وقد ذَكرْنا كلَّ ذلك بالروايِة فيه، وتعلُّلَ

(3)

كلِّ فريقٍ قال فيه قولًا، وما الصوابُ مِن القولِ عندَنا في ذلك، بشواهدِه وأدلِته فيما مَضَى، بما أغنَى عن إعادتِه

(1)

تقدم تخريجه في 1/ 207.

(2)

تفسير عبد الرزاق، 1/ 225، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1437 (8203) عن الحسن بن يحيى به.

(3)

في م: "تعليل".

ص: 53

في هذا الموضعٍ

(1)

.

القولُ في تأويلِ قولِ اللَّهِ تعالى ذكرُه: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} .

قال أبو جعفرٍ: يعنى تعالى ذكرُه

(2)

: هذا القرآنُ يا محمدُ، كتابٌ أنزَله اللهُ إليك.

ورفْعُ "الكتابِ" بتأويلِ: هذا كتابٌ.

‌القولُ في تأويلٍ قوله: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} .

يقولُ جل ثناؤه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فلا يَضِيقْ صدرُك يا محمدُ مِن الإنذارِ به مَن أرسلتُك لإنذارِه به، وإبلاغِه

(3)

مَن أمرتُك بإبلاغِه إياه، ولا تشكَّكْ

(4)

في أنه مِن عندى، واصبِرْ للمُضِيِّ لأمرِ اللَّهِ، واتباعِ طاعتِه فيما كَلَّفَك وحَمَّلك مِن عبءِ أثقالِ النبوةِ، كما صَبَر أولو العزمِ مِن الرسلِ، فإن الله معك.

و "الحَرَجُ" هو الضيقُ في كلامِ العربِ، وقد بَيَّنا معنى ذلك بشواهدِه وأدلتِه في قولِه:{ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. بما أغنَى عن إعادِته

(5)

.

وقال أهلُ التأويلِ في ذلك ما حدَّثني به محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} . قال: لا تكنْ في شكّ منه

(6)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنٍ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} . قال:

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 204 وما بعدها.

(2)

بعده في ص: "يقول يقول كتاب أنزل إليك"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"يقول كتاب أنزل إليك"، وفى ف:"يقول كتاب أنزلناه إليك".

(3)

في ت 1، ت 2، س، ف:"إعلامه".

(4)

في م: "تشك".

(5)

ينظر ما تقدم في 9/ 544 وما بعدها.

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 67 إلى المصنف.

ص: 54

شَكٌّ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعْلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: ثنا معمرٌ، عن قتادةَ:{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} . [قال: لا يكنْ في صدرِك]

(2)

شكٌّ منه

(3)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ مثلَه.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديّ:{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} . قال: أَمَّا الحَرَجُ، فشَكٌّ

(4)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المدنيُّ، قال: سمِعتُ مجاهدًا في قولِه: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} . قال: شَكٌّ مِن القرآنِ.

قال أبو جعفرٍ: وهذا الذي ذكرتُه من التأويلِ عن أهلِ التأويلِ، هو معنى ما قُلنا في الحَرَجِ؛ لأن الشكَّ فيه لا يكونُ إلا مِن ضيقِ الصدرِ به، وقلةِ الاتساعِ لتَوْجيهِه وِجْهتَه التي هي وِجْهتُه الصحيحةُ. وإنما اخترنا العبارةَ عنه بمعنى الضِّيقِ؛ لأن ذلك هو الغالبُ عليه مِن معناه في كلامِ العربِ، كما قد بَيَّناه قبلُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

(2)}.

(1)

تفسير مجاهد ص 333، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1438 (8208)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 67 إلى عبد بن حميد.

(2)

سقط من: م.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 225 عن معمر به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1438 عقب الأثر (8208) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.

ص: 55

يعنى بذلك تعالى ذكرُه: هذا كتابٌ أنزلْناه إليك يا محمدُ لتنذِرَ به مَن أمرتُك بإنذارِه، وذِكْرَى للمؤمنين. وهو

(1)

من المؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ، ومعناه: كتابٌ أُنزِل إليك لتُنْذرَ به وذِكْرَى للمؤمنين، فلا يكنْ في صدرِك حَرَجٌ منه.

وإذا كان ذلك معناه، كان موضعُ قولِه:{وَذِكْرَى} نصبًا، بمعنى: أَنزَلنا إليك هذا الكتاب لتُنذِرَ به وتُذَكِّر به المؤمنين. ولو قيل: معنى ذلك: هذا كتابٌ أُنزِل إليك فلا يكنْ في صدرِك حَرَجٌ منه أن تُنْذِرَ به وتُذَكِّرَ به المؤمنين - كان قولًا غيرَ مدفوعةٍ صحتُه. وإذا وُجّه معنى الكلامِ إلى هذا الوجهِ، كان في قوله:{وَذِكْرَى} . من الإعرابِ وجهان؛ أحدُهما، النصبُ بالرّد على موضع {لِتُنْذِرَ بِهِ} . والآخرُ، الرفعُ عطفًا على "الكتابِ"، كأنه قيل: المص، كتابٌ أُنزل إليك وذِكْرى للمؤمنين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ

(3)}.

يقولُ جلّ ثناؤه لنبيّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاء المشركين مِن قومِك الذين يعبُدون الأوثانَ والأصنامَ: اتَّبِعوا أيُّها الناسُ ما جاءكم مِن عندِ ربِّكم بالبيناتِ والهُدى، واعمَلوا بما أمَرَكم به ربُّكم، ولا تَتَّبِعُوا شيئًا من دونه. يعني: شيئًا غيرَ ما أَنزَل إليكم ربُّكم. يقولُ: لا تَتَّبعوا أمرَ أوليائِكم الذين يأمُرُونكم بالشركِ باللهِ وعبادةِ الأوثانِ، فإنهم يُضِلُّونكم ولا يَهْدونكم.

فإن قال قائلٌ: وكيف قلتَ: معنى الكلامِ: قل: اتَّبِعوا. وليس في الكلامِ موجودًا ذكرُ القولِ؟

قيل: إنه وإن لم يكنْ مذكورًا صريحًا، فإن في الكلامِ دلالةً عليه، وذلك

(1)

في ف: "هذا".

ص: 56

قولُه: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} . ففي قوله: {لِتُنذِرَ بِهِ} . الأمرُ بالإنذارِ، وفى الأمرِ بالإنذارِ الأمرُ بالقولِ؛ لأن الإنذارَ قولٌ، فكأن معنى الكلامِ: أنذرِ القومَ وقلْ لهم: اتَّبِعوا ما أُنزِل

(1)

إليكم مِن رَبِّكُم.

ولو قيل: معناه: لتنذِرَ به وتُذكِّرَ به المؤمنين، فتقولَ لهم: اتَّبِعوا ما أُنزِل إليكم. كان غيرَ مدفوع. وقد كان بعضُ أهلِ العربية

(2)

يقولُ: قولُه: {اتَّبِعُوا} . خطابٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه: كتابٌ

(3)

أُنزلِ إليك فلا يكُنْ في صدرِك حرجٌ منه، اتبعْ ما أُنزِل إليك مِن ربّك. ويَرَى أن ذلك نظيرُ قولِ اللَّهِ:{يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. إذ ابتدَأ خطابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم جَعَل الفعلَ للجميعِ، إذ كان أمرُ اللهِ نبيَّه بأمرٍ، أمرًا منه لجميعِ أمتِه، كما يقالُ للرجلِ يُفْرَدُ بالخطابِ، والمرادُ به هو وجماعةُ أتباعِه أو عشيرتِه وقبيلتِه: أمَا تتقون الله، أما تَسْتَحْيون مِن اللهِ. ونحو ذلك من الكلام.

وذلك وإن كان وجهًا غيرَ مدفوعٍ، فالقولُ الذي اخْترناه أَولى بمعنى الكلام؛ لدلالةِ الظاهرِ الذي وصفْنا عليه.

وقولُه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . يقولُ: قليلًا ما تتَّعِظون وتَعْتَبرون، فتُراجِعون الحقَّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ

(4)}.

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س ف:"الله".

(2)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 371

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"اتبع ما".

ص: 57

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: حَذِّرْ هؤلاء العابدين غيرى، والعادِلين بي الآلهةَ والأوثانَ سَخَطِى، [لا أحلُّ]

(1)

بهم عقوبتى فأُهلِكَهم كما أهلَكْتُ من سَلَكَ سبيلَهم مِن الأممِ قبلَهم، فكثيرًا ما أهلكتُ قبلَهم مِن أَهلِ قُرًى عَصَونى، وكذَّبوا رسولى، وعبدوا غيرى، {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا}. يقولُ: فجاءتهم عقوبتُنا ونِقْمَتُنا ليلًا قبلَ أن يُصبحوا، أو جاءتهم قائلين، يعني: نهارًا في وقتِ القائلةِ.

وقيل: {وَكَمْ} . لأن المرادَ بالكلامِ ما وصفْتُ مِن الخبرِ عن كثرةِ ما قد أصابَ الأممَ السالفةَ مِن المثلاتِ بتَكْذيبِهم رسلَه، وخلافِهم عليه، وكذلك تفعَلُ العربُ إذا أرادوا الخبرَ عن كثرةِ العددِ، كما قال الفَرَزْدَقُ

(2)

:

كُمْ عَمَّةٍ لكَ يا جريرُ وخالةٍ

فَدْعاءَ

(3)

قد حَلَبَتْ عليّ عِشَارِى

فإن قال قائلٌ: فإن الله تعالى ذكرُه إنما أخبَر أنه أهلَك قُرًى، فما في خبرِه عن إهلاكِه القُرى مِن الدليلِ على إهلاكِه أهلَها؟

قيل: إن القُرى لا تُسمَّى قُرًى، ولا القريةَ قريةً، إلا وفيها مساكنُ لأهلِها وسكانٌ منهم، ففى إهلاكِها إهلاكُ مَن فيها مِن أهلِها.

وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ يرى أن الكلامَ خَرَجَ مخرجَ الخبرِ عن القريةِ، والمرادُ به أهلُها.

والذي قلنا في ذلك أَولى بالحقِّ، لموافقتِه ظاهرَ التنزيلِ المَتَلُوِّ.

فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ

(1)

في النسخ: "لأحل". والمثبت هو الصواب.

(2)

ديوانه ص 451، وفيه: كم خالة لك يا جرير وعمة.

(3)

الفدع: عوج وميل في المفاصل كلها خلقة أو داء. اللسان (ف د ع).

ص: 58

قَائِلُونَ}؟ وهل هَلَكَت قريةٌ إلا بمجيءِ بأسِ اللَّهِ وحلولِ نِقْمَتِه وسَخَطِه بها

(1)

؟ فكيف قيل: {أَهْلَكْنَهَا فَجَاءَهَا} ؟ وإن كان مجئُ بأسِ اللَّهِ إياها بعدَ هلاكِها، فما وجهُ مجئِ ذلك قومًا قد هَلكوا وبادُوا، ولا يشعُرون بما ينزِلُ بهم ولا بمساكنِهم؟

قيل: إن لذلك مِن التأويلِ وجهين، كلاهما صحيحٌ واضحٌ منهجُه؛ أحدُهما، أن يكونَ معناه: وكم من قريةٍ أهلكْناها بخِذْلانِنا إياها عن اتباعِ ما أنزلنا إليها مِن البيناتِ والهُدى، واختيارِها اتباعَ أمرِ أوليائِها المُغْوِيَتِها

(2)

عن طاعةِ ربَّها، فجاءَها بأْسُنا إذ فَعَلَت ذلك بياتًا أو هم قائِلُون. فيكونُ إهلاكُ اللَّهِ إياها خذلانَه لها عن طاعتِه، ويكونُ مجئُ بأسِ اللَّهِ إياهم جزاءً لمعصيتِهم ربَّهم بخِذْلانِه إياهم. والآخرُ منهما، أن يكونَ الإهلاكُ هو البأسَ بعينِه، فيكونُ في ذكرِ الإهلاكِ الدلالُة على ذكرِ مجئِ البأسِ، وفى ذكرِ مجئِ البأسِ الدلالُة على ذكرِ الإهلاكِ. وإذا كان ذلك كذلك، كان سواءً عندَ العربِ بُدِئَ بالإهلاكِ ثم عُطِفَ عليه بالبأسِ، أو بُدِئَ بالبأسِ ثم عُطِفَ عليه بالإهلاكِ، وذلك كقولِهم: زُرتنى فأكرمتَنى. إذا كانت الزيارةُ هي الكرامةَ، فسواءٌ عندَهم قَدَّمَ الزيارةَ وأخَّر الكرامةَ، أو قَدَّمَ الكرامةَ وأخَّر الزيارةَ، فقال: أكرمتَنى فزُرْتَني.

وكان بعضُ أهلِ العربيةِ

(3)

يزعُمُ أن في الكلامِ محذوفًا، لولا ذلك لم يكن الكلامُ صحيحًا، وأن معنى ذلك: وكم مِن قريةٍ أهْلكناها، فكان مجئُ بأسِنا إياها قبلَ إهلاكِناها

(4)

.

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"قال كذلك".

(2)

في م: "المغويها".

(3)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 371.

(4)

في م: "إهلاكنا".

ص: 59

وهذا قولٌ لا دلالةَ على صحتِه مِن ظاهرِ التنزيلِ، ولا مِن خبرٍ يجبُ التسليمُ له، وإذا خلا القولُ مِن دلالةٍ على صحتِه مِن بعضِ الوجوهِ التي يجبُ التسليمُ لها كان بَيِّنًا فسادُه.

وقال آخرُ منهم أيضًا: معنى الفاءِ في هذا الموضعِ معنى الواوِ، وقال: تأويلُ الكلامِ: وكم مِن قريةٍ أهلكْناها وجاءها بأسُنا بياتًا.

وهذا قولٌ لا معنى له، إذ كان للفاءِ عندَ العربِ [مِن الحُكْمِ]

(1)

ما ليس للواوِ في الكلامِ، فصَرْفُها إلى الأغلبِ مِن معناها عندَهم ما وُجِد إلى ذلك سبيلٌ، أَوْلى مِن صرفِها إلى غيره.

فإن قال: وكيف قيل: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} . وقد علِمتَ أن الأغلبَ مِن شأنِ (أو) في الكلامِ اجْتلابُ الشكِّ، وغيرُ جائزٍ أن يكونَ في خبرِ اللهِ شكٌّ؟

قيل: إن تأويلَ ذلك خلافُ ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى الكلامِ: وكم مِن قريةٍ أهْلكناها فجاء بعضَها بأسُنا بياتًا، وبعضَها وهم قائِلون. ولو جَعَل مكانَ "أو" في هذا الموضِع الواوَ، لكان الكلامُ كالمُحالِ، ولصار الأغلبُ مِن معنى الكلامِ أن القريةَ التي أهْلكها اللهُ جاءها بأسُه بيانًا وفى وقتِ القائلِة. وذلك خبرٌ عن البأسِ أنه أَهْلَكَ مَن قد هَلَكَ، وأفنَى مَن قد فَنِىَ، وذلك مِن الكلامِ خَلْفٌ

(2)

. ولكنَّ الصحيحَ مِن الكلامِ هو ما جاء به التنزيلُ، إذ لم يَفْصِلِ القرى التي جاءها البأسُ بياتًا، مِن القرى التي جاءها ذلك قائلةً. ولو فُصِلت لم يُخْبَر عنها إلا بالواو.

وقيل: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} . خبرًا عن القريةِ أن البأسَ أتاها، وأجرى الكلامَ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"للحكم".

(2)

الخَلْف: الردئ من القول. اللسان (خ ل ف).

ص: 60

على ما ابتُدِئ به في أوّلِ الآيةِ. ولو قيل: فجاءهم بأسُنا بياتًا. لكان صحيحًا فصيحًا، ردًّا للكلامِ إلى معناه، إذ كان البأسُ إنما قُصِد به سكانُ القريةِ دونَ بُنيانها، وإن كان قد نالَ بُنْيانَها ومساكنَها مِن البأسِ بالخرابِ نحوٌ مِن الذي نالَ سكانَها، وقد رُجع في قولِه:{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} . إلى خصوصِ الخبرِ عن سكانِها دونَ مساكنِها؛ لما وصفنا مِن أن المقصودَ بالبأسِ كان السكانُ، وإن كان في هلاكِهم هلاكُ مساكنِهم وخرابُها. ولو قيل: أو هي قائلةٌ. كان صحيحًا، إذ كان السامعون قد فهِموا المرادَ مِن الكلامِ.

فإن قال قائلٌ: أوَ ليس قولُه: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} . خبرًا عن الوقتِ الذي أتاهم فيه بأسُ اللهِ مِن النهارِ؟

قيل: بلى.

فإن قال: أوَ ليس المواقيتُ في مثلِ هذا تكونُ في كلامِ العربِ بالواوِ

(1)

الدالّ على الوقتِ؟

قيل: إن ذلك وإن كان كذلك، فإنهم قد يَحْذِفون مِن مثلِ هذا الموضعِ، اسْتثْقالًا للجمعِ بينَ حَرْفى عطفٍ، إذ كان "أو" عندَهم مِن حروفِ العطفِ، وكذلك "الواوُ"، فيقولون: لقيتَنى مُمْلِقًا أو أنا مسافرٌ. بمعنى: أو وأنا مسافرٌ. فيَحْذِفون الواوَ وهم مُريدوها في الكلامِ؛ لما وصفتُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}

يقولُ تعالى ذكرُه: فلم يكنْ دَعْوى أهلِ القريةِ التي أهْلكناها، إذ جاءهم بأسُنا

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"و".

ص: 61

وسطوتُنا بيانًا أو هم

(1)

قائلون - إلا اعترافَهم على أنفسِهم بأنهم كانوا إلى أنفسِهم مُسِيئِين، وبربِّهم آثمِين، ولأمرِه ونَهْيِه مخالِفين.

وعنى بقولِه جلّ ثناؤه: {دَعْوَاهُمْ} . في هذا الموضعِ دعاءَهم.

وللدعَوى في كلامِ العربِ وجهان؛ أحدُهما الدعاءُ، والآخرُ الادِّعاءُ للحقِّ. ومن الدَّعْوى التي معناها الدعاءُ، قولُ اللهِ تبارك وتعالى:{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15]. ومنه قولُ الشاعر

(2)

:

وإنْ مَذِلَتْ

(3)

رِجْلَى دَعَوْتُكِ أَشْتَفِى

بدَعْواكِ مِن مَذْلٍ بها فَيَهُونُ

وقد بَيَّنا فيما مَضَى قبلُ أن البأسَ والبأساءَ، الشدةُ، بشواهِد ذلك الدالِة على صحتِه، بما أغنَى عن إعادته في هذا الموضع

(4)

.

وفى هذه الآيةِ الدلالةُ الواضحةُ على صحةِ ما جاءت به الروايةُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من قولِه: "ما هَلَكَ قومٌ حتى يُعْذِروا

(5)

مِن أنفسِهم".

وقد تأوَّل ذلك كذلك بعضُهم.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن أبي سنانٍ، عن عبدِ الملكِ بن ميسرةَ الزرَّادِ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودِ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما هَلَكَ قوم حتى

(1)

في ص: "وهم".

(2)

هو كثير عزة، والبيت في ديوانه ص 176 من الزيادات على القصيدة.

وروايته:

إذا خدرت رجلى ذكرتك أشتفي

بذكرك من مذل بها فيهون

(3)

مذلت: خَدِرت. اللسان (م ذ ل).

(4)

تقدم في 3/ 85 وما بعدها.

(5)

يقال: أعذر فلان من نفسه. إذا أمكن منها، يعنى أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن يعذبهم عذر، كأنهم قاموا بعذره في ذلك. النهاية 3/ 197.

ص: 62

يُعْذِروا من أنفسهم". قال: قلتُ لعبدِ الملكِ: كيف يكونُ ذلك؟ قال: فقرَأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} الآية

(1)

.

فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ؟ وكيف أمكَنتْهم الدَّعْوى بذلك وقد جاءهم بأسُ اللَّهِ بالهلاكِ؟ أقالوا ذلك قبلَ الهلاكِ؟ فإن كانوا قالوه قبلَ الهلاكِ، فإنهم قالوا قبلَ مجئِ البأسِ، واللهُ يخبرُ عنهم أنهم قالوه حينَ جاءهم لا قبلَ ذلك؟ أو قالوه بعدَ ما جاءهم، فتلك حالةٌ قد هَلَكوا فيها، فكيف يجوزُ وصفُهم بقيلِ ذلك إذا عايَنوا بأسَ اللهِ وحقيقةَ ما كانت الرسلُ تَعِدُهم من سطوةِ الله؟

قيل

(2)

: ليس كلُّ الأممِ كان هلاكُها في لحظةٍ ليس بينَ أَوَّلِه وآخرِه مَهَلٌ، بل كان منهم مَن غَرِقَ بالطوفانِ، فكان بينَ أوّلِ ظهورِ السببِ الذي عَلِموا أنهم به هالِكون، وبينَ آخرِه الذي عَمَّ جميعَهم هلاكُه، المدةُ التي لاخفاءَ بها على ذى عقلٍ، ومنهم مَن مُتِّعَ بالحياةِ بعدَ ظهورِ علامةِ الهلاكِ لأعينِهم أيامًا ثلاثةً، كقومِ صالح وأشْباهِهم. فحينَئذٍ لمَّا عايَنوا أوائلَ بأسِ اللهِ الذي كانت رسلُ اللهِ تَتَوعَّدُهم به، وأيْقَنوا حقيقةً نزولِ سطوةِ اللهِ بهم، دَعَوا: يا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فلم يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم مع مجئِ وعيدِ اللهِ وحلولِ نِقْمتِه بساحتِهم

(3)

، فحَذَّر ربُّنا جلّ ثناؤه الذين أرسَل إليهم نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن سطوتِه وعقابِه على كفرِهم به، وتَكْذيبِهم رسولَه ما حلَّ بَمن كان قبلَهم مِن الأممِ، إذ عَصَوا رسلَه، واتَّبَعوا أمرَ كلّ جبارٍ عنيد.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 383 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1438، 1439 (8212) من طريق جرير به موقوفًا.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"و".

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إيمانهم".

ص: 63

‌القولُ في تأويلِ قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}

يقولُ تعالى ذكرُه: لنسألُنَّ الأمَم الذين أرسلتُ إليهم رُسلى، ماذا عَمِلت فيما جاءتْهم به الرسلُ مِن عندى، مِن أمرى ونَهْيى؟ هل عمِلوا بما أمرتُهم به، وانتهَوا عما نهيتُهم عنه

(1)

، وأطاعوا أمرى، أم عَصَونى فخالَفوا ذلك؟ {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}. يقولُ: ولنسألنَّ الرسلَ الذين أرسلتُهم إلى الأممِ، هل بَلَّغَتهم رسالاتى

(2)

، وأدَّت إليهم ما أمرتُهم بأدائِه إليهم، أم قَصَّروا في ذلك ففَرَّطوا ولم يُبَلِّغوهم؟

وكذلك كان أهلُ التأويلِ يتأوَّلُونه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . قال: يسألُ اللهُ الناسَ عما أجابوا المرسلين

(3)

، ويسألُ المرسلين عما بَلَّغوا

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} . إلى قولِه:

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"به".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"رسالاته".

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1439، 1440 (8213، 8218) من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 67 إلى ابن المنذر والبيهقى في البعث.

ص: 64

{غَائِبِينَ} . قال: يوضعُ الكتابُ يومَ القيامةِ فيتكلَّمُ بما كانوا يعمَلون

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديّ:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . يقولُ: فلنسألنَّ الأمَم ما عمِلوا فيما جاءت به الرسلُ، ولنسألنَّ الرسلَ هل بَلَّغوا ما أُرسِلوا به؟

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ

(2)

المدنيُّ، قال: قال مجاهدٌ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} : الأمَم، ولنسألُنَّ الذين أرسلنا إليهم عما اثْتَمَناهم عليه، هل بَلَّغوا؟

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فَلَنُخبرِ الرسلَ ومَن أرسلْتُهم إليه بيقينِ علمٍ بما عمِلوا في الدنيا فيما كنتُ أمرْتُهم به، وفيما

(3)

كنتُ نهيتُهم عنه، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم وعن أفعالِهم التي كانوا يفعَلونها.

فإن قال قائلٌ: وكيف يسألُ الرسلَ والمرسلَ إليهم، وهو يخبِرُ أنه يقصُّ عليهم بعلمٍ بأعمالِهم وأفعالِهم في ذلك؟

قيل: إن ذلك منه تعالى ذكرُه ليس بمسألِة اسْترشادٍ، ولا مسألِة تعرُّفٍ منهم ما هو به غيرُ عالمٍ، وإنما هو مسألةُ توبيخٍ وتقريرٍ معناها الخبرُ، كما يقولُ الرجلُ للرجلِ: ألم أُحسِنْ إليك فأسأتَ؟ وألم أصِلْكَ فقطعْتَ؟ فكذلك مسألةُ اللَّهِ المرسَلَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1445 (8221) عن محمد بن سعد به. وهو في الدر المنثور من تمام الأثر السابق.

(2)

في ت 1: "سعيد".

(3)

في م: "ما".

ص: 65

إليهم بأن يقولَ لهم: ألم يأتِكم رسلى بالبيناتِ؟ ألم أبعثْ إليكم النُّذُرَ فتُنذِرَكم عذابى وعقابي في هذا اليومِ مَن كَفَرَ بى وعَبَدَ غيرى؟ كما أخبَر جلّ ثناؤه أنه قائلٌ لهم يومَئِذٍ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. ونحو ذلك من القولِ الذي ظاهِرُه ظاهرُ مسألةٍ، ومعناه الخبرُ والقصصُ، وهو بعدُ توبيخٌ وتقريرٌ.

وأما مسألةُ الرسلِ الذي هو قَصَصٌ وخبرٌ، فإن الأمَم المشركةَ لما سُئِلت في القيامةِ قيل لها:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71]. أنكَر ذلك كثيرٌ منهم وقالوا: ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذيرٍ. فقيل للرسلِ: هل بلَّغتُم ما أُرْسِلْتُم به؟ أو قيل لهم: ألم تُبَلِّغوا إلى هؤلاء ما أُرسِلتم به؟ كما جاء الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكما قال جلّ ثناؤُه لأمةِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. فكلُّ ذلك مِن اللهِ مسألةٌ للرسلِ على وجهِ الاستشهادِ لهم على مَن أُرسلوا إليه من الأممِ، وللمُرسَلِ إليهم على وجهِ التقريرِ والتوبيخِ، وكلُّ ذلك بمعنى القصصِ والخبرِ. فأما الذي هو عن اللهِ منفيٌّ مِن مسألتِه خلقَه، فالمسألةُ التي هي مسألةُ اسْترشادٍ واستثباتٍ فيما لا يعلمُه السائلُ عنها ويعلَمُه المسئولُ؛ ليعلمَ السائلُ علمَ ذلك من قبله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به؛ لأنه العالم بالأشياء قبل كونِها ذلك وفي حالِ كونِها وبعدَ كونِها، وهى المسألةُ التي نَفاها جلّ ثناؤُه عن نفسِه بقولِه:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]. وبقولِه: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]. يعنى: لا يسألُ عن ذلك أحدًا منهم علمَ مُسْتَثْبِتٍ، ليعلمَ علمَ ذلك من قِبَلِ مَن سأل منه

(1)

؛ لأنه العالِمُ بذلك كلِّه وبكلِّ شيءٍ غيرِه.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عنه".

ص: 66

وقد ذكَرْنا ما رُوِىَ في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضعِ، فكَرِهْنا إعادتَه

(1)

.

وقد رُوِى عن ابن عباسٍ أنه كان يقولُ في معنى قولِه: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} . أنه يُنْطَقُ لهم كتابُ عملِهم، [فيقصُّ بذلك]

(2)

عليهم أعمالَهم

(3)

.

وهذا قولٌ غيرُ بعيدٍ مِن الحقِّ، غيرَ أن الصحيحَ مِن الخبرِ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما منكم مِن أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه يومَ القيامةِ ليس بينَه وبينَه تُرْجُمَانٌ، فيقولُ له: أتذكُرُ يومَ فعلتَ كذا وفعلتَ كذا؟ حتى يُذَكِّرَه ما فَعَل في الدنيا"

(4)

. والتسليمُ لخبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَولى مِن التسليمِ لغيرِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} .

الوزنُ مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: وَزَنتُ كذا وكذا، أَزِنُه وَزْنًا وزِنَةً. مثلَ: وَعَدتُه أَعِدُه وعدًا وعِدَةً.

وهو مرفوعٌ بـ {الْحَقُّ} ، و {الْحَقُّ} به.

ومعنى الكلامِ: والوزنُ يومَ نسألُ الذين أُرسل إليهم والمرسلين الحقُّ.

ويعنى بـ {الْحَقُّ} العدلَ. وكان مجاهدٌ يقولُ: الوزنُ في هذا الموضعِ القضاءُ.

(1)

تقدم في 2/ 630 وما بعدها.

(2)

سقط من: م.

(3)

في م: "بأعمالهم". وينظر ما تقدم تخريجه في ص 65.

(4)

صدر هذا الحديث أخرجه البخارى (7443)، ومسلم (1016).

ص: 67

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ}: القضاءُ

(1)

.

وكان يقولُ أيضًا: معنى {الْحَقُّ} ههنا: العدلُ.

‌ذكرُ الروايةِ بذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . قال: العدلُ

(2)

.

وقال آخرون: معنى قولِه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} : وزنُ الأعمالِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} : تُوزَنُ الأعمالُ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . قال: قال عبيدُ بنُ عميرٍ: يؤتى بالرجلِ العظيمِ الطويلِ الأكُولِ الشَّروبِ فلا يَزِنُ جناحَ بعوضةٍ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1440 (8225) من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1440 (8223) من طريق جرير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 69 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ وسيأتي من طريق آخر في تفسير الآية 47 من سورة الأنبياء.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1440 (8224) من طريق أحمد بن المفضل به.

(4)

تفسير مجاهد ص 333، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1440 (8222)، وليس في التفسير: عن مجاهد، وأصل الحديث عند البخاري (4729)، ومسلم (785) من حديث أبي هريرة مرفوعا بنحوه.

ص: 68

مجاهدٍ: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . قال: قال عبيدُ بنُ عميرٍ: يُؤتَى بالرجلِ الطويلِ العظيمِ فلا يَزِنُ جناحَ بعوضةٍ.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيز، قال: ثنا يوسفُ بنُ صهيبٍ، عن موسى، عن بلالِ بن يحيى، عن حذيفةَ، قال: صاحبُ الموازينِ يومَ القيامةِ جبريلُ عليه السلام، قال: يا جبريلُ، زِنْ بينَهم، [فردَّ مِن بعضٍ على بعضٍ. قال: وليس ثُمَّ ذَهَبٌ ولا فضةٌ. قال: فإن كان للظالمِ حسناتٌ أُخِذَ مِن حسناتِه]

(1)

فَرُدَّ على المظلومِ، وإن لم يكنْ له حسناتٌ حُمِلَ عليه من سيئاتِ صاحبِه، فيرجِعُ الرجلُ وعليه مثلُ الجبالِ، فذلك قولُه:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}

(2)

.

واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: فمَن كَثُرت حسناتُه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} . قال: حسناتُه

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثَقُلَتْ موازِينُه التي تُوزَنُ بها حسناتُه وسيئاتُه.

قالوا: وذلك هو الميزانُ الذي يعرِفُه الناسُ، له لسانٌ وكِفَّتان.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ:

(1)

سقط من: م.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 69 للمصنف وابن أبي الدنيا واللالكائي.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1441 (8226) من طريق جرير به، وهو في الدر المنثور من تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.

ص: 69

قال لي عمرُو بنُ دينارٍ قولَه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . قال: إنا نرى ميزانًا وكِفَّتَين، سمِعتُ عبيدَ بنَ عميرٍ يقولُ: يُجْعَلُ الرجلُ العظيمُ الطويلُ في الميزانِ، ثم لا يقومُ بجناحِ ذبابٍ.

قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القولِ في ذلك عندى القولُ الذي ذكرْناه عن عمرِو بن دينارٍ، من أن ذلك هو الميزانُ المعروفُ الذي يُوزَنُ به، وأَن الله جلّ ثناؤه يزِنُ أعمالَ خلقِه الحسناتِ منها والسيئاتِ، كما قال جلّ ثناؤُه:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} : موازينُ عملِه الصالحِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. يقولُ: فأولئك هم الذين ظَفِروا بالنجاحِ، وأدْرَكوا الفوزَ بالطَّلِباتِ، والخلودَ والبقاءَ في الجناتِ؛ لتظاهرِ الأخبارِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولِه:"ما وُضِعَ في الميزانِ شيءٌ أثقلُ مِن حسنِ الخلقِ"

(1)

. ونحوِ ذلك الأخبارِ التي تُحقِّقُ أن ذلك ميزانٌ توزنُ به الأعمالُ على ما وصفْتُ.

فإن أنكر ذلك جاهلٌ بتَوْجيهِ معنى خبرِ اللهِ عن الميزانِ وخبرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم عنه، وِجْهَتَه، وقال: أو باللهِ حاجةٌ إلى وزنِ الأشياءِ وهو العالمُ بمقدارِ كلِّ شيءٍ قبلَ خلقِه إياه وبعدَه وفى كلِّ حالٍ؟ أو قال: وكيف توزنُ الأعمالُ، والأعمالُ ليست بأجسامٍ توصفُ بالثِّقَلِ والخِفَّةِ، وإنما توزنُ الأشياءُ ليُعْرَفَ ثِقَلُهَا مِن خِفَّتِها، وكثرتُها مِن قلتِها، وذلك لا يجوزُ إلا على الأشياءِ التي توصفُ بالثقلِ والخفةِ، والكثرةِ والقلةِ؟

قيل له في قولِه: وما وجهُ وزنِ اللهِ الأعمالَ وهو العالمُ بمقاديرِها قبلَ كونِها؟ [قيل: وَزْنُه]

(2)

ذلك نظيرُ إثباتِه إياه في أمِّ الكتابِ واستِنساخُه ذلك في

(1)

أخرجه أحمد 6/ 446، 448 (الميمنية)، وأبو داود (4899)، والترمذي (2002)، وابن حبان (481) من حديث أبي الدرداء.

(2)

في م: "وزن".

ص: 70

الكتابِ، من غيرِ حاجةٍ به إليه، ومن غير خوفٍ من نسيانِه، وهو العالمُ بكلِّ ذلك في كلِّ حالٍ ووقتٍ، قبلَ كونِه وبعدَ وجودِه، بل ليكونَ ذلك حجةً على خلقِه، كما قال جلّ ثناؤُه في تنزيلِه:{كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} الآية [الحائية: 28، 29]. فكذلك وزنُه تعالى أعمالَ خلقِه بالميزانِ؛ حجةً عليهم ولهم، إما بالتقصيرِ في طاعتِه والتضييعِ، وإما بالتكميلِ والتتميمِ.

وأمَّا وجهُ جوازِ ذلك، فإنه كما حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسروقيُّ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ زيادٍ الإفريقيُّ، عن عبدِ اللهِ بن يزيدَ، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو

(1)

، قال: يُؤتَى بالرجلِ يومَ القيامةِ إلى الميزانِ، فيُوضَعُ في الكفَّةِ، فيُخرجُ له تسعةٌ وتسعون سِجلًّا فيها خطاياه وذنوبُه. قال: ثم يُخرجُ له كتابٌ مثلُ الأُنْمُلةِ، فيها شهادةُ ألا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم. قال: فتُوضعُ في الكِفَّةِ، فتَرْجَحُ بخطاياه وذنوبِه

(2)

.

فكذلك وزنُ اللهِ أعمال خلقِه، بأن يُوضعَ العبدُ وكتبُ حسناتِه في كِفةٍ مِن كفتى الميزانِ، وكتبُ سيئاتِه في الكِفةِ الأخرى، ويُحْدِثُ اللهُ تبارك وتعالى ثقلًا وخفةً في الكِفةِ التي الموزونُ بها أَوْلى؛ احتجاجًا مِن اللهِ بذلك على خلقِه، كفعلِه بكثيرٍ منهم، من اسْتنطاقِ أيدِيهم وأرجلِهم، استشهادًا بذلك عليهم، وما أشبهَ ذلك مِن حُجَجِه.

ويُسألُ مَن أنكَر ذلك، فيقالُ له: إن الله أخبرَنا تعالى ذكرُه أنه يُثَقِّلُ موازينَ

(1)

في م: "عمر".

(2)

أخرجه عبد بن حميد (339) من طريق عبد الرحمن بن زياد به، وأخرجه أحمد 11/ 570، 571 (6994)، وابن ماجه (4300)، والترمذى (2639)، وابن حبان (225)، والحاكم 1/ 6، والبيهقي في الشعب (283)، والبغوى (4321) من طريق عبد الله بن يزيد أبي عبد الرحمن الحبلى به.

ص: 71

قومٍ في القيامةِ، ويُخِفُّ

(1)

موازينَ آخرين، وتظاهَرت الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتحقيقِ ذلك، فما الذي أوجبَ لك

(2)

إنكارَ الميزانِ أن يكونَ هو الميزانَ الذي وصَفنا صفتَه، الذي يتعارفُه الناسُ؟ أحجةُ عقلٍ؟ فقد

(3)

يقالُ: وجهُ صحتِه مِن جهةِ العقلِ، وليس في وزنِ اللهِ جلّ ثناؤه خلقَه وكتبَ أعمالِهم، لتعريفهم أثقلَ القِسمين منها بالميزانِ، خروجٌ من حكمةٍ، ولا دخولٌ في جورٍ في قضيةٍ، فما الذي أحالَ ذلك عندَك من حجةِ

(4)

عقلٍ أو خبرٍ؟ إذ كان لا سبيلَ إلى حقيقةِ القولِ بإفسادِ ما لا يدفَعُه العقلُ إِلا مِن أحدِ الوجهَين اللذين ذكرتُ، ولا سبيلُ إلى ذلك. وفى عدمِ البرهانِ على صحةِ دَعْواه من هذين الوجهين، وضوحُ فسادِ قولِه، وصحةِ ما قاله أهلُ الحقِّ في ذلك.

وليس هذا الموضعُ من مواضعِ الإكثارِ في هذا المعنى على من أنكَر الميزانَ الذي وصفْنا صفتَه، إذ كان قصدُنا في هذا الكتابِ البيانَ عن تأويلِ القرآنِ دونَ غيرِه. ولولا ذلك لقَرَنَّا إلى ما ذكرنا نظائرَه، وفى الذي ذكَرْنا من ذلك كفايةٌ لمَن وُفِّق لفهمِه إن شاء اللهُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} .

يقولُ جلّ ثناؤُه: ومَن خَفَّتْ موازينُ أعمالِه الصالحةِ، فلم تثقُلْ بإقرارِه بتوحيدِ اللهِ، والإيمانِ به وبرسولِه، واتباعِ أمرِه ونهيهِ، فأولئك الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظَها من جزيلِ ثوابِ اللهِ وكرامتِه، {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}. يقولُ:

(1)

في م: "يخفف".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ذلك".

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2، 3، س، ف:"أن".

(4)

بعده في النسخ: "أو". والصواب بحذفها كما أثبتناه.

ص: 72

بما كانوا بحججِ اللهِ وأدِلَّتِه يَجْحَدون، فلا يُقرُّون بصحتِها

(1)

، ولا يُوقنون بحقيقتِها.

كالذى حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} . قال: حسناتُه

(2)

.

وقيل: {فَأُولَئِكَ} ، و {مَنْ} في لفظِ الواحدِ؛ لأن معناه الجمعُ، ولو جاء مُوحَّدًا، كان صوابًا فصيحًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد وطَّأْنا

(3)

لكم أيُّها الناسُ في الأرضِ، وجعلْناها لكم قرارًا تستقِرُّون فيها، ومِهادًا تَمْتهِدونها، وفراشًا تَفْترِشُونها، وجَعَلْنا فيها لكم معايشَ تعيشُون بها أيامَ حياتِكم، من مطاعمَ ومشاربَ، نعمةً منى عليكم، وإحسانًا منى إليكم، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. يقولُ: وأنتم قليلٌ شكرُكم على هذه النعمِ التي أنعَمتُها عليكم لعبادتِكم غيرى، واتخاذِكم إلهًا سواى.

والمعايشُ جمعُ معيشةٍ.

واختلَفت القرأةُ في قراءتِها؛ فقرأ ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {مَعَايِشَ} . بغيرِ همزٍ.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"لصحتها".

(2)

في ص ف: "سيئاته".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1441 (8228) من طريق جرير به. وهو في الدر المنثور من تمام الأثر المتقدم في ص 68.

* من هنا يبدأ الجزء التاسع عشر من نسخة جامعة القرويين، والمشار إليها بـ "الأصل"، وسيجد القارئ أرقام أوراقها بين معقوفين.

(3)

في م: "وطنا".

ص: 73

وقرَأه عبدُ الرحمنِ الأعرجُ: (معائِشَ) بالهمزِ

(1)

.

والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندنا {مَعَايِشَ} بغيرِ همزٍ؛ لأنها "مَفاعِلُ"، مِن قولِ القائلِ: عشتَ، تعيشُ. فالميمُ فيها زائدةٌ، والياءُ في الحكمِ متحركةٌ؛ لأن واحدَها "مَفْعَلَةٌ"، مَعْيَشةٌ، متحركةُ الياءِ، نُقِلت حركةُ الياءِ منها إلى العينِ في واحدِها، فلما جُمعت رُدَّت حركتُها إليها، لسكونِ ما قبلَها وتحركِها. وكذلك تفعلُ العربُ بالياءِ والواوِ إذا سَكَنَ ما قبلَهما وتَحرَّكَتا، في نظائرِ ما وصفنا مِن الجمعِ الذي يأتى على مثالِ "مَفاعِلَ"، وذلك مخالفٌ لما جاء مِن الجمعِ على مثالِ "فعائلَ"، التي تكونُ الياءُ فيها زائدةً ليست بأصلٍ، فإن ما جاء مِن الجمعِ على هذا المثالِ، فالعربُ تهمِزُه، كقولِهم: هذه مدائنُ، وصحائفُ، وبصائرُ

(2)

، لأن مدائنَ جمعُ مدينةٍ، والمدينةُ "فَعِيلةٌ" من قولِهم: مَدَنْتُ المدينةَ. وكذلك صحائفُ، جمعُ صحيفةٍ، والصحيفةُ "فَعِيلةٌ" مِن قولِك: صَحَفْتُ الصحيفةَ. فالياءُ في واحدِها زائدةٌ ساكنةٌ، فإذا جمَعْتَ هَمزتَ، لخلافِها في الجمعِ الياءَ التي كانت في واحدِها، وذلك أنها كانت في واحدِها ساكنةً، وهى في الجمعِ متحركةٌ. ولو جَعَلْتَ مَدِينَةً "مَفْعِلةً" مِن: دانَ يدينُ، [وجَمَعْت على]

(3)

"مفاعلَ"، كان الفصيحُ تركَ الهمزِ

(4)

وتحريكَ الياءِ. وربما هَمَزتِ العربُ جمعَ "مَفْعِلةٍ" في ذواتِ

(1)

وقرأ بها أيضا زيد بن علي والأعمش، وخارجةُ عن نافع، وابنُ عامر في رواية. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 278، ومختصر الشواذ لابن خالويه ص 48، والبحر المحيط 4/ 271، قال أبو حيان: وليس بالقياس، لكنهم رووه وهم ثقات، فوجب قبوله. وينظر بقية كلامه في الاحتجاج لهذه القراءة والدفع عن الحكم عليها بالشذوذ.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 2، س، ف:"نظائر".

(3)

سقط من: س، وفى الأصل:"ثم جعلت"، وفى ص:"فرححب"، غير منقوطة، وفي ف، ت 1، ت 2، ت 3:"فرجعت".

(4)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فيها".

ص: 74

الياءِ والواوِ، وإن كان الفصيحُ من كلامِها تركَ الهمزِ فيها، إذا جاءت على "مفاعلَ"، تشبيهًا منهم لجَمْعِها بجمعِ "فَعِيلةٍ"، كما تُشَبِّهُ "مَفْعَلًا" بـ "فَعِيلٍ"، فتقولُ: مَسِيلُ الماءِ. مِن: سَالَ يسيلُ، ثم تجمعُها جمعَ "فعيلٍ"، فتقولُ: هي أمسِلةٌ. في الجمعِ، تشبيهًا منهم لها بجمعِ "بعيرٍ" وهو "فعيلٌ"، إذ تجمعُه "أبعرةً"، وكذلك تجمعُ المَصِيرَ وهو "مَفْعِلٌ"، "مُضرانٌ"، تشبيهًا له بجمعِ "بعيرٍ" وهو "فعيلٌ"، إذ تجمعُه "بُعْرانٌ". وعلى هذا هَمَز الأعرجُ (معائشَ). وليس ذلك بالفصيحِ في كلامِها. وأولى ما قُرِئَ به كتابُ اللهِ مِن الألسنِ أفصحُها [وأعربُها]

(1)

وأعرفُها، دونَ أَنْكَرِها وأَشَذِّها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)} .

اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويلُ ذلك {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} في ظهرِ آدمَ أَيُّها الناسُ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في أرحامِ النساءِ خلقًا مخلوقًا، ومثالًا مُمثَّلًا في صورةِ آدمَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} : قولَه: {خَلَقْنَاكُمْ}

(2)

آدمَ، وأما {صَوَّرْنَاكُمْ} فذرِّيتَه

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن

(1)

سقط من: ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

بعده في م: "يعني".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 (8233، 8236) من طريق عبد الله به.

ص: 75

أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} الآية. قال: أما {خَلَقْنَاكُمْ} فآدمَ، وأما {صَوَّرْنَاكُمْ} فذرِّيَّةَ آدمَ مِن بعدِه.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} : يعني آدمَ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}: يعنى في الأرحامِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ، قال: أخبَرنا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيعِ بن أنسٍ في قولِه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . يقولُ: خلَقناكم خلقَ آدمَ، ثم صَوَّرناكم في بطونِ أمهاتِكم

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . يقولُ: خلقْنا آدمَ، ثم صَوَّرنا الذريةَ في الأرحامِ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ

(3)

، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . قال: خَلَقَ اللهُ آدمَ مِن طينٍ، ثم صَوَّركم

(4)

في بطونِ أمهاتِكم خلقًا مِن بعدِ خلقٍ، عَلَقةً، ثم مضغةً، ثم عظامًا، ثم كسا العظامَ لحمًا، ثم أنشأْناه خلقًا آخرَ

(5)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 عقب أثر (8234) من طريق أبي جعفر به، مقتصرًا على آخره.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 عقب أثر (8233، 8234) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدى.

(3)

بعده في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"بن آدم".

(4)

في م: "صورناكم".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 76

قال: خَلَقَ اللهُ آدمَ، ثم صَوَّرَ ذريتَه

(1)

بعدَه

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ هارونَ، عن نصرِ بن مُشارسِ

(3)

، عن الضحاكِ:{خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} : [{خَلَقْنَاكُمْ} آدمَ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}]

(4)

. قال: ذُرِّيَّتَه

(5)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرَجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ قولَه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} : يعني آدمَ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}: يعنى ذريتَه.

وقال آخرون

(6)

: معنى ذلك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} في أصْلابِ آبائِكم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في بطونِ أمهاتِكم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن شريكٍ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . قال: خلَقْناكم في أصْلابِ الرجالِ، ثم

(7)

صَوَّرناكم في أرحامِ النساءِ

(8)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ

(1)

بعده في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"من".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 225 عن معمر به.

(3)

في الأصل، ص:"مشاوس"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"مشاوش". والمثبت من تهذيب الكمال 34/ 297.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 عقب الأثر (8233، 8236) معلقا، وينظر تفسير ابن كثير 3/ 387.

(6)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"بل".

(7)

في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"و".

(8)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 عقب الأثر (8232، 8234) معلقًا.

ص: 77

مثلَه.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، قال: سمعتُ الأعمشَ يقرأُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . قال: خلَقناكم في أصْلابِ الرجالِ، ثم صَوَّرناكم في أرحامِ النساءِ

(1)

.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: {خَلَقْنَاكُمْ} : يعني آدمَ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}

(2)

: في ظهرِه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} . قال: آدمَ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}. قال: في ظهرِ آدمَ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} : في ظهرِ آدمَ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . قال: صَوَّرناكم في ظهرِ آدمَ.

(1)

تفسير سفيان ص 111 عن الأعمش عن المنهال، عن ابن عباس من قوله، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 (82348232)، والحاكم 2/ 319، والبيهقى في الشعب (107)، بزيادة سعيد بن جبير، بين المنهال وابن عباس.

وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 72 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

بعده في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"يعني".

(3)

تفسير مجاهد ص 333 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1442 (8235) - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 72 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

ص: 78

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المدنيُّ، قال: سمِعتُ مجاهدًا في قولِه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . قال: في ظهرِ آدمَ، لِما تصِيرون إليه مِن الثوابِ في الآخرةِ.

وقال آخرون: معنى ذلك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} في بُطُونِ أمهاتِكم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيها.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عمن ذكَره، قال:{خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . قال: خلَق اللهُ الإنسانَ في الرحمِ، ثم صَوَّره، فشَقَّ سمعَه وبصرَه وأصابعَه

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه

(2)

الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: تأويلُه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} : ولقد خلَقنا آدمَ، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}: بتصويرِ نا آدم، كما قد بَيَّنا فيما مضى قبلُ

(2)

مِن خطابِ العربِ الرجلَ بالأفعالِ تضيفُها إليه، والمعْنَى في ذلك لسَلَفِه

(3)

. وكما قال جلّ ثناؤه لمَن بينَ أظهُرِ المؤمنين من اليهودِ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} . [البقرة: 63، 93]. وما أشبَهَ ذلك مِن الخطابِ الموجَّهِ إلى الحيِّ الموجودِ، والمرادُ به السلفُ المعدومُ، فكذلك ذلك في قولِه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . إنما معناه: ولقد خلَقنا أباكم آدمَ ثم صَوَّرناه.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 225 عن معمر، عن الكلبي من قوله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 72 إلى أبى الشيخ.

(2)

سقط من: ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

تقدم في 1/ 642، 643.

ص: 79

وإنما قلنا: هذا القولُ أولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ؛ لأن الذي يتلُو ذلك قولُه: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . ومعلومٌ أن الله قد أمَر الملائكةَ بالسجودِ لآدمَ قبلَ أن يصوِّرَ ذرِّيتَه في بطونِ أمهاتِهم، بل قبلَ أن يخلُقَ أمهاتِهم، و "ثم" في كلامِ العربِ لا تأتى إلا بإيذانِ انقطاعِ ما بعدَها عما قبلَها، وذلك كقولِ القائلِ: قمتُ ثم قعدتُ. لا يكونُ القعودُ إذا عُطِف به بـ "ثمَّ" على قولِه: قمتُ. إلا بعدَ القيامِ، وكذلك ذلك في جميعِ الكلامِ، ولو كان العطفُ في ذلك بالواوِ، جازَ أن يكونَ الذي بعدَها قد كان قبلَ الذي قبلَها، وذلك كقولِ القائلِ: قمتُ وقعدتُ. فجائزٌ أن يكونَ القعودُ في هذا الكلامِ قد كان قبلَ القيامِ؛ لأن الواوَ تدخُلُ في الكلامِ إذا كانت عطفًا لتُوجِبَ للذى بعدَها مِن المعنى ما وَجَبَ للذي قبلَها، مِن غيرِ دلالةٍ منها بنفسِها على أن ذلك كان في وقتٍ واحدٍ أو وقتَين مختلَفين، أو إن كانا في وقتَين، أيُّهما المتقدِّمُ وأيُّهما المتأخرُ. فلما وصفْنا قلنا: إن قولَه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} . لا يصحُّ تأويلُه إلا على ما ذكرْناه.

فإن ظنَّ ظانٌّ أن العربَ إذ كانت ربَّما نَطَقَت بـ "ثمَّ" في موضعِ الواوِ في ضرورة شعرٍ، كما قال بعضُهم

(1)

:

سألتُ ربيعةً مَن خيرُها

أبًا ثم أُمًّا فقالت لِمَهْ

بمعنى: أبًا وأمًّا. فإن ذلك جائزُ أن يكونَ نظيرَه - فإن ذلك بخلافِ ما ظنَّ؛ وذلك أن كتابَ اللهِ جلّ ثناؤُه نَزَلَ بأفصحِ لغاتِ العربِ، وغيرُ جائزٍ توجيهُ شيءٍ منه إلى الشاذِّ من لغاتِها، وله في الأفصحِ الأشهرِ معنًى مفهومٌ ووجهٌ معروفٌ.

وقد وجَّه بعضُ مَن ضَعُفَت معرفتُه بكلامِ العربِ مَعْنى

(2)

ذلك إلى أنه مِن

(1)

التبيان 4/ 357.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 80

المؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ، وزَعَم أن معنى ذلك: ولقد خلقْناكم ثم قلْنا للملائكةِ: اسجُدوا لآدمَ. ثم صَوَّرناكم.

وذلك غيرُ جائزٍ في كلامِ العربِ؛ لأنها لا تُدخِلُ "ثم" في الكلامِ وهى مرادٌ بها التقديمُ على ما قبلَها من الخبرِ، وإن [كان قد يُعترضُ بها]

(1)

في الكلامِ، إذا كان فيه دليلٌ على أن معناها التأخيرُ، وذلك كقولِهم: قامَ ثم عبدُ اللهِ عمرٌو. فأما إذا قيل: قامَ عبدُ اللهِ ثم قَعَد عمرٌو. فغيرُ جائزٍ أن يكونَ قعودُ عمرٍو كان إلا بعدَ قيامِ عبدِ اللهِ، إذا كان الخبرُ صدقًا. فقولُ اللهِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . نظيرُ قولِ القائلِ: قام عبدُ اللهِ ثم قَعَد عمرٌو. في أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ أمرُ اللهِ الملائكةَ بالسجودِ لآدمَ، كان إلا بعدَ الخلقِ

(2)

والتصويرِ؛ لِما وصفنا قبلُ.

وأما قولُه: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . فإنه يقولُ جلّ ثناؤُه: فلما صَوَّرنا آدمَ وجعلناه خلقًا سويًّا، ونَفَخنا فيه من روحِنا، قلنا للملائكةِ: اسجُدوا لآدمَ. ابتلاءً مِنَّا واختبارًا لهم بالأمرِ؛ لنَعْلَمَ الطائعَ منهم مِن العاصى.

{فَسَجَدُوا} . يقولُ: فَسَجَد الملائكةُ {إِلَّا إِبْلِيسَ} ، فإنه {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} لآدمَ حينَ أمَره اللهُ مع مَن أمَر مِن سائرِ الملائكةِ غيرِه بالسجودِ.

وقد بَيّنا فيما مَضَى المعنى الذي مِن أجلِه امْتَحَنَ جل جلاله ملائكتَه بالسجودِ لآدمَ، وأمْرَ إبليسَ وقصصَه، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ

(1)

في م: "كانوا قد يقدمونها".

(2)

بعده في ت 1: "المصور".

(3)

تقدم في 1/ 530 - 547.

ص: 81

خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}.

وهذا خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن قيلِه لإبليسَ إذ عصاه فلم يسجُدْ لآدمَ إذ أمَره بالسجودِ له. يقولُ: {قَالَ} اللهُ لإبليسَ: {مَا مَنَعَكَ} : أيُّ شيءٍ منَعك {أَلَّا تَسْجُدَ} : أن تدعَ السجودَ لآدم، {إِذْ أَمَرْتُكَ} أَن تسجُدَ له

(1)

؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ} . يقولُ: قال إبليسُ: أنا خيرٌ [منه. يَعْنى: مِن آدمَ]

(2)

، {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .

فإن قال قائلٌ: فأخبِرْنا عن إبليسَ، أَلَحِقَتْه المَلامةُ على السجودِ أم على تركِ السجودِ؟ فإن تكنْ لِحقَته المَلامةُ على تركِ السجودِ، فكيف قيل له:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} ؟ [والنَّكِيرُ إذا كان على تركِ السجودِ فإنَّما يقالُ: ما منَعَك أن تسجدَ. وإن كان النكيرُ على السجودِ]

(3)

، فذلك خلافُ ما جاء به التنزيلُ في سائرِ القرآنِ، وخلافُ ما يعرِفُه المسلمون؟

قيل: إن الملامةَ لم تلحَقْ إبليسَ إلا على معصيتِه ربَّه بتركِه السجودَ لآدمَ إذ أمَره بالسجودِ له، غيرَ أن في تأويلِ قولِه:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} . بينَ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ اختلافًا، أبدأُ بذكرِ ما قالوا، ثم أذكُرُ الذي هو أولى ذلك بالصوابِ.

فقال بعضُ نحويى البصرةِ: معنى ذلك: ما مَنَعك أن تسجُدَ. و "لا" ههنا زائدةٌ، كما قال الشاعرُ

(4)

:

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"منه من آدم"، وفى م:"من آدم".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.

(4)

البيت غير منسوب في المحكم لابن سيده 2/ 144، وأمالي ابن الشجرى 228، 231، واللسان (ن ع م)، وشرح شواهد المغنى 2/ 634.

ص: 82

أبى جُودُه لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ به

نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُوعَ

(1)

قاتِلُهْ

وقال: فَسَّرته العربُ: أَبَى جُودُه البخلَ. وجعلوا "لا" زائدةً حشوًا ههنا، وَصَلوا بها الكلامَ.

قال: وزَعَم يونسُ أن أبا عمرٍو كان يَجُرُّ البخلَ، ويجعلُ "لا" مضافةً إليه، أراد: أبى جودُه "لا" التي هي للبخلِ. ويجعلُ "لا" مضافةً؛ لأن "لا" قد تكونُ للجودِ والبخلِ؛ لأنه لو قال له: امنعِ الحقَّ ولا تُعْطِ المساكينَ. فقال: "لا". كان هذا جودًا منه.

وقال بعضُ نحويى الكوفةِ

(2)

نحوَ القولِ الذي ذكرْناه عن البصريِّ

(3)

في معناه وتأويلِه، غيرَ أنه زَعَم أن العلةَ في دخولِ "لا" في قولِه:{أَلَّا تَسْجُدَ} . أن في أولِ الكلامِ جحدًا، يعنى قولَه:{لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} . وأن العربَ ربما أعادوا في الكلامِ الذي فيه جحدٌ، جحدًا، كالاستيثاقِ

(4)

والتوكيدِ له، قال: وذلك كقولِهم

(5)

:

ما إِنْ رَأَيْنا مِثْلَهُنَّ لمعشرٍ

سُودِ الرءوسِ فَوالجٌ

(6)

وفُيُولُ

فأعادَ على الجحدِ الذي هو "ما" جحدًا، وهو قولُه:"إنْ".

فجَمَعَهما للتوكيدِ.

(1)

في المحكم: "الجوس"، هو بمعنى الجوع، وفى أمالي ابن الشجرى، وشرح شواهد المغنى:"الجود". وكذا أثبتها ناشرو المطبوعة عن هذه المصادر.

(2)

ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 374.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"البصريين".

(4)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كالاستئناف".

(5)

البيت في معاني القرآن للفراء 1/ 176، 374.

(6)

الفوالج جمع الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من السند للفحلة. الصحاح (ف ل ج).

ص: 83

وقال آخرُ منهم: ليست "لا"، بحشوٍ في هذا الموضعِ ولا صلةٍ

(1)

، ولكن المنعَ ههنا

(2)

بمعنى القولِ.

قال: وإنما تأويلُ الكلامِ: من قال لك: لا تسجُدْ إذ أمرتُك بالسجودِ؟ ولكن دَخَل في الكلامِ "أنْ"، إذ كان المنعُ بمعنى القولِ لا في لفظِه، كما يُفْعَلُ ذلك في سائرِ الكلام الذي يضارعُ القولَ وهو له في اللفظِ مخالفٌ، كقولِهم: ناديتُ ألَّا تَقُمْ. و: حلَفتُ ألَّا تجلسْ. وما أشبهَ ذلك من الكلامِ.

وقال: [خفَض البخلَ]

(3)

مَن رَوَى: أبى جودُه لا البخلِ. بمعنى: كلمةَ البخلِ؛ لأن "لا" هي كلمةُ البخلِ، فكأنه قال: كلمةَ البخلِ.

وقال بعضُهم: معنى المنعِ الحولُ بينَ المرءِ وما يريدُه. قال: والممنوعُ مضطرٌّ

(4)

إلى خلافِ ما مُنِعَ منه، كالممنوعِ مِن القيامِ وهو يريدُه، فهو مضطرٌّ مِن الفعلِ إلى ما كان خلافًا للقيامِ، إذ كان المختارُ للفعلِ هو الذي له السبيلُ إليه وإلى خلافِه، فيُؤثِرُ أحدَهما على الآخرِ فيفعلُه. قال: فلما كانت صفةُ المنعِ ذلك، فخوطِب إبليسُ بالمنعِ، فقيل له:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} . كان معناه: كأنه قيل له: أيُّ شيءٍ اضطرَّك إلى ألا تسجدَ؟

والصوابُ عندى مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إِنَّ في الكلامِ محذوفًا قد كَفَى دليلُ الظاهرِ منه، وهو أن معناه: ما مَنَعك من السجودِ فأحْوجَك ألا تسجدَ؟ فتَرَك ذكرَ "أحْوجك" استغناءً بمعرفةِ السامعين قولَه: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ

(1)

ينظر تعريف الصلة في 1/ 191.

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

في م: "بعض".

(4)

بعده في م: "به".

ص: 84

السَّاجِدِينَ}. أن ذلك معنى الكلامِ، من ذكره، ثم عَمِلَ قولُه:{مَا مَنَعَكَ} . في "أنْ" ما كان عاملًا فيه قبلَ "أحْوجَك" لو ظَهَر، إذ كان قد نابَ عنه.

وإنما قلنا: هذا القولُ أولى بالصوابِ؛ لِما قد مَضَى مِن دلالتِنا قبلُ على أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ في كتابِ اللهِ شيءٌ لا معنَى له، وأن لكلِّ كلمةٍ معنًى صحيحًا، فبَيِّنٌ

(1)

بذلك فسادُ قولِ مَن قال: "لا" في الكلامِ حشوٌ لا معنَى لها.

وأما قولُ مَن قال: معنى المنعِ ههنا القولُ، فلذلك دخلَت "لا" مع "أن". فإن المنعَ وإن كان قد يكونُ قولًا وفعلًا، فليس المعروفَ في الناسِ استعمالُ المنعِ في الأمرِ بتركِ شيءٍ؛ لأن المأمورَ بتركِ الفعلِ إذا كان قادرًا على فعلِه وتركِه، ففعَلَه، لا يقالُ: فَعَله وهو ممنوعٌ مِن فعلِه. إلا على اسْتكراهٍ للكلامِ. وذلك أن المنعَ من الفعلِ حَوْلٌ بينَه وبينَه، فغيرُ جائزٍ أن يكونَ وهو مَحُولٌ بينَه وبينه فاعلًا له؛ لأنه إن جازَ ذلك وَجَب أن يكونَ محولًا بينَه وبينَه، لا مَحولًا، وممنوعًا لا ممنوعًا.

وبعدُ، فإن إبليسَ لم يأتمِرْ لأمرِ اللهِ بالسجودِ لآدمَ كِبْرًا، فكيف كان يأتمرُ لغيرِه في تركِ أمرِ اللهِ وطاعتِه بتركِه السجودَ لآدمَ، فيجوزَ أن يقالَ له: أيُّ شيءٍ قال لك: لا تسجُدْ لآدمَ إذ أمرتُك بالسجودِ له

(2)

؟ ولكن معناه إن شاء اللهُ ما قلتُ: ما منَعَك من السجودِ له فأحْوجَك، أو: فأخْرجك، أو: فاضْطرَّك إلى ألا تسجُدَ له. على ما بَيَّنتُ.

[وأمّا قولُه]

(3)

: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} . فإنه

(4)

خبرٌ مِن

(1)

في م: "فتبين".

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

في الأصل: "القول في تأويل قوله عز وجل: قال".

(4)

في الأصل: "وهذا".

ص: 85

اللهِ جلّ ثناؤه عن جوابِ إبليسَ إياه إذ سأله ما الذي منَعه من السجودِ لآدمَ فأحْوجَه إلى ألا يسجدَ له، واضْطرَّه إلى خلافِه [أمرَ ربِّه]

(1)

، وتركه طاعتَه، أن المانعَ كان له من السجودِ، والداعيَ له إلى خلافِ أمرِ ربِّه في ذلك، أنه أشدُّ منه أيْدًا

(2)

، وأقوى منه قوةً، وأفضلُ منه فضلًا؛ لفضلِ الجنسِ الذي منه خُلِقَ، وهو النارُ، على

(3)

الذي منه خُلِق آدمُ، وهو الطينُ، فجَهِلَ عدوُّ اللهِ وجهَ الحقِّ، وأخْطأ سبيلَ الصوابِ، إذ كان معلومًا أن مِن جوهرِ النارِ الخِفَّةَ والطيشَ والاضْطرابَ والارتفاعَ علوًّا، والذي في جوهرِها مِن ذلك هو الذي حَمَل الخبيثَ بعد الشقاءِ الذي كان

(4)

سَبَق له مِن اللهِ في الكتابِ السابقِ، على الاستكبارِ عن السجودِ لآدمَ، والاسْتخْفافِ بأمرِ ربِّه، فأورَثَه العَطَبَ والهلاكَ، وكان معلومًا أن مِن جوهرِ الطينِ الرَّزانةَ والأناةَ والحلمَ والحياءَ والتثبُّتَ، وذلك الذي [هو مِن]

(5)

جوهرِه من ذلك، كان الداعيَ لآدمَ، بعدَ السعادةِ التي كانت سَبَقَت له مِن ربِّه في الكتابِ السابقِ، إلى التوبةِ مِن خطيئتِه، ومسألتِه ربَّه العفوَ عنه والمغفرةَ. ولذلك كان الحسنُ وابنُ سيرينَ يقولان: أولُ مَن قاسَ إبليسُ. يعنيان بذلك القياس الخطأَ. وهو هذا الذي ذكرنا من خطإِ قولِه، وبُعْدِه مِن إصابةِ الحقِّ، في الفضلِ الذي خَصَّ اللهُ به آدمَ على سائرِ خلقِه، من خلقِه إياه بيدِه، ونفخِه فيه مِن روحه، وإسجادِه له ملائكتَه، وتعليمِه أسماءَ كلِّ شيءٍ، مع سائرِ ما خَصَّه اللهُ به مِن كرامتِه، فضَرَبَ عن ذلك كلِّه الجاهلُ صفحًا، وقَصَدَ إلى الاحتجاجِ بأنه خُلِقَ مِن نارٍ وخُلِقَ آدمُ من طينٍ، وهو في ذلك أيضًا له غيرُ كُفْءٍ، لو لم يكنْ لآدمَ مِن اللهِ تَكْرِمةٌ بشيءٍ غيرِه، فكيف والذي خُصَّ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أمره به".

(2)

في م: "يدا". والأيد: القوة. اللسان (أ ى د).

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، وفى م:"من".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في م: "في".

ص: 86

به مِن كرامتِه يكثرُ تعدادُه، ويُمَلُّ إحصاؤُه.

حدَّثني عمرُو بنُ مالكٍ

(1)

، قال: ثنا يحيى بنُ سُلَيْمٍ الطائفيُّ، عن هشامٍ، عن ابن سيرينَ، قال: أَوَّلُ مَن قاسَ إبليسُ، وما عُبِدَت الشمسُ والقمرُ إلا بالمقاييسِ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ، عن ابن شَوْذَبٍ، عن مطرٍ الورَّاقِ، عن الحسنِ قولَه:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} . قال: قاسَ إبليسُ، وهو أولُ من قاسَ

(3)

.

وبنحوِ ما

(4)

قلنا في تأويلِ

(5)

ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكر من قال ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عمارةَ، عن أبي روقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: لمَّا خَلَقَ الله آدمَ قال للملائكةِ الذين كانوا مع إبليسَ خاصةً دونَ الملائكةِ الذين في السماواتِ: اسْجُدُوا لآدمَ. فسَجَدوا كلُّهم أجمعون، إلا إبليسَ [أبَى و]

(6)

استكبَر، لما كان [حدَّثَتْه به]

(7)

نفسُه مِن كبرِه واعتزازِه

(8)

. فقال: لا أسجدُ له، وأنا خيرٌ منه، وأكبرُ سِنًّا، وأقوى خَلْقًا؛ {خَلَقْتَنِي مِنْ

(1)

بعده في الأصل: "المرى".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 86، والدارمي 1/ 65، من طريق يحيى بن سليم، عن داود بن أبي هند، عن ابن سيرين به. وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 388 عن المصنف، وقال: إسناده صحيح.

(3)

أخرجه الدارمى 1/ 65 عن محمد بن كثير به. وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 388 عن المصنف، وقال: إسناده صحيح.

(4)

في م: "الذي".

(5)

سقط من: م، ف.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"حدث".

(8)

في م: "اغتراره" بالغين والراء.

ص: 87

نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}. يقولُ: إن النارَ أقوى مِن الطينِ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} . قال: ثم جَعَل ذرِّيتَه مِن ماءٍ.

وهذا الذي قاله عدوُّ اللهِ ليس لِما سألَه عنه بجوابٍ، وذلك أن الله تعالى ذكرُه قال له: ما مَنَعك من السجودِ؟ فلم يُجِبْ بأن الذي منعه من السجودِ أنه خُلِقَ مِن نارٍ وخُلِقَ آدمُ من طينٍ، ولكنه ابتدَأ خبرًا عن نفسِه، فيه دليلٌ على موضعِ الجواب، فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .

‌القول في تأويلِ قوله عز وجل: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} .

يعنى بذلك جلَّ ثناؤُه: قال اللهُ لإبليسَ عندَ ذلك: فاهْبِطْ منها.

وقد بَيَّنا معنى الهبوطِ فيما مَضَى قبلُ بما أغنَى عن إعادتِه

(1)

.

{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فقال اللهُ له: اهبِطْ منها. يعنى من الجنةِ، {فَمَا يَكُونُ لَكَ}. يقولُ: فليس لك أن تستكبرَ في الجنةِ عن أمرى وطاعتى.

فإن قال قائلٌ: وهل لأحدٍ أن يَتَكَبَّرَ [عن أمرِ اللهِ وطاعتِه في غيرِ الجنةِ فيقالَ: ليس لك أن تتكبَّرَ]

(2)

في الجنةِ؟

قيل: إن معنى ذلك بخلافِ ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: فاهبِطْ مِن الجنةِ؛ فإنه لا يسكُنُ الجنةَ مُتَكَبِّرٌ عن أمرِ اللهِ، فأما غيرُها، فإنه قد يَسْكُنُها المستكبرُ

(1)

تقدم في 1/ 571.

(2)

سقط من: ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 88

عن أمرِ اللهِ والمستكينُ لطاعتِه.

وقولُه: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} . يقولُ: فاخرُجْ مِن الجنةِ، إنك من الذين قد نالَهم مِن اللهِ الصَّغَارُ، وذلك

(1)

الذلُّ والمَهانةُ. يقالُ منه: صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وصَغَارًا وصُغْرانًا. وقد قيل: صَغُرَ يَصْغُرُ صَغَارًا وصَغَارَةً. وبنحوِ ذلك

(2)

قال السديُّ.

حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} : والصَّغَارُ هو الذلُّ.

‌القولُ في تأويل قولِه عز وجل: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} .

وهذه

(3)

جَهْلةٌ أُخرى من جَهَلاتِه الخبيثِ

(4)

، سأل ربَّه ما قد علِم أنه لا سبيلَ لأحدٍ من خلقِ اللهِ إليه، وذلك أنه سأل النَّظِرةَ إلى قيامِ الساعةِ، وذلك هو يومُ يَبْعَثُ اللهُ فيه الخلقَ، ولو أُعطِى ما سأل مِن النَّظرةِ، كان قد أُعطِي الخلودَ، وبقاءً لا فناءَ معه، وذلك أنه لا موتَ بعد البعثِ.

فقال جلّ ثناؤُه له: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 37، 38، ص: 80، 81]. وذلك إلى اليومِ الذي قد كَتَبَ اللهُ عليه فيه الهلاكَ والموتَ والفناءَ؛ لأنه لا شيءَ يَبْقَى فَلا يَفْنَى، غيرُ رَبِّنَا الحَيِّ الذي لا يموتُ. يقولُ اللهُ:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57].

والإنظارُ في كلام العرب التأخيرُ، يقالُ منه: أنظرتُه بحقِّى عليه، أُنْظِرُه به إنْظارًا.

(1)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.

(2)

في م: "الذي قلنا".

(3)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"أيضا".

(4)

في م: "الخبيثة".

ص: 89

فإن قال قائلٌ: فإن الله تبارك وتعالى قد قال له إذ سأله الإنظارَ إلى يومِ يُبْعَثون: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} . في هذا الموضعِ، فقد أجابه إلى ما سأل؟

قيل

(1)

: ليس الأمرُ كذلك، وإنما كان يكونُ

(2)

مُجِيبًا له إلى ما سأل لو كان قال له: إنك مِن المُنْظَرِين إلى الوقتِ الذي سألتَ، أو إلى يومِ البعثِ، أو إلى يومِ يُبْعَثون. أو ما أشبهَ ذلك مما يدلُّ على إجابتِه إلى ما سأل مِن النَّظِرةِ.

فأما قولُه: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} . فلا دليلَ فيه لولا الآيةُ الأخرى التي قد بَيَّن فيها مدةَ إنظارِه إياه إليها، وذلك قولُه:{إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} . كم

(3)

المدةُ التي أنْظَره إليها؛ لأنه إذا أَنْظَرَه يومًا واحدًا أو أقلَّ منه أو أكثرَ، فقد دَخَلَ في عِدادِ المُنْظَرين، وتَمَّ فيه وعدُ اللهِ الصادقُ، ولكنه بَيَّنَ قدرَ مدةِ ذلك بالذي ذكرنا، فعُلِمَ بذلك الوقتُ الذي أُنْظِر إليه.

وبنحوِ ذلك كان السديُّ يقولُ.

حدثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 36 - 38، ص: 79 - 81]. فلم يُنْظِرْه إلى يوم البعثِ، ولكن أنظَرَه إلى يومِ الوقتِ المعلومِ، وهو يومُ يُنفخُ في الصورِ النفخةُ الأولى، فصَعِقَ مَن في السماواتِ ومَن في الأرضِ فماتَ

(4)

.

فتأويلُ الكلامِ: قال إبليسُ لربِّه: {فَأَنْظِرْنِي} . أي: أَخِّرْنى وأَجِّلْنى:

(1)

بعده في م: "له".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، وفى م:"على".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى ابن أبي حاتم دون قوله: وهو يوم ينفخ في الصور ....

ص: 90

وأنْسِئْ في أَجَلى، فلا تُمِتْنى {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. يقولُ: إلى يومِ يُبْعَثُ الخَلقُ. فقال تعالى ذكرُه: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} : إلى يوم يُنْفَخُ في الصورِ فَيَصْعَقُ مَن في السماواتِ ومَن في الأرضِ إلا مَن شاء اللهُ.

فإن قال قائلٌ: وهل أحدٌ مُنْظَرٌ إلى ذلك اليومِ سوى إبليسَ فيقالَ له: إنك منهم؟

قيل: نعم، مَن لم يقبضِ اللهُ روحَه من خلقِه إلى ذلك اليومِ ممن تقومُ عليه الساعةُ، فهو

(1)

مِن المُنْظَرين بآجالِهم إليه، ولذلك قيل لإبليسَ:{إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} . بمعنى: إنك ممن لا يُمِيتُه اللهُ إلا ذلك اليومَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} .

يقولُ جلّ ثناؤُه: قال إبليسُ لربِّه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} . يقولُ: [فبأَيِّ شيءٍ]

(2)

أضْلَلْتَني.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، قال:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} . يقولُ: أَضْلَلْتَنى

(3)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} . قال: فبما أضْللتني.

وكان بعضُهم يتأوَّلُ قولَه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} : بما أَهْلَكْتَنى. مِن قولِهم:

(1)

في م: "فهم".

(2)

في م: "فيما".

(3)

أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1002) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 72 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

ص: 91

غَوِيَ الفَصيلُ يَغْوَى غَوًى. وذلك إذا فَقَدَ اللبنَ فماتَ، من قولِ الشاعرِ

(1)

:

مُعَطَّفَةُ الأَثْنَاءِ

(2)

ليس فَصِيلُها

بِرازِئِها دَرًّا ولا مَيِّتٍ غَوَى

(3)

وأصلُ الإغواءِ في كلامِ العربِ تَزْيِينُ الرجلِ للرجلِ الشيءَ حتى يُحَسِّنَه عندَه، غارًّا له به

(4)

.

وقد حُكِى عن بعضِ قبائلِ طيِّئ أنها تقولُ: أصبح فلانٌ غاوِيًا. أي: أصبَح مريضًا.

وكان بعضُهم يتأوَّلُ ذلك أنه بمعنى القَسَمِ، كأن معناه عندَه: فبإغْوائِك إياى لأقعدنَّ لهم صراطَك المستقيمَ. كما يقالُ: باللهِ لأفعلنَّ كذا.

وكان بعضُهم يتأوَّلُ ذلك أنه بمعنى المُجازاةِ، كأن معناه عندَه: فلأَنك أغويتَنى، أو: فبأنك أغويتَنى، لأقعدنَّ لهم صراطَك المستقيمَ.

وفى هذا بيانٌ واضحٌ على فساد ما يقولُ القَدريَّةُ، مِن أن كلَّ مَن كَفَر أو آمَن فبتفويضِ اللهِ أسبابَ ذلك إليه، وأن السببَ الذي به يصِلُ المؤمنُ إلى الإيمانِ هو السببُ الذي به

(5)

يصل الكافرُ إلى الكفرِ. وذلك أن ذلك لو كان كما قالوا: لكان الخبيثُ قد قال بقولِه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} : فبما أصْلَحتَنى. إذ كان سببُ الإغواء هو سببَ الإصلاحِ، وكان في إخبارِه عن الإغواءِ إخبارٌ عن

(1)

هو مدرج الريح، عامر بن المجنون الجرمي، والبيت في إصلاح المنطق ص 189، 203، وتهذيبه 2/ 54، والمعاني الكبير 2/ 1047، والمخصص 7/ 41، 180 (المجلد الثاني). وينظر الشعر والشعراء 2/ 736.

(2)

في المعانى الكبير "الأذناب".

(3)

يصف قوسًا، قال التبريزى في تهذيبه: أثناؤها: أطرافها الملتئبة، ورازئها، أي: أخذ منها شيئا، ليس فصيل هذه القوس يشرب منها لبنا كفصيل الناقة، ولا يؤذيه كثرة الشرب، يريد أنه لا يشرب في حال من الأحوال.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

سقط من: م.

ص: 92

الإصلاحِ، ولكن لما كان سبباهما مختلفَين، وكان السببُ الذي به غَوَى وهَلَكَ مِن عندِ اللهِ، أضافَ ذلك إليه فقال:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} .

ولذلك

(1)

قال محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظِيُّ ما

(2)

حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسروقيُّ، قال: ثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، قال: قال

(3)

أبو مودودٍ: سمعتُ محمدَ بنَ كعبٍ القُرَظيَّ يقولُ: قاتَلَ اللهُ القَدَريةَ، لإبليسُ أعلمُ باللهِ منهم.

وأما قولُه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} . فإنه يقولُ: لأَجْلِسنَّ لبنى آدمَ صراطَك المستقيمَ. يعنى: طريقَك القويمَ، وذلك دينُ الله الحقُّ، وهو الإسلامُ وشرائعُه.

وإنما معنى الكلام: لأَصُدَّنَّ بني آدمَ عن عبادتك وطاعتِك، ولأُغْوينَّهم كما أَغْويتَنِي، ولأُضِلَّنَّهم كما أضْلَلْتَني.

وذلك كما رُوِى عن [سَبْرةَ بن أبى]

(4)

الفاكهِ أنه سمِع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إن الشيطانَ قَعَدَ لابنِ آدمَ بأَطْرُقِه

(5)

، فَقَعَدَ له بطريقِ الإسلامِ، فقال: أَتُسْلِمُ وتَذَرُ دينَك ودينَ آبائِك؟ فَعَصاه فأسْلمَ، ثم قَعَدَ له بطريقِ الهجرةِ، فقال: أتهاجرُ وتذرُ أرضَك وسماءَك، وإنما مَثَلُ المهاجرِ كالفرسِ في الطِّوَلِ

(6)

؟ فعصاه وهاجَرَ، ثم قَعَدَ له بطريقِ الجهادِ، وهو جَهْدُ النفسِ والمالِ، فقال: أتقاتلُ

(7)

فَتُقْتَلُ،

(1)

في م: "كذلك".

(2)

في م: "فيما".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ثنا".

(4)

في م: "سبرة بن". وهو قول في اسمه. وينظر تهذيب الكمال 10/ 202.

(5)

جمع طريق على التأنيث لأن الطريق تذكر وتؤنث؛ وجمعه على التذكير: أطرقة. ينظر النهاية 3/ 123.

(6)

قال السندى - بحاشية سنن النسائي -: هو الحبل الذي يشد أحد طرفيه في وتد والطرف الآخر في يد الفرس

ومقصوده أن المهاجر يصير كالمقيد في بلاد الغربة لا يدور إلا في بيته ولا يخالطه إلا بعض معارفه.

(7)

في الأصل: "تقاتل".

ص: 93

فَتَنْكَحُ المرأةُ، ويُقْسَمُ

(1)

المالُ؟ قال: فَعَصاه فجاهَدَ"

(2)

.

ورُوِيَ عن عونِ بن عبدِ اللهِ في ذلك ما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حَبُّويه

(3)

أبو يزيدَ، عن عبدِ اللهِ بن بكيرٍ، عن محمدِ بن سُوقةَ، عن عونِ بن عبدِ اللهِ:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: طريقَ مكةَ

(4)

.

والذي [قال عونٌ من ذلك]

(5)

، وإن كان من صراطِ اللهِ المستقيمِ، فليس هو الصراطَ كلَّه. وإنما أخبرَ عدوُّ اللهِ أنه يقعُدُ لهم صراطَ اللهِ المستقيمَ، ولم يَخْصُصْ منه شيئًا دونَ شيءٍ. فالذى رُوِىَ في ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أشبهُ بظاهرِ التنزيلِ، وأوْلى بالتأويلِ؛ لأن الخبيثَ لا يَأْلو عبادَ اللهِ الصَّدَّ عن كلِّ ما كان لهم قُرْبةً إلى اللهِ عز وجل.

وبنحوِ ما قلنا

(6)

قال أهلُ التأويلِ في معنى "المستقيمِ" في هذا الموضعِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: الحقَّ

(7)

.

(1)

في الأصل: "يقتسم".

(2)

أخرجه أحمد 25/ 315 (15958)، والبخارى في التاريخ الكبير 4/ 187، والنسائي (3134)، وابن حبان (4593)، والطبراني في الكبير (6558)، والبيهقى في الشعب (4246).

(3)

في م: "حيوة"، وفى ف:"حبوة". ينظر الإكمال لابن ماكولا 2/ 358.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبي الشيخ.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قاله".

(6)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"في ذلك".

(7)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 72 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. وهو في تفسير مجاهد ص 333 بلفظ: يعنى الإسلام، والدين الحق.

ص: 94

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المدنيُّ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} . قال: سبيلَ الحقِّ، فَلأُضلَّنهم إلا قليلًا.

واختلف أهلُ العربيةِ في ذلك؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: معناه: لأقعُدنَّ لهم على صراطِك المستقيمِ. كما يقالُ: تَوجَّه مكةَ. أي: إلى مكةَ، كما قال الشاعرُ

(1)

:

كأَنِّي إِذْ أَسْعَى لأَظْفَرَ طائرًا

مع النَّجْمِ في

(2)

جَوِّ السماءِ يَصُوبُ

بمعنى: لأظفَرَ بطائرٍ. فألقَى الباءَ. وكما قال جل ثناؤُه: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 150]. بمعنى: أَعَجِلتُم عن أمرِ ربِّكم.

وقال بعضُ نحويِّي الكوفيين

(3)

: المعنى واللهُ أعلمُ: لأقعُدنَّ لهم على طريقِهم. وفي طريقِهم. قال: وإلقاءُ الصفةِ من هذا جائزٌ، كما تقولُ: قعَدتُ لك وجهَ الطريقِ، وعلى وجهِ الطريقِ؛ لأن الطريقَ صفةٌ

(4)

في المعنى، فاحْتمَل ما يحتمِلُه اليومُ والليلةُ والعامُ، إذ قيل: آتِيك غدًا، وآتيك في غدٍ.

وهذا القولُ هو أَولى القولين في ذلك

(5)

بالصوابِ؛ لأن القعودَ مُقْتَضٍ مكانًا

(1)

التبيان 4/ 364.

(2)

في م: "من".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الكوفة". وهو قول الفراء في معاني القرآن 1/ 375.

(4)

يقصد بالصفة في الموضع الأول حرف الجر، وفي الموضع الثاني الظرف.

وينظر المصحح النحوي ص 177، 178.

(5)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عندي".

ص: 95

يُقْعَدُ فيه، فكما يقالُ:[قعدتُ مكانَك. كذلك يقالُ: قعَدتُ صراطَك. وكما يقالُ: قعَدتُ في مكانِك. يقالُ: قعَدتُ على صراطِك]

(1)

، وفي صراطِك. كما قال الشاعرُ

(2)

:

لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفُّ يَعْسِلُ مَنْتُهُ

فيه

(3)

كما عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

(4)

ولا تكادُ العربُ تقولُ ذلك في أسماءِ البلدانِ، لا يكادون يقولون: جلستُ مكةَ، [أو: قعَدتُ]

(5)

بغدادَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} .

اخْتلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى قولِه: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : مِن قِبَلِ الآخرةِ، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: مِن قِبَلِ الدنيا، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: مِن قِبَلِ الحقِّ، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: مِن قِبَلِ الباطلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} . يقولُ: أُشَكِّكُهم في آخرتِهم، {وَمِنْ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"قعدت في مكانك، يقال قعدت على صراطك، وفى صراطك". وكذا في ف إلا أن فيها: "صراطك في صراطك".

(2)

هو ساعدة بن جؤية الهذلي، والبيت في ديوان الهذليين 1/ 190.

(3)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فيها".

(4)

في الديوان: "لذٌّ" مكان: "لدن". واللدن: اللين الناعم. ولذ: تلَذُّ الكفُّ بهزه. يعسل: أي يضطرب. كما عسل الطريق الثعلب: أي في الطريق، وهو اضطرابه. شرح أشعار الهذليين 3/ 1120، وينظر خزانة الأدب 3/ 85.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"وقمت"، وفى ب:"وقعدت".

ص: 96

خَلْفِهِمْ}: [أُرَغِّبُهم في دنياهم]

(1)

، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أُشَبِّهُ عليهم أمرَ دينِهم، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: أُشَهِّى لهم المعاصىَ

(2)

.

وقد رُوِى عن ابن عباس بهذا الإسنادِ في تأويلِ ذلك خلافُ هذا التأويلِ.

وذلك ما حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : يعنى مِن الدنيا، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: مِن الآخرةِ، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: مِن قِبَلِ حسناتِهم، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: مِن قِبَلِ سيئاتِهم

(3)

.

وتُحَقِّقُ [بهذه الروايةِ]

(4)

الروايةُ الأخرى التي حدَّثني بها محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}. قال: أما {مِنْ

(5)

بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: فمِن [قِبَلِ دنياهم]

(6)

، وأما {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: فأمرُ آخرتِهم، وأما {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: فمِن قِبَلِ حسناتِهم، وأما {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: فمِن قِبَلِ سيئاتِهم

(7)

.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآية: أتاهم مِن بين أيديهم فأخْبَرَهم أنه لا بعثَ ولا جنةَ ولا نارَ،

(1)

في تفسير ابن أبي حاتم، والدر المنثور:"فأرغبهم عن دينهم".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1444، 1445 (8245، 8248، 8253) من طريق أبي صالح به، وليس فيه تفسير:{وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} . وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 390.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"هذه الرواية".

(5)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قبلهم".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1444، 1445 (8244، 8250، 8255، 8258) من طريق سلمة بن شابور عن عطية به.

ص: 97

{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : مِن أمرِ الدنيا، فزيَّنها لهم، ودعاهم إليها، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: مِن قِبَلِ حسناتِهم؛ بطَّأهم عنها، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: زيَّن لهم السيئاتِ والمعاصيَ، ودعاهم إليها، وأمَرَهم بها، أتاك يا بنَ آدمَ مِن كلِّ وجهٍ، غيرَ أنه لم يَأْتِك مِن فوقِك، [لم يَسْتَطِعْ]

(1)

أن يَحُولَ بينَك وبينَ رحمةِ اللَّهِ

(2)

.

وقال آخرون: بل معنى قولِه: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : مِن قِبَلِ دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: مِن قِبَلِ آخرتِهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ قولَه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} . قال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : مِن قِبَلِ دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: مِن قِبَلِ آخرتِهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: مِن قِبَلِ حسناتِهم، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: مِن قِبَلِ سيئاتِهم

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن الحكمِ:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} . قال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : مِن دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: مِن آخرتِهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: عن

(4)

حسناتِهم، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: مِن قِبَلِ سيئاتِهم

(5)

.

(1)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 3090.

(3)

تفسير سفيان ص 111.

(4)

في م: "من".

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1444 - 1446 عقب الآثار (8244، 8251، 8256، 8260) معلقا.

ص: 98

حدَّثنا سفيانُ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} . قال: مِن قِبَلِ الدنيا يُزَيِّنُها لهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: مِن قِبَلِ الآخرةِ، يُثَبِّطُهم

(1)

عنها، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: مِن قِبَلِ الحقِّ، يَصُدُّهم عنه، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: مِن قِبَلِ الباطلِ، يُرَغِّبُهم فيه، ويُزَيِّنُه لهم.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} : أما {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : فالدنيا أَدْعُوهم إليها، وأُرَغِّبُهم فيها، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: فمِن الآخرةِ، أُشَكِّكُهم فيها، وأُباعِدُها

(2)

عليهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: يعنى الحقَّ، فأُشَكِّكُهم فيه، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: يعنى الباطلَ، أُخَفِّفُه عليهم، وأُرَغِّبْهم فيه

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : مِن دُنْياهم، أُرَغِّبُهم فيها، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: آخرتِهم، أُكَفِّرُهم بها، وأُزَهِّدُهم فيها، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: حسناتِهم، أُزَهِّدُهم فيها، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: مَساوِى أعمالِهم، أُحَبِّبُها

(4)

إليهم.

وقال آخرون: بل

(5)

معنى ذلك: لآتِيَنَّهم

(5)

مِن حيث يُبْصِرون ومن حيث لا يُبْصِرون.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يبطئهم".

(2)

في م: "أبعدها".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1444، 1445 عقب الأثر 8244، 8251 من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به، وليس فيه تفسير:{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} .

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أحسنها".

(5)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 99

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرِو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} - {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} . قال: حيث يُبْصِرون، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} - {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: حيث لا يُبْصِرون

(1)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المَدَنيُّ، قال: قال مجاهدٌ. فذكَر نحوَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ وابنُ حُميدٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، قال: تَذاكَرْنا عندَ مجاهدٍ قولَه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} . [فقال مجاهدٌ: هو كما قال: يَأْتِيهم مِن بين أيديهم ومِن خلفِهم وعن أيمانِهم وعن شمائِلهم]

(2)

، زاد ابن حميدٍ، قال: يَأْتِيهم مِن ثَمَّ.

وأولى هذه الأقوالِ عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: ثم لآتِيَنَّهم مِن جميعِ وجوهِ الحقِّ والباطلِ، فأَصُدُّهم عن الحقِّ، وأُحَسِّنُ لهم الباطلَ. وذلك أن ذلك عَقِيبُ قولِه:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} . فأخْبَر أَنه يَقْعُدُ لبنى آدمَ على الطريقِ الذي أمَرَهم اللَّهُ أن يَسْلُكوه، وهو ما وصَفْنا مِن دينِ اللَّهِ دينِ

(3)

الحقِّ، فيَأْتِيهم في ذلك مِن كلِّ وُجوهِه، مِن الوجهِ الذي أمَرَهم اللَّهُ به، فيَصُدُّهم عنه، وذلك {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} - {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} ، ومِن الوجهِ الذي نهاهم اللَّهُ عنه، فيُزَيِّنُه لهم، ويَدْعُوهم إليه، وذلك {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} - {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} .

(1)

تفسير مجاهد ص 334، من طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1444 - 1446 (8247، 8252، 8257، 8261).

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

سقط من: م.

ص: 100

وقيل: ولم يَقُلْ: مِن فوقِهم؛ لأن رحمةَ اللَّهِ تَنْزِلُ على عبادِه مِن فوقِهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} . ولم يَقُلْ: مِن فوقِهم؛ لأن الرحمةَ تَنْزِلُ مِن فوقِهم

(1)

.

وأما قولُه: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} . فإنه يقولُ: ولا تَجِدُ يا

(2)

ربِّ أكثرَ بني آدمَ شاكرين لك نعمتَك التي أنْعَمْتَ عليهم، بتَكْرمتِك

(3)

أباهم آدمَ بما أكْرَمْتَه به، مِن إسجادِك له ملائكتَك، وتفضيلِك إياه عليَّ. وشكرُهم إياه طاعتُهم له بالإقرارِ بتوحيدِه، واتِّباعِ أمرِه ونهيِه.

وكان ابن عباسٍ يقولُ في ذلك بما حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} . يقولُ: مُوَحِّدِين

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} .

وهذا خبرٌ مِن اللَّهِ جل ثناؤُه عن إحلالِه بالخبيثِ عدوِّ اللَّهِ ما أحَلَّ به مِن نِقْمتِه ولعنتِه، وطردِه إياه عن جنتِه، إذ عصاه وخالَف أمرَه، وراجَعَه مِن الجوابِ بما لم تَكُنْ

(1)

أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (661) من طريق الحكم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى عبد بن حميد.

(2)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.

(3)

في م: "كتكرمتك".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1446 (8263) من طريق عبد الله بن صالح به. وهو في الدر المنثور 3/ 73 من تمام الأثر المتقدم في ص 97.

ص: 101

له مراجعتُه به

(1)

. قال اللَّهُ تبارك وتعالى له

(2)

عندَ ذلك: {اخْرُجْ مِنْهَا} . أي: مِن الجنةِ، {مَذْءُومًا}. يقولُ: مَعِيبًا.

والذَّأْمُ العيبُ، يقالُ منه: ذأَمَه يَذْأَمُه ذأْمًا، فهو مَذْءُومٌ، ويَتْرُكون الهمزَ، فيقولون: ذِمْتُه أَذِيُمه ذَيْمًا وذامًا. والذَّأْمُ، والذَّيْمُ أبلغُ في العيبِ مِن الدمِّ، وقد أنْشَد بعضُهم هذا البيتَ

(3)

:

صحِبْتُك إذ عَيْنِي عليها غِشاوةٌ

فلمَّا انْجَلَت قطَّعْتُ نفسي أَذِيمُها

وأكثرُ الرُّواةِ على إنشادِه

(4)

: أَلومُها.

وأما المدحورُ فهو المُقْصَى، يقالُ: دحَرَه يَدْحَرُه دَحْرًا ودُحُورًا، إِذا أقْصَاه وأخْرَجَه. ومنه قولُهم: ادْحَرْ عنك الشيطانَ.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} . يقولُ: اخْرُجْ منها

(5)

لَعِينًا منفيًّا

(6)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يقول".

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

تقدم في 1/ 271.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إنشادها".

(5)

في ص ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عنها".

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى ابن المنذر وعبد بن حميد وابن أبي حاتم بلفظ: "معيبا منفيا". وهو عند ابن أبي حاتم 5/ 1447 (8270) من طريق سعيد عن قتادة مقتصرا على قوله: "معيبا".

ص: 102

{مَذْءُومًا} : مَمْقوتًا

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} . يقولُ: صغيرًا مقيتًا

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} . أما {مَذْءُومًا} فمقيتًا

(3)

، وأما {مَدْحُورًا} فمطرودًا

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَذْءُومًا} . قال: مَنْفيًّا

(5)

، {مَدْحُورًا}. قال: مطرودًا

(6)

.

[حدَّثني المُثَنَّى، قال: حدَّثني أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه]

(7)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1447 (8269) من طريق عبد الله بن صالح به. بلفظ: "ملوما".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3 س ف:"منفيا".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1447 (8267، 8272) عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى أبى الشيخ.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فمنفيا".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 392.

(5)

في الأصل: "مقيتا".

(6)

تفسير مجاهد ص 334، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1447 (8268) مقتصرا على أوله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 73 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(7)

سقط من ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 103

الربيعِ في قولِه: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا

(1)

}. قال: {مَذْءُومًا}

(1)

: منفيًّا، والمدْحورُ

(2)

المُصَغَّرُ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ، عن ابن عُيينةَ، عن يونُسَ وإسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن التَّميميِّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا} . قال: مقيتًا

(4)

.

حدَّثني أبو عمرٍو القَرْقَسانيُّ عثمانُ بنُ يحيى بن عثمانَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن التَّميميِّ، سأَل ابنَ عباسٍ: ما {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} ؟ قال: مَقِيتًا

(5)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} . فقال: ما نَعْرِفُ

(6)

المذءومَ والمذمومَ إلا واحدًا، ولكن تكونُ الحروفُ

(7)

منتقصةً، و [قد قال الشاعرُ]

(8)

لعامر: يا عامِ، ولحارثٍ: يا حارِ، وإنما أُنْزِل القرآنُ على كلامِ العربِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} .

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 392.

(4)

في م: "منفيا".

(5)

في الأصل: "معيبا".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1446، 1447 (8266، 8271) من طريق سفيان به.

(6)

في ص: "يعرف".

(7)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، ومكانها بياض في ص، ف، س، وفى النسخ الأخيرة إشارة إلى الخطأ، ولم يبق من الكلمة في "ص" إلا الفاء فقط، والمثبت من الأصل.

(8)

في م: "قال العرب".

ص: 104

وهذا قَسَمٌ مِن اللَّهِ، أقْسَم أَن مَن تبِع

(1)

مِن بنى آدمَ عدوَّ اللَّهِ إبليسَ وأطاعه، وصدَّق ظنَّه عليه، أن يَمْلأَ مِن جميعِهم - يعنى مِن كفَرةِ بنى آدمَ و

(2)

تُبَّاعِ إبليسَ، ومِن إبليسَ وذريتِه - جهنمَ، فرحِم اللَّهُ امرَأً كذَّب ظَنَّ عدوِّ اللَّهِ في نفسِه، وخيَّب فيها أملَه وأمنيتَه، ولم يُمَكِّنْ

(3)

[مِن طمعٍ]

(4)

فيها عدوَّه، واسْتَغَشَّه ولم يَسْتَنْصِحْه، فإن اللَّهَ جل ثناؤُه إنما نبَّه بهذه الآياتِ عبادَه على قِدَمِ عَداوةِ عدوِّهم وعدوِّه إبليسَ لهم، وسالفِ ما سلَف مِن حسَدِه لأبيهم، وبغْيِه عليه وعليهم، وعرَّفهم مواقعَ نِعَمِه عليهم قديمًا، في أنفسِهم ووالدِهم؛ ليَدَّبَّروا آياتِه، ولِيَتَذَكَّرَ أُولو الألبابِ، فيَنْزَجِروا عن طاعةِ عدوِّه وعدوِّهم إلى طاعتِه ويُنِيبوا إليها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وقال اللَّهُ لآدمَ: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} ، منها

(5)

، فأسْكَن جلَّ ثناؤُه آدمَ وزوجتَه الجنةَ بعدَ أن أهْبَط منها إبليسَ وأَخْرَجه منها، وأباح لهما أن يَأْكُلا مِن ثمارِها، من أيِّ مكانٍ شاءا منها، ونهاهما أن يَقْرَبا ثمرَ شجرةٍ بعينِها.

وقد ذكَرْنا اختلافَ أهلِ التأويلِ في ذلك، وما نَرَى مِن القولِ فيه صوابًا، في غيرِ هذا الموضعِ، فكرِهْنا إعادتَه

(6)

.

(1)

في م: "اتبع".

(2)

سقط من: م.

(3)

في م: "يكن".

(4)

في م: "ممن أطمع".

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(6)

تقدم في 1/ 549 وما بعدها.

ص: 105

{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} . يقولُ: فتكونا

(1)

ممَّن خالَف أمْرَ ربِّه، وفعَل ما ليس له فعلُه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} : فوسْوَس إليهما. وتلك الوَسْوسةُ كانت قولَه لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} . وإقسامَه لهما على ذلك.

وقيل: وسوَس لهما، والمعنى ما ذكَرْتُ، كما قيل: غَرِضْتُ

(2)

إليه

(3)

، بمعنى: اشتقْتُ

(4)

إليه. وإنما يعنى: غَرِضْتُ

(5)

من هؤلاء إليه. فكذلك معنى ذلك: فوسْوَس مِن نفسِه إليهما الشيطانُ بالكذبِ مِن القيلِ؛ ليُبْدِيَ لهما ما وُورِى عنهما مِن سوءاتِهما. كما قال رُؤْبةُ

(6)

:

وَسْوَس

(7)

يَدْعُو مُخْلِصًا ربَّ الفَلَقْ

ومعنى الكلامِ: فحدَّث

(8)

إبليسُ إلى آدمَ و

(9)

حوَّاءَ، وألْقَى إليهما: ما نهاكما

(1)

في الأصل: "فتكون".

(2)

في الأصل، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عرضت". ينظر اللسان (غ ر ض) وهذا قول الأخفش.

(3)

في م: "له".

(4)

في م: "استبنت".

(5)

في النسخ: "عرضت". والمثبت كما تقدم.

(6)

ديوانه (مجموعة أشعار العرب) ص 108.

(7)

يقول: "لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس نفسه بالدعاء حذر الخيبة". اللسان (و س س).

(8)

في ص: "فجذب".

(9)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 106

ربُّكما عن أكلِ ثمرِ هذه الشجرةِ إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا مِن الخالدين؛ ليُبْدِيَ لهما ما واراه اللَّهُ عنهما مِن عوراتِهما فغطَّاه بسِتْرِه الذي ستَرَه عليهما.

وكان وهبُ بنُ مُنَبِّهٍ [فيما ذُكِر لنا عنه]

(1)

يقولُ في السترِ الذي كان اللَّهُ ستَرَهما به، ما حدَّثني به حَوْثَرةُ بنُ محمدٍ المِنْقَريُّ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن عمرٍو، عن ابن مُنَبهٍ في قولِه:{فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121]. قال: كان عليهما

(2)

نورٌ، لا تُرَى سوءاتُهما

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: وقال الشيطانُ لآدمَ وزوجتِه حَوَّاءَ: ما نها كما ربُّكما عن هذه الشجرةِ أن تَأْكُلا ثمرَها، إلا لئلا تكونا ملَكَيْن.

وأُسْقِطَت: "لا" مِن الكلامِ لدَلالةِ ما ظهَر عليها، كما أُسْقِطَت مِن قولِه:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. والمعنى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لكم ألَّا تَضِلُّوا.

وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ مِن أهلِ البصرةِ يَزْعُمُ أن معنى الكلامِ: ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرةِ إلا كراهيةَ أن تكونا ملَكين. كما يقالُ: إياك أن تَفْعَلَ: كراهيةَ أن تَفْعَلَ.

{أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} . في الجنةِ، الماكِثِين فيها أبدًا، فلا تَمُوتا.

والقرأةُ على فتحِ اللامِ من: {مَلَكَيْنِ} . بمعنى: ملَكَين مِن الملائكةِ.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في م: "عليها".

(3)

سيأتي تخريجه في ص 114.

ص: 107

ورُوِى عن ابن عباسٍ ما حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي حمادٍ، قال: ثنا عيسى الأعمى، عن السديِّ، قال: كان ابن عباسٍ يَقْرَأُ: (إلا أن تكونا مَلِكَيْن). بكسرِ اللامِ

(1)

.

وعن يحيى بن أبى كثيرٍ ما حدَّثني أحمدُ بنُ يوسُفَ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سلَّامٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ، قال: ثنى يَعْلَى بنُ حَكيمٍ، عن يحيى بن أبى كثيرٍ أنه قرَأَها:(مَلِكين). بكسرِ اللامِ

(2)

.

وكأن يحيى وابنَ عباسٍ وجَّها تأويلَ الكلامِ إلى أن الشيطانَ قال لهما: ما نَها كما ربُّكما عن هذه الشجرةِ إلا أن تكونا مَلِكَين مِن الملوكِ. أُراهما

(3)

تأوَّلا في ذلك قولَ اللَّهِ عز وجل في موضعٍ آخرَ: {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].

والقراءةُ التي لا أَسْتَجِيرُ القراءةَ في ذلك بغيرِها، القراءةُ التي عليها قرأةُ الأمْصارِ، وهى فتحُ اللامِ مِن {مَلَكَيْنِ} بمعنى: ملَكين مِن الملائكةِ؛ لما قد تقدَّم مِن بيانِنا في أن

(4)

ما كان مُسْتَفيضًا في قرأةِ الإسلامِ مِن القراءةِ، فهو الصوابُ الذي لا يَجوزُ خلافُه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَقَاسَمَهُمَا} : وحلَف لهما، كما قال في موضعٍ آخرَ:{تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49]. بمعنى: تَحالَفوا باللَّهِ. وكما قال

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 74 إلى المصنف. وينظر مختصر ابن خالويه ص 48.

(2)

وهي أيضا قراءة الحسن بن علي والضحاك والزهري وابن حكيم عن ابن كثير. ينظر البحر المحيط 4/ 279.

(3)

في م: "أنهما".

(4)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كل".

ص: 108

خالدُ بنُ زُهَيْرٍ ابن

(1)

عمِّ أبي ذُؤَيْبٍ

(2)

:

وقاسَمَها باللَّهِ جَهْدًا لأنتُمُ

ألَدُّ مِن السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها

(3)

بمعنى: وحالَفَها باللَّهِ. وكما قال أعْشَى بنى ثَعْلَبَةَ

(4)

:

رَضِيعَىْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقاسَما

(5)

بأسْحَمَ

(6)

داجِ عَوْضُ

(7)

لا نَتَفَرَّقُ

بمعنى: تَحالَفا.

وقولُه: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} : [إني لكما]

(8)

لممن يَنْصَحُ لكما في مَشورتِه لكما، وأمْرِه إياكما بأكلِ ثمرِ هذه

(9)

الشجرةِ التي نُهِيتُما عن أكلِ ثمرِها، وفي خبرِه

(10)

إيا كما بما أَخْبَرَ كما به، مِن أنكما إن أكَلْتُماه كنتما مَلَكين أو كنتما مِن الخالدين.

كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} : فحلَف لهما

(11)

باللَّهِ حتى خدَعَهما، وقد يُخْدَعُ المؤمنُ باللَّهِ، فقال: إنى خُلِقْتُ قبلَكما، وأنا أعْلَمُ منكما، فاتَّبِعاني

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

ديوان الهذليين 1/ 158.

(3)

السلوى هاهنا: العسل، والشَّوْر: أخذُ العسل. شرح أشعار الهذليين 1/ 215.

(4)

ديوانه ص 225.

(5)

في الديوان: "تحالفا".

(6)

اختلف في الأسحم هنا؛ فقيل: الدم تغمس فيه اليد عند التحالف، ويقال: بالرحم. ويقال: بسواد حلمة الثدى. ويقال: بزق الخمر. ويقال: هو الليل. اللسان (س ح م).

(7)

عوض: معناه الأبد، وهو للمستقبل من الزمان. الصحاح (ع و ض).

(8)

في م: "أي".

(9)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(10)

في م: "خبري".

(11)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لهم"

ص: 109

أُرْشِدْكما. وكان بعضُ أهلِ العلمِ يقولُ: مَن خادَعَنا بِاللَّهِ خُدِعْنا

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} : فخدَعَهما بغُرورٍ.

يقالُ منه: ما زال فلانٌ يُدَلِّى فلانًا

(2)

بغُرورٍ. بمعنى: ما زال يَخْدَعُه، بغُرورٍ، ويُكَلِّمُه بزُخْرفٍ مِن القولِ باطلٍ.

{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} . يقولُ: فلما ذاق آدمُ وحوَّاءُ ثمَرَ الشجرةِ، يقولُ: طعِماه. {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} . يقولُ: انْكَشَفَت لهما سوءاتُهما؛ لأنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أعراهُما من الكِسوةِ التي كان كَساهما قبلَ الذنبِ والخطيئةِ، فسَلَبَهما ذلك بالخطيئةِ

(3)

التي أخْطَأ و

(4)

المعصيةِ التي ركِبا، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا

(5)

مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}. [يقولُ: أقْبَلا وجعَلا يَشُدَّان عليهما مِن ورقِ الجنةِ]

(6)

؛ ليُوارِيا سوءاتِهما.

كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن إسرائيلَ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} ، [قال: جعَلا يَأْخُذان مِن ورقِ الجنةِ]

(7)

، فيَجْعَلان على سوءاتِهما.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ، وهو عند ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1451 (8296) من طريق سعيد عن قتادة عن مطرف من قوله دون أوله.

(2)

في الأصل: "لفلان".

(3)

في ت 1، ف:"الخطيئة".

(4)

في م: "أو".

(5)

في ص م: "عليها".

(6)

سقط من: الأصل.

(7)

مكرر في الأصل.

ص: 110

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، عن الحسنِ، عن أُبَيِّ بن كعبٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كان آدمُ كأَنه نَخْلَةٌ سَحُوقٌ

(1)

، كثيرُ شعَرِ الرأسِ، فلمَّا وقَع بالخَطيئةِ بدَت له عورتُه، وكان لا يَراها، فانْطَلَق فارًّا، فعرَضَت

(2)

له شجرةٌ، فحبَسَتَه بشعرِه، فقال لها: أرْسِلِيني. قالت

(3)

: لسْتُ بمُرْسِلتِك. فناداه ربُّه: يا آدمُ، أمنِّي تَفِرُّ؟ قال: لا [يا ربِّ]

(4)

، ولكنى أسْتَحْيِيك

(5)

".

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرَنا سفيانُ بنُ عيينةَ وابنُ مباركٍ، عن الحسنِ بن

(6)

عُمارةَ، عن المِنْهالِ بن عمرٍو، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت الشجرةُ التي نهَى اللَّهُ عنها آدمَ وزوجتَه السُّنْبُلةَ، فلمَّا أكَلا منها بدَت لهما سوءاتُهما، وكان الذي وارَى عنهما مِن سوءاتِهما أظفارُهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} ورقِ التِّينِ، يُلْزِقان

(7)

بعضَها إلى بعضٍ، فانْطَلَق آدمُ مُوَلِّيًا في الجنةِ، فأخَذَت برأسِه شجرةٌ مِن الجنةِ، فناداه [اللَّهُ: يا]

(8)

آدمُ، أمنى تَفِرُّ؟ قال: لا، ولكنى أسْتَحْيِيك يا ربِّ، قال: أما

(1)

النخلة السحوق: الطويلة التي بعُد ثمرها عن المجتني. النهاية 2/ 347.

(2)

في ص، م، س:"فتعرضت". وفى ت 1، ت 2، ت 3، ف:"تعرضت".

(3)

في ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فقالت".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"استحيتك".

والحديث أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 87، 5/ 1451، 1453 (388، 8299، 8308)، من طريق الحسن به، وأخرجه الحاكم 2/ 262، وابن عساكر 7/ 405 من طريق الحسن عن عُتَى بن ضمرة، عن أبيّ به.

وأخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 372 (1031) من طريق محمد بن ميمون، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب به. فذكره بنحوه، وفيه زيادة، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 393، وقال: وقد رواه ابن جرير، وابن مردويه من طرق عن الحسن، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف أصح إسنادًا.

(6)

في م: "عن".

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يلصقان".

(8)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أين".

ص: 111

كان لك فيما منَحْتُك مِن الجنةِ، وأبَحْتُك منها مندوحةٌ عما حرَّمْتُ عليك؟ قال: بلى يا ربِّ، ولكن وعزَّتِك، ما حسِبْتُ أن أحدًا يَحْلِفُ بك كاذبًا. قال: وهو قولُ اللَّهِ: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} . قال: فبعزَّتي لأُهْبِطَنَّك إلى الأرضِ، ثم لا تَنالُ العيشَ إِلا كَدًّا. قال: فأُهْبِط مِن الجنةِ وكانا يَأْكُلان فيها رَغَدًا، فأُهْبِطا إلى

(1)

غيرِ رَغَدٍ مِن طعامٍ وشرابٍ، فعُلِّم صَنْعةَ الحديدِ، وأمِر بالحَرْثِ، فحرَث وزرَع، ثم سقَى، حتى إذا بلَغ حصَد

(2)

، ثم داسَه، ثم ذرَّاه، ثم طحَنه، ثم عجَنه، ثم خبَزه، ثم أكَله، فلم يَبْلُغْه

(3)

حتى بلَغ

(4)

منه ما شاء اللَّهُ أن يَبْلُغَ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ في قولِ الله:{يَخْصِفَانِ} . قال: يَرْقَعان كهيئةِ الثوب

(6)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا [مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} : يَخْصِفانِ عليهما]

(7)

مِن الورقِ كهيئةِ الثوبِ.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَلَمَّا ذَاقَا

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"في".

(2)

في م: "حصده".

(3)

في الأصل: "يَبْلَعْهُ"، وغير منقوطة في ص.

(4)

في الأصل: "بلع".

(5)

أخرجه عبد الرزاق - كما في الدر المنثور 1/ 53 ومن طريقه ابن عساكر 7/ 403، وعزاه السيوطي إلى سفيان بن عيينة وابن المنذر.

(6)

تفسير مجاهد ص 334. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1452 (8303). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(7)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 112

الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}: وكانا قبلَ ذلك لا يَرَيانِها، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} الآية.

حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ثنا الحسنُ، عن أُبَيِّ بن كعبٍ، أن آدمَ عليه السلام كان رجلًا طُوالًا، كأنه

(1)

نخلةٌ سَحُوقٌ، كثيرَ شعرِ الرأسِ، فلمَّا وقع بما وقَع به مِن الخطيئةِ، بدَت له عورتُه عندَ ذلك، وكان لا يرَاها، فانْطَلَق هاربًا في الجنةِ، فعِلقَت برأسِه شجرةٌ مِن شجرِ الجنةِ، فقال لها: أرْسِلِيني. قالت: إنى غيرُ مُرْسِلَتِكَ. [قال لها: أَرْسِلِيني. قالت: إنى غيرُ مُرْسِلَتِك]

(2)

، فناداه ربُّه: يا آدمُ، أمنِّي تَفِرُّ؟ قال: ربَّ إنى أسْتَحْييك

(3)

. حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهالِ بن عمرٍو، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} . قال: ورقِ التَّينِ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شَريكٍ، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن حسامِ بن مِصَكٍّ

(5)

، عن قتادةَ، وأبى بكرٍ، عن غيرِ قتادةَ، قال: كان لِباسُ آدمَ في الجنةِ ظُفُرًا

(1)

في ص: "لكأنه".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"استحيتك".

(4)

تفسير سفيان ص 111، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1452 (8302) وابن عساكر 7/ 402. وأخرجه الحاكم 2/ 319، والبيهقي 2/ 244 من طريق سفيان عن عمرو بن قيس الملائي، عن المنهال به، مطولًا. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1453 (8307) من طريق عكرمة عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ وابن مردويه.

(5)

في م: "معبد"، وتقدم في 8/ 326.

ص: 113

كلُّه، فلما وقَع بالذنبِ كُشِط عنه، وبدَت سَوْءتُه. قال أبو بكرٍ: وقال غيرُ قتادةَ: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} . قال: ورقِ التينِ.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} . قال: كانا لا يَرَيان سوءاتِهما

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ، عن ابن عُيَينةَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: سمِعْتُ وهَبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ [في قولِه]

(2)

: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: كان لباسُ آدمَ وحواءَ عليهما السلام نورًا على فروجِهما، لا يَرَى هذا عورةَ هذه، ولا هذه عورةَ هذا، فلما أصابا الخطيئةَ بدَت لهما سوءاتُهما

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} .

يقول تعالى ذكرُه: ونادَى آدمَ وحواءَ ربُّهما: ألم أنْهَكما عن أكلِ ثمرةِ الشجرةِ التي أكَلْتُما ثمرَها، وأُعْلِمْكما أن إبليسَ لكما عدوٌّ مبينٌ؟! يقولُ: قد أبان عَداوتَه لكما بتركِ السجودِ لآدمَ؛ حسدًا وبغيًا.

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدِ بن قيسٍ قولَه:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} : لم أكَلْتَها وقد نهَيْتُك عنها

(4)

؟ قال: يا ربِّ أَطْعَمَتْني

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 226. ومن طريقه ابن عساكر 7/ 403.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1459 (8348)، وابن عساكر 7/ 401 من طريق سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 74 إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبى الشيخ. وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 394 رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه.

(4)

سقط من: الأصل.

ص: 114

حواءُ. قال لحواءَ: لمَ أطْعَمْتِه؟ قالت: أمَرَتْنى الحيةُ. قال للحيةِ: لمَ أمَرْتِها؟ قالت: أمَرَنى إبليسُ. قال: ملعونٌ مدحورٌ؛ أما أنت يا حواءُ، فكما أدميْتِ

(1)

الشجرةَ تَدْمَيْن كلَّ شهرٍ، وأما أنت يا حيةُ، فأَقْطَعُ قَوائمَك، فتَمْشِين جرًّا

(2)

على وجهِك، وسيَشْدَخُ رأسَك مَن لقِيَك، اهْبِطوا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عبَّادُ بنُ العَوَّامِ، عن سفيانَ بن حسينٍ، عن يَعْلَى بن مسلمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لمَّا أكَل آدمُ مِن الشجرةِ قيل له: لمَ أكَلْتَ مِن الشجرةِ التي نهَيْتُك عنها؟ قال: حوَّاءُ أمَرَتْنى. قال: فإني قد أعْقَبْتُها ألا تَحْمِلَ إلا كَرْهًا، ولا تَضَعَ إلا كَرْهًا. قال: فرنَّت

(4)

حوَّاءُ عندَ ذلك، فقيل لها: الرَّنَّةُ عليك وعلى ولدِك

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} .

وهذا خبرٌ مِن اللَّهِ عن آدمَ وحواءَ فيما أجاباه به، واعترافِهما على أنفسِهما بالذنبِ، ومسألتِهما إياه المغفرةَ منه والرحمةَ، خلافَ جوابِ اللَّعينِ إبليسَ إياه.

ومعنى قولِه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} . قال آدمُ وحوَّاءُ لربِّهما: يا ربَّنا فعَلْنا بأنفسِنا مِن الإساءةِ إليها بمعصيتِك وخلافِ أمرِك، وبطاعتِنا عدوَّنا وعدوَّك، فيما لم يكنْ لنا أن نُطِيعَه فيه مِن أكلِ الشجرةِ التي نهَيْتَنا عن أكلِها، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا}. يقولُ: وإن أنت لم تَسْتُرُ علينا ذنبَنا فتُغَطِّيَه علينا، وتَتْرُكَ فَضِيحتَنا به بعقوبتِك إيانا

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"دميت".

(2)

سقط من ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

تقدم تخريجه في 1/ 568.

(4)

الرنَّة: الصوت، يقال: رنت المرأة ترن رنينًا، وأرنت أيضا: صاحت. الصحاح (ر ن ن).

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 394 عن المصنف.

ص: 115

عليه، {وَتَرْحَمْنَا} بتعطُّفِك علينا، وتركِك أخْذَنا به، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. يعنى: لنكونَنَّ مِن الهالِكين.

وقد بيَّنا معنى "الخاسرِ" فيما مضَى بشَواهدِه والروايةِ فيه، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخْبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخْبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: قال آدمُ: يا

(2)

ربِّ، أرأيتَ إن تُبْتُ واسْتَغْفَرْتُك؟ قال: إذن أُدْخِلَك الجنةَ. وأما إبليسُ، فلم يَسْأَلْه التوبةَ، وسأَل النَّظِرةَ، فأعْطَى كلَّ واحدٍ منهما الذي

(3)

سأل

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخْبرنا هُشَيْمٌ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا [وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ]

(5)

. قال: هي الكلماتُ التي تلَقَّاها آدمُ مِن ربِّه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} .

وهذا خبرٌ مِن اللَّهِ عن فعلهِ بإبليسَ وذريتِه، وآدمَ وولدِه والحيةِ.

يقولُ جل ثناؤُه: [قال اللَّهُ]

(6)

لآدمَ وحواءَ وإبليسَ والحيةِ: اهْبِطوا مِن السماءِ إلى الأرضِ، بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 442.

(2)

في الأصل: "أي".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ما".

(4)

تتمة الأثر المتقدم في ص 114.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف، س:"الآية".

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 116

كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن أبي عَوانةَ، عن إسماعيلَ بن سالمٍ، عن أبي صالحٍ:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال: آدمُ وحواءُ والحيةُ

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ طلحةَ، عن أسباطَ، عن السديِّ:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قالَ: فلعنَ الحيةَ، وقطَع قوائمَها، وترَكها تمشِي على بطنِها، وجعَل رزقَها من الترابِ، وأُهبِطُوا إلى الأرضِ؛ آدمُ وحواءُ وإبليسُ والحيةُ

(1)

.

وقولُه: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . يقولُ: ولكم يا آدمُ وحواءُ وإبليسُ والحيةُ، في الأرضِ قَرارٌ تَسْتَقِرُّونه، وفِراشٌ تمتهِدونه

(2)

.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا آدمُ العَسْقَلانيُّ، قال: ثنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال: هو قولُه

(3)

: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}

(4)

[البقرة: 22].

ورُوِى عن ابن عباسٍ في ذلك ما حُدِّثْتُ عن عبيدِ اللَّهِ، عن إسرائيلَ، عن السديِّ، عمَّن حدَّثه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} . قال: القبورُ

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه في 1/ 572.

(2)

في م: "تمهدونه".

(3)

بعده في الأصل، ص، م، ت 1، ت 3، س، ف:"هو".

(4)

تقدم تخريجه في 1/ 575.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1455 (8321) من طريق عبيد الله بن موسى به. وسمى الرجل المبهم عكرمة، وينظر ما تقدم في 1/ 576.

ص: 117

والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إن اللَّهَ أخْبرَ آدمَ وحواءَ وإبليسَ والحيةَ إذ أهبطَهم

(1)

إلى الأرض أنهم عدوٌّ بعضُهم لبعضٍ، وأن لهم

(2)

مستقرًّا يَسْتَقِرُّون فيه، ولم يَخْصُصْها بأن لهم فيها مستقرًّا في حالِ حياتِهم دونَ حالِ موتِهم، بل عمَّ الخبرَ عنها بأن لهم فيها مستقرًّا، فذلك على عمومِه، كما عمَّ خبرُ اللَّهِ، ولهم فيها مستقرٌّ في حياتِهم على ظهرِها، وبعدَ وفاتِهم في بطنِها، كما قال جلَّ ثناؤُه:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26].

وأما قولُه: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . فإنه يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولكم فيها متاعٌ تَسْتَمْتِعون به إلى انقطاعِ الدنيا، وذلك هو الحينُ الذي ذكَرَه.

كما حُدِّثْتُ عن عبيدِ اللَّهِ بن موسى، قال: أخْبرَنا إسرائيلُ، عن السديِّ، عمَّن حدَّثه، عن ابن عباسٍ:{وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . قال: إلى يومِ القيامةِ، وإلى انقطاعِ الدنيا.

والحينُ نفسُه الوقتُ، غيرَ أنه مجهولُ القَدْرِ، يَدُلُّ على ذلك قولُ الشاعرِ

(3)

:

[وما مِراحُك]

(4)

بعدَ الحِلْمِ والدِّينِ

وقد عَلاك مَشِيبٌ حينَ لا حينِ

أي: وقتَ لا وقتَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)} .

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"أهبطوا"، وفى ف:"هبطوا".

(2)

بعده في م: "فيها".

(3)

هو جرير بن عطية الخطفي، والبيت في ديوانه 2/ 557.

(4)

في الديوان: "ما بال جهلك". والمراح: الاسم من المرح، وهو شدة الفرح والنشاط حتى يجاوز قدره. اللسان (م ر ح).

ص: 118

يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللَّهُ للذين أهْبَطَهم مِن سماواتِه إلى أرضِه: {فِيهَا تَحْيَوْنَ} . يقولُ: في الأرضِ تَحْيَوْن. يقولُ: تَكونُون فيها أيامَ حياتِكم، {وَفِيهَا تَمُوتُونَ}. يقولُ: وفى الأرضِ تكونُ وفاتُكم، {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}. يقولُ: ومِن الأرضِ يُخْرِجُكم ربُّكم ويَحْشُرُكم إليه لبعثِ القيامةِ أحياءً.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزّ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه للجَهَلةِ مِن العربِ الذين كانوا يَتَعَرَّوْن للطوافِ بالبيتِ

(1)

، اتِّباعًا منهم أمرَ الشيطان، وتركًا منهم طاعةَ اللَّهِ، مُعرِّفَهم

(2)

انْخداعَهم للشيطانِ (1) بغُرورِه لهم، حتى تمكَّن منهم فسلَبَهم من سِتْرِ اللَّهِ الذي أنْعَم به عليهم، حتى أبْدَى سوءاتِهم وأظْهَرَها مِن بعضِهم لبعضٍ، مع تفَضُّلِ اللَّهِ عليهم بتَمْكينِهم مما يَسْتُرونها به، وأنهم قد سار بهم

(3)

سِيرتَه في أبوَيْهم آدمَ وحوَّاءَ اللذين دلَّاهما بغُرورٍ حتى سلَبَهما سترَ اللَّهِ الذي كان أنْعَم به عليهما حتى أبْدَى لهما سوءاتِهما فعرَّاهما منه -: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} . يعنى بإنزالِه عليهم ذلك: خلقَه لهم، ورزقَه إياهم. واللباسُ ما يَلْبَسون مِن الثيابِ. {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}. يقولُ: يَسْتُرُ عَوراتِكم عن أعينِكم. وكنَى بالسوءاتِ عن العوراتِ، واحدتُها سَوْءَةٌ، وهي فَعْلَةٌ مِن السَّوْءِ، وإنما سُمِّيَت سَوْءَةً لأنه يَسُوءُ صاحبَها انكشافُها مِن جسدِه، كما قال الشاعرُ

(4)

:

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فعرفهم".

(3)

في ص: "به".

(4)

البيت بلا نسبة في الكامل 1/ 280، والأمالي الشجرية 2/ 287، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 117، واللسان (ر ج ل).

ص: 119

خرَقوا جَيْبَ

(1)

فَتاتِهم

لم يُبالُوا سَوْءَةَ

(2)

الرَّجُلَهْ

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} . قال: كان ناسٌ مِن العربِ يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، ولا يَلْبَسُ أحدُهم ثوبًا طاف فيه

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المَدَنيُّ

(4)

، قال: سمِعْتُ مجاهدًا يقولُ في قولِه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} . قال: أربعُ آياتٍ نزَلَت في قريشٍ، كانوا في الجاهليةِ لا يَطوفون بالبيتِ إلا عُراةً.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن عوفٍ، قال: سمِعْتُ مَعْبَدًا الجُهَنيَّ

(5)

يقولُ في قولِه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} . قال: اللباسُ الذي يَلْبَسون.

(1)

الجيب هاهنا: الهَنُ، أي الفرج. ينظر اللسان (ر ج ل).

(2)

في مصادر التخريج: "حرمة".

(3)

تفسير مجاهد ص 334. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1456 (8328). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"المصرى".

(5)

في ص، ف:"الجهمي"، وينظر تهذيب الكمال 28/ 244.

ص: 120

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} . قال: كانت قريشٌ تَطوفُ عُراةً، لا يَلْبَسُ أحدُهم ثوبًا طاف فيه، وقد كان ناسٌ مِن العربِ يَطوفون بالبيتِ عُراةً.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ [وسهلُ بنُ يوسُفَ]

(1)

، عن عوفٍ، عن مَعْبَدٍ الجُهَنيِّ

(2)

: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} . فاللباسُ الذي يُوارِى سوءاتِكم هو لَبُوسُكم هذه

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} . قال: هي الثيابُ

(4)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: ثنى مَن سمِع عُروةَ بنَ الزبيرِ يقولُ: اللباسُ الثيابُ

(5)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: ثنا عُبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} . قال: يعني ثيابَ الرجلِ التي يَلْبَسُها

(6)

.

(1)

في الأصل: "سهل ويوسف"، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"شريك بن يوسف". وسيأتي على الصواب في ص 124، 125. وينظر تهذيب الكمال 12/ 213.

(2)

في ف: "الجهمي".

(3)

في م: "هذا".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى المصنف وأبي عبيد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى المصنف.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى المصنف.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1456 (8329) من طريق أبي معاذ به.

ص: 121

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَرِيشًا} .

اخْتَلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأَتُه عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {وَرِيشًا} . بغيرِ ألفٍ.

وذُكِر عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ والحسنِ البصريِّ: أنهما كانا يَقْرأانه: (ورِياشًا).

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ الصمدِ بنُ عبدِ الوارثِ، عن أبانٍ العَطَّارِ، قال: حدَّثنا عاصمٌ، أن زِرَّ بنَ حبيشٍ قرَأها:(ورِياشًا)

(1)

.

والصوابُ من القراءةِ في ذلك قراءة من قرَأة

(2)

: {وَرِيشًا} . بغيرِ ألفٍ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن القرأةِ عليها.

وقد رُوِى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسنادِه نظرٌ، أنه قرَأه:(ورِياشًا)

(3)

.

فمَن قرَأ ذلك: (ورِياشًا) فإنه مُحْتَمِلٌ أن يَكونَ أراد به جمعَ الريشِ، كما يُجْمَعُ الذئبُ ذِئابًا، والبئرُ بِئارًا.

ويَحْتَمِلُ أن يَكونَ أراد به مَصْدرًا مِن قولِ القائلِ: راشَه اللَّهُ يَرِيشُه رِياشًا [ورَيْشًا]

(4)

ورِيشًا. كما يقالُ: لبِسه يَلْبَسُه لِباسًا ولِبْسًا. وقد أَنْشَد بعضُهم

(5)

:

فلمَّا كشَفْنَ اللِّبْسَ عنه مسَحْنَه

بأطرافِ طَفْلٍ

(6)

زانَ غَيْلًا

(7)

مُوَشَّمَا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى المصنف. وينظر قراءة الحسن في إتحاف فضلاء البشر ص 134.

(2)

في م: "قرأ"، وفى ف:"قرأها".

(3)

سيأتي تخريجه في ص 127.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

هو حميد بن ثور الهلالي والبيت في ديوانه ص 14.

(6)

الطَّفل: البنان الناعم. الصحاح (ط ف ل).

(7)

الغيل: الساعد الريان الممتلئ. الصحاح (غ ى ل).

ص: 122

بكسرِ اللامِ مِن اللِّبْسِ.

والرِّياشُ في كلامِ العربِ الأثاثُ وما ظهَر مِن الثيابِ و

(1)

المتَاعِ، مما يُلْبَسُ أو يُحْشَى مِن فراشٍ أو دِثارٍ.

والريشُ أيضًا

(2)

هو المتاعُ والأموالُ عندَهم، وربما اسْتَعْمَلوه في الثيابِ والكِسْوةِ دونَ سائرِ المالِ، يقولون: أعْطاه سَرْجًا بريشِه، ورَحْلًا بريشِه. أي: بكِسوتِه وجَهازِه. ويقولون: إنه لحَسَنُ ريشِ الثيابِ. وقد يُسْتَعْمَلُ الرِّياشُ في الخَصْبِ ورَفاهةِ العيشِ.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال: الرِّياشُ المالُ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه: (ورِياشًا

(3)

). يقولُ: مالًا

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:(ورِياشًا). قال: المالُ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"من".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إنما".

(3)

في م: "ريشا".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1457 (8331) من طريق أبى معاوية به.

(5)

تفسير مجاهد ص 334. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 123

(ورياشًا). قال: أما (رِياشًا)، فرِياشُ المالِ

(1)

.

حدَّثني الحارثُ قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المَدَنيُّ، قال: ثنى مَن سمِع عروةَ بنَ الزبيرِ يقولُ: الرياشُ المالُ

(1)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ، قال: ثنا عُبيدٌ، عن الضحاكِ في قولِه:(ورِياشًا): يعنى المالَ

(2)

.

‌ذكرُ مَن قال: هو اللباسُ ورَفاهةُ العيشِ

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:(ورِياشًا)

(3)

. قال: الرِّياشُ اللباسُ والعيشُ والنَّعيمُ

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ وسهلُ بنُ يوسُفَ، عن عوفٍ، عن مَعْبَدٍ الجُهَنيِّ:(ورِياشًا). قال: الرِّياشُ المعاشُ.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: أخْبَرَنا عوفٌ، قال: قال مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ: (ورِياشًا). قال: هو المعاشُ.

وقال آخرون: الريشُ الجمالُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه:

(1)

تقدم تخريجه في ص 121.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1457 عقب الأثر (8331) معلقا.

(3)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، والدر المنثور:"ريشا".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1457 (8333) عن محمد بن سعد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى أبى الشيخ وابن المنذر.

ص: 124

{وَرِيشًا}

(1)

. قال: الريشُ الجمالُ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: لباسُ التقوَى هو الإيمانُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} : هو الإيمانُ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : الإيمانُ

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : الإيمانُ

(5)

.

وقال آخرون: هو الحياءُ.

‌ذكرُ منَ قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ وسهلُ بنُ يوسُفَ، عن عوفٍ، [عن مَعْبَدٍ]

(6)

الجُهَنيِّ في قولِه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : الذي ذكَره اللَّهُ في

(1)

في ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"رياشا".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1457 (8335) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(4)

تقدم تخريجه في ص 121.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 396.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 125

القرآن هو الحياءُ

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخْبَرنا عوفٌ، قال: قال مَعْبدٌ الجُهَنيُّ، فذكَر مثلَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن عوفٍ، عن مَعْبَدٍ بنحوِه.

وقال آخرون: هو العملُ الصالحُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . قال: لباسُ التقوى العملُ الصالحُ

(2)

.

وقال آخرون: بل ذلك هو السَّمْتُ الحسنُ.

[ذكرُ من قال ذلك]

(3)

حدَّثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدةَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ داودَ، عن محمدِ بن موسى، عن زيادِ

(4)

بن عمرٍو، عن ابن عباسٍ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} . قال: السمتُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1458 (8339) من طريق عوف به مختصرا وهو من تمام الأثر المتقدم تخريجه في ص 121.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1457 (8336) عن محمد بن سعد به. وهو في الدر المنثور 3/ 76 من تمام الأثر المتقدم في ص 124.

(3)

سقط من: ص م.

(4)

في الأصل: "الذيال"، وفى ص:"الذبا"، وفى م:"الزباء" وفى ت 1، ت 2، ت 3، س: الدنيا"، وفى ف: "الرباء"، وفى مخطوطة تفسير ابن كثير "ديال". والمثبت من التاريخ الكبير 3/ 363، والجرح 3/ 540.

ص: 126

الحسنُ في الوجهِ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ بنُ الحجاجِ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ إسماعيلَ، عن سليمانَ بن أرْقمَ، عن الحسنِ، قال: رأيْتُ عثمانَ بنَ عفانَ على منبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليه قميصٌ قُوهِيٌّ

(2)

محلولُ الزِّرِّ، وسمعْتُه يَأْمُرُ بقتلِ الكلابِ، ويَنْهَى عن اللعبِ بالحمامِ، ثم قال: يا أيُّها الناسُ اتَّقوا الله في هذه السَّرائرِ، فإني سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "والذي نفسِ محمدٍ بيدِه، ما عمل أحدٌ قطُّ سرًّا إِلا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِداءَ

(3)

عَلانيةٍ، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا". ثم تلا هذه الآيةَ:(وريِاشًا). ولم يَقْرَأها: {وَرِيشًا} - {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} . قال: "السَّمْتُ الحسنُ"

(4)

.

وقال آخرون: هو خشيةُ اللهِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ المَدَنيُّ، قال: ثنى مَن سِمع عروةَ بنَ الزبيرِ يقولُ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : خشيةُ اللهِ

(5)

.

وقال آخرون: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} في هذه المواضعِ سترُ العورةِ.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 346 عن زياد بن عمرو به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى المصنف.

(2)

القوهى: ضرب من الثياب، بيض، فارسي، منسوب إلى قوهستان. اللسان (ق و هـ).

(3)

في م: "رداءه".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 397 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1458 (8342) من طريق إسحاق به.

وأخرج الموقوف منه عبد الرزاق في مصنفه (19733)، وأحمد 1/ 543 (521)، والبخاري في الأدب المفرد (1301) من طرق عن الحسن، عن عثمان.

(5)

تقدم تخريجه في ص 121.

ص: 127

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : يَتَّقِى اللَّهَ فيُوارِى عورتَه

(1)

، ذلك لباسُ التقوَى

(2)

.

واخْتَلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأةِ المكِّيين والكوفيِّين والبصريِّين: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . برفع "اللباسِ"

(3)

.

وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ: (ولباسَ التَّقْوَى). بنصبِ "اللباسِ"، وهى قراءةُ بعضِ قرأةِ الكوفيِّين

(4)

.

فمَن نصَب: (وَلباسَ). فإنه نصَبه عطفًا به

(5)

على "الريشِ"، بمعنى: قد أنْزَلْنا عليكم لباسًا يُوارى سوءاتِكم وريشًا، وأنْزَلنا لباسَ التقوى.

وأما الرفعُ، فإن أهلِ العربيةِ مختلفون في المعنى الذي به ارْتَفَع "اللباسُ"، فكان بعضُ نحويى البصرة يقولُ: هو مرفوعٌ على الابتداءِ، وخبره في قولِه:{ذَلِكَ خَيْرٌ} .

وقد اسْتَخطَأه بعضُ أهلِ العربيةِ في ذلك، وقال: هذا غلَطٌ؛ لأنه لم يَعُدْ على "اللباس"

(6)

في الجملةِ عائدٌ، فيَكونَ "اللباسُ" إذا رُفع على الابتداء وجُعِل {ذَلِكَ خَيْرٌ} خبرًا.

(1)

بعده في الأصل: "و"

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1458 (8340) من طريق أصبغ عن ابن زيد.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ولباس". وهى قراءة ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 280.

(4)

وهى قراءة نافع وابن عامر والكسائي. ينظر السابق.

(5)

سقط من: ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(6)

في الأصل: "الباس".

ص: 128

وقال بعضُ نحويى الكوفةِ

(1)

: {وَلِبَاسُ} يُرْفَعُ بقولِه: ولباسُ التقوى خيرٌ. ويُجْعَلُ {ذَلِكَ} مِن نعتِه.

وهذا القولُ عندى أولى بالصوابِ في رفعِ

(2)

"اللباس"؛ لأنه لا وجهَ للرفعِ فيه

(3)

إلا أن يَكونَ مرفوعًا بـ {خَيْرٌ} ، وإذا رُفِع بـ {خَيْرٌ} لم يكنْ في {ذَلِكَ} وجهٌ إلا أن يُجْعَلَ {وَلِبَاسُ}

(4)

نعتًا؛ [لأنه لا]

(5)

عائدَ على "اللباسِ" مِن ذكرِه في قولِه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} فيكونَ {خَيْرٌ} مرفوعا بـ {ذَلِكَ} ، و هو {ذَلِكَ} به.

فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ إذا

(6)

رُفع {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : ولباسُ التقوى ذلك الذي قد علِمْتُموه خيرٌ لكم يا بنى آدمَ مِن لباسِ الثياب التي تُوارِى سوءاتِكم، ومِن الرِّياشِ التي أنْزَلْناها إليكم، فالبَسُوه.

وأما تأويلُ مَن قرَأه نصبًا فإنه: يا بني آدمَ قد أنْزَلْنا عليكم لباسًا يُوارى سوءاتِكم وريشًا ولباسَ التقوى، هذا الذي أنْزَلْناه عليكم مِن اللباسِ الذي يُوارِى سوءاتِكم والريشِ ولباسِ التقوى - خيرٌ لكم من التعرِّي والتجرُّدِ مِن الثيابِ في طوافِكم بالبيتِ، فاتَّقوا الله والْبَسوا ما رزَقكم اللهُ مِن الرِّياش، ولا تُطِيعوا الشيطانَ بالتجرُّدِ والتعرِّى مِن الثيابِ، فإن ذلك سخريةٌ منه بكم وخُدْعةٌ، كما فعَل بأبويكم

(7)

آدمَ وحواءَ، فخدَعَهما حتى جرَّدهما مِن لباسِ اللهِ الذي كان ألْبَسَهما، بطاعتِهما له في أكلِ ما كان اللهُ نهاهما عن أكلِه من ثمرِ الشجرةِ التي عصَياه بأكلِها.

(1)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 375.

(2)

في م: "رافع".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في الأصل، م:"اللباس".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لأنه"، وفى م:"لا أنه".

(6)

في م: "إذن".

(7)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"بأبيكم".

ص: 129

وهذه القراءةُ أولى القراءتين في ذلك عندى بالصوابِ

(1)

، أغنى نصبَ قولِه:(ولباسَ التقوى). لصحةِ معناه في التأويلِ على ما بيَّنْتُ، وأن اللَّهَ إنما ابْتَدَأَ الخبرَ عن إنزالِه اللباسَ الذي يُوارِي سوءاتِنا والرِّياشَ؛ توبيخًا للمشركين الذين كانوا يَتَجَرَّدون في حالِ طَوافِهم بالبيتِ، ويَأْمُرُهم بأخْذِ ثيابهم والاستتارِ بها في كلِّ حالٍ، مع الإيمانِ به واتباعِ طاعتِه، ويُعْلِمُهم أن كلَّ ذلك خيرٌ مِن كلِّ ما هم عليه مُقِيمون، مِن كفرِهم باللهِ وتَعَرِّيهم، [لا أنه]

(2)

أعْلَمَهم أن بعضَ ما أنْزَل إليهم

(3)

خيرٌ مِن بعضٍ.

ومما يَدُلُّ على صحة ما قلْنا في ذلك، الآياتُ التي بعد هذه الآيةِ، وذلك قولُه:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} . وما بعدَ ذلك من الآياتِ إلى قولِه: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فإنه جلَّ ثناؤُه في كلِّ ذلك يَأْمُرُ بِأَخْذِ الزينةِ مِن الثيابِ واسْتِعمالِ اللباسِ، وتركِ التجرُّدِ والتعرِّى، وبالإيمانِ به واتباعِ أمرِه والعملِ بطاعتِه، ويَنْهَى عن الشركِ به واتباعِ أمرِ الشيطانِ، مُؤكِّدًا في كلِّ ذلك ما قد أجْمَله في قولِه:(يا بنى آدَمَ قد أَنْزَلْنا عليكم لباسًا يُوارِى سَوْءاتِكم وريشًا ولباسَ التقْوَى ذلك خيرٌ).

وأولى الأقوال بالصحة في تأويلِ قولِه: (ولباسَ التقْوَى). استِشْعارُ النفوسِ تقْوَى اللَّهِ، في الانتهاءِ عما نهَى اللهُ عنه مِن مَعاصِيه، والعملِ بما أمَر به مِن طاعتِه، وذلك يَجْمَعُ الإيمانَ به

(4)

، والعملَ الصالحَ، والحياءَ، وخشيتَه

(5)

، والسَّمْتَ

(1)

القراءتان كلتاهما صواب.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لأنه".

(3)

في ف: "عليهم".

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"خشية الله".

ص: 130

الحسنَ؛ لأن مَن اتَّقَى الله كان به مؤمنًا، وبما أمَرَه به عاملًا، ومنه خائفًا، وله مراقبًا، ومن أن يُرَى عندَ ما يَكْرَهُه من عبادِه مُسْتَحْيِيًا

(1)

، ومَن كان كذلك ظهَرَت آثارُ الخيرِ فيه، فحسُن سَمْتُه وهَدْيُه، ورُئِيت عليه بَهْجَةُ الإيمانِ ونورُه.

وإنما قلْنا: عنى بـ (لباسَ التقوَى). استشعارَ النفسِ والقلبِ ذلك؛ لأن اللباسَ إنما هو ادِّراعُ ما يُلْبَسُ، واجتيابُ

(2)

ما يُكْتَسَى، أو تغطيةُ بدنِه أو بعضِه به، فكلُّ مَن ادَّرَع شيئًا [واجتابه]

(3)

حتى يُرَى عينُه

(4)

أو أثرُه عليه، فهو له لابسٌ، ولذلك جعَل جلَّ ثناؤُه الرجالَ للنساءِ لباسًا، وهن لهم لباسًا، وجعَل الليلَ لعبادِه لباسًا.

‌ذكرُ مَن تأوَّل ذلك بالمعنى الذي ذكَرْنا مِن تأويله إذا قُرِئ قولُه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} رفعًا.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : الإيمانُ، {ذَلِكَ خَيْرٌ}. يقولُ: ذلك خيرٌ من الرِّياشِ واللباسِ، يُوارى سوءاتِكم

(5)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} . قال: ولباسُ

(6)

خيرٍ، وهو الإيمانُ

(7)

.

(1)

في الأصل: "مستجيبًا". وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"مستحيًا".

(2)

في م: "احتباء". واجتبت القميص: إذا لبسته. الصحاح (ج و ب).

(3)

في م: "أو احتبى به "وفى س ف: "وأصابه".

(4)

في م: "هو"، وفى ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عنه".

(5)

تقدم تخريجه في ص 121.

(6)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"التقوى".

(7)

تقدم تخريجه في ص 125.

ص: 131

‌القول في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ذلك الذي ذكَرْتُ لكم أني أنْزَلْتُه إليكم أيُّها الناسُ، من اللباسِ والرِّياشِ، مِن حجج اللهِ وأدلتِه التي يَعْلَمُ بها مَن كفرَ صحةَ توحيدِ اللهِ، وخطأَ ما هم عليه مُقِيمون مِن الضَّلالَةِ. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}. يقولُ: جعَلْتُ ذلك لهم دليلًا على ما وصَفْتُ ليَذَّكَّروا فيَعْتَبِروا ويُنِيبوا إلى الحقِّ وتركِ الباطلِ؛ رحمةً منى بعبادى.

‌القول في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: يا بني آدمَ لا يَخْدَعَنَّكم الشيطانُ فيُبْدِيَ سوءاتِكم للناسِ بطاعتِكم إياه عندَ اختبارِه لكم، كما فعَل بأبويكم آدمَ وحوَّاءَ عندَ اختبارِه إياهما، فأطاعاه وعصيا ربَّهما، فأَخْرَجهما بما سبَّب لهما مِن مَكْرِهِ وخَدْعِه مِن الجنةِ، ونزَع عنهما ما كان اللهُ الْبَسَهما مِن اللباسِ؛ ليُرِيَهما سوءاتِهما بكشفِ عورتِهما، وإظْهارِها لأعينِهما بعد أن كانت مستترةً.

وقد بيَّنا فيما مضَى أن معنى الفتنة الاختبارُ والابتلاء بما أغْنَى عن إعادتِه

(1)

.

وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ اللباسِ الذي أخْبَر [جلَّ ثناؤُه عن الشيطانِ]

(2)

أنه نزَعه عن أبوينا، وما كان؛ فقال بعضُهم: كان ذلك أظفارًا.

(1)

تقدم في 2/ 356، 357.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الله جل ثناؤه".

ص: 132

‌ذكْرُ قولِ

(1)

من لم نَذْكُرْ قولَه فيما مضَى مِن كتابِنا هذا في ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شريكٍ، [عن سماكٍ

(2)

، عن عكرمةَ:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: لباسُ كلِّ دابةٍ منها، ولباسُ الإنسانِ الظُّفُرُ، فَأَدْرَكَت آدمَ التوبةُ عندَ ظُفُرِه. أو قال: أظْفارِه

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ الحميدِ الحِمَّانيُّ، عن [نضرٍ أبي]

(4)

عمرَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: تُركَت أظفارُه عليه زينةً ومَنافعَ. في قولِه: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}

(5)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ الوليدِ القُرشيُّ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ أبي الوَزيرِ، قال: أخْبَرنا مَخْلَدُ بنُ الحسينِ، عن عمرِو بن مالكٍ، عن أبي الجَوْزاءِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: كان لباسُهما الظُّفُرَ، فلمَّا أصابا الخطيئةَ

(6)

نُزِع عنهما

(7)

، وتُرِكَت الأظفارُ تَذْكِرةً وزينةً.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: كان لباسه الظُّفُرَ، فانْتَهَت توبتُه إلى أظفارِه.

(1)

سقط من: ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

(4)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"نصر أبي"، وفى م:"نصر بن". وتقدم في 1/ 252 وينظر تهذيب الكمال 29/ 393.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1459 (8345)، وأبو الشيخ في العظمة ص 384 (1059) من طريق عبد الحميد الحماني به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(6)

في الأصل: "الخطية".

(7)

بعده في ف: "لباسهما".

ص: 133

وقال آخرون: كان لباسُهما نورًا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنةَ، عن عمرٍو، عن وهبِ بن مُنبِّهٍ:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: النورَ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ، عن ابن عُيينةَ، قال: ثنا عمرٌو، قال سمِعْتُ وهبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ في قولِه:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} . قال: كان لباسُ آدمَ وحواء نورًا على فُروجِهما، لا يَرَى هذا عورةَ هذه، ولا هذه عورةَ هذا

(2)

.

وقال آخرون: إنما عنَى اللهِ بقولِه: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} : يَسْلُبُهما تقوَى اللهِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا مُطَّلِبُ بن زيادٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: التُّقَى

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شريكٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} . قال: التقوى

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى عبد بن حميد.

(2)

تقدم تخريجه في ص 114.

(3)

في م: "التقوى".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1460 (8349) من طريق شريك به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 76 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

ص: 134

مثلَه.

والصوابُ مِن القولِ في تأويلِ ذلك عندى أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه حذَّر عبادَه أن يَفْتِنَهم الشيطانُ كما فتَن أبويهم آدمَ وحواءَ، وأن يُجَرِّدَهم مِن لباسِ اللهِ الذي أنْزَله إليهم، كما نزَع عن أبويهم لباسَهما. واللباسُ المطلقُ مِن الكلام بغيرِ إضافةٍ إلى شيءٍ في مُتعَارَفِ الناسِ هو ما اجتابَ

(1)

فيه اللابسُ مِن أنواع الكُسَى

(2)

، أو غطَّى بدنه أو بعضَه به

(3)

.

وإذ كان ذلك كذلك، فالحقُّ أن يقال: إن الذي أَخْبَرَ اللَّهُ عن آدمَ وحواءَ مِن لباسِهما الذي نزَعه عنهما الشيطانُ هو بعضُ ما كانا يُوارِيان به أبدانَهما وعورتَهما. وقد يَجوزُ أن يكون ذلك كان [ظُفُرًا، ويَجوزُ أن يكونَ ذلك كان]

(4)

نورًا، ويَجوزُ أن يكونَ كان

(5)

غيرَ ذلك، ولا خبر عندَنا بأيِّ ذلك كان

(5)

تَنْبُتُ به الحَجَّةُ فلا قولَ في ذلك أصوبُ مِن أن يقالَ كما قال اللهُ: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} .

وأضاف جلَّ ثناؤُه إلى إبليسَ إخراجَ آدمَ وحواءَ مِن الجنةِ، ونْزَع ما كان عليهما مِن اللباسِ، عنهما، وإن كان اللهُ جلَّ ثناؤُه هو الفاعلَ ذلك بهما عقوبةً على معصِيتِهما إياه، إذ كان الذي كان منهما من

(5)

ذلك كان

(6)

عن تسبيبِه

(7)

ذلك لهما

(1)

في م ت 1، ت 2 ت 3 س ف:"اختار"، وهكذا في ص ولكن من غير نقط.

(2)

في م: "الكساء".

(3)

سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

سقط مِن: الأصل.

(5)

في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"في".

(6)

سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(7)

في ص ف: "تسببه"، وفى م س "تشبيه".

ص: 135

بمكْرِهِ وخِداعِه، فأُضِيف إليه أحيانًا بذلك المعنى، وإلى اللهِ تبارك وتعالى أحيانًا بفعلِه ذلك بهما.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}

يعني جلَّ ثناؤُه بذلك: إن الشيطانَ يَرَاكم هو. والهاء في {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} عائدةٌ على الشيطانِ. و {قَبِيلُهُ} يعنى: وصنفُه وجيلُه

(1)

الذي هو منه، منه، [وهو]

(2)

واحدٌ [يُجْمَعُ قُبلًا]

(3)

، وهم الجنُّ.

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} . قال: الجنُّ

(4)

والشياطينُ.

[حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}. قال: الجنُّ والشياطينُ]

(5)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرنى ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} . قال: قَبِيلُه نَسْلُه

(6)

.

وقولُه: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} . يقولُ: مِن حيث لا تَرَوْن أنتم أيُّها الناسُ الشيطانَ وقبيلَه. {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} . يقولُ:

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حمه" غير منقوطة. وفى م: "جنسه" وفى ف: "جنه".

(2)

سقط مِن: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3 س ف:"جمع قبلا"، وفى م: جمعه "قبل".

(4)

سقط مِن: الأصل.

(5)

سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3 س ف. والأثر في تفسير مجاهد ص 334، 335، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1460 (8351).

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1460 (8352) من طريق أصبغ بن الفرج عن ابن زيد به.

ص: 136

جعَلْنا الشياطينَ نُصَراءَ الكفارِ الذين لا يُوَحِّدون اللَّهَ ولا يُصَدِّقون رسلَه.

‌القولِ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} .

ذُكِر أن معنى الفاحشةِ في هذا الموضعِ ما حدَّثني به

(1)

عليُّ بنُ سعيدٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا أبو مُحَيَّاةَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} . قال: كانوا يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، يقولون: نَطُوفُ كما ولَدَتْنا أمَّهاتُنا. فَتَضَعُ المرأةُ على قُبُلِها النِّسْعة

(2)

أو الشيءِ، فتقولُ:

اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلُّه

فما بَدَا منه فلا أُحِلُّه

(3)

حدَّثنا ابن وكيعٍ [وابنُ حُمَيدٍ، قالا]

(4)

: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} : فاحشتُهم أنهم كانوا يَطُوفون بالبيتِ عُراةً

(5)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن مُفَضَّلٍ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عِمْرانُ بنُ عُيينةَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ والشعبيِّ:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} . قال: كانوا يَطوفون بالبيتِ عُراةً.

(1)

سقط مِن: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

النسعة: القطعة من السير يضفر على هيئة أعنة النعال تشد به الرحال. ينظر اللسان (ن س ع).

(3)

قال السهيلى في الروض الأنف 2/ 290، 291: يذكر أن هذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة، ثم من بني سلمة بن قشير.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1461 (8357) من طريق جرير به.

ص: 137

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} . قال: كان قبيلةٌ مِن العرب مِن أهل اليمن يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، فإذا قيل لهم

(1)

: لم تَفْعَلُون ذلك؟ قالوا: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}

(2)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} . قال: طوافُهم بالبيت عُراةً

(3)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} . قال: في طوافِ الحُمْسِ

(4)

في الثيابِ وغيرِهم عُراةً.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} . قال: كان نساؤُهم يَطُفْنَ بالبيتِ عُراةً، فتلك الفاحشةُ التي وجَدوا عليها آباءَهم، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الآية.

فتأويلُ الكلامِ إذن: وإذا فعَل الذين لا يُؤْمِنون باللهِ، الذين جعَل اللهُ لهم الشياطينَ أولياءَ، قبيحًا مِن الفعلِ، وهو الفاحشةُ، وذلك تعرِّيهم للطوافِ بالبيتِ، وتَجَرُّدُهم له، فعُذلِوا على ما أتَوْا مِن قبيحِ فعلِهم، وعُوتِبوا عليه، قالوا: وجْدَنا على مثلِ ما نَفْعَلُ آبَاءَنا، فنحن نَفْعَلُ مثلَ ما كانوا يَفْعَلون، ونَقْتَدِى بِهَدْيِهِم، ونَسْتَنُّ

(1)

سقط من: م.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1461 (8358) من طريق أحمد به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى المصنف وابن المنذر وأبى الشيخ بلفظ آخر.

(4)

ينظر معنى الحمس فيما تقدم في 3/ 284 وما بعدها.

ص: 138

بسُنَّتِهم، واللهُ أمرَنَا به، فنحن نَتَّبِعُ أمره فيه.

يقولُ عز وجل لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} . يقولُ: لا يأمرُ خلقَه بقبائحِ الأفعالِ ومَساويها، {أَتَقُولُونَ} أَيُّهَا الناسُ {عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. يقولُ: أَتَرْوُون على اللَّهِ أَنه أَمَرَكم بالتعرِّى والتجرُّدِ مِن الثياب واللباسِ للطوافِ، وأنتم لا تَعْلَمون أنه أمَرَكم بذلك؟

‌القولِ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاء الذين يَزْعمون أن اللَّهَ أَمَرَهم بالفَحْشاءِ كذبًا على اللهِ: ما أَمَرَ ربى بما تَقُولون، بل أمَر

(1)

بالقِسْطِ. يعنى: بالعدلِ.

كما حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} : بالعدلِ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} : والقسطُ العدلُ

(3)

.

وأما قوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . فإن أهل التأويلِ اخْتَلَفوا في تأويله؛ فقال بعضُهم: معناه وجِّهوا وجوهَكم حيث كنتم في الصلاِة

(1)

بعده في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"ربي".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1462 عقب الأثر (8361) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط.

ص: 139

إلى الكعبة.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبى نَجيحٍ. عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : إلى الكعبةِ حيثما صلَّيْتُم في الكَنيسةِ وغيرِها

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: [{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} : إلى الكعبة حيث صلَّيتُم في كنيسةٍ أو غيرِها.

حدَّثني الحارثُ، قال ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سَمِعْتُ مجاهدًا]

(2)

، في قولِه:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: إذا صلَّيتُم فاسْتَقْبلوا الكعبةَ في كَنائسِكم وغيرِها.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : هو المسجدُ الكعبةُ.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن عمرَ بَنِ ذَرٍّ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: إلى

(3)

الكعبةِ حيثما كنتَ.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه:

(1)

تفسير مجاهد ص 335 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1462 (8362).

(2)

سقط مِن: ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3،: س، ف.

ص: 140

{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: أقِيموها للِقبْلةِ، هذه القبلِة التي أمرَكم اللهُ بها.

وقال آخرون: [معنى ذلك]

(1)

: واجْعَلوا سجودَكم للهِ خالصًا دونَ ما سواه مِن الآلهةِ والأندادِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: في الإخلاصِ، ألا تَدْعُوا غيرَه، وأن تُخْلِصوا له الدينَ

(2)

.

وأولى هذين التأويلين بتأويلِ الآيةِ ما قاله الربيعُ، وهو أن القومَ أُمروا أن يَتَوَجَّهوا بصلاتِهم إلى ربِّهم لا إلى ما سِواه مِن الأوثانِ والأصنامِ، وأن يَجْعَلوا دعاءَهم للهِ خالصًا، لا مُكاءً و

(3)

تَصْديةً.

وإنما قلْنا: ذلك أولى التأويلين بالآية؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه إنما خاطَب بهذه الآيةِ قومًا مِن مشركي العربِ لم يكونوا أهلَ كَنائس وبيَع، وإنما كانت الكنائسُ والبيَعُ لأهلِ الكتابَيْن، فغيرُ معقولٍ أن يُقالَ لمن لا يُصَلَّى في كَنيسةٍ ولا بِيعةٍ: وجِّهْ وجْهَك إلى الكعبةِ في كنيسةٍ كنتَ

(4)

أو بيعةٍ.

وأما قولُه: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . فإنه يقولُ: واعْمَلُوا لرَّبِّكم مُخْلَصًا

(5)

له الدينُ والطاعةُ، لا تَخْلِطوا ذلك بشركٍ، ولا تَجْعَلوا في شيءِ مما

(1)

في م: "بل عنى ذلك".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1462 (8363) من طريق ابن أبي جعفر به من قول أبي العالية.

(3)

بعده في م: "لا".

(4)

سقط مِن: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في م: "مخلصين".

ص: 141

تَعْمَلُون له

(1)

شريكًا.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . قال: أن تُخْلِصوا له الدينَ والدَّعْوةَ والعملَ، ثم تُوَجِّهون إلى البيتِ الحرامِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: كما بدَأَكم أشْقِياءَ وسُعَداءَ، كذلك تَبْعَثون يومَ القيامةِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} . قال: إن الله سبحانَه بَدأ خلْقَ ابن آدمَ مؤمنًا وكافرًا، كما قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. ثم يُعِيدُهم يوم القيامة كما بدَأ خلقَهم، مؤمنًا وكافرًا

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، قال: ثنا أصحابُنا، عن ابن عباسٍ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: يُبْعَثُ المؤمنُ مؤمنًا، والكافرُ كافرًا.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا يَحْيَى بن الضُّرَيْسِ، عن أبي جعفرٍ،

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"به".

(2)

من تمام الأثر المتقدم في ص 140.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1462 (8364) من طريق عبد الله به. وعزاه السيوطي في الدر المنشور 3/ 77 إلى ابن المنذر.

ص: 142

عن الربيعِ، عن رجلٍ، عن جابرٍ، قال: يُبْعَثون على ما كانوا

(1)

عليه، المؤمنُ على إيمانِه، والمنافقُ على نفاقِه

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: عادوا إلى علمِه فيهم، ألم تَسْمَعْ إلى قولِ اللَّهِ فيهم:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ؟ ألم تَسْمَعْ إلى

(3)

قوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}

(4)

?

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ أنسٍ، عن أبي العاليةِ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: رُدُّوا إلى علمِه فيهم

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو هَمَّامٍ الأهوازيُّ، قال: ثنا موسى بن عُبَيدةَ، عن محمدِ بن كعبٍ في قولِه:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: مَنِ ابْتَدَأ اللهُ خلقَه على الشِّقْوةِ صار إلى ما ابْتَدَأ [عليه خلْقَه]

(6)

، وإن عمِل بأعمالِ أهلِ السَّعادةِ، كما أن إبليسَ عمِل بأعمالِ أهلِ السعادةِ ثم صار

(7)

إلى ما ابْتُدِئَ عليه خلقُه، ومَن ابْتُدِئَ خلقُه على السعادةِ صار إلى ما ابْتُدِئَ عليه خلقُه، وإن عمِل بأعمالِ أهلِ الشَّقاءِ، كما أن السَّحَرةَ عمِلَت بأعمالِ أهلِ الشقاءِ، ثم صاروا إلى ما ابْتُدِئَ عليه خلقُهم

(8)

.

(1)

في الأصل: "ماتوا".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى المصنف.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1462 (8366) من طريق أبي جعفر به من قول أبي العالية نحوه.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 399.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3 س ف:"الله خلْقه عليه".

(7)

بعده خرم في المخطوط الأصل ينتهى في ص 166 عند قوله: إذا عاينوا من كرامة الله.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1463 (8367) من طريق موسى بن عبيدة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 143

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن وِقَاءِ

(1)

بن إياسٍ أبي يزيَد، عن مجاهدٍ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: يُبْعَثُ المسلمُ مسلمًا، والكافرُ كافرًا

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو [نُعيم الفضلُ بنُ]

(3)

دُكَيْنٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي يزيدَ، عن مُجاهدٍ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: يُبْعَثُ المسلمُ مسلمًا، والكافرُ كافرًا

(4)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا محمدُ بنُ أبي الوَضَّاحِ، عن سالمٍ الأفْطَسِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: كما كُتِب عليكم تكونون

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ مثلَه.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} . يقولُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ، كما خلَقْناكم؛ فريقٌ مُهْتَدون، وفريقٌ ضالٌّ، كذلك تعودون وتُخْرَجون مِن بطون أمهاتِكم

(6)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي

(7)

سفيانَ، عن جابرٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: "تُبْعَثُ كلُّ نفسٍ على ما كانت

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"ورقاء". وينظر تهذيب الكمال 30/ 455.

(2)

تفسير سفيان ص 112، وعنه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 226.

(3)

سقط مِن النسخ، والمثبت موافق لما في تفسير ابن أبي حاتم. وينظر تهذيب الكمال 23/ 197.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1462 (8365) من طريق أبي نعيم به.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1463 (8369) من طريق أحمد بن المفضل به.

(7)

سقط من النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.

ص: 144

عليه"

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو داودَ الحَفريُّ، عن شريكٍ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: كما كُتِب عليكم تكونون

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: يُبْعَثُ المؤمنُ مؤمنًا، والكافرُ كافرًا.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} : شقيا وسعيدًا

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن مجاهدٍ مثلَه.

وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلَقَكم ولم تكونوا شيئًا، تعودون بعدَ الفَناءِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ، عن عوفٍ، عن الحسنِ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: كما بدَأَكم ولم تكونوا شيئًا فأحْياكم، كذلك

(4)

يُمَينتُكم ثم يُحْيِيكم يومَ القيامةِ

(5)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبد الأعلى، عن عوفٍ، عن الحسنِ: {كَمَا

(1)

أخرجه مسلم (2878) من طريق عبد الرحمن بن مهدى به، وأخرجه أحمد 22/ 413، 23/ 200 (14543، 14941)، وعبد بن حميد (1013) ومسلم (2878)، والطحاوي في المشكل (255)، والحاكم 42/ 452، 490 وأبو نعيم في أخبار أصبهان 2/ 49، والبغوى (4207) من طريق سفيان به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(3)

تفسير مجاهد ص 335.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ثم".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 77 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.

ص: 145

بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}. قال: كما بدَأَكم في الدنيا، كذلك تَعوُدون يومَ القيامةِ أحياءً.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: بدَأ خلْقَهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهَبوا، ثم يُعِيدُهم

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى} . يقولُ: كما خلَقْناكم أولَ مرةٍ كذلك تَعُودون

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} : يُحْيِيكم بعدَ موتِكم

(3)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} . قال: كما خلَقَهم أولا، كذلك يُعِيدُهم آخِرًا

(4)

.

قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ القولُ الذي قاله مَن قال: معناه: كما بدَأَكم الله خلقًا بعدَ أن لم تَكُونوا شيئًا، تَعُودون بعدَ فَنائِكم خلقًا مثلَه، يَحْشُرُكم إلى يومَ القيامةِ؛ لأن الله تعالى أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أَن يُعْلِمَ بما في هذه الآيةِ قومًا مشركين أهلَ جاهليةٍ، لا يُؤْمِنون بالمَعادِ، ولا يُصَدِّقون بالقيامةِ، فأمَرَه أن يَدْعُوَهم إلى الإقرارِ بأن الله باعثُهم يومَ القيامة، ومُثِيبُ مَن أطاعه، ومُعاقِبُ مَن عصاه، فقال له: قلْ لهم: أمر ربى بالقِسْطِ، وأن أَقِيموا وُجوهَكم عندَ كلِّ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 225 عن معمر به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1463 (8368) عن محمد بن سعد به.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 398.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 399.

ص: 146

مسجدٍ، وأنِ ادْعُوه مُخْلِصين له الدين، وأن أَقِرُّوا بِأَنْ كما بدَأَكُم تَعُودون. فترَك ذُكِر:"وأن أقِرُّوا بأن". كما ترَك ذكرَ "أن" مع "أقِيموا"، إذ كان فيما ذُكِر دلالةٌ على ما حُذِف منه.

وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجهَ لأن يُؤْمَرَ بدعاءِ مَن كان جاحدًا النُّورَ بعدَ المَماتِ، إلى الإقرارِ بالصفةِ التي عليها يُنْشَرُ مَن نُشِر، وإنما يُؤْمَرُ بالدعاءِ إلى ذلك مَن كان بالبعثِ مُصَدِّقًا، فأما مِن كان له جاحدًا، فإنما يُدْعَى إلى الإقرار به، به، ثم يُعَرَّفُ كيف شَرائطُ البعثِ. على أن في الخبرِ الذي رُوِى عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي حدَّثناه محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثني المغيرةُ بنُ النعمانِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْشَرُ النَّاسُ عُراةٌ غُرْلًا

(1)

، وأولُ مَن يُكْسَى إبراهيمُ". ثم قرَأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ يوسُفَ، قال: ثنا سفيانُ، عن المغيرةِ بن النعمانِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن المغيرةِ بن النعمانِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قام فينا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بموعِظةٍ، فقال: "يا أيُّها الناسُ، إنكم تُحْشَرون إلى اللَّهِ حُفاةً غُرْلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

(4)

.

(1)

الغرب؛ جمع الأغْرل: وهو؛ الأقلف، والغرلة: القلفة. النهاية 3/ 362.

(2)

أخرجه أحمد 3/ 418، 470 (1950، 2027)، والنسائي 4/ 114 (2081) من طريق يحيى بن سعيد به، وأخرجه البخاري (3349، 3447، 4626)، والترمذى (2423)، مِن طريق سفيان الثورى به.

(3)

أخرجه النسائي في الكبرى (11160) عن محمد بن بشار به، وأخرجه أيضا (11160)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1067) من طريق إسحاق به.

(4)

أخرجه مسلم (2860/ 58)، والترمذى عقب (2423) عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار به، =

ص: 147

ما

(1)

يُبَيِّنُ صحةَ القولِ الذي قلْنا في ذلك مِن أن معناه: أن الخلقَ يعودون إلى اللَّهِ يومَ القيامةِ خلقًا أحْياءً، كما بدَأَهم في الدنيا خلقًا أحْياءً.

يقالُ منه: بدَأ اللَّهُ الخلقَ يَبْدَؤُهم، وأَبْدَأَهم يُبْدِئُهم إبْداءً. بمعنى: خَلَقَهم. لُغتان فَصِيحتان.

ثم ابْتَدَأَ الخبر جلَّ ثناؤُه عما سَبق مِن علمِه في خلقِه، وجرَى به فيهم قضاؤُه، فقال: هدَى الله منهم فريقًا، فوفَّقَهم لصالحِ الأعمالِ فهم مُهْتَدون، وحقَّ على فريقٍ منهم الضَّلالةُ عن الهُدَى والرَّشادِ، باتخاذِهم الشيطانَ مِن دونِ اللهِ وليًّا.

وإذا كان التأويلَ هذا، كان "الفريقُ" الأولُ منصوبًا بإعمالِ {هَدَى} ، فيه، و "الفريقُ" الثاني بوقوعِ قولِه:{حَقَّ} . على عائدِ ذكْرِه في {عَلَيْهِمُ} ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31].

ومَن وجَّه تأويلَ ذلك إلى أنه: كما بدَأَكم في الدنيا صِنْفَيْن؛ كافرًا ومؤمنًا، كذلك تَعُودون في الآخرةِ فريقَيْن؛ فريقًا هَدَى، وفريقًا حقَّ عليهم الضَّلالة. نصب "فريقًا" الأولَ بقولَه:{تَعُودُونَ} ، وجعَل الثانيَ عطفًا عليه. وقد بيَّنا الصوابَ عندَنا مِن القولِ فيه.

‌القولِ في تأويلِ قولِه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: إن الفريق الذي حقَّ عليهم الضَّلالةُ، إنما ضلُّوا عن سبيلِ

= وأخرجه أحمد 9/ 4 (2096)، والبخارى (2526)، وابن حبان (7347) من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه الدارمي (2802)، والبخارى (4625، 4740)، ومسلم (2860/ 58)، والنسائي (2086) من طريق شعبة به.

(1)

هذا تمام قوله المتقدم، والسياق: على أن في الخبر الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. .. ما يبين صحة القول.

ص: 148

اللهِ، وجارُوا عن قصدِ المَحَجَّةِ، باتخاذِهم الشياطينَ نُصَرَاءَ مِن دونِ اللَّهِ وظُهَرَاءَ، جهلًا منهم بخطأَ ما هم عليه مِن ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يَظُنُّون أنهم على هُدًى وحقٍّ، وأن الصوابَ ما أَتَوْه وركِبوا.

وهذا مِن أبيَنِ الدلالةِ على خطأ قولِ مَن زعَم أن الله لا يُعَذِّبُ أحدًا على معصيةٍ ركِبها، أو ضلالةٍ اعْتَقَدَها، إلا أن يَأْتِيها بعدَ علمٍ منه بصوابِ وجهها، فيَرْكَبَها عِنادًا منه لربِّه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يَكُنْ بينَ فريقِ الضلالةِ الذي ضلَّ وهو يَحْسَبُ أنه هادٍ، وفريقِ الهدى - فَرْقٌ، وقد فرَّق اللهُ بينَ أسمائِهما وأحكامِهما في هذه الآيةِ.

‌القولِ في تأويلِ قولِه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء الذين يَتَعَرَّوْن عندَ طوافِهم ببيتِه الحرامِ، ويُبْدُون عوراتِهم هنالك مِن مشركي العربِ، والمُحَرِّمين منهم أكلَ ما لم يُحَرِّمه اللهُ عليهم مِن حلالِ رزقِه، تَبَرُّرًا عندَ نفسِه لربِّه:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} مِن الكِساءِ واللِّباسِ، {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا} مِن طيباتِ ما رزَقْتُكم، وحلَّلْتُه لكم، {وَاشْرَبُوا} مِن حلالِ الأشْربة، ولا تُحَرِّموا إلا ما حرَّمْتُ عليكم في كتابي، أو على لسانِ رسولي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا يحيَى بنُ [حَبيبِ بن]

(1)

عَربيٍّ، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا شعبةُ، عن سلمةَ، عن مسلمٍ البَطينِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ: إن النساءَ كُنَّ يَطْفْنَ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"حسين". وينظر تهذيب الكمال 31/ 262.

ص: 149

بالبيتِ

(1)

عُراةً - وقال في موضعٍ آخر: بغيرِ ثيابٍ - إلا أن تَجْعَلَ المرأة على فرجِها خِرْقةً، فيما وُصِف إن شاء الله، وتقولُ:

اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلُّه

فما بدا منه فلا أُحِلُّه

قال: فنزَلَت هذه الآيةُ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(2)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سلمةَ بن كُهَيْلٍ، عن مُسْلمٍ البَطِين، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كانوا يَطُوفون عُراةً؛ الرجالُ بالنهارِ، والنساءُ بالليلِ، وكانت المرأةُ تقول:

اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلُّه

فما بَدَا منه فلا أُحِلُّه

فقال الله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ}

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنةَ، عن عمرو، عن ابن عباسٍ:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: الثيابُ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ ووهبُ بنُ جَريرٍ، عن شعبةَ، عن سلمةَ بن كُهَيْلٍ، قال: سمِعْتُ مسلمًا البَطِينَ يُحَدِّثُ عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت المرأةُ تَطُوفُ بالبيتِ عُرْيانةً. قال غُنْدَرٌ: وهى عُرْيانةٌ. قال وهبٌ:

(1)

سقط مِن: ص ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

أخرجه مسلم (25/ 3028)، والنسائي (2956)، وفي الكبرى (11182) من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه مسلم أيضا (3028) / 25، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1464 (8375)، والحاكم 2/ 319، والبيهقى 2/ 223، والواحدى في أسباب النزول ص 169، من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 150

كانت المرأةُ تَطُوفُ بالبيتِ وقد أخْرَجَت صدرَها وما هنالك. قال غُنْدَرٌ: وتقولُ: مَن يُعِيرُني تِطْوافًا

(1)

؟ تَجْعَلُه على فرجِها، وتقولُ:

اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلُّه

وما بَدَا منه فلا أُحِلُّه

فأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قوله:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: كانوا يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، فأمَرَهم اللهُ أن يَلْبَسوا ثيابَهم ولا يَتَعَرَّوا

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية. قال: كان رجالٌ يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، فأمَرَهم اللهُ بالزينةِ، والزينةُ اللِّباسُ، وهو ما يُوارِي السَّوْءَةَ، وما سوى ذلك مِن جيِّدِ البَزِّ والمتاعِ، فأُمِروا أن يَأْخُذوا زينتَهم عندَ كلِّ مسجدٍ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ وابنُ فُضَيْلٍ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ:{خُذُوا زِينَتَكُمْ} . قال: كانوا يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، فأُمِروا أن يَلْبَسوا ثيابَهم

(5)

.

(1)

التطواف؛ بكسر التاء: ثوب تلبسه المرأة تطوف به. صحيح مسلم بشرح النووى 18/ 162 وضبطه ابن الأثير بفتح التاء وقال: هذا على حذف المضاف: أي ذا تطواف، ورواه بعضهم بكسر التاء

ويجوز أن يكون مصدرا أيضا. النهاية 3/ 143.

(2)

أخرجه البيهقى 2/ 223 من طريق وهب بن جرير به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1464 (8376) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى ابن مردويه.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1464 (8377) عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى ابن مردويه.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 151

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ بنحوِه.

حدَّثني عمرٌو، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ، في قولِه:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : الْبَسوا ثيابَكم.

حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخْبَرنا مغيرةُ، عن إبراهيمَ في قولِه:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : قال: كان ناسٌ يَطُوفون بالبيت عُراةً، فنُهُوا عن ذلك.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. قال: كانوا يَطُوفون بالبيت عُراةً، فأُمروا أن يَلْبَسوا الثيابَ

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يَمانٍ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: ما وارَى العورةَ ولو عَباءةً

(2)

.

حدَّثنا عمرٌو قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، وأبو عاصمٍ، وعبدُ الله بنُ داودَ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: ما يُوارِى عورتَك ولو عباءةً.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : في قريشٍ؛ لتركِهم الثيابِ في الطوافِ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيانُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بن

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (946 - تفسير) عن جرير به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1465 (8378) من طريق عثمان بن الأسود به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

تفسير مجاهد ص 335

ص: 152

جبيرٍ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: الثيابُ.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ، عن إبراهيمَ، عن نافعٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: الشَّمْلةُ

(1)

مِن الزينةِ

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، عن عمرٍو، عن طاوسٍ:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: الثيابُ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا سُوَيْدٌ وأبو أسامةَ، عن حمادِ بن زيدٍ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: كانوا يَطُوفون بالبيتِ عُراةً، فطافَت امرأةٌ بالبيتِ وهى عُريانةٌ، فقالت:

اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه

فما بَدَا منه فلا أُحلُّه

(4)

حدَّثنا بشرٌ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال: كان حيٌّ مِن أهلِ اليمنِ، كان أحدُهم إذا قدِم حاجًّا أو معتمرًا يقولُ: لا يَنْبَغِى أن أَطُوفَ في ثوبٍ قد دَنِسْتُ فيه. فيقولُ: مَن يُعِيرُني مِئْزرًا؟ فإن قدِر على ذلك، وإلا طاف عُرْيانًا، فأَنْزَل الله فيه ما تَسْمَعون:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ: قال اللهُ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . يقولُ: ما يُوارِى

(1)

الشملة: مئزر مِن صوف أو شعر يؤتزر به. اللسان (ش م ل).

(2)

سيأتي تخريجه في ص 154.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (947 - تفسير) عن سفيان به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى عبد بن حميد بنحوه.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 153

العورةَ عندَ كلِّ مسجدٍ.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ أن العربَ كانت تَطوفُ بالبيتِ عُراةً إلا الحُمْسَ؛ قريشٌ وأحْلافُهم، فمَن جاء مِن غيرِهم وضَع ثيابَه وطاف في ثيابِ أَحْمَسَ، فإنه لا يَحِلُّ له أَن يَلْبَسَ ثيابَه، فإن لم يَجِدْ مَن يُعِيرُه مِن الحُمْسِ، فإنه يُلْقِى ثيابَه ويَطوفُ عُرْيانًا، وإن طاف في ثيابِ نفسِه، ألْقاها إذا قضَى طوافه، يُحَرِّمُها فيَجْعَلُها حرامًا عليه، فلذلك قال:{آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(1)

.

وبه عن معمرٍ قال: قال ابن طاوس، عن أبيه: الشَّمْلةُ مِن الزينةِ

(2)

.

حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية: كان ناسٌ مِن أهلِ اليمنِ والأعرابِ إذا حجُّوا البيتَ يَطُوفون به عُرَاةً ليلًا، فأَمَرَهم اللهُ أن يَلْبَسوا ثيابَهم ولا يَتَعَرَّوْا في المسجدِ.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} . قال: زينتُهم ثيابُهم التي كانوا يَطْرَحونها عندَ البيتِ ويَتَعَرَّوْن.

وحدَّثني به مرةً أُخرى بإسنادِه، عن ابن زيدٍ في قولِه:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . قال: كانوا إذا جاءوا البيتَ فطافوا به، حَرُمَت عليهم ثيابُهم التي طافوا فيها، فإن وَجدوا مَن يُعِيرُهم ثيابًا، وإلا طافوا بالبيتِ عُراةً، فقال:{مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ} قال: ثيابَ اللهِ التي

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228 عن معمر به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 78 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

ص: 154

أخْرَج لعبادِه الآية.

وكالذي قلْنا أيضًا قالوا في تأويلِ قولِه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} .

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: أحَلَّ اللهُ الأكلَ والشربَ ما لم يكنْ سَرَفًا أو مَخِيلةً

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} : في الطعامِ والشرابِ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ، قال: كان الذين يَطُوفون بالبيتِ عُراةٌ يُحَرِّمون عليهم الوَدَكَ

(3)

ما أقاموا بالموسِمِ، فقال اللهُ لهم:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . يقولُ: لا تُسْرِفوا في التحريمِ

(4)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعْتُ مجاهدًا يقولُ في قولِه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} . قال: أَمَرَهم أن يَأْكُلوا

(1)

المخيلة: الكبر. ينظر النهاية 2/ 93.

والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228 - ومن طريقه البيهقي في الشعب (6572) - عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1465 (8379) من طريق محمد بن عبد الأعلى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 79 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1465 (8380) من طريق ابن جريج به.

(3)

الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. النهاية 5/ 169.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 403.

ص: 155

ويَشْرَبوا مما رزَقَهم الله

(1)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} قال: لا تأكُلوا حرامًا، ذلك الإسرافُ

(2)

.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . يقول: إن الله لا يُحِبُّ المتعدِّين

(3)

حدَّه في حلالٍ أو حرامٍ، الغالين فيما أحَلَّ اللهُ أو حرَّم، بإحلال

(4)

الحرام، وبتحريم

(5)

الحلال، ولكنه يُحِبُّ أن يُحَلَّلَ ما أَحَلَّ، ويُحَرَّم ما حرَّم، وذلك العدلُ الذي أمر به.

‌القول في تأويل قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .

يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الجَهَلةِ مِن العرب الذين يَتَعَرَّوْن عندَ طوافهم بالبيت، ويُحَرِّمون على أنفسهم ما أحْلَلْتُ لهم من طيباتِ الرزقِ: مَن حرَّم أيُّها القومُ عليكم زينةَ اللَّهِ التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتَتَجَمَّلوا بلباسها، والحلال مِن رزقِ اللَّهِ الذي رزق خلْقَه لمطاعمهم ومَشارِبهم.

واخْتَلَف أهل التأويل في المعنيِّ بالطيباتِ من الرزق، بعد إجماعهم على أن الزينة ما قلنا؛ فقال بعضُهم: الطيبات من الرزق في هذا الموضع اللحُم؛ وذلك أنهم كانوا لا يَأْكُلونه في حال إحرامهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك منهم

حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباط، عن

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 403.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1466 (8387) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد.

(3)

في ت 1 ت 2، ت 3، س، ف:"المعتدين".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"بإحلاله".

(5)

في ص، ت،1 ت 2، ت 3، س ف:"بتحريمه".

ص: 156

السديِّ في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} : وهو الوَدَكُ

(1)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} : الذي

(2)

حرَّموا على أنفسهم. قال: كانوا إذا حجُّوا أو اعْتَمَروا حرَّموا الشاةَ عليهم وما يَخْرُجُ منها.

وحدَّثنى به يونُسُ مرةً أخرى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى آخر الآية. قال: كان قومٌ يُحَرِّمون ما يَخْرُجُ من الشاة؛ لبنها وسمنها ولحمها، فقال الله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . قال: والزينةُ مِن

(3)

الثيابِ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا حِبَّانُ بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قال: لما بعث الله محمدًا فقال: هذا نبييِّ، هذا خيارى، اسْتَنُّوا به، خُذُوا في سنته

(5)

وسبيله، لم تُغلق دونَه الأبواب، ولم تَقُمْ دونَه الحَجَبَةُ

(6)

، ولم يُغْدَ عليه بالجفانِ

(7)

، ولم يُرْجَعْ عليه بها، وكان يَجْلِسُ بالأرض، ويَأْكُلُ طعامه بالأرضِ، ويَلْعَقُ يدَه، ويَلْبَسُ الغَليظ، ويَرْكَبُ الحمار، ويُرْدِفُ بعده

(8)

، وكان يقولُ:"مَن رغب عن سُنَّتى فليس منى". قال الحسن: فما أكثر الراغبين عن سنته،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1467 (8396) من طريق أحمد بن المفضل به.

(2)

في ص ت 1 ت 2 ت 3، س، ف:"الذين".

(3)

كذا في النسخ، وليست في الدر المنثور، وهو الصواب.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 81 إلى أبى الشيخ.

(5)

في ص: "سننه".

(6)

في م "الحجب". والحجبة، جمع حاجب: وهو البواب اللسان (ح ج ب).

(7)

في م: "بالجبار"، وفى الحاشية: وفى نسخة: "بالجباب"، وفى س ف:"بالخيار" وكذا في ص، ت 1، ت 2، ت 3 ولكن غير منقوطة. والمثبت من حلية الأولياء.

(8)

في م: "عبده"، وفى الحلية:"خلقه" وبعده هنا بمعنى: خلفه.

ص: 157

التاركين لها، ثم إن

(1)

عُلُوجًا

(2)

فُساقًا، أكلة الربا والغلول، قد سفَّههم ربى ومقتهم، زعموا ألا بأسَ عليهم فيما أكلوا وشربوا وزخْرَفوا هذه البيوت، يَتَأَوَّلون هذه الآية:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . وإنما جعَل ذلك لأولياء الشيطان. قد جعلها ملاعب لبطنه وفرجه. مِن كلامٍ لم يَحْفَظْه سفيانُ

(3)

.

وقال آخرون: بل عُنى بذلك ما كانت الجاهلية تُحرِّمُ مِن البَحائرِ والسَّوائبِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} : وهو ما حرَّم أهلُ الجاهلية عليهم من أموالهم؛ البحيرةُ والسائبةُ والوَصيلةُ والحامُ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ بن صالحٍ، عن على، عن ابن عباسٍ قوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . قال: إن أهل الجاهلية كانوا يُحرِّمون أشياء أحَلَّها الله من الثياب

(5)

وغيرها، وهو قولُ اللهِ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]. وهو هذا، فأنزل الله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}

(6)

.

(1)

سقط من النسخ، والمثبت من الحلية.

(2)

العلوج، جمع علج: وهو الرجل الشديد الغليظ. اللسان (ع ل ج).

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 153، 154 من طريق مسلمة بن جعفر عن الحسن به بأطول مما هنا.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1467 (8398) من طريق يزيد بن زريع، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 81 إلى عبد بن حميد.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الرزق".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1466، 1467 (839) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 81 إلى ابن المنذر.

ص: 158

‌القولُ في تأويل قوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

يقول تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لهؤلاء الذين أمَرْتُك أن تقول لهم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . إذ عَيُّوا

(1)

بالجواب فلم يَدْرُوا ما يُجيبُونك: زينةُ اللهِ التي أخْرج لعباده وطيباتُ رزقه للذين صدقوا اللَّهَ ورسولَه، واتَّبعوا ما أُنْزِل إليك من ربِّك في الدنيا، وقد شرَكَهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله، وخالف أمرَ ربِّه، وهى للذين آمنُوا بالله ورسوله خالصةً يوم القيامة، لا يَشْرَكُهم في ذلك يومَئِذٍ أحدٌ كفر بالله ورسوله، وخالف أمر ربِّه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاوية، عن عليّ بن أبى طلحة، عن ابن عباسٍ:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ: [هي للذين شاركوا]

(2)

الكفار في الطيباتِ، فأكَلوا مِن طيباتِ طعامها

(3)

، ولبسوا من خيار ثيابها

(4)

، ونكحوا من صالح نسائها

(5)

، وخلصوا بها يومَ القيامة

(6)

.

وحدَّثنى به المثنى مرةً أُخرى بهذا الإسنادِ بعينه، عن ابن عباسٍ، فقال:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . يعنى: يُشارِكُ المسلمون المشركين في الطيباتِ

(1)

عيوا: عجزوا. ينظر التاج (ع ى ي).

(2)

في م: "شارك المسلمون".

(3)

في ص، ت 1، 2، 3، س، ف:"طعامهم".

(4)

في ص ت 1، 2، ت 3 س ف:"ثيابهم".

(5)

في ص ت 1، ت 2، ت 3 س، ف:"نسائهم".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1468 (8400) من طريق عبد الله به.

ص: 159

في الحياة الدنيا، ثم يُخْلِصُ الله الطيبات في الآخرة للذين آمنُوا، وليس للمشركين فيها شيءٌ

(1)

.

حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: قال الله لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ: قل هي في الآخرة خالصةً لمن آمن بى في الدنيا، لا يَشْرَكُهم فيها أحدٌ

(2)

، وذلك أن الزينة في الدنيا لكلِّ بنى آدم، فجعلها الله خالصة لأوليائه في الآخرة

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سلمة بن نُبيطٍ، عن الضحاك:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: اليهودُ والنصارى يَشْرَكونكم فيها في الدنيا، وهى للذين آمنوا خالصةً يومَ القيامةِ (1).

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : خالصةً للمؤمنين في الآخرة، لا يُشارِكُهم فيها الكفارُ، فأما في الدنيا فقد شاركوهم

(4)

.

حدَّثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : مَن عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1468 (8404) من طريق عبد الله بن صالح به مختصرا. وينظر في هذا الأثر والأثر قبله ص 158.

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"في الآخرة".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1468 (8401) من طريق سلمة به.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1468 (8403) من طريق محمد بن عبد الأعلى.

ص: 160

كرامةُ اللهِ يومَ القيامةِ، ومَن ترك الإيمان في الدنيا، قَدِم على ربِّه لا عذر له

(1)

.

حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : يَشْتَركُ فيها معهم المشركون، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} للذين آمَنوا.

حُدِّثْتُ عن الحسين بن الفرج، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمان، قال: سمِعْتُ الضحاك يقولُ في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . يقولُ: المشركون يُشاركون المؤمنين في الدنيا، في اللباس والطعام والشراب، ويومَ القيامةِ يَخْلُصُ اللباسُ والطعامُ والشرابُ للمؤمنين، وليس للمشركين في شيءٍ مِن ذلك نصيبٌ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: الدنيا يُصِيبُ منها المؤمنُ والكافرُ، ويَخْلُصُ خيرُ الآخرة للمؤمن

(3)

، وليس للكافر فىها نصيبٌ.

حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: هذه يوم القيامة للذين آمنوا، لا يَشْرَكُهم فيها أهلُ الكفر، ويَشْرَكونهم فيها في الدنيا، وإذا كان يومُ القيامة فليس لهم فيها قليلٌ ولا كثيرٌ.

وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ في ذلك بما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا إسماعيل بن أبانٍ وحَبُّويه

(4)

الرازيُّ أبو يزيد، عن يعقوب القُمِّيِّ، عن سعيد بن جبيرٍ: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1468 (8402) من طريق سعيد بن بشير عن قتادة به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 81 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ نحوه.

(3)

في م: "للمؤمنين".

(4)

في م: "حيوية".

ص: 161

آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قال: ينتفعون بها في الدنيا، ولا يَتْبَعُهم إثمُها.

واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {خَالِصَةً} ؛ فقرأ ذلك بعضُ قرأة المدينة (خالصةٌ). برفعها، بمعنى: قل هي خالصة للذين آمنوا

(1)

.

وقرأه سائرُ قرأة الأمصار {خَالِصَةً} بنصبها على الحال من "لهم"، وقد تُرِكَ ذكرها من الكلام اكتفاءً منها بدلالة الظاهر عليها، على ما قد وصفتُ في تأويل الكلام أن معنى الكلام: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركةً، وهى لهم في الآخرة خالصةً. ومن قال ذلك بالنصب جعل خبر {هِيَ}

(2)

في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندى بالصحة قراءةُ مَن قرأ نصبًا؛ لإيثارِ العرب النصب في الفعل إذا تأخَّر بعد الاسم والصفة، وإن كان الرفعُ جائزًا، غير أن ذلك أكثر في كلامهم.

‌القولُ في تأويل قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} .

يقولُ تعالى ذكره: كما بيَّنْتُ لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة، والحلالَ من المطاعم والمشارب والحرام منها، وميَّزتُ بين ذلك لكم أيُّها الناسُ، كذلك أُبَيِّنُ جميع أدلتى وحُجَجى، وأعلام حلالى وحرامى وأحكامى، لقومٍ يَعْلَمون ما يُبَيَّنُ لهم، ويَفْقَهون ما يُميَّزُ لهم.

‌القولُ في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ

(1)

وهى قراءة نافع، وقرأ الباقون بالنصب. السبعة لابن مجاهد 280.

(2)

في ص، ت 1، 2، 3، س، ف:"هم".

ص: 162

وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.

يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ: قل يا محمدُ لهؤلاء المشركين الذين يَتَجَرَّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويُحَرِّمون أكل طيبات ما أحلَّ الله لهم من رزقه: أَيُّها القومُ، إن اللَّهَ لم يُحَرِّمُ ما تُحَرِّمونه، بل أحلَّ ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرَّم ربى القبائح من الأشياء، وهى الفواحش، ما ظهر منها فكان علانيةً، وما بطن منها فكان سرًا في خَفاءٍ.

وقد روى عن مجاهدٍ في ذلك ما حدَّثني الحارث، قال: ثنى عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعدٍ

(1)

، قال: سمِعْتُ مجاهدًا يقولُ في قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . قال: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : طوافُ أهل الجاهلية عُراةً، {وَمَا بَطَنَ}: الزنا

(2)

.

وقد ذكرتُ اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك بالروايات فيما مضى، فكرهتُ إعادته

(3)

.

وأما الإثمُ فإنه المعصيةُ، والبغى الاستطالةُ على الناس. يقولُ تعالى ذكره: إنما حرَّم ربى الفواحش مع الإثم والبغى على الناس.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن

(1)

في ت 1، ت 2 ت 3:"سعيد".

(2)

ذكر ابن أبي حاتم آخره في تفسيره 5/ 1470 عقب الأثر (8418) معلقا.

(3)

تقدم في 9/ 659 - 661.

ص: 163

السديِّ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} : أما الإثم فالمعصيةُ، والبغىُ أن يبغى على الناس بغيرِ الحقِّ

(1)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيز، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمعتُ مجاهدًا في قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} . قال: نهى عن الإثم، وهى المعاصى كلُّها، وأخْبَر أن [الباغى بَغْيُه]

(2)

كائنٌ على نفسه.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} .

يقول جلَّ ثناؤه: إنما حرَّم ربى الفواحش والشرك به؛ أَن تَعْبُدوا مع اللَّهِ إلهًا غيره، {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}. يقولُ: حرم ربُّكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شِركًا لشيءٍ لم يَجْعَلْ لكم في إشراككم إياه في عبادته حجةً ولا بُڑرهانًا، وهو السلطانُ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. يقولُ: وأن تقولوا: إن اللَّهَ أَمَرَكم بالتعرِّى والتجرُّد للطواف بالبيتِ، وحرَّم عليكم

(3)

أكل هذه الأنعام التي حرَّمتُموها وسيَّبتُموها، وجَعَلْتُموها وصائل وحوامى، وغير ذلك مما لا تَعْلَمون أن الله حرَّمه، أو أمر به، أو أباحه، فتُضيفوا إلى الله تحريمه وحَظْرَه والأمر به، فإن ذلك هو الذي حرَّمه الله عليكم، دونَ ما تَزْعُمون أن الله حرَّمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلًا منكم بحقيقة ما تقولون وتُضيفونه إلى الله.

‌القول في تأويل قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} .

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 171 (8422، 8423) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 81 إلى أبى الشيخ.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3 س ف:"اكتفى بغيه".

(3)

في ص، ت 1، ت،2 ت 3 س:"علينا".

ص: 164

يقول تعالى ذكره تَهَدُّدًا

(1)

للمشركين الذين أخبر جل ثناؤُه عنهم أنهم كانوا إذا فعلوا فاحشةً قالوا: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} . ووعيدًا منه لهم على كذبهم عليه، وعلى إصرارهم على الشرك به، والمُقام على كفرهم، ومُذَكِّرًا لهم ما أحلَّ

(2)

بأمثالهم من الأم الذين كانوا قبلهم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} . يقول: ولكلِّ جماعةٍ اجتمعت على تكذيب رسل الله وردِّ نصائحهم

(3)

والشرك بالله مع متابعة ربِّهم حُجَجَه عليهم {أَجَلٌ} يعنى: وقتٌ لحلول العقوبات بساحتهم، ونزول المثُلات بهم على شركهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}. يقولُ: فإذا جاء الوقتُ الذي وقَّته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم، {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. يقول: لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا، ولا يُمَتَّعون بالحياة فىها عن وقتِ هلاكهم وحين حلول أجل فنائهم

(4)

ساعةً من ساعاتِ الزمانِ، {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}. يقول: ولا يتقدَّمون بذلك أيضًا عن الوقتِ الذي جعله الله لهم وقتًا للهلاكِ.

‌القولُ في تأويل قوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)} .

يقول تعالى ذكره معرِّفًا خلقه ما أعدَّ لحزبه وأهل طاعته والإيمان به وبرسله، وما أعدَّ لحزب الشيطان وأوليائه والكافرين به وبرسله:{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} . يقول: إن يَجِئكم رسلى الذين أُرسلُهم إليكم بدعائكم إلى طاعتي، والانتهاء إلى أمرى ونهيى، {مِنْكُمْ}. يعنى: من أنفسكم، ومن عشائركم وقبائلكم، {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}. يقول: يَتلون عليكم آيات كتابى،

(1)

في م: "مهددا".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"حل".

(3)

بعده في ص ت 1 ت 2 ت 3 س ف: "ذلك".

(4)

في ت 1، ت 2، ت 3، ف:"قيامهم".

ص: 165

ويعرِّفونكم أدلتى وأعلامى على صدق ما جاءوكم به من عندى، وحقيقة ما دَعَوْكم إليه من توحيدى، {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ}. يقول: فمن آمن منكم بما أتاه به رسلى مما قصَّ عليه من آياتي وصدق، واتقى الله فخافه بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه على لسان رسوله، {وَأَصْلَحَ}. يقولُ: وأصلح أعماله التي كان لها مفسدًا قبل ذلك من معاصى الله بالتحوُّب

(1)

منها، {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}. يقول: فلا خوفٌ عليهم يوم القيامةِ مِن عقابِ اللَّهِ إِذا ورَدُوا عليه، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من دُنياهم التي تركوها، وشَهَواتِهم التي تجنبوها؛ اتباعًا منهم لنهى الله عنها، إذا عاينُوا مِن كرامة

(2)

الله ما عاينوا هنالك.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا هشامٌ أبو عبد الله، قال: ثنا هَيَّاجٌ،

قال: ثنا عبد الرحمن بنُ زيادٍ، عن أبي سيَّارٍ السُّلَميِّ، قال: إن الله تبارك وتعالى جعَل آدمَ وذريته في كفِّه، فقال:{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . ثم نظر إلى الرسل، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون: 51 - 52]. ثم بثَّهم

(3)

.

فإن قال قائلٌ: فأين

(4)

جوابُ قوله: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ؟

قيل: قد اختلف أهلُ العربية في ذلك؛ فقال بعضُهم في ذلك: الجوابُ مُضْمَرٌ، يَدُلُّ عليه ما ظهر من الكلام، وذلك قولُه:{فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} . وذلك لأنه حين قال: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} . كأنه قال: فأَطِيعوهم.

(1)

ينظر تفسير "التحوب" في 6/ 356 - 358.

(2)

إلى هنا ينتهى الخرم المشار إليه في ص 143.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى المصنف.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ما".

ص: 166

وقال آخرون منهم: الجوابُ {فَمَنِ اتَّقَى} ؛ لأن معناه: فمَن اتَّقَى منكم وأَصْلَح. قال: ويَدُلُّ على أن ذلك كذلك، تبعيضُه الكلام، فكان في التبعيض اكْتِفاءٌ من ذكر "منكم".

‌القول في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: وأما من كذَّب بأنباء رسلى التي أرْسَلْتُها إليه، وجحد توحيدي، وكفر بما جاءته به رسلى، واسْتَكْبَر عن تصديقِ حُحَجى وأدلَّتى، فـ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}. [يقولُ: فمن فعل ذلك فهو من أهل نار جهنم الذين هم أهلها]

(1)

، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. يقول: هم في نار جهنم ماكثون لا يَخْرُجون منها أبدًا.

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤُه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} .

يقول تعالى ذكرُه: فمن أخْطَأُ فِعْلًا وأجهلُ قولًا وأبعدُ ذهابًا عن الحقِّ والصواب {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} . يقولُ: مُمَّن اخْتَلَق على اللَّهِ زُورًا مِن القول، فقال إذا فعل فاحشةً: إن الله أمرنا بها، {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}. يقولُ: أو كذَّب بأدلته وأعلامه الدالَّة على وحدانيته ونبوّة أنبيائه، فجحد حقيقتها ودافع صحتها. {أُولَئِكَ}. يقولُ: مَن فعل ذلك، فافترى على اللَّهِ الكذب وكذَّب بآياتِه، {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}. يقولُ: يَصِلُ إليهم حظهم مما كتب الله

(2)

لهم في اللوح المحفوظ.

(1)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

سقط من: الأصل.

ص: 167

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويل في صفة ذلك النصيب الذي لهم في الكتاب وما هو؟ فقال بعضُهم: هو عذابُ اللَّهِ الذي أعدَّ لأهل الكفر به.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم [وعمرُو بنُ عبد الحميد، قالا]

(1)

: ثنا مروانُ، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبي صالح في قوله:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . [قال: من العذابِ]

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالحٍ مثله

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . يقولُ: ما كُتِب لهم من العذابِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرنا هُشَيْمٌ، عن جُوَيْبرٍ، عن كثير بن زيادٍ، عن الحسن في قوله:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: من العذاب

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاوية، عن جُويبرٍ، عن أبي سهلٍ، عن الحسن، قال: من العذاب.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المُحاربيُّ، عن جُويبرٍ، عن رجلٍ، عن الحسن، قال: من العذاب.

(1)

في ص م ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال".

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2 ت 3، س، ف، وفى م:"أي من العذاب".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8444) من طريق أبى أسامة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد.

ص: 168

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما سبق لهم مِن الشَّقاء والسعادة.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريكٍ، [عن سالمٍ]

(1)

، عن سعيدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: مِن الشِّقوة والسعادة

(2)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ بن أبى ليلى، عن القاسم بن أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: كـ {شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105].

حدَّثنا واصلُ بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، عن الحسن بن عمرٍو الفُقَيميِّ، عن الحكم، قال: سمعتُ مجاهدًا يقولُ: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: هو ما سبق

(3)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما كُتب لهم من الشَّقاوة والسَّعادة.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شبلٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} : ما كُتب عليهم من الشَّقاوة والسعادة، كـ {شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}

(4)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 عقب الأثر (8440) معلقا.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1473 (8437) من طريق الحسن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد.

(4)

تفسير مجاهد ص 336.

ص: 169

حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريكٍ، [عن جابر]

(1)

، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . مِن الشَّقاوة والسعادة.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نُميرٍ وابن إدريس، عن الحسن بن عمرٍو، عن الحكم، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما قد سبق مِن الكتاب.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حميدٌ بن عبد الرحمن، عن فُضَيْلِ بن مرزوقٍ، عن عطية:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما قد سبق لهم في الكتاب

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ عمرٍو ويَحْيَى بنُ آدمَ، عن شريكٍ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: من الشِّقوة

(3)

والسَّعادة

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبو معاوية، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: ما قُضِى أو قُدِّر عليهم.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: [{يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}]

(5)

: يَنالُهم الذي كُتب عليهم من

(1)

سقط من الأصل.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8443) من طريق أبى إسرائيل الملائى عن عطية بلفظ: كتاب الصادق. أو: الكتاب السابق.

(3)

في م: "الشقاوة".

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 عقب الأثر (8440) معلقًا.

(5)

سقط من: الأصل، ص.

ص: 170

الأعمال.

حدَّثنا عمرُو بن عبد الحميد، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاوية، عن إسماعيل بن سُمَيْعٍ، عن بكيرٍ

(1)

الطويلِ، عن مجاهدٍ في قول الله:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: قومٌ يَعْمَلون أعمالًا لا بُدَّ لهم من

(2)

أن يَعْمَلوها

(3)

.

حدَّثنا عمرُو بنُ عبد الحميد، قال: حدثنا مروانُ، عن الحسن بن عمرٍو، عن الحكم، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ينالُهم ما سبق لهم في الكتاب

(4)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالُهم نصيبُهم من كتابهم الذي كُتِب

(5)

لهم أو عليهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير أو

(6)

شرٍّ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . يقولُ: نصيبُهم مِن الأعمالِ، مَن عَمِل خيرًا جُزِى به، ومَن عَمِل شرًّا جُزِى به

(7)

.

(1)

في النسخ: "بكر". والمثبت من تفسير ابن أبي حاتم. وينظر التاريخ الكبير 2/ 114.

(2)

سقط من: م وليست في تفسير ابن أبي حاتم ولا الدر المنثور.

(3)

ذكره القرطبي في تفسيره 7/ 203 عن مروان الفزارى به من قول ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1473، 1474 (8439) من طريق إسماعيل بن سميع به من قول ابن عباس. وكذا عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى ابن أبي حاتم وأبى الشيخ وابن المنذر.

(4)

هذا مكان الأثر في الأصل، ومكانه في بقية النسخ بعد أثر الضحاك القادم في ص 174، وفيه: لهم من. بدلا من: لهم في.

(5)

بعده في: ف "الله".

(6)

في ص، م، ت، ت 2، ت 3، س، ف:"و".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1473 (8438) من طريق عبد الله بن صالح، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى ابن المنذر.

ص: 171

حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: مِن أحكام الكتاب على قدر أعمالهم.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: يَنالُهم نصيبُهم في الآخرةِ مِن أعمالهم التي عملوا وأسْلَفوا

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . أي: أعمالُهم، أعمالُ السَّوء التي عملوها وأسْلَفوها

(2)

.

حدَّثني أحمدُ بنُ المقدامِ، قال: ثنا المعتمرُ، قال: قال أبى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} : زعَم قتادةُ: من أعمالهم التي عملوا.

حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: ثنا عُبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . يقولُ: يَنالُهم

(3)

نصيبُهم من العمل. يقولُ: إِنْ عمِل مِن ذلك نصيب خيرٍ جُزِى خيرًا، وإن عمل شرًا جُزِى مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: يَنالُهم نصيبهم مما وُعِدوا في الكتابِ مِن خيرٍ أو شرٍّ.

(1)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"سلفوا".

والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228، عن معمر به، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8445).

(2)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"سلفوها".

(3)

سقط من: الأصل.

ص: 172

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدُ بن أبى الزَّرْقاءِ، عن سفىان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في هذه الآيةِ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: من الخير والشرِّ

(1)

.

حدَّثنا عليٌّ، قال: حدَّثنا زيدٌ، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهدٍ قال: ما وُعدوا.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما وُعِدوا

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفىان، عن منصور، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما وُعِدوا فيه من خيرٍ أو شرٍّ.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدَّثنا أبى، عن سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ

(3)

، عن ابن عباسٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما وُعِدُوا فيه من خيرٍ أو شرٍّ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نُعيم، قال: ثنا سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما وُعِدوا فيه.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8440) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 82 إلى الفريابى وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8441) من طريق عبد الرحمن به.

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن ليث".

ص: 173

{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: ما وُعِدُوا مِن خيرٍ أو شرٍّ

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ، قال: ما وُعِدوا فيه من خيرٍ أو شرٍّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتاب الذي كتبه الله على من افترى عليه.

‌ذكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . يقولُ: يَنالُهم ما كُتب عليهم. يقولُ: قد كُتب لَمَن يَفْتَرِى على الله أن وجهَه مُسْوَدٌّ

(2)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالُهم نصيبُهم مما كُتِب لهم من الرزق والعُمر والعمل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعدٍ، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنسٍ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} : مما كُتب لهم من الرزق

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا محمدُ بن حربٍ، عن ابن لهيعة،

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 405.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8446) من طريق عبد الرحمن به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد.

ص: 174

عن أبي صَخْرٍ، عن القُرَظيِّ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} : قال: عملُه ورزقه وعمره

(1)

.

حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: من الأعمال والأرزاق والأعمار، فإذا فنى هذا جاءتهم رسلُنَا يَتَوَفَّوْنهم، وقد فرغوا مِن هذه الأشياء كلِّها.

وأولى هذه الأقوال عندى بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك: أولئك ينالُهم نصيبهم

(2)

مما كُتب لهم من خير وشرٍّ في الدنيا، ورزقٍ وعملٍ وأجَلٍ. وذلك أن الله جلَّ ثناؤه أتبع ذلك قوله:{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . فأبان بإتباعه ذلك قوله: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . أن الذي ينالُهم من ذلك إنما هو ما كان مَقْضِيًّا عليهم في الدنيا أن ينالهم؛ لأنه قد أخبر أن ذلك ينالُهم إلى وقتِ مجيئهم رسلُه لتَقْبِضَ أرواحهم، ولو كان ذلك نصيبهم من العذابِ

(3)

، أو مما قد أعِدَّ لهم في الآخرة، لم يَكُنْ محدودًا بأنه ينالُهم إلى [حين مجيئهم]

(4)

رسل الله لوفاتهم؛ لأن رسلَ اللَّهِ لا تَجيئُهم للوفاة في الآخرة، وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انْقِضَاءَ، فإن الله قد قضى عليهم بالخلودِ فيه، فبيِّنٌ بذلك أن معناه ما اخْتَرْنا من القول فيه.

‌القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} .

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1474 (8442) من طريق أبى صخر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

(2)

بعده في م: "من الكتاب".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2 ت 3 س ف:"الكتاب".

(4)

في ص، ت 1، 2، ت 3، س، ف:"حين"، وفى م:"مجئ".

ص: 175

يعنى جلَّ ثناؤه بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} : إلى أن جاءتهم رسلُنا، [يقول جلَّ ثناؤُه: و]

(1)

هؤلاء الذين افْتَرَوْا على اللَّهِ الكذبَ، أو كذَّبوا بآياتِ ربِّهم، ينالُهم حُظوظُهم التي كتب الله لهم، وسبق في علمه لهم من رزقٍ وعملٍ وأجَلٍ وخيرٍ وشرٍ في الدنيا، إلى أن تأتيَهم رسلُنا لقبض أرواحهم، فـ {إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا}. يعني: ملك الموتِ وجُنْدُه، {يَتَوَفَّوْنَهُمْ}. يقولُ: يَسْتَوفُونَ عَددَهم من الدنيا إلى الآخرة، {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. يقولُ: قالت الرسلُ: أين الذين كنتُم تَدْعُونهم أولياء مِن دونِ اللَّهِ وتَعْبُدونهم، هلَّا

(2)

يَدْفَعون عنكم ما قد جاءكم من أمر الله الذي هو خالقُكم وخالقُهم، وما قد نزل بساحتِكم من عظيم البلاء! وهلَّا يُغيثونكم من كرب ما أنتم فيه، فيُنقذونكم منه! فأجابهم الأشْقِياءُ، فقالوا: ضَلَّ عنا أولياؤُنا الذين كنا نَدْعُو مِن دونِ اللهِ، يعنى بقوله:{ضَلُّوا} : جاروا

(3)

وأخذوا غير طريقنا، وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم يَنْفَعونا، يقولُ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه: وشهد القومُ حينئذٍ على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بالله، جاحِدِين وَحْدانيته.

‌القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} .

وهذا خبرٌ مِن الله جلَّ ثناؤه عن قيله لهؤلاء المُفْتَرِين عليه، المكذِّبين آياته يومَ القيامة. يقول تعالى ذكرُه: قال الله لهم حينَ ورَدُّوا عليه يوم القيامة: ادْخُلُوا أَيُّها المُفْتَرُون على ربِّكم، المكذِّبون رسله في جماعاتٍ مِن ضُرَبائِكُم {قَدْ خَلَتْ مِنْ

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لا".

(3)

في ف: "حادوا".

ص: 176

قَبْلِكُمْ}. يقولُ: قد سَلَفَت مِن قبلكم، {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ}. ومعنى ذلك: ادْخُلُوا في أمم هي في النار، قد خلت من قبلكم من الجنِّ والإنس. فإنما يعنى بـ "الأمم" الأحزاب وأهل الملل الكافرة، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: كلما دخَلَت النارَ جماعةٌ مِن أهل ملةٍ {لَعَنَتْ أُخْتَهَا} . يقولُ: شتمت الجماعة الأخرى من أهل ملتِها؛ تبرِّيًا منها.

وإنما عنى بـ "الأختِ" الأُخوَّة في الدين والملَّة. وقيل: {أُخْتَهَا} . ولم يَقُلْ: أخاها، لأنه عنى بها أمةً وجماعةً أخرى، كأنه قيل: كلما دخلت أمةٌ لعنت أمةً أُخرى من أهل ملتها ودينها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضلٍ، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} . يقولُ: كلما دخلت أهلُ ملةٍ لعنوا أصحابهم على ذلك الدينِ، يَلْعَنُ المشركون المشركين، واليهودُ اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تَلْعَنُ الآخِرةُ الأولى

(1)

.

‌القول في تأويل قوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} .

يقولُ جلَّ ثناؤه: حتى إذا تَدارَكَت الأم في النارِ جميعًا. يعنى: اجْتَمَعَت فيها.

يقالُ: قد ادَّارَكوا وتَدَارَكوا. إذا اجْتَمَعوا.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1475 (8450) من طريق أحمد بن مفضل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى أبى الشيخ.

ص: 177

يقولُ: اجْتَمَع فيها الأوَّلون من أهل الملل الكافرة، والآخرون منهم.

‌القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} .

وهذا خبرٌ من الله جلَّ ثناؤُه عن مُحاوَرةِ الأحْزابِ مِن أهل الملل الكافرة في النارِ يومَ القيامة، يقولُ الله جلَّ ثناؤه: فإذا اجْتَمَع أهل الملل الكافرة في النارِ فادَّارَكوا، قالت أُخرى أهلِ كلِّ ملةٍ دخلت النار، الذين كانوا في الدنيا بعد أُولَى منهم تقدَّمَتْها وكانت لها سلفًا وإمامًا في الضَّلالة والكفر، لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربَّنا هؤلاء أضَلُّونا عن سبيلك، ودعَوْنا إلى عبادة غيرك، وزيَّنوا لنا طاعة الشيطان، فآتِهم اليومَ مِن عذابك الضعف على عذابنا.

كما حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بن مفضلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} : الذين كانوا في آخر الزمانِ {لِأُولَاهُمْ} الذين شرعوا لهم ذلك الدين: [ربَّنا هؤلاء هم الذين شرعوا لهم ذلك الدين]

(1)

، {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}

(2)

.

وأما قوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} . فإنه خبرٌ مِن اللَّهِ عن جوابِه لهم، يقولُ: قال الله للذين يَدْعُونه فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} ، لكُلِّكم؛ أوَّلِكم وآخركم، وتابعكم ومُتَّبعكم {ضِعْفٌ}. يقولُ: مُكَرَّرٌ عليه العذابُ.

وضِعْفُ الشئ مثلُه مرةً.

وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك بما حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1475 (8451)، من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر=

ص: 178

عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} : مُضَعْفٌ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: قال الله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} . للأُولى والآخرة ضعفٌ

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنى غيرُ واحدٍ، عن السديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ:{ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} . قال: أفاعى

(3)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيز، قال: ثنا سفيان، عن السديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ:{فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} . قال: حيَّاتٍ وأفاعى.

وقيل: إن المُضَعَّفَ

(4)

في كلام العرب ما كان ضِعْفَيْن، والمُضاعَفُ ما كان أكثر من ذلك.

= المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد.

(1)

سقط من: م، ت 2.

والأثر في تفسير مجاهد ص 336، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1476 (8454)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1476 (8455) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد.

(3)

ينظر تفسير القرطبي 7/ 2005.

(4)

في، م، ت،2 ت 3 س، ف:"الضعف".

ص: 179

وقوله: {وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} . يقولُ: ولكنكم يا معشر أهل النارِ لا تَعْلَمون ما قَدْرُ ما أَعَدَّ الله جلَّ ثناؤه لكم من العذابِ، فلذلك تَسْأَلُونَ

(1)

الضِّعْفَ منه

(2)

أيتُها الأمة الكافرة آخِرًا لأُختها الأولى.

‌القول في تأويل قوله جلَّ وعزَّ: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)} .

يقول جلَّ ثناؤه: وقالت أولَى كلِّ أمةٍ وملَّةٍ سلفت في الدنيا، لأُخراها الذين جاءوا من بعدهم، وحدثوا بعد زمانهم فيها، فسلكوا سبيلهم، واسْتَنُّوا سُنَّتهم:{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} ، وقد علمْتُم ما حَلَّ بنا مِن عقوبةِ اللَّهِ بمعصيتنا إياه وكُفْرِنا به، و

(3)

جاءَتْنا وجاءتكم بذلك الرسلُ والنُّذُرُ، هل أنبتُم

(4)

إلى طاعة الله، وارْتَدَعْتُم عن غَوَايتكم وضَلالتِكم؟ فانقطعت حجةُ القوم وخُصموا ولم يُطيقوا جوابًا، بأن يقولوا: فُضِّلْنا عليكم أنا

(5)

اعْتَبَرْنا بكم، فَآمَنَّا بِاللَّهِ وصدَّقْنا رسله. قال الله لجميعهم: فذُوقوا جميعكم أيُّها الكفرة عذاب جهنم بما كنتم في الدنيا تكسبون من الآثامِ والمعاصى، وتجترحون من الذنوب والإجرام.

وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهلُ التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعْتَمِرُ بن سليمان، قال: سَمِعْتُ عِمْرانَ، عن أبي مِجْلَزٍ: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ

(1)

في م: "تسأل"، وفى ت:1: "تسكنون"، وفى ت:"يسألون"، وفى س، ف:"يستكون".

(2)

في الأصل: "منها"،

(3)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"ما".

(4)

في م، ت 2، ت 3، ف:"انتهيتم"، وفى ت 1، س:"ألتم".

(5)

في ص، ت 1، س، ف:"إذا".

ص: 180

فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}. قال: يقولُ: فما فضلكم علينا وقد بُيِّن لكم ما صُنع بنا وحُذِّرْتُم؟

(1)

.

حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بن المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} : فقد ضلَلْتُم كما ضللنا

(2)

.

وكان مجاهد يقولُ في ذلك بما حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} . قال: من التخفيف من العذاب

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} . قال: مِن تَخْفيفٍ

(3)

.

وهذا القولُ الذي ذكرناه عن مجاهدٍ قولٌ لا معنى له؛ لأن قول القائلين: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} . لمن قالوا له

(4)

ذلك، إنما هو توبيخٌ منهم لهم

(4)

على ما سلف قبل تلك الحال، يَدُلُّ على ذلك دخول "كان" في الكلام، ولو كان ذلك منهم توبيخًا لهم على قيلهم الذي قالوا لربِّهم:{فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} . لكان التوبيخُ بأن يقال: فما لكم علينا من فضل في تخفيف العذاب عنكم، وقد نالكم ما قد نالنا من العذاب. ولم يَقُلْ:{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} .

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1476 (8458) عن محمد بن عبد الأعلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 83 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1476 (8457) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 82 إلى عبد بن حميد.

(3)

تفسير مجاهد ص 336، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1476 (8456).

(4)

سقط من: م، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 181

‌القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} .

يقول تعالى ذكره: إن الذين كذَّبوا بحججنا وأدلتنا فلم يُصَدِّقوا بها، ولم يَتَّبعوا رسلَنا {وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا}. يقولُ: وتكَبَّروا عن التصديق بها، وأَنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبُّرًا، لا تُفَتَّحُ لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبوابُ السماءِ، ولا يَصْعَدُ لهم في حياتِهم إلى الله عز وجل قولٌ ولا عملٌ؛ لأن أعمالهم خَبيثَةٌ، وإنما يَرْفَعُ الكَلِمَ الطيب

(1)

العملُ الصالحُ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويل في تأويل قوله: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لا تُفَتَّحُ لأرواح هؤلاء الكفار أبوابُ السماء.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يَعْلَى

(2)

، عن أبي سنانٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . قال: عنَى بها الكفار؛ أن السماء لا تُفَتَّحُ لأرواحهم، وتُفَتَّحُ لأرواح المؤمنين

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاوية، عن أبي سنانٍ، عن الضحاك، قال: قال ابن عباسٍ: تُفَتَّحُ السماءُ لرُوحِ المؤمنِ، ولا تُفَتَّحُ لروحِ الكافر.

حدَّثنا محمدُ بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بن المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن

(1)

بعده في م، ت 2، ت 3، س:"و".

(2)

في الأصل: "تعلى". وينظر تهذيب الكمال 10/ 492، 493.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1476 (8459) من طريق يعلى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 83 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 182

السديِّ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . قال: إن الكافرَ إِذا أُخِذَ رُوحُه ضَرَبَتْه ملائكةُ الأرض حتى يَرْتَفِعَ إلى السماء، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكةُ السماء فهبط، فضرَبَتْه ملائكةُ الأرضِ، فارْتَفَع، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا، فهبط إلى أسفل الأرَضِين، وإذا كان مؤمنًا رُفع

(1)

رُوحُه، وفُتِّحَت

(2)

له أبوابُ السماء، فلا يمُرُّ بملكٍ إلا حيَّاه وسلَّم عليه، حتى يَنْتَهِيَ إِلى اللَّهِ فِيُعْطِيَه حاجتَه، ثم يقولُ: رُدُّوا رُوحَ عبدى فيه إلى الأرضِ؛ فإني قضَيْتُ مِن التراب خلقه، وإلى التراب يَعودُ، ومنه يَخْرُجُ

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا يَصْعَدُ لهم عملٌ صالحٌ، ولا دعاءٌ إلى اللَّهِ عز وجل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبيد الله، عن سفيان، عن ليثٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} : لا يَصْعَدُ لهم قولٌ ولا عملٌ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . يعنى: لا يَصْعَدُ إِلى اللَّهِ مِن عملهم شيءٌ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن

(1)

في ص، ت 1، س:"نفخ"، وفى م، ف:"أخذ".

(2)

في م: "فتح".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1477 (8463) من طريق أحمد بن المفضل به ببعضه.

(4)

تفسير سفيان ص 112، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1477 (8462)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 83 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1477 (8460) من طريق عبد الله بن صالح به.

ص: 183

أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . يقولُ: لا تُفَتَّحُ لخيرٍ يَعْمَلُون

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . قال: لا يَصْعَدُ لهم كلامٌ ولا عملٌ

(2)

.

حدثنا مطَرُ بنُ محمدِ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا عبد الله بن داودَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن منصورٍ عن إبراهيم في قوله:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . قال: لا يَرْتَفِعُ لهم عملٌ ولا دعاءٌ

(2)

.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يَحْيَى بْنُ آدمَ، عن شَرِيكٍ، عن سالمٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}. قال: لا يَرْتَفِعُ لهم عملٌ ولا دعاءٌ]

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سعيدٍ:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . قال: لا يُرْفَعُ لهم عمل صالحٌ ولا دعاءٌ.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تُفَتَّحُ أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} . قال: لأرواحهم ولا لأعمالهم

(4)

.

وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول؛ لعموم خبر الله أن أبواب السماء لا تُفَتَّحُ لهم، ولم يخصُص الخبر بأنه تُفَتَّحُ لهم في شيءٍ، فذلك على ما عمه خبر الله

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1477 (8461) عن محمد بن سعد به.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1477 عقب الأثر (8462) معلقا.

(3)

سقط من س، ف.

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى المصنف.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى المصنف.

ص: 184

بأنها لا تُفَتَّحُ لهم في شيءٍ مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك.

وذلك ما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو بكر بنُ عياشٍ، عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبضَ رُوحِ الفاجرِ، وأنه يُصْعَدُ بها إلى السماءِ، قال: "فيصْعَدون بها، فلا يَمُرُّون على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروحُ الخَبيثُ؟ فيقولون: فلانٌ. بأقبح أسمائه التي كان يُدْعَى بها في الدنيا، حتى يَنْتَهُوا بها إلى السماء الدنيا

(1)

، فيسْتَفْتِحون له فلا يُفْتَحُ له". ثم قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}

(2)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ، عن سعيد بن يسارٍ، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الميتُ تَحْضُرُه الملائكةُ، فإذا كان الرجلُ الصالحُ قالوا: اخْرُجى أيَّتها النفسُ الطيبةُ كانت في الجسد الطيب، اخرُجى حميدةً، وأَبْشِرِى بِرَوْحِ اللَّهِ وَرَيحانٍ وربٍّ غيرِ غَضْبانَ. قال: فيقولون ذلك حتى يُعْرَجَ بها إلى السماءِ، فيُسْتَفْتَحُ لها، فيُقالُ: من هذا؟ فيقولون: فلانٌ. فيُقالُ: مرحبًا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسدِ الطيب، ادخلى حَميدةً، وأبْشِرِى بروح وريحانٍ وربٍّ غيرِ غَضْبَانَ. فيُقالُ لها ذلك حتى يُنتهى إلى السماء التي فيها اللهُ عز وجل. وإذا كان الرجلُ السَّوْءُ قالوا

(3)

: اخْرُجى أَيَّتُها النفسُ الخَبيثةُ كانت في الجسدِ الخبيث، اخْرُجي ذميمةً، وأَبْشِرِى

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

أخرجه الطيالسي (789)، وابن أبي شيبة 3/ 310، 374، 380 - 382، وأحمد 30/ 449 - 506 (18534 - 18536)، وهناد في الزهد (339)، وأبو داود (3212، 4753، 4754)، وابن أبى حاتم في تفسيره 5/ 1477، 1478 (8465)، والحاكم 1/ 37، والبيهقى في عذاب القبر (21) من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 83، 84 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت،3، س، ف:"قال".

ص: 185

بحميمٍ وغَسَّاقٍ، وآخر من شكله أزواجٍ، فيقولون ذلك حتى تَخْرُجَ، ثم يُعْرَجُ بها إلى السماءِ، فيُسْتَفْتَحُ لها، فيُقالُ: مَن هذا؟ فيقولون: فلانٌ. فيقولون: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيثِ، ارْجِعِى ذَميمةً، فإنه لم

(1)

تُفْتَحْ لك أبوابُ السماءِ. فتُرْسَلُ بينَ السماء والأرضِ، فتَصِيرُ إلى القبرِ"

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحكم، قال: ثنا ابن أَبي فُدَيْكٍ، قال: ثنى ابن أبي ذئبٍ، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ، عن سعيدِ بن يَسارٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.

واخْتَلَفَت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأة الكوفة: (لا يُفْتَحُ لهم أبوابُ السماءِ) بالياء من "يُفْتَحُ" وتخفيف التاءِ منها

(3)

. بمعنى: لا يُفْتَحُ لهم جميعًا

(4)

بمرةٍ واحدة وفتحةٍ واحدةٍ.

وقرأ ذلك بعضُ المدنيين وبعضُ الكوفيين: {لَا تُفَتَّحُ} بالتاء وتشديد التاءِ الثانية

(5)

. بمعنى: لا يُفْتَحُ لهم بابٌ بعد بابٍ، وشيءٌ بعد شيءٍ.

والصواب في ذلك

(6)

من القول أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، صحيحتا المعنى، وذلك أن أرواح الكفار لا تُفتَّحُ لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبوابُ السماء بمرَّةٍ

(1)

في م: "لا".

(2)

أخرجه أحمد 14/ 377، 378 (8769)، 6/ 139 (الميمنية)، وابن ماجه (4262، 4268)، والنسائى في الكبرى (11442)، وابن خزيمة في التوحيد 1/ 276، 277 من طريق ابن أبي ذئب به، وأخرجه ابن حبان (3014)، والحاكم 1/ 352، 353 من طريق قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 83 إلى البيهقى في البعث.

(3)

وهى قراءة حمزة والكسائى وخلف. النشر 2/ 202.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"جميعها".

(5)

وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبى جعفر ويعقوب، وقرأ أبو عمرو بالتأنيث والتخفيف. النشر 2/ 202.

(6)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عندى".

ص: 186

واحدةٍ، ولا مرَّةً بعد مرةٍ، وبابًا بعدَ بابٍ، فكلا المعنيين في ذلك صحيحٌ. وكذلك الياءُ والتاءُ في "يُفْتَحُ" و"تُفَتَّحُ"؛ لأن الياءَ بناءٌ على فعل الواحد للتوحيد، والتاء لأن الأبواب جماعة، فيُخْبَرُ عنها خبرُ الجماعة.

‌القولُ في تأويل قوله جلَّ وعزَّ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)} .

يقولُ جلَّ ثناؤه: ولا يَدْخُلُ هؤلاء الذين كذبوا بآياتِنا واسْتَكْبَروا عنها، الجنةَ التي أعَدَّها اللَّهُ لأوليائه المؤمنين أبدًا، كما لا يَلِجُ الجملُ في سمِّ الخياط أبدًا، وذلك ثَقْبُ الإبرة.

وكلُّ ثَقبٍ في عينٍ أو أنفٍ أو [أُذنٍ]

(1)

أو غير ذلك، فإن العرب تُسَمِّيه سمًّا، وتَجْمَعُه سُمومًا وسمامًا، والسِّمامُ في جمع السَّمِّ القاتل أشهرُ وأفصحُ مِن السُّمومِ، والسُّمومُ في جمعِ السَّمِّ الذي هو بمعنى الثَّقْبِ أفصحُ، وكلاهما في العرب مُسْتَفِيضٌ، وقد يقالُ لواحدِ السُّموم التي هي الثُّقوبُ: سَمٌّ وسُمٌّ. بفتح السين وضمِّها، ومِن السَّمِّ الذي بمعنى الثَّقْبِ قولُ الفَرَزْدَقِ

(2)

:

فنفَّستُ عن سَمَّيْه حتى تنفَّسَا

وقلت له لا تَخْشَ شيئًا وَرائِيَا

يعنى بـ "بسَمَّيْه" ثَقْبَيْ أَنفِه.

وأما الخياطُ فإنه المخيطُ، وهى الإبرةُ، قيل لها: خياطٌ و: مخيطٌ، كما قيل: قِناعٌ و: مِقْنَعٌ، وإزارٌ و: مِئزَرٌ، و: قرام [و: مِقْرَمٌ]

(3)

، و: لحافٌ و: مِلْحَفٌ.

(1)

سقط من: ص م، ت 1، 2، ت 3، س، ف.

(2)

ديوانه ص 895.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 1، س، ف.

ص: 187

وأما القرأةُ من جميع الأمصار، فإنها قرأت قولَه:{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . بفتح السين، وأجْمَعَت على قراءةِ {الْجَمَلُ} بفتح الجيم والميم وتخفيف ذلك.

وأما ابن عباس وعكرمةُ وسعيدُ بن جبيرٍ، فإنه حُكى عنهم أنهم كانوا يقرءون ذلك:(الجُمَّلُ). بضمِّ الجيم وتشديد الميم

(1)

، على اختلافٍ في ذلك عن ابن عباسٍ وسعيدٍ.

فأما الذين قرءوه بالفتح من الحرفين والتخفيف، فإنهم وجَّهوا تأويله إلى الجمل المعروف، وكذلك فسَّروه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا يحيى بنُ طلحةَ اليربوعيُّ، قال: ثنا فُضَيْلُ بنُ عِياضٍ، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبدِ اللهِ في قوله:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال: هو الجملُ ابن الناقة، أو زوجُ الناقِة.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حصينٍ، عن إبراهيم، عن عبد الله:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال: الجملُ زوجُ الناقة.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفىان، عن أبي حصينٍ، عن إبراهيم، عن عبدِ اللَّهِ مثله.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عن هُشَيْمٍ، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبدِ اللهِ، قال: الجملُ زوج الناقة

(2)

.

(1)

هي قراءة شاذة لم يقرأ بها أحد من من القراء العشرة.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (948 - تفسير) - ومن طريقه الطبراني (8691) - عن هشيم به.

ص: 188

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أَخْبَرنا هُشَيْمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيم، عن عبدِ اللَّهِ مثله.

[حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيم، عن عبدِ اللَّهِ مثلهٍ

(1)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا قُرَّةُ، قال: سَمِعْتُ الحسن يقولُ: الجملُ الذي يقومُ في المرْبدِ

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسن:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال: حتى يَدْخُلَ البعيرُ في خَرْقِ الإبرة

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن مَهْديِّ، عن هُشيمٍ، عن عَبَّادِ بن راشدٍ، عن الحسن، قال: هو الجملُ. فلمَّا أَكْثَروا عليه، قال: هو الأُشْتُرُ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: ثنا هشيمٌ، عن عَبَّادِ بن راشدٍ، عن الحسن مثله.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن يحيى، قال: كان الحسنُ يَقْرَؤُها: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال: فذهب بعضُهم

(1)

سقط من: ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

المربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل. لسان العرب (ر ب د).

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84، 85 إلى أبى الشيخ.

(4)

الأشتر: الجمل بالفارسية. ينظر المعجم الذهبي ص 68، والألفاظ الفارسية المعربة ص 10.

ص: 189

يَسْتَفْهِمُه، فقال: أُشْتُرُ، أُشْتُرُ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو النُّعْمانِ عارمٌ، قال: ثنا حمادُ بن زيدٍ، عن شُعَيْبِ بن الحَبْحَابِ، عن أبي العالية:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} . قال: الجملُ الذي له أربع قوائم.

حدَّثنا الحسن بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن أبى حَصِينٍ، أو حُصَيْنٍ، عن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ في قوله:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} . قال: زوجُ الناقة. يعنى الجمل

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمان، عن الضحاكِ أنه كان يَقْرَأُ:{الْجَمَلُ} . قال: وهو الذي له أربعُ قوائم.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ، عن عُبيدٍ، عن الضحاك:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} : الذي له أربع قوائم.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ الحُبَابِ، عن قُرَّةَ، عن الحسنِ:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} . قال: الذي بالمِرْبَدِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن [عبد الله بن كثيرٍ]

(2)

، عن مجاهد، عن ابن مسعود أنه كان يَقرَأُ:(حتى يَلِجَ الجَمَلُ الأصْفَرُ)

(3)

.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 229، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى الفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س ف:"ابن أبي نجيح".

(3)

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 172، من طريق عبد الله بن كثير به، وذكره القرطبي في تفسيره 7/ 207، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى ابن المنذر وابن الأنبارى في المصاحف وأبى الشيخ، وهى قراءة تفسيرية.

ص: 190

حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا يحيى بنُ سليمان

(1)

، قال: ثنا عبد الكريم بن أبى المُخارق، عن الحسن، في قوله:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال: الجملُ ابن الناقة أو بَعْلُ الناقة.

وأما الذين خالفوا هذه القراءةَ فإنهم اخْتَلَفوا؛ فرُوى عن ابن عباسٍ في ذلك روايتان؛ إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل.

‌ذكرُ الرواية بذلك عنه

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} : والجملُ ذو القوائم

(2)

.

وذُكِر أن ابن مسعودٍ قال ذلك أيضًا.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} : وهو الجملُ العظيمُ لا يَدْخُلُ في خرقِ الإبرة، مِن أجل أنه أعظمُ منها

(3)

.

والرواية الأخرى

(4)

ما حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليربوعيُّ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ عياضٍ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قوله:(حتى يَلِجَ الجُمَّلُ في سَمِّ الخياط). قال: هو قَلْسُ السفينة

(5)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"سليم".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى المصنف وابن المنذر.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 410.

(4)

أي التي بضم الجيم وتثقيل الميم. ينظر مختصر شواذ ابن خالويه ص 48.

(5)

قلس السفينة: هو الحبل الغليظ من حبالها. الوسيط (ق ل س).

والأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه (949 - تفسير) من طريق مجاهد به بمعناه.

ص: 191

حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا أبو غَسَّانَ مالكُ بن إسماعيلَ، عن خالد عبد الله الواسطيِّ، عن حَنْظَلةَ السَّدوسيِّ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ أنه كان يَقْرَأُ:(حتى يَلِجَ الجُمَّلُ في سَمِّ الخياط). يعنى: الحبلُ الغَليظُ. فذكَرْتُ ذلك للحسن، فقال:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} . قال عبدُ الأعلى: قال أبو غسَّانَ: قال خالدٌ: يعني البعير.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة، عن مُفَضَّلٍ

(1)

، عن مغيرة، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ أنه قرأها:(الجُمَّلُ) مثقَّلةً، قال: هو حبلُ السفينة

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن مَهْديٍّ، عن هُشَيمٍ، عن مغيرة، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال:(الجُمَّلُ) حبالُ السفن.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدم، عن ابن مُباركٍ، عن حَنْظلةَ، عن عكرمة، عن ابن عباس:(حتى يَلِجَ الجُمَّلُ في سَمِّ الخياط). قال: الحبلُ الغليظُ

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ:(حتى يَلِجَ الجُمَّلُ في سَمِّ الخياط). قال: هو الحبلُ الذي يكونُ على السفينة

(4)

.

واختلف عن سعيد بن جبيرٍ أيضًا في ذلك، فرُوى عنه روايتان؛ إحداهما مثلُ

(1)

في م، ت 2، ت 3:"فضيل".

(2)

أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 172، وسعيد بن منصور في سننه (949 - تفسير) من طريق مغيرة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 456 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنبارى وأبى الشيخ.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (952 - تفسير) من طريق عكرمة به.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (952 - تفسير).

ص: 192

التي ذكرنا عن ابن عباس بضمِّ الجيم وتثقيل الميم.

‌ذكرُ الرواية بذلك عنه

حدَّثنا عمرانُ بن موسى القَزَّازُ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا حسينٌ المُعلِّم، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أنه قرأها:(حتى يَلِجَ الجُمَّلُ) يعنى: قُلُوسُ السفنِ، يعنى. الحبالُ الغِلاظٌ

(1)

.

والأخرى منهما: بضمِّ الجيم وتخفيف الميم.

‌ذُكر الرواية بذلك عنه

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا [عمر بنُ]

(2)

سالم بن عَجْلانَ الأَفْطَسُ، قال: قرَأْتُ على أبى: (حتى يَلِجَ الجُمَّلُ). فقال: (حتى يَلجَ الجُمَلُ) خفيفةً: وهو حبلُ السفينة، هكذا أَقْرَأَنيها يا بُنيَّ

(3)

سعيدُ بنُ جبيرٍ.

وأما عكرمةُ، فإنه كان يَقْرَأُ ذلك (الجُمَّلُ) بضمِّ الجيم وتشديد الميم.

ويَتَأَوَّلُه كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، عن عيسى بن عُبيد

(4)

، قال: سمِعْتُ عكرمة يَقْرَأُ: (الجُمَّلُ) مثقَّلةً، ويقولُ: هو الحبلُ الذي يُصْعَدُ به إلى النخل

(5)

.

حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا مسلمُ بن إبراهيم، قال: ثنا كعبُ بنُ فَرُّوخَ،

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (953 - تفسير) من طريق سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير بنحوه.

(2)

في م ت 2، ت 3:"عمرو عن".

(3)

سقط من: ص، م ت 1 ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في م ت 2، ت 3:"عبيدة". ينظر تهذيب الكمال 22/ 734، 32/ 23.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى أبى الشيخ.

ص: 193

قال: ثنا قتادةُ، عن عكرمة في قوله:(حتى يَلجَ الجُمَّلُ في سَمِّ الخياطِ) قال: الحبلُ الغليظُ في خَرْقِ الإبرة.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله:(حتى يَلجَ الجُمَّلُ في سَمِّ الخياطِ) قال: حبلُ السفينة في سَمِّ الخياط

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال عبد الله بن كثيرٍ

(2)

: سمِعْتُ مجاهدًا يقولُ: الحبلُ مِن حبالِ السفنِ.

وكأَنَّ مَن قرأ ذلك بتخفيف الميم وضمِّ الجيم، على ما ذكرنا عن سعيد بن جبيرٍ، على

(3)

مثال الصُّرَدِ والجُعَل، وجَّهه إلى جماع جملةٍ من الحبال جُمعت جُمَلا، كما تُجمَعُ الظُّلمةُ ظُلَمًا، والحربةُ حُربًا.

وكان بعضُ أهل العربيةِ يُنْكِرُ التشديد في الميم، ويقولُ: إنما أراد الراوى الجُمَل بتخفيف الميم، فلم يُفهم ذلك منه، فشدَّده.

وحُدِّثْتُ عن الفَرَّاءِ، عن الكسائيِّ، أنه قال: الذي رواه عن ابن عباسٍ كان أعجميًّا.

وأما من شدَّد الميم وضمَّ الجيم، فإنه وجَّهه إلى أنه اسمُ واحدٍ، وهو الحبلُ أو الخيطُ الغليظُ.

والصوابُ من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرأةُ الأمصار، وهو: {حَتَّى يَلِجَ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 84 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

في الأصل: "كبير".

(3)

في الأصل: "قال".

ص: 194

الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} بفتح الجيم والميم من "الجمل" وتخفيفها، وفتح السين من "السَّمِّ"؛ لأنها القراءة المستفيضةُ في قرأة الأمصار، وغيرُ جائزٍ خلافُ ما جاءت به الحجةُ متفقةً عليه من القرأة.

وكذلك ذلك في فتح السين من قوله: {سَمِّ الْخِيَاطِ} .

وإذ كان الصوابُ من القراءة ذلك، فتأويلُ الكلام: ولا يَدْخُلون الجنة [حتى يلج]

(1)

- والولوجُ الدخولُ، من قولهم: ولج فلانٌ الدارَ يَلِجُ وُلوجًا، بمعنى: دخل - الجملُ في سمِّ

(2)

الإبرة، وهو ثَقْبها

(3)

.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} . يقولُ: وكذلك نُثِيبُ الذين أجْرَموا في الدنيا ما اسْتَحَقُّوا به مِن الله من العذاب الأليم في الآخرة.

وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: {سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة وابنُ مَهْدَيٍّ وَسُوَيْدٌ الكَلْبِيُّ، عن حمادِ بن زيدٍ، عن يحيى بن عتيقٍ، قال: سأَلْتُ الحسن عن قوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . قال: ثَقْبِ الإبرة.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مسلمُ بن إبراهيم، قال: أخبرنا كعبُ بن فَرُّوخَ، قال: ثنا قتادةُ، عن عكرمة:{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} : في خَرْقِ الإبرة.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسن مثله.

(1)

سقط من: ص، ت 1، س ف.

(2)

في الأصل، ص، ت 1، س، ف:"ثقب".

(3)

في الأصل، ص، ت 1، س، ف:"سمها".

ص: 195

حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} في جُحْرِ الإبرة.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . يقولُ: جُحْرِ الإبرة.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} : في ثَقْبِه.

‌القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} .

يقول جلَّ ثناؤُه: لهؤلاء الذين كذَّبوا بآياتنا واسْتَكْبَرُوا عنها {مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} : وهو ما امْتَهدُوه مما يُقْعَدُ عليه ويُضْطَجَعُ، كالفراش الذي يُفترشُ، والبساطِ الذي يُبْسَطُ، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}: وهي جمعُ غاشيةٍ، وذلك ما غشَّاهم فغطَّاهم من فوقهم.

وإنما معنى الكلام: لهم من نار جهنمَ من تحتهم فُرُشٌ، ومن فوقهم منها لُحُفٌ، وإنهم بين ذلك.

وبنحو الذي قلنا قال أهلُ التأويل في ذلك.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن موسى بن عُبيدةَ، عن محمد ابن كعب:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} . قال: الفُرشُ، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}. قال: اللُّحُفُ

(1)

.

(1)

أخرجه هناد في الزهد (264) عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى أبى الشيخ.

ص: 196

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابرُ بن نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاك:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} . قال: المهادُ الفُرُشُ، والغَواشى اللُّحُفُ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} : أما المهادُ لهم كهيئة الفراش، والغَواشِي تَتَغَشَّاهِم مِن فوقهم

(1)

.

وأما قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . فإنه يقولُ: وكذلك نُثِيبُ ونُكافئُ من ظلم نفسه، فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به، بكفره بربِّه، وتكذيبه أنبياءه.

‌القولُ في تأويل قوله جلَّ وعزّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: والذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءَهم به من وحى الله وتنزيله وشرائع دينه، وعملوا بما أمرهم الله به، فأطاعوه، وتجنَّبوا ما نهاهم عنه - {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. يقول: لا نُكَلِّفُ نفسًا من الأعمال إلا ما يَسَعُها، فلا تَحْرَجُ فيه، {أُولَئِكَ}. يقولُ: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} . يقولُ: هم أهل الجنة الذين هم أهلُها دون غيرهم ممَّن كفر بالله وعمل سيِّئًا، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. يقول: هم في الجنة ماكثون، دائمٌ فيها مُكْثُهم، لا يَخْرُجون منها ولا يُسْلَبون نعيمها.

‌القول في تأويل قولِه جلَّ وعزَّ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ

(1)

ينظر تفسير ابن كثير 3/ 411.

ص: 197

تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ}.

يقولُ تعالى ذكرُه: وأَذْهَبْنا من صدورِ هؤلاء الذين وصَفتُ صفتَهم، وأخبَر أنَّهم أصحابُ الجنةِ، ما فيها من حقدٍ وغمرٍ

(1)

وعداوةٍ كان من بعضِهم في الدنيا على بعضٍ، فجعَلهم في الجنةِ إذا أدخلهُمُوها على سررٍ متقابلين، لا يَحسُدُ بعضُهم بعضًا على شيءٍ خصَّ الله به بعضَهم، وفضَّلَه به

(2)

من كرامتِه عليه، تجرى مِن تحتِهم أنهارُ الجنةِ.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . قال: العداوةُ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حميدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن سعيدِ بن بَشيرٍ، عن قتادةَ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . قال: هي الإحَنُ

(4)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن ابن عيينةَ، عن إسرائيل أبى موسى، عن الحسنِ، عن عليٍّ، قال: فينا والله أهلَ بدرٍ نزَلَتْ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

(1)

في ص ف: "عمر"، وفى م، ت 2، ت 3، س:"غل". والغمر: الضغن. اللسان (غ م ر).

(2)

سقط من: ص ف م.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1478 (8469) من طريق جويبر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

الإحن جمع إحنة، وهي الحقد في الصدر. تاج العروس (أح ن).

ص: 198

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرَّزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عُيينةَ، عن إسرائيلَ، قال:[سمِعتُ الحسنَ]

(1)

يقولُ: قال عليٌّ رضي الله عنه: فينا واللهِ أهلَ بدرٍ نزَلتْ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأَعْلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ، قال: قال عليٌّ: إِنِّي لأرجُو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ مِن الذين قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} . قال: إِنَّ أهلَ الجنةِ إذا سِيقوا إلى الجنةِ فبلَغوا، وجَدوا عندَ بابِها شجرةً، في أصلِ ساقِها عينان، فشرِبوا من إحداهما، فيُنزَعُ ما في صدورِهم من غِلٍّ، فهو الشرابُ الطَّهورُ، واغْتَسَلوا مِن الأُخرى، فجرَت عليهم بنَضْرة النَّعيم، فلم يَشْعَثُوا ولم يَشْحَبوا

(4)

بعدَها أبدًا

(5)

.

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن الجُرَيْريِّ، عن أبي نَصْرَةَ، قال: يُحْبَسُ

(6)

أهلُ الجنةِ دونَ الجنةِ، حتى يُقْضَى لبعضِهم مِن بعضٍ، حتى يَدْخُلوا الجنةَ حينَ يَدْخُلونها، ولا يَطْلُبُ أحدٌ منهم أحدًا بقُلامةِ ظُفُرٍ

(1)

في ص: "سمعت"، وفى، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"سمعته".

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 229، وأخرج ابن أبي حاتم 5/ 1478 (8466) عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ، وعزاه في 4/ 101 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 229 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1478 (8467) - عن معمر به.

(4)

في ص، ت 1، س، ف:"يسحبوا"، وفى م، ت 2، ت 3:"يتسخوا". وشحب لونه وجسمه: تغير من هزال أو عمل أو جوع أو سفر. اللسان (ش ح ب).

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1478، 1479 (8470) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى أبى الشيخ.

(6)

في الأصل: "يحتبس".

ص: 199

ظلَمَها إياه، ويُحْبَسُ

(1)

أهلُ النارِ دونَ النارِ، حتى يُقْضَى لبعضِهم مِن بعضٍ، فيَدْخُلُون النارَ حينَ يَدْخُلونها، ولا يَطْلُبُ أحدٌ منهم أحدًا بقُلَامةِ ظُفُرٍ ظلَمَها إياه

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء الذين وصَف جلَّ ثناؤُه، وهم الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحاتِ، حينَ أُدْخِلوا الجنةَ، ورأَوْا ما أَكْرَمَهم اللَّهُ به مِن كرامتِه، وما صُرِف عنهم مِن العذابِ المُهِينِ الذي ابْتُلِى به أهلُ النارِ بكفرِهم بربِّهم، وتكذيبِهم رسلَه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} . يقولُ: الحمدُ لله الذي وفَّقَنا للعملِ الذي أكْسَبَنا هذا الذي نحن فيه مِن كرامةِ اللَّهِ [وفضلِه]

(3)

، وصرَف عذابَه عنا، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. يقولُ: وما كنا لِنَرْشُدَ لذلك لولا أن أَرْشَدَنا الله له، ووفَّقَنا بمنِّه وطَوْلِه.

كما حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أهلِ النارِ يَرَى منزلَه مِن الجنةِ، فيقولون: لو هدانا الله. فتَكونُ عليهم حَسْرةً، وكلُّ أهلِ الجنة يَرَى منزلَه مِن النارِ، فيقولون: لولا أن هدانا الله. فهذا شكرُهم"

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال:

(1)

في الأصل، ص:"يحتبس".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى المصنف.

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 5/ 24 من طريق أبي هشام به، وأخرجه أحمد 16/ 382 (10652)، والنسائي في الكبرى (11454)، والحاكم 2/ 435، 436، والبيهقى في البعث (243) من طريق أبى بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

ص: 200

سمِعْتُ أبا إسحاقَ يُحَدِّثُ عن عاصمِ بن ضَمْرةَ، عن عليّ بن أبى طالبٍ، قال: ذكَر عمرَ - بشيءٍ لا أَحْفَظه - ثم ذكَر الجنةَ، فقال: يَدْخُلُون فإذا شجرةٌ يَخْرُجُ مِن تحتِ ساقِها عينان، قال: فيَغْتَسِلون من إحداهما، فتَجْرِى عليهم نَضْرِةُ النَّعيم، فلا تَشْعَثُ أشعارُهم، ولا تَغْبَرُّ أبشارُهم، ويَشْرَبون مِن الأخرى، فيَخْرُجُ كلُّ قَذًى وقَذَرٍ - أو شيءٍ في بطونِهم - قال: ثم يُفْتَحُ لهم بابُ الجنةِ، فيُقال لهم:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. قال: فيسْتَقْبِلُهم الوِلْدانُ، فيَحُفُّون بهم كما تَحُفُّ الوِلدانُ بالحَميمِ إذا جاء مِن غَيْبَتِه، ثم يَأْتُون فَيُبَشِّرون أزواجَهم، فيُسَمُّونهم بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم، فيَقُلْن: أنتَ رأيْتَه؟ قال: فيَسْتَخِفُّهن الفرحُ، قال: فيَجِئْن حتى يَقِفْنَ على أُسْكُفَّةِ الباب، فيَجِيئون فيَدْخُلون، فإذا أُسُّ بيوتِهم بجَنْدلِ اللؤلؤِ، وإذا صُرُوحٌ صُفْرٌ وخُضْرٌ وحُمْرٌ، ومِن كلِّ لونٍ، وسُرُرٌ مرفوعةٌ، وأكوابٌ موضوعةٌ، ونَمارِقُ مصفوفةٌ، وزَرابيُّ مَبْثوثةٌ، فلولا أن اللَّهَ قدَّرَها لهم

(1)

لالْتُمِعتْ أبصارُهم مما يَرَوْن فيها، فيُعانِقون الأزْواجَ، ويَقْعُدون على السُّرُرِ، ويقولون:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . إلى آخرِ الآيةِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} .

(1)

سقط من: م، ت 2، ت 3.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، 2/ 176، وابن أبي شيبة 13/ 112، 113، وإسحاق بن راهويه - كما في المطالب (5181، 5182)، وابن المبارك في الزهد (1450 - زيادات المروزي)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (8)، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2580)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1480 (8476)، والبيهقي في البعث (272)، والضياء في المختارة 2/ 161، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 342 إلى عبد بن حميد.

ص: 201

يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن هؤلاء الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحاتِ، أنهم يقولون عندَ دخولِهم الجنةَ ورؤيتِهم كرامةَ اللهِ التي أكْرَمَهم بها، وهوانَ أعداءِ اللَّهِ في النارِ: والله لقد جاءَتْنا في الدنيا وهؤلاء الذين في النارِ رسلُ رَبِّنا بالحقِّ، مِن الإخبارِ عن وعْدِ اللهِ أهلَ طاعتِه والإيمانِ به وبرسلِه، ووعِيدِه أهلَ مَعاصِيه والكفرِ به.

وأما قولُه: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . فإن معناه: ونادَى منادٍ هؤلاء الذين وصَف الله صفتَهم، وأخْبَر عما أعَدَّ لهم مِن كرامتِه: أن يا هؤلاء، هذه تِلْكُمُ الجنةُ التي كانت رسلي في الدنيا تُخبِرُكم عنها، أوْرَثَكُموها الله عن الذين كذَّبوا رسلَه؛ لتصديقِكم إياهم، وطاعتِكم ربَّكم، وذلك هو معنى قولِه:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

وبنحوِ الذي

(1)

قلْنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال: ليس مِن كافرٍ ولا مؤمنٍ إلا وله في الجنةِ والنارِ مَنْزِلٌ، فإذا دخَل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، فدخَلوا منازلَهم، رُفِعَت الجنةُ لأهلِ النارِ، فنظَروا إلى منازلِهم فيها، فقيل لهم: هذه منازلُكم لو عمِلْتُم بطاعةِ الله. ثم يقالُ: يا أهلَ الجنةِ، رِثُوهم بما كنتم تَعْمَلُون. فتُقْسَمُ بينَ أهلِ الجنةِ منازلُهم

(2)

.

(1)

في ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"ما".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1481 (8479) من طريق أحمد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى أبى الشيخ.

ص: 202

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ سعدٍ أبو داودَ الحَفَريُّ، عن سعيدِ بن بُكيرٍ

(1)

، عن سفيانَ الثوريِّ، عن أبي إسحاقَ، عن الأغرِّ:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} . قال: نُودُوا: أن صِحُّوا فلا تَسْقَموا، واخْلُدوا فلا تَموتوا، وانْعَموا فلا تَبْأسوا.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا قَبيصةُ، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن الأغَرِّ، عن أبي سعيدٍ:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال: يُنادِى مُنادٍ: إن لكم أن [تَحْيَوا فلا تَموتُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإِنَّ لكم أن]

(2)

تَصِحُّوا فلا تَسْقَموا أبدًا

(3)

.

واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في {أَنْ} التي مع {تِلْكُمُ} ؛ فقال بعضُ نحويى البصرةِ: هي "أن" الثقيلةُ خُفِّفَت، وأُضْمِر فيها، ولا يَسْتَقِيمُ أن نَجْعَلَها الخفيفةَ؛ لأن بعدَها اسمًا، والخفيفةُ لا تَلِيها الأسماءُ، وقد قال الشاعرُ

(4)

:

في فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهندِ قد علِموا

أنْ هالكٌ كلُّ مَن يَحْفَى ويَنْتَعِلُ

وقال آخرُ

(5)

:

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"بكر".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (428 - زيادات نعيم) عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي سعيد وأبى هريرة موقوفًا، وأخرجه أحمد 18/ 400 (11905)، وعبد بن حميد (942)، ومسلم (2837)، والترمذى (3246) وغيرهم من طريق عبد الرزاق، عن الثورى به مرفوعًا، وأخرجه أحمد 9/ 14 (8258)، والدارمي 2/ 334، والنسائى في الكبرى (11184)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1480 (8477) من طريق أبى إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 85 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه.

(4)

هو الأعشى الكبير. والبيت ملفق من بيتين كما في ديوانه ص 59 والكتاب لسيبويه 3/ 74، وهما:

إما ترينا حفاة لا نعال لنا إنا

كذلك ما نحفى وننتعل

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن ليس يدفع عن ذى الحيلة الحيل

(5)

هو عدى بن زيد. والبيت في الكتاب لسيبويه 3/ 74 منسوب له، وفى المقتضب 3/ 241، وأمالي ابن الشجرى 1/ 188 غير منسوب.

ص: 203

أُكَاشِرُه

(1)

وأَعْلَمُ أَنْ كِلانا

على ما ساء صاحبَه حريصُ

قال: فمعناه: أنه كِلانا. قال: ويكونُ قولُه: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا} [الأعراف: 44]. في مَعْنى

(2)

: أيْ وجَدْنا

(3)

. وقولُه: {أَنْ [أَفِيضُوا} [الأعراف: 50]: أي أفيضُوا]

(4)

، ولا تكونُ على "أن" التي تَعْمَلُ في الأفعالِ؛ لأنك تقولُ: غاظَنى أن قام، وأن ذهَب. فتَقَعُ على الأفعالِ، وإن كانت لا تَعْمَلُ فيها. وفى كتابِ الله:{وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6]: أي امْشُوا.

وأنكَر ذلك مِن قولِه هذا بعضُ أهلِ العربيةِ

(5)

، فقال: غيرُ جائزٍ أن يَكونَ مع "أن" في هذا الموضعِ هاءٌ مُضْمَرَةٌ؛ لأن "أن" دخَلَت في الكلامِ لتَقِيَ

(6)

ما بعدَها. قال: و"أن" هذه التي مع "تلكم"، هي الدائرةُ التي تقَعُ فيما ضارَع الحكايةَ، وليس بلفظِ الحكايةِ، نحوَ

(7)

: نادَيْتُ: أنْك قائمٌ، وأنْ زيدٌ قائمٌ، وأن قمتُ، فتلِى

(8)

كلَّ الكلامِ، وجُعِلَت "أنْ" وقايةً؛ لأن النداءَ يَقَعُ على ما بعدَه، وسلِم ما بعدَ "أنْ"، كما سلِم على

(9)

القولِ، ألا تَرَى أنك تقولُ: قلتُ: زيدٌ قائمٌ، وقلتُ: قام. فتلِيها ما شئتَ مِن الكلامِ؟ فلمَّا كان النداءُ [بمعناها و]

(10)

الظنِّ، وما أَشْبَهَه مِن القولِ، سلِم على

(11)

ما بعدَ "أن"، ودخَلَت "أن" وقايةً، قال: وأما "أي" فإنها لا

(1)

كاشره: إذا ضحك في وجهه وباسطه. لسان العرب (ك ش ر).

(2)

في ص م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"موضع".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أقيموا".

(5)

في ص، ت 1، ف:"الكفر به"، وفى م، ت 2، ت 3، س:"الكوفة".

(6)

في الأصل، ت 1، س:"لنفى".

(7)

زيادة من: م، ت 1، ت 2، ت 3.

(8)

في ص، ت 1، س، ف:"قبلى".

(9)

سقط من: ص، ت 1، س، ف، وفى م، ت 2، ت 3:"ما بعد".

(10)

في م، ت 2، ت 3:"بمعنى".

(11)

سقط من: م، س.

ص: 204

تَكونُ مكانَ

(1)

"أن"؛ لأنَّ

(2)

"أي" جوابٌ لكلامٍ، و"أن" تَكْفِى مِن الاسمِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ونادَى أهلُ الجنةِ أهلَ النارِ بعدَ دخولِهموها: أن يا أهلَ النارِ قد وجَدْنا ما وعَدَنا ربُّنا في الدنيا على ألسُنِ رسلِه، من الثوابِ على الإيمانِ به وبهم، وعلى طاعتِه، حقًّا

(3)

، فهل وجَدْتُم ما وعَدَ رَبُّكم على ألسنتِهم على الكفرِ به، وعلى معاصيه مِن العقابِ، حَقًّا

(3)

؟ فأجابهم أهلُ النَّارِ بأن نعم، قد وجَدْنا [ذلك حقًّا، كما]

(4)

وعَدَنا ربُّنا.

كالذي حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} . قال: وجَد أهلُ الجنةِ ما وُعِدوا مِن ثوابٍ، وأهلُ النارِ ما وُعِدوا مِن عقابٍ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} : وذلك أن اللَّهَ وعَد أهلَ الجنةِ النعيمَ والكَرامةَ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"على".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لا يكون".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1482 (8481)، من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 86 إلى أبى الشيخ.

ص: 205

وكلَّ خيرٍ علِمه الناسُ أو لم يَعْلَموه، ووعَد أهلَ النارِ كلَّ خِزْىٍ وعذابٍ علِمه الناسُ أو لم يَعْلَموه، فذلك قولُه:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58]. قال: فنادَى أصحابُ الجنةِ أصحابَ النارِ: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} . يقولُ: مِن الخِزْى والهَوانِ والعذابِ. قال أهلُ الجنةِ: فإنا قد وجَدْنا ما وعَدَنا ربُّنا حقًّا من النعيمِ والكرامةِ. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}

(1)

.

واخْتَلَفَت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {قَالُوا نَعَمْ} . فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والكوفةِ والبصرةِ: {قَالُوا نَعَمْ} بفتحِ العينِ مِن {نَعَمْ} .

ورُوِى عن بعضِ الكوفيين أنه قرَأ: (قالوا نَعِمْ) بكسرِ العينِ

(2)

، وقد أُنْشِد بيتٌ لبعضِ بني كَلْبٍ:

نَعِم إذا قالها منه مُحَقَّقَةٌ

ولا تَخِيبُ

(3)

عَسَى منه ولا قَمَنُ

بكسر "نَعِمْ".

والصوابُ من القراءةِ [في ذلك]

(4)

عندَنا {نَعَمْ} بفتحِ العينِ

(5)

؛ لأنها القراءةُ المُسْتَفِيضَةُ في قرأةِ الأمصارِ، واللغةُ المشهورةُ في العربِ.

وأما قولُه: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} . يقولُ: فنادَى مُنادٍ، وأَعْلَم مُعْلِمٌ بينَهم:{أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} . يقولُ: غَضَبُ اللَّهِ وسَخَطُه وعقوبتُه على مَن كَفَر به.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1481، 1482 (8480) عن محمد بن سعد به.

(2)

قرأ الكسائي بكسر العين حيث وقع، وفتحها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر وعاصم وحمزة، ينظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/ 462.

(3)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تجيء".

(4)

ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

القراءتان كلتاهما صواب.

ص: 206

وقد بيَّنا القولَ في "أن" إذا صحِبَت من الكلامِ ما ضارَع الحكايةَ، وليس بصريحِ الحكايةِ أنها تُشَدِّدُها العربُ أحيانًا، وتُوقِعُ

(1)

الفعلَ عليها فتَفْتَحُها وتُخَفِّفُها أحيانًا، وتُعْمِلُ الفعلَ فيها فتَنْصِبُها به، وتُبْطِلُ عملَها مِن

(2)

الاسمِ الذي يليها، فيما مضَى بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(3)

.

وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ شُدِّدَت "أن" أو خُفِّفَت في القراءةِ؛ إذ كان معنى الكلامِ بأيِّ ذلك قرَأ القارئُ واحدًا، وكانتا قراءتين مشهورتين في قرأةِ الأمصارِ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: [أذَّن مؤذنٌ]

(5)

بينَ أهلِ الجنةِ والنارِ

(6)

، أن لعنةُ الله على

(7)

الذين كفَروا بالله، وصدُّوا عن سبيلِه، وبَغوها

(8)

عوَجًا. يقولُ: حاوَلوا سبيلَ الله - وهو دينُه - أن يُغيِّروها ويُبَدِّلوها عما جعَلَه الله به

(9)

من استقامتِه، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}. يقولُ: وهم لقيامِ الساعةِ، وللبعثِ في الآخرةِ، والثوابِ والعقابِ فيها جاحِدون. والعربُ تقولُ للمَيْلِ في الدِّينِ والطريقِ: عِوَجٌ. بكسرِ العينِ، وفى

(1)

في ص، ت 1، ف:"يرفع".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن".

(3)

ينظر ما تقدم في ص 203 - 205.

(4)

قرأ نافع وأبو عمرٍو ويعقوب وعاصم بإسكان النون مخففة ورفع لعنة، وقرأ الباقون "أنَّ لعنةَ". النشر 2/ 202.

(5)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"إن المؤذن".

(6)

بعده في م، ت 2، ت 3:"يقول".

(7)

بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الظالمين".

(8)

في م، ت 2، ت 3، ف:"يبغونها".

(9)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"له".

ص: 207

مَيْلِ الرجلِ على الشيءِ والعَطْفِ عليه: عاج إليه يَعُوجُ عِياجًا وعَوَجًا وَعِوَجًا. بالكسرِ مِن العينِ والفتحِ، كما قال الشاعرُ

(1)

:

قفَا نَسْأَلُ

(2)

منازلَ آلِ لَيْلَى

على

(3)

عِوَجٍ إليها وانْثِناءِ

ذكَر الفَرَّاءُ أن أبا الجرَّاحِ أنْشَدَه إياه بكسرِ العينِ مِن "العِوَجِ"، فأما ما كان خِلْقةً في الإنسانِ، فإنه يقالُ فيه:[ما أَبْيَنَ]

(4)

عَوَجَ ساقِه. بفتحِ العينِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} : وبينَ الجنِة وبينَ النارِ {حِجَابٌ} . يقولُ: حاجزٌ، وهو السورُ الذي ذكَره الله تعالى فقال:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]. وهو الأعرافُ التي يقولُ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه فيها: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} .

كذلك حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ الله بنُ رَجَاءٍ

(5)

، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: بلَغَنى عن مجاهدٍ قال: الأعرافُ حجابٌ بينَ الجنةِ والنارِ.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} : وهو السورُ، وهو الأعْرافُ

(6)

.

(1)

البيت في اللسان (ع و ج) غير منسوب.

(2)

في م، ت 2، ت 3:"نبكي".

(3)

في اللسان: "متى".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

بعده في م: "و".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1483 (8490) من طريق أحمد به.

ص: 208

وأما قولُه: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} . فإن الأعرافَ جمعٌ، واحدُها عُرْفٌ، وكلُّ مرتفعٍ مِن الأرضِ عندَ العربِ فهو عُرْفٌ، وإنما قيل لعُرْفِ الدِّيكِ: عُرْفٌ؛ لارتفاعِه على ما سواه من جسدِه، ومنه قولُ الشَّمَّاخِ بن ضِرارٍ

(1)

:

وظلَّتْ بأعرافٍ تَفَالَى

(2)

كأنها

رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الرِّيحِ راكِزُ

يعنى بقولِه: بأعرافٍ: بنُشوزٍ مِن الأرضِ. ومنه قولُ الراجزِ

(3)

:

كلُّ كِنَازٍ

(4)

لَحْمُه نِيَافِ

(5)

كالعَلَم المُوفى على الأعْرافِ

وكان السديُّ يقولُ: إنما سُمِّى الأعرافُ أعْرافًا لأن أصحابَه يعرفون الناسَ.

حدَّثني بذلك محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عنه

(6)

.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنةَ، عن عبيدِ اللَّهِ بن

(1)

ديوانه ص 201، وفىه: تفالى باليفاع. ورواية المصنف هي رواية أبى عبيدة في مجاز القرآن 1/ 215.

(2)

في النسخ: "تعالى". وأثبتناه كما في الديوان والمجاز ويروى أيضا بالغين المعجمة "تغالى". وتَفَالى: تَحتَكُ، كأن بعضها يفلى بعضا. اللسان (ف ل ى).

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الآخر". والرجز في مجاز القرآن 1/ 215، واللسان (ن و ف).

(4)

كناز: يقال على الناقة الكثيرة اللحم، والناقة الصلبة اللحم. اللسان (ك ن ز).

(5)

نياف: طويل في ارتفاع. اللسان (ن و ف).

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن السدي".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1484 (8497) من طريق أحمد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 86 إلى أبى الشيخ.

ص: 209

أبى

(1)

يزيدَ، سمِع ابنَ عباسٍ يقولُ: الأعرافُ هو الشئُ المُشْرِفُ

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيينةَ، عن عُبيدِ

(3)

الله بن أبى

(4)

يزيدَ، قال: سمِعْتُ ابنَ عباسٍ يقولُ مثلَه

(5)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبى، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: الأعرافُ سُورٌ كعُرْفِ الدَّيكِ

(6)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الْأَعْرَافِ} قال: حجابٌ بينَ الجنةِ والنارِ، سُورٌ له بابٌ

(7)

.

قال أبو موسى

(8)

: وحدَّثنى عبيدُ الله بنُ أبى

(9)

يزيدَ، أنه سمِع ابن عباسٍ

(1)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ف. وينظر تهذيب الكمال 19/ 178.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (957 - تفسير) - ومن طريقه البيهقي في البعث (107)، وابن المبارك في الزهد (1369 - زيادات يحيى بن صاعد والمروزى) وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1483 (8493)، من طريق ابن عيينة به.

(3)

في الأصل: "عبد".

(4)

سقط من النسخ.

(5)

في الأصل: "الأعراف هو الشيء المشرف".

والأثر في تفسير عبد الرزاق 1/ 229، 230.

(6)

أخرجه هناد في الزهد (204) عن وكيع به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1483 (8491) من طريق جابر الجعفى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 86 إلى الفريابى وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

(7)

تفسير مجاهد ص 337 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1483 (8492)، وأخرجه هناد في الزهد (203) من طريق خصيف، عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 86 إلى هناد وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

(8)

هو عيسى بن ميمون المكي، أبو موسى المذكور في السند قبله. ينظر تهذيب الكمال 23/ 46.

(9)

سقط من: م.

ص: 210

حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدٌ قال: سمعتُ الضحاك يقولُ: الأعْرافُ السور الذي بين الجنة والنار

(1)

.

واختلف أهلُ التأويل في صفة الرجال الذين أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف، وما [هم، وفى]

(2)

السبب الذي من أجله صاروا هنالك؛ فقال بعضُهم: هم قومٌ من بنى آدمَ اسْتَوَت حسناتُهم وسيئاتُهم، فجعلوا هنالك إلى أن يَقْضِيَ اللهُ فيهم ما يَشاءُ، ثم يُدْخِلُهم الجنةَ بفضل رحمته إياهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميدٍ

(3)

، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، قال: ثنا يونُسُ بن أبى إسحاقَ، قال: قال الشعبيُّ: أرْسَل إلى عبدُ الحميد بنُ عبدِ الرحمنِ، وعنده أبو الزِّنادِ عبدُ اللَّهِ بنُ ذكوان مولى قريشٍ، وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا، فقلتُ لهما: إن شئتُما أَنْبَأْتُكما بما ذكر حذيفةُ، فقالا: هات. فقلتُ: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف، فقال: هم قومٌ تَجاوَزَت بهم حسناتُهم النار، وقصَّرَت بهم سيِّئاتُهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارُهم تِلْقاءَ أصحاب النار قالوا:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . فبينا هم كذلك، اطَّلَع إليهم ربُّك فقال لهم

(4)

: اذْهَبوا فادْخُلُوا الجنةَ، فإنى قد غفَرْتُ لكم

(5)

.

حدَّثني يعقوب، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرنا حُصَيْنٌ، عن الشعبيِّ، عن

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1483 عقب الأثر (8491) معلقا.

(2)

سقط من: م، وفى ص، س، ف:"هم في".

(3)

في الأصل: "وكيع".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت، س، ف.

(5)

أخرجه البيهقى في البعث والنشور (110) من طريق يونس بن أبى إسحاق به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 415 عن المصنف.

ص: 211

حذيفة، أنه سُئِل عن أصحاب الأعراف، قال: فقال: هم قومٌ اسْتَوَت حسناتُهم وسيئاتُهم، فقصَّرت بهم سيئاتُهم عن الجنة، وخلَّفت بهم حسناتُهم عن النار، قال: فوُقِفوا هنالك على السور حتى يَقْضِيَ اللَّهُ فيهم

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ وعِمْرانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَن حُصَيْنٍ، عن عامرٍ، عن حذيفة، قال: أصحابُ الأعراف قوم كانت لهم ذنوبٌ وحسناتٌ، فقصَّرت بهم ذنوبُهم عن الجنةِ، وتَجاوَزَت بهم حسناتُهم عن النارِ، فهم كذلك حتى يَقْضِى الله بين خلقه فينْفُذَ فيهم أمرُه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بن يمانٍ، عن سفيان، عن جابرٍ، عن الشعبيِّ، عن حذيفة، قال: أصحابُ الأعراف قومٌ اسْتَوَت حسناتُهم وسيئاتُهم، فيقولُ: ادْخُلوا الجنةَ بفضلى ومغفرتى، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن يونُسَ بن أبى إسحاق، عن عامرٍ، عن حذيفة، قال: أصحاب الأعراف قومٌ تجاوَزَت بهم حسناتُهم النارَ، وقصَّرَت بهم سيئاتُهم عن الجنة

(2)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكرٍ الهُذَليِّ، قال: قال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وهو يُحَدِّثُ ذلك عن ابن مسعودٍ، قال:

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (955، 956 - تفسير)، وهناد في الزهد (201)، وابن المبارك في الزهد (1370 - زيادات المروزى) من طريق حصين به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 415 عن المصنف.

(2)

أخرجه هناد في الزهد (202) عن وكيع به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1484 (8499) من طريق يونس بن أبى إسحاق به، وأخرجه البيهقى في البعث (110) من طريق الشعبى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 87 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 212

حذيفة، أنه سُئِل عن أصحاب الأعراف، قال: فقال: هم قومٌ اسْتَوَت حسناتُهم وسيئاتُهم، فقصَّرَت بهم سيئاتُهم عن الجنة، وخلَّفَت بهم حسناتُهم عن النارِ، قال: فوقفوا هنالك على السور حتى يَقْضِى اللهُ فيهم

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ وعِمْرانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَن حُصَيْنٍ، عن عامِرٍ، عن حُذيفة، قال: أصحاب الأعراف قومٌ كانت لهم ذنوبٌ وحسناتٌ، فقصَّرت بهم ذنوبُهم عن الجنةِ، وتَجاوَزَت بهم حسناتُهم عن النارِ، فهم كذلك حتى يَقْضِى بين خلقه فيَنْفُذَ فيهم أمرُه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن سفيان، عن جابرٍ، عن الشعبيِّ، عن حذيفة، قال: أصحابُ الأعراف قومٌ اسْتَوَت حسناتُهم وسيئاتُهم، فيقولُ: ادْخُلوا الجنةَ بفضلى ومغفرتى، لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن يونُسَ بن أبى إسحاق، عن عامرٍ، عن حذيفة، قال: أصحابُ الأعراف قومٌ تجاوَزَت بهم حسناتُهم النار، وقصَّرَت بهم سيئاتُهم عن الجنة

(2)

.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكرٍ الهُذَليِّ، قال: قال سعيدُ بن جبيرٍ، وهو يُحَدِّثُ ذلك عن ابن مسعودٍ، قال:

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (955، 956 - تفسير)، وهناد في الزهد (201)، وابن المبارك في الزهد (1370 - زيادات المروزى) من طريق حصين به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 415 عن المصنف.

(2)

أخرجه هناد في الزهد (202) عن وكيع به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1484 (8499) من طريق يونس بن أبى إسحاق به، وأخرجه البيهقى في البعث (110) من طريق الشعبى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 87 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 213

يُحاسَبُ الناسُ يومَ القيامةِ، فمَن كانت حسناتُه أكثر من سيئاته بواحدةٍ دخل الجنةَ، ومَن كانت سيئاتُه أكثر من حسناته بواحدةٍ دخل النار. ثم قرأ قولَ اللَّهِ جلَّ وعزَّ:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [المؤمنون: 102، 103]. ثم قال: إن الميزان يخفُّ بمثقال حبةٍ، ويَرْجَحُ. قال: فمَن اسْتَوَت حسناتُه وسيئاتُه كان من أصحاب الأعرافِ، فوُقِفوا على الصراط، ثم عرَفوا أهل الجنة وأهل النارِ، فإذا نظَروا إلى أهل الجنة نادَوْا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . وإذا صرَفوا أبصارهم إلى يسارهم

(1)

أصحاب النار، قالوا:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . فتعوذوا

(2)

بالله من منازلهم. قال: فأما أصحابُ الحسناتِ، فإنهم يُعْطَوْن نورًا، فيمْشُون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويُعْطَى كُلُّ عبدٍ يومئذٍ نورًا، وكلُّ أَمَةٍ نورًا، فإذا أَتَوْا على الصراطِ سَلَبَ اللَّهُ نورَ كُلِّ منافقٍ ومنافقةٍ، فلما رأى

(3)

أهلُ الجنة ما لقى المنافقون قالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]. وأما أصحابُ الأعرافِ، فإن النور كان في أيديهم، فلم يُنْزَعْ من أيديهم، فهنالك يقولُ الله:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . فكان الطمعُ دخولًا، قال: فقال ابن مسعودٍ: على أن العبد إذا عمل حسنةً كُتِب له بها عشرٌ، وإذا عمل سيئةً لم تُكتب إلا واحدةً. ثم يقولُ: هلَك مَن غَلَب وُحْدانُه أعشارَه

(4)

.

حدَّثنا أبو هَمَّامٍ الوليدُ بنُ شُجَاعٍ، قال: حدَّثني ابن وهبٍ، قال: أخبرني عيسى الحنَّاط

(5)

، عن الشعبيِّ، عن حذيفة، قال: أصحابُ الأعراف قومٌ كانت لهم

(1)

بعده في م: "نظروا"، وفى الدر المنثور:"رأوا".

(2)

في الأصل: "فنعوذ". وفى م: "فيتعوذون".

(3)

في ص، ت 1، س، ف:"رأوا".

(4)

الزهد لابن المبارك (411 - زوائد نعيم).

(5)

في ف، م:"الخياط"، وبهما كان يلقب، وكان يلقب بـ "الخباط". وينظر تهذيب الكمال 23/ 15، 17.

ص: 214

أعمالٌ أنجاهم الله بها من النارِ، وهم آخِرُ مَن يَدْخُلُ الجنةَ، قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادة، قال: قال ابن عباس: أصحابُ الأعراف قوم اسْتَوَت حسناتُهم وسيئاتُهم، فلم تَزِدْ حسناتُهم على سيئاتهم، ولا سيئاتُهم على حسناتهم.

حدَّثنا ابن وكيعٍ وابن حميدٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن حبيب بن أبى ثابتٍ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفلٍ، عن ابن عباسٍ - قال [ابن وكيعٍ في حديثِه: قال]

(1)

: الأعرافُ سورٌ بين الجنة والنار. [وقال ابن حميدٍ في حديثه عن ابن عباسٍ، قال: الأعرافُ السورُ الذي بين الجنة والنار]

(1)

- وأصحابُ الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بَدَا لِلَّهِ أَن يُعافيهم، انطُلق بهم إلى نهرٍ يقالُ له: الحياةُ. حافتاه [قصبُ الذهب]

(2)

، مُكلَّلٌ باللؤلؤ، ترابُه المسكُ، فأُلْقُوا فيه حتى تَصْلُحَ ألوانُهم، وتَبْدُو في نحورهم شامَةٌ بيضاءُ يُعْرَفون بها، حتى إذا صلَحَت ألوانهم أُتى بهم الرحمنُ، فقال: تَمنَّوا ما شئتُم. فيتَمَنَّون، حتى إذا انْقَطَعَت أمنيتُهم، قال لهم: لكم الذي تمنيتُم ومثله [سبعون ضعفًا]

(3)

. فيدْخُلون الجنةَ، وفى نحورِهم شامةٌ بيضاءٌ يُعْرَفون بها، يُسَمَّوْن مساكينَ أهل

(4)

الجنة

(5)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في ص، ف:"قصب التوبة"، وفى م:"قضب الذهب".

والقصب من الجوهر: ما كان مستطيلًا أجوف، وقيل: القصب أنابيب من جوهر. اللسان (ق ص ب).

(3)

في ص، ت 1، ت،2 ت،3، س، ف:"سبعون"، وفى م:"سبعين مرة".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1185 (8502) من طريق جرير به، وفى 5/ 1483 (8489) من طريق منصور مختصرا، وأخرجه هناد في الزهد (200) من طريق منصور عن حبيب عن مجاهد عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 415، 416 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 88 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 215

حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيبٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن الحارث، قال: أصحاب الأعرافِ يُؤْمَرُ بهم إلى نهرٍ يقالُ له: الحياةُ. ترابُه

(1)

الوَرْسُ والزَّعْفَرانُ، وحافتاه قَصَبُ

(2)

الذهب

(3)

. قال: وأَحْسَبه قال: مُكَلَّلٌ باللؤلؤ. قال: فيَغْتَسِلون فيه، فتَبْدُو في نحورهم شامَةٌ بيضاءُ، فيقالُ لهم: تمَنَّوْا. فيتمنَّون

(4)

فيقال لهم: لكم ما تمنيتُم وسبعون ضعفًا. [وإنهم]

(5)

مساكين أهل الجنة. قال حَبيبٌ: وحدَّثنى رجلٌ. أنهم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم

(6)

.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث، قال: أصحاب الأعرافِ يُنْتَهَى بهم إلى نهر يقالُ له: الحياة. حافتاه قَصَبٌ (2) مِن ذهبٍ. قال سفيانُ: أراه قال: مُكَلَّلٌ باللؤلؤ. قال: فيَغْتَسِلون منه اغتسالةً، فتبدو في نحورهم شامةٌ بيضاءُ، ثم يعودون فيَغْتَسِلون فيَزدادُون، فكلما اغْتَسَلُوا ازْدادَت بَياضًا، فيُقالُ لهم: تَمَنَّوْا ما شئتُم. فيَتَمَنَّون ما شاءوا، فيُقالُ لهم: لكم ما تمنيتُم

(7)

وسبعون ضعفًا. قال: فهم مساكينُ أهل الجنة

(8)

.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أَخْبَرَنا عبد الرزاقِ، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيينَةَ، عن حصينٍ، عن الشعبي، عن حذيفة، قال: أصحاب الأعراف قومٌ اسْتَوَت

(1)

في ت 1، س، ف:"وإنه".

(2)

في م: "قضب".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف: اللؤلؤ".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في الأصل، ت 1:"فإنهم".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1486 (8503) من طريق أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 88 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(7)

في الأصل: "شئتم".

(8)

أخرجه هناد في الزهد (198) عن وكيع به، وفى (199) من طريق الثورى به.

ص: 216

حسناتهم وسيئاتهم، فهم على سورٍ بين الجنة والنار، {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} .

حدثنا بشرُ بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: كان ابن عباس يقولُ: الأعرافُ بين الجنة والنار، حُبِس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول: قومُ اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تَزِدْ حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال ابن عباس: أهلُ الأعراف قومٌ اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم

(1)

.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن جويبرٍ، عن الضحاك، قال: أصحاب الأعراف قومٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم.

[حدثنا ابن وكيع، قال]

(2)

: ثنا يحيى بن يمانٍ، عن شريك، عن منصورٍ، عن سعيد بن جبير، قال: أصحابُ الأعراف استَوَت أعمالهم.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أصحاب الأعراف قومٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوُقِفوا هنالك على السور.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن شفيع

(4)

أو سُميع - [أبو جعفر يشكُّ، قال: وهو في كتابي]

(3)

: شفيع

(4)

- عن أبي

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 229، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 88 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال"، وفى م:"وقال".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال أبو جعفر: كذا وجدت في كتاب".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س:"سفيع".

ص: 217

علقمة [مولًى لعثمان]

(1)

، قال: أصحاب الأعراف قوم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم.

وقال آخرون: [أصحاب الأعراف قومٌ]

(1)

كانوا قُتِلوا في سبيل اللهِ عُصاةً لآبائهم في الدنيا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمانٍ، عن أبي معشر

(2)

، عن شُرَحْبيل بن سعدٍ، قال: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذنِ آبائهم.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني خالدٌ، عن سعيدٍ، عن يحيى بن شِبْلٍ، أن رجلًا من بني النَّضير أخبره عن رجلٍ مِن بنى هلالٍ، أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: "هم قومٌ

(3)

غَزَوْا في سبيلِ اللَّهِ عُصاةً لآبائهم، فقُتلوا، فأَعْتَقَهم اللهُ مِن النارِ بقتلهم في سبيله، وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخِرُ مَن يَدْخُلُ الجنةَ"

(4)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يزيد بن هارونَ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن يحيى بن شبل مولًى لبنى هاشم، عن محمدِ بن عبدِ الرحمن، عن أبيه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال:"قوم قُتِلوا في سبيلِ اللَّهِ بمعصية آبائهم، فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار، ومنعتهم معصية آبائهم أن يَدْخُلوا الجنة"

(5)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في ص، م، س، ف:"مسعر".

(3)

في الأصل: "رجال".

(4)

عزاه الحافظ في الإصابة 4/ 372 إلى المصنف وابن شاهين من طريق الليث به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1484 (8498) من طريق يزيد به، وسمى "ابن عبد الرحمن المزنى"، فقال:"عمر". وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (954 - تفسير) من طريق أبي معشر، عن =

ص: 218

وقال آخرون: بل هم قومٌ صالحون فقهاء علماء.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خُصَيْفٍ، عن مجاهد، قال: أصحاب الأعراف قومٌ صالحون، فقهاء، عُلماءُ

(1)

.

وقال آخرون: بل هم ملائكة، وليسوا ببنى آدم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن [سليمان التيميِّ]

(2)

، عن أبي مجلز في قوله:{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} . قال: هم رجالٌ مِن الملائكة يَعْرِفون أهل الجنة وأهل النار. قال: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . قال: فنادى أصحاب الأعراف رجالًا في النار يعرفونهم بسيماهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 48، 49]. قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنةَ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا

= يحيى بن شبل، عن عمرو بن عبد الرحمن، عن أبيه فذكره، ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور (114) وفيه: عمر بن عبد الرحمن. وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1123)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (252)، وابن الأنبارى في الأضداد ص 369 وتفسير مجاهد ص 337، والبيهقي في البعث والنشور (112، 113) من طريق أبي معشر به، إلا أنه يرويه مرة موصولًا ومرة مرسلا ومرة يسمى "ابن عبد الرحمن "فيقول:"عمرو". ومرة: "عمر" ومرة: "محمد". ومرة: "يحيى". قال ابن حجر: "والاضطراب فيه من أبي معشر، وهو نجيح بن عبد الرحمن، فإنه ضعيف". الإصابة 4/ 372.

(1)

أخرجه هناد في الزهد (203)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1486 (8506) من طريق وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 89 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. وينظر تهذيب الكمال 31/ 176، 177.

ص: 219

خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}

(1)

[الأعراف: 49].

حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سَمِعْتُ عِمرانَ، قال: قلتُ لأبي مجلز: يقولُ اللَّهُ: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} وتَزْعُمُ أنت أنهم ملائكة؟ قال: فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَرٍ:{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} . قال: رجال من الملائكة يَعْرِفون الفريقين جميعًا بسيماهم؛ أهل النار وأهل الجنة، وهذا قبل أن يَدْخُلَ أهل الجنة الجنة

(2)

.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمد بن أبي عَدِيٍّ، عن التيمي، عن أبي مجلز بنحوه.

[حدثنا ابن وكيع]

(3)

قال: ثنا يحيى بنُ يَمانٍ، عن سفيان، عن التيمي، عن أبي مجلز، قال: أصحاب الأعراف الملائكةُ.

حدثني المثنى، قال: ثنا مُعَلَّى

(4)

بن أسدٍ، قال: ثنا خالد، قال: أخبرنا التيمي، عن أبي مجلزٍ، [قال: أصحاب الأعراف]

(5)

الملائكة.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن عمران بن حُديْرٍ

(6)

، عن أبي مجلزٍ:

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 416، 417 عن المصنف.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (958 - تفسير) - ومن طريقه البيهقى في البعث والنشور (121) - وابن المبارك في الزهد (1366 - زيادات المروزي) عن معتمر به، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1373 - زيادات المروزي)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1486 (8507) من طريق التيمى به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 88، 89 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. وفى م:"و".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يعلى". وينظر تهذيب الكمال 28/ 282.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وعلى الأعراف رجال قال هم".

(6)

في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"جرير". وينظر تهذيب الكمال 22/ 314.

ص: 220

{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} . قال: هم الملائكةُ. قلتُ: يا أبا مجلز، يقولُ الله تبارك وتعالى:{رِجَالٌ} وتقول أنت: ملائكة؟ قال: إنهم ذكران ليسوا بإناث

(1)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن عِمْرانَ بن حُديرٍ، عن أبي مجلزٍ في قوله:{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} . قال: الملائكةُ. قال: قلتُ: يقولُ الله: {رِجَالٌ} . قال: الملائكة

(2)

.

والصواب من القولِ في أصحاب الأعراف أن يُقال كما قال الله جل ثناؤُه فيهم: هم رجالٌ يَعْرِفون كُلًّا مِن أهل الجنة وأهل النار بسيماهم. ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصِحُّ سندُه، ولا آية

(3)

متفقٌ على تأويلها، ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكةٌ.

فإذ كان ذلك كذلك، وكان ذلك لا يُدْرَكُ قياسًا، وكان المتعارَفُ بينَ أهل لسان العرب أن الرجالَ اسمٌ يَجْمَعُ

(4)

ذكور بنى آدمَ دونَ إناثهم، ودون سائر الخلقِ غيرهم. كان بيِّنًا، أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة، قولٌ لا معنى له، وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائرُ أهل التأويل غيره، هذا مع من قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ما رُوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها.

وقد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى جَرِيرٌ، عن عُمارةَ بن القَعْقاعِ، عن أبي زُرْعةَ بن

(5)

عمرِو بن جَريرٍ، قال: سُئل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: "هم آخِرُ مَن يُفْصَلُ بينَهم مِن العبادِ، وإذا فرغ ربُّ

(1)

أخرجه ابن الأنبارى في الأضداد ص 369 من طريق وكيع به.

(2)

بعده في م: "ذكور".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أنه".

(4)

في الأصل: "لجمع".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن". وينظر تهذيب الكمال 33/ 323.

ص: 221

العالمين من فصلٍ

(1)

بين العبادِ، قال: أنتم قومٌ أخْرَجَتْكُم حَسَناتُكُم مِن النارِ، ولم تُدْخِلْكم الجنةَ، فأنتم عُتَقائى، فارْعَوْا مِن الجنةِ حيث شئتُم"

(2)

.

‌القول في تأويل قوله جل وعزَّ: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} .

يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون أهل الجنة بسيماهم، وذلك بياضُ وجوههم، ونضرة النعيم عليها، ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم، وذلك سَوادُ وجوههم، وزُرْقةُ أعينهم، فإذا رأَوْا أهل الجنة نادَوْا أن سلامٌ عليكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس قوله:{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ [يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} . قال]

(3)

: يَعْرِفون أهل النارِ بسَوادِ الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه

(4)

.

حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} . قال: أَنْزَلَهم اللَّهُ بتلك المنزلة ليعرفوا [من في]

(5)

الجنة والنار، وليَعْرفوا أهل النار بسوادِ الوجوه، ويَتَعَوَّذوا باللَّهِ أَن يَجْعَلَهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يُحَيُّون أهل الجنة بالسلام، لم

(1)

في م: "فصله".

(2)

تفسير سنيد - كما في تفسير ابن كثير 3/ 416 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1485 (8500) من طريق جرير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 87 إلى ابن المنذر.

(3)

سقط من: الأصل.

(4)

سيأتي تخريجه في ص 231.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أهل".

ص: 222

يَدْخُلوها وهم يَطْمَعون أن يَدْخُلوها، وهم داخلوها إن شاء الله

(1)

.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{بِسِيمَاهُمْ} . قال: بسَوادِ الوجوه وزُرْقةِ العيون

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} : الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون، وسيما أهل الجنةِ مُبْيَضَّةٌ وجوههم.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أصحاب الأعراف إذا رأَوْا أصحاب الجنةِ عرفوهم ببياض الوجوه، وإذا رأَوْا أصحابَ النارِ عرفوهم بسوادِ الوجوه.

حدثني المثنى، قال: ثنا سُوَيْدُ بن نصرٍ، قال: أَخْبَرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إن أصحاب الأعراف رجالٌ كانت لهم ذنوبٌ عظامٌ، وكان حَسْمُ

(3)

أمرهم للهِ، فأُقيموا ذلك المقامَ، إِذا نظَروا إلى أهل النارِ عرفوهم بسواد الوجوه، فقالوا:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه، فذلك قوله:{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}

(4)

.

حُدِّثْتُ عن الحسين بن الفرج، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1488 (8521) عن محمد بن سعد به.

(2)

تفسير مجاهد ص 337، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1487 (8510).

(3)

في الأصل: "حسيم"، وفى الزهد:"جسيم"، والمثبت موافق لما في تفسير ابن أبي حاتم.

(4)

الزهد لابن المبارك (402 - زيادات نعيم)، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1486، 1488 (8509، 8520).

ص: 223

سليمان، قال: سمِعْتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} : زعموا أن أصحاب الأعراف رجالٌ مِن أهل الذنوب أصابوا ذُنوبًا، وكان حَسْمُ

(1)

أمرِهم لله، فجعلهم الله على الأعراف، فإذا نظَروا إلى أهل النار عرفوهم بسوادِ الوجوه، فتعَوَّذُوا بالله من النار. وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم:{أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . [قال الله]

(2)

: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . قال: وهذا قول ابن عباس.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} : يَعْرِفون الناس بسيماهم، يَعْرِفون أهل النارِ بسَوادِ وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم

(3)

.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} : يَعْرِفون أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم.

حدثني يونُسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} . قال: أهل الجنة بسيماهم، بيض الوجوه، وأهل النار بسيماهم، سود الوجوه. وقوله:{يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} . قال: أصحاب الجنة وأصحاب النار. قال: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} . قال: حينَ رأَوْا وُجوهَهم قد ابْيَضَّت.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جويبرٍ، عن الضحاك: {يَعْرِفُونَ كُلًّا

(1)

في الأصل: "جسيم".

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1487 (8513) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 89 إلى أبى الشيخ.

ص: 224

بِسِيمَاهُمْ}. قال: بسوادِ الوجوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمانٍ، عن مباركٍ، عن الحسن:{بِسِيمَاهُمْ} . قال: بسوادِ الوجوه ورزقة العيون.

و "السِّيماءُ": العلامة الدالة على الشيء في كلام العرب، وأصله من السِّمَةِ، نُقِلَت واؤها التي هي فاء الفعل إلى موضع العين، كما يقالُ: اضْمَحَلَّ وامْضَحَلَّ، وذُكر سماعًا عن بعض بني عُقيل: هي أرض خامة. يعنى: وخيمةٌ

(1)

، ومنه قولهم: له جاهٌ عند الناس. بمعنى: وجهٌ. نُقلت واؤه إلى موضع عين الفعل. وفيها لغات ثلاث؛ سيما مقصورةٌ، وسيما ممدودة، وسِيمِيَاءُ بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها، ومدها على مثالِ الكِبرياء، كما قال الشاعرُ

(2)

:

غلامٌ رماه الله بالحسن يافعًا

(3)

له سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ

وأما قوله: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . [فإنَّه يقولُ: ونادى أصحاب الأعراف: يا أهل الجنة أن سلام عليكم]

(4)

. أي: حلَّت عليكم أمَنةُ اللَّهِ مِن عقابه وأليم عذابه.

واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} ؛ فقال بعضُهم: هذا خبرٌ مِن اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه عن أهلِ الأعراف أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف الجنة

(5)

، غير أنهم قالوه وهم يَطْمَعون في دخولها.

(1)

في م، ف:"وخمة". وأرض وخيمة أي لا ينجع كلؤها ولا توافق ساكنها. ينظر تاج العروس (وخ م).

(2)

هو أسيد بن عنقاء الفزاري، وتقدم تخريجه في 5/ 27.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إذ رمى".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 225

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدى، قال: أهلُ الأعرافِ يَعْرِفون الناسَ، فإذا مرُّوا عليهم بزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بها إلى الجنة، قالوا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . يقولُ الله لأهل الأعراف: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أَن يَدْخُلُوها

(1)

.

حدثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، قال: تلا الحسنُ: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامةٍ يُرِيدُها بهم

(2)

.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . قال: قد أَنْبَأكم الله بمكانهم من الطمعِ.

حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهُذَلي، قال: قال سعيد بن جبيرٍ، وهو يُحَدِّثُ ذلك عن ابن مسعودٍ، قال: أما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم، [فلم يُنْزَعُ]

(3)

مِن أيديهم، فهنالك يقولُ الله جل ثناؤُه:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . [فكان الطمع دخولًا

(4)

.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هُشَيمٌ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} ]

(5)

. قال: في دخولها.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1487 (8513) من طريق أحمد به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 230 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1488 (8517) - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 89 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فانتزع"، وفى م:"ما انتزع".

(4)

جزء من الأثر المتقدم في ص 213، 214.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 226

قال ابن عباس: فأدخلَ الله أصحاب الأعراف الجنةَ.

حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعطاءٍ:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . قالا: في دخولها.

وقال آخرون: إنما عنى بذلك أهل الجنة، وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يَدْخُلوا الجنةَ: سلامٌ عليكم. وأهل الجنة يَطْمَعون أَن يَدْخُلوها، ولم يَدْخُلوها بعد.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن حميدٍ [وابنُ وَكيع، قالا]

(1)

: ثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلزٍ:{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} . قال: الملائكة يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم، وهذا قبل أن يَدْخُلَ أهل الجنة الجنةَ، أصحاب الأعرافِ يُنادون أصحاب الجنة أن سلامٌ عليكم، لم يَدْخُلوها وهم يَطْمَعون في دخولها.

‌القول في تأويل قوله جلَّ وعزّ: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

يعنى تعالى ذكره: وإذا صُرِفَت أبصارُ أصحاب الأعراف {تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} يعني: حيالهم ووجاههم، فنظروا إلى تشويه الله بهم

(2)

{قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها مِن سَخَطِكَ ما أَوْرَثهم مِن

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال: ثنا وكيع، قال".

(2)

في م: "لهم".

ص: 227

عقابك

(1)

ما هم فيه.

كما حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدي، قال: وإذا مرُّوا بهم - يعنى بأصحاب الأعراف - بزُمْرةٍ يُذْهَبُ بها إلى النار قالوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جُويبرٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار، [عرفوهم، فقالوا]

(3)

: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

(4)

.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي مكين، عن أخيه، عن عكرمة:{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} . قال: تُجرَّدُ

(5)

وجوههم للنار، فإذا رأَوْا أهل الجنة، ذهَب ذلك عنهم

(6)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} : فرأَوْا وجوههم مُسْوَدَّةً، وأعينهم مُزرَقَّةً، قالوا:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

(7)

.

‌القول في تأويل قوله جل وعزّ {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)} .

(1)

في م: "عذابك".

(2)

تفسير ابن كثير 3/ 417، وقد تقدم أوله في ص 226.

(3)

في م: "وعرفوهم قالوا".

(4)

تقدم تخريجه في ص 223.

(5)

تجرد: تسلخ جلود وجوههم بسبب النار. وينظر النهاية 1/ 257.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1488 (8518) من طريق وكيع به.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1488 (8519) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد.

ص: 228

يقول جل ثناؤه: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا} . من أهل النار

(1)

{يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} : سيما أهل النار. فقالوا: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} : ما كنتم تجمعون من الأموالِ والعَدَدِ في الدنيا. {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} . يقول: وتكبُّرُكم الذي كنتمُ تَتَكَبَّرون فيها.

كما حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: فمرَّ بهم - يعنى بأصحاب الأعراف - ناسٌ مِن الجبارين، عرفوهم بسيماهم. قال: يقولُ: قال أصحاب الأعراف: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}

(2)

.

حدثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:[ونادوا - يعنى]

(3)

أصحاب الأعراف - {رجالا} في النارِ {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} : تكثُّرُكم

(4)

{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} .

حدثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} . قال: هذا حين دخل أهل الجنة الجنةَ {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} الآية. قلتُ لأبي مجلز: عن ابن عباس؟ قال:

(1)

في م: "الأرض".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1489 (8525) من طريق أحمد بن المفضل به.

(3)

في م: "ونادى".

(4)

سقط من: الأصل، وفى م:"وتكبركم". وما في بقية النسخ كالذى في "م" إلا أنهم قدموا هذه اللفظة على التي قبلها فقالوا: "تكبركم وجمعكم". وأثبتنا الصواب من تفسير ابن أبي حاتم، حيث أخرجه في 5/ 1489 (8522، 8523) عن محمد بن سعد به.

ص: 229

لا، بل عن غيره

(1)

.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلزٍ:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} . قال: نادت الملائكة رجالًا في النار، يعرفونهم بسيماهم:{مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} . قال: فهذا حين دخل أهل الجنة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}

(2)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} . قال: رجال عظماء من أهل الدنيا. قال: فبهذه الصفة عرف أهل الأعراف أهل الجنة مِن أهل النار، وإنما ذكر هذا حينَ يُذْهَبُ برئيس أهل الخير ورئيس أهل الشرِّ يوم القيامة. قال: وقال ابن زيدٍ في قوله: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} . قال: عن

(3)

أهل طاعة الله

(4)

.

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} .

اخْتَلَف أهل التأويل في المعنيين بهذا الكلام؛ فقال بعضهم: هذا قِيلُ الله جلّ ثناؤه لأهل النارِ؛ توبيحًا لهم على ما كان من قيلهم في الدنيا لأهل الأعراف، عند إدخاله أصحاب الأعراف الجنة.

(1)

تقدم تخريجه في ص 220.

(2)

قد تقدم في ص 219، 220.

(3)

في م: "علي".

(4)

أخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1489 (8527) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 230

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: أصحاب الأعراف رجالٌ كانت لهم ذنوب عظام، وكان حسم

(1)

أمرهم لله، يقومون على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يَدْخُلوها، وإذا نظروا إلى أهل النار تعوَّذوا بالله منها، فأُدْخِلوا الجنة، فذلك قوله:{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} . يعنى أصحاب الأعراف، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أَخْبَرَنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، [عن ابن عباس]

(3)

، قال: قال ابن عباس: إن الله أَدْخَل أصحاب الأعراف الجنةَ. قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}

(4)

.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:[{قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}. قال: فلما قالُوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا - يعنى أصحاب الأعراف - لأهل الجنة وأهل النار]

(3)

، قال الله لأهلِ التكَبُّرِ والأموال:{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} ، يعنى أصحاب الأعراف، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ

(1)

في الأصل: "جسيم"، وفي ف:"حسمهم".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1487، 1488 (8515) ببعضه، والبيهقي في الشعب (381) وفى البعث والنشور (108) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 88 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(3)

سقط من: م.

(4)

تقدم تخريجه في ص 223.

ص: 231

تَحْزَنُونَ}

(1)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{أَهَؤُلَاءِ} الضعفاء {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} . قال: فقال حذيفة: إن أصحاب الأعرافِ قومٌ تَكافَأت أعمالهم، فقصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصرت بهم سيئاتهم عن النار، فجُعِلوا على الأعرافِ، يَعْرِفون

(2)

الناس بسيماهم، فلمَّا قُضِى بين العبادِ، أُذن لهم في طلب الشفاعةِ، فأتَوْا آدم عليه السلام، فقالوا: يا آدم، أنت أبونا، فاشْفَعْ لنا عند ربك، فقال: هل تَعْلَمون أحدًا خلقه الله بيدِه، ونفخ فيه مِن رُوحِه، وسبقت رحمته

(3)

إليه غضبَه، وسجَدَت له الملائكة غيرى؟ فيقولون: لا. قال: فيقولُ: ما عمِلْتُ

(4)

كُنْهَ ما أَسْتَطِيعُ أن أَشْفَعَ لكم، ولكن ائتوا ابنى إبراهيم. قال: فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيَسْأَلونه أن يَشْفَعَ لهم عند ربِّه، فيقولُ: هَل تعْلَمون مِن أحدٍ اتَّخَذه الله خليلًا؟ هل تَعْلَمون أحدًا أَحْرَقه قومه في النارِ في اللَّهِ غيرى؟ [فيقولون: لا]

(5)

. فيقولُ: ما عملت

(6)

كُنْهَ ما أَسْتَطِيعُ أَن أَشْفَعَ لكم، ولكن ائتوا ابنى موسى. فيأتون موسى عليه السلام، فيقولُ: هل تَعْلَمون من أحدٍ كلَّمه الله تكليمًا، وقرَّبه نجيًّا غيرى؟ فيقولون: لا. فيقول: ما عَمِلْتُ

(6)

كُنة

(7)

ما أَسْتَطِيعُ أن أَشْفَعَ لكم، ولكن ائتوا عيسى. فيأتونه فيقولون: اشْفَعْ لنا عند ربك. فيقولُ: هل

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1489 (8528) عن محمد بن سعد به، دون ذكر أوله.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يعترفون". وهما بمعنى، ينظر التاج (ع ر ف).

(3)

في م: "رحمة الله".

(4)

في م، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، والدر المنثور:"علمت".

(5)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س.

(6)

في ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"علمت".

(7)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فيه"، وفى تفسير ابن كثير حيث جاء:"كنهه".

ص: 232

تَعْلَمون أحدًا خلَقَهُ اللَّهُ مِن غيرِ أبٍ غيرى؟ فيقولون: لا. فيقولُ: هل تعلمون من أحدٍ كان يُبْرِئُ الأكْمَة والأبرص ويُحْيِي الموتى بإذنِ اللهِ غيرى؟ قال: فيقولون: لا. فيقولُ: أنا حَجيج نفسى، ما عملتُ

(1)

كُنْهَ

(2)

ما أَسْتَطِيعُ أَن أَشْفَعَ لكم، ولكن ائتوا محمدًا

(3)

. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فيَأْتونى، فأَضْرِبُ بيدى على صدرى، ثم أَقولُ: أنا لها. ثم أَمْشِى حتى أَقِفَ بين يدي العرشِ، فأُثْنِي على ربي، فيُفْتَحُ لى مِن الثناءِ ما لم يَسْمَعِ السامعون بمثله قط، ثم أَسْجُدُ فيُقالُ لى: يا محمد، ارْفَعْ رأسك، سلْ تُعْطَه، واشْفَعْ تُشَفَّعْ. فأرفع رأسى

(4)

فأقولُ: رب أمَّتى. فيقال: هم لك. فلا يَبْقَى نبيٌّ مرسَلٌ ولا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ إلا غبطنى يومئذٍ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتى بهم باب الجنةِ، فَأَسْتَفْتِحُ، فيُفْتَحُ لى ولهم، فيُذْهَبُ بهم إلى نهرٍ يقال له: نهرُ الحيوان

(5)

. حافتاه قَصَبٌ

(6)

من ذهبٍ، مُكَلَّلٌ باللؤلؤ، ترابه المسْك، وحَصْباؤُه الياقوتُ، فيَغْتَسِلون منه، فتَعودُ إليهم ألوان أهل الجنة وريحُ

(7)

[أهل الجنة]

(8)

، ويصيرون كأنهم الكواكبُ الدُّرِّيةُ، ويَبْقَى في صدورهم شاماتٌ بيضٌ يُعرفون بها، يقال لهم: مساكينُ أهل الجنة"

(9)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"علمت".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"فيه كنه".

(3)

بعده في م: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(4)

بعده في الأصل: "ثم أثنى على ربى ثم أخر ساجدًا، فيقال لى: ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع. فأرفع رأسى". وينظر الدر المنثور وتفسير ابن كثير.

(5)

في م، والدر المنثور:"الحياة".

(6)

في الأصل، م:"قضب".

(7)

في م: "ريحهم".

(8)

سقط من: ص، ص، ت 1، ت 2 ت 3، س، ف.

(9)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 418 عن حذيفة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى المصنف. وينظر ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه (955، 956 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1484، 1485 =

ص: 233

حدِّثْتُ عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمان، قال: سمِعْتُ الضحاك، قال: إن اللَّهَ أَدْخَل

(1)

بعد أصحابَ الأعراف

(2)

الجنةَ، وهو قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} . يعني أصحاب الأعراف، وهذا قول ابن عباسٍ.

فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن ذكرنا قولَه فيه: قال الله لأهل التكبُّرِ عن الإقرار بوَحْدانيته، والإذعان لطاعته وطاعة رسله، الجامعين في الدنيا الأموال، مكاثرة ورياءً: أيها الجبابرة

(3)

كانوا في الدنيا، أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أَقْسَمْتُم لا يَنالُهم الله برحمةٍ؟ فإني

(4)

قد غفَرْتُ لهم ورحمتهم بفضلى ورحمتى، ادْخُلُوا يا أصحاب الأعراف الجنةَ، لا خوفٌ عليكم بعدها من عقوبةٍ تُعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الآثام والإجرام، ولا أنتم تحزنون على شيءٍ فاتكم في دنياكم.

وقال أبو مجلز: بل هذا القولُ خبرٌ من اللهِ عن قيل الملائكةِ لأهل النارِ بعد ما دخلوا النار، تغييرًا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدْخَلَهم الله يومَ القيامة جنته. وأما قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} فخبرٌ من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، قال:

= (8499)، والبيهقى في البعث والنشور (110) من طريق الشعبي عن حذيفة، وما أخرجه الحاكم 2/ 320 - ومن طريقه البيهقى في البعث (109) - من طريق الشعبي عن صلة عن حذيفة.

(1)

في م: "أدخلهم".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

بعده في م: "الذين".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"قال".

ص: 234

نادَت الملائكة رجالًا في النارِ يَعْرِفونهم بسيماهم {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} . قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنةَ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} .

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤُه: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} .

وهذا خبرٌ مِن الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة عند نزول عظيم البلاء بهم، من شدة العطش والجوع؛ عقوبةً من الله لهم على ما سلف منهم في الدنيا، من ترك طاعة الله في أداء ما كان فرض عليهم فيها في أموالهم من حقوق المساكين، من الزكاة والصدقة. يقول تعالى ذكره:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} بعد ما دخلوها {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} بعد ما سكنوها {أَنْ} يا أهل الجنةِ {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [أي: أَوْسِعُونَا مِنَ الماءِ]

(1)

. {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} . أَيْ: أَطْعِمونا مما رزقكم الله من الطعام.

كما حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} . قال: من الطعام

(2)

.

حدثني يونس، قال: أَخْبَرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} . قال: يَسْتَطْعِمونهم ويَسْتَسْقُونهم

(3)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1490، 1491 (8534) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 90 إلى أبى الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1491 (8535) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 235

فأجابهم أهل الجنة: إن الله تبارك وتعالى حرَّم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذبوا في الدنيا رسله.

والهاء والميم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا} . عائدتان على "الماء"، وعلى "ما" التي في قوله:{أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} .

وبنحو ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن سعيدِ بن جبير، عن ابن عباس:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} . قال: يُنادِى الرجلُ أخاه أو أباه، فيقولُ: قد احْتَرَقْتُ، أَفِضُ عليَّ من الماء. فيقال لهم: أجيبوهم. فيقولون: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}

(1)

.

وحدَّثني المثنى، قال: ثنا ابن دُكَيْنٍ، قال: ثنا سفيان، عن عثمان، عن سعيد بن جبير:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} . قال: يُنادِى الرجلُ أخاه: يا أخى قد احْتَرَقْتُ فأَغِثنى. فيقولُ: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}

(2)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {إِنَّ

(1)

تفسير سفيان ص 113، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 369 عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 90 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1490 (8532) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين به من قول ابن عباس.

ص: 236

اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}. قال: طعام

(1)

الجنة وشرابها

(2)

.

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} .

وهذا خبرٌ مِن الله جلَّ ثناؤه عن قِيل أهل الجنة للكافرين، يقول تعالى ذكره: فأجاب أهل الجنةِ أهلَ النارِ: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} الذين كفروا بالله ورسله، {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} الذي أمرهم الله به، {لَهْوًا وَلَعِبًا}. يقولُ: سُخريةً ولعِبًا.

وروى عن ابن عباس في ذلك ما حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس

(3)

: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [قال: لعبًا]

(4)

.

وذلك أنهم كانوا إذا دُعُوا إلى الإيمانِ سخروا ممن دعاهم إليه، وهزئوا به؛ اغترارا بالله.

{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} . يقولُ: وخدعهم عاجل ما هم فيه من العيش والخفض والدَّعَةِ، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى أتتهم المنية، يقولُ الله جل ثناؤُه:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} . أي: ففى هذا اليوم، وذلك يوم القيامةِ، {نَنْسَاهُمْ}. يقولُ: نَتْرُكُهم في العذابِ

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أهل".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1491 (8537) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(3)

بعده في م: "في قوله".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ولعبا".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1491 (8539) من طريق أبي صالح به.

ص: 237

المُهين

(1)

جياعًا عِطاشًا بغير طعام ولا شراب، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، ورفضوا الاستعداد بإتعاب أبدانهم في طاعةِ اللهِ.

وقد بينا معنى قوله: {نَنْسَاهُمْ} . بشواهده فيما مضى، بما أغْنَى عن إعادته

(2)

.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهد:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} . قال: نَسُوا في العذابِ

(3)

.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} . قال: نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا

(4)

.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:{نَنْسَاهُمْ} . قال: نَتْرُكُهم في النارِ.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} . قال: نَتْرُكهم

(5)

كما تركوا لقاء

(6)

يومهم هذا

(7)

.

(1)

في م: "المبين".

(2)

ينظر ما تقدم في 9/ 244، 245.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1492 عقب الأثر (8543) معلقا.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 230 عن معمر به، وهو في تفسير مجاهد ص 337.

(5)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"من الرحمة".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"أن يعملوا للقاء".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1492 (8543)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1026)، من طريق عبد الله بن صالح به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 90 إلى ابن المنذر.

ص: 238

[حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدَّثنا أسْبَاطُ، عن السدى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}]

(1)

حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} الآية. يقولُ: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشرِّ

(2)

.

حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعتُ مجاهدًا في قوله: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} . قال: نُؤَخِّرُهم في النارِ

(3)

.

وأما قوله: {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} . فإن معناه: فاليوم ننساهم هذا كما نسُوا لقاء يومهم، وكما كانوا بآياتِنا يَجْحَدون.

فـ "ما" التي في قوله: {وَمَا كَانُوا} . معطوفة على "ما" التي في

(4)

قوله: {كَمَا نَسُوا} .

وتأويل الكلام: فاليومَ نَتْرُكُهم في العذاب كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يومَ القيامة، وكما كانوا بآياتِ اللهِ

(5)

، وهى حججُه التي احْتَجَّ بها عليهم؛ من الأنبياء والرسل والكتب وغير ذلك، {يَجْحَدُونَ}: يُكَذِّبون، ولا يُصَدِّقون بشيءٍ من ذلك.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1492 (8545) من طريق أحمد بن المفضل به، ولفظه: نتركهم من الرحمة.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1492 (8546) عن محمد بن سعد به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1492 (8544) من طريق ابن جريج، عن مجاهد.

(4)

في الأصل: "مع".

(5)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"يجحدون".

ص: 239

‌القول في تأويل قوله جل وعزَّ: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} .

يقول تعالى ذكره: أُقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة {بِكِتَابٍ} ، يعني القرآن الذي أنزله إليه، يقول: لقد أنزلنا إليهم هذا القرآنَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا فيه الحق من الباطل، [{عَلَى عِلْمٍ}. يقولُ: على علم منا بحقِّ ما فُصِّل فيه من الباطل]

(1)

الذي ميَّز فيه بينه وبين الحق، و {هُدًى وَرَحْمَةً}. يقولُ: بيَّناه لنَهْدِى به ونَرْحَمَ به قومًا يُصَدِّقون به وبما فيه من أمر الله ونهيه، وأخباره، ووعده ووعيده، فيُنْقِذَهم. الضلالة إلى الهدى.

وهذه الآية مردودة على قوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2]. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} .

و "الهدى" في هذا هذا الموضعِ نُصِبَ على القطع من الهاء التي في قوله: {فَصَّلْنَاهُ} . ولو نُصِب على فعلِ {فَصَّلْنَاهُ} فيكون المعنى: فصَّلْنا الكتاب كذلك. كان صحيحًا.

ولو كان قُرِئ (هُدى ورحمة) كان في الإعراب فصيحًا، وكان خفضُ ذلك بالردِّ على "الكتاب".

‌القول في تأويل قوله جلَّ وعزَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} :

يقول تعالى ذكره: هل يَنْتَظِرُ هؤلاء المشركون الذين يُكَذِّبون بآياتِ اللَّهِ، ويَجْحَدون لقاءه {إِلَّا تَأْوِيلَهُ}. يقولُ: إلا ما يَقُولُ إليه أمرهم، مِن وُرودِهم على

(1)

سقط من: الأصل، ف.

ص: 240

عذاب الله، وصليِّهم نار

(1)

جحيمه، وأشباه ذلك

(2)

مما أَوْعَدهم الله به.

وقد بيَّنا معنى التأويل فيما مضى بشواهده، بما أغْنَى عن إعادته في هذا الموضع

(3)

.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} . أي: ثوابه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}. أي: ثوابه

(4)

.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} . قال: تأويله عاقبته

(5)

.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} . قال: جزاءه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}. قال: جزاؤه

(6)

.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"هذا"، وفى ف:"بهذا".

(3)

ينظر ما تقدم في 5/ 222.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8557) من طريق يزيد به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8562) عن محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 230 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 90 إلى أبي الشيخ.

(6)

تفسير مجاهد ص 338، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8561)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 90 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 241

[حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {تَأْوِيلُهُ}. قال: جَزَاؤُه]

(1)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} : أما تأويله، عَواقِبُه، مثلُ وقعة بدرٍ، والقيامة، وما وَعَدَ فيه من موعد

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أَبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} : فلا يزالُ يقعُ مِن

(3)

تأويله أمرٌ بعد أمرٍ، حتى يتم تأويله يوم القيامة، ففى ذلك أَنزَلَ اللَّهُ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} . حيثُ أَتَابَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه أولياءه وأعداءه ثوابَ أعمالهم، {يَقُولُ} يومئذٍ {الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} من الآية

(4)

.

حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} : فهو

(5)

يومُ القيامة

(6)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8558) من طريق أحمد بن المفضل به.

(3)

زيادة من: م.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8560) من طريق عبد الله بن أبي جعفر به بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 90 إلى أبى الشيخ.

(5)

في م: "قال".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8559) عن محمد بن سعد به.

ص: 242

تَأْوِيلُهُ}. قال: [يوم تأتى حقيقته]

(1)

. وقرأ قولَ اللَّهِ تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]. قال: هذا تحقيقها. وقرأ قولَ اللَّهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} : قال: ما يعلم حقيقته، ومتى يأتى، إلا الله

(2)

.

وأما قولُه: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} فإن معناه: يوم يجئ ما يَقُولُ إليه أمرهم من عقاب الله {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} ، أي: يقولُ الذين ضَيَّعوا، وتَرَكوا ما أُمروا به من العمل المُنَجِّيهم مما آل إليه أمرُهم يومَئِذٍ مِن العذاب، من قبل ذلك في الدنيا: لـ {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، أقسم المساكين حين عاينوا البلاء، وحَلَّ بهم العقاب، إن رُسُلَ اللَّهِ التي أتتهم بالنِّذَارِةِ، وبَلَّغَتْهم عن الله الرسالة، قد كانت نَصَحَت لهم، وصَدَقَتْهم عن الله، وذلك حين لا ينفَعُهم التصديقُ، ولا يُنَجِّيهم مِن سَخَطِ اللهِ وأليم عقابه، كثرةُ القالِ والقيل.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني محمد

(3)

بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} : أما {الَّذِينَ نَسُوهُ} فتركوه، فلما رأوا ما وَعَدَهم أنبياؤُهم اسْتَيْقَنوا فقالوا:{قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}

(4)

.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي

(1)

في م: "يأتي تحقيقه".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1494 (8563)، من طريق أصبغ، عن ابن زيد بنحوه.

(3)

بعده في م: "بن عمرو".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1495 (8565، 8566) من طريق أحمد به.

ص: 243

نجيحٍ، عن مجاهد:{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} : أَعْرَضُوا عنه

(1)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

‌القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)} .

وهذا خبرٌ من الله جلَّ ثناؤه عن هؤلاء المشركين الذين وَصَفَ صِفَتَهم أنهم يقولون عند حلولِ سَخَطِ الله بهم، ووُرُودِهم أليم عذابه، ومُعاينَتِهم تأويل ما كانت رسلُ اللهِ تَعِدُهم: هل لنا من أصدقاء وأولياء اليوم، فيَشْفَعوا لنا عند ربنا، فتُنَجِّينا شفاعتهم عنده مما قد حَلَّ بنا من [غضب اللَّهِ وسَخطه، وتُرَضِّيَه عنا، أو إن لم تُرَضِّه عنا، لما قد سلَف منا من]

(2)

سوء فعالنا في الدنيا، فهل

(3)

نُرَدُّ إلى الدنيا مرةً أخرى، فنَعْملَ فيها بما يُرْضِيه ويُعْتِبُه مِن أنفسنا؟ قال هذا القول المساكين هنالك؛ لأنَّهم كانوا عَهِدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاءُ تشفع لهم في حاجاتهم، فتَذَكَّروا

(4)

ذلك في وقت لا خُلَّةَ فيه لهم ولا شفاعة.

يقولُ الله جلّ ثناؤه: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} . يقولُ: غَبَنَوا أنفسهم حُظُوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرةِ الدائم، بالخسيس مِن عَرَضِ الدنيا الزائلِ، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. يقولُ: وأَسْلَمَهم لعذابِ اللَّهِ

(1)

تفسير مجاهد ص 338، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1495 (8564).

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

في م، ت 1:"أو".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فيذكروا".

ص: 244

وجارَ

(1)

عنهم أولياؤهم الذين كانوا يَعْبُدونهم مِن دونِ اللَّهِ، ويَزْعُمون كذبًا وافتراءً أنهم أربابُهم مِن دونِ اللَّهِ.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ قوله:{قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} . يقول: بشَّروها

(2)

بخُسرانٍ

(3)

.

وإنما رُفِع قولُه: {أَوْ نُرَدُّ} . ولم يُنْصَبْ عطفًا على قوله: {فَيَشْفَعُوا} . لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيَشْفَعوا لنا، أو هل نُرَدُّ فنعمل غير الذي كُنَّا نعمل؟ ولم يُرَدُّ به العطفُ على قوله:{فَيَشْفَعُوا} .

‌القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .

يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومُصْلِحَ أموركم أيُّها الناسُ، هو المعبود الذي له العبادة من كلِّ شيءٍ، الذي خَلَقَ السماواتِ والأرض في ستة أيام، وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

كما حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو عَوَانةَ، عن أبى بشر، عن مجاهد، قال: بَدْءُ الخلقِ العرشُ والماء والهواء، وخُلِقَت الأرضُ من الماء، وبدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وجُمِعَ الخلقُ في يوم الجمعة، فتَهَوَّدَت اليهود يوم السبت. ويومٌ من الستة الأيام كألف سنةٍ مما تَعُدُّون

(4)

.

(1)

في ص: "حاز"، وفى م، ت 2، ت 3:"جاد"، وفى ت 1، س:"حار"، وفى ف:"جاز".

(2)

في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شروها".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1495 (8569) من طريق أحمد بن مفضل به.

(4)

أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات 2/ 242 (806) من طريق أبي عوانة به، وأخرجه ابن أبي شيبة =

ص: 245

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . وقد ذكَرنا معنى الاستواءِ واختلافَ الناس فيه فيما مَضَى قبلُ، بما أغنى عن إعادته

(1)

.

وأما قولُه: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} ، فإنه يقولُ: يُورِدُ الليل على النهارِ فيُلبِسُه إياه، حتى يُذْهِبَ نَضْرته ونورَه، {يَطْلُبُهُ}. يقول: يطلبُ الليلُ النهارَ {حَثِيثًا} . يعني: سريعًا.

وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} . يقولُ: سريعًا

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} . قال: يُغْشى الليلَ النهارَ، فيذهبُ بضَوْئِه، ويطلُبُه سريعًا حتى يُدْرِكَهُ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّكم اللهُ الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ والشمسَ

= 14/ 106 من طريق أبي عوانة، عن أبي كثير، عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 91 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 454 - 458.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1498 (8582) من طريق أبي صالح به.

(3)

أخرج شطره الأول ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1497 (8581) من طريق أحمد بن المفضل به، وشطره الثاني 5/ 1498 عقب الأثر (8582) من طريق عمرو، عن أسباط به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 92 إلى أبي الشيخ.

ص: 246

والقمرَ والنجومَ مُسَخَّرًا

(1)

كلُّ ذلك بأمرِه، أَمَرَهنَّ اللهُ فَأَطَعْنَ لأمرِه

(2)

، ألَا له الخلقُ كلُّه، والأمرُ الذي لا يُخالَفُ، ولا يُرَدُّ أمرُه دونَ ما سِواه مِن الأشياءِ كلِّها، ودونَ ما عَبَدَه المشركون مِن الآلهةِ والأوثانِ التي لا تضرُّ ولا تنفعُ، ولا تخلُقُ ولا تأمُرُ، تبارَك معبودُنا الذي له عبادةُ كلِّ شيءٍ ربُّ العالمين.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا هشامٌ أبو عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا بقيةُ بنُ الوليدِ، قال: ثنى عبدُ الغفارِ بنُ عبدِ العزيزِ الأنصاريُّ، عن عبدِ العزيزِ الشاميِّ، عن أبيه، وكانت له صحبةٌ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن لم يَحْمَدِ الله على ما عَمِلَ مِن عملٍ صالحٍ، وحَمِدَ نفسَه، قَلَّ شُكْرُه، وحَبِطَ عملُه، ومَن زَعَمَ أَن اللَّهَ جَعَلَ للعبادِ مِن الأمرِ شيئًا، فقد كَفَرَ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على أنبيائِه؛ لقولِه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} "

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: ادْعُوا أَيُّها الناسُ ربَّكم وحدَه، فأَخْلِصوا له الدعاءَ، دونَ ما تَدْعُون مِن دونِه من الآلهةِ والأصنامِ {تَضَرُّعًا}. يقولُ: تَذَلُّلًا واستكانةً لطاعتِه، {وَخُفْيَةً}. يقولُ: بخشوعِ قلوبِكم، وصحةِ اليقينِ منكم بوحدانيتِه فيما بينَكم وبينَه. لا جهارًا مراءاةً وقلوبُكم غيرُ موقِنةٍ بوحدانيتِه وربوبيتِه، فِعْلُ أهلِ النفاقِ والخداعِ للهِ ولرسولِه.

كما حدَّثني المُثنى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، عن

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أمره".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 423، والحافظ في الإصابة 7/ 265، وفيهما: عبد الغفار بن عبد العزيز. كما هذا، والذي في كتب التراجم أن اسمه عبد الغفور بن عبد العزيز. ينظر التاريخ الكبير 6/ 137، والجرح والتعديل 6/ 55، والثقات 5/ 125 ولسان الميزان 4/ 43، وسيأتي في 12/ 419 باسم عبد العزيز بن عبد الغفور.

ص: 247

المُباركِ بن فَضالةَ، عن الحسنِ، قال: إن كان الرجلُ لقد جَمَعَ القرآن وما يشعُرُ به جارُه، وإن كان الرجلُ لقد فَقِهَ الفقهَ الكثيرَ

(1)

وما يشعُرُ به الناسُ، وإن كان الرجلُ ليُصَلِّي الصلاةَ الطويلةَ في بيتِه، وعندَه الزَّوْرُ

(2)

وما يَشْعرون به، ولقد أَدْرَكْنا أقوامًا ما كان على الأرضِ مِن عملٍ يَقْدِرون على أن يَعْمَلُوه في السرِّ فيكونَ علانيةً أبدًا، ولقد كان المسلمون يَجْتَهدون في الدعاءِ، وما يُسْمَعُ لهم صوتٌ، إن كان إلا هَمْسًا بينَهم وبينَ ربِّهم، وذلك أن الله يقولُ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} . وذلك أن الله ذَكَرَ عبدًا صالحًا ورَضِيَ فعلَه، فقال:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (2)}

(3)

[مريم: 3].

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي عثمانَ النهديِّ، عن أبي موسى، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ، فأشْرَفوا على وادٍ [فجعَل الناسُ]

(4)

يُكَبِّرون ويُهَلِّلون ويَرْفَعون أصواتَهم، فقال: "أيُّها الناسُ ارْبَعُوا

(5)

على أنفسِكم، إنكم لا تَدْعُون أَصَمَّ ولا غائِبًا، إنكم تَدْعُون سميعًا قريبًا، إنه

(6)

معكم"

(7)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} . قال: السِّرُّ

(8)

.

(1)

في الأصل: "الكبير".

(2)

في م: "الزوار". وفى ص: "الروز"، وفى ت 1، س، ف:"السرور". والزَّور: الزائرون، اسم للجمع ويكون للواحد والمذكر والمؤنث بلفظ واحد. تاج العروس (ز و ر).

(3)

الزهد لابن المبارك (140)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 92، 93 إلى أبى الشيخ.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

اربعوا: ارفقوا. تاج العروس (ر ب ع).

(6)

سقط من: م، و في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أنا".

(7)

أخرجه ابن ماجه (3824) من طريق جرير به، وأخرجه الطيالسي (495)، والبخاري (2992، 4205)، ومسلم (2704) وغيرهم من طريق عاصم الأحول به.

(8)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 424 عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 92 إلى=

ص: 248

وأما قولُه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . فإن معناه: إن ربَّكم لا يُحِبُّ مَن اعْتَدى، فتجاوزَ حَدَّه الذي حَدَّه لعبادِه، في دعائِه ومسألتِه ربَّه، ورَفْعِه صوتَه فوقَ الحدِّ الذي حَدَّ لهم في دعائِهم إياه ومسألتِهم، وفى غيرِ ذلك مِن الأمورِ.

كما حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا معتمرُ بنُ سليمانَ، قال: أنبأنا إسماعيلُ بنُ حمادِ بن أبي سليمانَ، عن عبادِ بن عبادِ بن

(1)

علقمةَ، عن أبي مِجْلزٍ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . قال: لا تسألْ منازلَ الأنبياءِ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} : في الدعاءِ ولا في غيرِه. قال ابن جريجٍ: مِن الدعاءِ اعتداءٌ، يُكْرَهُ رفعُ الصوتِ، والنداءُ والصياحُ بالدعاءِ، ويُؤمَرُ بالتضرُّع والاستكانةِ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} .

يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} : لا تُشْرِكوا بالله في الأرض، ولا تَعْصُوه فيها، وذلك هو الفسادُ فيها.

وقد ذَكَرنا الروايةَ في ذلك فيما مَضَى، وبَيَّنَّا معناه بشواهدِه

(4)

.

{بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} . يقولُ: بعدَ إصلاحِ اللهِ إياها لأهلِ طاعتِه،

= المصنف وابن المنذر وأبى الشيخ.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن". وينظر تهذيب الكمال 14/ 132.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1500 (8597) من طريق معتمر بن سليمان به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1500 (8599)، وأما قول ابن جريج فقد ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 424، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى أبى الشيخ.

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 296 - 299.

ص: 249

بابْتعاثِه فيهم الرسلَ دعاةً إلى الحقِّ، وإيضاحِه حُجَجَه لهم، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} ، يقولُ: وأخْلِصوا له الدعاءَ والعملَ، ولا تُشْرِكوا في عملِكم له شيئًا غيرَه مِن الآلهةِ والأصنامِ وغيرِ ذلك، وليكنْ ما يكونُ منكم مِن

(1)

ذلك خوفًا مِن عقابِه، وطمَعًا في ثوابِه، فإِنَّ مَن كان دعاؤُه إياه على غيرِ ذلك، فهو بالآخرةِ مِن المُكذِّبين؛ لأن مَن لم يَخَفْ عقابَ اللَّهِ، ولم يَرْجُ ثوابَه، لم يُبالِ ما رَكِبَ مِن أمرٍ يَسْخَطُه اللهُ ولا يَرْضَاه، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: إن ثوابَ اللهِ الذي وعَد المحسنين على إحْسانِهم في الدنيا قريبٌ منهم، وذلك هو رحمتُه؛ لأنه ليس بينَهم وبينَ أن يَصِيروا إلى ذلك مِن رحمتِه وما أعدَّ لهم مِن كرامتِه، إلا أن تُفارِقَ أرواحُهم أجسادَهم.

ولذلك مِن المعنى ذُكِّرَ قولُه: {قَرِيبٌ} . وهو مِن خبرِ "الرحمةِ"، و"الرحمةُ" مؤنثةٌ؛ لأنه أُرِيدَ به القربُ في الوقتِ لا في النسبِ. والأوقاتُ بذلك المعنى، إذا وقعَت أخبارًا للأسماءِ أَجْرَتْها العربُ مُجْرَى الحالِ

(2)

، فَوَحَّدَتها مع الواحدِ والاثنينِ والجميعِ، وذَكَّرَتها مع المؤنثِ، فقالوا: كرامةُ اللهِ

(3)

بعيدٌ مِن فلانٍ، وهى قريبٌ مِن فلانٍ. كما يقولون: هندٌ منَّا قريبٌ، والهندان منا قريبٌ، والهنداتُ منا قريبٌ؛ لأن معنى ذلك: هي في مكانٍ قريبٍ منَّا. فإذا حَذَفوا المكانَ، وجَعَلوا القريبَ خلفًا منه، ذَكَّروه ووَحَّدُوه في الجمعِ، كما كان المكانُ مذكَّرًا وموحَّدًا في الجمعِ. وأما إذا أَنَّثُوه أخْرَجوه مثنًّى مع الاثنينِ، ومجموعًا مع الجميعِ، فقالوا: هي قريبةٌ مِنَّا، وهما [قَرِيبتان منك]

(4)

. كما قال عروةُ بنُ الوردِ

(5)

:

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"في".

(2)

في الأصل، ص، ت 1، ف:"المحال".

(3)

بعده في الأصل، ص، ت 1، س، ف:"فلانة".

(4)

في ص، م:"منا قريبتان"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"منا قريبان".

(5)

كذا في النسخ والصواب عروة بن حزام، والبيت في معاني القرآن للفراء 1/ 381، ونسبه إلى عروة فقط،=

ص: 250

عَشِيَّةَ لَا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَريبةٌ

فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ

فأنَّثَ "قريبةً"، وذَكَّر "بعيدًا" على ما وَصَفْتُ، ولو كان "القريبُ" مِن القرابةِ في النسبِ، لم يكنْ مع المؤنثِ إلا مؤنثًا، ومع الجمعِ إلا مجموعًا.

وكان بعضُ نحويِّى البصرةِ يقولُ: ذُكِّر {قَرِيبٌ} ، وهو صفةٌ لـ "الرحمةِ"، وذلك كقولِ العربِ: ريحٌ خَرِيقٌ

(1)

، ومِلْحَفَةٌ جَديدٌ، وشاةٌ سَديسٌ

(2)

. قال: وإن شئتَ قلتَ: تفسيرُ الرحمةِ ههنا المطرُ ونحوُه، فلذلك ذُكِّرَ، كما قال:{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا} [الأعراف: 87]. فذَكَّر؛ لأنه أرادَ الناسَ. وإن شئتَ جعلتَه كبعضِ ما يُذَكِّرون مِن المؤنثِ، كقولِ الشاعرِ

(3)

:

* وَلَا أَرضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا *

وقد أنكَر ذلك

(4)

بعضُ أهلِ العربيةِ، ورأى أنه يَلْزَمُه إِن جازَ أَن يُذَكِّرَ "قريبًا" تَوْجيهًا منه لـ "الرحمة" إلى معنى المطرِ، أن يقولَ: هندٌ قامَ. توجيهًا منه لـ "هند" وهى امرأةٌ، إلى معنى "إنسانٍ"، ورأى أن ما شبَّه به قولَه:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . بقوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا} . غيرُ مُشْتَبِهَيْن

(5)

. وذلك أن "الطائفةَ" فيما زعَم مصدرٌ بمعنى "الطَّيفِ"، كما الصيحةُ والصياحُ بمعنًى، ولذلك قيل:{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67].

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا

(6)

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}.

= ونسب إلى عروة بن حزام في الأغانى 24/ 155، وخزانة الأدب 3/ 215 والبيت فيهما برواية أخرى.

(1)

ريح خريق: شديدة، وقيل: لينة سهلة. فهو ضد. اللسان (خ ر ق).

(2)

شاة سَديس: أي أتت عليها السنة السادسة. اللسان (س د س).

(3)

هو عامر بن جوين الطائى. وهذا شطر بيت تقدم تخريجه في 1/ 459.

(4)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"من قيله".

(5)

في م: "مشبهه".

(6)

في النسخ: "نشرا" وأثبتناها في تصحيفنا، وسيأتي كلام المصنف في القراءات في الآية.

ص: 251

يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّكم اللهُ الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمرِه، وهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بِينَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.

و"النَّشْرُ"، بفتحِ النونِ وسكونِ الشينِ في كلامِ العربِ، مِن الرياحِ، الطيِّبةِ اللينةِ الهُبوبِ، التي تُنْشِئُ السحابَ، وكذلك كلُّ ريحٍ طيِّبةٍ عندَهم فهو

(1)

نَشْرٌ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ

(2)

:

كأَنَّ المُدَامَ

(3)

وَصَوْبَ الغَمَامِ

وَرِيحَ الخُزَامَى

(4)

ونَشْرَ القُطُرْ

(5)

وبهذه القراءةِ قرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ الكوفيِّين

(6)

، خلا عاصمِ بن أبي النَّجودِ، فإنه كان يقرؤُه:{بُشْرًا} على اختلافٍ عنه فيه، فرَوَى ذلك بعضُهم عنه:{بُشْرًا} بالباءِ وضَمِّها وسكون الشينِ

(7)

، وبعضُهم بالباءِ وضَمِّها وضمِّ الشينِ معها

(8)

. وكان يتأوَّلُ في قراءتِه ذلك كذلك قولَه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46]. [وأنه جَمْعُ بشيرٍ، تُبَشِّرُ بالمطرِ جُمِع بُشُرًا]

(9)

، كما يُجْمَعُ النذيرُ نُذُرًا.

وأما قرَأَةُ المدينةِ وعامةُ قرأةِ المكيِّين والبصريِّين، فإنهم قَرَءوا ذلك: (وَهُوَ الَّذى

(1)

في م: "فهى".

(2)

ديوانه ص 157.

(3)

المُدَام، والمُدامة: الخمر، لسان العرب (د و م).

(4)

الخزامى: نبت طيب الريح. لسان العرب (خ ز م).

(5)

القطر: رائحة العود. لسان العرب (ق ط ر).

(6)

وهي قراءة حمزة والكسائى وخلف، وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين. النشر 2/ 202.

(7)

وهى رواية حفص وأبى بكر. ينظر المصدر السابق.

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، وهذه القراءة ذكرها عنه في المحتسب 1/ 255، والبحر المحيط 4/ 316، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة.

(9)

في م: "تبشر بالمطر وأنه جمع بشير بشرا".

ص: 252

يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشُرًا) بضَمِّ النونِ والشينِ

(1)

، بمعنى جمعِ نَشورٍ جُمع نُشُرًا، كما يُجْمَعُ الصَّبورُ صُبُرًا، والشَّكُورُ شُكُرًا.

وكان بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ

(2)

يقولُ: معناها إذا قُرِئت كذلك أنها الريحُ التي تَهُبُّ مِن كلِّ ناحية، وتجيءُ مِن كلِّ وجه.

وكان بعضُهم يقولُ: إذا قُرِئت بضَمِّ النونِ، فينبغي أن تُسَكَّنَ شِينُها؛ لأن ذلك لغةٌ بمعنى "النَّشْرِ" بالفتحِ، وقال: العربُ تَضُمُّ النونَ مِن "النُّشْرِ" أحيانًا، وتفتحُ أحيانًا بمعنًى واحدٍ. وقال: فاختلافُ القرَأةِ في ذلك على قَدْرِ اختلافِها في لُغتها فيه. وكان يقولُ: هو نظيرُ "الخَسْفِ" و "الخُسْفِ"، بفتحِ الخَاءِ وضمِّها.

والصوابُ مِن القولِ

(3)

في ذلك أن يقالَ: إن قراءةَ مَن قرَأ ذلك: (نَشْرًا) و (نُشُرًا)، بفتح النونِ وسكونِ الشينِ، وبضمِّ النونِ والشين، قراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصار [متقاربتا المعنى، فبأيِّهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. وأما قراءةُ ذلك بالباءِ، فقراءةٌ قليلٌ مَن يقرأُ بها مِن قرأَةِ الأمصارِ]

(4)

، فلا أُحبُّ القراءةَ بها، وإن كان لها معنًى صحيحٌ، ووجهٌ مفهومٌ في المعنى والإعرابِ؛ لِما ذَكَرناه مِن العلةِ

(5)

.

وأما قولُه: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} . فإنه يقولُ: قُدَّامَ رحمتِه وأمامَها.

والعربُ تقولُ كذلك لكلِّ شيءٍ يحْدُثُ قُدَّامَ شيءٍ وأَمامَه: جاء بينَ يَدَيْه؛

(1)

وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، وأبي جعفر ويعقوب. النشر 2/ 203.

(2)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 217.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"القراءة".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

القراءة بالباء وسكون الشين متواترة.

ص: 253

لأن ذلك مِن كلامِهم جرَى في أخبارِهم عن بنى آدمَ، وكَثُر به استعمالُه

(1)

فيهم، حتى قالوا ذلك في غيرِ بنى

(2)

آدمَ وما لا يَدَ له.

و "الرحمةُ" التي ذَكَرها جلَّ ثناؤُه في هذا الموضعِ، المطرُ.

فمعنى الكلامِ إذن: واللهُ الذي يرسلُ الرياحَ لَيِّنًا هُبوبها، طيِّبًا نَسِيمُها، أمامَ غَيْثِه الذي يسوقُه بها إلى خلقِه، فيُنْشِئُ بها سحابًا ثقالًا، حتى إذا أقَلَّتها - والإقلالُ بها حَمْلُها، كما يقالُ: اسْتقلَّ البعيرُ بحِمْلِه وأقلَّه. إذا حَمَله فقامَ به - ساقَهُ اللَّهُ لإحياءِ بلدٍ مَيِّتٍ قد تَعَفَّت مزارعُه، ودَرَسَت مشاربُه، وأَجْدَبَ أهلُه، فأنزَل به المطرَ، وأَخْرَجَ به مِن كلِّ الثمراتِ.

وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بينَ يَدَى رَحْمَتِهِ) إلى قولِه:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قال: إن الله يُرسلُ الريحَ، فتأتى بالسحابِ مِن بين الخافقَين، طرفِ السماءِ والأرضِ مِن

(3)

حيثُ يَلْتَقيان، فيُخْرِجُه مِن ثَمَّ، ثم يَنشُرُه فَيَبْسُطه في السماءِ كيف يشاءُ، ثم يَفتحُ أبوابَ السماءِ، فيَسِيلُ الماءُ على السحابِ، ثم يمطِرُ السحابُ بعدَ ذلك، وأما:{رَحْمَتِهِ} : فهو المطرُ

(4)

.

(1)

في الأصل، ص، ت 1، س، ف:"استعمالهم".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ابن".

(3)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1501، 1502 (1605، 8609) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى أبى الشيخ.

ص: 254

وأما قولُه: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . فإنه يقولُ تعالى ذكرُه: كما نُحْيِي هذا البلدَ الميتَ بما نُنَزِّلُ به مِن الماءِ الذي نُنَزِّلُه مِن السحابِ، فنُخرِجُ به مِن الثمراتِ بعدَ موتِه وجُدُوبتِه وقُحُوطِ أهلِه، كذلك نُخرِجُ الموتَى مِن قبورِهم أحياءً بعد فنائِهم، ودُرُوسِ آثارِهم، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه للمشركين به مِن عبدةِ الأصنامِ، المُكذِّبين بالبعثِ بعدَ المَماتِ، المُنْكِرين الثوابَ والعقابَ: ضَرَبْتُ لكم أيُّها القومُ هذا المثلَ الذي ذَكَرتُ لكم، مِن إحياءِ البلدِ الميتِ بقَطْرِ المطرِ، الذي يَأْتى به السحابُ، الذي تَنْشُرُه الرياحُ التي وَصَفْتُ صفتَها؛ لتَعْتَبروا، فتَذْكُروا وتَعْلَموا أن مَن كان فِعلُ

(1)

ذلك مِن قُدرتِه، فيسيرٌ في قدرتِه

(2)

إحياءُ الموتى بعدَ فنائِها، وإعادتُها خلقًا سَوِيًّا بعدَ دُرُوسِها.

وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : وكذلك تُخْرَجون، وكذلك النشورُ، كما يُخْرِجُ

(3)

الزرع

(4)

بالماءِ

(5)

.

وقال أبو هريرةَ: إن الناسَ إذا ماتوا في النفخةِ الأولى، أُمْطِرَ عليهم من ماءٍ تحتَ العرشِ يُدْعَى ماءُ الحيوانِ أربعين سنةً، فيَنْبتُون كما يَنْبُتُ الزرعُ مِن الماءِ، حتى إذا اسْتُكْمِلت أجسادُهم، نُفِخَ فيهم الروحُ، ثم تُلْقَى عليهم نَوْمةٌ، فَيَنامون في

(1)

ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

سقط من: م، وفي ص:"مقدرته".

(3)

في م: "نخرج".

(4)

في الأصل: "الزروع".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1503 (8614) من طريق أحمد بن المفضل به.

ص: 255

قُبُورِهم، فإذا نُفِخَ في الصورِ الثانيةَ، عاشوا

(1)

، وهم يَجِدون طعمَ النومِ في رءوسِهم وأعينِهم، كما يجدُ النائمُ حينَ يستيقظُ مِن نومِه، فعندَ ذلك يقولون:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . فَناداهم المنادِى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}

(2)

[يس: 52].

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} . قال: تُمطِرُ السماءُ حتى تَنْشَقَّ عنهم الأرضُ.

[حدَّثني المُثنى، قال: حدثني أبو حذيفةَ، قال: حدثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى}. قال: إذا أراد اللهُ أن يُخرجَ الموتى، أمطَر السماءَ حتى تَنْشَقَّ عنهم الأرضُ]

(3)

، ثم يرسلَ الأرواحَ، فتعودُ

(4)

كلُّ رُوحٍ إلى جسدِها، فكذلك يُحْيِي اللهُ الموتَى بالمطرِ كإحيائِه الأرضَ

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: والبلدُ الطيبةُ تربتُه، العذبةُ مشاربُه، يخرجُ نباتُه إذا أَنزَل اللهُ به الغيثَ، وأرسَل عليه الحيا بإذنِه، طيبًا ثمرُه في حينِه ووقتِه، والذي خَبُث فَردُؤَت تربتُه، ومَلُحَت مشاربُه، لا يَخْرُجُ نباته

(6)

{إِلَّا نَكِدًا} . يقولُ: إلا

(1)

في الأصل: "عاشوها".

(2)

أصله في مسلم (2955/ 141) عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في ص، والدر المنثور:"فتهوى".

(5)

تفسير مجاهد ص 338، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1503 (8613) مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(6)

ليس في: الأصل.

ص: 256

عَسِرًا في شدَّةٍ، كما قال الشاعرُ

(1)

:

لا تُنْجِزُ الوعدَ إِنْ وَعَدْتَ وإِن

أعْطَيتْ أَعْطَيتَ تَافِهًا نَكِدَا

يعني بـ "التَّافِه" القليلَ، وبـ "النَّكِدِ" العَسِرَ. يقالُ منه: نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَدًا ونَكْدًا، فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ، والنُّكْدُ المصدرُ. ومن أمثالِهم: نَكْدًا وجَحْدًا. و: نُكْدًا وجُحْدًا، والجُحْدُ الشدَّةُ والضيقُ. ويقالُ:[قد نُكِد]

(2)

. إذا شُفِه

(3)

وسُئِل. وقد نَكَدُوه، يَنْكُدُونه نَكْدًا. كما قال الشاعرُ

(4)

:

وأَعْطِ ما أَعْطَيْتَه طَيِّبًا

لا خيرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ

واخْتَلَفت القرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأه بعضُ أهلِ المدينةِ: (إِلَّا نَكَدًا) بفتحِ الكافِ

(5)

.

وقرَأه بعضُ الكوفيِّين بسكونِ الكافِ: (نَكْدًا)

(6)

.

وخالَفَهما بعدُ سائرُ القرَأةِ في الأمصارِ، فَقَرَءوه:{إِلَّا نَكِدًا} بكسر الكافِ

(7)

.

وكأن مَن قرَأه: (نَكَدًا) بنصبِ الكافِ أرادَ المصدرَ، وكأن مَن قرَأه بسكونِ الكافِ أرادَ كسرَها، فسَكَّنَها على لغةِ مَن قال: هذه فِخْذُ وكِبْدٌ. وكان الذي يجبُ عليه إذا أرادَ ذلك أن يكسِرَ النونَ من "نِكْدٍ" حتى يكونَ قد أصابَ القياسَ.

والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا قراءةُ مَن قرَأه {نَكِدًا} بفتحِ النونِ

(1)

البيت في مجاز القرآن 1/ 217، ولسان العرب (ت ف هـ)، وهو غير منسوب فيهما.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

المَشفُوه: إذا كثر سؤال الناس إياه حتى نفد ما عنده. لسان العرب ش ف هـ.

(4)

البيت في اللسان (ن ك د) غير منسوب.

(5)

وهى قراءة أبي جعفر المدنى، من العشرة. النشر 2/ 203.

(6)

وهى قراءة ابن محيص، وهى شاذة. إتحاف فضلاء البشر ص 136.

(7)

وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف. ينظر المصدران السابقان.

ص: 257

وكسرِ الكافِ؛ لإجماعِ الحجةِ مِن قَرَأَةِ الأمصارِ عليه.

وقولُه: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} . يقولُ: كذلك نبيِّنُ لهم

(1)

آيةً بعدَ آيةٍ، ونُدْلِى

(2)

بحجةٍ بعدَ حجةٍ، ونضرِبُ مثلًا بعدَ مثلٍ، لقومٍ يَشْكُرون الله على إنعامِه عليهم بالهدايةِ، وتَبصيرِه إياهم سبيلَ أهلِ الضلالةِ، باتِّباعهم ما أمَرَهم باتباعِه، وتَجَنُّبِهم ما أمَرهم بتجنُّبِه مِن سُبُلِ الضلالةِ. وهذا مَثَلٌ ضَرَبَه اللهُ للمؤمنِ والكافرِ، فالبلدُ الطيبُ الذي يخرجُ نباتُه بإذنِ رَبِّهِ، مَثَلٌ للمؤمنِ، والذي خَبُثَ فلا يخرُجُ نباتُه إِلا نَكِدًا، مَثَلٌ للكافرِ.

وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} : فهذا مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ للمؤمنِ، يقولُ: هو طيبٌ، وعملُه طيبٌ، كما البلدُ الطيبُ ثمرُه طيبٌ، ثم ضرَب مَثَلَ الكافرِ، كالبلدةِ السَّبِخةِ المالحةِ التي لا

(3)

تخرُجُ منها البَرَكَةُ، فالكافرُ هو الخبيثُ، وعملُه خبيثٌ

(4)

.

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} ، {وَالَّذِي خَبُثَ}: كلُّ ذلك مِن الأرضِ

(1)

سقط من: م.

(2)

في الأصل، ص، س:"ندل"، وفى ف:"يدل".

(3)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. وينظر التبيان 4/ 433.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1503، 1504 (8615، 8619) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى ابن المنذر.

ص: 258

السِّباخِ وغيرِها، مثلُ آدمَ وَذُرِّيته [كلِّهم، منه

(1)

خبيثٌ وطَيِّبٌ]

(2)

(3)

.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعْلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن قتادةَ:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} . قال: هذا مثلٌ ضَرَبَه اللهُ في الكافرِ والمؤمنِ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} : مثلٌ ضرَبه اللهُ للقلوبِ، يقولُ جلَّ ثناؤُه: ينزلُ الماءُ فيُخرجُ البلدُ الطيِّبُ نباتَه بإذنِ ربِّه - {وَالَّذِي خَبُثَ}

(5)

: هي السَّبِخَةُ لا تُخْرِجُ نباتَها إلَّا نَكِدًا، والنَّكِدُ الشيءُ القليلُ الذي لا ينفَعُ - فكذلك القلوبُ لما نزَل القرآنُ، فالقلبُ المؤمنُ لا دخَله القرآنُ آمَن به، وثَبَتَ الإيمانُ [في قلبِه]

(6)

، والقلبُ الكافرُ لما دَخَله القرآنُ لم يَتَعلَّقْ منه شيءٌ ينفعُه، ولم يَثْبُتْ فيه مِن الإيمانِ شيءٌ إلا ما لا ينفَعُ، كما لم يُخْرِجْ هذا البلدُ إلا ما لا ينفعُ من النباتِ

(7)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. وفي تفسير مجاهد وابن أبي حاتم:"منهم".

(2)

في م، والدر المنثور:"فيهم طيب وخبيث".

(3)

تفسير مجاهد ص 338، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1503 (8616)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 228 عن معمر به.

(5)

سقط من: ص، م، ف.

(6)

في م: "فيه".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1503 (8617) من طريق أحمد بن مفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى أبى الشيخ.

ص: 259

نَكِدًا}. قال: الطيبُ ينفعُه المطرُ فيَنْبُتُ، {وَالَّذِي خَبُثَ}: السِّباخُ لا ينفعُه المطرُ، لا يخرُج نباتُه إلا نَكِدًا. قال: هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لآدمَ وذرِّيته كلِّهم، إنما خُلِقوا مِن نفسٍ واحدةٍ، فمنهم مَن آمَن باللهِ وكتابِه، فطابَ، ومنهم مَن كفَر باللَّهِ وكتابِه، فخَبُث

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} .

أقسَمَ ربُّنا جلَّ ثناؤُه للمُخاطَبِين بهذه الآيةِ، أنه أرسَل نوحًا إلى قومِه، مُنْذرَهم بأسَه، ومَخوِّفَهم سَخَطَه، على عبادتِهم غيرَه، فقال لمَن كفَر منهم: يا قومِ اعبُدوا الله الذي له العبادةُ، وذِلُّوا له بالطاعةِ، واخْضَعوا له بالأستكانةِ، ودَعُوا عبادةَ ما سِواه مِن الأنْدادِ والآلهةِ، فإنه ليس لكم [إلهٌ - يعنى معبودًا -]

(2)

يَسْتَوجبُ عليكم العبادةَ غيرُه، فإنى أخافُ عليكم إن لم تَفْعَلوا ذلك {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. يعنى: عذابَ يومٍ يَعْظُمُ فيه بلاؤُكم، بمَجيئِه إياكم بسَخَطِ رَبِّكم.

واختلفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {غَيْرُهُ} ؛ فقرَأ ذلك بعضُ أهلِ المدينةِ والكوفةِ: (ما لكم من إلهٍ غيرِه) بخفضِ "غير" على النعتِ لـ "الإلهِ"

(3)

.

وقرأَه جماعةٌ من أهلِ المدينةِ والكوفةِ والبصرةِ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} برفعِ "غير"

(4)

، ردًّا لها على موضعِ {مِنْ} ؛ لأن موضعَها رفعٌ، لو نُزِعَت مِن الكلامِ لكان الكلامُ رفعًا. وقيل: ما لكم إلهٌ غيرُ اللَّهِ. فالعربُ - لِمَا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 93 إلى المصنف.

(2)

سقط من: م، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يعني معبود".

(3)

وهي قراءة أبي جعفر والكسائي. النشر 2/ 203.

(4)

وبها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب وخلف. المصدر السابق.

ص: 260

وصَفْتُ مِن أن المَفهومَ

(1)

بالكلامِ، أُدْخِلَت {مِنْ} فيه أو أخْرِجَت، وأنها تُدْخِلُها أحيانًا في مثلِ هذا مِن الكلامِ، وتُخْرِجُها منه أحيانًا - تردُّ ما نعَتت به الاسمَ الذي عمِلت فيه على لفظِه [أحيانًا، وعلى معناه أحيانا؛ لما وصفتُ.

وقد زعَم بعضُهم أن "غيرَ"]

(2)

إذا

(3)

خُفِضت، فعلى كلامٍ واحدٍ؛ لأنها نعتٌ لـ "الإلهِ"، وأنها

(4)

إذا رُفِعَتْ، فعلى كلامَين: ما لكم غيرُه مِن إلهٍ. وهذا قولٌ يَسْتَضْعِفُه أهلُ العربيةِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} .

وهذا خبرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه عن جوابِ

(5)

مُشْركي قومِ نوحٍ لنوحٍ، وهم الملأُ - والملأُ: الجماعةُ مِن الرجالِ لا امرأةَ فيهم - أنهم قالوا له حينَ دَعاهم إلى عبادةِ اللَّهِ وحدَه لا شريكَ له: {إِنَّا لَنَرَاكَ} يا نوحُ {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يَعْنون: في أمرٍ زائلٍ عن الحقِّ، مبينٍ زوالُه عن قَصْدِ الحَقِّ

(6)

لَمَن تأمَّلَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: قال نوحٌ لقومِه مُجِيبًا لهم: يا قومِ لم آمُرْكم بما أمرتُكم به مِن إخلاصِ التوحيدِ للَّهِ، وإفرادِه بالطاعةِ، دونَ الأنْدادِ والآلهةِ، زوالًا مِنِّي عن مَحَجَّةِ الحقِّ، وضلالًا لسبيلِ الصوابِ، وما بي ما تَظُنُّون مِن

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"المعلوم".

(2)

سقط من: ص، م، ف.

(3)

في م: "فإذا".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"إنما"، وفى م:"أما".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"جراءة".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الحد".

ص: 261

الضلالِ، ولكنِّى رسولٌ إليكم مِن ربِّ العالمين بما أمرتُكم به؛ مِن إفرادِه بالطاعةِ، والإقرارِ له بالوحدانيةِ، والبراءةِ مِن الأنْدادِ والآلهةِ.

‌القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} .

وهذا خبرٌ مِن اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه عن نبيِّه نوحٍ أنه قال لقومهِ الذين كَفروا باللهِ وكذَّبوه: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . أرسَلني إليكم، فأنا أبلِّغُكم رسالات ربِّى، وأنصحُ لكم في تَحْذيرى إياكم عقابَ الله، على كفرِكم به، وتَكْذِيبِكم إيايَ، ورَدِّكم نَصيحَتي، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مِن أن عقابَه لا يُرَدُّ عن القومِ المجرمين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)} .

وهذا خبرٌ مِن اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه أيضًا عن قيلِ نوحٍ لقومِه أنه قال لهم، إذ رَدُّوا عليه نَصيحتَه في اللهِ، وأنكَروا أن يكونَ اللهُ بَعَثَه نبيًّا، وقالوا له:{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا * وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} [هود: 27]: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ: أَوَ عَجِبْتُم أن جاءكم تذكيرٌ مِن اللهِ وعِظَةٌ، يُذَكِّرُكم بما أنزَل ربُّكم على رجلٍ منكم. قيل: معنى قولِه: {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} : مع رجلٍ منكم. {لِيُنْذِرَكُمْ} . يقولُ: ليُنْذِرَكم

(1)

بأسَ اللَّهِ، ويخوِّفَكم عقابَه على كفرِكم به،

* هنا نهاية الموجود من الجزء التاسع عشر من نسخة جامعة القرويين، والمشار إليه بالأصل، وسيجد القارئ بعد ذلك أرقام النسخة "ت 1" بين معكوفين.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كما ينذركم".

ص: 262

{وَلِتَتَّقُوا} . يقولُ: وكى تتَّقوا عقابَ اللهِ وبأسَه، بتوحيدِه وإخلاصِ الإيمانِ به، والعمل بطاعتِه، {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. يقولُ: وليرحَمَكم ربُّكم إن اتَّقَيتُم الله وخِفْتُموه وحَذِرتُم بأسَه.

وفُتِحَت (الواو) مِن قولِه: {أَوَعَجِبْتُمْ} ؛ لأنها واو عطفٍ، دَخَلَت عليها ألفُ استفهامٍ.

‌القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فكَذَّب نوحًا قومُه، إذ أخبرَهم أنه للهِ رسولٌ إليهم، يأْمُرُهم بخَلْعِ الأنْدادِ، والإقرارِ بوحدانيةِ اللهِ، والعملِ بطاعتِه، وخالَفوا أمرَ ربِّهم، ولَجُّوا في طُغيانِهم يَعْمَهُون، فأنْجاه اللهُ في الفلكِ والذين معه مِن المؤمنينَ به، وكانوا بنوحٍ عليه السلام أنفُسًا

(1)

عشرةً، فيما حدَّثني به ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلمةُ، عن ابن إسحاقَ: نوحٌ وبنوه الثلاثةُ؛ سامٌ وحامٌ ويافتُ، وأزواجُهم، وستةُ أناسيَّ ممن كان آمَن به

(2)

.

وكان حَمَلَ معه في الفُلكِ مِن كلِّ زوجين اثنين، كما قال تبارك وتعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. والفُلك هو السفينة.

{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} . يقولُ: وأغرقَ اللَّهُ الذين كَذَّبوا بحُجَجِه، ولم يَتَّبعوا رسولَه

(3)

، ولم يَقْبَلوا نصيحتَه إياهم في اللَّهِ بالطوفانِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}. يقولُ: عَمِينَ عن الحقِّ.

(1)

في م: "ثلاث". والمثبت موافق لما ترجمه المصنف في 12/ 411، وفى تاريخه من أنهم كانوا عشرة سوى نسائهم.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 189.

(3)

في م: "رسله".

ص: 263

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{عَمِينَ} قال: عن الحقِّ

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قَوْمًا عَمِينَ} . قال: العَمَى، العامِي عن الحقِّ.

‌القولُ في تأويلِ قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد أرسَلنا إلى عادٍ أخاهم هودًا. ولذلك نَصَبَ {هُودًا} ؛ لأنه معطوفٌ به على نوحٍ، عليهما السلام. قال هودٌ: يا قومِ، اعبُدُوا الله فأفْرِدُوا له العبادةَ، ولا تَجْعَلوا معه إلهًا غيرَه؛ فإنه ليس لكم إلهٌ غيرُه، أَفَلَا تَتَّقُونَ ربَّكم فتَحْذَرُونه، وتَخافون عقابَه بعبادتِكم غيرَه، وهو خالقُكم ورازقُكم دونَ كلِّ ما سِواه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)} .

يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عما أجابَ هودًا به قومُه الذين كَفَروا باللَّهِ: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . يعني: الذين جَحَدوا توحيدَ اللهِ، وأنكَروا رسالةَ [اللهِ هودًا]

(2)

إليهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ} يا هودُ {فِي سَفَاهَةٍ} ، يَعْنون: في ضلالةٍ عن الحقِّ والصوابِ بتَرْكِك دينَنا وعبادةَ آلهتِنا، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ فِي قِيلِك: إني

(1)

تفسير مجاهد ص 338، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1508 (8641).

(2)

في م: "هود".

ص: 264

رسولٌ مِن ربِّ العالمين.

{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} . يقولُ: أي: ضلالةٌ عن الحقِّ والصوابِ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العَالَمينَ أرسَلَنى، فأنا أُبَلِّغُكم رسالاتِ ربي، وأُؤدِّيها إليكم كما أمَرَنى أن أُؤدِّيَها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} .

يعنى بقوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} : أؤدِّى ذلك إليكم أيُّها القومُ، {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ}. يقولُ: وأنا لكم في أمرى [ناصحٌ، في أمرى]

(1)

إياكم بعبادةِ اللهِ دونَ ما سِواه من الأنْدادِ والآلهةِ، ودُعائِكم إلى تَصْديقى فيما جئتُكم به من عندِ اللهِ، ناصِحٌ فاقْبَلُوا نَصِيحتي

(2)

، أمينٌ على وَحْيِ اللهِ، وعلى ما ائْتَمَننى اللهُ عليه مِن الرسالةِ، لا أكذبُ فيه ولا أزيدُ ولا أبدِّلُ، بل أبلِّغُ ما أُمِرْتُ به كما أُمرت.

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} . يقولُ: أَوَعَجِبتم أن أنزلَ اللهُ وَحْيَه بتَذْكيرِكم وعِظَتِكم على ما أنتم عليه مُقِيمون من الضلالةِ، {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} بِأسَ اللَّهِ، ويُخَوِّفَكم عقابَه. {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}. يقولُ: فاتَّقُوا اللَّهَ في أنفسِكم، واذْكُروا ما أحلَّ بقومٍ نوح مِن العذابِ إذ عَصَوْا رسولَهم، وكَفَروا بربِّهم، فإنكم إنما جَعَلكم ربُّكم خلفاءَ في الأرضِ منهم، لمَّا أهْلَكَهم أبْدَلكم منهم فيها، فاتَّقُوا اللَّهَ أَن يَحِلَّ بكم نظيرُ ما حَلَّ بهم مِن العقوبة فيُهْلِكَكم، ويُبدِلَ منكم غيرَكم، سنَّتَه في قومِ نوحٍ قبلَكم على

(1)

سقط من: م.

(2)

بعده في م: "فإني".

ص: 265

معصيتِكم إياه، وكفرِكم به، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}: زادَكم

(1)

في أجسامِكم طولًا وعِظَمًا على أجسامِ قومِ نوحٍ، وفي [قُواكم على قُواهم]

(2)

؛ نعمةً منه بذلك عليكم، [فاذْكُرُوا نِعَمَه]

(3)

وفضلَه الذي فَضَّلَكم به عليهم في أجسامِكم وقُواكم

(4)

، واشكُروا الله على ذلك بإخلاصِ العبادةِ له، وتركِ الإشراكِ به، وهَجْرِ الأوثانِ والأنْدادِ، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. يقولُ: كي تُفْلِحوا فتُدْرِكوا الخلودَ والبقاءَ في النعيمِ في الآخرةِ، وتُنْجِحُوا في طَلِباتِكم عندَه.

وبنحوِ الذي قُلنا في تأويلِ قولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} . قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} . يقولُ: ذَهَبَ بقومِ نوحٍ، واسْتَخْلَفَكم مِن بعدِهم

(5)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} . أي: ساكنى الأرضِ بعد قومِ نوحٍ

(6)

.

وبنحوِ الذي قُلنا أيضًا قالوا في تأويلِ قولِه: {بَسْطَةً} .

(1)

في م، ت 1، س، ف:"زاد".

(2)

في م: "قوامكم على قوامهم".

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف

(4)

في م: ت 1، ت 2، س ف:"قوامكم".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1509 (8651) من طريق أحمد بن مفضل به.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1510 (8652) من طريق سلمة به.

ص: 266

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} . قال: ما لقُوَّةِ

(1)

قومِ عادٍ

(2)

.

وأما "الآلاءُ" فإنها جمعٌ، واحدُها: إلى، بكسرِ الألفِ، في تقديرِ "مِعًى"، ويقالُ:"أَلًى". في تقديرِ "قَفًا" بفتحِ الألفِ، وقد حُكِي سماعًا مِن العربِ" "إلْىٌ" مثلَ "حِسْى". والآلاءُ النعمُ. وكذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} . أي: نِعَمَ اللهِ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أما {آلَاءَ اللَّهِ} فنعمُ اللهِ

(4)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه:

(1)

في م: "لقوام".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1510 (8655) من طريق أحمد بن المفضل به ولفظه: في الطول، وأخرج قبله (8654) من طريق أصبغ، عن ابن زيد ولفظه: في القوة قوة عاد. وهو انتقال نظر من الناسخ، فإن الآية في الأثرين واحدة، وتقدم أن المصنف فسر البسطة بالزيادة في الطول والزيادة في القوة، ينظر ص 226.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1510 عقب الأثر (8656) معلقا.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1510 عقب الأثر (8656) من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط به.

ص: 267

{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} . قال: آلاؤُه نِعَمُه

(1)

.

قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وعادٌ، هؤلاء القومُ الذين وصَف اللهُ صفتَهم، وبعَث إليهم هودًا يَدْعُوهم إلى توحيدِ اللهِ، واتباعِ ما أتاهم به مِن عنده

(2)

- هم فيما حدَّثنا به ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، ولدُ عادِ بن [عَوْصِ بن إرمَ]

(3)

بن سامِ بن نوحٍ

(4)

.

وكانت مساكنُهم الشِّحْرَ

(5)

من أرضِ اليمنِ، وما وَالى بلادَ حضرَموتَ إلى عُمان.

كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، أن عادًا قومٌ كانوا باليمنِ، بالأحقافِ

(6)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا ابن إسحاقَ، عن محمدِ بن عبدِ اللهِ بن أبي سعيدٍ الخزاعيِّ، عن أبي الطُّفيلِ عامِر بن واثِلةَ، قال: سمعتُ عليَّ بنَ أبى طالبٍ رضي الله عنه يقولُ لرجلٍ مِن حضرَموت: هل رأيتَ كثيبًا أحمرَ تُخالِطُه مَدَرَةٌ حمراءُ، ذا أرَاكٍ وسِدْرٍ كثيرٍ بناحيةِ كذا وكذا مِن أرضِ حضرَموتَ

(7)

، هل رأيتَه؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، واللهِ إنك لتَنْعَتُه نعتَ رجلٍ قد رآه. قال: لا، ولكنى

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1510 عقب الأثر (8656) معلقا.

(2)

في ف: "عند ربهم".

(3)

في النسخ: "إرم بن عوص". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر جمهرة أنساب العرب ص 462.

(4)

ذكره المصنف في تاريخه 1/ 216، وابن كثير في البداية والنهاية 1/ 82، والثعالبي في عرائس المجالس ص 53.

(5)

الشِّحر: الساحل. تاج العروس (ش ح ر).

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1508 (8644) من طريق أحمد بن مفضل به.

(7)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3 س، ف:"فقال".

ص: 268

قد حُدِّثتُ عنه. فقال الحضرميُّ: وما شأنُه يا أميرَ المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هودٍ صلواتُ اللهِ عليه

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: كانت منازلُ عادٍ وجماعتِهم

(2)

حينَ بعَث اللهُ فيهم هودًا، الأحقافَ. قال: والأحقافُ الرملُ فيما بينَ عُمانَ إلى حَضرَمَوتَ [فاليمنِ كلِّه]

(3)

، وكانوا مع ذلك قد فَشَوا في الأرضِ كلِّها وقهَروا أهلَها بفضلِ قوَّتِهم التي آتاهم اللهُ، وكانوا أصحابَ أوثانٍ يعبُدونها من دونِ الله؛ صنمٌ يقال له: صداءُ. وصنمٌ يقالُ له: صَمُودُ. وصنمٌ يقالُ له: الهَبَاءُ

(4)

. فَبَعَثَ اللهُ إليهم هودًا، وهو مِن أوْسَطِهم نسبًا وأفضلهم موضعًا، فأمَرهم أن يُوحِّدوا الله، ولا يجعَلوا معه إلهًا غيرَه، وأن يَكُفُّوا عن ظلم الناس - لم يأمُرْهم فيما يُذْكَرُ، واللهُ أعلمُ، بغيرِ ذلك - فأبَوا عليه وكذَّبوه، وقالوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، واتَّبَعَه منهم ناسٌ وهم يسيرٌ، [مُكتَتِمون بإيمانِهم]

(5)

، وكان ممن آمَن به وصَدَّقه رجلٌ مِن عادٍ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ سعدِ بن عُفَيرٍ

(6)

. وكان يكتُمُ إيمانَه، فلما عَتَوْا على اللَّهِ وكَذَّبوا نبيَّهم، وأكْثروا في الأرضِ الفسادَ، وتَجَبَّروا، وبَنَوا بكلِّ رِيعٍ آيةً عَبَثًا بغيرِ نفعٍ، كَلَّمهم هودٌ، فقال:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128 - 131]. قالوا: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53]

(1)

أخرجه البخارى في الكبير 1/ 135 من طريق ابن إسحاق به، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 36/ 138، 139 من طريق الأصبغ بن نباتة، عن علي نحوه مطولا.

(2)

في ف: "جماعة".

(3)

في م: "باليمن".

(4)

في ت 1، ص:"الهناء".

(5)

في م: "يكتمون إيمانهم".

(6)

في ف: "عفر".

ص: 269

أي: ما هذا الذي جئتنا به إلَّا جنونٌ أصابَك به بعضُ آلهتِنا هذه التي تعيبُ. قال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} . إلى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 53 - 56]. فلما فَعَلوا ذلك أمسَكَ اللهُ عنهم المطرَ مِن السماءِ ثلاثَ سنينَ - فيما يَزْعُمون - حتى جهدَهم ذلك، وكان الناسُ في [ذلك الزمانِ]

(1)

إذا نَزَلَ بهم بلاءٌ أو جَهْدٌ، فطَلَبوا إلى اللهِ الفرجَ منه، كانت طَلِبَتُهم إلى اللهِ عندَ بيتِه الحرامِ بمكةَ؛ مسلمِهم ومشركِهم، فيجتمعُ بمكةَ ناسٌ كثيرٌ شتَّى، مختلفةٌ أديانُهم، وكلُّهم مُعَظِّمٌ لمكةَ، يَعْرِفُ حُرْمَتها ومكانَها مِن اللهِ.

قال ابن إسحاقَ: وكان البيتُ في ذلك الزمانِ معروفًا مكانُه، والحرمُ قائمٌ فيما يَذْكُرون، وأهلُ مكة يومَئذٍ العماليقُ، وإنما سُمُّوا العماليقَ لأن

(2)

أباهم عِمْلِيقُ بنُ لاوَذَ بن سامِ بن نوحٍ، وكان سيدُ العماليقِ إذ ذاك بمكةَ، فيما يَزْعُمون، رجلًا يقالُ له: معاويةُ بنُ بكرٍ. وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمانِ، ولكنه كان قد كَبِرَ، وكان ابنُه يَرْأَسُ قومَه، وكان السؤدُدُ والشرفُ مِن العماليقِ، فيما يَزْعُمون، في أهلِ ذلك البيتِ، وكانت

(3)

أمُّ معاويةَ بن بكرٍ كَلْهدةَ ابنةَ الخَيْبَرِيِّ؛ رجلٍ مِن عادٍ، فلما قحَط المطرُ عن عادٍ وجُهدوا، قالوا: جَهِّزُوا منكم وفدًا إلى مكةَ، فليَسْتَسْقوا لكم، فإنكم قد هَلَكتُم. فبَعَثُوا قَيْلَ بنَ عنزٍ

(4)

، ولُقَيْمَ بنَ هَزَّالِ بن هزيلٍ، [وعُتَيْلَ بنَ صدِّ]

(5)

بن عادٍ الأكبرِ، ومَرْثَدَ بنَ سعدِ بن غُفَيرٍ، وكان مسلمًا يكتُمُ إسلامَه

(6)

، وجُلْهُمة بنَ الخبيريِّ

(7)

؛

(1)

في ص: ت 1، ت 2، ت 3، س:"زمان".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أن".

(3)

بعده في عن 1، ت 2، ت 3، س:"معه".

(4)

في م: "عير".

(5)

في: م: "وعقيل بن ضد".

(6)

في ف، وتفسير ابن أبي حاتم:"إيمانه".

(7)

في ف: "الحبرى".

ص: 270

خالُ معاويةَ بن بكرٍ؛ أخو أمِّه، ثم بَعَثوا لقمانَ بنَ عادِ بن فلانِ بن فلانِ بن صِدِّ بَنِ عادٍ الأكبر، فانطلقَ كلُّ رجلٍ من هؤلاء القوم معه رَهْطُ مِن قومِه، حتى بلَغ عدةُ وفدِهم سبعينَ رجلًا، فلما قَدِموا مكةَ نَزَلوا على معاويةَ بن بكرٍ، وهو بظاهرِ مكةَ خارجًا مِن الحرمِ، فأنزَلهم وأكْرَمَهم وكانوا أخوالَه وصِهرَه

(1)

، فلما نَزَلَ وفدُ عادٍ على معاويةَ بن بكرٍ، أقاموا عندَه شهرًا يَشْرَبون الخمرَ وتُغَنِّيهم الجرادتان؛ قينتانِ لمعاوية بن بكرٍ، وكان مسيرُهم شهرًا، ومُقامُهم شهرًا، فلما رأى معاوية بنُ بكرٍ طولَ مُقامِهم، وقد بَعَثَهم قومُهم يَتَعَوَّذون

(2)

بهم مِن البلاءِ الذي أصابَهم، شَقَّ ذلك عليه، فقال: هلَك أخْوالى وأصْهارى، وهؤلاء مُقيمون عندى، وهم ضَيْفى نازِلون عليَّ، واللهِ ما أدْرى كيف أصنعُ بهم؟ [إن أمرتُهم]

(3)

بالخروجِ إلى ما بُعِثوا له، فيظنُّوا أنه ضِيقٌ منى بمُقامِهم عندى، وقد هلَك مَن وراءَهم مِن قومِهم جَهْدًا وعَطَشًا - أو أو كما قال - فَشَكا ذلك مِن أمرِهم إلى قَبْنتَيه الجرَادَتَين، فقالتا: قُلْ شعرًا نُغَنِّيهم به، لا يَدْرون مَن قالَه، لعلّ ذلك أن يُحرِّكَهم. فقال معاويةُ بنُ بكرٍ حينَ أشارَنا عليه بذلك:

ألَا يا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ

لعلَّ الله يُصْبِحُنا

(4)

غَمَامَا

فَيَسْقِى أَرضَ عادٍ إِنَّ عَادًا

قَدَ امْسَوا لا يُبِينُون الكلامَا

من العطشِ الشديدِ فليس نَرْجُو

به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما

وقد كانتْ نساؤُهُمُ بخيرٍ

فقد أَمْسَت نِسَاؤُهُمُ عَرَامَى

(5)

(1)

في م: "أصهاره".

(2)

في م: "يتغوثون".

(3)

في التاريخ: "أستحى أن آمرهم".

(4)

في م: "يسقينا".

(5)

في م: "عيامي". وعرم العظم: نزع ما عليه من اللحم. ينظر اللسان (ع ر م).

ص: 271

وإنَّ الوَحْشَ تَأْتِيهم جِهارًا

ولا تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا

وأنتُم هاهنا فيما اشْتَهَيتُم

نهارَكمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَاما

فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِن وَفْدِ قومٍ

ولَا لُقُّوا التَّحِيَّةَ والسَّلامَا

فلما قال معاوية ذلك الشعرَ، غَنَّتْهم به الجرادتان. فلما سمِعَ القومُ ما غَنَّتا به قال بعضُهم لبعضٍ: يا قومُ إنما بعثَكم قومُكم يَتَعَوَّذون

(1)

بكم من هذا البلاءِ الذي نزَل بهم، وقد أبطأتُم عليهم، فادْخُلُوا هذا الحرمَ، واسْتَسْقوا لقومِكم. فقال مَرْثَدُ بنُ سعدِ بن عُفَيرٍ: إنكم واللهِ لا تُسْقَوْن بدُعائِكم، ولكن إن أطعتُم نبيَّكم وأَنَبتُم إليه سُقِيتم. فأظْهَر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُلْهُمَةُ بنُ الخيبريِّ، خالُ معاويةَ بن بكرٍ، حينَ سمِع قولَه، وعرَف أنه قد اتَّبَعَ دينَ هودٍ وآمَن به:

أبَا سعدٍ فإنَّك مِن قَبِيلٍ

ذَوِى كَرَمٍ وأُمُّكَ مِن ثمودِ

فإنَّا لن

(2)

نُطِيعَك ما بَقِينا

ولَسْنَا فَاعِلِينَ لِمَا تُرِيدُ

أَتَأْمُرُنَا لِنَتْرُكَ دِينَ رِفْدٍ

وَزَمْلَ [وَآلَ صُدٍّ والعُبودِ]

(3)

ونَتْرُكَ دينَ آباءٍ كِرامٍ

ذَوِى رأىٍ ونَتَّبَعَ دينَ هُودِ

ثم قالُوا

(4)

لمعاويةَ بن بكرٍ وأبيه بكرٍ: احْبِسَا عَنَّا مَرْثَدَ بنَ سعدٍ، فَلا يَقْدَمَنَّ معنا مكةَ، فإنه قد اتَّبَعَ دينَ هودٍ وتَرَكَ دينَنا. ثم خَرَجوا إلى مكةَ يَسْتَسْقون بها لعادٍ، فلمَّا وَلَّوا إلى

(5)

مكةَ، خرج مَرْثَدُ بنُ سعدٍ مِن منزلِ معاويةَ بن بكرٍ حتى أدْرَكَهم

(1)

في م: "يتغوثون".

(2)

في م: "لا".

(3)

في م: "والصداء مع الصمود".

(4)

في س، والتاريخ:"قال".

(5)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 272

بها، [قبل أن يدعُوا]

(1)

اللَّهَ بشيءٍ مما خَرَجوا له. فلما انتَهى إليهم

(2)

قام يَدْعُو اللَّهَ بمكةَ، وبها وفدُ عادٍ قد اجْتَمَعوا يَدْعون، يقول: اللهمَّ أعْطِنى سُؤْلى وحدى، ولا تُدْخِلْني في شيءٍ مما يَدْعُوك به وفدُ عادٍ. وكان قَيْلُ بنُ عَنْزِ رأسَ وفدِ عادٍ، وقال وفدُ عادٍ: اللهمَّ أَعْطِ قَيْلًا ما سألَكَ، واجعلْ سؤلَنا مع سُؤْلِه. وكان قد تَخَلَّفَ عن وفدِ عادٍ حينَ دَعَا لقمانُ بنُ عادٍ، وكان سيدَ عادٍ، حتى إذا فَرَغوا مِن دعوتِهم، قام فقال: اللهمَّ إنى جئتُك وحدى في حاجتى فأعْطِنى سُؤْلى. وقال قَيْلُ بنُ عنزٍ حينَ دَعا: يا إلَهنا، إن كان هودٌ صادقًا فاسْقِنا فإنا قد هَلَكْنَا. فَأَنْشَأَ اللَّهُ لهم سحائبَ ثلاثًا؛ بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ، ثم نادَاه مُنادٍ من السحابِ: يا قَيْلُ، اخترْ لنفسِك وقومِك مِن هذا السحابِ. فقال: اخترتُ السحابةَ السوداءَ، فإنها أكثرُ السحابِ ماءً. فَناداه مُنادٍ: اخترتَ رمادًا رِمْددًا

(3)

، لا تُبْقِى مِن

(4)

عادٍ أحدًا، لا والدًا تتركُ ولا ولدًا، إلا جَعَلَتْه هَمِدًا، إلا بنى اللُّوذِيَّةِ المُهَدَّى. وبنو اللُّوذِيَّةِ، بنو لُقَيمِ بنِ هزَّالِ

(5)

ابن هزيلةَ بنتِ

(6)

بكرٍ، وكانوا سكانًا بمكةَ مع أخوالِهم لم يكونوا مع عادٍ بأرضِهم، فهم عادٌ الآخِرةُ، ومَن كان مِن نَسْلِهم الذين بَقُوا مِن عادٍ - وساقَ اللهُ السحابةَ السوداءَ - فيما يَذْكُرون - التي اخْتارَها قَيْلُ بنُ عنزٍ بما فيها مِن النِّقْمةِ إلى عادٍ، حتى خرَجت

(7)

عليهم من وادٍ يُقالُ له: المُغِيثُ. فلما رَأَوها اسْتَبْشَروا بها وقالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} . يقولُ اللَّهُ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إن يدعوا"، وفى م:"لا أدعو". والمثبت من التاريخ.

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

الرِّمْدد: المتناهى في الاحتراق والدقة. النهاية 1/ 262.

(4)

بعده في م: "آل".

(5)

بعده في التاريخ: "بن هزيل".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"بن"، والمثبت من التاريخ.

(7)

في ص، س، ف:"تخرج".

ص: 273

عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24، 25]. أي: كلَّ شيءٍ أُمِرَتْ به. وكان أولَ مَن أبصَر ما فيها وعَرَفَ أنها ريحٌ - فيما يَذْكُرون - امرأةٌ مِن عادٍ يقالُ لها: مَهْدُ

(1)

. فلما تَيَقَّنَت ما فيها، صاحَت ثم صَعِقَت، فلما أفاقَتْ قالوا: ماذا رأيتِ يا مَهْدُ

(1)

؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُبِ النارِ، أمامَها رجالٌ يَقودُونها. فسَخَّرَها اللهُ عليهم سبع ليال وثمانية أيامٍ حسومًا، كما قال اللهُ

(2)

. والحُسُومُ الدائمةُ، فلم تَدَعْ مِن عادٍ أحدًا إلا هلَك. فاعْتَزَل هودٌ، فيما ذُكِر لى، ومَن معَه مِن المؤمنين في حظيرةٍ، ما يُصيبُه ومَن معه

(3)

إلا ما تَلِينُ عليه الجلودُ، وتَلْتَذُّ

(4)

الأنفسُ، [وإنها لتَمُرُّ على

(5)

عادٍ بالظَّعن]

(6)

ما

(7)

بينَ السماءِ والأرضِ، وتَدْمَغُهم بالحجارة. وخَرَجَ وفدُ عادٍ مِن مكةَ، حتى مَرُّوا بمعاويةَ بن بكرٍ وأبيه

(8)

. فنَزَلوا عليه، فبينما هم عندَه، إذ أقبَل رجلٌ على ناقةٍ له، في ليلةٍ مُقْمرةٍ مُسْىَ

(9)

ثالثةٍ مِن مُصابٍ

(10)

عادٍ، فأخبرَهم الخبرَ، فقالوا له: فأين فارَقْتَ هودًا وأصحابَه؟ قال: فارَقْتُهم بساحلِ البحرِ. فكأنهم شَكُّوا فيما حَدَّثهم به، فقالت هزيلةُ بنتُ بكرٍ: صَدَقَ وربِّ الكعبةِ

(11)

.

(1)

في م: "مهدد".

(2)

سورة الحاقة الآية "7".

(3)

بعده في م: "من الريح".

(4)

بعده في م: "به".

(5)

في التاريخ: "من".

(6)

في ف: "وإنما كثر من عاد بالطعن".

(7)

سقط من: م.

(8)

في النسخ: "ابنه" والمثبت من التاريخ.

(9)

في م: "مساء"، وهو موافق لإحدى نسخ التاريخ.

(10)

في ص، ف:"رمضان".

(11)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 219 - 222 دون أوله، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1508، 1509، 1511 (8645،8646، 8647، 8661) من طريق سلمة به ببعضه، وذكره ابن كثير في تفسيره=

ص: 274

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، قال: ثنا عاصمٌ، عن الحارثِ بن حسانَ البكريِّ، قال: قَدِمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فمررتُ بامرأةٍ بالرَّبَذَةِ

(1)

، فقالت: هل أنتَ حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: نعم. فَحَمَلتُها حتى قدِمتُ المدينةَ، فَدَخَلتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ، وإذا بلالٌ مُتَقَلِّدٌ السيفَ، وإذا راياتٌ سودٌ. قال: قلتُ: ما هذا؟ قال

(2)

: عمرُو بنُ العاصِ قَدِمَ مِن غزوتِه. فلما نزَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن منبرِه أتيتُه، فاستأذَنتُ فأذِنَ لي، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إن بالبابِ امرأةً مِن بني تميمٍ، وقد سألَتْني أن أحْمِلَها إليك. قال:"يا بلالُ ائْذَنْ لها". قال: فدخَلتْ، فلما جلَستْ قال لى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هلْ بينَكم وبينَ تميمٍ شيءٌ؟ ". قلتُ: نعم. وكانت الدَّبْرَةُ

(3)

عليهم، فإن رأيتَ

(4)

أن تَجْعَلَ الدَّهْنَاءَ بينَنا وبينَهم حاجزًا فعلتُ. قال: تقولُ المرأةُ: [فأين تضطرُّ مُضَرَك]

(5)

يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: قلتُ: إن مَثَلَى مَثَلُ

(6)

مِعْزًى حَمَلَت حَتْفًا

(7)

. قال: قلتُ: وحَمَلتُكِ تكونين عليَّ خَصْمًا؟ أعوذُ باللَّهِ أن أكونَ كوافدِ عادٍ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وما وَافِدُ عادٍ؟ ". قال: قلتُ: على الخبيرِ سَقَطْتَ، إن عادًا قَحَطت فبعَثت مَن يَسْتَسْقى لها، فبَعَثُوا رجالًا، فمَرُّوا على بكرِ بن معاويةَ، فَسَقاهم الخمرَ، وتَغَنَّتهم الجَرَادَتان شهرًا، ثم

= 3/ 431 - 433، وقال بعده: وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة.

(1)

الرَّبذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز. معجم البلدان 2/ 749.

(2)

في م: "قالوا".

(3)

في م: "لنا الدائرة". وهو موافق لإحدى نسخ التاريخ. والدَّبْرَة: العاقبة، والهزيمة في القتال. تاج العروس (د ب ر).

(4)

في ص، ف:"كانت".

(5)

في م: "فإلى أين يضطر مضطرك".

(6)

بعده في م: "ما قال الأول".

(7)

في م: "حتفها"، وهو مثل لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره. النهاية 1/ 338.

ص: 275

فصَلوا

(1)

مِن عندِه، حتى أَتَوا جبالَ مَهَرةَ

(2)

، فَدَعَوا، فجاءت سحاباتٌ. قال: وكُلَّما جاءتْ سحابةٌ، قال: اذْهَبى إلى كذا. حتى جاءت سحابةٌ، فنُودِى منها

(3)

: خُذْها رمادًا رِمْدِدًا

(4)

، لا تَدَعُ مِن عادٍ أحدًا. قال: فسَمِعَه وكتَمَهم

(5)

، حتى جاءَهم العذابُ.

قال أبو كريبٍ: قال أبو بكرٍ بعدَ ذلك في حديثِ عادٍ، قال: فأقبلَ الذي

(6)

أتاهم، فأتَى جبالَ مَهَرةَ، فصَعِدَ فقال: اللهمَّ إنى لم أجِئْك لأسيرٍ فأفادِيَه، ولا لمريضٍ أَشْفِيَه، فاسْقِ عادًا ما كنتَ مُسْقِيَه. قال: فرُفِعَت له سحاباتٌ. قال: فنُودِيَ منها: اخترْ. قال: فجَعَل يقولُ: اذْهَبى إلى بنى فلانٍ، [اذْهَبي إلى بني فلانٍ]

(7)

". قال: فمَرَّتْ آخرَها سحابةٌ سوداءُ، فقال: اذْهَبى إلى عادٍ. فنُودِى منها: خُذْها رَمادًا رِمْدِدًا، لا تَدَعُ مِن عادٍ أحدًا. قال: وكتَمَهم، والقومُ عند بكرِ بن معاويةَ يَشْرَبون. قال: وكَرِه بكرُ بنُ معاويةَ أن يقولَ لهم مِن أجلِ أنهم عندَه، وأنهم في طعامِه. قال: فأَخَذَ في الغناءِ وذَكَّرَهم

(8)

.

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، قال: ثنا سلَّامٌ أبو المنذرِ النحويُّ، قال: ثنا عاصمٌ، عن أبي وائلٍ، عن الحارثِ بن يزيد البكرى، قال: خرجتُ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت،3، س، ف:"فصل".

(2)

مهرة: قبيلة، وهي مهرة بن حيدان، تنسب إليهم الإبل المهرية. ينظر معجم البلدان 4/ 700.

(3)

سقط من: م.

(4)

في س، ف:"رمدا".

(5)

في النسخ: "كلمهم" والمثبت من التاريخ.

(6)

في النسخ: "الذين" والمثبت من التاريخ.

(7)

سقط من: ف.

(8)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 217، 218، وأخرجه ابن أبي شيبة 12/ 512، وأحمد 25/ 303 (15952)، وابن ماجه (2816)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (1666)، والطبراني (3327 - 3329) من طريق أبي بكر بن عياش به، مختصرًا.

ص: 276

لأشكوَ العلاءَ بنَ الحضرميِّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمَرَرْتُ بالرَّبذَةِ، فإذا عجوزٌ مُنقَطَعٌ بها مِن بني تميمٍ، فقالت: يا عبدَ اللهِ، إن لى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنتَ مُبَلِّغى إليه؟ قال: فحَمَلْتُها، فقَدِمْتُ المدينةَ. قال: فإذا راياتٌ سودٌ

(1)

، قلتُ: ما شأنُ الناسِ؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. قال: فجَلَسْتُ حتى فَرَغَ. قال: فدَخَلَ منزله - أو قال: رَحْلَه - فاسْتأذَنتُ عليه، فأَذِنَ لي، فَدَخَلتُ فقعَدتُ، فقال لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ كان بينَكم وبينَ تميمٍ شيءٌ؟ " قال

(2)

: قلتُ: نعم، وكانت الدَّبْرَةُ عليهم، وقد مَرَرْتُ بالرَّبَذَةِ، فإذا عجوزٌ منهم مُنقطَعٌ بها، فسألَتْني أن أحْملَها إليك وها هي بالبابِ، فأَذِنَ لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَت، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، اجعلْ بينَنا وبينَ تميمِ الدَّهْناءَ حاجزًا. فَحَمِيَتِ العجوزُ واسْتَوْفَرَت

(3)

وقالت: فأين تضطر مُضرَك يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: قلتُ: أنا كما قالوا

(4)

: مِعْزًى حَمَلَت حَتْفًا

(5)

، حملتُ هذه ولا أشعرُ أنها كانت لى خَصْمًا، أَعوذُ باللهِ ورسولِه أن أكونَ كوافدِ عادٍ، قال:"وما وافدُ عادٍ؟ ". قال: على الخبيرِ سَقَطْتَ. قال: وهو يَسْتَطْعِمُنى الحديثَ. قلتُ: إن عادًا قُحِطُوا، فَبَعَثوا قَيْلًا

(6)

وافدًا، فنَزَلَ على بكرٍ، فَسَقاه الخمرَ شهرًا، وتغنِّيه جاريتان يقالُ لهما: الجَرَادتان. فَخَرَجَ إِلى جبالِ مَهَرَةَ، فنادَى: إني لم أَجِئْ لمريضٍ فأُداوِيَه، ولا لأسيرٍ فأُفادِيَه، اللهمَّ اسْقِ عادًا [ما كنتَ مُسْقِيَه

(7)

]

(8)

فمَرَّت به سحاباتٌ سودٌ، فنُودِى منها: خُذْهَا رَمادًا رِمْدِدًا، لا تُبْقى مِن

(1)

سقط من: النسخ، والمثبت من التاريخ والترمذى، وفى المسند:"راية سوداء".

(2)

سقط من: م.

(3)

استوفزت: استقلت على رجليها ولم تستو قائمة، وقد تهيأت للوثوب. تاج العروس (و ف ز).

(4)

في م: "قال الأول"، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال"، وفي المسند:"إنما مثلى ما قال الأول"، والمثبت من التاريخ.

(5)

في م: "حتفها".

(6)

بعده في ص، ت 1، ت 2 ت 3، س، ف:"قيلا".

(7)

في التاريخ والمسند: "تسقيه".

(8)

ذكرت النسخ هذه العبارة بعد قوله: "فنودى منها"، وهذا موضعها في التاريخ.

ص: 277

عادٍ أحدًا.

قال: فكانت المرأةُ تقولُ: لا تكنْ كوافدِ عادٍ. فما

(1)

بَلَغَنى أنه

(2)

أُرسِل عليهم من الريحِ يا رسولَ اللَّهِ، إِلا قَدْرُ ما يَجْرى في خَاتمي. قال أبو وائلٍ: فكذلك بَلَغَنى

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : أن عادًا أتاهم هودٌ، فوعَظهم وذَكَّرَهم بما قَصَّ

(4)

اللهُ في القرآنِ، فَكَذَّبُوه وَكَفَروا، وسألوه أن يأتيَهم بالعذابِ، فقال لهم:{إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} . وإن عادًا أصابَهم حينَ كَفَروا قُحُوطٌ مِن

(5)

المطرِ، حتى جُهِدوا لذلك جَهْدًا شديدًا، وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعَث اللهُ عليهم الريحَ العقيمَ، وهى الريحُ التي لا تُلْقِحُ الشجرَ، فلما نَظَروا إليها قالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]. فلما دَنَتْ منهم نَظَروا إلى الإبلِ والرجالِ تطيرُ بهم الريحُ بينَ السماءِ والأرضِ، فلما رأوها تنادَوا: البيوت. فلما دَخَلوا البيوتَ دخَلت عليهم، فأهْلَكَتهم فيها، ثم أخْرَجَتهم من البيوتِ، فأصابَتْهم {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} . والنَّحْسُ هو الشؤم، و {مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19]: استمرَّ عليهم بالعذابِ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]: حَسَمَت كلَّ شيءٍ مَرَّتْ به، فلما أَخْرَجَتهم مِن البيوتِ،

(1)

في م: "ففيما".

(2)

بعده في م: "ما".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 218، 219، وأخرجه أحمد 25/ 306 - 308 (15954)، والترمذي (3274) من طريق زيد بن الحباب به، وأخرجه ابن سعد 6/ 35، وأحمد 25/ 304، 305 (15953)، والترمذى (3273)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (1667)، والنسائي في الكبرى (8607)، والطبراني (3325، 3326) من طريق سلام أبي المنذر به.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قضي".

(5)

سقط من: م.

ص: 278

قال اللهُ: {تَنْزِعُ النَّاسَ} مِن البيوتِ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]: انقَعَرَ مِن أصولِه {خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]: خَوَت فسقَطت، فلما أَهْلَكَهم اللهُ أرسَل عليهم

(1)

طيرًا سُودًا فنَقَلَتهم إلى البحرِ فألْقَتْهم فيه. فذلك قولُه: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى

(2)

إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]. ولم تخرُجْ ريحٌ قطُّ إلا بمكيالٍ إلا يومَئِذٍ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنةِ فغَلَبَتهم، فلم يَعْلَموا كم كان مكيالُها، وذلك قولُه:{فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]. والصَّرْصَرُ: ذاتُ الصوتِ الشديدِ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: قالت [عادٌ لهودٍ]

(4)

: أجِئْتَنا تَتَوعَدُنا بالعقابِ مِن اللَّهِ على ما نحنُ عليه مِن الدينِ كى نعبدَ الله وحدَه، ونَدِينَ له بالطاعةِ خالصًا، ونهجُرَ عبادةَ الآلهةِ والأصنامِ التي كان آباؤُنا يعبُدُونها، ونتبرَّأَ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك ولا مُتَّبِعيك

(5)

على ما تَدْعونا إليه، فأْتِنا بما تَعِدُنا مِن العقابِ والعذابِ على تَرْكِنا إخلاصَ التوحيدِ اللهِ، وعبادتِنا ما نعبدُ مِن دونِه من الأوثانِ، إن كنتَ مِن أهلِ الصدقِ على ما تقولُ وتَعِدُ.

‌القول في تأويل قولِه: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .

(1)

في م: "إليهم".

(2)

في ص، ف:"تَرى". وهما قراءتان كما سيأتي في موضعه من التفسير.

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 225، 226، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1509 (8649) من طريق أحمد بن مفضل به مختصرا.

(4)

في ص، ف:"هود له".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"متبعوك".

ص: 279

يقولُ تعالى ذكرُه: قال هودٌ لقومِه: قد حَلَّ بكم عذابٌ وغضبٌ مِن اللهِ.

وكان أبو عمرٍو بنُ العلاءِ، فيما ذُكِر لنا عنه، يزعُمُ أَن الرِّجْزَ والرَّجْسَ بمعنًى واحدٍ، وأنها مقلوبةٌ، قُلِبت السينُ زايًا، كما قُلِبت شَئِزٌ

(1)

وهي من شَئِسٍ بسينٍ، وكما قالوا: قَرَبُوسٌ وقَرَبوزٌ. وكما قال الراجزُ:

(2)

ألَا لَحَى اللَّهُ بَنِي السِّعْلاتِ

(3)

عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتِ

لَيْسُوا بأَعْفافٍ ولا أَكْياتِ

يريدُ: الناسِ، وأكياسِ، فقُلِبت السينُ تاءً. كما قال رؤبةُ

(4)

:

كُمْ قد رَأَيْنا مِن عَديدٍ مُبْزِى

(5)

حتى وَقَمْنَا

(6)

كَيْدَهُ بالرِّجْزِ

رُوىَ عن ابن عباسٍ أنه كان يقولُ: الرِّجْزُ السَّخَطُ.

حدَّثني بذلك المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: حدَّثني معاويةُ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

(1)

في ف: "سيب"، وغير منقوطة في ص. وينظر التاج (ش أ ز).

(2)

هو علباء بن أرقم، والرجز ورد براويات مختلفة في نوادر أبي زيد ص 104، والحيوان 1/ 187، 6/ 161.

(3)

السعلاة: الغُول، وقيل: هي ساحرة الجن. اللسان (س ع ل).

(4)

ديوانه ص 64 وفيه: ما رامنا من ذى عديد مبز.

(5)

البزو: الغلبة والقهر. اللسان (ب ز و).

(6)

وقَمْنا كيده: رددناه أقبح الرد. اللسان (و ق م).

ص: 280

رِجْسٌ}. يقولُ: سَخَطٌ

(1)

.

وأما قولُه: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} . فإنه يقولُ: أَتُخاصِمُوننى في أسماءٍ سَمَّيتُموها، أصنامًا، لا تضُرُّ ولا تنفعُ، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. يقولُ: ما جعَل اللهُ لكم في عبادتِكم إياها مِن حُجَّةٍ تَحْتَجُّون بها، ولا مَعْذِرةٍ تَعْتَذِرون بها؛ لأن العبادةَ إنما هي لَمَن ضَرَّ ونفَع، وأثابَ على الطاعةِ، وعاقبَ على المعصيةِ، ورزَق ومنَع، فأما الجمادُ مِن الحجارةِ والحديدِ والنحاسِ، فإنه لا نفعَ فيه ولا ضَرَّ، إلا أن تَتَّخِذَ منه آلةً، ولا حجةَ لعابدٍ عبَدَه مِن دونِ اللهِ في عبادتِه إيَّاه؛ لأن الله لم يأذَنْ بذلك فيُعذِرَ مَن عبَدَه بأنه يعبُدُه اتباعًا منه أمرَ اللهِ في عبادتِه إياه، ولا هو - إذ كان اللهُ لم يأذَنْ في عبادتِه - مما يُرْجَى نفعُه، أو يُخافُ ضَرُّه، في عاجلٍ أو آجلٍ، فَيُعْبَدَ رجاءَ نَفْعِه، أو دفعَ ضَرِّه، {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}. يقولُ: فانْتَظِروا حكمَ اللهِ فينا وفيكم، إنّى معكم من المُنتظرين حكمَه، وفَضْلَ قضائِه فينا وفيكم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فأنْجَينا نوحًا والذين معه مِن أتباعِه على الإيمانِ به، والتصديقِ به وبما دعَا إليه مِن توحيدِ اللَّهِ، وهَجْرِ الآلهةِ والأوثانِ، {بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}. يقولُ: وأَهْلَكْنا الذين كَذَّبوا مِن قوم هودٍ بحُجَجنا جميعًا عن آخرِهم، فلم نُبْقِ منهم أحدًا.

كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1511 (8659) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 96 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 281

{وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 45]. قال: اسْتَأْصَلْناهم

(1)

.

وقد بَيَّنا فيما مَضَى معنى قولِه: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} بشواهدِه بما أغنَى عن إعادتِه

(2)

.

{وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} . يقولُ: لم يكونوا مُصَدِّقين باللهِ ولا برسولِه هودٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد أرسَلنا إلى ثمودَ أخاهم صالحًا.

وثمود، هو ثمودُ بنُ جاثَر

(3)

بن إرَمَ بن سامِ بن نوحٍ، وهو أخو جَدِيسِ بن جاثَر

(3)

، وكانت مساكنُهما الحِجْرَ بينَ الحجازِ والشامِ إلى وادى القُرى وما حولَه.

و

(4)

معنى الكلامِ: وإلى بني

(5)

ثمودَ أخاهم صالحًا.

[وإنما منع " ثمود"]

(6)

لأن "ثمودَ" قبيلةٌ، كما بكرٌ قبيلةٌ، وكذلك تميمٌ.

{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . يقولُ: قال صالحٌ لثمودَ: يا قومِ اعْبُدُوا الله وحدَه لا شريكَ له، فما لكم مِن إلهٍ يجوزُ لكم أن تَعْبُدوه

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1511 (8662) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(2)

ينظر ما تقدم في 9/ 250، 251.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عاثر"، وفى م:"عابر". والمثبت من المحبر ص 384، وتاريخ المصنف 1/ 226، والإكمال 1/ 10، ونهاية الأرب 2/ 291، وصبح الأعشى 1/ 313، والقاموس المحيط، والتاج (ج ث ر)، وفى تاريخ المصنف 1/ 204:"غاثر"، ووقع في أصول جمهرة أنساب العرب:"عابر". ينظر ص 462.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وإنما".

(5)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 282

غيرُه، وقد جاءتكم حُجَّةٌ [مِن ربِّكم]

(1)

وبرهانٌ على صدقِ ما أقولُ وحقيقةِ ما إليه أدْعُو؛ مِن إخلاصِ التوحيدِ للهِ، وإفرادِه بالعبادةِ دونَ ما سِواه، وتَصْديقى على أني له رسولٌ، وبَيِّنتى على ما أقولُ، وحقيقةِ ما جئتُكم به مِن عندِ ربي، وحُجَّتي عليه - هذه الناقةُ التي أخْرجَها اللَّهُ مِن هذه الهَضْبةِ، دليلًا على نُبُوَّتى، وصدقِ مَقالتي، فقد عَلِمتم أن ذلك مِن المعجزاتِ التي لا يقدِرُ على مثلِها أحدٌ إلا اللهُ.

وإنما استشهَد صالحٌ، فيما بَلَغنى، على صحةِ نبوَّتِه عندَ قومِه ثمودَ بالناقةِ؛ لأنهم سألوه إيَّاها آيةً ودَلالةً على حقيقةِ قولِه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك، وذكرُ سببِ قتلِ قومِ صالحٍ الناقةَ

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن عبدِ العزيزِ بن رُفَيحٍ، عن أبي الطُّفَيلِ، قال: قالت ثمودُ لصالحٍ: اتْيِنا بآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ: فقال لهم صالحٌ: اخْرُجوا إلى هَضْبةٍ مِن الأرضِ. فخَرَجوا، فإذا هي تَمَخَّضُ كما تتمخَّضُ الحاملُ، ثم إنها انفَرَجَت، فخَرَجَت مِن وسطِها الناقةُ، فقال صالحٌ:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]. {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]. فلما مَلُّوها عَقَرُوها، فَقَالَ لهم:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].

قال عبدُ العزيزِ: وحدَّثنى رجلٌ آخَرُ، أن صالحًا قال لهم: إن آيةَ العذابِ أن تُصبحوا غدًا حُمْرًا، واليومَ الثانِيَ صُفْرًا، واليومَ الثالثَ سُودًا. قال: فصَبَّحَهم العذابُ، فلما رَأَوا ذلك تَحنَّطُوا واسْتعدُّوا

(2)

.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 230، 231، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1512 (8666) من غير ذكر قول عبد العزيز، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 98 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 283

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} . قال: إن الله بعَث صالحًا إلى ثمودَ، فَدَعاهم فكَذَّبوه، فقال لهم ما ذَكَر اللهُ في القرآنِ، فسألوه أن يأتيَهم بآيةٍ، فجاءَهم بالناقةِ لها شِرْبٌ ولهم شِرْبُ يومٍ معلومٍ. وقال:{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قولُه:{فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. وكانوا قد أقرُّوا به على وجهِ النفاقِ والتَّقِيَّةِ، وكانت الناقةُ لها شِرْبٌ، فيومَ تشربُ فيه الماءَ، تمرُّ بينَ جَبلين، فيزْحَمانها

(1)

. ففيهما أثرُها حتى الساعةِ، ثم تأتى فتقفُ لهم حتى يَحْلُبوا اللبنَ فيَرْوِيَهم، [إنما تصُبُّ صبًّا]

(2)

، ويومَ يَشْرَبون الماءَ لا تَأْتِيهم، وكان معها فَصِيلٌ لها، فقال لهم صالحٌ: إنه يُولَدُ في شهرِكم هذا غلامٌ يكونُ هلاكُكم على يَدَيه. فوُلِدَ لتسعةٍ منهم في ذلك الشهرِ، فذبَحوا أبناءَهم، ثم وُلِدَ للعاشرِ فأبَى أن يذبحَ ابنَه، وكان لم يُولَدْ له قبلَ ذلك شيءٌ، فكان ابن

(3)

العاشرِ أزرقَ أحمرَ، فَنَبَتَ نباتًا سريعًا، فإذا مَرَّ بالتسعةِ فرَأَوه، قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءً كانوا مثلَ هذا. فغَضِبَ التسعةُ على صالحٍ؛ لأنَّه أمَرَهم بذبحِ أبنائِهم، فـ {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]. قالوا: نخرُجُ، فيَرى الناسُ أنَّا قد خرجنا إلى سفرٍ، فنأتى الغارَ فنكونُ فيه، حتى إذا كان الليلُ وخرَج صالحٌ إلى المسجدِ أَتَيناه فقَتَلْناه، ثم رَجَعنا إلى الغارِ فكُنَّا فيه، ثم رَجَعْنا فقلْنا:{مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، يُصدِّقوننا، يَعْلمون أنَّا قد خَرَجنا إلى سفرٍ. فانْطَلَقوا، فلما دَخَلُوا الغارَ أرادوا أن يَخْرُجوا مِن الليلِ، فسَقَطَ عليهم

(1)

في م: "فيرجمونها".

(2)

في م: "فكانت تصب اللبن صبا".

(3)

في الدر المنثور: "أبو".

ص: 284

الغارُ فقتَلهم، فذلك قولُه:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} . حتى بَلَغَ هاهنا: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 48 - 51].

وكَبِرَ الغلامُ ابن العاشرِ، ونَبَتَ نباتًا عَجَبًا مِن السرعةِ، فجلَس مع قومٍ يُصِيبون مِن الشَّرابِ، فأرادُوا ماءً يمْزُجون به شرابَهم، وكان ذلك اليومُ يومَ

(1)

شِرْبِ الناقةِ، فوجَدوا الماءَ قد شَرِبَته الناقةُ، فاشْتدَّ ذلك عليهم، وقالوا في شأنِ الناقةِ: ما نَصْنعُ نحنُ باللبنِ! لو كُنَّا نأخُذُ هذا الماءَ الذي تشرَبُه هذه الناقةُ فَنَسْقِيَه أنعامَنا وحُرُوثَنا كان خيرًا لنا، فقال الغلامُ ابن العاشرِ: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم. فأظْهَرُوا دينَهم، فأتاها الغلامُ، فلما بَصُرت به، شَدَّتْ عليه، فهرَب منها، فلما رأَى ذلك، دخَل خلفَ صخرةٍ على طريقِها، فاسْتَتَر بها، فقال:[أحِيشُوها عليَّ. فَأَحَاشُوها]

(2)

عليه، فلما جازَت به نادَوْه: عليك. فَتَناوَلها فعَقَرها، فسَقَطَت، فذلك قولُه:{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر: 29]. وأظْهَروا حينَئذٍ أمرَهم، وعَقَروا الناقةَ، وعَتَوا عن أمرِ ربِّهم، وقالوا: يا صالحُ ائْتِنا بما تَعِدُنا. وفَزِعَ ناسٌ منهم إلى صالحٍ، وأَخْبَروه أن الناقةَ قد عُقِرَت، فقال: عليَّ بالفَصِيلِ. فطَلَبوا الفَصِيلَ، فوَجَدوه على رَابيةٍ مِن الأرضِ فطَلَبوه، فارْتَفَعت به حتى حَلَّقَت به في السماءِ فلم يَقْدِروا عليه. ثم رغَا

(3)

الفصيلُ إلى اللهِ، فأوحَى اللهُ إلى صالحٍ: أنْ مُرْهم فليَتَمتَّعوا في دارهمِ ثلاثةَ أيامٍ. فقال لهم صالحٌ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. وآيةُ

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في النسخ: "أجيشوها على فأجاشوها" وأحشته إذا نفرته نحوه وسقته إليه وجمعته عليه. اللسان (ح و ش).

(3)

في النسخ: "دعا" والرُّغاء: صوت الإبل. النهاية 2/ 240.

ص: 285

ذلك أن تُصبح وجوهكم [أولَ يومٍ]

(1)

مُصْفَرَّةً، والثانِيَ مُحمرَّةً، واليومَ الثالثَ مسودَّةً، واليومُ الرابعُ فيه العذابُ. فلما رَأَوا العلاماتِ تَكَفَّنوا وتَحَنَّطوا ولَطَّخوا أنفسَهم بالمُرِّ

(2)

، ولَبِسوا الأنْطاعَ

(3)

، وحَفَروا الأسْرابَ، فَدَخَلُوا فيها يَنْتظِرون الصيحةَ، حتى جاءَهم العذابُ فهَلَكوا. فذلك قولُه: فـ {دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}

(4)

[النمل: 51].

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لمَّا أهْلَك اللهُ عادًا وتَقَضَّى أمرُها، عَمِرتْ ثمودُ بعدَها، واسْتُخْلِفوا في الأرضِ، فنزَلوا فيها وانْتَشَروا، ثم عَتَوْا على اللَّهِ. فلما ظهَر فسادُهم وعبَدُوا غيرَ اللهِ، بعَث إليهم صالحًا - وكانوا قومًا عَرَبًا، وهو

(5)

مِن أوسطِهم نسبًا وأفضلِهم موضعًا - رسولًا، وكانت منازلُهم الحِجْرَ إلى قُرْحٍ، وهو وادى القرى، وبينَ ذلك ثمانيةَ عشَرَ ميلًا، فيما بينَ الحجازِ والشامِ، فبعَث اللهُ إليهم غلامًا شابًّا، فَدَعاهم إلى اللَّهِ، حتى شَمِطَ وَكَبِرَ، لا يتبعُه منهم إلا قليلٌ مُسْتَضْعَفون فلما ألحَّ عليهم صالحٌ بالدعاءِ، وأكثَر لهم التحذيرَ، وخَوَّفَهم مِن اللهِ العذابَ والنِّقْمةَ، سألوه أن يُرِيَهم آيةً تكونُ مِصْداقًا لِما يقولُ فيما يَدْعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آيةٍ تُريدون؟ قالوا: تخرُجُ معنا إلى عيدِنا هذا - وكان لهم عيدٌ يخرُجون إليه بأصنامِهم وما يَعْبدون مِن دونِ اللهِ في يومٍ معلومٍ مِن السنةِ - فتَدْعُو إِلهَك ونَدْعُو آلهتَنا، فإنِ اسْتُجِيبَ لك اتَّبَعْناك، وإن اسْتُجِيبَ لنا اتَّبَعْتَنا. فقال

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

المرّ: صمغ شجر وهو دواء. الوسيط (م ر ر).

(3)

النطع: بساط من الجلد. الوسيط (ن ط ع).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1512 (8664، 8668) من طريق أحمد بن مفضل به ببعضه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 99 إلى أبي الشيخ ببعضه.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وهم".

ص: 286

لهم صالحٌ: نعم. فخَرَجوا بأوثانِهم إلى عيدِهم ذلك، وخرَج صالحٌ معهم إلى اللهِ، فدعَوْا أوثانَهم وسألوها ألا يُستجاب لصالحٍ في شيءٍ مما يَدْعو به، ثم قال له جُنْدَعُ بنُ عمرِو

(1)

بن جَوَّاسِ

(2)

بن عمرِو بن الدُّمَيْلِ، وكان يومَئذٍ سيدَ ثمودَ وعظيمَهم: يا صالحُ، أخرِجْ لنا مِن هذه الصَّخرةِ - [لصخرةٍ منفردةٍ في ناحيةِ الحِجْرِ يقالُ لها: الكاثِيةُ]

(3)

- ناقةً مخترجةً جَوْفاءَ وَبْراءَ - والْمُخترجَةُ: ما شاكَلَت البُخْتَ مِن الإبلِ - وقالت ثمودُ لصالحٍ مثلَ ما قال جُنْدَعُ بنُ عمرٍو (1)، فإن فعلتَ آمَنَّا بك وصَدَّقْناك، وشَهِدنا أن ما جئتَ به هو الحقُّ، وأخَذ عليهم صالحٌ مواثيقَهم، لئن فعلتُ وفَعَلَ اللَّهُ لتصدِّقُنِّى ولتؤمنُنَّ بي؟ قالوا: نعم. فأعْطَوْه على ذلك عهودَهم، فَدَعا صالحٌ ربَّه بأن يُخرِجَها لهم مِن تلك الهَضْبةِ كما وصَفوا

(4)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن يعقوبَ بن عتبةَ بن المغيرةِ بن الأخْنسِ، أنه حَدَّثَ أنهم نَظَروا إلى الهَضْبةِ حينَ دعا الله صالحٌ بما دعا به، تَمخَّضُ

(5)

بالناقةِ تَمخُّضَ النَّتُوجِ

(6)

بولدِها، فتَحَرَّكت الهضْبةُ، ثم [انتَفَضَت بالناقةِ]

(7)

، فانصَدَعَت عن ناقةٍ، كما وصَفوا، جوفاءَ وَبْراءَ نَتُوجًا، ما بينَ جَنْبَيها لا يعلَمُه إِلا اللَّهُ عِظَمًا، فَآمَنَ به جُنْدَعُ بنُ عمرٍو، ومَن كان معه على أمرِه مِن رَهْطِه، وأراد أشرافُ ثمودَ أن يُؤمنوا به ويُصَدِّقوا، فنَهاهم ذُؤَابُ بن عمرِو بن لبيدٍ، والحبابُ

(1)

في م: "عمرد"، وينظر البداية والنهاية 1/ 311.

(2)

في النسخ: "حراش"، وينظر المصدر السابق.

(3)

وردت هذه العبارة في النسخ بعد جملة "جندع بن عمرو" الآتية.

(4)

في م: "وصفت".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1512 (8665) من طريق سلمة به ببعضه.

(5)

في م، ت 1، ف:"تتمخض".

(6)

النَّتوج: الحامل من الدواب. تاج العروس (ن ت ج).

(7)

في، م، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أسقطت الناقة"، والمثبت من مصدرى التخريج.

ص: 287

صاحبُ أوثانِهم، وربابُ

(1)

بنُ صَمْعَرِ بن جَلْهِسٍ، وكانوا مِن أشرافِ ثمودَ، فرَدُّوا أشرافَها عن الإسلامِ، والدخولِ فيما دَعاهم إليه صالحٌ مِن الرحمةِ والنجاةِ، وكان لجُنْدَعٍ ابن عمٍّ يقال له: شهابُ بنُ خليفةَ بن مخلاةَ بن لبيدِ بن جَوَّاسٍ. فأرادَ أن يُسْلِمَ، فَنَهاه أولئك الرهطُ عن ذلك فأطاعَهم، وكان من أشرافِ ثمودَ وأفاضلِها، فقال رجلٌ مِن ثمودَ يقال له: مهْرَشُ

(2)

بنُ غَنْمةَ بن الدُّمَيلِ، وكان مسلمًا:

وكانت عُصْبَةٌ مِن آلِ عمرٍو

إلى دِينِ النبيِّ دَعَوْا شِهَابَا

عزيزَ ثمودَ كُلِّهِمُ جميعًا

فَهَمَّ بأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابا

لأصْبَحَ صالحٌ فِينا عزيزًا

وما عَدَلوا بصاحبِهم ذُؤَابًا

وَلكنَّ الغُواةَ مِنَ آلِ حُجْرٍ

تَوَلَّوْا بَعدَ رُشْدِهِمُ ذِئابَا

فمَكَثَت الناقةُ التي أخرَجها اللهُ لهم، معها سَقْبُها

(3)

، في أرضِ ثمودَ تَرْعَى الشجرَ، وتشربُ الماءَ، فقال لهم صالحٌ عليه السلام:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال اللهُ لصالحٍ: {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28]. أي: أن الماءَ نصفان، لهم يومٌ ولها يومٌ، وهى محتضَرةٌ، فيومُها لا تدعُ شربَها، وقال:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعرا: 155]. فكانت، فيما بلَغنى واللهُ أعلمُ، إذا ورَدت، وكانت تَرِدُ غِبًّا، وَضَعَت رأسها في بئرٍ في الحِجْرِ، يقالُ لها: بئرُ الناقةِ. فيَزْعُمون أنها منها كانت تشربُ إذا ورَدت، تضعُ رأسها فيها، فما تَرْفَعُه حتى تشربَ كلَّ قطرةِ ماءٍ في الوادى، ثم ترفعُ رأسَها فتفشَّحُ

(4)

، يعني:

(1)

في م: "رياب" وينظر البداية والنهاية.

(2)

في النسخ: "مهوس" والمثبت من البداية والنهاية، وفى مخطوطة من مخطوطات تفسير ابن كثير:"مهوش" ولعلها أن تكون مهرش وقرئت خطأ.

(3)

في ف: "سقيها" والسَّقْب: ولد الناقة. تاج العروس (س ق ب).

(4)

في ص، م، ت 2:"فتفسح"، وفى ت 1:"فيفسح"، وفى س:"فتفشخ"، وفشَح، وفشَج: إذا فرَّج ما بين رجليه. تاج العروس (ف ش ح، ف ش ج).

ص: 288

تَفَحَّجُ

(1)

لهم، فيَحْتَلِبون ما شاءوا مِن لبنٍ، فيَشْرَبون ويَدَّخِرون، حتى يَمْلَئوا كلَّ آنيتِهم، ثم تصدرُ مِن غيرِ الفجِّ الذي منه وردت، لا تقدِرُ على أن تَصْدُرَ مِن حيثُ تَرِدُ؛ يَضِيقُ

(2)

عنها، فلا ترجِعُ منه، حتى إذا كان الغدُ كان يومَهم، فيَشْرَبون ما شاءوا مِن الماءِ، ويَدَّخِرون ما شاءوا ليومِ الناقةِ، فهم مِن ذلك في سَعَةٍ، وكانت الناقةُ، فيما يَذْكُرون، تَصِيفُ، إذا كان الحرُّ

(3)

، ظَهْرَ

(4)

الوادى، فتهرُبُ منها المواشى؛ أغنامُهم وأبقارُهم وإبلُهم، فتهبِطُ إلى بطنِ الوادي في حرِّه وجَدْبِه؛ وذلك أن المواشىَ تَنْفِرُ منها إذا رَأَتْها، وتَشْتُو بطنَ الوادى إذا كان الشتاءُ، فتهرُبُ مواشِيهم إلى ظَهْرِ الوادى في البردِ والجَدْبِ، فأضَرَّ ذلك بمواشيهم؛ للبلاءِ والاختبارِ، وكانت مَراتِعُها، فيما يَزْعُمون، [الجَنَابَ وحِسْمَى]

(5)

، كلُّ ذلك تَرْعى مع وادى الحِجْرِ، فكَبُرَ

(6)

ذلك عليهم، فعتَوا عن أمرِ ربِّهم، وأجْمَعوا في عَقْرِ الناقةِ رأيَهم.

وكانت امرأةٌ مِن ثمودَ يقالُ لها: عُنَيزَةُ بنتُ غُنْمِ بن مِجْلَرٍ. تُكْنَى بِأُمِّ غُنْمٍ

(7)

، وهي مِن بني عبيدِ بن المهلِ أخى زُمَيلِ

(8)

بن المهلِ، وكانت امرأةَ ذُؤاب بن عمرٍو، وكانت عجوزًا مُسِنَّةً، وكانت ذات بناتٍ حسانٍ، وكانت ذاتَ مالٍ مِن إبلٍ وبقرٍ وغنَمٍ، وامرأةٌ أخرى يقال لها: صَدُوفُ

(9)

بنتُ المحيَّا بن زهيرِ

(10)

بن المحيَّا

(1)

تَفَحَّج: مثل تفشح، وتفشج. وينظر التاج (ف ح ج).

(2)

في م: "لضيقه"، وفي ت 1:"تضيق".

(3)

سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في م: "بظهر".

(5)

الجَنَاب: موضع بعراض خيبر وسَلاح ووادى القرى. والحِسْمَى: أرض ببادية الشام بينها وبين وادى القرى ليلتان. معجم البلدان 2/ 120، 217.

(6)

في ص، ت 1، س، ف:"فيكثر".

(7)

في البداية والنهاية: "عثمان".

(8)

في م: "دميل".

(9)

في عرائس المجالس: "صدوق".

(10)

في ص: "هو"، وفى ف:"هز".

ص: 289

سيدِ بني عبيدٍ، وصاحبِ أوثانِهم في الزمنِ الأولِ، وكان الوادى يقالُ له: وادى المحيَّا. وهو المحيَّا الأكبرُ، جدُّ المحيَّا الأصغرِ أبى صَدُوفَ، وكانت صَدُوفُ مِن أحسنِ الناسِ، وكانت غنيَّةً ذاتَ مالٍ مِن إبل وغنم وبقرٍ، وكانتا

(1)

مِن أشدِّ امرأتَين في ثمودَ عداوةً لصالحٍ، وأعظمِه

(2)

به كفرًا، وكانتا تحتالانِ

(3)

أن تُعْقَرَ الناقةُ مع كفرِهما به؛ لِمَا أَضَرَّت به مِن مواشِيهما، وكانت صَدُوفُ عندَ ابن خالٍ لها يقالُ له: صنيمُ

(4)

بنُ هراوةَ بن سعدِ بن الغطريفِ مِن بني هليلٍ، فأسْلَم فحَسُنَ إسلامُه، وكانت صَدُوفُ قد فَوَّضَت إليه مالَها، فأنفَقَه على من أسْلَم معه مِن أصحابِ صالحٍ، حتى رَقَّ المالُ، فاطَّلَعت على ذلك مِن إسلامِه صَدُوفُ، فعاتَبَتْه على ذلك، فأظْهَرَ لها دينَه، ودَعاها إلى اللهِ وإلى الإسلامِ، فأبَتْ عليه، وسَبَّتْ له

(5)

، فأَخَذت بَنِيه وبناتِه منه، فغَيَّبَتهم في بنى عبيدٍ؛ بطنِها الذي هي منه، وكان صنيمٌ زوجُها مِن بني هليلٍ، وكان ابن خالِها، فقال لها: رُدى عليَّ ولدى. فقالت: حتى أُنافِرَك

(6)

إلى بني صنعانَ بن عبيدٍ، أو إلى بنى جُنْدَعِ

(7)

بن عبيدٍ. فقال لها صنيمٌ: بل أنا أقولُ إلى بنى مِرْداسِ بن عبيدٍ. وذلك أن بني مرداسِ بن عبيدٍ، كانوا قد سارعوا في الإسلام، وأبْطَأ عنه الآخرون، فقالت: لا أُنافِرُك إلا إلى مَن دَعَوتُك إليه. فقال بنو مرداسٍ: واللهِ لتُعْطِيَنَّه ولدَه طائعةً أو كارهةً. فلما رأت ذلك أعْطَته إياهم.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كانت".

(2)

في ص: "أعظم"، وفى م:"أعظمهم".

(3)

في م: "تحبان".

(4)

في م: "صنتم" وفى ص، ت 1، ت 2، س:"صهيم"، وفى ف:"جهم"، والمثبت من عرائس المجالس.

(5)

في م، ت 1، ت 2:"ولده".

(6)

النُّفْرة: الحكم. تاج العروس (ن ف ر).

(7)

في ت 1، ف:"جذع".

ص: 290

ثم إن صدوفَ وعُنَيزةَ محَلتا

(1)

في عَقْرِ الناقةِ للشقاءِ الذي نزَل، فدعَت صدوفُ رجلًا من ثمودَ يقالُ له: الحبابُ. لعَقْرِ

(2)

الناقةِ، وعرَضت عليه نفسَها بذلك إن هو فعَل، فأبَى عليها، فدعَت ابنَ عمٍّ لها يقالُ له: مِصْدَعُ بْنُ مَهْرَجِ بن المحيَّا. وجَعَلت له نفسَها على أن يَعْقِرَ الناقةَ، وكانت من أحسنِ الناسِ، وكانت غنيةً كثيرةَ المالِ، فأجابَها إلى ذلك.

ودعت عُنَيزِةُ بنتُ غُنْمٍ قُدارَ بنَ سالفِ بن جُنْدَعٍ

(3)

رجلًا مِن أَهلِ قُرْحَ، وكان قُدارُ رجلًا أحمرَ أزرقَ قصيرًا، يَزْعُمون أنه كان لزَنْيَةٍ مِن رجلٍ يقالُ له: صهيادُ

(4)

. ولم يكنْ لأبيه سالفٍ الذي يُدْعَى إليه، ولكنه قد وُلِدَ على فراشِ سالفٍ، وكان يُدْعَى له، ويُنْسَبُ إليه. فقالت: أُعْطِيكَ أَيَّ بناتي شئتَ على أن تَعْقِرَ الناقةَ. وكانت عُنَيزةُ شريفةً من نساءِ ثمودَ، وكان زوجُها ذؤابُ بنُ عمرٍو مِن أشرافِ رجالِ ثمودَ. وكان قُدارُ عزيزًا منيعًا في قومِه، فانطَلَق قُدارُ بنُ سالفٍ، ومِصْدَعُ بنُ مَهْرَجٍ، فاسْتَنْفرَا غُوَاةً مِن ثمودَ، فاتَّبَعَهما سبعةُ، نفرٍ، فكانوا تسعةَ نفرٍ، أحدُ النفرِ الذين اتَّبَعوهما رجلٌ يقالُ له:[هويلُ بنُ ميلغٍ]

(5)

، خالُ قُدارِ بن سالفٍ، أخو أمِّه لأبيها وأمِّها، وكان عزيزًا مِن أهلِ حِجْرٍ، ودُعَيرُ

(6)

بنُ غنمِ بن داعرٍ، وهو مِن بنى حلاوةَ بن المهلِ، ودَأَبُ

(7)

بنُ مَهْرَجٍ أخو مِصْدَعِ بن مَهْرَجٍ، وخمسةٌ لم تُحفَظْ لنا

(1)

في م: "تحيلا"، ومَحَلتا: احتالتا. اللسان (م ح ل).

(2)

في م: "لعقره".

(3)

في ت 1، س، ف:"حدع".

(4)

في عرائس المجالس: "صفوان"، وفى البداية والنهاية 1/ 312 صيبان. والمثبت كما في تفسير ابن كثير.

(5)

في ف: "هويل بن مبلغ" وفى عرائس المجالس: "هيات بن مبلغ"، وفي تفسير القرطبي 13/ 215 "بلع بن ميلع".

(6)

في ف: "دعبر"، وفى عرائس المجالس:"ذعر"، والمثبت كما في تفسير القرطبي 13/ 215.

(7)

في تفسير ابن أبي حاتم 9/ 2900 (16466)"داد"، وفى تفسير القرطبي 13/ 215 "رياب".

ص: 291

أسماؤهم، فرَصَدوا الناقةَ حينَ صدَرت عن الماءِ، وقد كمَن لها قدارٌ في أصلِ صخرةٍ على طريقِها، وكمَن لها مِصْدَعٌ في أصلِ أخرى، فمَرَّت على مِصْدَعٍ فَرَماها بسهمٍ، فانتظمَ به عَضَلةَ ساقِها، وخرَجت أُمُّ غُنْمٍ عُنَيزَةُ وأَمَرت

(1)

ابنتَها، وكانت مِن أحسنِ الناسِ وجهًا، فأسْفَرَت عنه لقدارٍ وأَرَته إياه، ثم ذَمَّرَته

(2)

، فَشَدَّ على الناقةِ بالسيفِ، فكسَف

(3)

عُرْقوبَها، فخَرَّت ورغَت رَغَاةً واحدةً تُحَذِّرُ سَقْبَها، ثم طعَن في لَبَّتِها فنحَرها، وانطَلَق سَقْبُها حتى أتَى جبلًا مُنيفًا

(4)

، ثم أتى صخرةً في رأسِ الجبلِ فرغَا ولاذَ بها. واسمُ الجبلِ فيما يَزْعُمون صُوَرٌ

(5)

، فأتاهم صالحٌ، فلما رأى الناقةَ قد عُقِرت، قال: انتَهَكتُم حرمةَ اللهِ، فأبْشِروا بعذابِ اللهِ تبارك وتعالى ونِقْمَتِه. فاتَّبَعَ السقبَ أربعةُ نفرٍ من التسعةِ

(6)

الذين عقَروا الناقةَ، وفيهم مِصْدَعُ بنُ مَهْرَجٍ، فَرَماه مِصْدَعٌ بسهمٍ، فانتظَمَ قلبَه، ثم جَرَّ برجلِه، فأَنزَلَه، ثم ألْقوا لحمَه مع لحمِ أمِّه.

فلما قال لهم صالحٌ: أبْشِروا بعذابِ اللهِ ونقمتِه. قالوا له، وهم يَهْزَءون به: ومتى ذلك يا صالحُ؟ وما

(7)

آيةُ ذلك؟ وكانوا يُسَمُّون الأيامَ فيهم؛ الأحد أوَّلَ،

(1)

في س: "أبرزت".

(2)

ذمَّرَته: حضته وشجعته. اللسان (ذ م ر).

(3)

في ص، ف:"فخسف"، وفى م وعرائس المجالس:"فكشف"، والمثبت هو الصواب. والكَسْف: قطع العرقوب. اللسان (ك س ف).

(4)

في ص، م، ت 2، س:"منيعا"، وفى ف:"متبعا"، والمُنيف: العالى. التاج (ن و ف).

(5)

في ص، ف:"صنو"، والمثبت هو الأقرب للصواب، وقد ذكر في معجم البلدان 3/ 435:"الصُوَر بضم الصاد وفتح الواو جبل" من غير ذكر نسبته إلى مكان. ووقع في عرائس المجالس اسم الجبل: "ضوء، وقيل: اسمه قارة"، وذكر في معجم البلدان 4/ 12 القارة: جبيل مستدق ملموم في السماء لا يقود في الأرض كأنه جثوة وهو عظيم مستدير.

(6)

في ص، ت 1، س، ف:"السبعة".

(7)

في ص، ت 1، س، ف:"متى".

ص: 292

والاثنين أهونَ، والثلاثاءَ دُبارَ، والأربعاءَ جُبارَ، والخميسَ مُؤْنِسَ، والجمعةَ العروبةَ، والسبتَ شِيارَ

(1)

، وكانوا عَقَروا الناقةَ يومَ الأربعاءِ، فقال لهم صالحٌ، حينَ قالوا ذلك: تُصْبِحون غداةَ يومِ مُؤْنسَ - يعنى يومَ الخميسِ - ووجوهُكم مصفرةٌ، ثم تُصْبِحون يومَ العَروبةِ - يعنى يومَ الجمعةِ - ووجوهُكم محمرةٌ، ثم تُصْبِحون يومَ شِيارَ - يعنى يومَ السبتِ - ووجوهُكم مسودَّةٌ، ثم يُصَبِّحُكم العذابُ يومَ الأولِ - يعنى يومَ الأحدِ - فلما قال لهم صالحٌ ذلك، قال التسعةُ الذين عَقَروا الناقةَ: هَلَمُّوا فلنقتُلْ صالحًا، إن

(2)

كان صادقًا عَجَّلْناه قبلَنا، وإن كان كاذبًا يكونُ قد ألْحَقْناه بناقتِه. فأَتَوه ليلًا ليُبيِّتُوه

(3)

في أهلِه، فدمَغتهم

(4)

الملائكةُ بالحجارةِ، فلما أبْطَئوا على أصحابِهم، أَتَوا منزلَ صالحٍ، فوَجَدوهم مُشَدَّخِين، قد رُضِخوا بالحجارةِ، فقالوا لصالحٍ: أنت قَتَلْتَهم. ثم هَمُّوا به، فقامَت عشيرتُه دونَه، ولَبِسوا السلاحَ، وقالوا لهم: واللَّهِ لا تَقْتُلونه أبدًا، فقد وعَدكم أن العذابَ نازلٌ بكم في ثلاثٍ، فإن كان صادقًا لم تَزِيدوا ربَّكم عليكم إلا

(5)

غَضَبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم مِن وراءِ ما تُرِيدون. فانْصَرَفوا عنهم ليلتَهم [تلك، والنفرُ]

(6)

الذين رضَختهم الملائكةُ بالحجارةِ التسعةُ الذين ذكَر

(7)

اللهُ تبارك وتعالى في القرآنِ، يقولُ اللهُ تبارك وتعالى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} . إلى قولِه: {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 48 - 52]. فأصْبَحوا مِن تلك الليلةِ

(1)

في ت 1، س، ف:"سيار". وهذه الأسماء لا تنصرف، وينظر الأيام والليالي والشهور للفراء ص 6.

(2)

في ص، ت 1، س، ف:"وإن".

(3)

في ص: "ليثبتوه".

(4)

دَمَغه دَمْغا: إذا أصاب دماغه فقتله. اللسان (د م غ).

(5)

سقط من: ص، ت 1، س، ف.

(6)

في ص، ت 1:"لذلك والتفوا"، وفى ف:"لذلك وألقوا".

(7)

في م: "ذكرهم".

ص: 293

التي انصَرَفوا فيها عن صالحٍ وجوهَهم مصفرَّةً، فأيْقَنوا بالعذابِ، وعرَفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلَبوه ليَقْتُلوه، وخرَج صالحٌ هاربًا منهم

(1)

، حتى لجَأ إلى بطنٍ مِن ثمودَ يقالُ لهم: بنو غُنْمٍ. فنزَل على سيِّدِهم؛ رجلٍ منهم يقالُ له: نفيلٌ. يُكْنَى بأبي هُدْبٍ، وهو مُشرِكٌ، فغَيَّبَه فلم يَقْدِروا

(2)

عليه. فغَدوا على أصحابِ صالحٍ، فعَذَّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجلٌ مِن أصحابِ صالحٍ - يقالُ له: ميدعُ

(3)

بنُ هرمٍ: يا نبيَّ اللهِ، إنهم ليُعَذِّبوننا لنَدُلَّهم عليك، أفندُلُّهم عليك؟ قال: نعم. فدَلَّهم عليه ميدعُ

(3)

بنُ هرمٍ، فلما عَلِموا بمكانِ صالحٍ، أَتَوا أَبَا هُدْبٍ فَكَلَّمُوه، فقال: نعم

(4)

، عندى صالحٌ، وليس لكم إليه سبيلٌ. فأَعْرَضُوا

(5)

عنه وتَرَكوه، وشغَلهم عنه ما أنزَل اللَّهُ بهم مِن عذابِه، فجعَل بعضُهم يُخْبِرُ بعضًا بما يَرَون في وجوهِهم حينَ أصْبَحوا مِن يومِ الخميسِ، وذلك أن وجوهَهم أصبحت مُصْفرَّةً، ثم أصبَحوا يومَ الجمعةِ ووجوهُهم مُحْمرَّةٌ، ثم أصبَحوا يومَ السبتِ ووجوهُهم مسودَّةٌ، حتى إذا كان ليلةُ الأحدِ خرَج صالحٌ من بين أظْهُرِهم ومَن أسلَمَ معه إلى الشامِ، فنَزَل رملةَ فلسطينَ، وتَخَلَّفَ رجلٌ مِن أصحابِه يقالُ له: ميدعُ

(3)

بنُ هرمٍ. فنَزَلَ قُرْحَ، وهى وادى القرى، وبينَ القُرْحِ وبينَ الحِجْرِ ثمانية عشَرَ ميلًا، فنزَل على سيدِهم؛ رجلٌ يقالُ له: عمرُو بنُ غُنْمٍ. وقد كان أكَل مِن لحمِ الناقةِ ولم يَشْرَكْ

(6)

في قَتْلِها، فقال له ميدعُ بنُ هرم: يا عمرُو بنَ غُنْمٍ، اخرُجْ مِن هذا البلد، فإن صالحًا قال: مَن

(1)

في م، ت 1، ت 2، ت، س، ف:"منها".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت، س، ف:"يقدر".

(3)

في ت 1، وعرائس المجالس:"مبدع".

(4)

في م: "لهم".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وأعرضوا".

(6)

في م: "يشترك".

ص: 294

أقامَ فيه هَلَكَ، ومَن خَرَجَ منه نَجا. فقال عمرٌو: ما شَرِكتُ في عَقْرِها، وما رَضِيتُ ما صُنِعَ بها. فلما كانت صبيحةُ الأحدِ أَخَذَتهم الصيحةُ، فلم يَبْقَ منهم صغيرٌ ولا كبيرٌ إلا هلَك، إلا جاريةٌ مُقْعَدَةٌ يقالُ لها: الزُّريْعةُ

(1)

، وهى الكلبةُ

(2)

ابنةُ السِّلْقِ، كانت كافرةً شديدة العداوة لصالح، فأطلَقَ اللَّهُ لَها رِجْلَيها بعدما عاينت العذابَ أجمعَ، فخرَجت كأسرعِ ما يُرَى شيءٌ قطُّ، حتى أَتَتْ [أَهلَ قُرْحَ]

(3)

، فَأَخْبَرَتهم بما عايَنَت مِن العذابِ، وما أصابَ ثمودَ منه، ثم اسْتَسْقَت مِن الماءِ فسُقِيت، فلما شَرِبَت ماتَت

(4)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: قال معمرٌ: أخبَرني من سمِع الحسنَ يقولُ: لما عقَرت ثمودُ الناقةَ، ذهَب فَصِيلُها حتى صعِد تلًّا، فقال: يا ربِّ أينَ أمِّى؟ ثم رَغا رَغْوةً، فنزَلت الصيحةُ فأخْمدَتهم

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعْلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ بنحوه، إلا أنه قال: أُصْعِدَ تَلًّا.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقةَ: تَمَتَّعُوا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. وقال لهم: آيةُ هَلاكِكم أن

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الدريعة"، وفى عرائس المجالس، س:"الذريعة" وفي تفسير ابن كثير: "الزريقة"، والمثبت من البداية والنهاية 1/ 316، وينظر تعليق الشيخ شاكر.

(2)

في م: "كلبية".

(3)

في م: "حيا من الأحياء".

(4)

أخرج صدره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1512 (8667) من طريق سلمة به، وذكره الثعلبي في عرائس المجالس ص 58 - 62، وابن كثير في تفسيره 3/ 436 - 439، وفى البداية والنهاية 1/ 310 - 313.

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 231، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 99 إلى أبى الشيخ.

ص: 295

تُصْبِحَ وجوهكم مصفرَّةً، ثم تُصْبحَ اليوم الثانىَ محمرَّةً، ثم تصبحَ اليومَ الثالثَ مسودَّةً. فأصبَحت كذلك. فلما كان اليومُ الثالثُ، وأيْقَنوا بالهلاكِ تَكَفَّنوا وتَحَنَّطوا، ثم أخَذَتهم الصيحةُ فأهْمَدَتهم. قال قتادةُ: قال عاقرُ الناقةِ لهم: لا

(1)

أقتُلُها حتى تَرْضَوا أَجْمَعُون

(2)

. فجعلوا يَدْخُلون على المرأةِ في خِدْرِها

(3)

، فيقولون: أَتَرْضَين؟ فتقولُ: نعم. والصبيِّ، حتى رَضُوا أَجْمَعُون (2)، فعقرها

(4)

.

حدَّثني المُثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ

(5)

، عن أبي الزبيرِ، عن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ، قال: لمَّا مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحِجْرِ

(6)

، قال:"لا تسْألوا الآياتِ، فقد سألهَا قومُ صالحٍ، فكانت تَرِدُ مِن هذا الفجِّ، وتصدُرُ مِن هذا الفَجَّ، فعتَوا عن أمرِ ربِّهم، فعقَروها، وكانت تَشْرَبُ ماءَهم يومًا ويَشْرَبون لبنَها يومًا، فعقروها، فأخَذتهم الصيحةُ، أهمَد اللهُ مَن تحتَ أديمِ السماءِ منهم، إلا رجلًا واحدًا كان في حَرَمِ اللَّهِ". قيل: مَن هو؟ قال: "أبو رِغالٍ، فلما خرَج مِن الحرمِ أصابَه ما أصابَ قومَه"

(7)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ألا".

(2)

في م: "أجمعين".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"حجرها".

(4)

في ت 1: "فعقروها".

والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 231 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1515 (8684) من طريق محمد بن عبد الأعلى به إلى قوله: فأهمدتهم، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 98 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(5)

في م، ت 2:"خيثم". وينظر تهذيب الكمال 15/ 279.

(6)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(7)

تفسير عبد الرزاق 1/ 231، 232، ومن طريقه أخرجه أحمد 22/ 66 (14160)، والطحاوي في المشكل (3755)، والحاكم 2/ 320، وأخرجه البزار (1844 - كشف)، والطحاوي في المشكل (3756)، وابن حبان (6197)، والحاكم 2/ 340 من طريق ابن خيثم به.

ص: 296

قال عبدُ الرزاقِ: قال معمرٌ وأخبرَني إسماعيلُ بنُ أميةَ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرِ أبي رغالٍ، فقال:"أَتَدْرُون ما هذا؟ " قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ. قال: "هذا قبرُ أبي رِغالٍ". قالوا: فمَن أبو رِغالٍ؟ قال: "رجلٌ مِن ثمودَ، كان في حرمِ اللهِ، فمَنَعَه حَرَمُ اللهِ عذابَ اللهِ، فلمَّا خرَج أصابَه ما أصابَ قومَه، فدُفِنَ هاهنا، ودُفِنَ معه غصنٌ مِن ذهبٍ، فنزَل القومُ، فابْتَدَرُوه بأسْيافِهم. فبَحَثُوا

(1)

عليه، فاسْتَخْرَجوا الغُصْنَ".

قال عبدُ الرزاقِ: قال معمرٌ: و

(2)

قال الزهريُّ: أبو رِغالٍ، أبو ثقيفٍ

(3)

.

حدَّثنا محمد بن عبدِ الأعْلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ

(4)

، عن جابرٍ، قال: مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحِجْرِ، ثم ذكَر نحوَه، إلا أنه قال في حديثِه: قالوا: مَن هو

(5)

يا رسولَ اللهِ؟ قال: "أبو رِغالٍ"

(6)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن قتادةَ، قال: كان يقالُ: إن أحمرَ ثمودَ الذي عقَر الناقةَ كان ولدَ زَنْيةٍ.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، قال: ثنا عنبسةُ، عن أبي إسحاقَ، قال: قال أبو موسى: أتيتُ أَرضَ ثمودَ، فَذَرَعْتُ

(7)

مصدرَ الناقةِ، فوجَدتُه ستينَ ذراعًا.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعْلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، وأخبَرنى

(1)

في ص: "فحنوا" وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فحبوا"، وفى س، ف:"فجثوا".

(2)

سقط من: م.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 232.

(4)

في م، ت 2:"خيثم". وينظر تهذيب الكمال 15/ 279.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"هم".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1516 من طريق محمد بن عبد الأعلى به.

(7)

فذرعت: قدَّرتُ بالذراع. اللسان "ذ ر ع".

ص: 297

إسماعيلُ بنُ أميةَ بنحوِ هذا. يعنى: بنحوِ حديثِ عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ

(1)

، عن جابرٍ، قال: ومَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقبرِ أبي رِغالٍ، قالوا: ومَن أبو رِغالٍ؟ قال: أبو ثقيفٍ؛ كان في الحَرَمِ لمَّا أهلكَ اللهُ قومَه، منَعه حرمُ اللَّهِ مِن عذابِ اللَّهِ، فلما خرَج أصابَه ما أصابَ قومَه، فدُفِنَ هاهنا، ودُفِنَ معه غُصنٌ مِن ذهبٍ. قال: فابْتَدَره القومُ يَبْحَثون عنه حتى اسْتَخْرجوا ذلك الغصنَ.

وقال الحسنُ: كان للناقةِ يومٌ، ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم.

حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، قال: لما مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحِجْرِ قال: "لا تَدْخُلوا مساكنَ الذين ظَلَموا أنفسَهم، إلا أن تكونوا باكِينَ؛ أن يُصِيبَكم مثلُ الذي أصابَهم". ثم قال: ثم قال: ["هذا وادى النَّفَرِ

(2)

"]

(3)

. ثم رَفَع رأسَه وأسْرَعَ السَّيرَ، حتى أجازَ الوادىَ

(4)

.

وأما قولُه: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} . فإنه يقولُ: ولا تَمَسُّوا ناقةَ اللَّهِ بعَقْرٍ ولا نَحْرٍ، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يعنى: مُوجِعٌ.

‌القولُ في تأويل قولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)} .

يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قِيلِ صالحٍ لقومِه واعظًا لهم: واذْكُروا أيُّها القومُ نعمةَ اللهِ عليكم {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} . يقولُ: تَخْلُفون عادًا في الأرضِ بعدَ

(1)

في م، ت 2:"خيثم".

(2)

في ت 1، ت 2:"البقر".

(3)

ليس في مصدرى التخريج.

(4)

سيأتي تخريجه في 14/ 104.

ص: 298

هلاكِها.

وخلفاءُ جمعُ خليفةٍ، وإنما جُمِعَ خليفةٌ خلفاءَ، وفعلاء إنما هي جمعُ فعيلٍ، كما الشركاءُ جمعُ شريكٍ، والعلماءُ جمعُ عليمٍ، والحُلماءُ جمعُ حليمٍ؛ لأنه ذهَب بالخليفةِ إلى الرجلِ، فكأن واحدَهم خَلِيفٌ، ثم جُمِعَ خلفاءُ. فأما لو جُمِعت الخليفةُ على أنها نظيرةُ كريمةٍ وحليلةٍ ورغيبةٍ، قيل: خلائفُ. كما يقالُ: كرائمُ وحلائلُ ورغائبُ، إذ كانت مِن صفاتِ الإناثِ، وإنما جُمِعت على الوجهَين اللذين جاء بهما القرآنُ؛ لأنها جُمِعت مرةً على لفظِها، ومرةً على معناها.

وأما قولُه: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} . فإنه يقولُ: وأنزَلكم في الأرضِ، وجعَل لكم فيها مساكن وأزواجًا. {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} . ذُكِرَ أنهم كانوا يَنْقُبون الصخرَ مساكنَ.

كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مفضلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} : كانوا يَنْقُبون في الجبالِ البيوتَ

(1)

.

وقولُه: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} . يقولُ: فاذْكُروا نعمةَ اللهِ التي أنعَم بها عليكم {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

كان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . يقولُ: لا تَسِيروا في الأرضِ مُفْسِدين

(2)

.

وقد بَيَّنتُ معنى ذلك بشواهدِه واختلافَ المختلفِين فيه فيما مضَى، بما أغنَى

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1513 (8672) من طريق أحمد بن مفضل به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1513 (8674) من طريق يزيد به.

ص: 299

عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} : قال الجماعةُ الذين اسْتَكْبَرُوا مِن قومِ صالحٍ عن اتِّباعِ صالحٍ، والإيمانِ باللهِ وبه، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}. يعنى: لأهلِ المَسْكَنةِ مِن تُبَّاعِ صالحٍ، والمؤمنين به منهم، دونَ ذَوِى شرفِهم، وأهلِ السُّؤْدَدِ منهم:{أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} . أَرْسَله اللهُ إلينا وإليكم؟ قال الذين آمَنوا بصالحٍ مِن المستَضَعَفين منهم: إنَّا بما أَرْسَل اللهُ به صالحًا مِن الحقِّ والهدى مؤمنون. يقولُ: مُصَدِّقون، مُقِرُّون أَنه مِن عندِ اللهِ، وأن الله أمَره

(2)

به، وعن أمرِ الله دعانا صالحٌ إليه،

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عن أمرِ اللهِ وأمرِ رسولِه صالحٍ: {إِنَّا} أَيُّها القومُ {بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . يقولُ: صدَّقْتُم به مِن نبوةِ صالحٍ، وأن الذي جاء به حقٌّ مِن عندِ اللهِ، {كَافِرُونَ}. يقولُ: جاحِدون مُنْكِرون، لا نُصَدِّقُ به ولا نُقِرُّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فعقَرت ثمودُ [ناقةَ اللهِ]

(3)

التي جعَلها

(4)

لهم آيةً،

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 299.

(2)

في م، ت 2:"أمر".

(3)

في م، ت 3:"الناقة".

(4)

بعده في م، ت:"الله".

ص: 300

{وَعَتَوْا عَنْ أَمرِ رَبِّهِمْ} . يقولُ: تَكَبَّروا وتَجَبَّروا عن اتِّباعِ اللَّهِ، [واسْتَعْلَوْا]

(1)

عن الحقِّ.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَعَتَوْا}

(2)

: عن الحقِّ لا يُبصِرون

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال قال مجاهدٍ:{عَتَوْا عَنْ أَمرِ رَبِّهِمْ} : غَلَوْا

(4)

في الباطلِ.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَعَتَوْا عَنْ أَمرِ رَبِّهِمْ} [الذاريات: 44]. قال: عتَوْا في الباطلِ، وترَكوا الحقَّ.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَعَتَوْا عَنْ أَمرِ رَبِّهِمْ} . قال: عَلَوْا (2) في الباطلِ

(5)

.

وهو مِن قولِهم: جبّارٌ عاتٍ. إذا كان غاليًا

(6)

في تجبُّرِه.

{وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} . يقولُ: قالوا: جِئْنا

(7)

يا صالحُ بما تَعِدُنا مِن عذابِ اللهِ ونقمتِه؛ اسْتِعْجالًا منهم للعذابِ {إِنْ كُنْتَ مِنَ

(1)

في ت 1: "فاستغلوا"، وفى ت 3:"واشتغلوا"، وفى ف:"واستغلوا".

(2)

بعده في م: "علوا".

(3)

في م: "يبصرونه"، وفى ف:"ينصرونه".

(4)

في م: "علوا".

(5)

تفسير مجاهد ص 339، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1515 (8681، 8683)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 99 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(6)

في م: "عاليا".

(7)

في ت 3، ف:"أجئتنا".

ص: 301

الْمُرْسَلِينَ}. يقولُ: إن كنتَ لله رسولًا إلينا، فإن اللَّهَ يَنْصُرُ رسلَه على أعدائِه. فعجَّل ذلك لهم كما اسْتَعْجَلوه، يقولُ جلَّ ثناؤُه:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فأخذَت الذين عقَروا الناقةَ مِن ثمودَ الرجفةُ، وهى الصيحةُ.

والرجفةُ الفَعْلةُ، مِن قولِ القائلِ: رجَف بفلانٍ كذا، يَرْجُفُ رَجُفًا، وذلك إذا حرَّكه وزعْزَعه، كما قال الأَخْطَلُ

(1)

:

إِمَّا تَرَيْنِي حَناني الشَّيْبُ مِن كِبَرِ

كالنَّسْرِ أَرْجُفُ والإِنسانُ مَهْدودُ

وإنما عنَى بالرجْفةِ هاهنا الصيحةَ التي زَعْزَعَتهم وحرَّكَتهم للهلاكِ؛ لأن ثمودَ هلَكت بالصيحةِ فيما ذكَر أهلُ العلمِ.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{الرَّجْفَةُ} . قال: الصيحةُ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن

(1)

شرح ديوانه ص 95.

(2)

تفسير مجاهد ص 339، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1516 (8687)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 99 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

ص: 302

مجاهد مثله.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّيِّ:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : وهى الصيحةُ.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} . قال: الصيحةُ.

وقولُه: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . يقولُ: فَأَصْبَح الذين أَهْلَكَ اللَّهُ من ثمودَ {فِي دَارِهِمْ} يعنى: في أرضِهم التي هلَكوا فيها وبلدتهم.

ولذلك وحَّد "الدارَ" ولم يَجْمَعُها، فيقولُ: في دُورِهم. وقد يجوزُ أن يكونَ أريدَ بها الدورُ، ولكنْ وجَّه بالواحدةِ إلى الجمعِ، كما قيل:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2].

وقولُه: {جَاثِمِينَ} . يعنى: سقوطًا صرعَى لا يتحرَّكون؛ لأنهم لا أرواحَ فيهم، قد هلَكوا. والعربُ تقولُ للباركِ على الركبةِ: جاثمٌ. ومنه قولُ جريرٍ

(1)

:

عرَفْتُ المُنْتَأَى

(2)

وعرَفْتُ منها

مَطايَا القِدْرِ كالحِدأِ الجُثُومِ

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . قال: ميِّتِين

(3)

.

(1)

ديوانه 1/ 217.

(2)

المُنتَأى: الحفرة حول الخباء لئلا يدخله ماء المطر. اللسان (ن أ ى).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1516 (8689) من طريق أصبغ، عن ابن زيد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 99 إلى أبى الشيخ.

ص: 303

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فأدْبَر صالحٌ عنهم حينَ اسْتَعْجَلوه العذابَ وعقَروا ناقةَ اللهِ - خارجًا عن أرضِهم مِن بين أظهُرِهم؛ لأن الله تعالى ذكرُه أَوْحَى إليه: إنِّي

(1)

مُهْلِكُهم بعدَ ثالثةٍ

(2)

.

وقيل: إنه لم تَهْلِكُ أُمَّةٌ ونبيُّها بينَ أظهُرِها. فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه عن خروجِ صالحٍ مِن بين قومِه الذين عتَوْا على ربِّهم، حينَ أراد اللهُ إحلالَ عقوبتِه بهم، فقال:{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} صالحٌ، وقال لقومِه ثمودَ:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} وأدَّيْتُ إليكم ما أمَرنى بأدائِه إليكم ربِّي، من أمرِه ونهيهِ، {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} في أدائِى رسالةَ اللهِ إليكم في تحذيرِكم بأسَه، بإقامتِكم على كفرِكم به، وعبادتِكم الأوثانَ، {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} لكم في اللهِ، الناهِين لكم عن اتِّباعِ أهوائكم، الصادَّين لكم عن شهَواتِ أنفسكم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولقد أَرْسَلْنا لوطًا [إذ قال لقومِه]

(3)

. ولو قيل: معناه: واذْكُرْ لوطًا يا محمدُ إذ قال لقومِه - إذ لم يَكُنْ في الكلامِ صلةُ الرسالةِ، كما كان في ذكرِ عادٍ وثمودَ - كان مذهبًا.

(1)

في ف، ص، ت 1، س:"أنه".

(2)

في م: "ثلاثة".

* من هنا يبدأ الجزء العشرون من نسخة جامعة القرويين، والمشار إليه بالأصل.

(3)

سقط من: م.

ص: 304

وقولُه: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} . يقولُ: حينَ قال لقومِه مِن سَدُومَ

(1)

، وإليهم كان أُرْسِل لوطٌ:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} . وكانت فاحشتُهم التي كانوا يَأْتُونها، التي عاقَبَهم اللهُ عليها إتيانَ الذُّكْرانِ، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}. يقولُ: ما سبَقَكم بفعلِ هذه الفاحشةِ أحدٌ مِن العالَمين.

وذلك كالذى حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا إسماعيلُ ابن عُليةَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عمرِو بن دينارٍ قولَه:{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} . قال: ما نَزَا

(2)

ذَكَرٌ على ذَكَرٍ، حتى كان قومُ لوطٍ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} .

يُخْبِرُ بذلك جلَّ ثناؤُه عن لوطٍ أنه قال لقومِه؛ توبيخًا منه لهم على فعلِهم: إنكم أيُّها القومُ لَتَأْتُون الرجالَ في أدبارهم شهوةً منكم لذلك مِن دونِ الذي أباحه اللهُ لكم وأحَلَّه مِن النساءِ، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}. يقولُ: إنكم لَقومٌ تَأْتُون ما حرَّم اللهُ عليكم، وتَعْصُونه بفعلِكم هذا. وذلك هو الإسرافُ في هذا الموضعِ.

والشهوةُ الفَعْلةُ، وهى مصدرٌ مِن قولِ القائل: شَهِيتُ هذا الشيءَ أشْهاه شَهوةً. ومِن ذلك قولُ الشاعرِ

(4)

:

وأشْعَثَ يَشْهَى النومَ قلتُ له ارْتَحِلْ

إذا ما النجومُ أَعْرَضَتْ واسْبَطَرَّتِ

(5)

(1)

سَدُوم: بلدة من أعمال حلب. معجم البلدان 3/ 59.

(2)

في ص، ت 1، س، ف:"نرى"، وفي م:"رؤى".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 295، وأخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (159) - ومن طريقه البيهقي في الشعب (5400)، وابن عساكر في تاريخه 50/ 319 - والآجرى في تحريم اللواط (1) من طريق إسماعيل ابن علية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 100 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

هو الحطيئة، والبيتان في ديوانه ص 341.

(5)

اسبطرت: امتدت. تاج العروس (سَبْطَرَ).

ص: 305

فقام يَجُرُّ البُرْدَ

(1)

لو أن نفسَه

يُقالُ له خُذْها بكفَّيْك خرَّتِ

(2)

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وما كان جوابَ قومِ لوطٍ للوطٍ، إذ وبَّخهم على فعلِهم القبيحِ، ورُكوبِهم ما حرَّم اللهُ عليهم مِن العملِ الخبيثِ، إلا أن قال بعضُهم لبعضٍ: أخْرِجوا لوطًا وابنتَيه

(3)

. ولذلك قيل: {أَخْرِجُوهُمْ} . فجمَع، وقد جرَى قبلُ ذكرُ لوطٍ وحدَه دونَ غيرِه.

وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ إنما جمَع بمعنى. أَخْرِجوا لوطًا ومن كان على دينِه مِن قريتِكم. فاكْتُفى بذكرِ لوطٍ في أولِ الكلامِ مِن ذكرِ تُبّاعِه، ثم جمَع في آخرِ الكلامِ، كما قيل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1].

وقد بيَّنا نظائرَ ذلك فيما مضَى، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(4)

.

{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . يقولُ: إن لوطًا ومَن تبِعه أناسٌ يَتَنَزَّهون عما نَفْعَلُه نحن مِن إتيانِ الرجالِ في الأدْبارِ.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا هائىُ بنُ سعيدٍ النَّخَعيُّ، عن الحجاجِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: مِن أدبارِ

(1)

في الديوان: "الثوب".

(2)

في ص، م، ف:"جرت".

(3)

في ص، م، ت 3، س، ف:"أهله".

(4)

ينظر ما تقدم في 2/ 404 - 406.

ص: 306

الرجالِ وأدبارِ النساءِ

(1)

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن مجاهدٍ:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} : مِن أدبارِ الرجالِ وأدبارِ النساءِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: حمادٌ، عن الحجاجِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: يَتَطَهَّرون مِن أدبارِ الرجالِ والنساءِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الحسنُ بنُ عُمارةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: مِن أدبارِ الرجالِ، ومِن أدبارِ النساءِ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: يَتَحَرَّجون

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . يقولُ: عابُوهم بغيرِ عَيْبٍ، وذمُّوهم بغير ذمٍّ

(4)

.

‌القول في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا أبىَ قومُ لوطٍ مع توبيخٍ لوطٍ إياهم على ما يَأْتون مِن

(1)

تفسير مجاهد ص 339، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1518 (8699) بزيادة: استهزاء بهم، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 100 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 100 إلى عبد الرزاق وابن المنذر.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1518 (8700) من طريق أحمد بن مفضل به.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 83 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 100 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 307

الفاحشةِ، وإبلاغِه إياهم رسالةَ ربِّه، بتحريمِ ذلك عليهم، إلا التمادىَ في غَيِّهم، أنْجَيْنا لوطًا وأهلَه المؤمنين به

(1)

، إلا امرأتَه، فإنها كانت للوطٍ خائنةً، وباللهِ كافرةً.

وقولُه: {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} . يقولُ: مِن الباقِين.

وقيل: {مِنَ الْغَابِرِينَ} . ولم يَقُل: مِن الغابراتِ؛ لأنه أُريدَ

(2)

أنها ممن بقِى مع الرجالِ، فلما ضَمَّ ذكرَها إلى ذكرِ الرجالِ، قيل:{مِنَ الْغَابِرِينَ} .

والفعلُ منه: غَبَر يَغْبُرُ غُبُورًا وغَيْرًا، وذلك إذا بقِى. كما قال الأَعْشَى

(3)

.

عضَّ بما أبْقَى المَوَاسِى

(4)

له

مِن أَمَةٍ في الزمنِ الغابِرِ

وكما قال الآخرُ:

(5)

وأَبى الذي فتَح البلادَ بسيفِه

فأذَلَّها لبنى أبانِ

(6)

الغابرِ

يعني: الباقى.

فإن قال قائلٌ: أفكانت

(7)

امرأةُ لوطٍ ممَّن نجا مِن الهلاكِ الذي هلَك به قومُ لوطٍ؟

قيل: لا، بل كانت في من هلَك.

فإن قال: فكيف قيل: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} . وقد قلتَ:

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

في ص، ف، م، ت 3:"يريد".

(3)

ديوانه ص 145.

(4)

المَواسى جمع مُوسى: الحديد. اللسان (و س ى).

(5)

هو يزيد بن الحكم بن أبى العاص الثقفى، والبيت في خزانة الأدب 1/ 114.

(6)

في الخزانة: "الزمان".

(7)

في ص، م، ت 3، ف:"فكانت".

ص: 308

إن معنى الغابرِ الباقى؟ فقد وجب أن تكونَ قد بقِيَت؟

قيل: إن معنى ذلك غيرُ الذي ذهَبْتَ إليه، وإنما عُنِى بذلك: إلا امرأتَه كانت من الباقِين قبلَ الهلاكِ، والمُعَمَّرِين الذين قد أتَى عليهم دهرٌ طويلٌ

(1)

، ومرَّ بهم زمنٌ كبيرٌ

(2)

، حتى هرِمَت في من هرِم مِن الناسِ، فكانت ممنَّ

(3)

غَبرَ الدهرَ الطويلَ قبلَ هلاكِ القومِ، فهلَكت مع مَن هلَك مِن قومِ لوطٍ حينَ جاءهم العذابُ.

وقيل: معنى ذلك: مِن الباقين

(4)

في عذابِ اللهِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171]: في

(5)

عذابِ اللهِ

(6)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: وأَمْطَرْنا على قومِ لوطٍ الذين كذَّبوا لوطًا ولم يُؤْمِنوا به، مطَرًا مِن حجارةٍ من سِجِّيلٍ أهْلَكْناهم به، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فانْظُرْ يا محمدُ إلى عاقبةِ هؤلاء الذين كذَّبوا اللَّهَ ورسولَه مِن قومِ لوطٍ، فاجْتَرَموا معاصىَ اللهِ، وركِبوا الفَواحشَ، واسْتَحَلُوا ما حرَّم

(1)

في ص: "كثير"، وفى م:"كبير".

(2)

في م، ف:"كثير".

(3)

في ف: "مع من".

(4)

في ت 2: "الغابرين".

(5)

في مصادر التخريج: "في الباقين في".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1519 (8703) عن محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 233 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 100 إلى عبد بن حميد.

ص: 309

اللَّهُ مِن أدبارِ الرجالِ، كيف كانت؟ وإلى أيِّ شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البَوارَ والهلاكَ؟ فإن ذلك أو نظيرَه مِن العقوبةِ عاقبةُ مَن كَذَّبك، واسْتَكْبَر عن الإيمانِ باللهِ وتصديقِك، إن لم يَتوبوا مِن قومِك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)} .

يقولُ تعالى ذكره: وأَرْسَلْنا إلى ولدِ مَدْيَنَ، ومَدْيَنُ: هم ولدُ مَدْيَانَ

(1)

بن إبراهيمَ خليلِ الرحمنِ.

فيما حدَّثنا به ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ

(2)

.

فإن

(3)

كان الأمرُ كما قال، فـ "مَدْيَنُ" قبيلةٌ كتَميمٍ وأَسَدٍ

(4)

.

وزعَم أيضًا ابن إسحاق أن شُعَيبًا الذي ذكَر اللَّهُ أَنه أَرْسَله إليهم مِن ولدِ مَدْيَانَ (1) هذا، وأنه شعيبُ بنُ ميكيلَ بن يشجنَ

(5)

، قال: واسمُه بالسَريانية بثرون

(6)

.

(1)

في م: "مدين".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 309.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"قال".

(4)

سقط من: ص، م، ت 3، ف.

(5)

في ص، ت 1، ف:"يسحن"، وفى ت 3:"يسحر"، وفى س:"سحن"، وفى م:"يشجر". وينظر البداية والنهاية 1/ 427.

(6)

في الأصل: "يثروب"، وغير منقوطة في ص، ت 2، وفى ت 1، س:"سروب"، وفى ت 3:"بتروب"، وينظر البداية والنهاية 1/ 427.

ص: 310

فتأويلُ الكلامِ على ما قال ابن إسحاقَ: ولقد أَرْسَلْنا إلى ولدِ مَدْيَنَ أَخاهم شعيبَ بنَ ميكيلَ، يَدْعُوهم إلى طاعةِ اللهِ، والانتهاءِ إلى أمرِه، وتركِ السعى في الأرضِ بالفسادِ، والصدِّ عن سبيلِه، فقال لهم شعيبٌ: يا قومِ، اعْبُدوا الله وحدَه لا شريكَ له، ما لكم مِن إِلهٍ يَسْتَوْجِبُ عليكم العبادةَ غيرُ الإلهِ الذي خلَقكم، وبيدِه نفعُكم وضَرُّكم، {قَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. يقولُ: قد جاءتكم علامةٌ وحجةٌ مِن اللهِ بحقيقةِ ما أَقولُ، وصدقِ ما أَدْعُوكم إليه، {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} يقولُ: أتِمُّوا للناسَ حقوقَهم بالكيلِ الذي تَكِيلون به، وبالوزنِ الذي تَزنِون لهم

(1)

به، [{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}. يقولُ: ولا تَظْلِموا الناسَ حقوقَهم]

(2)

، ولا تَنْقُصوهم إياها.

ومِن ذلك قولُهم: تَحْسَبُها حَمْقاءَ وهى باخِسةٌ

(3)

. بمعنى: ظالمةٌ. ومنه قولُ اللهِ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]. يعنى به: ردئٍ.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} . يقولُ: لا تَظْلِموا الناسَ أشياءَهم

(4)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَلَا تَبْخَسُوا

(1)

سقط من: م.

(2)

سقط من: ص ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

مجمع الأمثال 1/ 217، وهو مثل يضرب لمن يتبالَهُ وفيه دهاء.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1520 عقب الأثر (8708) من طريق عمرو، عن أسباط به

ص: 311

النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}. يقولُ: لا تَظْلِموا الناسَ أشياءَهم

(1)

.

وقولُه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} . يقولُ: ولا تَعْمَلُوا في أرضِ اللهِ بمَعاصِيه، وما كنتم تَعْمَلونه قبلَ أن يَبْعَثَ اللَّهُ إليكم

(2)

نبيَّه مِن عبادةِ غيرِ اللهِ، والإشراكِ به، وبَخْسِ الناسِ في الكيلِ والوزنِ، {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}. يقولُ: بعدَ أن قد أصْلَح اللهُ الأرضَ بابتعاثِ النبي صلى الله عليه وسلم فيكم، يَنْهاكم عما لا يَحِلُّ لكم

(3)

وما يَكْرَهُه اللهُ لكم.

{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} . يقولُ: هذا الذي ذكَرْتُ لكم، وأمَرْتُكم به مِن إخلاصِ العبادةِ للهِ وحدَه لا شريكَ له، وإيفاءِ الناسِ حقوقَهم مِن الكيلِ والوزنِ، وتركِ الفسادِ في الأرضِ، خيرٌ لكم في عاجلِ دُنْياكم، وآجلِ آخرتِكم عندَ اللهِ يومَ القيامةِ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. يقولُ: إن كنتم مُصَدِّقيَّ فيما أقولُ لكم، وأُؤَدِّي إليكم عن اللهِ مِن أمرِه ونهيِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} : ولا تَجْلِسوا بكلِّ طريقٍ، وهو الصراطُ، تُوعِدون المؤمنين بالقتلِ.

وكانوا فيما ذُكِر يَقْعُدون على طريقِ مَن قصَد شعيبًا وأراده ليُؤْمِنَ به،

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

في ت 1، ت 2، ف:"عليكم".

(3)

سقط من: الأصل.

ص: 312

فيَتَوَعَّدونه ويُخَوِّفونه ويقولون: إنه كذابٌ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} . قال: كانوا يُوعِدون مَن أتَى شعيبًا وغشِيَه فأراد الإسلام

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} : والصراطُ الطريقُ، يُخَوِّفون الناسَ أن يَأْتُوا شعيبًا

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: كانوا يَجْلِسون في الطريقِ فيُخْبِرون مَن أتَى عليهم أن شعيبًا النبي صلى الله عليه وسلم كذَّابٌ، فلا يَفْتِنَنَّكم

(3)

عن دينِكم

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قولِ اللهِ تعالى:{بِكُلِّ صِرَاطٍ} . [قال: طريقٍ]

(5)

، {تُوعِدُونَ}: بكلِّ سبيلِ حقٍّ

(6)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثني أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن

(1)

تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1521 (8713، 8715) عن محمد بن سعد به.

(3)

ف ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يفتنكم".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر.

(5)

سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(6)

تفسير مجاهد ص 339، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1524 (8714)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 313

مجاهدٍ نحوَه.

حدّثنى محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} : كانوا يَقْعُدون [بكلِّ طريقٍ]

(1)

يُوعِدون المؤمنين

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حميدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن قيسٍ، عن السديِّ:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} . قال: العَشَّارون

(3)

.

حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ، عن أبي هريرةَ أو غيرِه -[شكَّ أبو جعفرٍ الرازيُّ]

(4)

- قال: أتَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع ليلةَ أُسْرِى به على خشبةٍ على الطريقِ، لا يَمُرُّ بها ثوبٌ إلا شقَّتْه، ولا شيءٌ إلا خرَقَتْه، قال:"ما هذا يا جبريلُ؟ " قال: هذا مَثَلُ أقوامٍ مِن أُمَّتِكَ يَقْعُدون على الطريقِ فيقطعونه. ثم تلا

(5)

: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}

(6)

.

وهذا الخبرُ الذي ذكَرْناه عن أبي هريرةَ يَدُلُّ على أن معناه كان عندَ أبى هريرةَ أن نبيَّ اللهِ شعيبًا إنما نهَى قومَه بقولِه: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} : عن قطعِ الطريقِ، وأنهم كانوا قُطَّاعَ الطريقِ.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"على طريق"، وفى م:"على كل طريق"، وفي ف:"على الطريق".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1521 (8716) من طريق أحمد بن المفضل به.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى المصنف وابن أبي حاتم وأبى الشيخ بلفظ: "العاشر".

(4)

في الدر المنثور: "شك أبو العالية".

(5)

في الأصل: "قرأ".

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى المصنف.

ص: 314

وقيل: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} . ولو قيل في غيرِ القرآنِ: لا تَقَعُدوا في كلِّ طريقٍ

(1)

. كان جائزًا فصيحًا في الكلامِ، وإنما جاز ذلك لأن الطريقَ ليس بالمكانِ المعلومِ، فجاز ذلك كما جاز أن يقالَ: قعَد له بمكان كذا، وعلى مكانِ كذا، وفى مكانِ كذا.

وقال: {تُوعِدُونَ} . ولم يَقُلْ: تَعِدُون؛ لأن العربَ كذلك تَفْعَلُ فيما أبْهَمَت ولم تُفْصِحُ به مِن الوعيدِ، تقولُ: أَوْعَدْته - بالألف - وتقدَّم منى إليه وعيدٌ. فإذا بيَّنت عما أوْعَدَت وأفْصَحَت به، قالت: وعَدته خيرًا، ووعَدته شرًّا. بغيرِ ألفٍ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72].

وأما قولُه: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} . فإنه يقولُ: وتَرُدُّون عن طريقِ اللهِ، وهو الردُّ عن الإيمانِ باللهِ، والعملِ بطاعتِه {مَنْ آمَنَ بِهِ}. يقولُ: تَرُدُّون عن طريقِ اللهِ مَن صدَّق باللهِ ووحَّدَه، {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}. يقولُ: وتَلْتَمِسون مَن

(2)

سلَك سبيلَ اللَّهِ وآمَن به وعمِل بطاعتِه عِوَجًا عن القصدِ والحقِّ، إلى الزَّيْعُ

(3)

والضلالِ.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: أهلَها، {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} . تَلْتَمِسون لها الزيغَ

(4)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"صراط".

(2)

في ص، م:"لمن".

(3)

في الأصل: "الريع".

(4)

في الأصل: "الريع".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1521، 1522 (8720، 8722) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 315

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نجَيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} . قال: تَبْغون السبيلَ عوجًا عن الحقِّ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَتَصُدُّونَ} : [مَن آمَنْ]

(2)

{عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : عن الإسلامِ تَبْغون السبيلَ، {عِوَجًا} . هلاكًا

(3)

.

وقولُه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} . يُذَكِّرُهم شعيبٌ نعمةَ اللهِ عندَهم بأن كثَّر جماعتَهم بعدَ أن كان

(4)

قليلًا عددُهم، وأن رفَعهم مِن الذِّلةِ والخَساسةِ، يقولُ لهم: فاشْكُروا الله الذي أنْعَم عليكم بذلك، وأخْلِصوا له العبادَة، واتَّقُوا عقوبتَه بالطاعةِ، واحْذَروا نقمتَه بتركِ المعصيةِ، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. يقولُ: وانْظُروا ما نزَل بمَن كان قبلَكم مِن الأممِ حينَ عتَوا على ربِّهم، وعصَوْا، رسلَه، مِن المَثُلاتِ والنَّقِماتِ، وكيف وجَدوا عُقْبَى عِصْيانِهم إياه؟ ألم يُهْلَك بعضُهم غرقًا بالطوفانِ؟ وبعضُهم رجمًا بالحجارةِ، وبعضُهم بالصَّيْحةِ؟

والإفسادُ في هذا الموضعِ معناه معصيةُ اللهِ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1522 (8721، 8723) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 233 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى أبى الشيخ.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1521، 1522 (8718، 8724، 8724) من طريق أحمد بن المفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 102 إلى أبى الشيخ.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كانوا".

ص: 316

‌القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} .

يعنى بقولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ} : وإن كانت جماعةٌ منكم وفرقةٌ {آمَنُوا} . يقولُ: صدَّقوا {بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} من إخلاصِ العبادةِ للهِ، وتركِ مَعاصيه، وظلمِ الناسِ، وبَخسِهم في المكايِيلِ والموازينِ، فاتَّبَعونى على ذلك. {وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا}. يقولُ: وجماعةٌ أُخرى

(1)

لم يُصَدِّقوا بذلك، ولم يَتَّبِعونى عليه، {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا}. يقولُ: فاحْتَبِسوا على قضاءِ اللَّهِ الفاصلِ بينَنا وبينَكم، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. يقولُ: واللهُ خيرُ مَن يَفْصِلُ، وأعْدَلُ مَن يَقْضِى؛ لأنه لا يَقَعُ في حكمِه مَيْلٌ إلى أحدٍ، ولا محاباةٌ لأحدٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)} .

يقولُ تعالى ذِكْرُه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} - يعنى بـ {الْمَلأُ} : الجماعةَ من الرِّجال، ويعنى بـ {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}: الذين تَكَبَّروا عن الإيمانِ باللهِ، والانْتِهاءِ إلى أمرِه، واتباعِ رسولِه شُعَيْبٍ، لمَّا حَذَّرَهم شعيبٌ بأسَ اللهِ على خلافِهم أمرَ رَبِّهم وكُفْرِهِم بِهِ -:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ} ومَن تَبِعك وصدَّقَك وآمَن بك وبما جِئْتَ به معكَ من قريتِنا، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. يقولُ: أو

(2)

لترجِعَنَّ أنتَ وهم في دينِنا ومَا نحنُ عليه. قال شعيبٌ مُجيبًا لهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} ؟.

(1)

سقط من: الأصل.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، س، ف.

ص: 317

ومعنى الكلامِ أنَّ شُعَيْبًا قال لقومِه: أَتُخْرِجونَنَا مِن قَرْيَتِكم، وتَصُدُّونَنَا عن سبيلِ اللهِ، ولو كنا كارهين لذلك؟. ثم أُدْخِلَت ألفُ الاستفهامِ على واوِ (وَلَوْ)

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال شعيبٌ لقومِه إذ دَعَوْه إلى العودِ في

(2)

مِلَّتِهم والدخولِ فيها، وتَوَعَّدوه بطرْدِه ومَن تَبِعه مِن قريتِهم إن لم يَفْعَلْ ذلك هو وهم -:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} . يقولُ: قد اخْتَلَقْنا على اللَّهِ كَذِبًا وَتَخَرَّصْنا عليه مِن القولِ باطلًا، إن نحن عُدْنا في مِلَّتِكم فرَجَعْنا فيها بعدَ إِذ أَنقَذَنا اللهُ منها، بأن بصَّرَنا خطأَها وصوابَ الهُدَى الذي نحنُ عليه، وما يكون لنا أَنْ نَرْجِعَ فِيها فَنَدِينَ بها ونَتْرُكَ الحقَّ الذي نحنُ عليه، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}: يقولُ: إلا أن يكونَ سبَق لنا في علمِ اللهِ أنَّا نعودُ فيها، فيَمْضِىَ فينا حينئذٍ قضاءُ اللَّهِ، وتَنْفُذَ مشيئتُه علينا، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}. يقولُ: فإِنَّ عِلْمَ رَبَّنَا وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ فأحاطَ به، فلا يَخْفَى عليه شيءٌ كان، ولا شيءٌ هو كائنٌ، فإن يكنْ سبَق لنا في علمِه أنّا نعودُ في مِلَّتِكم

(3)

، فلا بُدَّ مِن أن يكونَ ما قد سبَق في علمِه، وإِلَّا فإِنَّا غيرُ عائدين في مِلَّتِكم.

(1)

في م: "أولو".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إلى".

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن".

ص: 318

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُدَّيِّ:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . يقولُ: ما ينبغى لنا أن نعودَ في شركِكم بعدَ إذ نجّانا اللهُ منها، إلَّا أن يشاءَ اللَّهُ ربُّنا، فاللَّهُ لا يشاءُ الشركَ، ولكن يقولُ: إلَّا أن يكونَ اللهُ قد علِم شيئا، فإنَّه وسع كلَّ شيءٍ عِلْمًا

(1)

.

وقولُه: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} . يقولُ: على اللهِ نعتمِدُ في أمرِنا

(2)

، وإليه نَسْتَنِدُ فيما تَعِدوننا به مِن شرِّكم

(3)

أيها القومُ، فإنَّه الكافي مَن تَوَكَّل عليه.

ثم إنه فزِع صلى اللهُ عليه إلى ربِّه عز وجل بالدعاءِ على قومِه، إذ أَيِس مِن فَلاحِهم، وانقطع رجاؤُه مِن إِذْعانِهم للهِ بالطاعةِ والإقرارِ له بالرِّسالة، وخافَ على نفسِه وعلى مَن تَبِعَهُ مِن مُؤْمِنى قَوْمِهِ مِن فَسَقَتِهم العطبَ والهلكةَ - بتعجيلِ النقمةِ، فقال:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . يقولُ: احْكُم بينَنا وبينَهم بحُكْمِكَ الحقِّ الذي لا جورَ فيه ولا حَيْفَ ولا ظلمَ، ولكنَّه عدلٌ وحقٌّ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}. يعني: خيُر الحاكمين.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1523 (8729 - 8731) من طريق أحمد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى أبى الشيخ.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أمورنا".

(3)

في م: "شرككم"، وفى ف:"شركهم".

ص: 319

ذكَر الفراءُ

(1)

أنَّ أهلَ عُمانَ يُسمّون القاضىَ الفاتحَ والفتاحَ.

وذكَر غيرُه مِن أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ

(2)

أنَّه مِن لُغةِ مرادٍ، وأنشَد لبعضِهم بيتًا وهو

(3)

:

أَلَا أَبْلِغْ بنى عُصْمٍ رسولًا

فإني عن فُتاحتِكم غَنِيُّ

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأْويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وَكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن مسْعَرِ، عن قتادةَ، عن ابن عباسٍ، قال: ما كنتُ أدْرِى ما قولُه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . حتى سمِعتُ بنتَ

(4)

ذِي يَزَنَ تقولُ: تعالَ أُفَاتِحَكَ. يعنى: أُقاضِيكَ

(5)

.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . يقولُ: اقضِ بينَنا وبينَ قومِنا

(6)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا ابن

(7)

دُكَينٍ، قال: ثنا مسْعَرٌ، قال: سمِعتُ قتادةَ يقولُ: قال ابن عباسٍ: ما كنتُ أدرى ما قولُه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا

(1)

في معاني القرآن 1/ 385.

(2)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 220، 221.

(3)

تقدم في 2/ 150.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ابنة".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 529، 10/ 474 عن وكيع به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1523 (8733)، والبيهقى في الأسماء والصفات (107) من طريق مسعر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى ابن الأنبارى في الوقف والابتداء. وقتادة لم يسمع من ابن عباس كما تقدم عن المصنف في 1/ 61.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1523 (8734) من طريق عبد الله به.

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أبو".

ص: 320

وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}. حتى سمِعتُ ابنةَ ذِي يزن تقولُ: تَعَالَ أُفَاتِحُكَ.

حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُعاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . أي: اقضِ بينَنا وبيَن قومِنا بالحقِّ.

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: ثنا معمرٌ، عن قتادةَ:{افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} : [اقضِ بينَنا وبينَ قومِنا بالحقِّ]

(1)

.

حدثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أما قولُه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا} . فيقولُ: احْكُمْ بينَنا.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال الحسنُ البصريُّ: {افْتَحْ} : الحكمُ

(2)

: احْكُمْ بينَنا وبينَ قومِنا، و {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]: حكَمْنا لكَ حُكْمًا مُبينًا.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {افْتَحْ} : اقضِ.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن الزبيرِ، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن قتادةَ، عن ابن عباسٍ، قال: لم أكنْ أدرِى ما: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . حتى سمِعْتُ بنتَ

(3)

ذى يَزَنَ تقولُ لزوجِها: انطلِقْ أُفَاتِحَكَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)} .

(1)

زيادة من: م. والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 233 عن معمر به.

(2)

سقط من: م.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ابنة".

ص: 321

يقولُ تعالى ذِكْرُه: وقالت الجماعةُ مِن كَفَرَةِ رِجالِ قومِ شعيبٍ - وهم الملأُ الذين جَحَدوا آياتِ اللهِ، وكذَّبُوا رسولَه، وتمادَوا في غَيِّهم - لآخرينَ مِنهم: لئن أنتم اتَّبَعْتم شعيبًا على ما يقولُ، وأَجَبْتُموه إلى ما يَدْعوكم إليه مِن تَوْحِيدِ اللهِ، والانْتِهاءِ إلى أمرِه ونهيِه، وأَقْرَرْتم بنُبُوَّتِه - {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}. يقولُ جل ثناؤُه: لَمَغبونون في فِعْلِكم وتَرْكِكُم مِلَّتكم التي أنتم عليها مقيمون، إلى دينِه الذي يَدْعوكم إليه، وهالكون بذلك من فِعْلِكم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)} .

يقولُ: فأَخَذتِ الذين كفروا مِن قوم شعيبٍ الرجفةُ - وقد بيَّنتُ معنى الرجفةِ قبلُ

(1)

، وأنَّها الزلزلةُ المتحرِّكةُ

(2)

لعذابِ اللهِ - فأهْلَكتهم

(3)

، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: على رُكَبِهم مَوْتَى هَلْكَى.

وكان صفةُ العذابِ الذي أهْلَكَهم اللهُ به كما حدثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} . قال: إِنَّ اللَّهَ بِعَث شعيبًا إلى مَدْيَنَ وإلى أصحابِ الأَيْكَةِ - والأيكةُ هي الغَيْضَةُ مِن الشَّجَرِ - وكانوا مع كفرِهم يبخَسُون الكيلَ والوزنَ، فدعاهم فكذَّبوه، فقال لهم ما ذكَر اللهُ في القرآنِ، وما ردُّوا عليه، فلمّا عَتَوا وكذّبوه سأَلوه العذابَ، ففتَح اللهُ عليهم بابًا مِن أبواب جَهَنَّمَ، فَأَهْلَكَهم الَحُرّ منه، فلم يَنْفَعْهم ظلٌّ ولا ماءٌ، ثم إنه بعَث سحابَةً فيها ريحٌ طَيِّبَةٌ، فوجدوا بردَ الريح وطِيبَها، فتنادَوا: الظُّلَّةَ، عليكم بها. فلما اجتمَعوا تحتَ السحابةِ رِجالُهم ونِساؤُهم وصبيانُهم، انطبقَت

(1)

ينظر ما تقدم في ص 302، 303.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"المحركة".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 322

عليهم فأَهْلَكَتْهم، فهو قولُه:{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}

(1)

[الشعراء: 189].

حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: كان مِن قِصَّةِ خبرِ شعيبٍ وخبِر قومِه ما ذكَر اللهُ في القرآنِ، كانوا أهلَ بَخْسٍ للناسِ في مكاييلِهم وموازينِهم، مع كفرِهم باللهِ وتكذيبِهم نبيَّهم، وكان يَدْعُوهم إلى اللَّهِ جل ثناؤُه وعبادتِه

(2)

، وتركِ ظلمِ الناسِ وبَخْسِهم في مكاييلِهم وموازينِهم، فقال نُصْحًا لهم، وكان صادقًا:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. قال ابن إسحاقَ: فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما ذكَر لى يعقوبُ بنُ أبى سلمةَ - إذا ذكَره

(3)

، قال: "ذَاكَ

(4)

خَطِيبُ الأَنْبِياءِ". لحُسْنِ مُراجَعَتِه قومَه فيما يُرادُّهم

(5)

. فلما كذَّبوه وتوعَّدوه بالرَّجْمِ والنَّفْى مِن بلادِهم، وعَتَوا على اللَّهِ، أَخَذهم عذَابُ يومِ الظُّلَّةِ، إنه كان عذابَ يومٍ عظيمٍ. فبلغنى أنَّ رجلًا من أهلِ مدينَ يُقالُ له: عمرُو بنُ جَلْهَاءَ. لما رآها قال:

يا قَوْمِ إِنَّ شعيبًا مُرْسَلٌ فذروا

عنكم سُمَيْرًا وَعِمْرَانَ بنَ شَدّادِ

إنِّي أَرَى غَبْيَةً

(6)

يا قومِ قد طلَعت

تَدْعُو بِصَوْتٍ عَلَى صَمَّانَةِ

(7)

الوادِى

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 93 إلى ابن المنذر، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1519 (8705، 8706) من طريق أحمد بن مفضل به إلى قوله: سألوه العذاب.

(2)

في م: "عبادتهم".

(3)

في م: "ذكر شعيبا".

(4)

في الأصل: "ذلك".

(5)

في م: "يراد بهم". ورادّه القولَ: راجعه. التاج (ر د د).

(6)

في الأصل: "غيبة"، وفى م:"غيمة". والغبية: الدفعة من المطر. اللسان (غ ب ى). ويريد هنا سحابة ذات غبية.

(7)

ف ص، ف:"صانة"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"صابة" وغير منقوطة في س. والصمانة والصمان: أرض صلبة ذات حجارة إلى جنب رمل. اللسان (ص م م).

ص: 323

[وإِنَّهُ لن]

(1)

تَرَوا فيها ضحاءَ

(2)

غَدٍ

إِلَّا الرَّقِيمَ يُمَشِّي بينَ أَنجَادِ

(3)

وسُمَيْرٌ وعِمْرانُ: كاهِناهم، والرقيمُ: كلبُهم

(4)

.

حدثنا ابن حمُيدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: فحدَّثنى ابن إسحاقَ، قال: فبلَغنى - واللهُ أعلمُ - أنَّ الله سلَّط عليهم الحرَّ حتى أنضَجَهم، ثم أنشأَ لهم الظُّلَّةَ كالسحابةِ السوداءِ، فلما رَأَوْها ابتدرُوها يستغيثون ببردِها مما هم فيه مِن الحرِّ، حتى إذا دخَلوا تحتَها أُطبقت عليهم، فهلَكوا جميعًا، ونجَّى الله شعيبًا والذين آمنوا معه برحمتِه

(5)

.

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: حدَّثني أبو عبدِ الله البجليُّ، قال:"أبو جادَ"، و "هوّز"، و "حُطى" و ["كَلَمن"]

(6)

و "سعفص"، و "قرشت": أسماءُ ملوكِ مدينَ، وكان مَلِكُهم يومَ الظُّلَّةِ في زمانِ شعيبٍ "كلمن"

(7)

، فقالت أختُ "كلمن"

(7)

تبكيه:

كَلَمُونٌ هَدَّ رُكْنِى

هُلْكُهُ وَسْطَ المَحِلَّهْ

سيدُ القومِ أتاه الـ

ــحَتْفُ نارٌ وَسْطَ ظُلَّهْ

جُعِلَت نارًا عليهم

دارُهم كالمُضْمَحِلَّهْ

(8)

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إنكم إن".

(2)

في م: "ضحاة".

(3)

أنجاد؛ نجد: ما غلظ من الأرض وأشرف وارتفع واستوى. اللسان (ن ج د).

(4)

أخرج المرفوع م منه المصنف في تاريخه 1/ 327 عن ابن حميد به إلى قوله: يرادهم. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال: ذكر لى يعقوب بن أبى سلمة. إلى آخره.

وهو عند ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1524 (8726)، والحاكم 2/ 568 من طريق سلمة به مختصرًا كما عند المصنف في تاريخه.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1524 (8739) من طريق سلمة به.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كلمون".

(8)

ذكره الثعلبى في عرائس المجالس ص 147. وينظر ما أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 195.

ص: 324

‌القولُ في تأويل قولِه جل وعز: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)} .

يقولُ تعالى ذكْرُه: فأهلَك اللهُ الذين كذَّبوا شعيبًا فلم يُؤْمِنوا به فأبادَهم، فصارت قريتُهم منهم خاويةً خلاءً، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}. يقولُ: كأنْ لم يَنْزِلوها

(1)

قطُّ، ولم يعيشوا بها حينَ هلَكوا.

يقالُ: غَنِى فلانٌ بمكانِ كذا، فهو يَغْنَى به غِنًى [وغُنْيانًا]

(2)

وغُنِيًّا، إذا نزَل به وكان به، كما قال الشاعرُ

(3)

:

ولقد يَغْنَى به

(4)

جيرانُك الـ

ـمُمْسِكو منك [بعهدٍ ووِصالِ]

(5)

وقال

(6)

رُؤْيةُ

(7)

:

وعهدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ

(8)

بضَلْفَعا

(9)

إنما هو مَفْعَلٌ من "غَنِىَ".

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ينزلوا".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

هو عبيد بن الأبرص، والبيت في ديوانه ص 115.

(4)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"بها".

(5)

في الديوان: "بأسباب الوصال".

(6)

في الأصل: "قول".

(7)

ديوانه (مجموع أشعار العرب) ص 87.

(8)

دمنة الدار: آثارها. اللسان (د م ن).

(9)

ضلفع: قارة ببلاد بنى أسد. التاج (ضلفع).

ص: 325

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: ثنا مَعْمَرٌ، عن قتادة:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} : كأَنْ لم يعيشوا، كأنْ لم ينعَموا

(1)

.

حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} . يقولُ: كأَنْ لم يعيشوا فيها

(2)

.

حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} : كأن لم يكونوا فيها قطُّ.

وقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} . يقولُ تعالى ذِكْرُه: لم يكنْ الذين اتَّبَعوا شعيبًا الخاسرين، بل الذين كذَّبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين؛ لأنَّه أخبرَ عنهم جلّ ثناؤُه أنَّ الذين كذّبوا شعيبًا قالوا للذين أرادوا اتباعَه:{لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} . فكذَّبهم اللهُ بما أحلَّ بهم مِن عاجلِ نكالِه، ثم قال لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ما خسِر تُبّاعُ شعيبٍ، بل كان الذين كذَّبوا شعيبًا لما جاءت عقوبةُ اللهِ هم الخاسرين، دونَ الذين صدَّقوه وآمنوا به.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل وعزّ: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} .

يقولُ تعالى ذِكْرُه: فأدبر شعيبٌ عنهم شاخِصًا مِن بين أَظْهُرِهم حينَ أتاهم

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1524، 6/ 2053 من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 233 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى عبد بن حميد. وسيأتي هذا الأثر والأثر بعده في 12/ 465.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 2052 من طريق عبد الله به، وأخرجه في 6/ 2052 من طريق الضحاك، عن ابن عباس، وابن أبي الدنيا في العقوبات (140) من طريق أبى صالح باذان - عن ابن عباس، بلفظ: لم يعمروا فيها، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى أبى الشيخ

ص: 326

عذابُ اللهِ، وقال لمّا أيقنَ بنزولِ نِقْمَةِ اللَّهِ بقومِه الذين كذّبوه، حُزْنًا عليهم:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} وأدّيتُ إليكم ما بعثنى به إليكم مِن تحذيرِكم غَضَبَه على إقامَتِكم على الكُفْرِ به، وظُلْمِ الناسِ أشياءَهم، {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} بأمرى إياكم بطاعةِ اللهِ ونهيِكم عن معصيَتِه، {فَكَيْفَ آسَى}. يقولُ: فكيف أحزَنُ على قومٍ جحَدوا وحدانيةَ اللهِ، وكذَّبوا رسولَه، وأتوجعُ لهلاكِهم؟

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَكَيْفَ آسَى} . يعنى: فكيف أحزنُ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَكَيْفَ آسَى} . يقولُ: فكيف أحزنُ.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: أصابَ شعيبًا على قومِه حزنٌ لِمَا نزَل

(2)

بهم مِن نقمةِ اللهِ، ثم قال يُعَزِّي نفسَه فيما ذكَر اللهُ عنه:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ [فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} ]

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُعَرِّفَهُ سَنَّتَه فِي الأُمَمِ التي قد خَلَتْ مِن قبلِ أُمَّتِه، ومُذَكِّرَ مَن كفَر به مِن قريشٍ؛ ليَنْزَجِروا عما كانوا عليه مُقيمين مِن الشرْكِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1524 (8740) من طريق عبد الله بن صالح به.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يرى".

(3)

في الأصل: "إلى آخر الآية". وهذا اللفظ هو تمام الأثر المتقدم في ص 324.

ص: 327

باللهِ، والتكذيبِ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} قبلَك {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ} وهو البؤسُ وشَظَفُ المعيشةِ وضيقُها، {وَالضَّرَّاءِ} وهى الضُّرُّ وسوءُ الحالِ في أسبابِ دُنْياهم، {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}. يقولُ: فعَلْنا ذلك بهم

(1)

ليَتَضَرَّعوا إلى ربِّهم، ويَسْتَكِينوا

(2)

إليه، ويُنِيبوا بالإقلاعِ عن كفرِهم، والتوبةِ مِن تكذيبِ أنبيائِهم.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسيِن، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} . يقولُ: بالفقرِ والجُوعِ

(3)

.

وقد ذكَرْنا فيما مضَى الشواهدَ على صِحَّةِ القولِ بما قُلْنا في معنى البأساءِ والضرّاءِ بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(4)

.

وقيلَ: {يَضَّرَّعُونَ} . والمعنى: يَتَضَرَّعون، ولكن أُدْغِمَت التاءُ في الضادِ لتقاربِ مخرجِهما.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل وعز: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} .

يقولُ جلّ ثناؤُه: {ثُمَّ بَدَّلْنَا} أهلَ القريةِ التي أخَذنا أهلَها بالبأساءِ والضرّاءِ،

(1)

سقط من: الأصل، ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، من.

(2)

في الأصل: "يستكينون"، وفى ف:"سلبوا".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1524، 1525 عقب الأثر (8741) من طريق أسباط به.

(4)

ينظر ما تقدم في 3/ 86 - 91.

ص: 328

{مَكَانَ السَّيِّئَةِ} وهى البأساءُ والضرّاءُ؛ وإنّما جعَل ذلك سيئةً لأنه مما يسوءُ الناسَ ولا يَسرُّهم

(1)

- {الْحَسَنَةَ} ، وهى الرخاءُ والنعمةُ والسَّعَةُ في المعيشةِ، {حَتَّى عَفَوْا} يقولُ: حتى كَثُروا. وكذلك كلُّ شيءٍ كَثُر فإنه يقالُ فيه: قد عفا. كما قال الشاعرُ

(2)

:

ولكِنَّا نُعِضُّ السَّيفَ منها

(3)

بأَسْوقِ عافِياتِ الشَّحمِ كُومِ

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} . قال: مكانَ الشدةِ رخاءً، {حَتَّى عَفَوْا}

(4)

.

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} . قال: السيئةُ الشرُّ، والحسنةُ الرخاءُ والمالُ والولُد

(5)

.

حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَكَانَ السَّيِّئَةِ} : [الشرِّ، و {الْحَسَنَةَ}: الخيرَ]

(6)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"تسوءهم".

(2)

تقدم البيت في 3/ 676.

(3)

في الأصل: "منا".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 233 عن معمر به.

(5)

تفسير مجاهد ص 339، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1526 (8749، 8751)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الحسنة والحسنة الخير"، وفى م:"الحسنة قال السيئة الشر والحسنة الخير".

ص: 329

حدثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس قولَه:{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} . يقولُ: مكانَ الشدةِ الرخاءَ

(1)

.

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} . قال: بدَّلنا مكانَ ما كَرِهوا ما أحبُّوا في الدنيا، حتى عَفَوا مِن ذلك العذابِ، {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}

(2)

.

واختلَفوا في تأويلِ قولِه: {حَتَّى عَفَوْا} ؛ فقال بعضُهم نحوَ الذي قلنا فيه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَتَّى عَفَوْا} . يقولُ: حتى كثُروا وكثُرت أموالهُم

(3)

.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {حَتَّى عَفَوْا} . قال: جَمُّوا.

حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{حَتَّى عَفَوْا} . قال: كثُرت أموالُهم وأولادُهم

(4)

.

حدثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1526 (8748) من طريق عبد الله به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 103 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1526، 1527 (8750، 8758) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1526 (8754) من طريق عبد الله بن صالح به.

(4)

تفسير مجاهد ص 339. وهو في الدر المنثور من تمام الأثر المتقدم في ص 329.

ص: 330

{حَتَّى عَفَوْا} : حتى كثُروا.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ:{حَتَّى عَفَوْا} . قال: حتى جَمُّوا وكَثُروا.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ:{حَتَّى عَفَوْا} . قال: حتى جمُّوا

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضحاكِ:{حَتَّى عَفَوْا} . يعنى: جمُّوا؛ كثُروا

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ رجاءٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{حَتَّى عَفَوْا} . قال: حتى كثُرت أموالُهم وأولادُهم.

حدثنا يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {حَتَّى عَفَوْا} : كثُروا كَمَا يكثُرُ النباتُ والريشُ، ثم أخذَهم عندَ ذلك بغتةً وهم لا يشعُرون.

وقال آخرون: معنى ذلك: حتى سُرُّوا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{حَتَّى عَفَوْا} . يقولُ: حتى سُرُّوا بذلك

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1526 (8753) من طريق أبى روق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 104 إلى أبى الشيخ.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وكثروا".

(3)

وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1527 (8756) من طريق محمد بن عبد الأعلى، تفسير عبد الرزاق 1/ 233 عن معمر به.

ص: 331

وهذا الذي قاله قتادةُ في معنى {عَفَوْا} : سُرُّوا

(1)

. تأويلٌ لا وجهَ له في كلامِ العربِ؛ لأنه لا يُعْرَفُ العَفْوُ

(2)

السرورُ في شيءٍ من كلامِها، إلَّا أن يكونَ أرادَ: حتى سُرُّوا بكَثْرَتِهم وكثرةِ أموالِهم. فيكونَ ذلك وجهًا وإن بَعُدَ.

وأما قولُه: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} . فإنه خبرٌ مِن اللهِ جل ثناؤُه عن هؤلاءِ القومِ الذين أبدلَهم الحسنةَ بالسيئةِ

(3)

التي كانوا فيها، استدراجًا وابتلاءً، أنهم قالوا إذ فعَل ذلك بهم: هذه أحوالٌ قد أصابت مَن قبلنا مِن آبائنا، ونالت أسلافَنا، ونحن لا نعدو أن نكون أمثالَهم، يصيبُنا ما أصابَهم مِن الشِّدَّةِ في المعايشِ، والرخاءِ فيها، وهى السرّاءُ؛ لأنها تَسُرُّ أهلَها. وجَهِل المساكينُ شُكْرَ نعمةِ اللَّهِ، وأغفَلوا [حظَّهم مِن]

(4)

استدامةِ فضلِه، بالإنابةِ إلى طاعتِه، والمسارعةِ إلى الإقلاعِ عما يكرَهُه بالتوبةِ، حتى أتاهم أمرُه وهم لا يشعُرون.

وقولُه: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . يقولُ: فأخذناهم بالهلاكِ والعذابِ فجأةً، أتاهم على غِرَّةٍ منهم بمجيئهِ، وهم لا يَدْرُون ولا يَعْلَمون أنه يجيثُهم، بل هم بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوْه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} .

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

بعده في م: "بمعنى".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"السيئة".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"من جهلهم"، وفى م:"جهلهم".

ص: 332

[يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} الذين أرسلنا إليهم رُسُلَنا الذين ذكَرتُ لك يا محمدُ نبأَهم في هذه السورةِ وغيرِها، {آمَنُوا}. يقولُ: صدَّقوا الله ورسلَه، {وَاتَّقَوْا}. يقول: واتَّقَوْا اللَّهَ فخافُوا عَذَابَه بَتَجَنُّبِهِم مَا يَكْرَهُه مِن أعمالِهم، والإنابةِ إلى ما يُحِبُّه منهم مِن العملِ بطاعتِه، {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. يقولُ: لأرسَلنا عليهم مِن السماءِ الأمطارَ، وأنْبَتْنا لهم مِن الأرضِ بها النباتَ، ورفَعنا عنهم القُحوطَ والُجدوبَ، وذلك مِن بركاتِ السماءِ والأرض. وأصلُ البركةِ المواظبةُ على الشئِ، يقال: قد بارَك فلانٌ على فلانٍ. إذا واظَب عليه، والمباركةُ نحوُ المواظبةِ، فكأنَّ قولَه:{بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . ما يتَتابعُ عليهم مِن خيرِ السماءِ والأرضِ، {وَلَكِنْ كَذَّبُوا}. يقولُ: ولكن كذَّبوا باللهِ ورسلِه، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. يقولُ: فعجَّلنا لهم العقوباتِ بكسبِهم الخبيثِ وعملِهم الردئِ، وذلك كفرُهم باللهِ وآياتِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: {أَفَأَمِنَ} يا محمدُ {أَهْلُ الْقُرَى} المكذبةِ باللهِ ورسولِه أن يُسْلَكَ بهم مَسْلَكَ سلّافِهم من الأممِ المكذبةِ الله ورسلَه، في تعجيلِ العقوبةِ لهم كما عُجِّلت لهم، وقد سلَكوا سبيلَهم في تكذيبِ اللهِ ورسولِه وجحودِ آياتِه فـ {يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} يقولُ: عقوبتُنا {بَيَاتًا} يَعْنى: ليلًا، {وَهُمْ نَائِمُونَ} .

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} . يقولُ: أَوَ أَمِنوا أن تأتيَهم عقوبتُنا نهارًا عندَ الضحى وهم ساهون غافِلون عن مجيئِه، لا يَشْعُرون به]

(1)

.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، وهو خرم قديم، استدركناه من نسخة جامعة القرويين، والتي هي الأصل عندنا.

ص: 333

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: أفأمِن يا محمدُ هؤلاءِ الذين يكذِّبون الله ورسولَه، ويَجْحَدون آياتِه، استدراجَ اللهِ إياهم بما أنعَم به عليهم في دنياهم من صحةِ الأبدانِ ورخاءِ العيشِ، كما اسْتَدْرَج الذين قصَّ عليهم قصَصَهم من الأممِ قبلَهم، فإنَّ مكرَ اللَّهِ لا يَأْمَنُه - يقولُ: لا يأمنُ ذلك أن يكونَ استدراجًا مع مُقامِهم على كفرِهم وإصرارِهم على معصيتِهم - {إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} : وهم الهالكون.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)} .

يقولُ جل ثناؤُه: أولم يَتَبَيَّنْ

(1)

للذين يُسْتَخلفون في الأرضِ بعدَ هلاكِ آخرين قبلَهم كانوا أهلَها، فساروا سيرتَهم وعمِلوا أعمالَهم، وعتَوا على

(2)

ربِّهم - {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} . يقولُ: أن لو نشاءُ فعلنا بهم

(3)

فعلَنا بمَن قبلَهم، فأخذْناهم بذنوبهم، وعجَّلنا لهم بَأْسَنا، كما عجَّلناه لمَن كان قبلَهم ممَّن وَرِثوا عنه الأرضَ، فأهلكْناهم بذنوبِهم، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. يقولُ: ونختِمُ على قلوبِهم {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} . موعظةً ولا تذكيرًا، سماعَ منتفعٍ بهما.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"نبين"، وفى م:"يبين".

(2)

في م: "عن أمر".

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"كما".

ص: 334

حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال ثنا عيسى، وحدثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَوَلَمْ يَهْدِ} . قال: يُبَيَّن

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوَلَمْ يَهْدِ} : أولم يُبَيَّنْ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} . يقولُ: أولم يُبَيَّنْ

(3)

لهم.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسيِن، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} . يقولُ: أولم يُبَيَّنُ

(4)

، {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} ، هم المشركون

(5)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} . قال: أولم يتَبيَّنْ

(6)

لهم {أَنْ لَو

(1)

في الأصل: "يتبين"، وفى ت 2، س، ف:"نبين".

والأثر في تفسير مجاهد ص 340، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1529 (8774)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 340 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

في الأصل: "يتبين"، وفى ت 2، س، ف:"نبين".

والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 104 إلى المصنف وأبى الشيخ.

(3)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س:"يتبين"، وفى ف:"نبين".

(4)

في الأصل، م، ف:"يتبين".

(5)

أخرج أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1529 عقب الأثر (8774) من طريق عمرو بن حماد عن أسباط به. وأخرج آخره (8775) من طريق أحمد به.

(6)

في ص، م:"نبين".

ص: 335

نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}. قال: والهدى البيانُ الذي بُعِث هاديًا لهم مبيِّنًا لهم حتى يَعرفوا، لولا

(1)

البيانُ لم يَعْرِفوا

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)} .

يقولُ تعالى ذِكْرُه: هذه القرى التي ذكَرْتُ لك يا محمدُ أمْرَها وأمْرَ أهلِها. يعنى قومَ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وقومَ لوطٍ وقومَ شعيبٍ - {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} فنُخْبِرُك عنها وعن أخبارِ أهلِها، وما كان مِن أمرِهم وأمرِ رسلِ اللهِ التي أُرْسِلت إليهم؛ لتَعلمَ أنَّا ننصُرُ رسلَنا والذين آمنوا في الحياةِ الدنيا على أعدائنا وأهلِ الكفرِ بنا، ويعلمَ مُكَذِّبوكَ مِن قومِكَ ما عاقبةُ أمرِ مَن كَذَّبَ رسلَ اللَّهِ، فيرتدِعوا عن تكذيبِكَ، ويُنيبوا إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}. يقولُ: ولقد جاءت أهلَ القرى التي قَصَصْتُ عليكَ نبأَها {رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ، يعنى: بالحُجَجِ [والآياتِ]

(3)

، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} .

واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكْناهم مِن أهلِ القرَى لِيُؤْمنوا عندَ إرسالِنا إليهم رسلَنا

(4)

، بما كذَّبُوا

(5)

مِن قبلِ ذلك، وذلك يومَ أخَذ ميثاقَهم حين أخرَجَهم مِن ظَهْرِ

(1)

في م: "ولولا".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1530 (8776) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. "والبينات"، وفي م:"البينات".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يحدثوا".

ص: 336

آدمَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} . قال: ذلك يومَ أخَذ منهم الميثاقَ فآمنوا كَرْهًا

(1)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليُؤْمِنوا عندَ مجيءِ الرُّسُلِ، بما سبَق في علمِ اللهِ أنَّهم يكذِّبون به يومَ أَخْرَجَهم

(2)

مِن صُلْبِ آدمَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ

(3)

، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، عن أُبيِّ بن كعبٍ:{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} . قال: كان في عِلْمِه يومَ أقرّوا له بالميثاقِ

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال ثنا عبد الله بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرَّبيع بن أنسٍ، قال: يحِقُّ على العبادِ أن يأخُذوا مِن العلمِ ما أَبدى لهم ربُّهم، [وأَلا يتناولوا]

(5)

علمَ ما أخفى اللهُ عنهم

(6)

؛ فإن علمَه نافذٌ فيما كان وفيما يكونُ، وفي

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1530 (8780) من طريق أحمد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 104 إلى أبى الشيخ.

(2)

في الأصل: "أخذهم"، وفي ت 1:"خروجهم".

(3)

بعده في ص، م، ف:"عن ابن جريج".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1530 (8778) من طريق أبي جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 104 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(5)

في م: "والأنبياء ويدعوا".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عليهم".

ص: 337

ذلك [قال اللهُ]

(1)

: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} . قال: نفَذ علمُه فيهم أيُّهم المطيعُ مِن العاصى، حيثُ خلَقَهم في زمانِ آدمَ، وتصديقُ ذلك حيث قال لنوحٍ:{اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48]. وقال في ذلك: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]. وفى ذلك قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وفى ذلك قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. فلا حُجَّةَ لأحدٍ على اللهِ

(2)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا لو أحْييناهم بعدَ هلاكِهم ومعاينتِهم ما عايَنوا مِن عذابِ اللهِ، ليُؤْمِنُوا بما كذَّبوا من قبلِ هلاكِهم. كما قال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} .

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} . قال: كقولِه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}

(3)

.

وأشبهُ هذه الأقوالِ بتأويلِ الآيةِ وأَوْلَاها بالصوابِ القولُ الذي ذكَرْناه عن أُبيِّ بن كعبٍ والرَّبيعِ، وذلك أن مَن سبَق في علمِ اللهِ أنه لا يؤمنُ به فلن يؤمنَ به

(4)

أبدًا. وقد كان سبَق في علمِ اللهِ لمَن أهلَك مِن الأممِ التي قصَّ نبأَهم في هذه السورةِ أنه لا

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"قالوا"، وفى م:"قال".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 104 إلى المصنف وأبى الشيخ دون أوله.

(3)

تفسير مجاهد ص 340، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1530 (8779).

(4)

سقط من: ص، م، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 338

يؤمنُ أبدًا، فأخبرَ عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذِّبون في سابقِ عِلْمِه قبلَ مجيءِ الرسلِ عندَ

(1)

مجيئهم إليهم.

ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرضَ يا محمدُ من مُشْرِكي قومِك من بعدِ أهلِها الذين كانوا بها، مِن عادٍ وثمودَ - ليُؤْمنوا بما كذَّب به الذين وَرِثوها عنهم مِن توحيدِ اللَّهِ ووَعْدِه ووعيدِه. كان وجهًا ومذهبًا، غيرَ أنى لا أعلمُ قائلًا قاله ممَّن يُعْتَمَدُ [على علمِه]

(2)

بتأويلِ القرآنِ.

وأما الذي قاله مجاهدٌ مِن أن معناه: ولو رُدُّوا ما كانوا ليُؤْمِنوا. فتأويلٌ لا دلالةَ له

(3)

عليه مِن ظاهرِ التنزيلِ ولا مِن خبرٍ عن الرسولِ صحيحٍ. وإذ كان ذلك كذلك، فأولى منه بالصوابِ ما كان عليه مِن ظاهرِ التنزيلِ دليلٌ.

وأما قولُه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} . فإنه يقولُ جل ثناؤُه: كما طبَع الله على قلوب هؤلاء الذين كفَروا بربِّهم وعَصَوا رُسُلَه مِن هذه الأممِ التي قصَصْنا عليكَ نبأَهم يا محمدُ في هذه السورةِ، حتى جاءَهم بأسُ اللَّهِ فهلَكوا به، كذلك يطبعُ اللهُ فيَخْتِمُ

(3)

على قلوبِ الكافرين الذين كَتَب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومِك.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} .

يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك يا محمدُ نبأَها {مِنْ عَهْدٍ} . يقولُ: مِن وفاءٍ بما وصَّيناهم به مِن توحيدِ

(1)

في م: "وعند".

(2)

في ت 1، س، ف:"عليه".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 339

اللهِ، واتباعِ رسلِه، والعملِ بطاعتِه، واجتنابِ معاصِيه، وهجرِ عبادَةِ الأوثانِ والأصنامِ - والعهدُ هو الوصيةُ، وقد بَيَّنا ذلك فيما مضَى بما أغنى عن إعادتِه

(1)

- {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} . يقولُ: وما وجَدْنا أكثرَهم إلا فَسَقةً عن طاعةِ ربِّهم، تاركين عهدَه ووصيتَه. وقد بيَّنا معنى الفسقِ قبلُ

(2)

.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} . قال: القرونُ الماضيةُ

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} . قال: القرونُ الماضيةُ، وعهدُه الذي أخَذَه مِن بنى آدمَ في ظهرِ آدمَ ولم يفُوا به.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبي العاليةِ، عن أُبَيِّ بن كعبٍ:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} . قال: في الميثاقِ الذي أخَذَه في ظهرِ آدمَ

(4)

.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 435 - 437.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 434، 9/ 255.

(3)

تفسير مجاهد ص 340، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1531 (8785)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 105 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ، بلفظ الأثر القادم.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 105 إلى المصنف.

ص: 340

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} : وذلك أنَّ الله إنَّما أهلكَ القُرَى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به

(1)

.

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)} .

[يقولُ تعالى ذكرُه]

(2)

: ثم بعَثنا من بعدِ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ موسَى بنَ عمرانَ - والهاءُ والميمُ اللتان في قولِه: {مِنْ بَعْدِهِمْ} . هي كنايةُ ذكرِ الأنبياءِ عليهم السلام التي ذُكِرت من أولَ هذه السورةِ إلى هذا الموضعِ - {بِآيَاتِنَا} . يقولُ: بحُججِنا وأدلَّيِنا {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} . يعنى: وإلى جماعةِ قومِ

(3)

فرعونَ مِن الرجالِ، {فَظَلَمُوا بِهَا}. يقولُ: فكفَروا بها. والهاءُ والألفُ اللتان في قولِه: {بِهَا} عائدتان على "الآياتِ". ومعنى ذلك: فظلَموا بآياتِنا التي بعَثنا بها موسى إليهم. وإنما جازَ أنْ يقالَ: فظلَموا بها. بمعنى: كفَروا بها؛ لأنَّ الظلمَ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضِعِه - وقد دلَّلنا فيما مضَى على أن ذلك معناه بما يُغْنى عن إعادتِه

(4)

- والكفرُ بآياتِ اللهِ وضعٌ لها في غيرِ موضعِها، وصرفٌ لها إلى غيرِ وجهِها الذي عُنِيتُ به، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. يقول جل ثناؤه لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فانظُر يا محمدُ بعينِ قلبِك كيف كان عاقبةُ هؤلاء الذين أفسدوا في الأرضِ. يعنى: فرعونَ وملأَه إذ ظلَموا بآياتِ اللَّهِ التي جاءهم بها

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1531 (8784) عن محمد بن سعد به.

(2)

في الأصل: "قال أبو جعفر".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 559، 560.

ص: 341

موسى عليه السلام، وكان عاقبتُهم أنّهم غرِقوا جميعًا في البحرِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)} .

يقولُ جلّ ثناؤُه: وقال موسى لفرعونَ: يا فرعونُ إنى رسولٌ إليك مِن ربِّ العالمين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)} .

اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} ؛ فقرَأه جماعةٌ مِن قرأةِ المكيين والمدنيين والبصرةِ والكوفةِ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} . بإرسالِ الياءِ مِن {عَلَى} ، وتركِ تشديدِها

(1)

، بمعنى: أنا حقيقٌ بألَّا أقولَ علَى اللَّهِ إِلَّا الحقَّ. فوجَّهوا معنى {عَلَى} إلى معنى الباءِ، كما يقالُ: رميتُ بالقوسِ، وعلى القوسِ، وجئتُ على حالٍ حسنةٍ وبحالٍ حسنةٍ.

وكان بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العرب يقولُ

(2)

إذا قُرِئَ ذلك كذلك: فمعناه: حريصٌ على ألا أقولَ، [ومُحِقٌّ ألا أقولَ]

(3)

.

وقرَأ ذلك جماعةٌ مِن أهلِ المدينةِ: (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَن لا أَقُول)

(4)

. بمعنى: واجبٌ عليَّ ألا أقولُ، وحقٌّ عليَّ ألا أقولَ.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنَّهما قراءتان مشهورتان متقارِبَتا المعنى، قد قرَأ

(1)

هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبي جعفر ويعقوب وخلف. النشر 2/ 203.

(2)

هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1/ 224.

(3)

في م: "إلا بحق"، وفى ف:"بحق لا أقول".

(4)

وهى قراءة نافع وحده. النشر 2/ 203.

ص: 342

بكلِّ واحدةٍ منهما أئمةٌ مِن القرَأةِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ في قراءتِه الصوابَ.

وقولُه: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ: قال موسى لفرعونَ وملئِه: قد جئتُكم ببرهانٍ مِن ربِّكم يشهدُ أيُّها القومُ على صحةِ ما أقولُ، وصدقِ ما أذكُرُ لكم مِن إرسالِ اللهِ جل ثناؤُه إياى إليكم رسولًا، فأرسِلْ يا فرعونُ معى بني إسرائيلَ. فقال له فرعونُ:{إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} . يقولُ: بحُجَّةٍ وعلامةٍ شاهدةٍ على صدقِ ما تقولُ، {فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)} .

يقولُ جلّ ثناؤُه: {فَأَلْقَى} موسى {عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} . يَعنِي: حيةٌ. {مُبِينٌ} . يقولُ: تَبِينُ لَمَن يَراها أنَّها حيةٌ.

وبما قلنا مِن

(1)

ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} . قال: تحوَّلت حيةً عظيمةً. وقال غيرُه: مثلَ المدينةِ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌّ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} . قال: فإذا هي حيةٌ كاد يَسُورُه، يعني: يَثِبُ عليه.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن

(1)

في م: "في".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1533، 8/ 2708 (8790، 15090) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وتفسير عبد الرزاق 1/ 233، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.

ص: 343

السديِّ: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} : والثعبانُ: الذكرُ مِن الحياتِ، فاتحةً فاها، واضعةً لَحْيَها الأسفلَ في الأرضِ، والأعلَى على سورِ القصرِ، ثم توجَّهت نحوَ فرعونَ لتأخُذَه، فلمّا رآها ذُعِر منها، ووَثَب فأحدثَ، ولم يكنْ يُحدِثُ قبلَ ذلك، وصاح: يا موسى خُذْها وأنا أومنُ بكَ، وأُرسلُ معكَ بني إسرائيلَ. فأخذَها موسى فعادتْ عصًا

(1)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} . قال: ألقى العصا فصارت حيةً، فوضعتْ فُقْمًا

(2)

لها أسفلَ القبةِ، وفُقْمًا لها أعلى

(3)

القبةِ - قال عبدُ الكريمِ: قال إبراهيمُ: وأشار سفيانُ بإصْبَعِه الإبهامِ والسبابةِ هكذا شِبْةَ الطاقِ - فلما أرادت أن تأخُذَه، قال فرعونُ: يا موسى خُذْها، خُذْها

(4)

. فأخذَها موسى بيدِه، فصارت عصًا كما كانت أوَّلَ مرَّةٍ.

حدَّثنا العباسُ بن الوليدِ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ بن أبي أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: ألقى عصاه فتحوّلت حيَّةً عظيمةً فاغِرَةً فاها، مُسْرِعَةً إلى فرعونَ، فلما رأى فرعونُ أنها قاصدةٌ إليه اقْتَحَم عن سريرِه، فاستغاثَ بموسى أن يكُفَّها عنه، ففعَل

(5)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 404، 405 مطولًا، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2759 من طريق عمرو بن حماد به. وسيفرق المصنف أجزاء منه فيما سيأتي.

(2)

الفقم: اللَّحْى، وهما فُقْمان. ينظر النهاية 3/ 465.

(3)

في الأصل: "على".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1532، 8/ 2758 من طريق يزيد بن هارون به، وهو جزء من حديث الفتون، وسيأتي في 16/ 64 - 69.

ص: 344

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} . قال: الحيةُ الذكَرُ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدَّثني إسحاقُ، قال: ثنا إسماعيلُ بن عبدِ الكريمِ، قال: ثنى عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، أنه سمِع وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ يقولُ: لما دخَل موسى على فرعونَ قال له فرعونُ

(2)

: أُعَرِّفُك؟ قال: نعم. قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} ؟ [الشعراء: 18] قال: فردّ إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعونُ: خذُوه. فبادَرَه موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ، فحَمَلت على الناسِ فانهَزَموا منها

(3)

، فمات منهم خمسةٌ وعشرون ألفًا، قتَل بعضُهم بعضًا، وقام فرعونُ مُنْهَزِمًا حتى دخَل البيتَ

(4)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ في قولِه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ [ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} . قال: حيةٌ تسعى.

حدَّثني الحارثُ، قال: حدَّثنا عبدُ العزيزِ، قال: حدَّثنا دَيْلَمُ بنُ غَزْوانَ، عن فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ في قولِه: {فَأَلْقَاهَا

(5)

فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}]

(6)

[طه: 20]. قال: ما بينَ لَحْيَيْها أربعون ذِراعًا

(7)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1532، 8/ 2758 (8794، 15589) من طريق الضحاك عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ من طرق عن ابن عباس.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"موسى".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

أخرجه أحمد في الزهد ص 66 مطولًا، وابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2758 (15587) من طريق إسماعيل بن عبد الكريم به.

(5)

في الأصل: "فألقى عصاه".

(6)

في ص، ت 1، ت 2 ت 3، س، ف:"حية تسعى"، وفى م:"ثعبان مبين".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2759 (15595) من طريق ديلم بن غزوان به.

ص: 345

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدةُ بنُ سليمانَ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضحاكِ:{فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} . قال: الحيةُ الذكرُ

(1)

.

وأما قولُه: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} . فإنه يقولُ: وأخْرج يدَه فإذا هي بيضاءُ تلوحُ لمَن نظَر إليها مِن الناسِ.

و كان موسى فيما ذُكِر لنا آدمَ، فجعَل اللهُ تحوُّلَها

(2)

بيضاءَ مِنْ غيرِ بَرَصٍ له آيةً، وعلى صدقِ قولِه:{إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حُجَّةً.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرَنا يزيدُ بن هارونَ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ بن أبي أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أخرَج يدَه مِن جيبِه فرآها بيضاءَ مِن غيرِ سوءٍ، يعني: مِن غيرِ بَرَصٍ، ثم أعادها إلى كُمِّه، فعادت إلى لونِها الأوَّلِ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} . يقولُ: مِن غيرِ بَرَصٍ.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ الله:{وَنَزَعَ يَدَهُ} . قال: نزَع يدَه من جيبِه،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1532، 8/ 2708 (8794، 15589) من طريق عبدة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.

(2)

في م: "تحول يده".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1533، 8/ 2759 من طريق يزيد بن هارون به، وهو جزء من حديث الفتون.

ص: 346

{بَيْضَاءُ} : من غيرِ بَرَصٍ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: أخبَرَنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَنَزَعَ يَدَهُ} : أخرَجها مِن جيبِه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}

(2)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ في قولِه: {وَنَزَعَ يَدَهُ} . قال: نزَع يدَه مِن جيبِه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ، وكان موسى رجلًا آدَمَ، فأخْرج يدَه فإذا هي بيضاءُ أشدُّ بياضًا مِن اللبنِ، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22]، قال: من غيرِ برصٍ، آيةً لفرعونَ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: قالت الجماعةُ مِن رجالِ قومِ فرعونَ والأشرافُ منهم: {إِنَّ هَذَا} - يَعْنى

(3)

موسى، {لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}. يعنون: إنه ليأخذُ بأعينِ الناسِ بخِداعِه

(4)

إياهم حتى يُخيِّلَ إليهم العصا حيةً، والآدمَ أبيضَ، والشيءَ بخلافِ ما هو به.

ومنه قيل: سحَر المطرُ الأرضَ - إذا جادَها فقلَع

(5)

نباتَها مِن أصولِه، وقلَب الأرضَ ظهرًا لبطنٍ - فهو يَسْحَرُها سَحْرًا، والأرضُ مَسْحورَةٌ، إذا أصابَها ذلك.

(1)

تفسير مجاهد ص 340.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2709 عقب الأثر (15596) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يعنون".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وبخداعه".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فقطع".

ص: 347

فشُبه سحرُ الساحرِ بذلك لتخييلِه إلى مَن سحَره أنه يرى الشيءَ بخلافِ ما هو به.

ومنه قولُ ذِى الرُّمَّةِ في صفةِ السرابِ

(1)

:

وساحرةِ

(2)

السرابِ

(3)

مِن المَوامى

(4)

تَرَقَّصُ في نَواشِزِها

(5)

الأُرومُ

(6)

وقولُه: {عَلِيمٌ} . [يقولون: هو]

(7)

ساحرٌ عليمٌ بالسحرِ. {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} . [قالوا وهم الملأُ: يُرِيدُ موسى أن يُخْرِجَكُم مِن أرضِكم]

(8)

أرضِ مصرَ، معشرَ القبطِ بسحرِه. فقال فرعونُ للملأ:{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . يقولُ: فأيَّ شيءٍ تأمرون أن نفعلَ في أمرِه، وبأيِّ شيءٍ تُشيرون فيه؟. وقيل:{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} والخبرُ بذلك عن فرعونَ، ولم يُذْكَرْ فرعونُ، وقلَّما يجيءُ مثلُ ذلك في الكلامِ، وذلك نظيرُ قولِه:{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 51، 52]. فقيل: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} . مِن قولِ يوسفَ، ولم يُذْكَرْ يوسفُ، ومَن قال

(9)

ذلك لزِمَه

(10)

أن يقولَ: قلت لزيدٍ: قُمْ فَإِنِّي قائمٌ. وهو يريدُ:

(1)

ديوانه 2/ 674.

(2)

في الديوان: "ساجرة". بالجيم، أي: مالئة، وبالحاء المهملة رواية.

(3)

في م: "العيون"، وهى رواية.

(4)

الموامى، جمع الموماة: المفازة الواسعة الملساء، وقيل: هي الفلاة التي لا ماء بها ولا أنيس بها. اللسان (م و م).

(5)

في الديوان: "عساقلها". والنواشز جمع ناشز، وهو التل المرتفع.

(6)

ضبطه في الأصل بفتح الهمزة، والأروم بالضم: الأعلام. وقيل: هي قبور عاد. وبالفتح أصل الشجرة، والقرن. اللسان (أ ر م).

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يقول".

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(9)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(10)

سقط من: م.

ص: 348

فقال زيدٌ: إني قائمٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: وقال الملأُ مِن قومِ فرعونَ لفرعونَ: أرجِئْه. أي: أخِّرْه. وقال بعضُهم: معناه: احبسْه.

والإرجاءُ في كلامِ العربِ التأخيرُ، يقالُ منه: أَرْجَيْتُ هذا الأمرَ وأَرجَأْتُه. إذا أخَّرْتَه. ومنه قولُ اللهِ جل ثناؤُه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51]: تؤخِّرُ. فالهمزُ مِن كلامِ بعضِ قبائلِ [العربِ مِن]

(1)

قَيْسٍ، يقولون: أرجأتُ هذا الأمرَ. وتركُ الهمزِ مِن لغةِ تميمٍ وأسدٍ، يقولون: أرجيتُه.

واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأةِ المدينةِ وبعضُ العِراقيين: (أرْجِهِ). بغيرِ الهمزِ وبجرِّ الهاءِ

(2)

.

وقرَأه بعضُ قرأةِ الكوفيين: {أَرْجِهْ} . بتركِ الهمزِ وتسْكينِ الهاءِ

(3)

، على لغةِ مَن يَقِفُ على الهاءِ في المَكْنيِّ في الوصلِ إذا تحرّك ما قبلَها، كما قال الراجزُ

(4)

:

أنْحَى

(5)

عليَّ الدَّهْرُ رِجلًا ويَدَا

يُقْسِمُ لا يُصْلِحُ إِلَّا أَفْسَدَا

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

هي قراءة نافع في رواية ورش والكسائي. الكشف عن وجوه القراءات 1/ 470، والتيسير ص 92.

(3)

هي قراءة عاصم وحمزة. المصدران السابقان.

(4)

هو دويد بن زيد بن نهد، والرجز في معاني القرآن للفراء 1/ 388 كروايته هنا، وبروايات أخرى في طبقات فحول الشعراء 1/ 32 والشعر والشعراء 1/ 104، والمؤتلف والمختلف ص 164.

(5)

في س، ف:"ألحى"، وفي بقية المصادر سوى معاني القرآن:"ألقى".

ص: 349

فيُصْلِحُ اليومَ ويُفْسِدُهْ غَدَا

وقد يفعَلون مثلَ ذلك بهاءِ التأنيثِ فيقولون: هذه طلحة قد أقبلت. كما قال الراجزُ

(1)

:

لما رأى ألا دَعَهْ ولا شِبَعْ

مال إلى أرطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ

(2)

وقرأه بعضُ البصريين: (أرْجِئْهُ). بالهمزِ وضمِّ الهاءِ، على لغةِ مَن ذَكَرتُ مِن قيس

(3)

.

وأولى القراءاتِ في ذلك بالصوابِ أشهرُها وأفصحُها في كلامِ العربِ، وذلك تركُ الهمزِ وجرِّ الهاءِ، وإن كانت الأُخرى جائزةً، غيرَ أن الذي اخترنا أفصحُ اللغات وأكثرُها على ألسُنِ فصحاءِ العربِ.

واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {أَرْجِهْ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: أخِّرْه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، أخبرني عطاءٌ الخُراسانيُّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} . قال: أَخِّرْه

(4)

.

وقال آخرون: معناه: احبِسْه.

(1)

الرجز في معاني القرآن للفراء 1/ 388، وإصلاح المنطق ص 95، وتهذيبه 1/ 167.

(2)

قال التبريزي في تهذيبه: يعنى الذئب، لما رأى أنه لا يشبع من الظبي ولا يدركه مال إلى أرطاة، والأرطى ضرب من شجر الرمل .. والحقف المعوج من الرمل.

(3)

هي قراءة ابن كثير وابن عامر في رواية هشام بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو، وقرأ أبو عمرو بالهمز والضم من غير صلة بواو. الكشف عن وجوه القراءات 1/ 470، والتيسير ص 92.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1533، 8/ 2761 (8790، 15606) من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 350

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} . أي: احبِسْه وأخاه

(1)

.

وأما قولُه: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} . [فإن معناه: وأرسِلْ في مدائن مصرَ - وهى كانت مملكتَه - {حَاشِرِينَ}]

(2)

. يقولُ: مَن يحشُرُ السحرةَ فيجمَعُهم إليك.

وقيل: هم الشُّرَطُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني العباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ ظهيرٍ، عن السديِّ، [عن أبي مالكٍ]

(3)

، عن ابن عباسٍ في قولِه: {وَابْعَثْ

(4)

فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36]. قال: الشُّرَطُ.

حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبي، عن إسماعيلَ بن إبراهيمَ بن مهاجرٍ، عن أبيه

(5)

، عن مجاهدٍ:{وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} . قال: الشُّرَطُ

(6)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا حميدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن قيسٍ، عن السديِّ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1533 (8791) من طريق يزيد به، وفى 8/ 2761 من طريق همام عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى عبد بن حميد.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

سقط من: م، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن أبي طالب".

(4)

في م في هذا الموضع وما بعده: "أرسل"

(5)

بعده في الأصل: "عن إبراهيم بن مهاجر"، وصوابه عن أبيه إبراهيم بن مهاجر بدون: عن. وينظر تهذيب الكمال 2/ 211.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2761 عقب الأثر (15610) معلقًا.

ص: 351

{وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} . قال: الشُّرَطُ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، [وحدثنا ابن وكيعٍ، قال حدَّثنا أبي، قالا]

(1)

: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بن مهاجرٍ، عن أبيه، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} . قال: الشُّرَطُ

(2)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عِكرِمَةَ، عن ابن عباسٍ:{وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} . قال: الشُّرَطُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)} .

وهذا خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن مَشُورَةِ الملأِ مِن قومِ فرعونَ على فرعونَ أن يُرْسِلَ في المدائنِ حاشرين يَحْشُرون كلَّ ساحرٍ عليم. وفي الكلامِ محذوفٌ اكتُفِى بدَلالةِ الظاهرِ من إظهارِه، وهو: فأرسَل فرعونُ

(3)

في المدائنِ حاشرين يحشُرون السحرةَ فحشَروهم

(3)

، فجاء السحرةُ فرعونَ قالوا:{إِنَّ لَنَا لأَجْرًا} . يقولُ: إن لنا لثوابًا على غلبتِنا موسى عندَك، {إِنْ كُنَّا} يا فرعونُ {نَحْنُ الْغَالِبِينَ} .

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

في م: "قال".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1534، 8/ 2761 (8794، 15610) من طريق إسماعيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 352

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني العباس بن الوليد، قال: أخبَرنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ بن أبي أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: فأرسَلَ فرعونُ في المدائنِ حاشرين، فحُشِر له

(1)

كلُّ ساحرٍ متعالمٍ، فلمّا أَتَوا فرعونَ قالوا: بمَ يعمَلُ هذا الساحرُ؟ قالوا

(2)

: يعمل بالحياتِ. قالوا: والله ما في الأرضِ قومٌ يعمَلون بالسحرِ والحياتِ والحبالِ والعِصِيِّ أعلمُ مِنَّا، فما أجْرُنا إن غَلَبْنا؟ فقال لهم: أنتم [أقاربي وخاصَّتي]

(3)

، وأنا صانعٌ إليكم كلَّ شيءٍ أحببتُم

(4)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: قال فرعونُ: لا نغالِبُه - يعنى موسى - إِلَّا بمَن هو منه، فأَعدَّ غِلمانًا

(5)

مِن بنى إسرائيلَ، فبعَث بهم إلى قريةٍ بمصرَ يقالُ لها: الفَرَمَا

(6)

. يعلِّمونهم السحرَ، كما يُعلَّمُ الصبيانُ الكِتابَ فِي الكُتّابِ، قال: فعلَّموهم سِحْرًا كثيرًا. قال: وواعدَ [موسى فرعونَ]

(7)

موعدًا، فلمّا كان في ذلك الموعدِ بعث فرعونُ [إلى السحرةِ]

(8)

فجاء بهم وجاء بمعلِّمِهم معهم، فقال له: ماذا صنعتَ؟ قال: قد عَلَّمْتُهم مِن السحرِ سحرًا لا يُطيقه سحرُ أهلِ الأرضِ، إِلَّا أَنْ يكونَ أمرًا مِن السماءِ، فإنّه لا طاقةَ لهم به، فأمّا سحرُ أهلِ الأرضِ فإنه لن يَغْلِبَهم. فلما

(1)

في الأصل: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لهم".

(2)

في الأصل: "قال".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قرابتى وحامتى".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1534، 1535، 8/ 2762، 2763 من طريق يزيد بن هارون به، وهو جزء من حديث الفتون، وسيأتي في 16/ 64 - 69.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"علماء".

(6)

الفرما: مدينة على الساحل من ناحية مصر، بين العريش والفسطاط. ينظر البلدان 3/ 883.

(7)

في الأصل: "فرعونُ موسى".

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 353

جاءت السحرةُ قالوا لفرعونَ: {أَئِنَّ

(1)

لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 41، 42].

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: فأرسَل فرعونُ في المدائنِ حاشرين، فحشَروا عليه السحرَة، فلما جاء السحرةُ فرعونَ قالوا:{أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} يقولُ

(2)

: عطيةً تعطينا، {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ

(4)

فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ

(5)

عَلِيمٍ} [الشعراء: 36، 37]. أي: كاثِرَه بالسحرةِ، لعلك أن تجدَ في السحرةِ مَن يأتى بمثلِ ما جاء به. وقد كان موسى وهارونُ خرَجا مِن عندِه حينَ أراهم مِن [سلطانِ اللهِ ما أراهم]

(6)

، وبعَث فرعونُ في مملكتِه مكانَه

(7)

، فلم يَتْرُكْ في سلطانِه ساحرًا إلا أتى به. فذُكِر لى والله أعلمُ أنه جُمِع له خمسةَ عشرَ ألفَ ساحرٍ، فلما اجتمعوا إليه أمَرهم أمْرَه، وقال لهم: قد جاءنا ساحِرٌ ما رأينا مثلَه قطُّ، وإنَّكم إن غلَبتموه أكرمتُكم وفضَّلتُكم وقرّبتُكم على أهلِ مملكتي. قالوا: وإن لنا ذلك

(8)

إن غلَبناه؟ قال: نعم

(9)

.

(1)

في الأصل، م:"إن".

(2)

في الأصل، ص:"يقولون".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 412 مطولًا، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2762، 2763 من طريق عمرو بن حماد به.

(4)

في م: "أرسل".

(5)

في م: "ساحر". وهذه وما قبلها نص آيتي سورة الأعراف.

(6)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"سلطان"، وفى م:"سلطانه".

(7)

سقط من: م.

(8)

في الأصل: "لأجرا".

(9)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 407 مطولًا. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2762، 2763 من طريق سلمة به. وسيفرق المصنف أجزاء منه فيما يأتى.

ص: 354

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيد، عن عكرمة، قال: السحرة كانوا سبعين

(1)

. قال أبو جعفر: أحسبُه أنا

(2)

قال: ألفًا.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا موسى بنُ عبيدةَ، عن [محمدِ بن المنكدرِ]

(3)

، قال: كان السحرةُ ثمانين ألفًا

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبد العزيزِ بن رُفيعٍ، عن خيثمةَ، عن أبي سودةَ، عن كعبٍ، قال: كان سحرةُ فرعونَ اثنى عشرَ ألفًا

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال فرعونُ للسحرةِ - إذ قالوا له: إن لنا عندَك ثوابًا إن نحن غَلبْنا موسى؟ - نعم، لكم ذلك، وإنكم لَمِمَّن أُقَرِّبُه وأُدْنيه مِنى.

{قَالُوا يَامُوسَى} . يقولُ: قالت السحرةُ لموسى: يا موسى اخترْ أن تُلْقِيَ عصاكَ، أو نُلْقِيَ نحن عِصِيَّنا.

ولذلك أُدخِلت {أَنْ} مع {إِمَّا} في الكلامِ؛ لأنها في موضعِ أمرٍ بالاختيارِ فـ {أَنْ} إذن في موضعِ نصبٍ لما وصفتُ مِن المعنى؛ لأن معنى الكلامِ: اختَرْ أن

(1)

ذكره البغوي في تفسيره 3/ 264 عن عكرمة بلفظ: "كانوا سبعين ألفا".

(2)

في م: "أنه".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"ابن المنذر".

(4)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 63 من طريق موسى بن عبيدة به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1534، 8/ 2762، 2764 من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى ابن أبي شيبة وأبى الشيخ.

ص: 355

تُلْقِيَ أَنتَ، أو أن نُلِقىَ نحن. والكلامُ مع "إما" إذا كان على وجهِ الأمرِ، فلابدَّ مِن أن يكونَ فيه "أن"، كقولِكَ للرجلِ: إما أن تَمْضِىَ، وإما أن تَقْعُدَ. بمعنى الأمرِ: امضِ أو اقعُد. فإذا كان على وجهِ الخبرِ لم يكنْ فيه "أن"، كقولِه:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106]. وهذا هو الذي يُسَمَّى التخييرُ

(1)

، وكذلك كلُّ ما كان على وجهِ الجزاءِ. و"إما" في جميعِ ذلك مكسورةٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}

يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى للسَّحَرةِ ألْقُوا ما أنتم مُلقُون، فألقت السحرةُ ما معهم، فلما الْقَوْا ذلك {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} . يقولُ

(2)

: خيَّلوا إلى أعينِ الناسِ بما أحدثوا مِن التخييلِ والخُدَعِ أنها تسعىَ، {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}. يقولُ: واسترهَبوا الناسَ بما سحَروا في أعيُنِهم، حتى خافوا مِن العِصِيِّ والحبالِ، ظنًّا منهم أنها حياتٌ، وجاءوا كما قال اللهُ:{بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} : بتخييلٍ عظيمٍ كبيرٍ

(3)

مِن التخييلِ والخداعِ.

وذلك كالذى حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 43، 44]. وكانوا بضعةً وثلاثين ألفَ رجلٍ، ليس منهم رجلٌ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الخبر". وقوله: وهذا هو الذي يسمى التخيير. عائد على الحكم الأول في دخول "أن" مع "إما" كالآية من سورة الأعراف، والمثل الذي مثل به المصنف، وأما الآية التي في سورة التوبة، فهذا ما يسمى الإبهام.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت، س، ف.

(3)

في ص، م، ف:"كثير".

ص: 356

إلا معه حبلٌ وعصًا، {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}. يقولُ: فرَّقوهم

(1)

، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}

(2)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: أَلْقَوا حبالًا غِلاظًا وخُشُبًا طُوالًا. قال: فأقبلت تُخَيَّلُ إليه مِن سِحرِهم أنها تسعى

(3)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: صَفَّ خمسةَ عشرَ ألفَ ساحرٍ، مع كلِّ ساحرٍ حبالُه وعِصِيُّه، وخرَج موسى معه أخوه يتَّكئُ على عصاه حتى أتى الجمْعَ، وفرعونُ في مجلسِه مع أشرافِ أهلِ مملكتِه، ثم قال السحرةُ: {يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى]

(4)

} [طه: 65، 66]. . فكان أولَ ما اختطفوا بسحرِهم بصرُ موسى وبصرُ فرعونَ، ثم أبصارُ الناس بعدُ، ثم ألقى كلُّ رجلٍ منهم ما في يدِه منِ العِصِيِّ والحبالِ، فإذا هي حياتٌ كأمثالِ الجبالِ، قد مَلاتِ الوادىَ يركَبُ بعضُها بعضًا، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} ، وقال: واللَّهِ إِن كانت لعِصِيًّا في أيديهم، ولقد عادت حياتٍ، وما تعدو عصائىَ

(5)

هذه؟ أو كما حدَّثَ

(6)

نفسَه

(7)

.

(1)

فرقوهم: أفزعوهم وروَّعوهم. اللسان (ف ر ق).

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 413 مطولًا. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1535، 8/ 2764، 2766 (8800، 15625، 15637) من طريق عمرو بن حماد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى أبي الشيخ.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى المصنف.

(4)

سقط من: النسخ. والمثبت من مصدر التخريج.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(6)

بعده في الأصل، ف:"عن".

(7)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 408، 4009 من قول وهب بن منبه.

ص: 357

حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشامٍ الدَّسْتُوائِيِّ، قال: ثنا القاسم بن أبي بَزَّةَ، قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحرٍ، فألقوا سبعين ألف حبلٍ، وسبعين ألف عصًا، حتى جعَل يخيَّلُ إليه مِن سحرِهم أنها تسعى

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وأوْحينا إلى موسى أن ألق عصاكَ، فألقاها فإذا هِيَ تَلْقَفُ

(2)

وتَبْتَلِعُ ما يَسْحَرُون كَذِبًا وباطلًا. يقالُ منه: لَقِفْتُ الشيءَ فَأَنا أَلقَفُه لَقْفًا ولَقَفانًا.

وذلك كالذى حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} : فألقى موسى عصاه، فتحولت حيةً، فأكلت سِحرَهم كلَّه

(3)

.

حدَّثنا عبدُ الكريم بن الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ: فألقى عصاه فإذا هي حيةٌ، فجعَلت

(4)

تلقَفُ ما يأفِكون، لا تمرُّ بشيءٍ من حبالِهم وخُشُبِهم التي أَلْقَوها إلا التقَمته، فعرَفت السحرةُ أن هذا أمرُ

(5)

السماءِ، وليس هذا بسحرٍ، فخرُّوا سُجَّدًا، وقالوا:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121، 122].

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 453 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى المصنف وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"تلقم".

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 234 عن معمر به.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

بعده في م: "من".

ص: 358

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: أوحى اللهُ إلى موسى: لا تخَفْ، وأَلْقِ ما في يمينِك تلقَفْ ما يأفِكون، فألْقَى عصاه فأكلت كلَّ حيةٍ لهم، فلما رأَوا ذلك سجَدوا، وقالوا، {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: أوحَى اللهُ إليه أن ألقِ ما في يمينِك، فألقى عصاه مِن يدِه، فاستعرَضت ما ألقَوا مِن حبالِهم وعصيِّهم - وهي حياتٌ في عينِ فرعونَ وأعينِ الناسِ تسعَى - فجعلت تلقَفُها، تبتَلِعُها حيةً حيةً، حتى ما يُرَى بالوادى قليلٌ ولا كثيرٌ مما ألقَوْه

(2)

، ثم أخذَها موسى فإذا هي عصاه

(3)

في يدِه كما كانت، ووقَع

(4)

السحرةُ سجَّدًا، قالوا:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، لو كان هذا سحرًا ما غَلَبَنا

(5)

.

حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن هشامٍ الدَّسْتُوائيِّ، قال: ثنا القاسمُ بنُ أَبي بَزَّةَ، قال: أوحى الله إليه أن ألقِ عصاك، فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ فاغرٌ فاه، فابْتَلَع حبالَهم وعِصِيَّهم، فأُلْقِى السحرةُ عندَ ذلك سجَّدًا، فما رفَعوا رُءوسَهم حتى رأَوُا الجنةَ والنارَ وثوابَ أهلِهما

(6)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 413، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2766 (15638) من طريق عمرو به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى أبى الشيخ.

(2)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2 ت 3، س، ف:"ألقوا".

(3)

في الأصل: "عصا".

(4)

في الأصل: "وقعت".

(5)

من تمام الأثر المتقدم في ص 357.

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أهلها".

والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 454.

ص: 359

نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قولِ اللَّهِ: {يَأْفِكُونَ} . قال: يَكذِبون

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} . قال: يَكْذِبون.

حدَّثني إبراهيمُ بنُ المستمرِّ، قال: ثنا عثمان بنُ عمرَ، قال: ثنا قُرَّةُ بنُ خالدٍ السَّدُوسيُّ، عن الحسنِ:{تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} . قال: حبالَهم وعصيَّهم تَسْتَرِطُها اسْتِراطًا

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)} .

يقولُ تعالى ذكرِه: فظهَر الحقُّ وتبيَّن لمن شهِده وحضَره في أمرِ موسى، وأنه لله رسولٌ يدعو إلى الحقِّ:{وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مِن إفكِ السحرِ

(3)

وكَذِبِه ومخاييلِه.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَوَقَعَ الْحَقُّ} . قال: ظهَر

(4)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 340، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1536 (8807)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى ابن أبي شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

الاستراط: الابتلاع. اللسان (س ر ط).

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1536 (8806) من طريق قرة بن خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى أبى الشيخ.

(3)

في ص، ت 1، ف:"السحرة".

(4)

تفسير مجاهد ص 341.

ص: 360

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيمَ بن مهاجرٍ، عن أبيه، عن مجاهدٍ:{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال: ظهَر الحقُّ وذهَب الإفكُ الذي كانوا يعملون

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَوَقَعَ الْحَقُّ} . قال: ظهَر الحقُّ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَوَقَعَ الْحَقُّ} . قال: ظهَر موسى.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فغَلَب موسى فرعونَ وجموعَه {هُنَالِكَ} : عندَ ذلك، {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}. يقولُ: وانصرَفوا عن موطنِهم ذلك بصُغْرٍ مقهورين.

يقالُ منه: صَغُر الرجلُ يَصْغَرُ صِغَرًا وصُغْرًا وصَغَارًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وأُلْقِى السحرةُ عندما عاينُوا مِن عظيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، ساقِطين على وجوهِهم، سجَّدًا لربِّهم

يقولون: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . يقولون: صدَّقنا بما جاءَنا به موسى، وأن الله الذي علينا عبادتُه هو الذي يَمْلِكُ الجنَّ والإنسَ وجميعَ الأشياءِ غيرَ

(2)

ذلك، ويدبِّرُ ذلك كلَّه

{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، لا فرعونُ.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وغير".

ص: 361

كالذي حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بن بشارٍ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: لما رأتِ السَّحَرَةُ ما رأت، عرَفت أن ذلك أمرُ

(1)

السماء وليس بسحرٍ، فخرُّوا سجدًا، وقالوا:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}

يقولُ تعالى ذكرُه: قال فرعونُ للسحرةِ إذ آمنوا باللهِ، يعنى: صدَّقوا رسولَه موسى، لِمَا عاينوا مِن عظيمِ [قدرةِ اللهِ]

(2)

وسلطانِه: {آمَنْتُمْ بِهِ} . يقولُ: أصدَّقتم بموسى وأقررتم بنبوَّتِه {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بالإيمانِ به، {إِنَّ هَذَا}. يقول: إن تصديقكم إياه وإقرارَكم بنبوَّتِه {لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} . يَقولُ لخُدْعةٌ خدَعتم بها مَن في مدينتِنا لِتُخْرِجُوهم منها، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. [يقولُ: فسوف تعلَمون]

(3)

ما أفعلُ بكم، وتَلْقَون مِن عقابي إياكم على صنيعِكِم هذا.

وكان مكرُهم ذلك فيما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في حديثٍ ذكَرَه عن أبي مالكٍ، [وعن أبي صالحٍ]

(4)

، عن ابن عباسٍ، وعن مُرَّةً، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: التقى موسى وأميرُ السَّحَرةِ، فقال له موسى: أرأَيْتُك إن غلبتُك، أتؤمنُ بي وتشْهَدُ أنَّ ما جئْتُ به حقٌّ؟ قال السَّاحرُ: لآتينَّ غدًا بسحرٍ لا يَغْلِبُه سحرٌ، فواللهِ لئن غلَبتنى لأُومِنَنَّ بك

(5)

، ولأشهدَنَّ أنك حقٌّ. وفرعونُ ينظرُ

(1)

بعده في م: "من"

(2)

في الأصل: "قدرته".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"وعن أبي طلحة"، وفى م:"وعلى بن أبي طلحة".

(5)

في الأصل: "لك".

ص: 362

إليهما

(1)

، فهو قولُ فرعونَ:{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} إذ التقَيْتما لتظَّاهَرا فتُخْرِجا منها أهلَها

(2)

.

‌القول في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} .

يقولُ تعالى ذكرُه مخبِرًا عن قِيلِ فرعونَ للسحرةِ إذ آمنوا باللهِ وصدَّقوا رسولَه موسى: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} . وذلك أن يَقطعَ مِن أحدِهم يدَه اليمنى ورجلَه اليسرى، أو يَقطعَ يدَه اليسرى ورجلَه اليمني، فيخالفَ بينَ العُضوين في القطعِ، فمخالفتُه في ذلك بينهما هو القطعُ من خلافٍ. ويقالُ: إِن أَوَّلَ مَن سَنَّ هذا القطعَ فرعونُ. {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . وإنما قال هذا فرعونُ لِمَا رأى مِن خِذلانِ اللَّهِ إياه وغلبةِ موسى وقهرِه له.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو داودَ الحَفَريُّ وحَبُّويَه الرازيُّ، عن يعقوبَ القُمِّيِّ، عن جعفرِ بن أبى المغيرةِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ

(3)

لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. قال: أوّلُ مَن صَلَّب، وأوّلُ مَن قطَع الأيدىَ والأرجلَ مِن خلافٍ، فرعونُ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} .

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"إليهم".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 412 عن موسى به من قول السدى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى المصنف وأبى الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة.

(3)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"و". وهو نص الآية 49 من سورة الشعراء.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1537 (8815) من طريق يعقوب به، من قول سعيد بن جبير وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر، عن ابن عباس.

ص: 363

يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال السحرةُ مجيبةً لفرعونَ إذ توعَّدهم بقطعِ الأيدى والأرجلِ من خلافٍ والصلبِ: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} . يعنى بالانقلابِ إِلى اللَّهِ الرجوعَ إليه والمصيرَ.

وقولُه: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} . يَقولُ تعالى ذكرُه: ما تُنكِرُ منا يا فرعونُ وما

(1)

تَجِدُ علينا إلا مِن أجلِ {أَنْ آمَنَّا} أي: صدَّقْنا {بِآيَاتِ رَبِّنَا} . يقولُ: بحُجَجِ ربِّنا وأعلامِه وأدلَّتِه التي لا تقدِرُ على مثلِها أنت ولا أحدٌ، سوى اللهِ الذي له ملكُ السماواتِ والأرضِ. ثم فزِعُوا إلى اللهِ بمسألتِه الصبرَ على عذابِ فرعونَ، وقبضَ أرواحِهم على الإسلامِ، فقالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} يعنون بقولِهم: {أَفْرِغْ} : أنزِلْ علينا حبسًا يَحْبِسُنا عن الكُفِر بكَ عند تعذيبِ فرعونَ إيانا. {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . يقولُ: واقبِضْنا إليك على الإسلامِ دينِ خليلِك إبراهيمَ، لا على الشركِ بك.

[كما حدَّثني]

(2)

موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} : فقتَّلهم وقطَّعَهم

(3)

، كما قال عبدُ الله بنُ عباسٍ، حين قالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . قال: كانوا في أوّلِ النهارِ سحرةً، وفي آخرِ النهارِ شهداءَ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن عبدِ العزيزِ بن رُفيعٍ، عن عُبيد بن عميرٍ، قال: كانت السحرةُ أوَّلَ النهارِ سحرةً، وآخِرَ النهارِ شهداءَ

(5)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ

(1)

في الأصل: "لا".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فحدثني".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"صلبهم".

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 413، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1537، 1538 (8816، (8818) من طريق عمرو بن حماد به.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 455.

ص: 364

سَاجِدِينَ}. قال: ذُكِر لنا أنهم كانوا في أوّلِ النهارِ سحرةً، وآخرِه شهداءَ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ

(2)

: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . قال: كانوا أوَّلَ النهارِ سحرةً، وآخرَه شهداءَ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)} .

يقول تعالى ذكرُه: وقالت جماعةُ رجالٍ مِن قومِ فرعونَ لفرعونَ: أَتَدَعُ موسى وقومَه مِن بنى إسرائيلَ {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: كي يُفْسِدوا خدَمَك وعبيدَك عليك في أرضِك من مصرَ، {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . يقولُ

(4)

: ويدَعُ خِدْمتَك موسى وعبادَتَك وعبادةَ آلهَتِك؟

وفي قوله: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . وجهان مِن التأويلِ؛ أحدُهما: أتذرُ موسى وقومَه ليفسِدُوا في الأرضِ وقد تَرَككَ وتَرَك عبادتَكَ وعبادةَ آلهيك؟ وإذا وُجِّه الكلامُ إلى هذا الوجهِ مِن التأويلِ كان النصبُ في قولِه: {وَيَذَرَكَ} . على الصرفِ

(5)

، لا على العطفِ به على قولِه:{لِيُفْسِدُوا} . والثاني: أتذرُ موسى وقومَه ليفسِدوا في الأرضِ وليذرَك وآلهتَك. كالتوبيخِ منهم لفرعونَ على تركِ موسى ليفعلَ هذين الفعلين. وإذا وُجِّه الكلامُ إلى هذا الوجهِ كان نصبُ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(2)

بعده في ص، م، ف:"عن مجاهد".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 455.

(4)

بعده في ص: "يدعك"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"يدرك".

(5)

تقدم تعريف المصنف للصرف في 6/ 92. وينظر 1/ 607، 608.

ص: 365

{وَيَذَرَكَ} على العطفِ على {لِيُفْسِدُوا} .

والوجهُ الأوّلُ أولى الوجهين بالصوابِ، وهو أن يكونَ نصبُ {وَيَذَرَكَ} على الصرفِ؛ لأنَّ التأويلَ مِن أهلِ التأويلِ به جاء.

وبعدُ، فإنَّ في قراءةِ أُبَيِّ بن كعبٍ الذي حدَّثني به أحمدُ بنُ يوسف، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ، قال في حرفِ أُبيِّ بن كعبٍ:(وقد ترَكوك أن يَعْبُدوك وآلهتَك)

(1)

- دلالةً واضحةً على أن نصبَ ذلك على الصرفِ.

وقد رُوِى عن الحسنِ البصريِّ أنه كان يَقْرأُ ذلك: (وَيَذَرُك وآلهَتَكَ)

(2)

. عطفًا بقولِه: {وَيَذَرَكَ} . على قولِه: {أَتَذَرُ مُوسَى} . كأنه وجَّه تأويلَه إلى: أَتَذَرُ موسى وقومَه ويذرُك وآلهتُك ليُفْسِدوا في الأرضِ. وقد تَحتَمِلُ قراءة الحسنِ هذه أن يكونَ معناها: أتذرُ موسى وقومَه ليُفسدوا في الأرضِ، وهو يذرُك وآلهتَك. فيكونَ (يذرُك) مرفوعًا على ابتداءِ الكلامِ [والسلامةِ مِن الحوادثِ]

(3)

.

وأما قولُه: {وَآلِهَتَكَ} . فإن قرأةَ الأمصارِ على فتحِ الألفِ منها ومدِّها، بمعنى: وقد ترَك موسى عبادتَك وعبادةَ آلهتِك التي تعبُدُها.

وقد

(4)

ذُكِر عن ابن عباسٍ أنه قال

(5)

: كان له بقرةٌ يَعْبُدُها

(6)

.

(1)

فضائل القرآن ص 172 عن حجاج به.

(2)

هي قراءة الحسن بخلاف عنه، وقرأ بها أيضًا نعيم بن ميسرة. ينظر البحر المحيط 4/ 367.

(3)

سقط من: م.

(4)

ليس في: الأصل.

(5)

سقط من: م.

(6)

في م: "يعبدوها".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1538 (8823) من طريق سليمان التيمي، قال: بلغني عن ابن عباس. فذكره. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى أبي الشيخ.

ص: 366

وقد رُوِى عن ابن عباسٍ ومجاهدٍ أنهما كانا يقرأانِها: (وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ)

(1)

. بكسرِ الألفِ، بمعنى: ويذرَك وعُبُودتك.

والقراءةُ التي لا نرَى القراءةَ بغيرِها هي القراءةُ التي عليها قرأةُ الأمصارِ؛ لإجماعِ الحُجَّة مِن القرأةِ عليها.

‌ذكرُ من قال: كان فرعون يعبُدُ آلهةً. على قراءةِ مَن قرَأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} : وآلهتُه فيما زعَم ابن عباسٍ كانت البقرَ

(2)

، كانوا إذا رأَوا بقرةً حسناءَ أمَرهم أن يَعْبدُوها، فلذلك أخرَج لهم عجلًا بقرةً

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن عمرٍو، عن الحسنِ، قال: كان لفرعونَ جُمانةٌ

(4)

معلقةٌ في نحرِه يعبُدُها ويسجُدُ لها

(5)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا أبانُ بنُ خالد، قال: سمعتُ الحسنَ يقولُ: بلَغنى أن فرعونَ كان يعبُدُ إلهًا في السرِّ. وقرَأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}

(6)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ سنانٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن أبي بكرٍ، عن الحسنِ، قال:

(1)

وهى قراءة شاذة.

(2)

في م: "البقرة".

(3)

ف م: "وبقرة". والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 413.

(4)

في الأصل، وتفسير ابن كثير:"حنانة". والجمانة: حبة تعمل من الفضة كالدرة، وجمعها جمان. الصحاح (ج م ن).

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 456.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1538 (8824) من طريق نصير بن يزيد، عن الحسن. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد.

ص: 367

كان لفرعونَ إِلهُ يَعْبُدُه في السرِّ.

‌ذِكرُ مَن قال: معنى ذلك: ويذرَك وعبادتَك. على قراءةِ مَن قرأ: (وإلاهَتَك)

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا ابن عيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن محمدِ بن عمرِو بن

(1)

الحسنِ، عن ابن عباسٍ:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ). قال: إنما كان فرعونُ يُعبَدُ ولا يَعبُدُ

(2)

.

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن نافعِ

(3)

بن عمرَ

(4)

، عن عمرِو بن دينارٍ، عن ابن عباسٍ أنه قرَأ:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ). قال: وعبادتَك. ويقولُ: إنه كان يُعبَدُ ولا يَعبُدُ.

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ). قال: يَتْرُكَ عبادتَك

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن ابن عباسٍ أنه كان يقرَأُ:(وإلاهَتَك). يقولُ: عبادتَك

(6)

.

(1)

في ص، م، ف:"عن"، وتقدم على الصواب في 1/ 122.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1538 (8819) من طريق ابن عيينة به، وهو في سنن سعيد بن منصور (959 - تفسير)، وفي إسناده سقط. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى عبد بن حميد وأبى عبيد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبي الشيخ.

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"عن". وتقدم على الصواب في 1/ 122.

(4)

في الأصل: "عمرو".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1538 (8821) من طريق عبد الله بن صالح به.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1538 (8820) من طريق عكرمة، عن ابن عباس. وكذا أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 172 بأطول من هذا اللفظ، وفيه ذكر القراءة فقط.

ص: 368

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ). قال: عبادتَك

(1)

.

حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيع الرازيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن محمدِ بن عمرِو بن حسنٍ

(2)

، عن ابن عباسٍ أنه كان يقرأُ:(وَيَذَرَكَ وإلاهَتَك). وقال: إنما كان فرعونُ يُعبَدُ ولا يَعبُدُ.

[حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: حدَّثنا أبو عامرٍ، قال حدَّثنا قُرَّةُ، عن الضحاكِ، سمِعه يقرأُ:{وَيَذَرَكَ} قلتُ: {وَآلِهَتَكَ}

(3)

. قال: إنما هي: (إلاهتَك). أي: عبادتَك، ألا ترى أنه قال: أنا ربُّكم الأعلى]

(4)

.

وقد زعَم بعضُهم أن مَن قرأَ: (وإلاهَتَكَ). إنما يقصِدُ إلى نحوِ معنى قراءةِ مَن قرأ: {وَآلِهَتَكَ} . غير أنه أنَّثَ وهو يريدُ إلهًا واحدًا، كأنه يريدُ: وَيَذَرَكَ وإلاهَكَ. ثم أنَّث الإلهَ فقال: وإلاهَتَك.

وذكَر بعض البصريين أن أعرابيًّا سُئِل عن "الإلَهةِ" فقال: هي عَلَمةٌ. يريدُ عَلَمًا، فأَنَّث العلمَ، فكأنه شيءٌ نُصِب للعبادةِ يُعبَدُ. وقد [قالت بنتُ عتيبةَ بن الحارثِ]

(5)

اليربوعيِّ

(6)

:

(1)

تفسير مجاهد ص 341. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

في م: "حسين".

(3)

في الأصل: "إلاهتك". والمثبت من الدر المنثور.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى المصنف وعبد بن حميد.

(5)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3 س:"قال عتيبة بن شهاب"، وفي ف:"قال عيينة بن شهاب".

(6)

البيت في: المحتسب 2/ 123، واللسان (ل ع ب، أ ل هـ، أ و ب).

ص: 369

تَرَوَّحْنا مِن اللَّعْباءِ

(1)

قَصْرًا

(2)

وأعْجَلْنا الإلَهةَ أن تَئُوبا

يعنى بالإلهةِ في هذا الموضعِ الشمسَ.

وكأن

(3)

المتأوَّلَ هذا التأويلِ وجَّه الإلهةَ إذا أُدخلِتْ فيها هاءُ التأنيثِ، وهو يريدُ واحدَ الآلهةِ، إلى نحوِ إدخالِهم الهاءَ في "وِلْدَتِى" و"كَوْكَبَتِي" و "ماءَتى"

(4)

، وهو أهْلَةُ ذاك. وكما قال الراجز

(5)

:

يا مضرُ الحمراءُ أنتِ أُسْرتى

وأنت مَلْجاتى وأنتِ ظَهْرَتى

يريدُ: ظهرى.

وقد بيَّن ابن عباسٍ ومجاهدٌ ما أرادا مِن المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرأا، فلا وجهَ لقولِ هذا القائلِ ما قال مع بيانِهما عن أنفسِهما ما قصدًا

(6)

إليه مِن معنى ذلك.

وقولُه: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} . يقولُ: قال فرعونُ: سنُقَتِّلُ أبناءَهم الذكورَ مِن أولادِ بنى إسرائيلَ، {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}. يقولُ: ونستبقى إناثَهم، {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}. يقولُ: وإنا عالون عليهم بالقهرِ. يعنى بقهرِ المُلْكِ والسلطانِ.

(1)

اللعباء: اسم لسبخة معروفة بناحية البحرين بحذاء القطيف على سيف البحر. معجم البلدان 4/ 358. والبيت فيه.

(2)

في م: "عصرا" وهو رواية فيه، وهما بمعنى.

(3)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"هذا".

(4)

في م: "أماتي".

(5)

الرجز في التبيان 4/ 513.

(6)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، وفى م:"ذهبا".

ص: 370

وقد بيَّنا أن كلَّ

(1)

عالٍ بقهرٍ وغلبةٍ على شيءٍ، فإن العربَ تقولُ: هو فوقَه

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} .

يقولُ تعالى ذكرُ: قال موسى لقومِه مِن بنى إسرائيلَ لما قال فرعونُ للملأ مِن قومِه: سنُقَتِّلُ أبناءَ بنى إسرائيلَ ونَستحيى نساءَهم -: اسْتَعينوا باللهِ على فرعونَ وقومِه فيما ينوبُكم مِن أمرِكم، واصبِروا على ما نالكم مِن المكارِهِ في أنفسِكم وأبنائكم مِن فرعونَ.

وكان قد تَبع موسى مِن بنى إسرائيلَ على ما حدَّثني به عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيم بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس، قال: لما آمنَت السحرةُ، اتَّبع موسى ستُّمائةِ ألفٍ من بنى إسرائيلَ

(3)

.

وقولُه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، يقولُ: إن الأرضَ لله، لعلَّ الله يُورِثُكم إن صَبَرتم على ما نالكم مِن مكروهٍ في أنفسِكم وأولادِكم مِن فرعونَ، واحتسبْتم ذلك، واستقمْتم [من دينكم]

(4)

على السدادِ - أرضَ فرعونَ وقومِه، بأن يُهْلِكَهم ويستخلِفَكم فيها، فإن الله يُورِثُ أَرضَه مَن يَشَاءُ مِن عبادِه، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. يقولُ: والعاقبةُ المحمودةُ لمَن انقى الله وراقبَه، فخافَه باجتنابِ معاصيه وأداءِ فرائضِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"شيء".

(2)

ينظر ما تقدم في 9/ 180.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى المصنف.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 371

فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}.

يقولُ جل ثناؤُه: قال قومُ موسى لموسى حينَ قال لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} : {أُوذِينَا} بقتلِ أبنائنا، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا}. يقولُ: مِن قبلِ أن تأتيَنا برسالةِ اللهِ إلينا؛ لأنَّ فرعونَ كان يقتلُ أولادَهم الذكورَ حين أظلَّه زمانُ موسى على ما قد بيَّنْتُ فيما مضى مِن كتابِنا هذا

(1)

.

وقولُه: {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} . يقولُ: ومِن بعدِ ما جئتَنا برسالةِ اللهِ؛ لأنَّ فرعونَ لما غُلبت سحرتُه، وقال الملأُ

(2)

مِن قومِه له ما قالوا

(3)

، أراد تجديدَ العذابِ عليهم بقتلِ أبنائهم واستحياءِ نسائهم.

وقيل: إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك حين خافوا أن يُدركَهم

(4)

فرعونُ وهم منه هاربون، وقد تراءى الجمعان، فقالوا له: يا موسى {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} : كانوا يذبِّحون أبناءَنا ويستحيون نساءَنا، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}: اليوم يدرِكُنا فرعونُ فيقتلُنا.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} : من قبل إرسالِ اللَّهِ إياك وبعدَه

(5)

.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 646.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"للملأ".

(3)

سقط من: ت 1، وفى ص، م، ت 2، ت 3، س، ف:"قال".

(4)

بعده في ص، ت 1، س:"من".

(5)

تفسير مجاهد ص 341، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1541 (8834، 8836). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 107 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 372

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بن حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} : فنظرَتْ بنو إسرائيلَ إلى فرعونَ قد ردَفَهم، قالوا:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]. قالوا [يا موسى]

(1)

{أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} : كانوا يذبِّحون أبناءَنا ويَسْتَحْيون نساءَنَا {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} : اليومَ يدركُنا فرعونُ فيَقتلُنا، إنا لمُدرَكون

(2)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: أسْرَى

(3)

موسى ببنى إسرائيلَ حتى هجموا على البحرِ، فالتفتُوا فإذا هم برَهَجِ دوابِّ فرعونَ، فقالوا: يا موسى، {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} ، هذا البحرُ أمامَنا، وهذا فرعونُ [قد رهِقنا]

(4)

بمن معه. قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .

وقولُه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} . يقولُ جل ثناؤُه: قال موسى لقومِه: لعلّ ربَّكم أن يُهلك عدوّكم فرعونَ وقومَه، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ}. يقولُ: ويجعلَكم تخلفونهم في أرضِهم بعدَ هلاكِهم، لا تخافونَهم ولا أحدًا مِن الناسِ غيرَهم. {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. يقولُ: فيرى ربُّكم ما تعملون بعدَهم مِن

(1)

سقط من: م.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 415، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2769 (15657) من طريق عمرو بن حماد به.

(3)

في ص: "سرى"، وفى م:"سار"، وفى ت 1، ت 2 ت، ف:"سوى".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف. ورهِق فلان فلانا: تبعه فقارب أن يلحقه اللسان (ر هـ ق).

ص: 373

مسارعتِكم في طاعته أو

(1)

تثاقلِكم عنها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)} .

يقول تعالى ذكرُه: ولقد اختبرْنا قومَ فرعونَ وتبَّاعَه على ما هم

(2)

عليه مِن الضلالةِ - {بِالسِّنِينَ} . يقولُ: بالجُدوبِ سنةً بعد سنةٍ، والقُحوطِ. يقالُ منه: أسْنَتَ القومُ: إذا أَجْدَبوا، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}. يقولُ: واختبرْناهم مع الجُدوبِ بذهابِ ثمارِهم وغلّاتِهم إلَّا القليلَ. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . يقولُ: عِظَةً لهم وتذكيرًا لهم، ليَنْزَجِروا عن ضلالتِهم، ويَفْزَعوا إلى ربِّهم بالتوبةِ.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شريكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي عبيدةَ، عن عبدِ اللهِ:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} . قال: سِنِي الجوعِ

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{بِالسِّنِينَ} : الجائحةِ، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}: دونَ ذلك

(4)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت،3، س، ف:"و".

(2)

في الأصل: "هو".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1542 (8840) من طريق شريك به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

تفسير مجاهد ص 341، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1542، 1543 (8842، 8844)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 374

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.

حدَّثني القاسمُ بنُ دينارٍ، قال: ثنا عبيدُ اللِه بنُ موسى، عن شيبانَ، عن أبي إسحاقَ، عن رجاءِ بن حَيْوةَ في قولِه:{وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ، قال: حتى

(1)

لا تحمِلَ النخلةُ إلا تمرةً

(2)

واحدةً

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن رجاءِ بن حيوةَ، عن كعبٍ، قال: يأتى على الناسِ زمانٌ لا تحمِلُ النخلةُ فيه

(4)

إلا تمرةً واحدةً

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحمانيُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن رجاءِ بن حيوةَ قولَه:{وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} . قال: يأتى على الناسِ زمانٌ لا تحمِلُ النخلةُ إلا ثمرةً.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} : أخَذَهم اللهُ بالسنين، بالجوعِ عامًا فعامًا، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ؛ فأمَّا {السِّنِينَ} فكان ذلك [في باديَتِهم]

(5)

وأهلِ مواشيهم، وأما {نَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ، فكان ذلك في أمصارِهم وقراهم

(6)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"حين"، وفى م:"حيث".

(2)

في ف: "ثمرة".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1542 (8843) من طريق شيبان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2 ت 3 س:"بباديتهم".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1542 (8839) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 375

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا جاءت آلَ فرعونَ العافيةُ والخِصْبُ والرخاءُ وكثرةُ الثمارِ

(1)

، ورأَوا ما يُحِبُّون في دنياهم - {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} و

(1)

نحن أولى بها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}. يعنى: جدوبٌ وقُحوطٌ وبلاءٌ، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}. يقولُ: يتشاءموا بهم ويقولوا: ذهَبتْ حظوظُنا وأَنْصِباؤُنَا مِن الرَّخاءِ والخصْبِ والعافيةِ مُذ جاءنا موسى.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ في قوله:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} : العافيةُ والرَّخَاءُ، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} . نحن أحقُّ بها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: بلاءٌ وعقوبةٌ {يَطَّيَّرُوا} : يتشاءَموا {بِمُوسَى}

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} . قالوا: ما أصابنا هذا الشرُّ

(3)

إلَّا بكَ يا موسى وبمَن معك، ما رأينا شرًّا ولا أصابنا حتى

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

تفسير مجاهد ص 342، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1543 (8845). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 376

رأيناك. وقولُه: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} . قال: الحسنةُ ما يحبُّون، وإذا كان ما يكرَهون، قالوا: إنما

(1)

أصابنا هذا

(2)

بشؤمِ هؤلاءِ الذين ظلَموا

(3)

. كما

(4)

قال قومُ صالحٍ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} . فقال اللهُ: إنَّما {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}

(5)

[سورة النمل: 47].

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: ألا ما طائرُ آلِ فرعونَ وغيرِهم - وذلك أنصباؤُهم مِن الرَّخاءِ والخِصْبِ وغيرِ ذلك مِن أنصباءِ الخيرِ أو

(6)

الشرِّ - إلا عندَ اللهِ، ولكنَّ أكثرَهم لا يعلمون أن ذلك كذلك، فلجهلِهم بذلك كانوا يطَّيَّرون بموسى وبمن معه.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . يقولُ: مصائبُهم عندَ اللهِ، قال اللهُ:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

(1)

في م: "ما".

(2)

بعده في م: "إلا".

(3)

كذا في النسخ، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"بين أظهرنا".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1543 (8846، 888، 8850) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد به.

(6)

في ص، م، ف:"و".

ص: 377

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . قال: الأمرُ مِن قِبَلِ اللَّهِ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} .

يقولُ تعالى ذكرُه، وقال آلُ فرعونَ لموسى: يا موسى {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ [مِنْ آيَةٍ} ]

(2)

: مِن علامةٍ ودلالةٍ {لِتَسْحَرَنَا بِهَا} . يقولُ: لتَلْفِتَنا

(3)

بها عما نحن عليه من دينِ فرعونَ، {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}. يقولُ: فما نحن لك في ذلك بمصدِّقين على أنك محقٌّ فيما تدعونا إليه.

وقد دلَّلْنا فيما مضى على معنى "السحرِ" بما أغنى عن إعادتِه

(4)

.

وكان ابن زيدٍ يقولُ في معنى {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} . ما حدَّثني يونسُ، [قال: أخبَرنا ابن وهب]

(5)

، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} . قال: إن ما تأتنا به مِن آيةٍ. وهذه فيها زيادةُ "ما"

(6)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعز: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا} .

اختلف أهلُ التأويلِ في معنى الطوفانِ؛ فقال بعضُهم: هو الماءُ.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى المصنف.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

في س: "لتنقلنا".

(4)

ينظر ما تقدم في 2/ 350 - 355.

(5)

سقط من: ص، م، س، ف.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1544 (8853) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد.

ص: 378

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا حَبُّويَه أبو يزيدَ

(1)

، عن يعقوبَ القُمِّيِّ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما جاء موسى بالآياتِ، كان أوّلَ الآياتِ الطوفانُ، فأرسَل اللهُ عليهم السماءَ

(2)

.

حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا ابن يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ، عن أبي مالكٍ، قال: الطوفانُ الماءُ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، قال: الطوفانُ الماءُ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جابرُ بن نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: الطوفانُ الغرقُ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال حدَّثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: الطوفانُ الماءُ والطاعونُ على كلِّ حالٍ

(6)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثني أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: الطوفانُ الموتُ على كلِّ حالٍ

(7)

.

(1)

في م: "الرازى"، وفى ف "مرثد"، وغير منقوطة في ص.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1545 (8864) من طريق يعقوب به مطولا.

(3)

سيأتي تخريجه في ص 383، 387.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1544 عقب الأثر (8857)، وأخرجه في 5/ 1545 (8859) من طريق المحاربي، بلفظ:"الغرق".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1544 (8857) من طريق أبى روق به بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى أبى الشيخ.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1545 (8860) عن أبي عاصم به.

(7)

تفسير مجاهد ص 342 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 108 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 379

حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: الطوفانُ الماءُ

(1)

.

وقال آخرون: بل هو الموتُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا المنهالُ بن خليفةَ، عن الحجاجِ، عن الحَكَمِ بن ميناءَ، عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّوفانُ المَوْتُ"

(2)

.

حدَّثني عباسُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: سألتُ عطاءً ما الطوفانُ؟ قال: الموتُ

(3)

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ رجاءٍ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، و

(4)

عمن حدَّثَه، عن مجاهدٍ، قالا

(5)

: الطوفانُ الموتُ.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن عبدِ اللَّهِ بن كثيرٍ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} . قال: الموتُ.

قال ابن جريجٍ: وسألتُ عطاءً عن الطوفانِ، قال: الموتُ. قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: الموتُ على كلِّ حالٍ.

(1)

سيأتي بتمامه في ص 391، 392.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1544 (8855)، وابن مردويه - كما في تفسير ابن كثير 3/ 458 - من طريق يحيى بن يمان به. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 67 من طريق حجاج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى أبى الشيخ، وقال ابن كثير: وهو حديث غريب.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

(4)

سقط من: ص، م، ف.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"قال".

ص: 380

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن المنهالِ بن خليفةَ، عن حجاجٍ، عن رجلٍ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الطوفانُ المَوْتُ"

(1)

.

وقال آخرون: بل كان ذلك أمرًا مِن اللهِ طاف بهم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: حدَّثني جريرٌ، عن قابوسَ بن أبي ظَبْيانَ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} . قال:

(2)

"أمرٌ [من أمرِ]

(3)

اللهِ؛ الطوفانُ. ثم قرَأ

(4)

{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}

(5)

[سورة القلم: 19].

وكان بعضُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ مِن أهلِ البصرةِ

(6)

.

يزعُمُ أن الطوفانَ من السيلِ: البُعاقُ والدُّباشُ، وهو الشديدُ. ومن الموتِ: المبالغُ

(7)

الذريعُ السريعُ.

وقال بعضُهم: هو كثرةُ المطرِ والريحِ.

وكان بعضُ نحوييِّ الكوفيين يقولُ: الطوفانُ مصدرٌ مثلَ الرُّجْحانِ والنُّقْصانِ، لا يجمعُ.

وكان بعضُ نحوييِّ البصرةِ

(8)

يقولُ: هو جمعٌ، واحدُها في القياسِ الطوفانةُ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1544 (8856) من طريق يحيى به، وسمى المبهم فيه عطاء.

(2)

بعده في ص: "هو".

(3)

سقط من: ص، م، ف.

(4)

في الأصل، م:"قال".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1544 (8858) من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 108 إلى ابن المنذر.

(6)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 226.

(7)

في ص، ف:"المتابع"، وفى م:"المتتابع".

(8)

هو الأخفش كما في تهذيب اللغة 14/ 33.

ص: 381

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى ما قاله ابن عباسٍ، على ما رواه عنه أبو ظَبْيانَ، أنه أمرٌ مِن أمرِ

(1)

الله طاف بهم، وأنه مصدرٌ مِن قولِ القائلِ: طاف بهم أمرُ اللهِ، يطوفُ طوفانًا. كما يقالُ: نقَص هذا الشيءُ يَنقُصُ نُقْصانًا. وإذا كان ذلك كذلك، جاز أن يكونَ الذي طاف بهم المطرَ الشديدَ، وجاز أن يكونَ الموتَ الذريعَ. ومن الدلالةِ على أن المطرَ الشديدَ قد يُسمَّى طوفانًا، قولُ الحسن

(2)

بن عُرفُطةَ

(3)

:

غَيَّر الجِدَّةَ من عِرْفانِهِ

(4)

خِرَقُ

(5)

الريحِ وطُوفانُ المطرْ

ويُرْوى:

* خُرُقُ الريحِ بطوفانِ المطرْ *

وقولُ الراعى

(6)

:

تُضْحِى إذا العيسُ أدْرَكنا نكائثَها

(7)

خَرْقاءَ يَعْتادُها الطوفانُ والزُّؤُدُ

(8)

وقولُ أبي النجمِ

(9)

:

قد

(10)

مَدَّ طُوفانٌ فبَثَّ مَدَدَا

شهرًا شآبيبَ

(11)

وشهرًا بَرَدَا

(1)

سقط من: ص، م، ف.

(2)

كذا في النسخ، وهو كذلك في نسخة من البيان والتبيين 3/ 249، واللسان (ك و ن)، وهو حسيل، ويقال: حسين. ينظر نوادر أبي زيد ص 77، والبيان والتبيين 3/ 249، والإصابة 2/ 76.

(3)

نوادر أبي زيد ص 77، والمنصف شرح التصريف 2/ 228، ولم ينسبه في المنصف.

(4)

في م: "آياتها".

(5)

الخرق: القِطَع من الريح، واحدتها خِرْقة. النوادر الموضع السابق.

(6)

ديوانه ص 86.

(7)

سقط من: ت 1، س، ف، ونكيثة البعير: أقصى مجهوده في السير. اللسان (ن ك ث).

(8)

في ص، ت 1، س، ف:"الرود"، والزؤد: الفزع. اللسان (ز أ د).

(9)

ليس في الديوان، وهو في التبيان للطوسى 4/ 521.

(10)

في الأصل: "و".

(11)

الشآبيب: الدفعات من المطر. اللسان (ش أ ب).

ص: 382

وأما {القُمَّلَ} ، فإن أهلَ التأويلِ اختلَفوا في معناه؛ فقال بعضُهم: هو السوسُ الذي يخرُجُ مِن الحنطةِ.

‌ذكر من قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن يعقوبَ القُمِّيِّ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: القُمَّلُ هو السوسُ الذي يخرُجُ مِن الحنطةِ

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ بنحوِه

(2)

.

وقال آخرون: بل هو الدَّبَى، وهو صغارُ الجرادِ الذي لا أجنحةَ له.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ، قال: القُمَّلُ الدَّبَى

(3)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: الدَّبَى هو

(4)

القُمَّلُ

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: القُمَّلُ الدَّبَى

(6)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: ثنا معمرٌ، عن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1547 (8871) من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 110 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وسيأتي في ص 387.

(2)

سيأتي مطولا في ص 386، 387.

(3)

سيأتي بتمامه في ص 88، 389.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

سيأتي بتمامه في ص 387، 388.

(6)

سيأتي تخريجه في ص 394.

ص: 383

قتادةَ، قال: القُمَّلُ هي الدَّبَى، وهى أولادُ الجرادِ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: القُمَّلُ هو لدَّبَي.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: القُمَّلُ الدَّبَى

(2)

.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ]

(3)

، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن قيسٍ، عمن ذكَرَه، عن عكرمةَ، قال: القُمَّلُ بناتُ الجرادِ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: القُمَّلُ الدَّبَى

(5)

.

وقال آخرون: بل القُمَّلُ البراغيثُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} . قال: زعَم بعضُ الناسِ في القُمَّلِ أنها البراغيثُ

(6)

.

(1)

سيأتي تخريجه بتمامه في ص 388.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1546 (8870) من طريق أبي روق به، وفي (8869) من طريق عكرمة، عن ابن عباس.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 110 إلى أبي الشيخ.

(5)

سيأتي بتمامه في ص 391، 392.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1547 (8875) من طريق أصبغ بن الفرج، عن ابن زيد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 110 إلى أبى الشيخ.

ص: 384

وقال بعضهم: هي دوابٌّ سودٌ صغارٌ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ والحسنَ قالا: القُمَّلُ دوابُّ سودٌ صغارٌ

(1)

.

وكان بعضُ أهل العلمِ بكلامِ العربِ مِن أهلِ البصرةِ

(2)

يزعُمُ أَنَّ القُمَّلَ عندَ العربِ الحَمْنانُ. والحَمْنانُ ضَرْبٌ مِن القِرْدانِ

(3)

واحِدَتُها حَمْنانَةٌ. وهى صغارُ القِردانِ فوقَ القَمْقامَةِ. والقُمَّلُ جمع واحدتُها قُمَّلَةٌ، وهى دابةٌ تُشْبِهُ القَمْلَ تأكُلُها الإبلُ فيما بلغنى، وهى التي عناها الأعشَى في قولِه

(4)

:

قَوْمٌ يُعالِجُ قُمَّلًا أَبْناؤُهُمْ

وَسَلَاسِلًا أُجُدًا وَبَابًا مُؤصَدًا

وكان الفرَاءُ يقولُ

(5)

: لم أسمعْ فيه شيئًا، فإِن

(6)

يَكُنْ جمعًا فواحِدُه قامِلٌ، مثلَ ساجدٍ وراكعٍ، وإن يكنِ اسمًا على معنى جمعٍ، فواحدتُه قمَّلةٌ.

[وقال بعضُهم: هو مِن الجِعْلانِ]

(7)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1547 (8872) من طريق عامر الأحول عن الحسن، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 96 عن سعيد بن جبير والحسن.

(2)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 226.

(3)

القردان: واحده القُراد، دويْبَّة متطفلة من المفصليات ذات أربعة أزواج من الأرجل تعيش على الدواب والطيور وتمتص دمها. الوسيط (ق ر د). والقُراد أول ما يكون وهو صغير لا يكاد يرى من صغره، يقال له: قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم قرادا. اللسان (قمقم، ح م ن).

(4)

ديوانه ص 231.

(5)

تهذيب اللغة 9/ 186.

(6)

بعده في م: "لم".

(7)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف. والجعلان: واحده الجُعَل، حيوان كالخنفساء يكثر في المواضع الندية. اللسان (ج ع ل).

ص: 385

‌ذكر المعانى التي حدَثت في قومِ فرعونَ بحدوثِ هذه الآياتِ والسببُ الذي مِن أجله أحدَثَها اللهُ فيهم

حدَّثنا محمدُ بنُ حميدٍ الرازيُّ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرِ بن المغيرةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: لما أتى موسى فرعونَ، قال له: أرسلْ معىَ بني إسرائيلَ. فأبى عليه، فأرسلَ اللهُ عليهم الطوفانَ، وهو المطرُ، فصبّ عليهم منه شيئًا، فخافوا أن يكونَ عذابًا، فقالوا لموسى: ادعُ لنا ربَّك [يَكْشِفْ عنا المطرِ فنُؤْمِنَ لك ونُرْسِلَ]

(1)

معك بني إسرائيلَ. فدعا ربَّه، فلم يُؤمنوا، ولم يُرسِلوا معه بني إسرائيلَ، فأَنْبَتَ لهم في تلكَ السنةِ شيئًا لم يُنْبِتْه قبلَ ذلك مِن الزرعِ والثمرِ والكلأَ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنَّى. فأرسل اللهُ عليهم الجرادَ، فسلَّطه على الكلأِ، فلما رأوا أثرَه في الكلأَ عَرَفوا أنه لا يُبْقِى الزرعَ، فقالوا: يا موسى، ادعُ لنا ربكَ فيكشفَ عنا الجرادَ، فنؤمنَ لكَ، ونرسلَ معكَ بنى إسرائيلَ. فدعا ربَّه، فكشَف عنهم الجرادَ، فلم يؤمنوا، ولم يرسِلوا معه بني إسرائيلَ، فداسُوا وأحرزُوا في البيوتِ، فقالوا: قد أحرَزْنا، فأرسلَ اللهُ عليهم القُمَّلَ، وهو السوسُ الذي يخرجُ منه، فكان الرجلُ يُخرِجُ عَشَرَةَ أجربةٍ إلى الرَّحَى، فلا يَرُدُّ منها ثلاثةَ أقفِزةٍ، فقالوا: يا موسى، ادعُ لنا ربَّك يكشفْ عنا القُمَّلَ، فنؤمِنَ لكَ، ونرسلَ معك بني إسرائيلَ. فدعا ربَّه فكشف عنهم، فأبَوا أن يُرسلُوا معه بنى إسرائيلَ. فبينا هو جالسٌ عند فرعونَ إذ سمِع نقيقَ ضِفْدَعٍ، فقال لفرعونَ: ما تلقى أنتَ وقومكَ مِن هذا؟ فقال: وما عسى أن يكونَ كيدُها، فما أمسَوا حتى كان الرجلُ يجلسُ إلى ذَقْنِه في الضفادعِ، ويهمُّ أن يتكلمَ فيثبُ الضِّفْدَعُ في فيه. فقالوا لموسى ادعُ لنا ربَّك يكشِفْ عنا هذه الضفادعَ، فنؤمنَ لك،

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن"، ولكن في ص:"المطر" بدلا من "الرجز".

ص: 386

ونرسلَ معك بني إسرائيل

(1)

، فأرسل اللهُ عليهم الدَّمَ، فكان ما استقوا مِن الأنهارِ والآبارِ، أو ما كان في أوعيَتِهم، وجدوه دمًا عبيطًا، فشكَوا إلى فرعونَ فقالوا: إنا قد ابتُلينا بالدمِ، وليس لنا شرابٌ. فقال: إنه قد سحَركم. فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجدُ في أوعيتِنا شيئًا مِن الماء إلا وجدناه دمًا عبيطًا. فأتَوه وقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك يكشفْ عنا هذا الدمَ، فنؤمنَ لك، ونرسلَ معك بني إسرائيلَ، فدعا ربَّه، فكُشِف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيلَ

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حَبُّويَه أبو يزيدَ، عن يعقوبَ القُمِّيِّ، عن جعفرٍ، عن [عن سعيد بن جبيرٍ]

(3)

عن ابن عباسٍ، قال: لما خافوا الغرقَ، قال فرعونُ: يا موسى ادعُ لنا ربَّك يكشِف عنا هذا المطرَ، فنؤمنَ لك. ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابن حميدٍ، عن يعقوبَ

(4)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قال: ثم إن الله أرسَل عليهم - يعنى: على قوم فرعونَ - الطوفانَ، وهو المطرُ، فغرِق كلُّ شيءٍ لهم، فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك يكشِفْ عنا، ونحن نؤمنُ لك، ونرسل معك بني إسرائيلَ. فكشَفه اللهُ عنهم ونبَتت به زروعُهم، فقالوا: ما يسرُّنا أنَّا لم نمطَرْ. فبعَث اللهُ عليهم الجرادَ، فأكل حروثَهم، فسألوا موسى أن يدعوَ ربَّه فيكشِفَه ويؤمنوا به، فدعا فكشَفه، وقد بقِى من زروعِهم بقيةٌ، فقالوا: لم تؤمنون وقد بقى لنا من زُروعنا بقيَّةٌ تكفينا؟ فبعث الله عليهم الدَّبَى - وهو القُمَّلُ - فلحَس الأرضَ كلَّها، وكان يدخلُ بينَ ثوبِ أحدِهم وبينَ جلدِه فيعَضُّه،

(1)

بعده في م: "فكشف عنهم فلم يؤمنوا".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 461، 462 عن المصنف.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1545 - 1549 (8864، 8871، 8876، 8880) من طريق يعقوب به.

ص: 387

وكان يأكُلُ أحدُهم الطعامَ فيمتلئُ دَبًى، حتى إن أحدَهم ليبنى الأسطوانةَ بالجصِّ فيُزْلِقُها حتى لا يَرْتَقِيَ فوقَها شيءٌ؛ يرفعُ فوقها الطعامَ، فإذا صعِد إليه ليأكلَه وجَده ملآن دَبًى، فلم يصابوا ببلاءٍ كان أشدَّ عليهم مِن الدَّبَى، وهو الرِّجزُ الذي ذكَر اللهُ في القرآنِ أنه وقَع عليهم، فسألوا موسى أن يدعَو ربَّه فيكشفَ عنهم، ويؤمنوا به، فلما كشَف عنهم أَبَوا أن يؤمنوا، فأرسل اللهُ عليهم الدمَ، فكان الإسرائيليُّ يأتى هو والقبطيُّ يستقيان مِن ماءٍ واحدٍ، فيَخرجُ ماءُ هذا القبطيِّ دمًا، ويخرج للإسرائيليِّ ماءً، فلما اشتدَّ ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفَه ويؤمنوا به، فكشف ذلك، فأَبَوا أن يؤمنوا، فذلك حينَ يقولُ اللَّهُ:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}

(1)

[الزخرف: 50].

حدَّثنا محمد بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} . قال: أرسَل اللهُ عليهم الماءَ حتى قاموا فيه قيامًا، ثم كشَف عنهم، فلم ينتفِعوا

(2)

، وأخصَب بلادَهم خِصْبًا لم تَحْصَبْ مثلَه، فأرسل اللهُ عليهم الجرادَ فأكلته إلا قليلًا، فلم يؤمِنوا أيضًا، فأرسل اللهُ عليهم

(2)

القُمَّلَ، وهى الدَّبَى، وهى أولادُ الجرادِ، فأكلت ما بقى مِن زروعِهم، فلم يؤمنوا، فأرسل اللهُ

(3)

عليهم الضفادعَ، فدخَلت عليهم بيوتَهم، ووقَعَت في آنيتِهم وفُرُشِهم، فلم يؤمنوا، ثم أرسل اللهُ عليهم الدمَ، فكان أحدُهم إذا أراد أن يشربَ تحوَّلَ ذلك الماءُ دمًا، قال اللهُ:{آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ}

(4)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 410 بإسناد السدى المعروف مطولًا جدًّا، وسقط ذكر عمرو بن حماد من التاريخ.

(2)

في م: "يؤمنوا"، وفى تفسير عبد الرزاق، وتاريخ ابن عساكر:"ينتهوا".

(3)

سقط من: م.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 234 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 61/ 69 - عن معمر به، وأخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1549 (8882) من طريق محمد بن عبد الأعلى به.

ص: 388

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} حتى بلغ {مُجْرِمِينَ} . قال

(1)

: أرسل اللهُ عليهم الماءَ حتى قاموا فيه قيامًا، فدعوا موسى فدعا ربَّه، فكشَفه عنهم. ثم عادوا لشرِّ ما بحضرتِهم. ثم أنبتَت أرضُهم، ثم أرسل الله عليهم الجراد، فأكل عامَّةَ حروثِهم وثمارِهم، ثم دعوا موسى فدعا ربَّه فكشَفه عنهم، ثم عادوا لشرِّ ما بحضرتِهم. فأرسل اللهُ عليهم القُمَّلَ، هذا الدَّبَى الذي رأيتم، فأكل ما أبقى الجرادُ مِن حروثِهم، فلحَسه، فدعوا موسى، فدعا ربَّه، فكشَفه عنهم، ثم عادوا لشرِّ ما بحضرتِهم. ثم أرسل اللهُ عليهم الضفادعَ، حتى مَلأت بيوتَهم وأَفْنِيَتَهم، فدعوا موسى، فدعا ربَّه فكشف عنهم، ثم عادوا بأشرِّ ما بحضرتِهم. فأرسل اللهُ عليهم الدمَ، فكانوا لا يغترِفون من مائهم إلا دمًا، أحمرَ، حتى لقد ذُكِر أن عدوَّ اللهِ فرعونَ كان يجمَعُ بينَ الرجلين على الإناءِ الواحدِ، القبطيِّ والإسرائيليِّ، فيكونُ مما يلى الإسرائيليَّ ماءً، ومما يلى القبطىَّ دمًا، فدعوا موسى، فدعا ربَّه، فكشَفه عنهم في تسعِ آياتٍ: السنينَ، ونقصٍ مِن الثمراتِ، وأراهم يدَ موسى عليه السلام وعصاه.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} : وهو المطرُ، حتى خافوا الهلاكَ، فأتوا موسى، فقالوا: ي موسى ادعُ لنا ربَّك أن يكشفَ عنا المطرَ، [فإنا نؤمنُ لك ونرسِلُ معك بني إسرائيلَ، فدعا ربَّه، فكشَف عنهم المطرَ]

(2)

، فأنبت اللهُ به حرثَهم، وأخصبَ به بلادَهم، فقالوا: ما نحبُّ أنا لم نمطرُ بتركِ دينِنا، فلن نؤمنَ لك، ولن نرسلَ معك بنى إسرائيلَ. فأرسل اللهُ عليهم الجرادَ، فأسرعَ في فسادِ ثمارِهم وزروعِهم، فقالوا: يا

(1)

بعده في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ف:"طوفان".

(2)

زيادة من: م.

ص: 389

موسى ادعُ لنا ربَّك [يكشفْ عنا الجرادَ، فإنا سنُؤمنُ لك ونُرسلُ معك بني إسرائيلَ]

(1)

. فدعا ربَّه، فكشَف عنهم الجرادَ، وكان قد بقى مِن زرعِهم ومعايشِهم بقايا، فقالوا: قد بقِى لنا ما هو كافينا، فلن نؤمن لك ولن نرسلَ معك بني إسرائيلَ. فأرسل اللهُ عليهم القُمَّلَ - وهو الدَّبَى - فتتبع ما كان تركَ الجرادُ، فجزعوا وأحسُّوا بالهلاكِ، قالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك يكشفْ عنا الدَّبَى، فإنا سنؤمنُ لك، ونرسلُ معك بني إسرائيلَ. فدعا ربَّه، فكشَف عنهم الدَّبَى، فقالوا: ما نحن لك بمؤمنين ولا مُرسِلين معك بني إسرائيلَ. فأرسل اللهُ عليهم الضفادعَ، فملأَ بيوتَهم مِنها، ولقُوا منها أذًى شديدًا لم يَلْقَوا مثلَه فيما كان قبلَه، أنها كانت تثبُ في قدورِهم، فتُفْسِدُ عليهم طعامهم، وتطفئُ نيرانَهم، قالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّكَ يَكْشِفْ عنا الضفادعَ، فقد لقينا منها بلاءً وأذى، فإنا سنؤمنُ لك، ونرسلُ معك بني إسرائيلَ. فدعا ربَّه، فكشَف عنهم الضفادعَ، فقالوا: لا نؤمنُ لك، ولا نرسلُ معك بني إسرائيلَ. فأرسل اللهُ عليهم الدمَ، فجعَلوا لا يأكُلون إلا الدمَ، ولا يَشْرَبون إلا الدمَ، فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّكَ يَكْشِفْ عنا الدمَ، فإنا سنُؤمن لك، ونرسلُ معك بني إسرائيلَ. فدعا ربَّه فكشَف عنهم الدمَ، فقالوا: يا موسى لن نؤمنَ لك ولن نرسلَ معك بني إسرائيلَ. فكانت آياتٍ مفصَّلاتٍ بعضُها على إثرِ بعضٍ، ليكونَ للَّهِ عليهم الحجةُ، فأخذهم اللهُ بذنوبِهم، فأغرقَهم في اليَمِّ

(2)

.

حدَّثني عبدُ الكريم، قال: ثنا إبراهيمُ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: أُرسِلَ على قومِ فرعونَ الآياتُ؛ الجرادُ، والقُمَّلُ، والضفادعُ، والدمُ {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ}. قال: فكان الرجلُ من بني إسرائيلَ يركَبُ

(1)

سقط من: ص، ت 1، س، ف.

(2)

أخرج بعضه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1545، 1549 (8861، 8863، 8885) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 109 إلى ابن المنذر.

ص: 390

مع الرجلِ من قومِ فرعونَ في السفينةِ، فيغرفُ الإسرائيليُّ ماءً، ويغرفُ الفِرعَونيُّ دمًا. قال: وكان الرجلُ مِن قومِ فرعونَ ينامُ في جانبٍ، فيكثُرُ عليه القُمَّلُ والضفادعُ حتى لا يقدرَ أن ينقلبَ على الجانبِ الآخرِ، فلم يزالوا كذلك حتى أوحى اللهُ إلى موسى:{مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52].

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: لما أتى موسى فرعونَ بالرسالةِ أبى أن يؤمنَ، وأن يرسلَ معه بني إسرائيلَ، فاستكبرَ، قال: لن أرسلَ معك بني إسرائيلَ. فأرسل الله عليهم الطوفانَ، وهو الماءُ؛ أمطرَ عليهم السماءَ حتى كادوا يَهلِكون، وامتنع منهم كلُّ شيءٍ، فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك بما عهِد عندَك لئن كشَفت عنا هذا لنُؤْمننَّ لك، ولنُرْسِلَنَّ معك بني إسرائيلَ. فدعا الله فكشَف عنهم المطرَ، فأنبَت اللهُ لهم حروثَهم، وأحيا بذلك المطرِ كلَّ شيءٍ من بلادِهم، فقالوا: واللهِ ما نُحِبُّ أنا لم نَكُنْ أُمْطِرنا هذا المطرَ، ولقد كان خيرًا لنا، فلن نرسلَ معك بني إسرائيلَ، ولن نؤمنَ لك يا موسى. فبعَث اللهُ عليهم الجرادَ، فأكل عامَّةَ حروثِهم، وأسرع الجرادُ في فسادِها، فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك يَكْشِفْ عنا الجرادَ، فإنا مؤمنون لك، ومرسلون معك بني إسرائيلَ. فكشَف اللهُ عنهم الجرادَ، وكان الجرادُ قد أبقى لهم من حروثِهم بقيةً، فقالوا: قد بقِى لنا من حروثِنا ما كان كافينا، فما نحن بتاركي دينِنا، ولن نُؤمنَ لك، ولن نرسلَ معك بني إسرائيلَ. فأرسل اللهُ عليهم القُمَّلَ - والقُمَّلُ الدَّبَى، وهو الجرادُ الذي ليست له أجنحةٌ - فتتبع ما بقى من حروثهم وشجرِهم وكلِّ نبات كان لهم، فكان القُمَّلُ أشدَّ عليهم مِن الجرادِ، فلم يستطيعوا للقُمَّل حيلةٌ، وجزِعوا من ذلك فأتَوا موسى، فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربَّك يَكْشِفْ عنا القُمَّلَ، فإنه لم يُبْقِ لنا شيئًا، قد أكَل ما بقِى مِن حروثِنا، ولئن كشَفت عنا القُمَّلَ لنؤمننّ لك، ولنرسِلنَّ معك بني إسرائيلَ. فكشَف

ص: 391

عنهم القُمَّلَ فنكَثوا. وقالوا: لن نؤمنَ لك، ولن نُرسلَ معك بني إسرائيلَ. فأرسَل اللهُ عليهم الضفادعَ، فامتلأت منه البيوتُ، فلم يبقَ لهم طعامٌ ولا شرابٌ إلا وفيه الضفادعُ، فلَقُوا منها شيئًا لم يَلْقَوْه فيما مضَى، فقالوا:{يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134]. قال: فكشَف الله عنهم فلم يفعَلوا، فأنزل الله:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} إلى {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 135، 136]

(1)

.

حدَّثنا محمد بنُ حميدٍ الرازيُّ، قال: ثنا أبو تُميْلَةَ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت الضفادعُ برِّيَّةً، فلما أرسَلها اللهُ على آلِ فرعونَ، سمِعت وأطاعت، فجعَلت تقذِفُ

(2)

أنفسَها في القدورِ وهى تغلى، وفي التنانيرِ وهى تفورُ، فأثابَها الله بحسنِ طاعتِها بَرْدَ الماءِ

(3)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: فرجَع عدوُّ اللهِ - يعنى فرعون - حين آمنت السحرةُ مغلوبًا مفلولًا، ثم أبى إلا الإقامةَ على الكفرِ، والتمادىَ في الشرِّ، فتابعَ اللهُ عليه بالآياتِ، وأخَذه بالسنين، فأرسل عليه الطُّوفان، ثم الجرادَ، ثم القُمَّلَ، ثم الضفادعَ، ثم الدمَ، آياتٍ مُفصَّلاتٍ. فأرسل الطوفانَ، وهو الماءُ، ففاض على وجهِ الأرضِ، ثم ركَد، لا يَقْدِرون على أن يَحْرُثُوا ولا يعمَلوا شيئًا، حتى جُهِدوا جوعًا، فلما بلَغهم ذلك، قالوا: يا موسى، ادعُ لنا ربَّك، لئن كَشَفْتَ عنا الرجزَ لَنُؤْمننَّ لك، ولنُرْسِلنَّ معك بنى إسرائيلَ، فدعا موسى ربَّه، فكشَفه عنهم، فلم يَفُوا له بشيءٍ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجرادَ، فأكَل

(1)

أخرجه أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1549 (8886) عن محمد بن سعد به.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"تغرق".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1548 (8878) من طريق الحسين بن واقد به.

ص: 392

الشجرَ - فيما بلغنى - حتى إن كان ليأكُلُ مساميرَ الأبوابِ مِن الحديدِ حتى تَقَعَ دُورُهم ومساكِنُهم، فقالوا مثلَ ما قالوا، فدعا ربَّه، فكشَفه عنهم، فلم يَفُوا له بشيءٍ مما قالوا، فأرسل اللهُ عليهم القُمَّلَ. فذُكِر لى أن موسَى أُمِر أن يمشىَ إلى كثيبٍ حتى يَضْرِبَه بعصاه، فمشَى إلى كثيبٍ أَهْيَلَ عظيمٍ، فضرَبه بها، فانثال عليهم قُمَّلًا حتى غلَب على البيوتِ والأطعمةِ، ومنعهم النومَ والقرارَ، فلما جهَدَهم قالوا له مثلَ ما قالوا، فدعا ربَّه فكشَفه عنهم، فلم يفوا له بشيءٍ مما قالوا. فأرسل اللهُ عليهم الضفادعَ، فملأتِ البيوتَ والأطعمةَ والآنيةَ، فلا يكشفُ أحدٌ منهم ثوبًا ولا طعامًا ولا إناءً إلَّا وجَد فيه الضفادعَ قد غلَبت عليه، فلما جهَدهم ذلك قالوا له مثلَ ما قالوا، فدعا ربَّه فكشَف عنهم، فلم يَفُوا له بشيءٍ مما قالوا. فأرسل اللهُ عليهم الدمَ، فصارت مياهُ آل فرعونَ دمًا، لا يستقون من بئرٍ ولا نَهَرٍ، ولا يغترِفون من إناءٍ إلا عاد دمًا عبيطًا

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا محمدُ بن إسحاقَ، عن محمدِ بن كعبٍ القرظيِّ، أنه حدَّث أن المرأةَ مِن آل فرعونَ كانت تأتى المرأةَ مِن بني إسرائيلَ حين جهَدهم العطشُ، فتقولُ: اسقينى مِن مائِك، فتغرفُ لها مِن جَرَّتِها، أو تَصُبُّ لها مِن قِرْبَتِها، فيعودُ في الإناء دمًا، حتى إن كانت لتقولُ لها: اجعليه في فيك ثم مُجِّيه في فيَّ، فتأخذ في فيها ماءً، فإذا مجَّته في فيها صار دمًا، فمكَثوا في ذلك سبعةَ أيامٍ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: الجرادُ يأكُلُ زُروعهم ونباتَهم، والضفادعُ تسقُطُ على فُرُشِهم وأطعِمتِهم،

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 417.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 418، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 74 من طريق محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم.

ص: 393

والدمُ يكونُ في بيوتِهم وثيابِهم ومائِهم وطعامِهم

(1)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن عبدِ اللَّهِ بن كثيرٍ

(2)

، عن مجاهدٍ، قال

(3)

: سال النيلُ دمًا، فكان الإسرائيليُّ يستقى ماءً طيِّبًا، ويستقِى الفرعونيُّ دمًا، ويشتركان في إناءٍ واحدٍ، فيكونُ ما يلى الإسرائيليَّ ماءً طيبًا، وما يلى الفرعونى دمًا

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، أن موسى لما عالَج فرعونَ بالآياتِ الأربعِ؛ العصا، واليدِ، ونقصٍ مِن الثمراتِ، والسنين. قال: يا ربِّ إن عبدَك هذا قد علا في الأرضِ، وعتا، وبغَى عليَّ، وعلا عليكَ، وعادَّني

(5)

بقومِه، ربِّ خُذْ عبدَك بعقوبَةٍ تجعَلُها له ولقومِه نقمةً، وتجعلُها لقومى عظةً، ولمن بعدى آيةً في الأممِ الباقيةِ. فبعَث اللهُ عليهم الطوفانَ - وهو الماءُ - وبيوتُ بنى إسرائيلَ وبيوتُ القبطِ مشتبكةٌ مختلطةٌ بعضُها ببعضٍ، فامتلأت بيوت القبطِ ماءً، حتى قاموا في الماءِ إلى تراقِيهم، من جلَس منهم غرِق، ولم يدخُلْ بيوت بنى إسرائيل قطرةٌ، فجعلت القبط تنادى موسى: ادع لنا ربك بما عهِد عندَك لئن كشفتَ عنا الرِّجزَ لنؤمننَّ لك، ولنرسلنَّ معك بني إسرائيلَ. قال: فواثقوا موسى ميثاقًا أخذَ عليهم به عهودَهم، وكان الماءُ أخذهم يومَ السبتِ، فأقام عليهم

(6)

سبعة أيام

(1)

تفسير مجاهد ص 342 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1546، 1550، 1552 (8865، 8889، 8892، 8898، 8901) وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 109، 111، 114 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

بعده في الأصل: "عن ابن أبي نجيح". ينظر تهذيب الكمال 15/ 468، 16/ 215.

(3)

بعده في م، ت 2:"لما".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1549 (8881) من طريق أبي حذيفة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 110 إلى أبى الشيخ.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"عالى"، وعادَّه، أي: آذاه. اللسان (ع د د).

(6)

في الأصل: "عليه".

ص: 394

إلى السبتِ الآخرِ، فدعا موسى ربَّه، فرفَع عنهم الماءَ، فأعشبت بلادُهم مِن ذلك الماءِ، فأقاموا شهرًا في عافيةٍ، ثم جحَدوا وقالوا: ما كان هذا الماءُ إلا نعمةً علينا وخِصْبًا لبلادِنا، ما نحبُّ أنه لم يكنْ - قال: وقد قال قائلٌ لابنِ عباسٍ: إني سألتُ ابنَ عمرَ عن الطُّوفانِ. فقال: ما أدرى موتًا كان أو ماءً. فقال ابن عباسٍ: أما يقرأُ ابن عمرَ سورةَ "العنكبوتِ" حين ذكَر اللهُ [قومَ نوحٍ]

(1)

فقال: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]. أرأيتَ لو ماتوا، إلى مَن جاء موسى عليه السلام بالآياتِ الأربعِ بعدَ الطوفانِ؟ - قال: فقال موسى: يا ربِّ إن عبادَك نقَضوا عهدى

(2)

، وأخلفوا وعدِى، ربِّ خُذْهم بعقوبةٍ تجعلُها لهم نقمةً، ولقومى عِظةً، ولمن بعدَهم آيةً في الأممِ الباقيةِ. قال: فبعَث اللهُ عليهم الجرادَ فلم يدعْ لهم ورقةً ولا شجرةً ولا زهرةً ولا ثمرةً إلا أكَله، حتى لم يُبْقِ جَنًى، حتى إذا أفنى الخَضِرَ كلَّها أكل الخشبَ، حتى أكلَ الأبوابَ وسُقوفَ البيوتِ، وابْتُلى الجرادُ بالجوعِ، فجعَل لا يشبعُ، غيرَ أنه لا يدخلُ بيوتَ بني إسرائيلَ، فعجُّوا وصاحوا إلى موسى، فقالوا: يا موسى هذه المرّةَ ادْعُ لنا ربَّك بما عهِد عندَك لئن كشَفَت عنا الرَّجزَ لنُؤْمِننَّ لك ولنُرْسلنَّ معك بني إسرائيلَ. فأعطَوه عهدَ اللَّهِ وميثاقَه، فدعا لهم ربَّه، فكشَف اللهُ الجرادَ بعدَ ما أقام عليهم سبعةَ

(3)

أيامٍ، من السبتِ إلى السبتِ، ثم أقاموا شهرًا في عافيةٍ، ثم عادوا لتكذيبِهم وإنكارِهم ولأعمالِهم أعمالِ السَّوءِ. قال: فقال موسى: يا ربِّ عبادُك قد نقضُوا عهدى وأخلَفوا موعدِى، فخُذْهم بعقوبةٍ تجعلُها لهم نقمةً، ولقومِى عظةً، ولمَن بعدى آيةً في الأممِ الباقيةِ. فأرسل اللهُ عليهم القُمَّلَ - قال أبو بكرٍ: سمِعت سعيدَ بنَ جبيرٍ والحسنَ

(4)

يقولان: كان إلى

(1)

في الأصل: "قوما".

(2)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"عهدك".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س:"تسعة".

(4)

في الأصل: "الحسين".

ص: 395

جنبِهم كثيبٌ أعْفرُ بقريةٍ من قُرى مصرَ تُدعَى عينَ شمسٍ، فمشَى موسى إلى ذلك الكثيبِ، فضَربَه بعصاه ضربةً صار قُمَّلًا تَدُبُّ إليهم - وهى دوابُّ سودٌ صغارٌ - فدبت إليهم القُمَّلُ، فأخَذت أشعارَهم وأبشارَهم وأشفارَ عيونِهم وحواجِبَهم، ولزِمَ جلودَهم، كأنه الجُدَرِيُّ عليهم، فصرَخوا وصاحوا إلى موسى: إنا نتوبُ ولا نعودُ، فادعُ لنا ربَّك. فدعَا ربَّه فرفَع عنهم القُمَّلَ بعدَ ما أقام عليهم سبعةَ أيامٍ مِن السبتِ إلى السبتِ، فأقاموا

(1)

شهرًا في عافيةٍ، ثم عادوا وقالوا: ما كنا قطُّ أحقَّ أن نستيقنَ أنه ساحرٌ منا اليومَ؛ جعَل الرملَ دوابَّ، وعزّةِ فرعونَ لا نُصَدِّقُه أبدًا ولا نتبعُه. فعادوا لتكذيبِهم وإنكارِهم، فدعا موسى عليهم، فقال: يا ربِّ إن عبادَك نقَضوا عهدى، وأخلَفوا وعدى، فخُذْهم بعقوبةٍ تجعلُها لهم نقمةً، ولقومى عِظةً، ولمن بعدى آيةً في الأممِ الباقيةِ. قال: فأرسَل اللهُ عليهم الضفادعَ، فكان أحدُهم يضطجعُ فتركَبُه الضفادعُ، فتكونُ عليه ركامًا حتى ما يستطيعُ أن يَنْصَرِفَ إلى شقِّه الآخرِ، ويفتحُ فاه لأكْلَتِه فيَسْبِقُ الضِّفْدَعُ أكْلَتَه إلى فيه، ولا يعجِنُ عجينًا إِلا تَسَدَّحَت

(2)

فيه، ولا يطبُخُ قدرًا إِلَّا امتلأت ضَفادِعَ. فعُذِّبُوا بها أشدَّ العذابِ، فبكَوْا

(3)

إلى موسى عليه السلام، وقالوا: هذه المرّةَ نتوبُ ولا نعودُ. فأخذ عهودَهم

(4)

وميثاقَهم، ثم دعا ربَّه، فكشَف اللهُ عنهم الضفادعَ بعد ما أقام عليهم سبعًا مِن السبتِ إلى السبتِ، فأقاموا شهرًا في عافيةٍ، ثم عادوا لتكذيبِهم وإنكارِهم، وقالوا: قد تبينَ لكم سِحْرُه؛ يجعَلُ الترابَ دوابَّ، ويجيءُ بالضفادعِ في غيرِ ماءٍ. فآذَوا موسى عليه السلام. فقال موسى: يا ربِّ إن عبادَك نقضوا عهدى، وأخلَفوا وعدى، فخُذْهم بعقوبةٍ تجعلُها لهم

(1)

في الأصل: "فقاموا".

(2)

في الأصل، م، ف:"تشدخت". وانسدح الرجل: استلقى وفرَّج رجليه. ينظر اللسان (س د ح).

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فشكوا".

(4)

في م: "عهدهم".

ص: 396

نقمةً

(1)

، ولقومى عِظةً، ولمن بعدى آيةً في الأممِ الباقيةِ. فابتلاهم اللهُ بالدمِ، فأفسَد عليهم معايشَهم، فكان الإسرائيليُّ والقبطيُّ يأتيان النيلَ فيستقيان، فيُخْرِجُ الإسرائيليُّ ماءً، ويُخْرِجُ القبطيُّ دمًا، ويقومان إلى الحُبِّ

(2)

فيه الماء، فيُخْرِجُ الإسرائيلى في إنائِه ماءً، ويُخْرِجُ القبطيُّ دمًا.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبُو سعدٍ، قال: سمِعت مجاهدًا في قولِه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} . قال: الموتُ والجرادُ. قال: الجرادُ يأكُلُ أمتعتَهم وثيابَهم ومساميرَ أبوابِهم، والقُمَّلُ هو الدَّبَى، سلَّطَه اللهُ عليهم بعدَ الجرادِ. قال: والضفادعُ تَسْقُطُ في أطعِمَتِهم التي في بيوتِهم وفي أشربَتِهم.

وقال بعضُهم: الدمُ الذي أرسَله اللهُ عليهم كان رعافًا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا أحمدُ بنُ خالدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبى بكيرٍ، قال: ثنا زهيرٌ، قال: قال زيدُ بنُ أسلمَ: أما القُمَّلُ فالقَمْلُ، وأما الدمُ، فسلَّط اللهُ عليهم الرُّعافَ

(3)

.

وأما قولُه {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} . فإن معناه: علاماتٍ ودلالاتٍ على صحةِ نبوّةِ موسى وحقيقةِ ما دعاهم إليه {مُفَصَّلَاتٍ} : قد فُصِل بينها فجُعِل بعضُها يتلو بعضًا، وبعضُها في إثرِ بعضٍ.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"عقوبة".

(2)

في الأصل: "الجر"، والحب: الجرة الضخمة، والجر: آنية من خزف، الواحدة جرة. ينظر اللسان (ح ب ب، ج ر ر).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1549 (1883) من طريق أحمد بن خالد به.

ص: 397

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، قال: فكانت آياتٍ مفصلاتٍ بعضُها في إثرِ بعضٍ؛ ليكونَ للَّهِ الحُجَّةُ عليهم، فأخَذهم اللهُ بذنوبِهم، فأغرَقهم في اليمِّ

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قولَه:{آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} . قال: يَتبَعُ بعضُها بعضًا ليكونَ لله عليهم الحجةُ، فينتقِمَ منهم بعدَ ذلك، وكانت - زعَموا

(2)

- تَمْكُثُ فيهم مِن السبتِ إلى السبتِ، وتُرْفَعُ عنهم شهرًا، قال اللهُ عز وجل {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} الآية [الأعراف: 136].

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابن إسحاقَ. {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} أي: آيةً بعدَ آيةٍ يتبعُ بعضُها بعضًا

(3)

.

وكان مجاهدٌ يقولُ فيما ذُكر عنه في معنى "المفصَّلاتِ"، ما حدَّثني به الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعت مجاهدًا يقولُ في: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} . قال: معلوماتٍ

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فاستكبَر هؤلاءِ الذين أرسَل اللهُ عليهم ما ذكَر في هذه الآيةِ مِن الآياتِ والحُجَجِ عن الإيمانِ باللهِ، وتصديقِ رسولِه موسى صلى الله عليه وسلم،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1549 (8885) من طريق عبد الله بن صالح به.

(2)

في م: "الآية".

(3)

ينظر ما تقدم تخريجه في ص 393.

(4)

بعده في الأصل: "مُبرَدات".

ص: 398

واتِّباعِه

(1)

على ما دعاهم إليه، وتعظَّموا على اللهِ عز وجل، وعَتَوا عليه، {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}. يقولُ: وكانوا قومًا يعمَلون بما يكرهُه اللهُ مِن المعاصى والفسوقِ عُتُوًّا وتمردًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)} .

يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} : ولما نزَل بهم عذابُ الله، وحلّ بهم سَخَطُه.

ثم اختلفَ أهلُ التأويلِ في "الرجزِ" الذي أخبَر اللهُ أنه وقع بهؤلاءِ القومِ؛ فقال بعضُهم: كان ذلك طاعونًا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّيُّ، عن جعفر بن أبي المغيرةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: وأمر موسى قومَه من بني إسرائيلَ - وذلك بعدَ ما جاءَ قومَ فرعونَ بالآياتِ الخمسِ؛ الطوفانِ وما ذكَر اللهُ في هذه الآيةِ، فلم يُؤْمِنوا ولم يُرْسِلوا معه بنى إسرائيلَ - فقال: لِيَذْبحْ كلُّ رجلٍ منكم كبشًا، ثم ليَخْضِبْ كفَّه في دمِه، ثم ليَضْرِبْ به على بابِه. فقالت القبطُ لبنى إسرائيلَ: لِمَ تُعالِجُون هذا الدمَ على أبوابِكم؟ فقالوا: إن الله يُرْسِلُ عليكم عذابًا فنَسْلَمُ وتَهْلِكون. فقالت القبطُ: فما يَعْرِفُكم اللهُ إلا بهذه العلاماتِ

(2)

؟ فقالوا: هكذا أَمَرنا به نبيُّنا. فأصبَحوا وقد

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"اتباعهم".

(2)

في الأصل: "العلامة".

ص: 399

طُعِن مِن قوم فرعونَ سبعون ألفَ ذَرَا

(1)

، فأمسَوا وهم لا يتدافنون، فقال فرعونُ عندَ ذلك

(2)

: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} وهو الطاعونُ {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فدعا ربَّه فكشَفه عنهم، فكان أوفاهم كلَّهم فرعونُ، فقال لموسى: اذهبْ ببنى إسرائيلَ حيثُ شِئتَ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا حَبُّويَه الرازيُّ وأبو داودَ الحَفَرِيُّ، عن يعقوبَ القُمِّيِّ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ - قال: حَبُّويَه: عن ابن عباسٍ -: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} قال: الطاعونُ

(4)

.

وقال آخرون: هو العذابُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو الباهليُّ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: الرجزُ العذابُ

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثني أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَلَمَّا

(1)

سقط من: الأصل، م. والذرا: عدد الذرية. اللسان (ذ ر و).

(2)

بعده في الأصل: "لموسى".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1550 (8890) من طريق يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

(4)

ينظر ما تقدم في ص 383، 386، 387.

(5)

تقدم تخريجه في ص 394.

ص: 400

كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ}. أي: العذابَ.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: ثنا معمرٌ، عن قتادةَ:{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} . يقولُ: العذابُ

(1)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} . قال: الرجزُ العذابُ الذي سلَّطه اللهُ عليهم مِن الجرادِ والقُمَّلِ وغيرِ ذلك، وكلُّ ذلك يعاهِدونه ثم يَنْكُثون.

وقد بيَّنا معنى "الرِّجزِ" فيما مضى من كتابِنا هذا بشواهدِه المغنيةِ عن إعادتِها

(2)

.

وأولى القولين بالصوابِ في هذا الموضعِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أَخبر عن فرعونَ وقومِه أنهم لما وقَع عليهم الرجزُ - وهو العذابُ والسَّخَطُ مِن اللَّهِ عليهم - فزِعوا إلى موسى بمسألتِه ربَّه كَشْفَ ذلك عنهم. وجائزٌ أن يكونَ ذلك الرجزُ كان الطوفانَ والجرادَ والقُمَّلَ والضفادعَ والدمَ؛ لأنَّ كلَّ ذلك كان عذابًا عليهم. وجائزٌ أن يكونَ ذلك الرجزُ كان طاعونًا، ولم يُخبرْنا اللهُ أيَّ ذلك كان، ولا صحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأيِّ ذلك كان خبرٌ فنُسَلِّمَ له. فالصوابُ أن نقولَ فيه كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} . فلا نتعداه إلا بالبيانِ الذي لا تمانعَ فيه بينَ أهلِ التأويلِ، وهو: لمَّا حل بهم عذابُ اللهِ وسخطُه قالوا: {يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} . يقولُ: بما أوصاك وأمَرك به - وقد بينّا معنى "العهدِ" فيما مضى

(3)

- {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} . يقولُ: لئن رفَعت عنا العذابَ الذي

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 234 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 111 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 729 - 731.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 435، 436.

ص: 401

نحن فيه، {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ}. يقولُ: لنُصَدَّقن بما جئتَ به ودعوتَ إليه، ولنُقِرَّن به لك، {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. يقولُ: ولنُخَلِّين معك بني إسرائيلَ فلا نمنعُهم أن يذهَبوا حيث شاءوا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فدعا موسى ربَّه فأجابه، فلما رفَع اللهُ عنهم العذابَ الذي أنزَله بهم، {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} ؛ ليَسْتَوفوا عددَ أيامِهم التي جعَلها اللهُ لهم مِن الحياةِ أجلًا إلى وقتِ هلاكِهم، {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}. يقولُ: إذا هم يَنْقُضُون عهودَهم التي عاهَدوا ربَّهم وموسى، ويقيمون على كفرِهم وضلالِهم.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} . قال: عددٌ مسمًّى لهم

(1)

مِن أيامِهم

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه

(3)

.

(1)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"منهم". وفي مصدرى التخريج: "معهم".

(2)

تقدم تخريجه في ص 394.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ص، ف:"نحوه".

ص: 402

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} . قال: ما أعْطَوا مِن العهودِ. وهو حين يقولُ اللهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} : وهو الجوعُ، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}

(1)

[الأعراف: 130].

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فلما نكَثوا عهودَهم {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} يقولُ: انتصَرنا منهم بإحلالِ نِقْمَتِنا بهم، وذلك عذابُه {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} . وهو البحرُ. كما قال ذو الرُّمَّةِ

(2)

:

داوِيَّةٌ ودُجَى لَيْلٍ كأنهما

يمٌّ تَراطَنُ في حافَاتِه الرومُ

وكما قال الراجزُ

(3)

:

كباذخِ اليمِّ سقاه اليمُّ

{بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} . يقولُ: فعلنا ذلك بهم بتكذيبِهم بحُجَجِنا وأعلامِنا التي أريناهموها، {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}. يقولُ: وكانوا عن النقمةِ التي أحللناها بهم غافلين قبلَ حلولِها بهم أنها بهم حالَّةٌ.

والهاء والألف في قولِه: {عَنْهَا} كنايةٌ مِن ذكرِ "النقمةِ"، فإن قال قائلٌ: هي كنايةٌ مِن ذكرِ "الآياتِ". ووجَّه تأويلَ الكلامِ إلى: وكانوا عن آياتِنا معرضين.

(1)

تقدم بتمامه في 387، 388، وأخرج هذا الجزء ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1551 (8893) من طريق عمرو بن حماد به.

(2)

ديوانه 1/ 410.

(3)

هو العجاج، والرجز في ديوانه ص 427.

ص: 403

فجعَل إعراضَهم عنها غفولًا منهم، إذ لم يقبلوها - كان مذهبًا.

يقالُ مِن الغفلةِ: غَفَل الرجلُ عن كذا، يَغْفُلُ عنه غَفْلةً وغُفُولًا وغَفْلًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وأورَثْنا القومَ الذين كان فرعونُ وقومُه يستضعِفونهم فيُذبِّحون أبناءَهم ويستحْيون نساءَهم ويستخدمونهم تسخيرًا واستعبادًا - [مِن بنى إسرائيلَ]

(1)

- مشارِقَ

(2)

الشامِ، وذلك ما يلى الشرقَ منها، {وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. يقولُ: التي جعلنا فيها الخيرَ ثابتًا دائما لأهلِها.

[وإنما قال جل ثناؤُه: {وَأَوْرَثْنَا} ؛ لأنّه أورَث ذلك بني إسرائيلَ بمهلِكِ مَن كان فيها مِن العمالقةِ.

وبمثلِ الذي قلنا في قولِه: {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}

(3)

قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن إسرائيلَ، عن فُراتٍ القزَّازِ، عن الحسنِ في قولِه:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . قال: الشامُ.

(1)

سقط من: ت 1، س، ف.

(2)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الأرض".

(3)

سقط من: الأصل.

ص: 404

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن فُراتٍ القزَّازِ، قال: سمِعت الحسنَ يقولُ. فذكَر نحوَه

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا قَبِيصَةُ، عن سفيانَ، عن فُراتٍ القزَّازِ، عن الحسنِ: الأرضُ التي باركنا فيها. قال: الشامُ

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} : [وهم بنو إسرائيلَ]

(3)

، {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}:[وهى]

(4)

أرضُ الشامِ.

حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بنُ ثورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ قولَه:{مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . قال: التي بارك

(5)

فيها: الشامُ

(6)

.

وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يزعُمُ أن مشارقَ الأرضِ ومغاربَها نصبٌ على المحلِّ، بمعنى

(7)

: وأورثنا القومَ الذين كانوا يُستَضعفون في مشارقِ الأرضِ

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 235 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 1/ 141 - وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1501 (8895) عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 111 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

تفسير سفيان ص 113 من قوله، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 1/ 142 من طريق الأشجعي عن سفيان به، ثم قال: رواه قبيصة عن الثورى وأسقط منه الحسن.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"هي".

(5)

في ف: "باركنا".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1551 (8896) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 234 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 1/ 142 - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 111 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(7)

في ص، م، ت 1، ف:"يعنى".

ص: 405

ومغاربِها. وأن قولَه {وَأَوْرَثْنَا} . إنما وقَع على قولِه: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . وذلك قولٌ لا معنَى له؛ لأن بنى إسرائيلَ لم يكنْ يستضعِفُهم أيامَ فرعونَ غيرُ فرعونَ وقومِه، ولم يكن له سلطانٌ إلا بمصرَ، فغيرُ جائزٍ والأمرُ كذلك أن يقالَ: الذين يُستضعفون في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.

فإن قال قائلٌ: فإنَّ معناه: في مشارقِ أرضِ مصرَ ومغاربِها. فإن ذلك بعيدٌ مِن المفهومِ في الخطابِ، مع خروجِه عن

(1)

أقوالِ أهلِ التأويلِ والعلماءِ بالتفسيرِ.

وأما قولُه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} . فإنه يقولُ: وفَى وعدُ اللَّهِ الذي وعَد بنى إسرائيلَ بتمامِه، على ما وعدَهم من تمكينِهم في الأرضِ، ونصرِه إياهم على عدوِّهم فرعونَ. وكلمتُه الحسنى قولُه جلّ ثناؤُه:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6].

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: ظهورُ

(2)

قومِ موسى على فرعونَ، وتمكينُ اللهِ لهم في الأرضِ، [وما]

(3)

ورَّثهم منها

(4)

.

(1)

في الأصل: "من".

(2)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ظهر".

(3)

في ص، ت، س:"ما".

(4)

تقدم تخريجه في ص 394.

ص: 406

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.

وأما قولُه: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} . فإنه يقولُ: وأهلكنا ما كان فرعونُ وقومُه يصنعونه مِن العماراتِ والمزارعِ، {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}. يقولُ: وما كانوا يبنون مِن الأبنيةِ والقصورِ، فأخرجناهم مِن ذلك كلِّه، وخرَّبْنا جميع ذلك.

وقد بيَّنا معنى "التعريشِ" فيما مضى بشواهدِه

(1)

.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} . يقولُ: يبنون

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَعْرِشُونَ} : يبنون البيوتَ والمساكنَ ما بلغَت، وكان عِنَبُهم غيرَ معروشٍ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

واختلَفت القرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامَّةُ قرَأةِ الحجازِ والعراقِ:

(1)

ينظر ما تقدم في 4/ 585.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1552 (8900) من طريق الضحاك، عن ابن عباس.

(3)

في الأصل، ص، ت 1، س، ف:"معرش".

والأثر تقدم تخريجه في ص 394.

ص: 407

{يَعْرِشُونَ} ، بكسرِ الراءِ، سوى عاصمِ بن أبي النجودِ، فإنه قرأَه بضمِّها

(1)

. وهما لغتان مشهورتان في العربِ، يقالُ: عرَش يعرِش ويعرُش.

فإذ كان ذلك كذلك، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ؛ لاتفاقِ معنيى

(2)

ذلك، وأنهما معروفتان

(3)

من كلامِ العربِ، وكذلك تفعَلُ العربُ في "فعَل" إذا ردّته إلى الاستقبالِ، تضمُّ

(4)

العينَ منها

(5)

أحيانا، [وتَكْسِرُ]

(6)

أحيانًا، غيرَ أن أحبَّ القراءتين إليَّ كسرُ الراءِ؛ لشهرتِها في العامَّةِ، وكثرةِ القرأةِ بها، وأنها أفصَحُ

(7)

اللُّغتين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وقطَعنا ببنى إسرائيلَ البحرَ بعدَ الآياتِ التي أريناهموها والعبر التي عاينوها على يَدَى نبيِّ اللهِ موسى، فلم تزجُرْهم تلك الآياتُ، ولم تعِظْهم تلك العبرُ والبيناتُ، حتى قالوا مع معاينتِهم مِن [حُجَجِ اللهِ]

(8)

ما يحقُّ أن تَذَّكَّرَ

(9)

معها البهائمُ، إذ مرّوا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}. يقولُ: يُقيمون

(10)

(1)

في رواية أبي بكر عنه، وهى أيضا قراءة ابن عامر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي بكسر الراء. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 292.

(2)

في م، ت 2، س، ف:"معنى".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"معروفان".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"بضم".

(5)

في م: "منه".

(6)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"وبكسرها" وفى م: "وتكسره".

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أصح".

(8)

في ص، ت 1، س، ف:"حجج"، وفى م:"الحجج".

(9)

في م، ت 1، س، ف:"يذكر".

(10)

سقط من: ت، وفى ص، م، ت 1، س، ف:"يقومون".

ص: 408

على مُثُلٍ

(1)

لهم يعبدونها من دونِ اللَّهِ -: {اجْعَلْ لَنَا} يا موسى {إِلَهًا} . يقولُ: مِثالًا نعبُدُه، وصنَمًا نتخذه إلهًا، كما لهؤلاءِ القومِ أصنامٌ يعبدُونها. ولا تنبغى العبادةُ لشيءٍ سوى اللَّهِ الواحدِ القهارِ. قال

(2)

موسى صلواتُ اللهِ عليه: {إِنَّكُمْ} أيُّها القومُ، {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} عظمةً اللهِ وواجبَ حقِّه عليكم، ولا تعلَمون أنه لا تجوزُ العبادةُ لشيءٍ سوى اللهِ الذي له ملكوتُ

(3)

السماواتِ والأرضِ.

وذُكِر عن ابن جريجٍ في ذلك ما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} قال ابن جريجٍ: {عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} . قال تماثيلِ بقرٍ، فلما كان عجلُ السامريِّ شَبَّهَه

(4)

مِن تلك البقرِ، فذلك كان

(5)

أول شأنِ العجلِ، {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}

(6)

.

وقيل: إن القومَ الذين كانوا عُكُوفًا على أصنامٍ لهم، الذين ذكَرهم اللهُ في هذه الآيةِ - قومٌ كانوا مِن لَخْمٍ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بن بشار، قال: ثنا بشرُ بنُ عمرَ

(7)

، قال: ثنا العباسُ بنُ الفضل

(8)

، عن أبي العوامِ، عن قتادةَ:{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} .

(1)

المثل، جمع المثال: وهى صورة الشيء التي تمثل صفاته.

(2)

في م: "وقال".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"ملك".

(4)

في م: "شبه".

(5)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 114 إلى المصنف وابن المنذر.

(7)

في م، ت 2:"عمرو".

(8)

في ص، م، ت 1، س، ف:"المفضل".

ص: 409

قال: على لَخْمٍ

(1)

.

وقيل: إنهم قومٌ

(2)

كانوا من الكنعانيين الذين أُمِر موسى عليه السلام بقتالِهم.

وقد حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، أن أبا واقدٍ الليثيَّ قال: خرَجنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ حُنَيْنٍ، فمرَرْنا بسِدرَةٍ

(3)

، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، اجعلْ لنا هذا

(4)

ذاتَ أنواطٍ كما للكفارِ ذاتُ أنواطٍ - وكان الكفارُ يَنوطون

(5)

سلاحَهم بسدرةٍ [ويعكُفون]

(6)

حولَها - فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللهُ أَكْبَرُ! هَذَا كمَا قالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كما لهم آلهَةٌ. إنَّكم ستَرْكَبُونَ سَنَنَ الذين مِن قَبْلِكُم".

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الزهريِّ، عن سنانِ بن أبي سنانٍ، عن أبي

(7)

واقدٍ الليثيِّ، قال: خرجنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ حنينٍ، فمرَرْنا بسِدرةٍ، فقلنا: يا نبيّ اللهِ، اجعلْ لنا هذه ذاتَ أنواطٍ. فذكَر نحوَه

(8)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1553 (8904) من طريق بشر به.

(2)

سقط من: م، ت 2، ف.

(3)

السدرة: واحدة السِّدْر، وهو شجر النبق. ينظر الوسيط (س د ر).

(4)

في م: "هذه".

(5)

ينوطون: أي يعلقون. الوسيط (ن و ط)

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت، س، ف:"يعكفون".

(7)

سقط من: م.

(8)

أخرجه معمر في جامعه (20763)، وعنه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 235، ومن طريقه أخرجه أحمد 5/ 218 (الميمنية)، والنسائى في الكبرى (11185)، والطبراني (3290). وأخرجه الطيالسي (1443)، وابن أبي شيبة 15/ 101، وأحمد 5/ 218 (الميمنية)، والترمذى (2180)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1553 (8906)، والبيهقى في الدلائل 5/ 125، وغيرهم من طريق الزهرى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 114 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ وابن مردويه.

ص: 410

حدَّثني المثني، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن الزهريِّ، عن سنانِ بن أبي سنانٍ، عن أبي واقدٍ الليثيِّ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحوَه

(1)

.

[حدَّثني المثنى، قال]

(2)

: حدَّثنا أبو

(3)

صالحٍ، قال: ثني الليثُ، قال: ثنى عُقيلٌ، عن ابن شهابٍ، قال: أخبرني سنانُ بنُ أبى سنانٍ الدِّيليُّ، عن أبي واقدٍ الليثيِّ، أنهم خرَجوا مِن مكةَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى حُنينٍ. قال: وكان للكفارِ سِدرةٌ يعكُفون عندها ويعلِّقون بها أسلحتَهم، يقالُ لها: ذاتُ أنواطٍ. قال: فمرَرنا بسدرةٍ خضراءَ عظيمةٍ. قال: فقلنا: يا رسولَ اللهِ، اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ. قال:"قُلتم والذي نَفْسِي بِيَدِهِ ما قالَ قَوْمُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كمَا لهم آلِهَةٌ. قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إنَّها السَّنَنُ، لتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ"

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} .

وهذا خبرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه عن قِيلِ موسى لقومِه مِن بني إسرائيلَ. يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال لهم موسى: إِنَّ هؤلاء العُكُوفَ على هذه الأصنامِ، اللَّهُ مُهلِكُ ما هم فيه مِن العملِ ومفسدُه ومُخْسِرُهم فيه بإثابَتِه إياهم عليه العذابَ المهينَ. {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مِن عبادتِهم إياها، فمُضْمَحِلٌّ؛ لأنَّه غيرُ نافِعِهم

(5)

(1)

سيرة ابن هشام 2/ 442، وأخرجه الطبراني (3293)، والبيهقى في الدلائل 5/ 124 من طريق محمد بن إسحاق به.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"ابن"، وكلاهما صواب.

(4)

أخرجه البخاري في تاريخه 4/ 162، 163 عن أبي صالح به مختصرا، وأخرجه أحمد 5/ 218 (الميمنية) من طريق الليث به.

(5)

في م: "نافع".

ص: 411

عندَ مجيءِ أمرِ اللهِ وحلولِه بساحتِهم، ولا مدافعٌ عنهم بأْسَ اللَّهِ إذا نزَل بهم، ولا مُنقذُهم مِن عذابِه إذا عذَّبَهم في القيامةِ، فهو في معنى ما لم يكنْ.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضلِ، وحدَّثنى موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قالا جميعًا: حدَّثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} . يقولُ: مهلَكٌ ما هم فيه

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} . يقولُ: خُسْرانٌ

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} . [قال: المُتَبَّرُ المُخَسَّرُ. وقال: المُتَّبَّرُ والباطلُ سواءٌ. وقرأ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ]

(3)

وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قال: هذا كلُّه واحدٌ؛ كهيئةِ غفورٍ رحيمٍ، عفوٍّ غفورٍ. قال: والعربُ تقولُ: إنه البائسُ المُتَّبرُ

(4)

، وإنه البائسُ المُخَسَّرُ

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه في ص 388.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1553 (8908) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 114 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ف:"لمتبر".

(5)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ف:"لمخسر".

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1553، 1554 (8909) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 412

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى لقومِه: أسوى اللهِ ألتمِسُكم إلهًا وأَجْعَلُ لكم معبودًا تعبُدونه، واللهُ الذي هو خالقُكم فضَّلَكم على عَالَمى دهرِكم وزمانِكم. يقولُ: أفأبغيكم معبودًا لا ينفعُكم ولا يضرُّكم تعبدونه وتترُكون عبادةَ مَن فضَّلَكم على الخلقِ؟ إن هذا بكم

(1)

لجهلٌ!

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لليهودِ مِن بني إسرائيلَ الذين كانوا بينَ ظَهْرَانَى مُهاجَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: واذكُروا مع قِيلِكم هذا الذي قلتموه لموسى بعدَ رُؤْيَتِكم مِن الآياتِ والعبرِ، وبعدَ النعمِ التي سلَفت منى إليكم، والأيادي التي تقدمت فِعْلكم ما فعَلتم - {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ، وهم الذين كانوا على مِنهاجِه وطريقتِه في الكفرِ باللهِ مِن قومِه، {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. يقولُ: إذ يحمِّلونكم قُبْحَ

(2)

العذابِ وسيِّئَه.

وقد بيَّنَّا فيما مضى مِن كتابِنا هذا ما كان العذابُ الذي كان يسومُهم سيِّئَه

(3)

.

{يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ} . يعنى

(4)

: الذكورَ مِن أولادِهم،

(1)

في م: "منكم".

(2)

في م: "أقبح".

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 644، 645.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 413

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} . يعنى

(1)

: يستبْقُون إناثَهم، {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. يقولُ: وفى سَوْمِهم إياكم سُوء العذابِ اختبارٌ مِن اللهِ لكم [ونعمةٌ عظيمةٌ]

(2)

.

‌القول في تأويلِ قولِه جل وعزَّ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وواعدْنا موسى لمناجاتِنا ثلاثينَ ليلةً. وقيل: إنها ثلاثون ليلة من ذى القَعْدَةِ. {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} . يقولُ: وأَتمَمْنا الثلاثين الليلةَ بعشرِ ليالٍ تَتِمةَ أربعين ليلةً. وقيل: إن العشرَ التي أتمَّها بها

(3)

أربعين عشرُ ذي الحِجَّةِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} . قال: ذو القَعدةِ وعشرُ ذى الحجة

(4)

.

[حدَّثنا ابن]

(5)

وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} . قال: ذو القَعدةِ وعشرُ ذي الحِجَّةِ، ففى ذلك اختلَفوا.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"يقول".

(2)

في ص، م، ت 1، ف:"وتعمد عظيم"، والتاء في ص، ت 1 غير منقوطة، وفي ت 2:"وبعد عظيم".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"به".

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 236 عن الثورى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 114، 115 إلى عبد بن حميد.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 414

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} . هو ذو القَعدةِ وعشرٌ مِن ذى الحِجَّةِ، فذلك قولُه:{فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، قال: زعَم الحضرمى أن الثلاثين التي كان واعد موسى ربُّه كانت ذا القَعدةِ، والعشرَ مِن ذى الحِجَّةِ التي تمَّم اللهُ بها الأربعين

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} . [قال: ذو القَعدةِ]

(2)

. {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [قال:: عشرُ]

(3)

ذي الحجةِ. قال ابن جريجٍ: قال ابن عباسٍ مثلَه

(4)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعت مجاهدًا يقولُ في قولِه: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} . قال: ذو القَعدةِ، والعشرُ الأُوَلُ من ذى الحِجَّةِ.

[وحدَّثني الحارثُ]

(5)

، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن مسروقٍ:{وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} . قال: عشرُ الأضحَى

(6)

.

وأما قولُه: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} . فإنه يعنى: فكمَل الوقتُ

(1)

علقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1557 (8921) عن هُرَيم بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان به.

(2)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ذو القعدة قال".

(3)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

أثر ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1556 (8920) من طريق عطاء عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 114 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1556 عقب الأثر (8920) معلقا.

ص: 415

الذي وعَد

(1)

اللهُ موسى أربعين ليلةً وبلَغها.

كما حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال:{فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} . قال: فبلَغ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} .

يقولُ جل ثناؤُه: لما مضى موسى

(2)

لموعدِ ربِّه قال لأخيه هارونَ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} . يقولُ: كنْ خليفتي فيهم إلى أن أرجعَ. يقالُ منه: خلَفه يخلُفه خِلافَةً. {وَأَصْلِحْ} . يقولُ: وأصلِحْهم بحَمْلِك إياهم على طاعةِ اللهِ وعبادتِه.

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال موسى لأخيه هارونَ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} . وكان مِن إصلاحِه ألا يدعَ

(3)

العجلَ يُعبدُ.

وقولُه: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} . يقولُ: ولا تَسْلُكْ طريقَ الذين يُفسِدون في الأرضِ بمعصيتِهم ربَّهم، ومعونتِهم أهلَ المعاصى على عِصْيانِهم ربَّهم، ولكن اسْلُكْ سبيلَ المطيعين ربَّهم.

[وكانت]

(4)

مواعدةُ اللَّهِ موسى عليه السلام بعدَ أن أهلكَ

(5)

فرعونَ، ونجَّى منه بني إسرائيلَ، فيما قال أهلُ العلمِ.

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ

(1)

في م: "واعد".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

في الأصل: "تدع".

(4)

في ص، م، ت 1، س، ف:"فكانت"، وفى ت 2:"وكان".

(5)

في الأصل: "هلك".

ص: 416

قولَه: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} الآية. قال: يقولون

(1)

: إن ذلك بعد ما فرَغ من فرعونَ وقبلَ الطورِ، لما نَجَّى اللهُ موسى عليه السلام من البحرِ وغَرَّق آلَ فرعونَ، وخلَص إلى الأرضِ الطيبةِ، أنزل اللهُ عليهم فيها المنَّ والسلوى، وأمَره ربُّه أن يلقاه، فلما أراد لقاء ربِّه استخلف هارون على قومه، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلةً ميعادًا من قِبَلِه

(2)

مِن غيرِ أمرِ ربِّه ولا ميعادِه، فتوجَّه ليلقَى ربَّه. قال

(3)

: فلمَّا تَّمت ثلاثون ليلةً قال عدوُّ اللهِ السَّامريُّ: ليس يأتيكم موسى، وما يُصلِحُكم إلا إلهٌ تعبُدونه. فناشَدهم هارونُ وقال: لا تفعَلوا، انظروا

(4)

ليلتَكم هذه ويومَكم هذا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم. فقالوا: نعم. فلما أصبحوا من غد ولم يَرَوْا موسى، عاد السامريُّ لمثلِ قولِه بالأمسِ. قال: وأحدَث اللهُ الأجلَ بعدَ الأجلِ الذي جعَله نَبِيُّهم

(5)

عشْرًا، فتمَّ ميقات ربِّه أربعين ليلةً، فعاد هارونُ فناشَدهم إلا ما نظَروا يومَهم ذلك أيضًا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم. ثم عاد السامريُّ [في الثالثةِ]

(6)

لمثلِ

(7)

قوله لهم، وعاد هارونُ فناشَدهم أن ينتظروا، فلما لم يَرَوه

(8)

.

قال القاسمُ: قال الحسينُ: حدَّثني حجاجٌ، قال: ثني أبو بكرِ بنُ عبدِ اللهِ الهذليُّ، قال: قام السامريُّ إلى هارونَ حين انطلق موسى فقال: يا نبيَّ الله، إنا اسْتَعَرْنا يومَ خرَجنا مِن القِبْطِ حُلِيًّا كثيرًا من زينتِهم، وإن الجندَ

(9)

الذين

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"يقول".

(2)

في ص، ف، ت 2، س:"قيله".

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

في ت 2، ف:"وينظروا".

(5)

في م، ت 1، س:"بينهم"، وفى ف:"منهم"، والكلمة غير منقوطة في: ص، ت 2.

(6)

سقط من ت 1، س، ف، وفى ص، م، ت 2:"الثالثة".

(7)

في الأصل، ت 2:"مثل".

(8)

كذا في النسخ، ليس فيها تتمة هذا الأثر.

(9)

سقط من: م.

ص: 417

معك قد أسرَعوا في الحُلِيِّ يبيعونه وينفقونه، وإنما كان عاريَّةً مِن آل فرعونَ، فليسوا بأحياءٍ فنردَّها عليهم، ولا ندرى، لعلَّ أخاك نبيَّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأىٌ؛ إما أن

(1)

يُقرِّبَها قربانًا فتأكلها النارُ، وإما أن يجعلَها للفقراءِ دونَ الأغنياءِ. فقال له هارونُ: نِعْمَ ما رأيت وما قلت. فأمر مناديًا فنادى: من كان عنده شيءٌ مِن حُلِيِّ آلِ فرعونَ فليأتِنا به. فأتَوه به، فقال هارونُ يا سامريُّ، أنت أحقُّ مَن كانت عندَه هذه الخِزانةُ. فقبَضها السامريُّ، [وكان]

(2)

عدو اللَّهِ الخَبيثُ صائغًا، فصاغَ منه عجلًا جسدًا، ثم قذَف في جَوْفِه تربةً مِن القبضةِ التي قبَض مِن أثرِ فرسِ جبريلَ عليه السلام إذ رأه في البحرِ، فجعَل يخورُ، ولم يَخُرْ إلا

(3)

واحدةً، وقال لبني إسرائيلَ: إنما تَخَلَّف موسى بعد الثلاثين الليلةَ

(4)

يلتمسُ هذا،

(5)

{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]. يقولُ: إن موسى عليه السلام نسِى ربَّه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ولما جاء موسى للوقتِ الذي وعدناه

(6)

أن يلقانا

(7)

فيه، وكلَّمه ربُّه وناجاه، قال موسى لربِّه:{أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . قال اللهُ له مجيبًا:

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

في الأصل: "فكان".

(3)

بعده في م: "مرة".

(4)

في م: "ليلة".

(5)

سقط من: الأصل، ت 1، ت 2.

(6)

في م: "وعدنا"، وفى ت 1، س، ف:"وعدنا به"، وفى ت 2:"وعد ربه".

(7)

في ت 2: "يلقاه".

ص: 418

{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} .

و

(1)

كان سببَ مسألةِ موسى ربَّه النظرَ إليه ما حدَّثني به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بن حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: إن موسى لما كلَّمه ربُّه أحبَّ أن ينظُرَ إليه، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} . فحَفَّ

(2)

حولَ الجبلِ الملائكةَ، وحَفَّ حولَ الملائكةِ بنارٍ، وحَفَّ حولَ النارِ بملائكةٍ، و

(3)

حولَ الملائكةِ بنارٍ، ثم تجلى ربُّه

(3)

للجبل

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]. قال: حدَّثني من لقِى أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قرَّبَه الربُّ حتى سمِع صريفَ القلمِ، فقال عند ذلك مِن الشوقِ إليه:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} .

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ الهذليِّ، قال: لما تخلَّف موسى بعدَ الثلاثين حتى سمع كلامَ اللهِ، اشتاقَ إلى النظرِ إليه فقال:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} . وليس لبشرٍ أن يُطيق أن ينظُرَ إليَّ في الدنيا، مَن نظَر إليَّ مات. قال: إلهى، سمِعتُ منطقَك فاشتقتُ إلى النظرِ إليكَ، وَلأن أنظُرَ إليك ثم أموتَ أحبُّ إليَّ مِن أن أعيشَ ولا أراك. قال:

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

بعده في م: "حف".

(3)

في الأصل، ص:"ربك".

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 422، 423 بإسناد السدى المعروف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى المصنف وابن مردويه والحاكم عن ابن عباس. وهو عند الحاكم 2/ 576 من طريق عمرو عن أسباط عن السدى عن عكرمة عن ابن عباس، وفيه زيادة ستأتى في ص 427، 435.

ص: 419

فانظرْ إلى الجبلِ، فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . قال: أعطنى

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: استخلَف موسى هارون على بنى إسرائيل وقال: إنى مُتعجِّلٌ إلى ربِّي، فاخلفني في قومِي

(2)

ولا تتبغ سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربِّه مُتعجِّلًا للُقِيِّه شوقًا إليه، وأقام هارونُ في بنى إسرائيلَ ومعه السامريُّ يسيرُ بهم على أثرِ موسى ليُلْحِقَهم به، فلما كلَّم اللهُ موسى طمِع في رؤيتِه، فسأل ربَّه أن ينظُرَ إليه، فقال اللهُ له: إنَّكَ {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} الآية

(3)

.

قال ابن إسحاق: فهذا ما وصل إلينا في كتابِ اللهِ مِن

(4)

خبرِ موسى فيما

(5)

طلَب مِن

(6)

النظر إلى ربِّه، وأهلُ الكتابِ يزعُمون وأهلُ التوراةِ أنْ قد كان لذلك تفسيرٌ وقصةٌ وأمورٌ كثيرةٌ ومراجعةٌ لم تأتِنا في كتابِ اللهِ، فاللهُ أعلم.

قال ابن إسحاقَ عن بعضِ أهلِ العلمِ الأولِ بأحاديثِ أهلِ الكتابِ أنهم يجِدون في تفسيرِ ما عندَهم مِن خبرِ موسى حينَ طلَب ذلك إلى ربِّه، أنه كان مِن كلامِه إياه حينَ طمِع في رؤيتِه وطلَب ذلك منه، وردَّ عليه ربُّه [منه ما]

(7)

ردَّ - أن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1559 (8931) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 118 إلى أبى الشيخ.

(2)

بعده في ف: "وأصلح".

(3)

سقط من: الأصل، ف.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"عن".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"فلما"، وفى م:"لما".

(6)

سقط من: م.

(7)

في ف: "مما".

ص: 420

موسى كان تطهَّر وطهَّر ثيابَه وصامَ للقاءِ ربِّه، فلما أتى طورَ سيناءَ، ودنا اللهُ له في الغمامِ فكلَّمه، سبَّحه وحمَّده وكبَّره وقدَّسه، مع تضرُّعٍ وبكاءٍ حزينٍ، ثم أخَذ في مِدْحَتِه فقال: ربِّ ما أعظَمَكَ وأعظمَ شأنَك كلَّه! مِن عظمتِك أنه لم يكنْ شيءٌ

(1)

، قَبلَك، فأنت الواحدُ القهارُ، كان عرشُك تحتَ عظمتِك نارًا

(2)

توقَّدُ لك، وجَعَلْتَ سُرادِقًا

(3)

مِن دونِه سرادقٌ من نورٍ، فما أعظمَك ربِّ وأعظمَ ملكَك! [جعلت بينَك وبينَ ملائكتِك مسيرةَ خمسِمائةِ عامٍ، فما أعظمَك ربِّ وأعظمَ ملكَك]

(4)

[وسلطانَك]

(5)

! وإذا أردتَ شيئًا تقضيه في جنودِك الذين في السماءِ أو الذين في الأرضِ، وجنودِك الذين في البحرِ، بعَثْتَ الريحَ من عندِك لا يراها شيءٌ مِن خلقِك إلا أنتَ إن شِئْتَ، فدخَلَت في جوفِ مَن شئتَ مِن أنبيائِك، فبلَّغوا ما

(6)

أردتَ مِن عبادِك، وليس أحدٌ مِن ملائكتِك يستطيعُ شيئًا مِن عظمتِك ولا مِن عرشِك ولا يسمعُ صوتَك، فقد أنعمتَ عليَّ، وأَعْظَمْتَ عليَّ

(7)

الفضلَ، وأحسنتَ إليَّ كلَّ الإحسانِ عظَّمْتَنِى في أممِ الأرضِ، وعظَّمْتَنِي عند ملائكتِك، وأسمعتَنى صوتَك، وبذَلتَ لى كلامَك، وأتيتَنى حِكْمَتَكَ، فَإِن أَعُدَّ نُعْماكَ لا أُحصِها

(8)

، وإن أُرِدْ

(9)

شكرَك لا أستطِعْه

(10)

. دعَوتُك ربِّ على فرعونَ بالآياتِ

(1)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"من".

(2)

في ص، م، ت 1، س، ف:"نار".

(3)

في النسخ: "سرادق".

(4)

سقط من: ت 1، س، ف.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف، "في سلطانك".

(6)

في م: "لما".

(7)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"في سلطانك".

(8)

في م: "أحصيها".

(9)

في م: "أردت".

(10)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أستطيعها".

ص: 421

العظامِ والعقوبةِ الشديدةِ، فضربتُ بعصاى التي في يدِى البحرَ فانفلق لى ولمن معى، ودعَوتُك حين أجَزْتُ

(1)

البحرَ فأغرقتَ عدوَّك وعدوِّي، وسألتكُ الماءَ لى ولأمتى، فضربتُ بعصاى التي في يدِى الحَجَرَ، فمنه أرويتَني وأمتى، وسألتُك لأمتى طعامًا لم يأكله أحدٌ كان قبلَهم، فأمرتني أن أدعُوكَ مِن قِبَل المشرقِ ومن قِبَلِ المغربِ، فناديتُك من شرقيِّ أُمَّتى، فأعطَيْتَنى

(2)

المنَّ مِن مشرقى

(3)

لنفسى، وأتيتَهم السلوى مِن غربِيِّهم مِن قِبَلِ البحرِ. واشتكيتُ الحَرَّ فناديتُك، فظلَّلْتَ عليهم الغمامَ

(4)

، فما أُطيقُ نُعماكَ على أن أعُدَّها ولا أُحْصيَها، وإن أردتُ شكرَها لا أستطيعُها، فجئتُك اليومَ راغِبًا طالبًا سائلًا متضرِّعًا، لتعطيَني ما منَعتَ غيرِى. أطلبُ إليكَ وأسألُكَ يا ذا العظمَةِ والعِزَّةِ والسلطانِ أن تريَنى أنظرَ إليك، فإنِّي قد أحببتُ أن أَرَى وجهَك الذي لم يرَه شيءٌ مِن خلقِك.

قال له ربُّ العزةِ: ألَا

(5)

ترَى يا بنَ عِمران ما تقولُ؟ تكلمتَ

(6)

بكلامٍ هو أعظمُ مِن سائر الخلق، لا يرانى أحدٌ فيحيا، أليس

(7)

في السماواتِ

(8)

مَعْمَرِى؟ فإنَّهن قد ضَعُفْنَ أن يحملْن عَظَمَتِى، أوَليس في الأرضِ مَعْمَرِى؟ فإنها قد ضَعُفَت أن تسَعَ لجندى

(9)

، فلستُ في مكانٍ واحدٍ فأتجلى لعينٍ تنظرُ إليَّ.

(1)

في م: "جزت".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"فأعطيتهم".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"مشرق".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"بالغمام".

(5)

في م: "فلا".

(6)

في ص: "لما تكلمت"، وفى ت 1، ت 2، س، ف:"ما تكلمت".

(7)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(8)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"السماء".

(9)

في ص، م، ت 1، س، ف:"بجندى".

ص: 422

قال موسى: ربِّ أَنِّي

(1)

أراك فأموتُ

(2)

أحبُّ إليَّ مِن ألَّا أراكَ فأحيا

(3)

.

قال له ربُّ العزةِ: يا بنَ عمرانَ، تكلَّمتَ بكلامٍ هو أعظمُ مِن سائرِ الخلقِ، لا يراني أحدٌ فيحيا. قال: ربِّ تممْ عليَّ نُعماكَ، وتمِّمْ عليَّ فضْلَك، وتممْ عليَّ إحسانَك بهذا

(4)

الذي سألتُك، ليسَ لى أن أراكَ فأُقْبَضَ، ولكن أُحِبُّ أن أراكَ فيطمئنَّ قلبي، قال له: يا بنَ عمرانَ، لن يرانى أحدٌ فيحيا، قال موسى: ربِّ تمِّمْ عليَّ نُعْماكَ وفضلَك، وتمِّمْ إليَّ

(5)

إحسانَك بهذا (4) الذي سألتُك

(6)

، فأموتُ على إثْرِ ذلك أَحَبُّ إليَّ مِن الحياةِ. فقال الرحمنُ المتَرحِّمُ على خلقِه: قد طلبتَ يا موسى، [وجئتَ]

(7)

لأُعطيَك

(8)

سُؤْلَك، إن استطعتَ أن تنظرَ إليَّ، فاذهبْ فاتَّخِذْ لَوْحَينِ، ثمَّ انظرْ إلى الحجرِ الأكبرِ في رأسِ الجبلِ، فإنَّ ما وراءه وما دونَه مَضِيقٌ لا يَسَعُ إلا مجلِسَك يا بنَ عمرانَ، ثم انظُرْ فإنى أَهْبِطُ إليك وجنودِى من قليلٍ وكثيرٍ؛ ففعَل موسى كما أَمَرَه ربُّه، نحَت لَوْحَينِ ثم صعِد بهما إلى الجبلِ. فجلَسَ على الحجرِ، فلما استوى عليه أمَر اللهُ جنودَه الذين في السماءِ الدنيا فقال: ضَعِي أكنافَك

(9)

حولَ الجبلِ. فسمِعت السماءُ

(10)

ما قال الربُّ ففعَلت أمرَه. ثم

(1)

في م: "أن".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"وأموت".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"وأحيا"، وفى م:"ولا أحيا".

(4)

في م: "هذا".

(5)

في م: "على".

(6)

بعده في م: ليس لي أن أراك".

(7)

سقط من: م.

(8)

في ص، س:"لأعطينك"، وفى م:"وأعطيتك"، وفى ت 1، ف:"لأعطيتك"، وفي ت 2:"لا أعطيتك".

(9)

في ت 1، س:"أكتافك".

(10)

سقط من: م.

ص: 423

أرسلَ اللَّهُ الصواعِقَ والظلمةَ والضبابَ على ما كان يلى الجبلَ الذي عليه

(1)

موسى أربعةَ فراسخَ مِن كلِّ ناحيةٍ، ثم أمَر اللهُ ملائكةَ السماءِ

(2)

الدنيا أن يمرُّوا بموسى، فاعترَضوا عليه، فمرُّوا به كثيرانِ البقرِ، تَنْبُعُ أفواهُهم بالتقديسِ والتسبيحِ بأصواتٍ عظيمةٍ كصوتِ الرعدِ الشديدِ، فقال موسى بنُ عمرانَ: ربِّ إني كنتُ غنيًّا، ما ترى عيناى شيئًا، قد ذهَب بصرُهما مِن شعاعِ النورِ المتضَعِّفِ

(3)

على ملائكةِ ربِّي. ثم أمَر اللهُ ملائكةَ السماءِ الثانيةِ: أن اهبِطوا على موسى فاعترِضوا عليه. فهبطوا أمثالَ الأُسْدِ، لهم لَجَبٌ

(4)

بالتسبيحِ والتقديسِ، ففزِع العبدُ الضعيفُ ابن عمرانَ مما رأى ومما سمِع، فاقشعرت كلُّ شعرةٍ في رأسِه [وفى]

(5)

جلدِه، ثم قال: ندمتُ على مسألتي إياكَ، فهل ينجيني مِن مكاني الذي أنا فيه شيءٌ؟ فقال له حَبْرُ

(6)

الملائكةِ ورأْسُهم: يا موسى، اصبرْ لِما سألتَ، فقليلٌ مِن كثيرٍ ما رأيتَ. ثم أمَر اللهُ ملائكةَ السماءِ الثالثةِ: أن اهبِطوا على موسى فاعْتَرِضوا عليه. فأقبلوا أمثال النسورِ لهم قَصْفٌ ورَجْفٌ ولَجَبٌ شديدٌ، وأفواهُهم تنبعُ بالتسبيحِ والتقديسِ كجلَبِ

(7)

الجيشِ العظيمِ، ألوانُهم

(8)

كلَهَبِ النارِ، ففزِع موسى وأَسِيَتْ

(9)

نفسُه، وساءَ

(10)

ظنُّه، وأيس مِن الحياةِ، فقال

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"يلى".

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

في م: "المتصفف".

(4)

اللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها. تاج العروس (ل ج ب).

(5)

في م: "و".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"خير".

(7)

في م: "كلجب".

(8)

سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف، وفى م:"أو"، والمثبت من عرائس المجالس للثعلبي: ص 179، وتفسير البغوي 3/ 276.

(9)

في م، ت 2:"أيست"، وأَسِيت نفسُه: حزنت. اللسان (أ س ى).

(10)

في م: "أساء".

ص: 424

له حَبْرُ

(1)

الملائكةِ ورأسُهم: مكانَك يا بنَ عمرانَ، حتى ترى ما لا تصبرُ عليه. ثم أمر اللهُ ملائكةَ السماءِ الرابعةِ: أن اهبِطوا فاعترِضوا على موسى بن عمرانَ. فأقبلوا فهبَطوا عليه لا يشبهُهم شيءٌ مِن الذين مرُّوا به قبلَهم، ألوانُهم كلَهَبِ النارِ، وسائرٌ خلقِهم كالثلجِ الأبيضِ، أصواتُهم عاليةٌ بالتسبيحِ والتقديسِ، لا يقارِبُهم شيءٌ مِن أصواتِ الذين مرَّوا به قبلَهم، فاصطكَّت رُكْبتاه، وأُرْعِدَ قلبُه، واشتدَّ بكاؤُه، فقال [له حَبْرُ]

(2)

الملائكةِ ورأسُهم: يا بنَ عمرانَ، اصبرْ لِما سألتَ، فقليلٌ مِن كثيرٍ ما رأيتَ. ثم أمَر اللهُ ملائكةَ السماءِ الخامسةِ: أن اهبِطوا فاعترِضوا على موسى. فهبَطوا عليه سبعةَ ألوانٍ، فلم يستطِعْ موسى أن يُتبِعَهم طرفَه، لم

(3)

يرَ مثلَهم، ولم يسمعْ مثلَ أصواتِهم، وامتلأ جَوْفُه خَوْفًا، واشتدَّ حُزنُه، وكثُرَ بكاؤُه، فقال له حبرُ (1) الملائكةِ ورأسُهم: يا بنَ عمرانَ، مكانَك حتى ترى ما لا تصبرُ عليه. ثم أمرَ اللهُ ملائكةَ السماءِ السادسةِ: أن اهبِطوا على عبدى الذي طلَب أن يراني موسى بن عمرانَ فاعترِضوا عليه. فهبَطوا عليه، في يد كلِّ مَلَكٍ مثل النَّخْلَةِ الطويلةِ نارٌ

(4)

أشدُّ ضوءًا مِن الشمسِ، ولباسُهم كلَهَبِ النارِ، إذا سبَّحوا وقدَّسوا جاوبَهم مَن كان قَبْلَهم مِن ملائكةِ السماواتِ كلَّهم، يقولون بشدةِ أصواتِهم: سُبُّوحٌ قدُّوسٌ ربُّ العزَّةِ أبدًا لا يموتُ. في رأسِ كلِّ مَلَكٍ منهم أربعةُ أوجُهٍ، فلما رآهم موسى رفَع صوتَه يُسبِّحُ

(5)

معهم حين سبَّحوا، وهو يبكي ويقولُ: ربِّ اذكرني ولا

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"خير".

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"خير".

(3)

في م: "ولم".

(4)

في م: "نارا".

(5)

في ت 1: "فسبح".

ص: 425

تنسَ عبدَك، لا أدرى أَأَنْفَلتُ

(1)

مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجتُ احترقتُ

(2)

، وإن مكثتُ مِتُّ. فقال له كبيرُ الملائكةِ ورئيسُهم: قد أوشكتَ يا بنَ عمرانَ أن يمتلِئَ جوفُك وينخلِعَ قلبُك ويَشْتَدَّ بكاؤُك، فاصبرْ للذى جلسْتَ لتنظرَ إليه يا بنَ عمرانَ. وكان جبلُ موسى جبلًا عظيمًا، فأمَر اللَّهُ أن يُحْمَلَ عرشُه، ثم قال: مرُّوا بى على عبدى ليرانى، فقليلٌ مِن كثيرٍ ما رأى. فانفرجَ الجبلُ مِن عظمةِ الربِّ، وغشَّى ضوءُ عرشِ الرحمنِ جبلَ موسى، ورفعت ملائكةُ السماواتِ أصواتَهم

(3)

جميعًا، فارتجّ الجبلُ فاندَكَّ وكلُّ شجرةٍ كانت فيه، وخرَّ العبدُ الضعيفُ موسى بنُ عمرانَ صَعِقًا على وجهِهِ ليس معه رُوحُه، فأرسل اللَّهُ الحياةَ برحمتِه، فتغشاه الرُّوحُ

(4)

برحمتِه وقلَب الحجرَ الذي كان عليه وجعَله كالمَعِدَة

(5)

كهيئة القُبَّةِ؛ لئلَّا يحترقَ موسى، فأقامَه الرّوحُ مثلَ الأمِّ أقامت جنينَها حين يُصرَعُ. قال: فقام موسى يسبحُ اللَّهَ ويقولُ: آمنتُ أنك ربِّي، وصدَّقْتُ أنه لا يراك أحدٌ فيحيا، ومَن نظَرَ إلى ملائكتِك انخلعَ قلبُه، فما أعظمَك ربِّ وأعظمَ ملائكتَك، أنت ربُّ الأربابِ وإلهُ الآلهةِ وملِكُ الملوكِ، تأمرُ الجنودَ الذين هم عبيدُك

(6)

فيُطيعونك، وتأمرُ السماءَ وما فيها فَتطيعُك

(7)

، لا تستنكِفُ مِن ذلك، ولا يعدِلُك شيءٌ، ولا يقومُ لك شيءٌ، ربِّ تبتُ إليك، الحمدُ للَّهِ الذي لا شريكَ لك

(8)

، ما أعظمَك

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"انقلب"، وفى م:"أنقلب".

(2)

في م: "أحرقت".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أصواتها".

(4)

سقط من: م.

(5)

في ت 2: "كالعرة".

(6)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"عندك".

(7)

في الأصل: "فيطيعك".

(8)

في م: "له".

ص: 426

وأجلَّك ربَّ العالمين

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فلما اطَّلَع الربُّ للجبلِ جعَل اللَّهُ الجبلَ {دَكًّا} . أي: مستويًا بالأرضِ {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . يعنى: مغشيًّا عليه.

وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني [الحسينُ بنُ عمرِو بن محمدٍ]

(2)

العَنْقَزِيُّ، قال: ثنى أبى، قال: ثنا أسباطُ بن نصرٍ، عن السديِّ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِ اللَّهِ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}. قال: ما تجلَّى منه إلا قدرُ الخِنْصَرِ {جَعَلَهُ دَكًّا} . قال: ترابًا. {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . قال: مغشيًّا عليه

(3)

.

حدَّثنا موسى بنُ هارون، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، قال: زعم السديُّ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ أنه قال: تجلَّى منه مثلُ الخِنْصَرِ، فجعَل الجبلَ دكًّا، وخرّ موسى صَعِقًا، فلم يَزل صَعِقًا ما شاء اللَّهُ

(4)

.

(1)

ذكر بعضه الثعلبى في عرائس المجالس ص 179، 180، والبغوى في تفسيره 3/ 276، 277. وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 469: وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ههنا أثرا طويلًا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار، وكأنه تلقاه من الإسرائيليات. والله أعلم.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"الحسن بن محمد بن عمرو"، وفى م:"الحسين بن محمد بن عمرو". وينظر تهذيب الكمال 22/ 220.

(3)

أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (484)، وعبد الله بن أحمد في السنة (504، 1149، 1211)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 156 (8937، 8941) من طريق عمرو بن محمد العنقزى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 19 إلى البيهقى في كتاب الرؤية، وستأتى بقيته في ص 435.

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 423. وينظر ما تقدم في ص 419.

ص: 427

حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . قال: مغشيًّا عليه.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} . قال: تقَعَّرَ

(1)

بعضُه على بعضٍ. وَ {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . أي: مَيِّتًا

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{جَعَلَهُ دَكًّا} . قال: دكّ بعضُه بعضًا

(3)

.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} . قال: مَيِّتًا

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المباركِ، قال: سمِعت سفيانَ يقولُ في قولِه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} . قال: ساخ الجبلُ في الأرضِ حتى وقَع في البحرِ، فهو يذهبُ معه

(5)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، عن حجاجٍ، عن أبي بكرٍ الهُذَليِّ:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} : انقَعر فدخَل تحتَ الأرضِ، فلا يظهَرُ إلى يومِ

(1)

في م: "انقعر".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1561 (8947) من طريق يزيد به مقتصرا على شطره الثاني، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (482، 483) من طريق سعيد عن قتادة عن أنس من قوله.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1560 (8942) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 236 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(4)

جاء هذا الأثر في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف قبل الأثر السابق.

(5)

تفسير سفيان ص 113 بنحوه، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1561 (8944) عن ابن المبارك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 428

القيامةِ

(1)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ سُهَيلٍ الواسطيُّ، قال: ثنا قرةُ بنُ عيسى، قال: ثنا الأعمشُ، عن رجلٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا تَجَلَّى رَبُّه للجَبَل - أشارَ بإصْبَعِه

(2)

- فجعَله دَكًّا". وأرانا أبو إسماعيلَ بإصبَعِه السبَّابةِ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: حدثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا حمادٌ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيةَ:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} . قال هكذا بإصبَعِه - ووضَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإبهامَ على المَفصِلِ الأعلى مِن الخِنْصَرِ - "فساخ الجبلُ"

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا هُدبةُ بنُ خالدٍ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثابتٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قرأ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} . قال: وضَع الإبهامَ قريبًا مِن طرفِ خِنْصَرِه. قال: "فساخ الجبلُ". فقال حميدٌ لثابتٍ: تقولُ هذا

(5)

؟ فرفَع ثابتٌ يدَه فضرَب صدرَ حميدٍ، وقال: يقولُه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويقولُه أنسٌ، وأنا أكتُمُه

(6)

!

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 468 عن الحسين به.

(2)

في م: "بأصبعيه".

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 466 عن المصنف.

(4)

أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 76 من طريق الحجاج به، وأخرجه أحمد 19/ 281، 20/ 411 (12260، 13178)، والترمذى (3074)، وابن أبي عاصم في السنة (481)، وعبد الله بن أحمد في السنة (500)، وابن خزيمة ص 75،76، وابن أبي حاتم في التفسير 5/ 1560 (8940)، وابن الأعرابى في معجمه (406)، وابن منده في الرد على الجهمية ص 88 (70)، والحاكم 1/ 25، 2/ 320، 577 من طريق حماد بن سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 119 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ وابن مردويه والبيهقى في الرؤية.

(5)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"قال".

(6)

أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (480)، وابن عدى 2/ 677، والحاكم 1/ 25، 2/ 577 من طريق هدبة به.

ص: 429

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ، قال:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} : وذلك أن الجبَلَ حِينَ كُشِف الغِطاءُ ورأى النورَ، صار مثلَ دكٍّ مِن الدِّكاكِ

(1)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} : فإنه أكبرُ مِنك وأشدُّ خَلْقًا، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} . فنظَر إلى الجبلِ لا

(2)

يتمالَكُ، وأقبل الجبلُ يندكُّ عن

(3)

أوَّلِه، فلما رأى موسى ما يصنَعُ الجبلُ خرَّ صَعِقًا

(4)

.

واختلفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {دَكًّا} ؛ فقرأته عامَّة قرَأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ: {جَعَلَهُ دَكًّا} مقصورًا بالتنوين

(5)

. بمعنى: دكَّ اللَّهُ الجبلَ دَكًّا. أي: فتَّتَهُ

(6)

. واعتبارًا بقولِ اللَّهِ: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} [الفجر: 21]. وقولِه: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)} [الحاقة: 14]. واستَشْهد بعضُهم على ذلك بقولِ حميدٍ

(7)

:

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"الدكات". والدكاك: جمع الدَّك والدَّكة، وهو ما استوى من الرمل وسهل. اللسان (د ك ك).

والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 468 عن الربيع.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ص، ف:"لم".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"على".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 118، 119 إلى عبد بن حميد.

(5)

وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وابن عامر وعاصم. ينظر حجة القراءات ص 294، 295.

(6)

في م: "فتنته".

(7)

التبيان 4/ 534.

ص: 430

يَدُكُّ أرْكانَ الجِبالِ هَزَمُهُ

(1)

يَخْطِرُ

(2)

بالبِيضِ الرِّقاقِ بُهَمُهْ

(3)

وقرأته عامَّةُ قرأةِ الكوفيِّين: (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) بالمدِّ وتركِ الإجراءِ

(4)

والتنوينِ

(5)

، مثلُ "حمراء" و "سوداءَ".

وكان ممن يقرَؤه كذلك عِكرمةُ، ويقولُ فيه بما حدثني أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سَلَّامٍ، قال: ثنا عبادُ بنُ عبادٍ، عن يزيدَ بن حازمٍ، عن عِكرمةَ، قال: دكاءَ مِن الدكَّاواتِ. وقال: لمَّا نظَر اللَّهُ إلى الجبلِ صار صَخْرُه

(6)

ترابًا

(7)

.

واختلَف أهلُ العربيةِ في معناه إذا قُرئ كذلك؛ فكان

(8)

بعضُ نحويِّى البصرةِ يقولُ

(9)

: العربُ تقولُ: ناقةٌ دكاءُ. أي

(9)

: ليس لها سَنامٌ. وقال: "الجبلُ" مذكرٌ، فلا يشبهُ أن يكونَ منه، إلَّا أن يكونَ جعَله:"مثلَ دكاءَ"، و

(10)

حذَف "مثلَ"، فأجراه مُجرَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].

وكان بعضُ نحوييِّ الكوفةِ يقولُ: معنى ذلك: جعَل الجبلَ أرضًا دكاءَ. ثم حذِفت "الأرضُ"، وأُقيمت "الدكاءُ" مُقامَها إذ أَدَّت عنها.

(1)

الهزم: الصوت. اللسان (هـ ز م).

(2)

في م: "تخطر".

(3)

البُهْم: الفارس الذي لا يدرى من أين يؤتى له من شدة بأسه، والجمع بُهَم. اللسان (ب هـ م).

(4)

في م: "الجر".

(5)

هي قراءة حمزة والكسائر. ينظر حجة القراءات ص 294، 295.

(6)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"صخرا". وفى تفسير ابن كثير 3/ 468: "صحراء".

(7)

أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (505) من طريق عباد بن عباد به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى ابن المنذر.

(8)

في م: "فقال".

(9)

سقط من: م. وهذا قول الأخفش كما في تهذيب اللغة 9/ 437.

(10)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 431

وأولى القراءتين في ذلك بالصوابِ عندى قراءةُ مَن قرأَه

(1)

: (جعَله دكاءَ) بالمدِّ وتركِ الإجراءِ

(2)

؛ لدلالةِ الخبرِ الذى روَيناه عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على صحتِه، وذلك أنه رُوِي عنه عليه السلام أنه قال:"فساخ الجَبَلُ". ولم يقلْ: فتفتَّت. ولا: تحوَّل ترابًا. ولا شكَّ أنه إذا ساخ فذهَب، ظهَر وجهُ الأرضِ، فصار بمنزلةِ الناقةِ التي قد ذهَب سَنامُها وصارت دكّاء لا سَنامَ لها

(3)

. وأما إذا دُكَّ بعضُه، فإنما يكسَرُ بعضُه بعضًا " [ويُفَتِّتُ]

(4)

ولا يَسوخُ. وأما الدَّكاءُ، فإنها خَلَفٌ مِن الأَرضِ، فلذلك أُنِّثَت

(5)

على ما قد على ما قد بيَّنْتُ.

فمعنى الكلامِ إذن: فلما تجلى ربُّه للجبلِ ساخ، فجعَل مكانَه أرضًا دكّاءَ.

وقد بيَّنَّا معنى "الصعقِ" بشواهدِه قبلُ

(6)

فيما مضى، بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(7)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فلما ثاب إلى موسى فهمُه مِن غَشيتِه - وذلك هو الإفاقةُ من الصعقةِ التي خرّ لها موسى - قال: {سُبْحَانَكَ} : تنزيهًا لك يا ربِّ وتبرئةً لك

(8)

أن يراكَ أحدٌ في الدنيا ثم يعيشَ، {تُبْتُ إِلَيْكَ} مِن مسألتي إياك ما

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"قرأ".

(2)

في م: "الجر"، والقراءتان كلتاهما صواب مقروء بهما.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"بلا سنام".

(4)

في م: "ويتفتت".

(5)

في ص، ت 1، س، ف:"أتيت"، وفى م:"أتت".

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(7)

ينظر ما تقدم في 1/ 690، 691.

(8)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 432

سألتُك مِن الرؤيةِ، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بك من قومى أن لا يراكَ في الدنيا أحدٌ إلا هلَك.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا عُبيدُ

(1)

اللَّهِ بنُ موسى، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الرَّبيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال: قد

(2)

كان قبلَه مؤمنون، ولكن يقولُ: أنا أوّلُ مَن آمن أنَّه

(3)

لا يراكَ أحدٌ مِن خلقِك إلى يومِ القيامةِ

(4)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أَبى جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ بن أنسٍ، قال: لما رأى موسى ذلك وأفاق، عرَف أنه قد سأل أمرًا لا ينبغى له، فقال:{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين} . قال الربيعُ: قال أبو العاليةِ: عَنَى: إنِّي أوّلُ مَن آمن بكَ أنه لن يراك أحدٌ قبلَ يومِ القيامةِ.

حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: قال سفيانُ: قال أبو سعدٍ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} : فمرّت به الملائكةُ وقد صَعِق، فقالت: يا بنَ النساءِ الحُيَّضِ، لقد سألتَ ربَّكَ أمرًا عظيمًا. فلما أفاق قال: سبحانَك لا إلهَ إلا أنتَ، {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. قال: أنا أوّلُ مَن آمن أنه لا يراك أحدٌ مِن خلقِك. يعني: في الدنيا.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"عبد". وقد تقدم مرارا.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

في م: "بأنه".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 433

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: أنا أولُ مَن يُؤمن أنه لا يراك شيءٌ مِن خلقِك

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} . قال: مِن مسألتى الرؤيةَ

(2)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعيدٍ، عن مجاهدٍ:{قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} : أن أسألَك الرؤيةَ.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، عن سفيانَ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} : أن أسألَك الرؤيةَ

(3)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عيينةَ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ}

(4)

: أن أسألَك الرؤيةَ

(5)

.

وقال آخرون: معنى قولِه: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أنا أولُ مَن آمَن

(6)

بك من بنى إسرائيلَ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1562 (8951) من طريق الضحاك، عن ابن عباس بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى ابن المنذر.

(2)

تفسير سفيان ص 113، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1562 (8952) وسمى الرجل عيسى الجرشى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1561، 1562 (8950) من طريق أبى نعيم به، وفيه عن رجل، يعنى ابن أبي نجيح.

(4)

بعده في ص، م:"قال تبت إليك من"، وبعده في ت 1، ت 2، س، ف:"من".

(5)

تفسير عبد الرزاق 1/ 238.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 434

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني الحسينُ

(1)

بنُ عمرِو بن محمدٍ العنقزِيُّ، قال: حدثني أبى، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن عِكرِمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال: أوّلُ مَن آمَن بك مِن بنى إسرائيلَ

(2)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . يعنى: أوّلُ المؤمنين مِن بنى إسرائيلَ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللَّهِ:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . أنا أوّلُ قومى إيمانًا

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ والمثنى بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا أبو نعيمٍ، عن سفيانَ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: أَوّلُ قومى إيمانًا.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال

(4)

: أوّلُ قومى إيمانًا.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعت مجاهدًا يقولُ في قولِه: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال: أوّلُ قومى آمَن.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"الحسن".

(2)

تقدم أوله في ص 427.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1562 (8953) من طريق ابن أبي نجيح به.

(4)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أنا".

ص: 435

وإنما اخْترنا القولَ الذي اخْترنا

(1)

في قولِه: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . على قولِ مَن قال: معناه: أنا أوّلُ المؤمنين مِن بنى إسرائيلَ. لأنَّه قد كان قبلَه في بنى إسرائيلَ مؤمنون وأنبياءُ، منهم ولدُ إسرائيلَ لصلبِه، كانوا

(2)

مؤمنين وأنبياءَ؛ فلذلك اخترنا القولَ الذي قلناه قبلُ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي

(3)

وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}.

يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللَّهُ لموسى: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} . يقولُ: اختَرتُك على الناسِ، {بِرِسَالَاتِي}

(4)

: إلى خلقى، أرسلْتك بها إليهم، {وَبِكَلَامِي}: كلَّمتُك وناجيتُك به

(5)

دونَ غيرِك مِن خلقى، {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ}. يقولُ: فخُذْ ما أعطيتُك مِن أمرى ونهيى، وتَمسَّكْ به واعمَلْ به بيدَنِك

(6)

، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} للَّهِ على ما آتاك مِن رسالتِه، وخصَّك

(7)

به

(8)

مِن النجْوى بطاعتِه في أمرِه ونهيِه، والمسارعةِ إلى مرضاتِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزَ: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"اخترناه".

(2)

في م: "وكانوا".

(3)

في الأصل: "برسالتى"، وهى قراءة نافع وابن كثير. السبعة لابن مجاهد 293.

(4)

في الأصل، ص، س، ف:"برسالتى".

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(6)

في ص، م، ت 1:"يريد".

(7)

في ص، م، ت:1: "حصل".

(8)

سقط من: ت 1، س، ف.

ص: 436

يقولُ جلَّ ثناؤه: وكتبْنا لموسى في ألواحِه. وأدخلت الألفُ واللامُ في {الْأَلْوَاحِ} بدلًا مِن الإضافةِ، كما قال الشاعرُ

(1)

:

* والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبٍ*

وكما قال جلّ ثناؤُه: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. يعنى: هي مأْواه.

وقولُه: هو {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: مِن التذكير والتنبيهِ على عظمةِ اللَّهِ وعزِّ سلطانِه، {مَوْعِظَةً} لقومِه، ومَن أُمِر بالعملِ بما كُتِب في الألواح، {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. يقولُ: وتَبْيِينًا لكلِّ شيءٍ مِن أمرِ اللَّهِ ونهيِه.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، أو سعيدِ بن جبيرٍ - قال أبو جعفرٍ

(2)

: وهو في أصلِ كتابى: عن سعيدِ بن جبيرٍ - في قولِ اللَّهِ: {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال: ما أُمروا به ونُهوا عنه

(3)

.

حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:

(1)

هو نابغة بنى ذبيان، وقد تقدم البيت كاملا في 4/ 335.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1565 (8969) من طريق ابن أبي نجيح عن سعيد بن جبير.

(4)

تفسير مجاهد ص 343.

ص: 437

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} : من الحلالِ والحرامِ

(1)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمِعت مجاهدًا يقولُ في قولِه: {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال: ما أُمِروا به ونُهوا عنه.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال عطيةُ: أخبَرنى ابن عباسٍ أن موسى الطَّيِّبَ صلى الله عليه وسلم لمّا كرَبه الموتُ قال: هذا مِن أجلِ آدمَ، قد كان اللَّهُ جعلنا في دارِ مثوًى لا نموتُ، فخطأُ آدمَ أنزَلنا ههنا. فقال اللَّهُ لموسى: أبعَثُ إليك آدمَ فتخاصِمَه؟ قال: نعم. فلما بعَث اللَّهُ آدمَ سأله موسى، فقال أبونا آدمُ: يا موسى سألتَ اللَّهَ أن يبعثَني لك؟ قال موسى: لولا أنتَ لم نكن ههنا. قال له: آدمُ: أليسَ قد آتاك اللَّهُ مِن كلِّ شيءٍ موعظةً وتفصيلًا؟ أفلستَ تعلمُ أنه ما أصاب في الأرضِ مِن مُصيبةٍ ولا في أنفسِكم إلا في كتابٍ مَن قبلِ أن نبرَأها؟ قال موسى: بلى. فخصَمه آدمُ صلى الله عليهما

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا

(3)

عبدُ الصمدِ بن معقلٍ، أنه سمِع وَهْبًا يقولُ في قولِه:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال: كُتب له

(4)

: لا تُشركْ بى شيئًا مِن أهلِ السماءِ ولا مِن أهلِ الأرضِ، فإن كلَّ ذلك خَلْقِى، ولا تحلِفْ باسمى كاذِبًا، فإن مَن

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 423 من طريق أسباط، عن السدى، عن عكرمة، عن ابن عباس.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 121 إلى المصنف.

(3)

بعده في ص، ت 1، س، ف:"معمر عن". وينظر تهذيب الكمال 18/ 52، 28/ 303.

(4)

بعده في الأصل: "أن".

ص: 438

حلَف باسمى كاذبًا فلا أُزكِّيه، ووقِّرْ والِدَيْكَ

(1)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} .

يقولُ تعالى ذِكْرُه: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواحِ مِن كلِّ شيءٍ موعظةً وتفصيلًا لكلِّ شيءٍ: خذِ الألواحَ بقوَّةٍ. فأخرَج الخبرَ عن "الألواح". والمرادُ ما فيها.

واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى "القوَّةِ" في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: معناه: بجِدٍّ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، قال: قال أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} . قال: بجِدٍّ

(2)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} . يعنى: بجدٍّ واجتهادٍ

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: فخُذْها بالطاعةِ للَّهِ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ، قال:

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 244، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1564 (8964) عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 121 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 423 من طريق عكرمة، عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1565 (8970) من طريق الضحاك، عن ابن عباس. وتقدم في 2/ 52.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1565 (8972) من طريق عمرو بن حماد به. وتقدم في 2/ 53.

ص: 439

أخبَرنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ بن أنسٍ في قولِه:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} . قال: بالطاعةِ

(1)

.

وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهدِه، واختلافَ أهلِ التأويلِ فيه في سورةِ "البقرةِ" عندَ قولِه:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]. فأغنى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: قلنا لموسى: وأمُرْ قومَك مِن بنى إسرائيلَ {يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} . يقولُ: يعمَلوا بأحسنِ ما يجِدُون فيها.

كما حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} . يقولُ: يعمَلوا

(3)

بأحسنِ ما يجدون فيها

(4)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ، قال: ثنا إبراهيمُ، قال: ثنا سفيانُ، ثنا أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} . قال: أمَر موسى أن يأخُذَها بأشدَّ مما أمَر به قومَه

(5)

.

فإن قال قائلٌ: وما معنى قولِه: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} . أكان [مرخَّصًا لهم في تَرْكِ]

(6)

بعضِ ما فيها مِن الحُسنِ؟ قيل: لا، ولكن كان فيها أمرٌ ونهىٌ، فأمَرهم اللَّهُ أن يعملوا بما أمرَهم بعملِه، ويترُكوا ما نهاهم عنه، فالعملُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1565 (8971) من طريق أبى جعفر به. وتقدم في 2/ 52.

(2)

ينظر ما تقدم في 2/ 52، 53.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1566 (8974) من طريق عمرو بن حماد به.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسير 3/ 471 عن ابن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 126 إلى المصنف.

(6)

في ت 1، ت 3، س، ف:"من خصالهم ترك"، وفى ت 1:"من خصالهم قول".

ص: 440

بالمأمورِ به أحسنُ مِن العملِ بالمَنْهيِّ عنه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ وعزّ: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} .

يقولُ تعالى ذِكرُه: قلنا لموسى إذ كتَبْنا له في الألواحِ مِن كلِّ شيءٍ: خذْها بجِدٍّ في العملِ بما فيها واجتهادٍ، وأمُرْ قومَك يعمَلوا

(1)

بأحسنِ ما فيها، وانهَهم عن تضيِيعِها وتضيِيعِ العملِ بما فيها والشركِ بى، فإن مَن أشرَك بى منهم ومِن غيرِهم، فإنى سأُريه في الآخرةِ عندَ مصيرِه إليَّ دارَ الفاسقين، وهى نارُ اللَّهِ التي أعدَّها لأعدائه. وإنما قال:{سَأُرِيكُمْ} كما يقولُ القائلُ لمن يخاطبُه: سأريكَ غدًا إلى ما يصيرُ إليه حالُ مَن خالَف أمرى. على وجهِ التهدُّدِ والوعيدِ لمن عصاه وخالَف أمْرَه.

وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم بنحوِ ما قلنا فيه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: حدَّثنا عيسى، عن ابن أبي، نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} . قال: مصيرَهم في الآخرة

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا مسلمٌ، قال: ثنا مباركٌ، عن الحسنِ في قولِه:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} . قال: جَهَنَّمَ

(3)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يأمروا"، وفى م:"يأخذوا".

(2)

تفسير مجاهد ص 343، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1565 (8977)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 126 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1566 (8978) من طريق يونس، عن الحسن.

ص: 441

وقال آخرون: معنى ذلك: سأُدخِلُكم أرضَ الشامِ، فأُريكم منازلَ الكافرين الذين هم سكَّانُها من الجبابرةِ والعمالقةِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} : منازلَهم.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{دَارَ الْفَاسِقِينَ} . قال: منازلَهم

(1)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: سأُريكم دارَ قومِ فرعونَ، وهى مصرُ

(2)

.

وإنما اختَرنا القولَ الذي اخترناه في تأويلِ ذلك؛ لأن الذي قبلَ قولِه: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أمرٌ مِن اللَّهِ لموسى وقومِه بالعملِ بما في التوراةِ، فأولَى الأُمورِ بحكمةِ اللَّهِ أن يختِمَ ذلك بالوعيدِ على مَن ضيَّعَه، وفرَّط في العملِ به، وحادَ عن سبيلِه، دونَ الخبرِ عما قد انقطع الخبرُ عنه، أو عما لم يجرِ له ذكرٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .

اختلف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: سأنزِعُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1566 (8979) من طريق محمد بن عبد الأعلى، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 326 عن معمر به.

(2)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"ذكر من قال ذلك"، ويياض في ص، ت 1، ت 2، س، ف، وعُلق عليه في الحاشية:"نقص بالأصل"، وفى الدر المنثور 3/ 127 عن قتادة: دار الفاسقين قال مصر. وعزاه إلى أبى الشيخ.

ص: 442

عنهم فَهْمَ الكتابِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أحمدُ بنُ منصورٍ المَرْوَزيُّ، قال: ثنى محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن بكرٍ، قال: سمِعتُ ابنَ عيينةَ يقولُ في قولِ اللَّهِ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . قال: يقولُ: أنزِعُ عنهم فهمَ القرآنِ، فأصرِفُهم عن آياتى

(1)

.

وتأويلُ ابن عيينةَ هذا يدلُّ على أن هذا الكلامَ كان عنده مِن اللَّهِ وعِيدًا لأهلِ الكفرِ باللَّهِ ممن بُعثِ إليه نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم دونَ قومِ موسى؛ لأن القرآنَ إنما أُنزل على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم دونَ موسى عليه السلام.

وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرِفُهم عن الاعتبارِ بالحُجَجِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} : عن خلقِ السماواتِ والأرضِ والآياتِ فيها، سأصرِفُهم عن أن يتفكَّروا فيها ويعتبِروا

(2)

.

وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه أخبَر أنه سيصرِفُ عن آياتهِ، وهى أدلَّتُه وأعلامُه على حقيقةِ ما أمَر به عبادَه، وفرَض عليهم مِن طاعتِه في توحيدِه وعدلِه وغيرِ ذلك مِن فرائضِه، والسماواتُ والأرضُ وكلُّ موجودٍ من خلقِه فمن آياتهِ، والقرآنُ أيضًا مِن آياتهِ. وقد عمَّ بالخبرِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1567 (8983) عن أحمد بن منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 127 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 127 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 443

أنه يصرفُ عن آياتِه المتكبرين في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، وهم الذين حقَّت عليهم كلمةُ اللَّهِ أنَّهم لا يُؤمنون، فهم عن فَهْمِ جميعِ آياتِه والاعتبارِ والادِّكارِ بها مصروفون؛ لأنهم لو وفِّقوا لفَهْمِ بعضِ ذلك، وهُدوا للاعتبارِ به؛ لاتَّعظوا وأنابوا إلى الحقِّ، وذلك غيرُ كائنٍ منهم؛ لأنَّه جلَّ ثناؤه قال:{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} . ولا تبديلَ لكلماتِ اللَّهِ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} .

يقولُ جلّ ثناؤه: وإن يرَ هؤلاءِ الذين يتكبَّرون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ - وتَكَبُّرُهم فيها بغيرِ الحقِّ: تجبُّرُهم فيها واستكبارُهم عن الإيمانِ باللَّهِ ورسولِه والإذعانِ لأمرِه ونهيِه، وهم للَّهِ عبيدٌ يَغُذُوهم بنعَمِه، ويريحُ عليهم رِزْقَه بُكْرَةً وعشيًّا - {كُلَّ آيَةٍ}. يقولُ: كلَّ حُجَّةٍ للَّهِ على وَحْدانِيَّتِه وربوبيَّتِه، وكلّ دَلالةٍ على أنه لا تنبغى العبادةُ إلا له خالصةً دونَ غيرِه، {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}. يقولُ: لا يُصَدِّقوا بتلك الآيةِ أنها دالةٌ على ما هي فيه حُجَّةٌ، ولكنَّهم يقولون: هي سحرٌ وكذبٌ. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . يقولُ: وإن يرَ هؤلاء الذين وصَف صفتَهم طريقَ الهُدى والسدادِ الذي إن سلكوه نجَوا مِن الهَلَكَةِ والعَطَبِ، وصاروا إلى نعيمِ الأبدِ، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسِهم طريقًا؛ جهلًا منهم وحيرةً. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ}. يقولُ: وإن يروا طريقَ الهلاكِ الذي إن سلكوه ضلُّوا وهلَكوا - وقد بيَّنَّا معنى الغيِّ فيما مضَى قبلُ بما أغنى عن إعادتِه

(1)

- {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} . يقولُ: يسلُكوه ويجعلوه لأنفسِهم طريقًا، لصرفِ اللَّهِ إياهم

(1)

ينظر ما تقدم في ص 91، وفى 92، 4/ 555.

ص: 444

عن آياتِه وطبعِه على قلوبِهم، فلا يُفْلِحون ولا يُنجِحون. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}. يقولُ جل ثناؤه: صرَفناهم عن آياتِنا أن يعقِلوها ويفهموها، فيعتبروا بها ويذَّكَّروا فيُنِيبوا، عقوبةً منا لهم على تكذيبِهم بآياتِنا، {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}. يقولُ: وكانوا عن آياتنا وأدلَّتِنا الشاهدةِ على حقيقةِ ما أمرناهم به ونهيناهم عنه، غافلين لا يتفكَّرون فيها، لاهين عنها لا يعتبِرون بها، فحقَّ عليهم حينئذٍ قولُ ربِّنا، فعَطبوا.

واختلَفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {الرُّشْدِ} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ وبعضُ المكيين وبعضُ البصريِّين: {الرُّشْدِ} بضمِّ الراءِ وتسكين الشينِ

(1)

.

وقرَأ ذلك عامة قرأةِ أهلِ الكوفةِ وبعضُ المكيِّين: (الرَّشَدِ) بفتحِ الراءِ والشينِ

(2)

.

ثم اختلَف أهلُ المعرفةِ بكلامِ العربِ في معنى ذلك إذا ضُمَّت راؤُه وسُكِّنت شينُه، وفيه إذا فُتِحَتَا جميعًا؛ فذُكِرَ عن أبي عمرِو بن العلاءِ أنه كان يقولُ: معناه: إذا ضُمَّت راؤه وسكِّنت شينُه: الصلاحُ، كما قال اللَّهُ:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] بمعنى: صلاحًا. وكذلك كان يقرؤُه هو. ومعناه إذا فُتحت راؤُه وشينُه: الرَّشَد في الدينِ، كما قال جلَّ ثناؤه:(تعلَّمَنِ مما عُلَّمتَ رَشَدًا)

(3)

. بمعنى: الاستقامةِ والصوابِ في الدينِ.

وكان الكسائيُّ يقولُ: هما لغتان بمعنًى واحدٍ، مثلُ: السُّقْمِ والسَّقَمِ، والحُزْنِ والحَزَنِ، وكذلك الرُّشْدُ والرَّشَدُ.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يقالَ: إنهما قراءتان مستفيضةٌ القراءةُ

(1)

وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 293.

(2)

وهى قراءة حمزة والكسائى. ينظر المصدر السابق.

(3)

سورة الكهف الآية 66. قرأها بفتح الراء والشين البصريان أبو عمرو ويعقوب. النشر 2/ 234.

ص: 445

بهما في قَرَأةِ الأمصارِ، متفِقتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ بها.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: هؤلاء المستكبرون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، وكلُّ مُكذِّبٍ لحُجَجِ اللَّهِ ورسلِه وآياتِه، وجاحدٍ أنه يومَ القيامةِ مبعوثٌ بعدَ مماتِه، ومنكرٍ لقاءَ اللَّهِ في آخِرتِه، ذهَبت أعمالُهم فبطَلَت، وحصَلت لهم أوزارُها فثبَتت؛ لأنهم عمِلوا لغيرِ اللَّهِ، وأتعبوا أنفسَهم في غيرِ ما يُرضى اللَّهَ، فصارت أعمالُهم عليهم وبالًا، يقولُ جل ثناؤه:{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . يقولُ: هل ينالون

(1)

إِلَّا ثوابَ ما كانوا يعمَلون، فصارَ ثوابُ أعمالِهم الخلودَ في نارٍ أحاط بهم سُرادقُها؛ إذ كانت أعمالُهم في طاعةِ الشيطانِ دونَ طاعةِ الرحمنِ. نعوذُ باللَّهِ مِن غضبِه.

وقد بيَّنا معنى "الحُبوطِ" و "الجزاءِ" و "الآخرةِ" فيما مضى بما أغنى عن إعادتِه

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه: واتَّخذ بنو إسرائيلَ - وهم قومُ موسى - مِن بعدِ ما فارقهم موسى ماضيًا إلى ربِّه لمناجاتِه ووفاءً للوعدِ الذي كان ربُّه وعدَه، {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا} . وهو ولدُ البقرةِ، فعبَدوه. ثم بيَّن تعالى ذكرُه ما ذلك العجلُ فقال:

(1)

في ف: "يثابون".

(2)

ينظر ما تقدم في معنى الحبوط في 3/ 666، 5/ 292، 8/ 149، 518، 9/ 387. ومعنى الجزاء في 1/ 632 - 635، ومعنى الآخرة في 1/ 251، 252.

ص: 446

{جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} . والخوارُ صوتُ البقرِ. يخبرُ جلّ ذكرُه عنهم أنهم ضلُّوا بما لا يُضَلُّ بمثلِه أهلُ العقلِ، وذلك أن الربَّ جل جلاله الذي له مَلكوتُ السماواتِ والأرضِ ومدبرُ ذلك، لا يجوزُ أن يكونَ جسدًا له خوارٌ، لا يكلِّمُ أحدًا، ولا يرشُدُ إلى خيرٍ، وقال هؤلاءِ الذين قصَّ اللَّهُ قَصَصَهم لذلك: هو إلهنُا وإلهُ موسى. وعكَفوا عليه يعبُدونه جهلًا منهم وذَهَابًا عن اللَّهِ وضلالًا.

وقد بيَّنا سببَ عبادتِهم إياه، وكيف كان اتخاذُ مَن اتخذَ منهم العجلَ فيما مضَى بما أغنى عن إعادتِه

(1)

.

وفى الحُليِّ لغتان: ضمُّ الحاءِ، وهو الأصلُ، وكسرُها، وكذلك ذلك في كلِّ ما شاكلَه مِن مثلِ "صليٍّ" و "جثيٍّ" و "عتيٍّ". وبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ؛ لاستفاضَةِ القراءةِ بهما في القَرَأةِ، واتفاقِ

(2)

معنييهما

(3)

.

وقولُه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} . يقولُ: ألم يرَ الذين عكفوا على العجلِ الذي اتخذوه مِن حُليِّهم يعبدونه، أن العجلَ لا يُكلمُهم {وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}. يقولُ: ولا يرشدُهم إلى طريقٍ، وليس ذلك مِن صفةِ ربِّهم الذي له العبادةُ حقًّا، بل صفتُه أنه يكلمُ أنبياءَه ورسلَه، ويُرشدُ خلقَه إلى سبيلِ الخيرِ، وينهاهم عن سبيلِ المهالكِ والردَى. يقولُ اللَّهُ جلّ ثناؤه:{اتَّخَذُوهُ} . أي: اتخذوا العجلَ إلهًا، {وَكَانُوا} باتخاذِهم إياه ربًّا معبودًا {ظَالِمِينَ} لأنفسِهم، بعبادتِهم

(4)

غيرَ مَن له العبادةُ، وإضافتِهم الألوهةَ إلى غيرِ الذي له الألوهةُ.

وقد بيَّنا معنى "الظلمِ" فيما مضَى بما أغنى عن إعادتِه

(5)

.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 669 - 675.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لاتفاق"، وفى م:"لا تفارق بين".

(3)

قرأ بكسر الحاء حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بضمها. السبعة ص 294، والتيسير ص 93.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لعبادتهم".

(5)

ينظر ما تقدم في 1/ 559، 560.

ص: 447

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} .

يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} : ولما نَدِم الذين عبَدوا العجلَ الذي وصَف اللَّهُ جلّ ثناؤه صفتَه عندَ رُجوعِ موسى إليهم، واستسَلموا لموسى وحُكمِه فيهم.

وكذلك تقولُ العربُ لكلِّ نادمٍ على أمرٍ فات منه أوسلَف، وعاجزٍ عن شيءٍ: قد سقِط في يديه وأُسْقِط. لغتان فصيحتان، وأصلُه مِن الاستئسارِ، وذلك أن يضربَ الرجلُ الرجلَ أو يصرعَه فيرمىَ به من يديه إلى الأرضِ ليأسِرَه فيَكْتِفَه. فالمرميُّ به مسقوطٌ في يدى الساقطِ به، فقيلَ لكلِّ عاجزٍ عن شيءٍ وضارعٍ

(1)

العجزِه متندِّمٍ على ما فاته: سُقط في يديه وأُسقِط.

وعنى بقولِه: {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} : ورأَوا أنهم قد حادُوا

(2)

عن قصدِ السبيلِ وذهَبوا عن دينِ اللَّهِ، وكفَروا بربِّهم، قالوا تائبين إلى اللَّهِ مُنيبين إليه مِن كفِرهم به:{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} .

ثم اختلَفت القرَأةً في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُ قرَأةِ أهلِ المدينةِ ومكةَ والكوفةِ والبصرةِ: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بالرفعِ على وجهِ الخبرِ

(3)

.

وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ: (لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا) بالتاءِ

(4)

(رَبَّنا) بالنصبِ

(5)

، بتأويلِ: لئن لم ترحمْنا يا ربَّنا. على وجهِ الخطابِ منهم لربِّهم. واعتلَّ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"صارع"، وفى م:" مصارع".

(2)

في الأصل، م:"جاروا"، وفى ص، س:"حاروا".

(3)

وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبى عمرو. السبعة لابن مجاهد ص 294.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(5)

وهى قراءة حمزة والكسائى. المصدر السابق.

ص: 448

قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين: (قالوا رَبَّنَا

(1)

لَئِنْ لم تَرْحَمْنَا

(2)

وتَغْفِرْ لَنا). فذلك دليلٌ على الخطابِ.

والذي هو أولى بالصوابِ مِن القراءة فى ذلك

(3)

القراءةُ على وجهِ الخبرِ بالياءِ في {يَرْحَمْنَا} ، وبالرفعِ في قولِه:{رَبُّنَا} ؛ لأنه لم يتقدّمْ ذلك ما يوجبُ أن يكونَ موجهًا إلى الخطابِ. والقراءةُ التي حَكَيتُ على ما ذكرنا مِن قراءتِها: [قالوا ربَّنَا

(4)

لَئِنْ لم تَرْحَمْنَا

(5)

]

(6)

لا تُعرَفُ صِحَّتُها مِن الوجهِ الذي يجبُ التسليمُ له

(7)

.

ومعنى قولِه: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} : لئن لم يتعطفْ علينا ربُّنا بالتوبةِ برحمتِه، ويتغمَّد

(8)

ذنوبَنا لنكوننَّ مِن الهالكين الذين حبِطت أعمالُهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ولما رجَع موسى إلى قومِه مِن بنى إسرائيلَ، رجَع غضبانَ أسِفًا؛ لأن اللَّهَ جل ثناؤه كان قد أخبره أنه قد فتَن قومَه، وأن السامريَّ قد أضلَّهم، فكان رجوعُه غضبانَ أسِفًا لذلك.

والأسَفُ شدّةُ الغضبِ والتغيُّظ فيه

(9)

على مَن أغضبَه.

(1)

سقط من: النسخ، وستأتى على الصواب بعد قليل. وهى قراءة أبى. ينظر البحر المحيط 4/ 394، وهى شاذة.

(2)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"ربنا".

(3)

القراءتان كلتاهما صواب مقروء بهما.

(4)

سقط من: م.

(5)

بعده في م: "ربنا".

(6)

في الأصل، ص، ف:"ربنا لئن لم ترحمنا".

(7)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"إليه".

(8)

في ص: "يتغمدنا"، وفى ت:2 "يتعهدنا"، وبعده في م:"بها".

(9)

في ص، م، ت 1، ف:"به".

ص: 449

كما حدَّثني عمرانُ بنُ بكارٍ الكلاعيُّ، قال: حدَّثني عبدُ السلامِ بنُ محمدٍ الحضرميُّ، قال: ثنى شريحُ بنُ يزيدَ، قال: سمِعتُ نصرَ بنَ عَلقمةَ يقولُ: قال أبو الدرداءِ في قولِ اللَّهِ: {غَضْبَانَ أَسِفًا} . قال: الأسَفُ منزلةٌ وراءَ

(1)

الغضبِ أشدُّ من ذلك، وتفسيرُ ذلك في كتابِ اللَّهِ: ذهَب إلى قومِه غضبانَ، وذهَب أَسِفًا

(2)

.

وقال آخرون في ذلك ما حدثني به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ

(3)

: {أَسِفًا} قال: حزينًا

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} . يقولُ: أَسِفًا حزينًا. وقال في "الزخرفِ": {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] يقولُ: أغضَبونا. والأسفُ على وجهين؛ الغضبُ والحزنُ

(5)

.

حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا مالكُ بنُ دينارٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ يقولُ في قولِه: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} قال: غضبانَ حزينًا

(6)

.

وقولُه: {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} . يقولُ: بئس الفعلُ فعلتم بعدَ فراقى إيَّاكم وأوليتمونى في من خَلَفْتُ ورائى من قومِى فيكم ودِينى الذي أمَركم به

(1)

في الأصل، ص، ف، ت 2، س، ف:"وذا".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 474 مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 127 إلى أبى الشيخ.

(3)

بعده في الأصل: "غضبان أسفا يقول".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 127 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1569 (8996) عن محمد بن سعد به، وأخرجه في 5/ 1569 (8994، 8995) من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1569 عقب أثر (8995) معلقًا.

ص: 450

ربُّكم، يقالُ منه: خلَفه بخيرٍ وخلَفه بشرٍّ. إذا أولاه في أهلِه أو قومِه، أو

(1)

مَن كان منه بسبيلٍ مِن بعدِ شخوصِه عنهم خيرًا أو شرًّا.

وقولُه: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} . يقولُ: أَسَبَقْتُم أمرَ رَبِّكم في أنفسِكم، وذهَبتم عنه. يقالُ منه: عجِل فلانٌ هذا الأمرَ، إذا سبَقَه. وعجِل فلانٌ فلانًا، إذا سبَقه. ولا تُعْجِلْنى يا فلانُ، لا تذهَبْ عنى وتَدَعَنى. وأعجلتُه: استحثَثْتُه

(2)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤه: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: وألقى موسى الألواحَ.

ثم اختلف أهلُ العلمِ في سببِ إلقائِه إياها؛ فقال بعضُهم: ألقاها غضَبًا على قومِه الذين عبدوا العجلَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدًّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ بن أبى أيوبَ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جبيرٍ، قال: قال ابن عباسٍ: لمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أسِفًا فأخَذ برأسِ أخيه يجرُّه إليه، وألقى الألواحَ مِن الغضبِ

(3)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ، قال: ثنا إبراهيمُ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، قال: قال أبو سعدٍ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: لما رجَع موسى إلى قومِه، وكان قريبًا منهم،

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"و".

(2)

في ص، ت 1، س، ف:"استحييته".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1570 (9000) من طريق يزيد به.

ص: 451

سمِع أصواتَهم، فقال: إني لأسمعُ أصواتَ قومٍ لاهِين، فلما عاينهم وقد عكَفوا على العجلِ ألقى الألواحَ فكسَرَها، وأخذَ برأسِ أخيه يجُرُّه إليه.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: أخَذ موسى الألواحَ ثم رجَع إلى قومِه غضبانَ أَسِفًا، {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} إلى قولِه:{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)} [طه: 87] فأَلْقَى مُوسَى الأَلْوَاحَ وأَخَذَ برأسِ أخيهِ يَجُرُّه إليه، {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94]

(1)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما انتهى موسى إلى قومِه فرأى ما هم عليه مِن عبادةِ العجلِ، ألقى الألواحَ مِن يده، ثم أخذ برأسِ أخيه ولحيتِه ويقولُ:{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: 92، 93].

وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواحَ لفضائلَ أصابَها فيها لغيرِ قومِه، فاشتدَّ ذلك عليه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} . قال: رَبِّ إنى أجدُ في الألواح أُمةً خيرَ أمةٍ أُخرِجت للناسِ، يأمرُون بالمعروفِ وينهَون عن المنكرِ، اجعلْهم أمّتى. قال: تلكَ أمةُ أحمدَ، قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً هم الآخِرون في الخَلْقِ، السابقون في دخولِ الجنةِ، ربِّ اجعلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً أناجيلُهم

(1)

تقدم تخريجه في 1/ 681.

ص: 452

في صدورِهم يقرءُونها - وكان مَن قبلَكم

(1)

يقرءُون كتابَهم نظرًا حتى إذا رفَعوها لم يحفَظوا شيئًا ولم يعرِفوه

(2)

، وإن اللَّهَ أعطاكم أيَّتها الأمةُ مِن الحفظِ شيئًا لم يُعْطِه أحدًا مِن الأممِ - قال: ربِّ اجعلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: ربِّ إني أجدُ في الألواحِ أمةً يؤمنون بالكتابِ الأوّلِ وبالكتابِ الآخرِ، ويقاتلون فضولَ

(3)

الضلالةِ حتى يُقاتِلوا الأعورَ الكذابَ، فاجعلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً صدقاتُهم يأكُلونها في بطونِهم ثم يؤجَرون عليها - وكان مَن قبلَكم مِن الأممِ إذا تصدَّقَ بصدقةٍ فقُبِلت منه، بعَث اللَّهُ عليها نارًا فأكَلَتها، وإن رُدَّتْ عليه تُرِكت فأكلَتها السَّباعُ والطيرُ، وإن اللَّهَ أخَذ صدقاتِكم مِن غنيِّكم لفقيرِكم - قال: ربِّ فاجعلْهم أمتى. قال: تلك أمَّةُ أحمدَ. قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً إذا همَّ أحدُهم بحسنةٍ ثم لم يعمَلْها كُتِبت له حسنةً، فإن عمِلها كُتِبت له عَشْرَ أمثالِها إلى سبعِمائةٍ، ربِّ اجعلْهم أمّتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمًة إذا همَّ أحدُهم بسيئةٍ لم تكتبْ عليه حتى يعملَها، فإذا عمِلها كُتِبت عليه سيئةً واحدةً، فاجعَلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً هم المستجيبون والمستجابُ لهم، ربِّ اجعلْهم أمّتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً هم المشفَّعون والمشفوعُ لهم، فاجعلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: وذُكر لنا أنَّ نبيَّ اللَّهِ موسى عليه السلام نبَذ الألواحَ وقال: اللهمَّ اجعلْنى

(4)

مِن أمةِ أحمدَ. قال: فأُعطِى نبيُّ اللَّهِ موسى عليه السلام ثنتين لم يُعطَهما نبيٌّ، قال اللَّهُ: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي

(5)

(1)

في م، ت 1، ت 2، س:"قبلهم".

(2)

في ت:1 "يعرفوها"، وبعده في م:"قال قتادة".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف، وتفسير ابن كثير 3/ 476:"فصول". والمثبت من الأصل، وهو موافق للدر المنثور 3/ 122.

(4)

في الأصل، ص، ت 2، س، ف:"اجعله".

(5)

في الأصل: "برسالتى". وتقدم في ص 436 أنها قراءة نافع وابن كثير.

ص: 453

وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]. قال: فرضِي نبيُّ اللَّهِ، ثم أُعطِيَ الثانيةَ:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: 159]. قال: فرضِي نبيُّ اللَّهِ كلَّ الرِّضَا.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن قتادةَ قال: لما أخذَ موسى الألواحَ، قال: يا ربِّ إنى أجدُ في الألواحِ أمةً هم خيرُ الأممِ، يأمرون بالمعروفِ، وينهَون عن المنكرِ، فاجعلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. قال: يا ربِّ إنى أجِدُ في الألواحِ أمةً هم الآخِرون السابقون يومَ القيامة، فاجعلْهم أمتى. قال: تلك أمةُ أحمدَ. ثم ذكَر نحوَ حديثِ بشرِ بن معاذٍ، إلّا أنَّه قال في حديثِه: فألقى موسى الألواحَ، وقال: ربِّ اجعلنى مِن أمةِ محمدٍ

(1)

.

والذي هو أولى بالصوابِ من القولِ في ذلك أن يكونَ سببَ إلقاءِ موسى الألواحَ كان من أجل غضبِه على قومِه لعبادتِهم العجلَ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه بذلك أخبَر في كتابِه، فقال:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} .

وذُكِر

(2)

أن اللَّهَ لما كتَب لموسى في الألواحِ التوراةَ، أدناه منه حتى سمع صريفَ القلمِ.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1564 (8967) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 236، 237 من طريق معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 122 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبى الشيخ. وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 474: وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبًا، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة، وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء، وهو جدير بالرد، وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب، وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة.

(2)

في م: "ذلك".

ص: 454

‌ذكرُ بعضِ

(1)

مَن قال ذلك

حدَّثني الحارثُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن السديِّ، عن أبي عمارةَ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال

(2)

: كتَب اللَّهُ الألواحَ لموسى عليه السلام وهو يسمعُ صريفَ

(3)

الأقلامِ في الألواحِ

(4)

.

[حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ]

(5)

، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: أدناه حتى سمِع صريفَ القلمِ.

وقيل: إن التوراةَ كانت سبعةَ أسباعٍ، فلما ألقى موسى الألواحَ تكسَّرت، فرُفِع منها ستةُ أسباعِها، وكان فيما رُفِع تفصيلُ كلِّ شيءٍ الذي قال اللَّهُ:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . وبقِى الهُدى والرحمةُ في السُّبُعِ الباقي، وهو الذي قال اللَّهُ:{أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]. وكانت التوراةُ فيما ذُكِر سبعين وِقْرَ بعيرٍ يُقرأُ الجزءُ منها في سنةٍ.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ خالدٍ المكفوفُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بن أنسٍ، قال: أُنزِلت التوراةُ وهى سبعون وِقْرَ بعيرٍ، يُقرأُ منها الجزءُ في سنةٍ، لم يقرأْها إلَّا أربعةُ نفرٍ؛ موسى بنُ عمرانَ، وعيسى، وعُزيرٌ، ويوشَعُ بنُ نونٍ.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

بعده في م: "لما".

(3)

في الأصل: "صرير". وهما بمعنى الصوت. التاج (ص ر ر، ص ر ف).

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى المصنف وعبد بن حميد وأبي الشيخ.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"قال ثنا إسرائيل". وإسرائيل بن يونس لا يروى عن عطاء. ينظر تهذيب الكمال، 2/ 515، 18/ 165، 20/ 86.

ص: 455

واختلفوا في الألواحِ؛ فقال بعضُهم: كانت مِن زمرُّدٍ أخضرَ. وقال بعضُهم: كانت مِن ياقوتٍ. وقال بعضُهم: كانت مِن بَرَدٍ.

‌ذكرُ الروايةِ بما ذكرنا مِن ذلك

حدَّثني أحمدُ بنُ إبراهيمَ الدَّورقيُّ، قال: ثنا حجاجُ بنُ محمدٍ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني يعلى بنُ مسلمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: ألْقَى موسى الألواحَ فتكسَّرت، فرُفِعت إلَّا سُدُسُها

(1)

.

قال ابن جريجٍ: وأخبرنى أن الألواحَ من زبرجدٍ وزُمُرُّدٍ مِن الجنةِ

(2)

.

حدَّثني موسى بنُ سهلٍ الرَّمليُّ وعليُّ بنُ داودَ وعبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بن شَبُّويَه وأحمدُ بنُ الحسنِ الترمذيُّ، قالوا: أخبَرنا آدمُ العسقلانيُّ، قال: أخبرنا أبو جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: كانت ألواحُ موسى مِن بَرَدٍ

(3)

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن أبي الجُنَيدِ، عن جعفرِ بن أبى المغيرةِ، قال: سألتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ عن الألواحِ مِن أي شيءٍ كانت؟ قال: كانت مِن ياقوتةٍ، كتابُهُ الذهبُ، كتَبه

(4)

الرحمنُ بيدِه، فسمِع أهلُ السماواتِ صريفَ القلمِ وهو يكتُبها

(5)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا القاسمُ، قال: حدثنا عبدُ الرحمنِ، عن محمدِ بن أبى الوضّاحِ، عن خُصيفٍ، عن مجاهدٍ، أو سعيدِ بن جبيرٍ، قال: كانت الألواحُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 570 (8999) من طريق الدورقى به.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 120 إلى أبى الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1563 (8959) من طريق آدم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 121 إلى أبى الشيخ.

(4)

في م، ت 1:"كتبها".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1563 (8961) من طريق حكام به، وفى 5/ 1563 (8960) من طريق أبى الجنيد به بنحوه.

ص: 456

من زُمُرُّدٍ، فلما ألقَى موسى الألواحَ بقِى الهُدَى والرَّحمةُ، وذهَب التفصيلُ

(1)

.

[حدَّثني الحارثُ]

(2)

، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا الأشجعيُّ، عن محمدِ بن مسلمٍ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ، قال: كانت الألواحُ مِن زُمُرُدٍ أخضرَ

(3)

.

وزعَم بعضُهم أن الألواحَ كانت لوحين. فإن كان الذي قال كما قال، فإنه قيل:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِ} ؛ وهما لوحان، كما قيل:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]. وهما أَخَوان.

وأما قولُه: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} . فإن ذلك من فعلِ نبيِّ اللَّهِ عليه السلام كان المَوجِدَتِه على أخيه هارونَ في تركِه اتباعَه، وإقامتِه مع بنى إسرائيلَ في الموضعِ الذي ترَكهم فيه، كما قال جلّ ثناؤُه مخبرًا عن قيلِ موسى له:{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: 92، 93]. حتى

(4)

أخبره هارونُ بعذرِه، فقبِل عذرَه، وذلك قيلُه لموسى:{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]. وقال يا {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

واختلفت القرَأَةُ في قراءةِ قولِه: يا {ابْنَ أُمَّ} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرَأةِ المدينةِ وبعضُ أهلِ البصرةِ: يا {ابْنَ أُمَّ} . يفتحِ الميمِ مِن "الأمِّ"

(5)

.

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/ 49 من طريق عبد الرحمن به بنحوه. ووقع فيه: حصين، بدلًا من: خصيف. وهو تصحيف.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 121 إلى ابن المنذر.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"حين".

(5)

وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وحفص عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 295.

ص: 457

وقرأ ذلك عامَّةُ قرأة أهلِ الكوفةِ: يا (ابْنَ أُمِّ) بكسرِ الميمِ مِن "الأمِّ"

(1)

.

واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ فتحِ ذلك وكسرِه، مع إجماعِ جميعِهم على أنهما لغتان مستعملتان في العربِ؛ فقال بعضُ نحوييِّ البصرةِ: قيل ذلك بالفتحِ على أنهما اسمان جُعِلا اسمًا واحدًا، كما قيل: يا ابنَ عمَّ. وقال: هذا شاذٌّ لا يُقاسُ عليه. قال: ومَن قال في ذلك: يا (ابنَ أُمِّ)، فهو على لغةِ الذين يقولون: هذا غلامِ قد جاء. وجعَله اسمًا واحدًا آخرُه مكسورٌ، مثلَ قولِه: خازِ بازِ

(2)

.

وقال بعضُ نحوييِّ الكوفةِ

(3)

: قيل: {يَبْنَؤُمَّ} [طه: 94]، ويا ابنَ عمَّ، فنُصِب كما يُنصبُ المعربُ في بعضِ الحالاتِ، فيقال: يا حسرتا، ويا ويلتا. قال: فكأَنَّهم قالوا: يا أماه، ويا عماه. ولم يقولوا ذلك في أخٍ، ولو قيل ذلك لكان صوابًا. قال: والذين خفَضوا ذلك فإنه كثُر في كلامِهم حتى حذفوا الياءَ. قال: ولا تكادُ العربُ تحذفُ الياءَ إِلَّا مِن الاسمِ المنادَى يضيفُه المنادِى إلى نفسِه، إلا قولُهم: يا بنَ أمِّ

(4)

، ويا بنَ عمِّ. وذلك أنهما يكثُرُ استعمالُهما في كلامِهم، فإذا جاء ما لا يُستعملُ أثبتوا الياءَ، فقالوا: يا بنَ أبى، ويا بنَ أخى وأختى، ويا بنَ خالتي، ويا بنَ خالى.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إذا فُتِحت الميمُ مِن {ابْنَ أُمَّ} ، فمرادٌ به الندبةُ: يا بنَ أماه، وكذلك مِن "ابن عمَّ"، وإذا كُسِرت، فمرادٌ به الإضافةُ، ثم

(1)

وهى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائى وعاصم في رواية أبى بكر. السبعة لابن مجاهد ص 295.

(2)

الخازِبازِ: ذباب يكون في الروض. تاج العروس (ب و ز).

(3)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 394.

(4)

في الأصل: "عم".

ص: 458

حذِفت الياءُ التي هي كنايةُ اسمِ المخبِرِ عن نفسِه. وكأن بعضَ مَن أنكرَ تَشْبيه

(1)

كسرِ ذلك إذا كُسِر، بكسرِه الزاىَ مِن "خاز بازِ"، يقولُ: ليس ذلك نظيرَ "خازِ بازِ"؛ لأنَّ "خازِ بازِ" لا يُعرفُ الثاني إلا بالأولِ، ولا الأوَّلُ إلا بالثانى، فصار كالأصواتِ.

وحُكى عن يونسَ النحويِّ

(2)

عن "يا بنتَ أمِّ"، و "يا بنتَ عمِّ"، فقال: لا يُجعلُ اسمًا واحدًا إلا مع "ابن" المذكرِ. قالوا: وأما اللغةُ الجيدةُ والقياسُ الصحيحُ فلغةُ مَن قال: يابنَ أمى. بإثباتِ الياءِ، كما قال أبو زُبيدٍ

(3)

.

يا بْنَ أُمِّي وياشْقَيِّقَ نَفْسِى

أَنْتَ خَلَّفْتَنِى لِدَهْرٍ شَدِيدِ

وكما قال الآخرُ

(4)

:

يا بْنَ أُمِّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إِذْ تَدْ

عُو تَميمًا وأنْتَ غيرُ مُجَابٍ

وإنما أثبَت هؤلاء الياءَ في "الأمِّ" لأنَّها غيرُ مناداةٍ، وإنما المنادَى هو الابنُ دونَها، وإنما تُسقِطُ العربُ الياءَ مِن المنادَى إذا أضافته إلى [أنفسِها

(5)

، لا إذا أضافته إلى]

(6)

غيرِ أنفسِها

(7)

، كما قد بَيَّنَّا.

وقيل: إن هارونَ إنما قال لموسى: {يَبْنَؤُمَّ} [طه: 94] ولم يقلْ له: يا بنَ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"نسبته".

(2)

في الأصل، ص، ف:"الجرمى". وينظر ما تقدم في 8/ 245.

(3)

ديوانه ص 48، وروايته:

يا بن حسناء شق نفسى يالجـ

لاج خليتنى لدهر شديد

وكرواية المصنف في الكتاب 2/ 213، واللسان (ش ق ق)، وجاء فيه: لأمر. بدلًا من الدهر.

(4)

هو غلفاء بن الحارث بن آكل المرار الكندى، والبيت في النقائض 1/ 457، 2/ 1077، والوحشيات ص 134.

(5)

في ص، م، ت 2:"نفسها".

(6)

سقط من: ت 1، س، ف.

(7)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"نفسها".

ص: 459

أبى. وهما لأبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ، استعطافًا له على نفسِه برحِمِ الأمِّ.

وقولُه: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} . يعنى بـ" القومِ": الذين عكَفوا على عبادةِ العجلِ، وقالوا: هذا إلهُنا وإلهُ موسى. وخالفوا أمرَ هارونَ. وكان استضعافُهم إياه تركَهم طاعتَه واتباعَ أمرِه، {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}. يقولُ: قارَبوا ولم يفعَلوا.

واختلَفت القرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {فَلَا تُشْمِتْ} . فقرَأ قرَأةُ الأمصارِ ذلك: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} بِضَمِّ التاءِ مِن {تُشْمِتْ} وكسرِ الميمِ منها، مِن قولِهم: أشمَتَ فلانٌ فلانًا بفلانٍ، إذا سرَّه فيه بما يكرهُه المُشْمَتُ به.

ورُوى عن مجاهدٍ أنه قرَأ ذلك: (فلا تَشْمِتْ

(1)

بِىَ الأعْدَاءُ).

حدَّثني بذلك عبدُ الكريمِ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: قال حميدُ بنُ قيسٍ: قرَأ مجاهدٌ: (فَلَا تَشْمِتْ بِىَ الأَعْدَاءُ).

وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ، عن ابن عيينةَ، عن حميدٍ، قال: قرَأ مجاهدٌ: (فَلا تَشْمِتْ بِىَ الأَعْدَاءُ).

وحُدِّثت عن يحيى بن زيادٍ الفراءِ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن رجلٍ

(2)

، عن مجاهدٍ أنه قرَأ

(3)

: (لا تَشْمِتْ)

(4)

.

وقال الفراءُ: قال الكسائيُّ: ما أدرى، فلعلهم أرادوا:(فَلا تَشْمَتْ بىَ الأعْدَاءُ). فإن تكنْ صحيحةً فلها نظائرُ؛ العربُ تقولُ: فرِغْتُ وَفَرَغْتُ. فمَن قال: فَرِغْتُ. قال: أنا أفْرَعُ. ومن قال: فَرَغْتَ. قال: أنا أُفْرُغُ. وكذلك: رَكَنْتُ وَرَكِنْتُ، وشمِلهم أمرٌ

(5)

وشمَلهم. في كثيرٍ مِن الكلامِ. قال: و (الأعداءُ) رفعٌ؛ لأنَّ

(1)

في الأصل: "يشمت"، وقراءة مجاهد شاذة.

(2)

بعده في معاني القرآن: "أظنه الأعرج".

(3)

في م: "قال".

(4)

معاني القرآن 1/ 394.

(5)

في معاني القرآن: "شر".

ص: 460

الفعلَ لهم، لمن قال:(تَشمَت) أو

(1)

(تَشمِت)

(2)

.

والقراءةُ التي لا أستجيزُ القراءةَ إلا بها قراءةُ مَن قرَأ: {فَلَا تُشْمِتْ} بضمِ التاءِ الأولى وكسرِ الميمِ - مِن: أشمتُّ به عدوَّه أُشْمِته به - ونَصْبِ "الأعداءِ"؛ لإجماعِ الحُجةِ مِن قرأةِ الأمصارِ عليها، وشذوذِ ما خالفها مِن القراءةِ، وكفى بذلك شاهدًا على فسادِ

(3)

ما خالَفها، هذا مع إنكارِ معرفةِ عامةِ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ: شمَّت فلانٌ فلانًا بفلانٍ. وشمَت فلانٌ بفلانٍ يشمِتُ

(4)

. وإنما المعروفُ من كلامِهم إذا أخبروا عن شماتَةِ الرجلِ بعدوِّه: شمِت بهِ - بكسرِ الميمِ - يشمَتُ به. بفتحِها في الاستقبالِ.

وأما قولُه: {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . فإنه قولُ هارونَ لأخيه موسى، يقولُ: لا تجعلنى في مَوْجِدتِك عليَّ وعقوبتِك لى، ولم أُخالِفْ أمرَك، محلَّ مَن عصاك فخالَف أمرَك وعبَد العجلَ بعدَك، فظلَم نفسَه، وعبدَ غيرَ مَن له العبادةُ، ولم أشايعْهم على شيءٍ مِن ذلك.

كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . قال: أصحابِ العجلِ

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن

(1)

في الأصل: "و".

(2)

معاني القرآن 1/ 394.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

بعده في م، ف:"به".

(5)

تفسير مجاهد ص 344، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1570 (9001)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 127 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 461

مجاهدٍ مثلَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى لما تبيَّن له عذرُ أخيه، وعلِم أنه لم يفرِّطْ في الواجبِ الذي كان عليه مِن أمرِ اللَّهِ في إنكارِ

(1)

ما فعَله الجَهَلَةُ مِن عَبَدةِ العجلِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} . مستغفرًا مِن فعلِه بأخيه ولأخيه مِن سالفٍ سلَف

(2)

له بينَه وبينَ اللَّهِ؛ تغمَّدْ ذنوبَنا بسترٍ منك تسترُها به، {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ}. يقولُ: وارحمْنا برحمتِك الواسعةِ عبادَك المؤمنين، فإنك أنت أرحمُ بعبادِكَ مِن كلِّ مَن رحِم شيئًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إلهًا {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} بتعجيلِ اللَّهِ لهم ذلك، {وَذِلَّةٌ} . وهى الهوانُ؛ لعقوبةِ اللَّهِ إيَّاهم على كفرِهم بربِّهم، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: في عاجلِ الدنيا قبلَ آجلِ الآخرةِ.

وكان ابن جُريجٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا به القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . قال: هذا لَمْن مات ممن اتَّخَذ العجلَ قبلَ أن يرجِعَ موسى، ومَن فرَّ منهم حينَ أمرَهم موسى أن يقتُلَ بعضُهم بعضًا.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"ارتكاب".

(2)

سقط من: م، وفى ف:"ما سلف".

ص: 462

وهذا الذي قاله ابن جُريجٍ، وإن كان قولًا له وجهٌ، فإن ظاهرَ كتابِ اللَّهِ مع تأويلِ أكثرِ أهلِ التأويلِ بخلافِه؛ وذلك أن اللَّهَ جلَّ ثناؤه عمَّ بالخبرِ عمَّنِ اتَّخذَ العجلَ أنه سينالُه غضبٌ مِن ربِّه وذِلَّةٌ في الحياةِ الدنيا، وتظاهرت الأخبارُ عن أهلِ التأويلِ مِن الصحابةِ والتابعين بأن اللَّهَ - إذ رجَع إلى بنى إسرائيلَ موسى - تاب على عَبَدةِ العجلِ مِن فعلِهم، بما أخبَر به عن قيل موسى لهم في كتابِه، وذلك قولُه:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 54]. ففعَلوا ما أمَرهم به نبيُّهم عليه السلام، فكان أمرُ اللَّهِ إيَّاهم بما أمرَهم به مِن قتلِ بعضِهم أنفسَ بعضٍ، عن غضبٍ منه عليهم لعبادتِهم

(1)

العجلَ، فكان قتلُ بعضِهم بعضًا هَوانًا لهم، وذلةً أَذلَّهم اللَّهُ بها في الحياةِ الدنيا، وتوبةً منهم إلى اللَّهِ قَبِلها، وليس لأحدٍ أن يجعلَ خبرًا جاء الكتابُ بعمومِه في خاصٍّ مما عمَّه الظاهرُ بغيرِ بُرهانٍ مِن حُجَّةِ خبرٍ أو عقلٍ، ولا نعلمُ خبرًا جاء يوجِبُ نقلَ ظاهرِ قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} . إلى باطِنٍ خاصٍّ، ولا مِن العقلِ عليه دليل، فيجبَ إحالةُ ظاهرِه إلى باطِنِه.

ويعنى بقولِه {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} : وكما جزَيتُ هؤلاءِ الذين اتخَذُوا العجلَ إلهًا مِن إحلالِ الغضبِ بهم، والإذلالِ في الحياةِ على كفرِهم بربِّهم ورِدَّتهم عن دينِهم بعدَ إيمانِهم باللَّهِ - كذلك نجزِى كلَّ مَن افترَى على اللَّهِ فكذَب عليه، وأقرَّ بأُلُوهةِ غيرِه، وعبَد شيئًا سواه مِن الأوثانِ بعدَ إقرارِه بوحدانيةِ اللَّهِ، وبعدَ إيمانِه به وبأنبيائِه ورُسُلِه، وقيل

(2)

: ذلك إذا لم يَتُبْ مِن كفرِه

(1)

في م، س:"بعبادتهم".

(2)

في الأصل: "قبل".

ص: 463

قبل قتلِه.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن أيوبَ، قال: تلا أبو قِلابةَ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . قال: فهو جزاءُ كلِّ مفترٍ يكونُ إلى يومِ القيامةِ، أن يُذِلَّه اللَّهُ عز وجل

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمانِ عارِمٌ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، قال: قرَأ أبو قِلابةَ يومًا هذه الآيةَ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . قال: هي واللَّهِ لكلِّ مفترٍ إلى يومِ القيامةِ

(2)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن ثابتٍ و

(3)

حميدٍ، أنّ

(4)

قيسَ بن عُبَادٍ وجاريةَ

(5)

بنَ قُدامةَ دخلا على عليِّ بن أبى طالبٍ رضي الله عنه، فقالا: أرأيتَ هذا الأمرَ الذي أنت فيه وتدعُو إليه، أَعَهْدٌ عَهِدَه إليك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أم رأىٌ رأيتَه؟ قال: ما لكما ولهذا؟ أَعْرِضَا عن هذا. فقالا: واللَّهِ لا نُعْرِضُ عنه حتى

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 236 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1571 (9004) - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 127 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب العالية (3980) -، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1571 (9007) من طريق حماد بن زيد به.

(3)

في م: "أن".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"بن"، وينظر تهذيب الكمال 24/ 64.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"حارثة". وينظر تهذيب الكمال 4/ 480.

ص: 464

تُخبرَنا. فقال: ما عَهِد إليَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا كتابًا في قِرابِ سَيْفى هذا. فاستلَّه، فاستَخْرج الكتابَ مِن قِرابِ سيفِه، وإذا فيه:"إنه لم يكنْ نبيٌّ إلَّا له حَرَمٌ، وإنى حرَّمتُ المدينةَ كما حرَّم إبراهيمُ عليه السلام مكَّةَ؛ لا يُحمَلُ فيها السلاحُ لقِتالٍ. مَن أحدثَ حدَثًا، أو آوَى مُحْدِثًا، فعليه لعنةُ اللَّهِ والملائكةِ والناسِ أجْمَعين، لا يُقبلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". فلمَّا خرَجا قال أحدُهما لصاحبِه: أما ترى هذا الكتابَ؟ فرجَعا وترَكاه، وقالا: إنا سمِعنا اللَّهَ يقولُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . وإن القومَ قد افترَوا فِريَةً، ولا أرى

(1)

إلا ستنزِلُ بهم ذِلَّةٌ

(2)

.

حدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ، عن ابن عيينةَ، في قولِه:{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . قال: كلُّ صاحبِ بدعةٍ ذليلٌ

(3)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)} .

وهذا خبرٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه أنه قابلٌ مِن كلِّ تائبٍ إليه مِن ذَنْبٍ أتاه، صغيرةً كانت معصيتُه أو كبيرةً، كفرًا كانت أو غيرَ كفرٍ، كما قَبِل مِن عبَدَةِ العجلِ توبَتَهم بعدَ كفرِهم به بعبادتِهم العجلَ وارْتِدادِهم عن دينِهم.

يقولُ جلَّ ثناؤُه: والذين عمِلوا الأعمالَ السيئةَ ثم رجَعوا إلى طلبِ رضا اللَّهِ بإنابتِهم إلى ما يُحبُّ مما يَكرهُ، وإلى ما يرضَى مما يَسخَطُ، مِن بعدِ سيِّئ أعمالِهم،

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أدرى".

(2)

أخرج آخره إسحاق بن راهويه - كما في المطالب العالية (3979) - من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن علي به، وأصله في البخارى (1870)، ومسلم (1370).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1571 (9008)، والبيهقى في شعب الإيمان (9522) من طريق ابن أبي عمر العدنى عن سفيان به، وينظر تفسير البغوي 3/ 285.

ص: 465

وصدَّقوا بأن اللَّهَ قابلٌ توبةَ المذْنبين، وتائبٌ على المُنيبين، بإخلاصٍ مِن

(1)

قلوبِهم، ويقينٍ منهم بذلك، [{إِنَّ رَبَّكَ} يا محمدُ، {مِنْ بَعْدِهَا}. يعنى: من بعدِ توبتِهم من أعمالِهم السيِّئةِ]

(2)

{لَغَفُورٌ} لهم. يقولُ: لساترٌ عليهم أعمالَهم السيئةَ، وغيرُ فاضِحِهم بها، {رَحِيمٌ} بهم وبكلِّ مَن كان مثلَهم مِن التائبين.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} : ولما [سكَن عن موسى غضبُه]

(3)

. وكذلك كلُّ كافٍّ عن شيءٍ ساكتٌ عنه. وإنما قيل للساكتِ عن الكلامِ: ساكتٌ. لكفِّه عنه

(4)

.

وقد ذكِر عن يونسَ النحويِّ

(5)

أنه قال: يقالُ: سكَت عنه الحزنُ. وكلُّ شيءٍ فيما زعَم. ومنه قولُ أبى النَّجمِ العجليِّ

(6)

:

وهَمَّت الأفْعَى بأنْ تَسِيحا

(7)

وسَكَتَ المُكَّاءُ

(8)

أَنْ يَصِيحَا

- {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} . يقولُ: أَخَذها بعدَما ألقاها، وقد ذهَب منها ما

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

سقط من: ص، س، وفى م، ت 1، ت 2:"كف موسى عن الغضب"، وفى ف:"سكت عن موسى الغضب".

(4)

ينظر مجاز القرآن 1/ 229.

(5)

في ص، ت 2، س، ف:"الحرمى"، وفى ت 1، ت 3:"الجرمى". وينظر ما تقدم في 8/ 245، وفى ص 459.

(6)

ديوانه "مجموع" ص 91.

(7)

في ص، ت 1، س، ف، غير منقوطة، وفى م:"تسبحا".

(8)

المكاء بالضم والتشديد: طائر يألف الريف، وجمعه مكاكىً، وهو فُعّال من مَكَا إِذا صَفَر. ينظر اللسان (م ك و)، وحياة الحيوان الكبرى ص 322.

ص: 466

ذهَب. {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} . يقولُ: وفيما نُسِخَ فيها؛ أي كُتِبَ فيها

(1)

{هُدًى} : بيانٌ للحقِّ، {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}. يقولُ: للذين يخافون اللَّهَ، ويخشَون عقابَه على معاصِيه.

واختلَف أهلُ العربيِة في وجهِ دخولِ اللامِ

(2)

في قولِه: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} مع اسْتِقْبَاحِ العربِ أن يقالَ في الكلامِ: رَهِبتُ لك. بمعنى: رَهِبتُك، وأَكرمتُ لك. بمعنى: أكرمتُك؛ فقال بعضُهم: ذلك كما قال جلَّ ثناؤُه: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]. أوصَلَ الفعلَ باللامِ.

وقال بعضُهم: مِن أجلِ ربِّهم يرهَبون.

وقال بعضُهم: إنما أُدخِلَت عقيبَ الإضافةِ: الذين هم راهبون لربِّهم، وراهبو ربِّهم. ثم أُدخِلت اللامُ على هذا المعنى؛ لأنَّها عقيبَ الإضافةِ لا على التكلُّفِ

(3)

.

وقال بعضُهم: إنما فُعِل ذلك لأنَّ الاسمَ تقدَّم الفعلَ، فحَسُنَ إدخالُ اللامِ.

[قال: و]

(4)

قد جاء مثلُه في تأخيرِ الاسمِ في قولِه: {رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)} [النمل: 72].

وذُكِر عن عيسى بن عمرَ أنه قال: سمِعتُ الفرزدقَ يقولُ: نقَدتُ له مائةَ دِرْهمٍ. يريدُ: نقَدْتُه مائةَ درهمٍ

(5)

. قال: والكلامُ واسعٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} .

(1)

في م، س:"منها"، وفى ت 1، ت 2، ت 3، ف:"ففيها".

(2)

في ف: "الكلام"، وكتب في حاشيتها:"لعلها اللام".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"التكليف"، وفى م:"التعليق".

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"وقال آخرون".

(5)

ينظر معاني القرآن 1/ 233، واللسان (ن ق د).

ص: 467

يقولُ تعالى ذكرُه: واختَار موسى مِن قومِه سبعين رجلًا للوقتِ والأجلِ الذي كان اللَّهُ وعَده أن يلقاه فيه بهم؛ للتوبةِ إليه مما كان مِن فعلِ سُفَهائِهم في أمرِ العجلِ.

كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: إن اللَّهَ أمَر موسى أن يأتِيَه في ناسٍ مِن بنى إسرائيلَ يعتذِرون إليه مِن عبادةِ العجلِ، ووعَدهم موعِدًا، فاختار موسى قومَه سبعين رجلًا على عينِه، ثم ذهَب بهم ليعتذِرُوا، فلما أَتَوا ذلك المكانَ، قالوا: لن نؤمنَ لك يا موسى حتى نرى اللَّهَ جهرةً، فإنك قد كلَّمتَه فأَرِناه. فأخَذَتْهم الصاعقةُ فماتوا، فقام موسى يبكى ويدعو اللَّهَ ويقولُ: ربِّ ماذا أقولُ لبنى إسرائيلَ إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارَهم؟ ربِّ

(1)

لو شئتَ أهلكتَهم مِن قبلُ وإيَّاى

(2)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: اختار موسى مِن بنى إسرائيلَ سبعين رجلًا؛ الخيِّرَ فالخيِّرَ، وقال: انطلِقوا إلى اللَّهِ فتوبوا إليه مما صنَعْتم، وسَلُوه التوبةَ على مَن تَرَكْتُم وراءَكم مِن قومِكم، صوموا وتطَهَّروا، وطهِّروا ثيابَكم. فخرَج بهم إلى طورِ سَيْناءَ لميقاتٍ وقَّتَه له ربُّه، وكان لا يأتيه إلا بإذنٍ منه وعِلْمٍ، فقال له السبعون - فيما ذُكِر لى - حينَ صنَعوا ما أمَرهم به، وخرَجوا معه للقاءِ ربِّه: يا موسى اطلُبْ لنا نسمعْ كلامَ ربِّنا. فقال: أفعلُ. فلما دنا موسى مِن الجبلِ، وقَع عليه عمودُ الغَمامِ حتى تغشَّى الجبلَ كلَّه، ودنا موسى فدخَل فيه، وقال للقومِ: ادنوا - وكان موسى إذا كلَّمَه اللَّهُ وقَع على جبهتِه نورٌ ساطعٌ، لا يستطيعُ أحدٌ مِن بنى آدمَ أن ينظُرَ إليه - فضُرِب دونَه بالحجابِ، ودنا القومُ حتى إذا دخَلوا في

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

تقدم في 1/ 695، 696.

ص: 468

الغمامِ وقعُوا سُجودًا، فسمِعوه وهو يكلِّمُ موسى؛ يأمُرُه وينهاه: افعلْ، ولا تفعلْ. فلما فرَغ إليه

(1)

مِن أمرِه، [انكَشَف عن موسى الغمامُ فأقبَل]

(2)

إليهم، فقالوا لموسى:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]. فأَخَذتْهُم الرَّجْفَةُ، وهى الصاعقةُ، فانفَلَتَتْ

(3)

أرواحُهم فماتوا جميعًا، وقام موسى يناشدُ ربَّه ويدعُوه ويَرْغَبُ إليه، ويقولُ: ربِّ لو شئتَ أَهْلَكْتَهم مِن قبلُ وإِيَّاى، قد سفِهُوا، أفتُهلِكُ

(4)

مَن ورائى مِن بني إسرائيلَ

(5)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} . قال: كان اللَّهُ أمَره أن يختارَ مِن قومِه سبعين رجلًا، فاختارَ سبعين رجلًا، فبرَّزهم

(6)

ليدعُوا ربَّهم، فكان فيما دعَوُا اللَّهَ أَن قالوا: اللهمَّ أَعْطنا ما لم [تعطِه أحدًا قبلَنا ولم تعطِه]

(7)

أحدًا بعدَنا. فكرِه اللَّهُ ذلك مِن دعائِهم، فأخَذَتْهم الرجفةُ، قال موسى:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} الآية

(8)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ حيانَ، عن جعفرِ بن بُرْقَانَ، عن ميمونَ

(1)

في م: "الله".

(2)

في م: "وانكشف عن موسى الغمام أقبل".

(3)

في الأصل: "فالتفت"، وفى ص، م، ت 1، ت 2، ف:"فالتقت"، وغير منقوطة في س. وفى تاريخ المصنف:"فانفلتت". ولعل الكلمة تصحفت من افتلتت، يقال: اقتلت فلان. أي: مات فجأة. ينظر لسان العرب (ف ل ت).

(4)

في الأصل: "فتهلك"، وفى ت 1 ت 2:"فهلك"، وفى ف:"فيهلك".

(5)

تقدم في 1/ 693 - 695، وتخريجه في 1/ 684.

(6)

في م: "فبرز بهم "وفى ت 1، ت 2، س، ف:"فبروهم".

(7)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"تعطه أحدا بعدنا". وفى م: "تعط أحدا بعدنا". وينظر مصدر التخريج.

(8)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1574 (9023) من طريق أبى صالح به.

ص: 469

يعنى ابنَ مهرانَ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} . قال: لموعدِهم الذي وعَدهم.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} . قال: اختارهم لتمامِ الموعدِ

(1)

.

وقال آخرون: إنما أخَذَتْهم الرجفةُ مِن أجلِ دعواهم على موسى قتلَ هارونَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ وكيعٍ قالا: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنى أبو إسحاقَ، عن عُمارةَ بن عبدٍ السلوليِّ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: انطلَق موسى وهارونُ، [وشَبَّرٌ وشَبِيرٌ]

(2)

، فانطلَقوا إلى سفحِ جبلٍ، فنام

(3)

هارونُ على سريرٍ، فتوفاه اللَّهُ، فلما رجَع موسى إلى بني إسرائيلَ قالوا له: أينَ هارونُ؟ قال: توفاه اللَّهُ. قالوا: أنتَ قتَلتَه، حسَدتَنا على خُلُقِه ولينِه - أو كلمةً نحوَها - قال: فاختاروا مَن شِئْتم. قال: فاختاروا سبعين رجلًا. قال: فذلك قولُه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} . قال: فلما انتَهَوا إليه قالوا: يا هارونُ مَن قتَلك؟ قال: ما قتَلنى أحدٌ، ولكنْ توفَّانى اللَّهُ. قالوا: يا موسى لن نَعْصِىَ بعدَ اليومِ. قال: فأَخَذَتْهم الرجفةُ. قال: فجعَل موسى يرجعُ يمينًا وشَمالًا، وقال: يا {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} . قال: فأحْياهم اللَّهُ وجعَلهم أنبياءَ كلَّهم

(4)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"الوعد". والأثر في تفسير مجاهد ص 344.

(2)

في ص، ف:"وسر وسر" بدون نقط.

(3)

في الأصل، ت 1، ت 2، س، ف:"فقام".

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 529، 530، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1573، 1575 (9018، 9028)، من طريق سفيان به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 478 عن الثورى به.

ص: 470

حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن رجلٍ من بنى سلولَ، أنه سمِع عليًّا رضي الله عنه يقولُ في هذه الآيةِ:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} . قال: كان هارونُ حَسَنَ الخُلُقِ محبَّبًا في بنى إسرائيلَ. قال: فلمَّا مات دفنَه موسى. قال: فلمَّا أتَى بنى إسرائيلَ، قالوا له: أينَ هارونُ؟ قال: مات. قال: فقالوا: قتَلتَه. قال: فاختار منهم سبعين رجلًا. قال: فلما أتوا القبر قال موسى: أقتِلْتَ أو مِتَ؟ قال: مِتُّ. قال: فأُصْعِقُوا. قال: فقال موسى: يا ربِّ ما أقولُ لبنى إسرائيلَ إذا رجَعتُ؟ يقولون: أنتَ قتلتَهم. قال: فأُحيُوا وجُعِلوا أنبياءَ.

حدَّثني عبيدُ

(1)

اللَّهِ بنُ الحجاجِ بن المنهالِ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا الربيعُ بنُ حبيبٍ، قال: سَمعتُ أبا سعيدٍ، يعنى الرَّقاشيَّ، وقرَأ هذه الآيةَ:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} . فقال: كانوا أبناءَ ما عدا عشرين، ولم يَتَجاوزوا الأربعين؛ وذلك أن ابنَ عشرين قد ذهَب جهلُه وصباه، وأن مَن لم يتجاوزِ الأربعيَن لم يفقِدْ مِن عقلِه شيئًا

(2)

.

وقال آخرون: إنما أخَذتِ القومَ الرجْفةُ لتركِهم فراقَ عبدةِ العجلِ، لا لأنهم كانوا مِن عبَدتِه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} ، فقرَأ حتى بلَغ:{السُّفَهَاءُ مِنَّا} : ذُكِر لنا أن ابنَ عباسٍ كان يقولُ: إنما تناولتْهم الرجْفةُ لأنهم لم يزايلوا القومَ حيَن نصبُوا العجلَ،

(1)

في النسخ: "عبد". وينظر 8/ 208.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1574 (9022) من طريق أبى سلمة الربيع بن حبيب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 129 إلى أبى الشيخ وابن المنذر.

ص: 471

وقد كرِهوا أن يجامِعوهم عليه

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريحٍ قولَه:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} : ممن لم يكنْ قال ذلك القولَ، على أنهم لم يُجامعوهم عليه، فأخذتْهم الرجْفةُ من أجلِ أنهم لم يكونُوا باينوا قومَهم حينَ اتخذُوا العجل. قال: فلما خرجُوا ودعَوا، أماتهم الله ثم أحياهم، {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}

(2)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: قال مجاهدٌ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} : والميقاتُ الموعدُ، فلما أخَذتْهم الرجفةُ بعد أن خرَج موسى بالسبعين مِن قومِه يدعون اللَّهَ ويسألونه أن يكشِفَ عنهم البلاءَ، فلم يَستجبْ لهم، عَلِمَ موسى أنهم قد أصابوا مِن المعصيةِ ما أصاب قومُهم. قال أبو

(3)

سعدٍ: فحدَّثني محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ، قال: لم يُسْتَجَبْ لهم مِن أجلِ أنهم لم ينهَوهم عن المنكرِ، ويأمروهم بالمعروفِ. قال: فأخذتْهم الرجفةُ فماتوا، ثم أحياهم اللَّهُ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن عوفٍ، عن سعيدِ بن حيانَ، عن ابن عباسٍ: إن السبعين الذين اختارهم موسى مِن قومِه، إنما أخَذتْهم الرجفةُ أنهم لم يرضَوا ولم ينهَوا عن العجلِ

(5)

.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 478 بنحوه.

(2)

ذكره البغوي في تفسيره 3/ 286 بمعناه مختصرًا.

(3)

في ص، م، ت 1، س، ف:"ابن".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 128 إلى عبد بن حميد.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1575 (9027) من طريق عوف، عن سعيد بن حيان قوله.

ص: 472

حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا عوفٌ، قال: ثنا سعيدُ بنُ حيانَ، عن ابن عباسٍ بنحوِه.

واختَلف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ قولهِ: {قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} ؛ فقال بعضُ نحوييِّ البصرةِ: معناه: واختار موسى مِن قومِه سبعين رجلًا. فلما نُزِعَ "مِن" أُعْمِل الفعلُ، كما قال الفرزدقُ

(1)

.

ومنا الذي اخْتِيرَ الرجالَ سماحةً

وجودًا

(2)

إذا هبَّ الرياحُ الزعازِعُ

وكما قال الآخرُ

(3)

:

أمَرْتُك الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به

فقد تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ

(4)

وقال الراعي

(5)

:

اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذ غَثَّتْ

(6)

خَلائِقُهم

واعْتَلَّ مَن كان يُرْجَى عنده السُّولُ

وقال بعضُ نحوييِّ الكوفةِ

(7)

: إنما استُجِيز وقوعُ الفعلِ عليهم إذا طُرِحت "من"؛ لأنه مأخوذٌ مِن قولِك: هؤلاء خيرُ القومِ. وخيرٌ من القومِ.

(1)

ديوانه ص 516.

(2)

في الديوان: "وخيرا".

(3)

اختلف في نسبته؛ فنسب في المؤتلف والمختلف ص 17 إلى أعشى طرود، ونسب في الكتاب 1/ 37، وشرح شواهد المغنى 2/ 727 إلى عمرو بن معد يكرب، وقد نسب أيضًا إلى العباس بن مرداس وزرعة بن السائب وخفاف بن ندبة، كما في خزانة الأدب 1/ 343.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، ف:"نسب" بالسين المهملة، وقد روى البيت بالوجهين، والنشب: جميع ما يملك من المال، وقيل: المال الأصيل الثابت بمعنى العقار كالدور والضياع، مأخوذ من نشب الشيء إذا ثبت في موضع لزومه. خزانة الأدب 1/ 341.

(5)

ديوانه (مجموع) ص 186.

(6)

في ت 1، ف:"عنت"، وفى الديوان:"رثت" بمعنى بليت، و "غثت خلائقهم": ساءت. ينظر لسان العرب (غ ث ث).

(7)

هو الفراء في معاني القرآن 1/ 395.

ص: 473

فلما

(1)

جازتِ الإضافةُ مكانَ "مِن" ولم يتغيَّرِ المعنى، استجازوا أن يقولوا: اخترتُكم رجلًا. و: اخترتُ منكم رجلًا. وقد قال الشاعرُ

(2)

* [فقُلْتُ له اخترْها قَلُوصًا سَمِينَةً*

وقال الراجز

(3)

:]

(4)

تحتَ التي اختارَ

(5)

له اللَّهُ الشَّجَرُ

بمعنى: اختارها اللَّهُ له مِن الشجرِ.

وهذا القولُ الثاني أولى عندى في ذلك بالصوابِ؛ لدلالةِ الاختيارِ على طلبِ "من" التي بمعنى التبعيضِ، ومِن شأنِ العربِ أن تحذفَ الشيءَ مِن حشوِ الكلامِ إذا عُرِف موضعُه، وكان فيما أظهَرتْ دلالةٌ على ما حذَفتْ، فهذا مِن ذلك إن شاء اللَّهُ.

وقد بيَّنا معنى "الرجفةِ" فيما مضى بشواهدِها

(6)

، وأنها ما رجَف بالقومِ وزعزَعَهُم

(7)

وحرَّكهم؛ أهلَكَهم

(8)

بعدُ فأماتهم، أو أصْعَقهم فسلَب أفهامَهم.

وقد ذكرْنا الروايةَ في

(9)

هذا الموضعِ، وقولَ مَن قال: إنها كانت صاعقةً أماتَتْهم

(10)

.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"فإذا".

(2)

هو الراعى النميري، وهذه رواية الفراء في معاني القرآن، ورواية الديوان:

*فقلت لرب الناب خذها ثنية*

(3)

هو العجاج، والبيت في ديوانه ص 7.

(4)

سقط من: ت 1، ت 2، ف.

(5)

في ص، ت 1، س، ف:"اختارها".

(6)

تقدم في ص 302.

(7)

في ص، ت 1، س، ف:"رعوبهم"، وفى م:"أرعبهم".

(8)

في ص، م:"وأهلكهم".

(9)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"غير".

(10)

ينظر ما تقدم ص 468 - 473.

ص: 474

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : ماتوا ثم أحياهم

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} : اختارَهم موسى لتمامِ الموعدِ، {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}: ماتوا ثم أحياهم اللَّهُ.

حدَّثني عبدُ الكريمِ، قال: ثنا إبراهيمُ، قال: ثنا سفيانُ، قال: قال أبو سعدٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} . قال: رُجِف بهم.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} .

اختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: أفتُهلِكُ هؤلاء الذين أهلكتَهم بما فعل السفهاءُ منا؟ أي: بعبادةِ مَن عبَد العجلَ؟ قالوا: وكان اللَّهُ جلَّ ثناؤُه إنما أهلَكهم لأنهم كانوا ممَّن عبَد العجلَ، وقال موسى ما قال ولا عِلْمَ عندَه بما كان منهم في

(2)

ذلك.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} . فأوحى اللَّهُ إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخَذَ العجلَ. فذلك حينَ يقولُ موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا

(1)

تفسير مجاهد ص 344، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1575 (9026)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 129 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"من".

ص: 475

مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ}

(1)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن إهلاكَك هؤلاء الذين أهلكتَهم هلاكٌ لمَن وراءَهم من بنى إسرائيلَ إذا انصرفتُ إليهم، وليسوا معى، و "السفهاءُ" على هذا القولِ كانوا المُهْلَكين الذين سألوا موسى أن يريَهم اللَّهَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما أخذَت الرجفةُ السبعين فماتوا جميعًا، قام موسى يناشدُ ربَّه ويدعُوه، ويرغبُ إليه، يقولُ:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} . قد سفِهوا، أفتُهْلِكُ مَن ورائى مِن بنى إسرائيلَ بما فعَل السفهاءُ منا؟ أي: إن هذا لهم هلاكٌ، قد اخترت منهم سبعين رجلًا الخيِّرَ فالخيِّرَ، أَرْجِعُ إليهم وليس معى رجلٌ واحدٌ؟ فما الذي يصدِّقونني به، أو يأْمَنونني عليه بعدَ هذا

(1)

؟

وقال آخرون في ذلك بما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} : أتواخذُنا وليس مِنّا رجلٌ واحدٌ ترَك عبادتَك؟ ولا استبدَل بك غيرَك؟

وأولى الأقوالِ

(2)

بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: إن موسى إنما حزِن على هلاكِ السبعين بقولِه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} . وأنه إنما عنَى بالسفهاءِ عبدةَ العجلِ، [وأنَّ موسى حين قال ما قال مِن ذلك لم يكنْ عندَه السبعون من عبدةِ العجلِ]

(3)

. وذلك أنه محالٌ أن يكونَ موسى كان تخيَّر مِن قومِه لمسألةِ ربِّه جلَّ ثناؤُه

(1)

تقدم تخريجه ص 468.

(2)

في ص، م، ت، ت 2، ت 3، س، ف:"القولين".

(3)

سقط من: ص، م، ف.

ص: 476

ما أراد

(1)

أن يسألَ لهم إلا الأفضلَ فالأفضلَ منه، ومحالٌ أن يكونَ الأفضلُ كان عندَه مَن شَرِك

(2)

في عبادة العجل واتخذه دونَ اللَّهِ إلهًا.

قال: فإن قال قائلٌ: فجائزٌ أن يكونَ موسى كان معتقِدًا أن اللَّهَ يعاقبُ قومًا بذنوبِ غيرِهم، فيقولُ: أتهلكُنا بذنوبِ مَن عبَد العجلَ، ونحن مِن ذلك برآءُ؟

قيل: جائزٌ أن يكونَ معنى [ذلك الهلاكِ]

(3)

قبضَ الأرواحِ على غيرِ وجهِ العقوبةِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176]. بمعنى: مات، فيقول: أتميتُنا بما فعَل السفهاءُ منا؟

وأما قولُه: هو {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} . فإنه يقولُ: ما هذه الفَعْلةُ التي فعَلها قومِى، من عبادتهم ما عبدوا دونَك، إلا فتنةٌ منك أصابتهم. ويعنى بـ "الفتنةِ" الابتلاء والاختبار. يقولُ: ابتليتَهم بها ليتبينَ الذي يَضِلُّ عن الحقِّ بعبادتِه إياه، والذي يهتدى بتركِ عبادته. وأضاف إضلالَهم وهدايتَهم إلى اللَّهِ، إذ كان ما كان منهم مِن ذلك عن سببٍ منه جلَّ ثناؤُه.

وبنحو ما قلنا في "الفتنةِ"، قال جماعةٌ مِن أهل التأويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} . قال: بَلِيَّتُكَ

(4)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حبُّويَه الرازيُّ، عن يعقوبِ، عن جعفرِ بن أبى

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أراه".

(2)

في م: "أشرك".

(3)

في ص، ت 1، س، ف:"الهلاك"، وفى م، ت 2:"الإهلاك".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 478.

ص: 477

المغيرةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{إِلَّا فِتْنَتُكَ} : إلا بَلِيَّتُكَ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ سعدٍ، قال: أخبرنا أبو

(2)

جعفرٍ، عن الربيعِ بن أنسٍ في قولِه:{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} . قال: بليَّتُكَ

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} : إن هو إلا عذابُك تصيبُ به مَن تشاءُ، وتصرِفُه عمن تشاءُ

(4)

.

حدَّثنى يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} : أنت فتنتَهم

(5)

.

وقولُه: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} . يقولُ: أنت ناصِرُنا، {فَاغْفِرْ لَنَا}. يقولُ: فاستُرْ علينا ذنوبَنا بتركِك عقابَنا عليها، {وَارْحَمْنَا}: تعطَّفْ علينا برحمتِك، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} يقولُ: وأنت خيرُ مَن صفَح عن جُرْمٍ، وستَر على ذنبٍ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} .

يقولُ تعالى ذكرُه مخبِرًا عن دعاءِ نبيِّه موسى عليه السلام أنه قال فيه: {وَاكْتُبْ لَنَا} : اجعلنا ممَّن كَتبتَ له {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} : وهى الصالحاتُ مِن الأعمالِ، {وَفِي الْآخِرَةِ} ممن كتبتَ له المغفرةَ لذنوبِه.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1576 عقب الأثر (9031) معلقا بنحوه.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"ابن".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1576 (9031)، من طريق عبد الرحمن بن سعد به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1575، 1976 (9030، 9033، 9034) من طريق أبى صالح به.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1576 (9032) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 478

كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قولَه:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} . قال: مغفرةً

(1)

.

وقولُه: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . يقولُ: إنا تُبْنا إليك.

وبنحوِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ وابنُ فضيلٍ وعمرانُ بنُ عيينةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ

(2)

- قال عمرانُ: عن ابن عباسٍ - {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: إنا تُبْنا إليك

(3)

.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ]

(4)

، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبَابٍ، عن حمادِ بن سلمةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، [عن ابن عباسٍ]

(4)

، قال: تُبْنَا إليكَ.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ قال: تُبْنا إليك.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ]

(4)

، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ بكرٍ، عن حاتمِ بن أبى صَغِيرةَ

(5)

عن سِماكٍ، أن ابنَ عباسٍ قال في هذه الآيةِ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}. قال: تُبْنا إليك.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 129 إلى أبى الشيخ.

(2)

بعده في م: "و".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 540 من طريق عطاء، عن سعيد بن جبير قوله، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1577 (9041) من طريق مجاهد، عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 129 إلى عبد بن حميد وابن المنذر من طرق عن ابن عباس.

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"مغيرة".

ص: 479

حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا حمادٌ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: أحسَبُه عن ابن عباسٍ قال: {هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: تُبْنا إليك.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . يقولُ: تُبْنا إليك.

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ

(1)

، قال: ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ الأصبهانيِّ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: تُبنا إليك.

حدَّثنا ابن بشارٍ

(1)

، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ ووكيعُ بنُ الجراحِ، قالا: ثنا سفيانُ، عن عبدِ الرحمنِ بن الأصبهانيِّ، عن سعيد بن جبيرٍ بمثلِه

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن ابن الأصبهانيِّ، عن سعيدِ بن جبير مثلَه.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ]

(1)

، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: تُبْنا إليك.

[حدَّثنا ابن وكيعٍ]

(1)

، قال: ثنا محمدُ بنُ يزيدَ، عن العوامِ، عن إبراهيمَ التيميِّ، قال: تُبْنا إليك

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن العوّامِ، عن

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

تفسير سفيان ص 114.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 432 عن محمد بن يزيد به.

ص: 480

إبراهيمَ التيميِّ مثلَه.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} : أي: إِنَّا تُبْنا إليك.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: تبنا

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} يقولُ: تُبْنا إليك

(2)

.

حدَّثني

(3)

محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . يقولُ: تُبْنا إليك

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبى العاليةِ، قال: تُبْنا إليك.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبي حُجَيْرٍ

(5)

، عن الضحاكِ، قال: تُبْنا إليك

(6)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 239 عن معمر به.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 479.

(3)

في م: "قال حدثنا".

(4)

تفسير مجاهد ص 344.

(5)

في ت 1، ت 2، س، ف:"جحير". وسيأتي على الصواب في 20/ 107. وينظر لسان الميزان 7/ 32.

(6)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1577 عقب الأثر (9041) معلقا.

ص: 481

قال: ثنا المحاربيُّ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، قال: تُبْنا إليك.

وحُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ. فذكَر مثلَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبى وعبيدُ اللَّهِ، عن شريكٍ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، قال: تُبْنا إليك.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حبُّويَه أبو يزيدَ، عن يعقوبَ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ مثلَه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبى، عن شريكٍ، عن جابرٍ، عن

(1)

عبدِ اللَّهِ بن نُجَيٍّ

(2)

عن عليٍّ، قال: إنما سُمِّيت اليهودُ لأنهم قالوا: {هُدْنَا إِلَيْكَ}

(3)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . يعنى: تبْنا إليك.

حدَّثنا ابن البرقيِّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أَبى سَلَمةَ، قال: سمِعتُ رجلًا يسألُ سعيدًا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: إنا تُبْنا إليك.

وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهدِه فيما مضى بما أغنى عن إعادتِه

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي

(1)

في ص، ت 1، ف:"بن". ينظر تهذيب الكمال 16/ 219.

(2)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"يحيى". وينظر تهذيب الكمال 16/ 219.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 479 عن المصنف.

(4)

تقدم في 2/ 32.

ص: 482

وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}.

يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال اللَّهُ لموسى: هذا الذي أصبتُ به قومَكَ مِن الرجفةِ {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} مِن خَلْقِى، كما أصبتُ

(1)

به هؤلاءِ الذين أصبتُهم به مِن قومِك {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . يقولُ: ورحمتى عمَّت خلقى كلَّهم.

وقد اخْتَلف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: مخرجُه عامٌّ ومعناه خاصٌّ، والمرادُ به ورحمتى وسِعت المؤمنين بى مِن أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. واستَشْهَد بالذي بعدَه مِن الكلامِ، وهو قولُه:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآية كلها.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو سلَمةَ المِنْقَريُّ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، قال: أخبَرنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ أنه قرَأ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: جَعَلها اللَّهُ لهذه الأُمةِ

(2)

.

حدَّثني عبدُ الكريمِ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: قال سفيانُ: قال أبو بكرٍ

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أصيب".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1580، 1081 (9055)، من طريق حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 503، والبزار (2213 - كشف)، والحاكم 2/ 322، من طريق عطاء به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 130 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 483

الهذليُّ: لما

(1)

نزَلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قال إبليسُ: أنا مِن الشئِ. فنزَعها اللَّهُ مِن إبليسَ، قال:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} . فقالت اليهودُ: نحن نتَّقِى ونؤتِى الزكاةَ ونؤمنُ بآياتِ ربِّنا. فنزَعها اللَّهُ مِن اليهودِ، وقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الآيات كلها. قال: فنزَعها اللَّهُ مِن إبليسَ ومِن اليهودِ، وجعَلها لهذه الأمةِ

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: لما نزَلت {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . قال إبليسُ: أنا مِن ذلك، من "كلِّ شيءٍ" قال اللَّهُ:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} الآية. فقالت اليهودُ: نحن نتَّقى ونؤتى الزكاةَ. فأَنزَل اللَّهُ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} . قال: فعزَلها

(3)

اللَّهُ عن إبليسَ وعن اليهودِ، وجعَلها لأُمةِ محمدٍ، فسأكتُبها للذين يتَّقون مِن قومِك

(4)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ قولَه:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . فقال إبليسُ: أنا مِن ذلك الشئِ. فأنزَل اللَّهُ: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} معاصىَ اللَّهِ، {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} . فتَمْنَّتْها اليهودُ والنَّصارى، فأنزَل اللَّهُ شرطًا وثيقًا بيِّنًا، فقال: {الَّذِينَ

(1)

في ص م، ت 1، ت 2، س، ف:"فلما".

(2)

أخرج أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1579 (9050)، من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 130 إلى أبى الشيخ.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"نزعها".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 130 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 484

يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}: وهو نبيُّكم كان أُمِّيًا لا يكتُبُ

(1)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: أخبرنا خالدٌ الحذّاءُ، عن أُنَيسٍ

(2)

أبى العُريانِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: فلم يُعْطَها، فقال:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . إلى قولِه: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ وعبدُ الأعلى، عن خالدٍ، عن أُنَيسٍ

(4)

أبى العُريانِ

(5)

- قال عبدُ الأعلى: عن أَنَسٍ أبى

(6)

العُريانِ - قال

(7)

: قال ابن عباسٍ: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال: فلم يُعْطَها موسى، {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخرِ الآيةِ.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، قال: كان اللَّهُ كتَب في الألواحِ ذِكْرَ محمدٍ وذِكْرَ أمتِه، وما ذَخَر

(8)

لهم عندَه، وما يسَّر عليهم في دينِهم، وما وسَّع عليهم فيما أحلَّ لهم، فقال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1079 (9051) من طريق سعيد به مختصرا. وينظر تفسير البغوي 3/ 288.

(2)

بعده في ص، م، ت 1، ت،2 س، ف "بن".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور (964) عن ابن علية به.

(4)

بعده في م، ت 2:"بن".

(5)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"أنيس".

(6)

في ص، م، ت 2، ف:"بن".

(7)

في ص، م، ت 2:"وقال".

(8)

في م، ت 2:"ادخر".

ص: 485

أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}. يعنى الشركَ، الآية

(1)

.

وقال آخرون: بل ذلك على العمومِ في الدنيا، وعلى الخصوص في الآخرةِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسنِ وقتادة في قوله:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . قالا: وسعتْ في الدنيا البرَّ والفاجرَ، وهى يومَ القيامة للذين اتقَوا خاصَّةً

(2)

.

وقال آخرون: هي على العموم، وهي التوبة.

‌ذكر من قال ذلك

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَنتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} : سأل موسى هذا، فقال الله:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} . للعذابِ

(3)

الذي ذكر، {وَرَحْمَتِي} التوبة

(4)

. {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: فرحمته التوبة التي سأل موسى، كتبها الله لنا

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1079 (9002) من طريق أبي صالح به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1578 (9047) من طريق عبد الرزاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 130 إلى عبد الرزاق وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"العذاب".

(4)

بعده في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:{وسعت كل شيء} .

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1578 (9044، 9046) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 486

وأما قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، فإنه يقولُ: فسأكتُبُ رحمتي التي وسعت كل شيءٍ. ومعنى "أكتبُ" في هذا الموضع: أكتب في اللوح الذي كُتب فيه التوراة، {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}. يقول: للقوم الذين يخافون الله، ويخشونَ عقابَه على الكفر به، والمعصية له في أمره ونهيه، فيؤدُّونَ فرائضَه ويَجْتَنِبونَ معاصيه.

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصَف الله هؤلاء القوم بأنهم يتقُونَه؛ فقال بعضُهم: هو الشرك.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس:{فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . يعنى الشرك

(1)

.

وقال آخرون: بل هو المعاصى كلها.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} معاصى اللهِ

(2)

.

وأمَّا الزكاة وإيتاؤُها، فقد بينا صفتها فيما مضى بما أغنى عن إعادته

(3)

.

وقد ذكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس: {وَيُؤْتُونَ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 131 إلى المصنف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1580 (9008) من طريق يزيد به.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 611 - 613

ص: 487

الزَّكَاةَ}. قال: يُطيعونَ اللَّهَ ورسوله

(1)

.

فكأنَّ ابن عباس تأوَّلَ ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكَّى النفس ويُطَهِّرُها من صالحات الأعمال.

وأما قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} . فإنه يقول

(2)

: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلَّتِنا يُصدِّقون ويُقرُّون.

‌القول في تأويل قوله جل وعزّ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} .

وهذا القولُ إبانةٌ من الله جل ثناؤه عن أن الذين وعد موسى نبيه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفها جلَّ ثناؤه بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لا يعلم الله رسولٌ وُصِفَ بهذه الصفة - أعنى الأميَّ - غير نبينا محمد. وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل.

‌ذكرُ [الرواية عنهم بذلك]

(3)

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمران بن عُيَيْنَةَ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

[حدثنا ابن وكيع]

(4)

، قال: ثنا زيدُ بنُ حُباب، عن حماد بن سلمةَ، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1580 (9060) من طريق أبي صالح بنحوه.

(2)

بعده في الأصل: "وللعموم".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"من قال ذلك".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت، ت 3، س، ف.

(5)

تقدم تخريجه في ص 483.

ص: 488

حدثنا أبو كريبٍ وابنُ وَكيعٍ، قالا: ثنا يحيى بن يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيد في قوله:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: أمة محمد، فقال موسى: ليتنى خُلِقتُ مِن

(1)

أمةٍ محمد

(2)

.

حدثنا ابن حميد وابن وكيعٍ، قالا: ثنا جابر

(3)

، عن عطاء، عن سعيد بن جبيرٍ:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: الذين يتَّبِعون محمدا [صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن شهرِ بن حَوْشَبٍ، عَن نَوْفٍ الحميريِّ، قال: لما اختار موسى قومَه سبعين رجلا لميقات ربِّه فقال الله لموسى: أجعل لكم الأرضَ مسجدًا وطَهُورًا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرءونَ التوراة عن ظهر

(4)

قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرُّ والعبد والصغير والكبير. فقال موسى لقومه: إن الله قد جعل

(5)

لكم الأرضَ طَهُورًا ومسجدًا. قالوا: لا نريد أن نُصلِّىَ إلا في الكنائس. قال: ويجعلُ السكينة معكم في بيتكم. قالوا: لا نريد إلا أن تكونَ كما كانت في التابوت. قال: ويجعلكم تقرءونَ التوراة عن ظهر] (4) قلوبِكم، ويقرؤها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبيرُ. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلَّا نَظَرًا. فقال الله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

(6)

.

حدثنا محمد بن عبدِ الأَعْلَى، قال: ثنا محمد بن ثُورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن يحيى

(1)

في ص، م، ت 1، ت،2، ت 3، س، ف:"في".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 131 إلى أبى الشيخ.

(3)

في ص، م، ت،1، ت 2، ت 3، س، ف:"جرير".

(4)

في م: "ظهور".

(5)

في م، ف:"يجعل".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1579 (9003) من طريق ليث به بمعناه مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 129 إلى أبى الشيخ.

ص: 489

ابن أبي كثير، عن نوف البكالى، قال: لما انطلق موسى بوفد بنى إسرائيل كلَّمه الله، فقال: إنى قد بسطتُ لهم الأرضَ طَهورًا ومساجدَ يُصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة، إلا عند مرحاضٍ أو قبر أو حمَّامٍ، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعَلتهم يقرءون التوراة عن ظهرِ ألسنتهم. قال: فذكر ذلك موسى لبنى إسرائيل، فقالوا: لا نستطيعُ حَمْلَ السكينة في قلوبنا، فاجعلها لنا في تابوت، ولا نقرأُ التوراة إلا نظرا، ولا نُصلِّي إلا في الكنيسة. فقال الله:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} حتى بلغ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . قال: فقال موسى: يا رب اجعلنى نبيهم. قال: نبيُّهم منهم. قال: ربّ اجعلني منهم، قال: لن تُدركهم. قال: يا رب أتيتُك بوفد بنى إسرائيل، فجعلت وفادَتَنا لغيرنا. فَأَنزَلَ اللَّهُ:{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]. قال نوف البِكاليُّ: فاحْمدوا الله الذي حفظ غيبتكم

(1)

، وأَخَذَ لكم سهمكُم، وجَعَلَ وفادة بنى إسرائيل لكم

(2)

.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا مُعاذ بن هشام، قال: ثنى أبي، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن نوفٍ البِكاليِّ بنحوه، إلا أنه قال: وإنى أُنزِلُ عليكم التوراة تقرءُونها عن ظهر ألسنتكم، رجالكم ونساؤكم وصبيانكم. قالوا: لا نصلى إلا في كنيسة. ثم ذكر سائر الحديثِ نحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبيرٍ:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: أمةُ محمد.

(1)

في الأصل، ص، ت 1، ت 2، س، ف:"عليكم".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 238 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 129 إلى ابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

ص: 490

حدثني محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّي:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . قال: هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا بشر بن معاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما قيل: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} . تَمَنَّتْها اليهود والنصارى، فأنزلَ اللَّهُ شَرْطًا بَيِّنًا وثيقًا، فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} : وهو نبيُّكم، كان أميا لا يكتب

(1)

.

وقد بيَّنا معنى "الأميِّ" فيما مضى قبل مما أغنى عن إعادتِه

(2)

.

وأما قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالإنجيل} . فإن الهاء في قوله: {يَجِدُونَهُ} عائدة على "الرسول"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

كذلك حدَّثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ قوله:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} : هذا محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمرَ، قال: ثنا فليحٌ، عن هلال بن عليٍّ، عن عطاء بن يسارٍ، قال: لَقِيتُ عبدَ اللَّهِ بن عمرو، فقلتُ: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: ياأيها النبيُّ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرا. وحِرْزًا للأميين، أنت عبدى ورسولي، [أسميتك اسمَك]

(3)

المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ

(4)

في الأسواق، ولا يَجْزِى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفحُ، ولن نقبضه حتى نقيم

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1581 من طريق يزيد به.

(2)

ينظر ما تقدم في 2/ 153، 154.

(3)

في م: "سميتك"، وفى ف:"سميتك اسمك".

(4)

في الأصل، ص، ت 2:"صخب".

ص: 491

به المِلَّةَ العوجاءَ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله. فنُقِيمَ

(1)

به قلوبًا غُلْفًا، وآذانا صُمًّا، وأعينًا عُمْيًا. قال عطاءٌ: ثم لقيتُ كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلفا

(2)

حرفًا، إلا أن كعبا قال بلُغَتِه: قلوبًا غُلوفيا، وآذانًا صُمُومِيا

(3)

، وأعينا عُموميا

(4)

. [قال أبو جعفر: وهذه لغةٌ حِمْيريَّةٌ]

(5)

.

حدثني أبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن عليٍّ، قال: ثنى عطاء، قال: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص. فذكر نحوَه، إلا أنه قال في كلام كعبٍ: أعينا عموما، وآذانا صمومًا، وقلوبًا غُلوفًا

(6)

.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا موسى، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي

(7)

سَلَمَةَ، عن هلال بن عليٍّ، عن عطاء بن يسار، عن عبدِ اللهِ بن عمرو بنحوه، وليس فيه كلام كعب.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قال الله عز وجل: {الَّذِي يَجدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ} . يقولُ: يجدون نعته وأمره ونبوتَه مكتوبا عندهم

(8)

(9)

.

‌القول في تأويل قوله جلّ وعزّ: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ

(1)

في م: "فتفتح"، وفى ف:"فتقوم".

(2)

في ص، ت 2: اختلفنا".

(3)

في الأصل: "صوميا".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 484 عن المصنف.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(6)

أخرجه ابن سعد 1/ 362، وأحمد 11/ 193 (6622) عن موسى بن داود به، وأخرجه ابن سعد 1/ 362، والبخارى (2125)، والبيهقى في الدلائل 1/ 373 - 374 من طريق فليح به.

(7)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(8)

أخرجه ابن سعد 1/ 361، 362، والبخارى (4838)، والبيهقى في الدلائل 1/ 375 من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة به.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1582 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 131 إلى ابن سعد وأبى الشيخ.

ص: 492

وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.

يقول تعالى ذكره: يأمرُ هذا النبيُّ الأُمِّيُّ تُبَّاعَه

(1)

بالمعروف، وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى، فذلك المعروفُ الذي يأمرهم به، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} . وهو الشرك بالله، والانتهاء عما نهاهم الله عنه.

وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} . وذلك ما كانت الجاهلية تحرمه من البحائر

(2)

والسَّوائب والوصائل والحوامِي، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} . وذلك لحمُ الخنزير والربا وما كانوا يستحلُّونَه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله.

كما حدثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباسٍ:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} : وهو لحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلُّونه من المحرَّماتِ من المآكل التي حرَّمها اللَّهُ

(3)

.

وأما قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ، فَإِن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضُهم: يعنى بـ "الإصْرِ" العهد والميثاق الذي كان أُخِذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جابرُ بن نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباس:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} . قال:

(1)

في م، ت 1، ت 2، س:"أتباعه".

(2)

في ص: "النجائب".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1583 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 135 إلى البيهقي.

ص: 493

عهدهم

(1)

.

[حدثنا ابن وكيع]

(2)

، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال:[عهدهم]

(3)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ على، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضحاك مثله.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بن يمانٍ، عن مباركٍ، عن الحسن:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} . قال: العهود التي أعطوها من [أنفُسِهم]

(3)

.

حدثنا ابن وكيع قال: ثنا ابن نمير، عن موسى بن قيسٍ، [عن مجاهد]

(4)

: {وَيَضَعُ

(5)

عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}. قال: عهدَهُم

(6)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} . يقولُ: يضعُ عنهم عهودهم ومواثيقهم التي أُخِذَتْ منهم

(7)

في التوراة والإنجيل

(3)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} : ما كان اللَّهُ أَخَذَ عليهم

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1583 من طريق أبى روق به.

(2)

ليس في: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

ينظر تفسير البغوي 3/ 289.

(4)

سقط من: الأصل.

(5)

في الأصل: "تضع".

(6)

أخرجه سعيد بن منصور (965 - تفسير) من طريق موسى بن قيس به بلفظ: عهودا كانت عليهم.

(7)

في م، ت 1، س، ف:"عليهم".

ص: 494

من الميثاق فيما حرَّم عليهم، أنْ

(1)

يضعَ ذلك عنهم

(2)

.

وقال بعضُهم: يعنى بذلك أنه يضعُ عمَّن اتبع نبى الله التشديد الذي كان على بني إسرائيل في دينهم.

‌ذكر من قال ذلك

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ} : [تشديدٌ كان]

(3)

عليهم، فجاء محمد بإقالةٍ منه وتجاوزٍ عنه

(4)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} . قال: البول ونحوه مما غُلِّظَ على بنى إسرائيل

(5)

.

حدَّثني

(6)

المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: شدة العمل

(7)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال

(1)

في م: "يقول".

(2)

أخرجه البيهقي 10/ 8 من طريق أبي صالح به.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"التي كانت".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 135 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 135 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(6)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1583، من طريق الحماني به.

ص: 495

مجاهد قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} . قال: مَن اتَّبع محمدا صلى الله عليه وسلم ودينَه من أهل الكتاب، وضَع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم

(1)

.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فضيلٍ، عن أشعثَ، عن ابن سيرين، قال: قال أبو هريرة لابن عباسٍ: ما علينا في الدين من حرجٍ، أن نزني ونسرق؟ قال: بلى، ولكنَّ الإصْرَ الذي كان على بنى إسرائيل وُضعَ عنكم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} . قال: إِصْرَهُمْ} الدِّينَ

(2)

الذي جعله الله عليهم

(3)

.

وأوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقالَ: إِنَّ الإِصْر هو العهد - وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية

(4)

- وأنَّ معنى الكلام: ويضع النبيُّ الأميُّ العهد الذي كان اللَّهُ أَخَذَه على بنى إسرائيلَ مِن إقامة التوراةِ، والعمل بما فيها من الأعمالِ الشَّديدةِ؛ كقطع الجلْدِ مِن البولِ، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً، فنسخها حكم القرآن.

وأما الأغلال التي كانت عليهم، فكان ابن زيد يقولُ فيما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه في قوله: {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} . قال: الأغلال [التي جعلها عليهم]

(5)

. وقرأ: [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]. قال: تلك

(1)

ينظر تفسير البغوي 3/ 289، والبحر المحيط 3/ 404.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1584 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(4)

ينظر ما تقدم في 5/ 158 وما بعدها.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

ص: 496

الأغلالُ. قال: ودعاهُم إلى أن يؤمنوا بالنبيِّ عليه السلام فيضع ذلك عنهم

(1)

.

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} .

يقول تعالى ذكره: فالذين صدَّقوا بالنبي الأميِّ، وأقروا بنبوته، {وَعَزَّرُوهُ}. يقولُ: وقَّروه وعظَّموه وحَمَوْه من الناسِ.

كما حدثني المثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس:{وَعَزَّرُوهُ} . يقولُ: حَمَوْه ووقَرُوهُ

(2)

.

حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنى موسى بن قيس، عن مجاهد:{وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} . قال: {وَعَزَّرُوهُ} : شدَّدُوا

(3)

أَمْرَه، وأعانُوا رسوله صلى الله عليه وسلم ونصروه.

وقوله: {وَنَصَرُوهُ} . يقول: وأعانُوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ}: يعني القرآن والإسلامَ، {أَوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. يقولُ: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصَفَ بها جلَّ ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المُنْجحون المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: فما نَقَمُوا - يعنى اليهود - إلا أنْ حسَدوا نبيَّ اللَّهِ، فقال الله:{الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} ؛ فأَمَّا نَصْرُه وتعزيزه فقد سُبِقتُم به، ولكن خياركم من آمنَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1584، 1585 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1585 من طريق أبي صالح به.

(3)

في ص، م، ت 1، س، ف:"سددوا".

ص: 497

بالله، واتبعَ النور الذي أُنزِلَ معه

(1)

.

يريد قتادة بقوله: فما نقموا إلا أنْ حَسَدوا نبيَّ اللَّهِ. أن اليهود كان مجيء

(2)

محمدٍ بما جاء به من عند الله رحمةً عليهم لو اتَّبعوه؛ لأنَّه جاء بوضع الإصْرِ والأغلال عنهم فحملهم الحسد على الكفر به، وترك قبول التخفيف، لغلبة خِذْلانِ الله عليهم.

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس كلِّهم: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قَبلى مِن الرسل يُرسَلُ إلى بعض الناس دونَ بعض، فمَن كان منهم

(3)

أُرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دونَ بعض، ولكنها إلى جميعكم.

وقوله: {الَّذِي لَهُ} من نعتِ اسم [اللَّهِ}.

وإنما معنى الكلام: قل ياأيها الناسُ إلى رسولُ الله الذي له ملك السماواتِ والأرض إليكم.

ويعنى جل ثناؤه بقوله: {الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الذي له سلطان السماوات والأرض وما فيهما، وتدبير ذلك وتصريفه، {لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ}. يقول: لا ينبغى أن تكونَ الألوهة والعبادة إلا له جلَّ ثناؤه، دونَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1585 من طريق يزيد به.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

في الأصل: "منكم".

ص: 498

سائر الأشياء غيره من الأنْدادِ والأوثان [وغيرها، {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. يعنى بذلك تعالى ذكره أنّ الألوهة والعبادة لا تنبغى]

(1)

إلا لمن له سلطان كلَّ شيءٍ، والقادر على إنشاءِ خلْقٍ كل ما شاءَ، وإحيائه وإفنائه إذا شاءَ [وإماتَتِه]

(2)

، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. يقولُ: قل لهم: فصدِّقوا باللهِ

(3)

الذي هذه صفته، وأَقِروا بوحدانيته، وأنَّه هو الذي له الأُلوهةُ والعبادةُ، وصدِّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه [للَّهِ نبيٌّ]

(4)

مبعوثٌ إلى خلقه؛ داعيا إلى توحيده وطاعته.

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} .

وأما قوله: {النَّبِيَّ الأُمِّيِّ} . فإنه من نعتِ "رسولِ اللهِ".

وقد بينت معنى [قول القائل]

(5)

: النبيّ. فيما مضى بما أغنَى عن إعادته. وكذلك

(6)

معنى قولِه: {الأُمِّيِّ}

(7)

.

{الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} . يقولُ: الذي يصدِّقُ بالله وبكلماته.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَكَلِمَاتِهِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وآياته.

(1)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(2)

في م: "إماتته".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ص، ف:"بآيات الله".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف.

(5)

سقط من: م. وينظر ما تقدم في 2/ 30، 31.

(6)

سقط من: م.

(7)

ينظر ما تقدم في 2/ 154.

ص: 499

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتْهِ} . يقولُ: آياتِه

(1)

.

وقال آخرون: بل عنى بذلك عيسى ابن مريمَ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال مجاهد قوله: {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} . قال: عيسى ابن مريم

(2)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} : فهو عيسى ابن مريمَ

(3)

.

والصوابُ من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمر عباده أن يُصَدِّقوا بنبوة النبيِّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، ولم يخصص الخبر جل ثناؤه عن إيمانه من كلماتِ اللهِ ببعض دونَ بعض، بل [أخْبر فعمَّ الخبرَ]

(4)

عن جميعِ الكلماتِ، فالحق في ذلك أن يُعمَّ القولُ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بكلمات الله كلها على ما جاء به ظاهرُ كتابِ اللهِ.

وأما قوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . [فإن معناه: فاقتدوا]

(5)

به أيها

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1587 من طريق يزيد به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1587 من طريق حجاج به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 135 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وفى الدر المنثور:"وكلمته". بالإفراد. وهى قراءة مجاهد كما في مختصر الشواذ لابن خالويه ص 52 والبحر المحيط 4/ 406.

(3)

ذكره البغوي في تفسيره 3/ 290، وفيه:"وكلمته". بالإفراد. وينظر البحر المحيط الموضع السابق.

(4)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت، س، ف:"أخبرهم".

(5)

في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"فاهتدوا".

ص: 500

الناسُ، واعْملوا بما أمَرَكُم أن تعملوا به من طاعةِ اللهِ، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. يقولُ: لكى تهتدُوا فَتَرشُدوا وتصيبوا الحقَّ في اتباعكم إيَّاه.

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} .

يقول

(1)

تعالى ذكره: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى} . يعني: من بني إسرائيل، {أُمَّةٌ}. يقولُ: جماعة، {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ}. يقولُ: يهتدونَ بالحقِّ، أي: يستقيمون عليه ويعملون به، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: وبالحقِّ يُعطون ويَأخُذُون، وينصفون من أَنفُسِهم فلا يَجورُونَ.

وقد قال في صفة هذه الأمة التي ذكرها الله في هذه الآية جماعةٌ أقوالا نحنُ ذاكرون ما حضَرَنا منها.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينةَ، عن صدقة أبى الهذيل، عن السدى:{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . قال: قومٌ بينكم وبينَهم نهرٌ مِن شَهْدِ

(2)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله:{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . قال: بلغني أن بنى إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم [وكفروا]

(3)

، وكانوا اثنى عشَرَ سِبطًا، تبرَّأ سبط منهم مِمّا صنعوا، واعتذَروا، وسألوا اللَّهَ أَنْ يفرِّقَ بينَهم وبينهم، ففتح الله لهم نَفَقًا في الأرضِ

(1)

في الأصل: "يعنى".

(2)

الشهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه، واحدته شَهْدة وشُهْدَة. التاج (ش هـ د). والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1588 من طريق ابن عيينة به، وفيه "نهر من سهل". قال حامد - رواية عن ابن عيينة -: سهل؛ نهر من رمل يجرى. وكذا عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور 3/ 136. وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 491 عن ابن عيينة به كلفظ المصنف.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"كفروا".

ص: 501

فساروا فيه حتى خرجوا من وراءِ الصِّينِ، فهم هنالك حنفاء مسلمون، يستقبلون قبلَتَنا. قال ابن جُريج: قال ابن عباسٍ: فذلك قوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104]. ووعد الآخرة عيسى ابن مريم يخرجون معه. قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السَّرَبِ سنةً ونصفًا

(1)

.

‌القول في تأويل قوله جلّ وعزّ: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} .

يقول تعالى ذكره: فرَّقْناهُم

(2)

، يعني قوم موسى من بنى إسرائيل، فرَّقهم

(3)

الله فجعلهم قبائل شتَّى، اثنتَى عَشْرَةَ قبيلةً.

وقد بيَّنا معنى "الأسباطِ" فيما مضى ومَن هُم

(4)

.

واختلف أهل العربية في وجْهِ تأنيثِ "الاثنتىْ عَشْرَةَ"، و"الأسباطُ" جمع مذكر؛ فقال بعضُ نحوييِّ البصرة: أراد اثنتى عَشْرَة فرقةً. ثم أخبر أن الفِرَقَ أسباط، ولم يجعل العدد على "أسباط".

وكان بعضُهم يَسْتَخْطِيءُ

(5)

هذا التأويل ويقولُ: لا يخرُجُ العددُ على غير

(6)

الثاني، ولكنَّ الفِرَقَ قبلَ "الاثنتى العَشْرَةَ" حتى تكونَ "الاثنتا العشرةَ" مؤنثةً على ما قبلها، ويكون الكلامُ: وقطعناهُم فِرَقًا اثنتى عشرَةَ أسباطًا. فيصح التأنيثُ لما تقدّم.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 491 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 136 إلى المصنف وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في س: "مزقناهم".

(3)

في س: "مزقهم".

(4)

ينظر ما تقدم في 2/ 597 - 599.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يستحكى"، وفى م:"يستحكى على".

(6)

في م: "عين".

ص: 502

وقال بعض نحويِّى الكوفة: إنما قال: {اثْنَتَا عَشْرَةَ} بالتأنيث، و"السِّبطُ" مذكرٌ؛ لأن الكلام ذهب إلى الأممِ، فغَلَّب التأنيثَ وإن كان "السِّبط" ذكرًا، وهو مثل قول الشاعرِ

(1)

:

وَإِنَّ كِلابًا هذه عَشْرُ أبْطُنٍ

وأنتَ بَرِيءٌ مِن قبائلها العَشْرِ

ذهب بـ "البطنِ" إلى القبيلة والفصيلةِ، فلذلك جمع "البطن" بالتأنيث.

وكان آخَرُ

(2)

من نحويي الكوفة يقولُ

(3)

: إنما أُنِّثَت "الاثنتا عَشْرَةَ"، و"السبط" ذَكَرٌ؛ لذكرِ "الأممِ".

والصواب من القول في ذلك عندى أنّ "الاثنتى العَشْرَةَ" أُنثت لتأنيثِ "القطعةِ". ومعنى الكلام: وقطَّعناهم قطعًا اثنتى عشْرَةَ. ثم ترجم عن القِطَعِ بـ "الأسباطِ"، وغيرُ جائز أنْ تكونَ "الأسباطُ" مُفسَّرَةً عن "الاثنتى العشْرَةَ"، وهى جمعٌ؛ لأن التفسير

(4)

فيما فوق العشرِ إلى العشرين بالتوحيد لا بالجمعِ، و "الأسباطُ" جمعٌ لا واحدٌ، وذلك كقولهم: عندى اثنَتا عَشْرَةَ امرأةً. ولا يقالُ: عندى اثنتا عَشْرَةَ نسوةً. ففي ذلك بيان

(5)

أن "الأسباط" ليست بتفسيرٍ لـ "الاثنتى العشْرَةَ". وأن القول في ذلك على ما قلنا.

وأما "الأمم"، فالجماعات، و "السِّبطُ"، في بني إسرائيلَ نحو القرنِ.

وقيل: إنما فُرِّقوا أسباطًا لاختلافهم في دينهم.

(1)

هو النواح الكلابي، والبيت في الكتاب 3/ 565، ومعاني القرآن للفراء 1/ 126، واللسان (ب ط ن).

(2)

في ص، م، ت 1، ف:"آخرون".

(3)

في ص، م، ت 1، ف:"يقولون". وهذا قول الفراء في معاني القرآن 1/ 397.

(4)

يعنى بالتفسير التمييز.

(5)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 503

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤُه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}

يقولُ جلَّ ثناؤه: وأوحينا إلى موسى إذ فرَّقنا بني إسرائيل قومه اثنتى عشْرَةَ فرقةً، وتَيَّهناهم في التِّيهِ فاستسْقَوا موسى من العطش وعَوَزِ

(1)

الماءِ - {أَنِ اضْرِب بُعَصَاكَ الْحَجَرَ} .

وقد بيَّنا السبب الذي كان قومه استسقوه

(2)

، وبيَّنا معنى "الوحيِ" بشواهده

(3)

.

{فَأَنْبَجَسَتْ مِنْهُ} : فانصبَّتْ وانفجرَتْ من الحجرِ، {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} من الماء، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَنَاسٍ}. يعنى: كل أناس من الأسباط الاثنتى عَشْرَةَ، {مَّشْرَبَهُمْ} لا يدخُلُ سبطٌ على غيره في شِرْبه، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} يُكِنُّهم من حر الشمس وأذاها. وقد بينا معنى "الغمامِ" فيما مضى قبلُ، وكذلك "المنّ" و "السَّلْوى"

(4)

.

{وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} طعامًا لهم، {كُلُوا مِن طَيَّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. يقولُ: وقلنا لهم: كُلوا من حلال ما رزقناكُم أيها الناسُ فطيَّبناه لكم، {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وفى الكلامِ

(1)

في ص: "عور"، وفى م:"غثور"، وفى س، ف:"غور". والعوز: الحاجة. ينظر اللسان (ع و ز).

(2)

ينظر ما تقدم في 2/ 5، وما بعدها.

(3)

ينظر ما تقدم في 5/ 401، وما بعدها.

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 698، وما بعدها.

ص: 504

محذوفٌ تُرِكَ ذِكرُه استغناءً بما ظهر عما تُرِكَ، وهو: فأجِمُوا

(1)

ذلك وقالوا: لن نصبرَ على طعام واحدٍ، فاستبدلوا الذي هو أدْنَى بالذي هو خيرٌ، {وَمَا ظَلَمُونَا}. يقولُ: وما أدخلوا علينا نقصًا في مُلكنا وسُلْطانِنا بمسألتهم ما سألوا، وفعلهم ما فعلوا، {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. أي: يَنقُصُونها حظوظَها باستبدالهم الأدنى بالخير، والأرْذلَ بالأفضلِ.

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)} .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا يا محمد مِن خَطَأ فعلِ هؤلاء القومِ، وخلافهم على ربهم، وعصيانهم نبيَّهم موسى، وتبديلهم القول الذي أُمِرُوا أنْ يقولُوه حين قال الله لهم:{اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} : وهى قرية بيت المقدس، {وَكُلُوا مِنْهَا}. يقولُ: مِن ثمارها وحبوبها ونَباتِها، {حَيْثُ شِئْتُمْ}

(2)

. يقولُ: أين

(3)

شئتُم منها، {وَقُولُوا حِطَّةٌ}. يقولُ: وقولوا: هذه الفَعْلةُ حِطةٌ تحطُّ ذنوبَنا - {نَغْفِرْ لَكُمْ} . يقولُ: يَتغمد لكمْ ربُّكم ذنوبَكم التي سلَفتْ منكم، فيعفُو لكم عنها فلا يؤاخذكم بها، {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} منكم - وهم المطيعون لله - على ما وعدتكم من غفران الخطايا.

وقد ذكرنا الروايات في كلِّ ذلك باختلافِ المختلفين، والصحيح من القولِ لدَيْنا فيه

(4)

فيما مضى بما أغنى عن إعادَتِه

(5)

.

(1)

في م: "فأجمعوا"، وأجم الشيء: كرهه ومله من المداومة عليه. اللسان (أ ج م).

(2)

بعده في م: "منها".

(3)

في م: "أنى".

(4)

سقط من: الأصل.

(5)

ينظر ما تقدم في 1/ 720 - 722.

ص: 505

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)} .

يقول تعالى ذكره: فغَيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول، فقالوا - وقد قيل لهم: قولوا: هذه حِطةٌ -: حِنْطةٌ في شَعيرةٍ. وقولهم ذلك كذلك هو غير القول الذي قيل لهم: قُولُوه. يقول الله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِن السَّمَاءِ} . يقولُ: بعثنا عليهم عذابًا أهلكهم

(1)

بما كانوا يغيِّرون ما يُؤمرون به، فيفعلون خلاف ما أمَرهُم الله بفعله، ويقولون غير الذي أمرهم بقيله.

وقد بينا معنى "الرِّجْزِ" فيما مضى

(2)

.

‌القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} .

يقول جل ثناؤه: واسألْ يا محمدُ هؤلاء اليهود الذين

(3)

هم مجاورُوكَ عن أمرِ {الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . يقولُ: كانت بحضرة البحر. أيْ: بقرب البحرِ وعلى شاطئه.

واختلف أهل التأويل فيها؛ فقال بعضهم: هي أَيْلةُ.

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"أهلكناهم".

(2)

ينظر ما تقدم في 1/ 729 - 731.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س، ف:"و".

ص: 506

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ابن إدريسَ، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن حُصينٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَة الْبَحْرِ} . قال: هي قريةٌ يقال لها: أيْلَةُ، بينَ مَدْينَ والطور

(1)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريج، عن عبدِ الله بن كثير في قوله:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . قال: سمعنا أنها أيلَة.

حدثنا سلام بن سالم الخُزاعي، قال: ثنا يحيى بن سليم الطائفى، قال: ثنا ابن جريج، عن عكرمة، قال: دخلتُ على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكِي، فقلتُ: ما يُبكيكَ، جعلني الله فداءك؟ فقال: ويلك، تعرفُ القرية التي كانت حاضرة البحرِ؟ فقلتُ: تلك أيْلَةُ

(2)

.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن أبي بكر الهذليِّ، عن عكرمة، عن ابن عباس:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . قال: هي أيْلة

(3)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحةَ، عن ابن عباس، قال: هي قريةٌ على شاطئ البحرِ بين مصر والمدينةِ يُقال لها: أيْلةُ

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1597 من طريق محمد بن إسحاق به بلفظ: وهى قرية يقال لها مدين بين أيلة والطور.

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (226)، والبيهقى 10/ 92 من طريق يحيى بن سليم به مطولا.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1597 من طريق أبي بكر الهذلي به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 137 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وسيأتي تخريجه عند ابن أبي حاتم في ص 513، وليس فيه هذا اللفظ.

ص: 507

حدَّثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: هم أهلُ أيلةَ؛ القرية التي كانت حاضرة البحر

(1)

.

حدثني الحارث، [قال: حدثنا عبد العزيز]

(2)

، قال: ثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . قال: أيلة.

وقال آخرون: معناه: ساحل مَدينَ.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية: ذكر لنا أنها كانت قريةً على ساحل البحرِ يُقال لها: أيْلةُ.

وقال آخرون: هي مَقْنَا

(3)

.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . قال: هي قريةٌ يقالُ لها: مقنا. بين مدينَ وعَيْنُونَى

(4)

.

وقال آخرون: هي مدينُ.

(1)

تقدم تخريجه في 2/ 63 - 65.

(2)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

في الأصل: "مقنا". وينظر معجم البلدان 4/ 610.

(4)

عينوني وعينون؛ قيل: هي من قرى بيت المقدس. وقيل: قرية من وراء البثنية من دون القُلزم في طرف الشام. معجم البلدان 3/ 795، وينظر طبقات ابن سعد 1/ 267.

والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1597، 1598 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 508

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنى محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصينِ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: هي قريةٌ بين أيْلةَ والطورِ يقال لها: مدين

(1)

.

والصوابُ من القولِ في ذلك أن يُقالَ: هي قريةٌ حاضرة البحرِ. وجائز أن تكونَ أيْلَةَ، وجائز أن تكون مدين، وجائز أن تكونَ مَقْنا

(2)

؛ لأنّ كلَّ ذلك حاضرةُ البحرِ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع العذر بأيِّ

(3)

ذلك من أي، والاختلافُ فيه على ما قد وصفتُ، ولا يُوصَلُ إلى علم ما قد كان فمضَى، مما لم نعاينه، إلا بخبر يوجبُ العلم، ولا خبر كذلك في ذلك.

وقوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} . يعنى به أهله، إذ يعتدون في السبتِ أمر الله، ويتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم.

يقالُ منه: عدا فلان أَمْرِى واعتدى، إذا تجاوَزَه.

وكان اعتداؤهم في السبت أنّ الله كانَ حَرَّمَ عليهم السبت، فكانوا يصطادون فيه السمكَ، {إذ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَعًا}. يقول: إذ تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهم الذي نُهُوا فيه عن العمل {شُرَّعًا} . يقولُ: شارعةً ظاهرةً على الماء من كلِّ طريق وناحية، كشوارع الطَّريقِ

(4)

.

كالذى حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن

(1)

تقدم تخريجه بتمامه في 2/ 61 - 63.

(2)

في الأصل: "مقناة".

(3)

في م: "بأن".

(4)

في م: "الطرق".

ص: 509

عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس {إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَعًا}. يقولُ: ظاهرةً على الماءِ

(1)

.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس {شُرَّعًا}. يعنى: من كلِّ مكانٍ

(2)

.

وقوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} . يقولُ: ويوم لا يعظِّمونه تعظيمهم السبتَ، وذلك سائر الأيام غير يوم السبتِ، لا تأتيهم الحيتان، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم}. يقولُ: كما وصفنَا لكم من الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا، بإظهار السمكِ لهم على ظهرِ الماءِ في اليوم المحرّم عليهم صيده، وإخفائها عنهم

(3)

في اليوم المحلل لهم

(4)

صيده، كذلك نبلُوهم ونختبرهم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. يقولُ: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.

واختلفتِ القَرَأةُ في قراءة قوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} ؛ [فقرأ ذلك عامة قرَأَةِ الأمصار: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ}]

(5)

. بفتح الياء مِن {يَسْبِتُونَ} . من قول القائل: سَبَتَ فلانٌ يسْبِتُ سَبْتًا وسُبُوتًا، إذا عظَّم السبْتَ.

وذُكِرَ عن الحسن البصريِّ أنه كان يقرؤُه: (وَيَوْمَ لا يُسْبِتُونَ)

(6)

. بضم الياءِ، من: أسبتَ القومُ يُسْبِتون، إذا دخلوا في السبتِ، كما يقالُ: أَجْمَعْنا، مَرَّتْ بنا جمُعَةٌ، وأَشْهَرْنَا، مَرَّ بنا شَهْرٌ، وأَسْبَتنَا، مرّ بنا سبتٌ.

(1)

تقدم بتمامه في 2/ 59 - 61.

(2)

سيأتي بتمامه في ص 513.

(3)

في م: "عنه".

(4)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س، ف.

(5)

في م: "فقرئ"، وسقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(6)

وهى قراءة على، وعاصم بخلاف عنه. البحر المحيط 4/ 411.

ص: 510

ونُصِبَ {يَوْمَ} من قوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} بقوله: {لَا تَأْتِيهِمْ} ؛ لأن معنى الكلام: لا تأتيهم يومَ لا يسبتون.

‌القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} .

يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا يا محمد {إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مَّنْهُمْ} . يعنى: جماعة منهم لجماعة كانت تعظُ المعتدين في السبت، وتنهاهم عن معصية الله فيه -:{لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في الدنيا بمعصيتِهِم إيّاه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرَّم عليهم، {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} في الآخرة. قال الذين كانوا ينهَوْنَهم عن معصية الله مُجيبيهم عن قولهم: عِظَتُنا إيَّاهم مَعْذِرَةٌ إلى رَبِّكم، نؤدِّى فرضَه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. يقولُ: ولعلهم أن يتَّقُوا اللَّهَ فيخافُوه، فينيبُوا إلى طاعتِه، ويتوبوا من معصيتهم إيَّاه، وتقدمهم

(1)

على ما حرَّم الله عليهم من اعتدائهم في السبت.

كما حدثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحُصَينِ، عن عكرمة، عن ابن عباس:{قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} : لسُخْطِنا أعمالهم، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: ينْزِعون عما هم

(2)

عليه

(3)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . قال: يتركون هذا العمل الذي هم عليه

(4)

.

(1)

في م: "تعديه"، وفى ص، ت 1، ت 2:"تعديهم"، وفى ف:"تعذيهم".

(2)

سقط من: الأصل.

(3)

تقدم تخريجه في 2/ 61، 62، وليس فيه تفسير:"ولعلهم يتقون".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1601 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

ص: 511

واختلَفتِ القَرَأةُ في قراءة قوله: {قَالُوا مَعْذِرَةً} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأة الحجازِ والكوفة والبصرة: (مَعْذِرَةٌ). بالرفع

(1)

، على ما وصفتُ من معناها.

وقرأ ذلك بعضُ أهل الكوفة: {مَعْذِرَةً} . نصبًا

(2)

، بمعنى: إعذارًا وعظناهم وفَعَلنا ذلك.

واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: {لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُم} هل كانت من الناحية أم من الهالكة؟ فقال بعضُهم: كانت من الناجية؛ لأنها كانت من الناهِيةِ الفرقة الهالكة عن الاعتداء في السبت.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذَّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} : هي قريةٌ على شاطئ البحر بين مصر

(3)

والمدينة يقال لها: أيْلةُ، فحرَّمَ الله عليهم الحيتانَ يوم سبْتِهم، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهِم شُرَّعا في ساحل البحرِ، فإذا مضَى يوم السبت لم يَقدِرُوا عليها، فمكثوا بذلك ما شاءَ اللَّهُ، ثم إِنَّ طائفةً منهم أخذوا الحيتانَ يوم سبتهم، فنهتهم طائفةٌ وقالوا: تأخُذونَها وقد حرَّمها الله عليكم يومَ سبتكم؟ فلم يزدادوا إلَّا غَيًّا وعُتوًّا، وجعَلتْ طائفةٌ أخرى تَنْهاهم، فلما طال ذلك عليهم، قالت طائفةٌ من النُّهاةِ: تَعْلَمُون أنّ هؤلاء قومٌ قد حق عليهم العذابُ، {لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذَّبُهُمْ} وكانوا أشدَّ غضبًا لله من الطائفة الأخرى، فقالوا:{مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وكل قد كانوا يَنْهَوْن، فلما وقع عليهم

(1)

وهى قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي، ورواية عن أبي بكر، عن عاصم. ينظر السبعة ص 296.

(2)

وهى قراءة حفص - ورواية عن أبي بكر - عن عاصم. ينظر السابق.

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"مكة".

ص: 512

غضبُ اللَّهِ، نجتِ الطائفتان اللتان قالوا:{لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُم} . والذين قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} . وأهلَكَ اللَّهُ أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان: فجعَلَهم قردةً وخنازير

(1)

.

حدثنا محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قولَه:{وَاسْأَلَهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}

(2)

. إلى قوله: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} : وذلك أن أهل قريةٍ كانت حاضرة البحر كانت تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهم. يقولُ: إذا كانوا يومَ يَسْبتون تأتيهم شُرَّعًا، يعنى: من كلِّ مكانٍ، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ}. وأنهم قالوا: لو أنَّا أخذنا من هذه الحيتان يومَ تجيءُ ما يكفينا فيما سوى ذلك من الأيامِ. فوعَظهم قومٌ مؤمنون ونهَوْهم وقالت طائفةٌ من المؤمنين: إنّ هؤلاء قوم قد همُّوا بأمرٍ ليسوا بمنتَهين دونَه، واللَّهُ مُخزيهم ومعذِّبهم عذابًا شديدًا. قال المؤمنون بعضُهم لبعضٍ:{مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إن كان هلاك فلعلنا نَنْجُو، وإما أنْ ينتهوا فيكونَ لنا أجرًا. وقد كان الله جعَل على بني إسرائيل يوما يعبُدونَه، ويَتفرّغون له فيه، وهو يوم الاثنين، فتعدّى الخبثاءُ مِن الاثنين إلى السبت. وقالوا: هو يوم السبتِ. فنهاهم موسى، فاختلفوا فيه، فجعَلَ عليهم السبت، ونهاهم أن يعمَلوا فيه، وأن يعْتَدُوا فيه، وإنَّ رجلًا منهم ذهَب ليحتطب، فأخذه موسى عليه السلام فسأله: هل أمرَك بهذا أحدٌ؟ فلم يجد أحدًا أَمَرَه، فرجمه أصحابه

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1599، 1602 من طريق أبي صالح به مختصرا، وينظر أوله في ص 507.

(2)

بعده في الأصل: "إذ يعدون". وهو آخر الموجود من الجزء العشرين من نسخة جامعة القرويين، والأرقام بين المعكوفين بعد ذلك هي أرقام النسخة ت 1.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1598 من طريق محمد بن سعد به. إلى قوله: من كل مكان ويوم لا يسبتون لا تأتيهم.

ص: 513

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ، قال: قال بعضُ الذين نَهَوهم لبعضٍ: {لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذَّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} . يقولُ: لم تعظونَهم وقد وعَظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضُهم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبَّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

(1)

.

حدثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا معاذ بنُ هانئٍ، قال: ثنا حمادٌ، عن داودَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مَّنْهُمْ لِمَ يَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذَّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: ما أَدْرِى أنَجا الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أَمْ لَا؟ قال: فلم أَزَلْ به حتى عرفته أنهم قد نَجَوْا، فكساني حُلَّةً

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا حمادٌ، عن داود، عن عكرمة، قال: قرأ ابن عباس هذه الآية. فذَكرَ نحوَه، إلا أنه قال في حديثه: فما زِلتُ أبصِّره حتى عرَفَ أنهم قد نَجَوْا.

حدثني سلام بن سالمٍ الخُزاعيُّ، قال: ثنا يحيى بن سليمٍ الطائفي، قال: ثنا ابن جُريج، عن عكرمة، قال: دخلتُ على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلتُ: ما يُبكيك، جعلني الله فداءَكَ؟ قال: فقرأ: {وَاسْأَلَهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} قال ابن عباس: لا أسمعُ الفرقة الثالثة ذُكرتْ، نخافُ أنْ نكونَ مثلَهم. فقلتُ: أما تسمعُ الله يقولُ: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ} فَسُرِّيَ عنه وكسانى حُلَّةً

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه في 2/ 64.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 494 عن حماد به.

(3)

تقدم تخريجه في ص 507.

ص: 514

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: ثنى رجلٌ، عن عكرمة، قال: جئتُ ابن عباس يوما، وإذا هو يبْكى، وإذا المصحف في حجْرِه، فأعْظمتُ أنْ أدنُو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدّمتُ فجلستُ، فقلتُ: ما يُبكيك يا بنَ عباسٍ، جعلني الله فداءَكَ؟ فقال: هؤلاء الورقاتُ. قال: وإذا هو في سورة "الأعراف"، قال: تعرفُ أَيْلةَ؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان حيٌّ من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصَتْ لا يقدِرون عليها، حتى يغوصُوا بعد كدٍّ ومُؤنةٍ شديدةٍ، كانت تأتيهم يوم السبتِ شُرَّعًا، بيضًا سمانًا، كأنها الماخِضُ

(1)

، تَنْبطِحُ

(2)

ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم، فكانوا كذلك برهةً من الدهرِ، ثم إن الشيطان أوحى إليهم، فقال: إنما نُهيتُم عن أكلها يوم السبتِ، فخُذُوها فيه، وكُلُوها في غيره من الأيام. فقالتْ ذلك طائفةٌ منهم، وقالت طائفة منهم: بل نُهيتُم عن أكلِها وأخذها وصيدها في يومِ السبت. وكانوا كذلك حتى جاءت الجُمعة المقبلة، فعدَتْ طائفة بأنفُسِها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفةٌ ذات اليمين وتَنحَّتْ، واعتزلت طائفةٌ ذات اليسار وسكتت، [وقال الأيمنون: الله ينهاكُم عن أن تعترضوا العقوبة اللهِ]

(3)

. وقال الأيسرون: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ؟ قال الأيمنون: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . أي: ينتَهُون، فهو أحبُّ إلينا ألا يُصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتَهوا فمعذرةً إلى ربِّكم. فمضَوْا على الخطيئةِ، فقال الأيمنونَ: قد فعَلتم [يا أعداءَ]

(4)

(1)

الماخض من النساء والإبل والشاء: التي قد اقترب ولادها. ينظر اللسان (م خ ض).

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"لسطح" غير منقوطة، وفى م:"تنتطح"، وفى نسخة من تفسير عبد الرزاق:"فتنطح". والمثبت موافق لنسخة من تفسير عبد الرزاق. وينظر تعليق الشيخ شاكر.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف، وفي تفسير عبد الرزاق:"فقال الأيمنون: ويلكم، الله الله، ننهاكم عن الله ألا تتعرضوا لعقوبة الله".

(4)

في ف: "بأعداء".

ص: 515

اللهِ، واللهِ [لَا نُبايتكم]

(1)

الليلةَ في مدينتكم، والله ما نراكم

(2)

تُصبحون حتى يصيبكم الله بخَسْفٍ أو قَذْفٍ، أو بعض ما عندَه [من العذاب]

(3)

. فلما أصبحوا ضرَبوا عليهم البابَ ونادَوْا، فلم يُجَابُوا، فوضَعُوا سُلَّمًا وأَعْلَوْا سورَ المدينة رجلًا، فالتفت إليهم فقالَ: أي عبادَ اللهِ، قرودٌ

(4)

واللهِ تَعاوَى، لها أذنابٌ. قال: ففتَحُوا فدخَلوا عليهم، فعرفتِ القردةُ أنْسابها من الإنسِ، ولا تعرفُ الإنسُ أنسابها من القردة، فجعلت القرودُ تأتى نسيبَها من الإنسِ، فتشمُّ ثيابه وتبكي، فتقول لهم: ألم نَنْهكم عن كذا؟ فتقولُ برأسها نَعم. ثم قرأ ابن عباس: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . قال: فأرى اليهود الذين نَهَوْا قد نَجَوْا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، ونحنُ نرى أشياء تُنكِرُها فلا نقول فيها. قال: قلتُ: أي

(5)

جعلني الله فداءك، ألا تَرَى أنهم قد كَرِهُوا ما هم عليه وخالَفُوهم، وقالوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذبهم} ؟ قال: فأمَرَ بِى فَكُسِيتُ بُردين غليظَيْن

(6)

.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} : ذُكر لنا أنه إذا كان يوم السبتِ أقبلَتِ الحيتانُ حتى تَنْبَطحَ

(7)

علَى سواحلهم وأفنيتهم؛ لما بلَغها من أمرِ اللهِ في الماءِ، فإذا كان في غير يومِ السبت بُعدتْ في الماء حتى يطلبها طالبُهم، فأتاهم الشيطان،

(1)

في ص: "لنأتينكم"، وفى س:"ليأتينكم"، وفى ف، ت 1:"يأتينكم".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أراكم".

(3)

في م: "بالعذاب".

(4)

في م: "قردة".

(5)

في ص، ف:"إن"، وفى س:"قد".

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 240، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1098، 1600، 1601 من طريق ابن جريج وأبى بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس به إلى قوله: أو ببعض ما عنده من العذاب.

(7)

في م: "تنتطح"، وفى س:"سطح"، وغير منقوطة في ص، ت 1، ت 2، ف.

ص: 516

فقال: إنما حرَّمَ عليكم أكْلَها يوم السبتِ، فاصْطادُوها يوم السبت وكُلوها فيما بعد. قوله:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : صارَ القومُ ثلاثة أصنافٍ؛ أمَّا صِنفٌ فأَمْسَكُوا عن حُرمةِ الله ونَهَوا عن معصية الله، وأما صِنفٌ فأمسك عن حُرمة الله هيبةً للهِ، وأمّا صِنْفٌ فانتهكَ الحُرْمةَ ووقَع في الخطيئةِ.

حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ في قولِ اللهِ:{حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . قال: حُرِّمتْ عليهم الحيتانُ يوم السبتِ، وكانت تأتيهم يومَ السبت شُرَّعًا، بلاءً ابتلُوا به، ولا تأتيهم في غيره إلَّا أن يطلبوها؛ بلاءً أيضًا بما كانوا يفسُقون، فأخذوها يومَ السبت استحلالًا ومعصيةَ، فقال الله لهم:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . إِلَّا طائفةً منهم لم يعتَدوا ونَهوْهم، فقال بعضُهم لبعضٍ:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}

(1)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مَّنْهُمْ لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} حتى بلَغَ: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : لعلّهم يتركون ما هم عليه. قال: كانوا قد بُلُوا بكفِّ الحيتانِ عنهم، وكانوا يسبتون في يوم السبت، ولا يعملون فيه شيئًا، فإذا كان يومُ السبت أتتهم الحيتان شُرَّعًا، وإذا كان غير يوم السبت لم يأتِ حوتٌ واحدٌ. قال: وكانوا قوما

(2)

قد قَرِمُوا

(3)

بحبِّ الحيتانِ ولَقُوا منه بلاءً، فَأَخَذَ رجلٌ منهم حوتًا، فربَطَ في ذَنَبِه خَيْطًا، ثم ربَطَهُ إلى خَشَفَةٍ

(4)

،

(1)

تفسير مجاهد ص 345 من قوله: ليس فيه ابن عباس.

(2)

زيادة من: م.

(3)

في ف: "حرموا". وقرم إلى اللحم: اشتهاه، والقَرَم: شدة الشهوة إلى اللحم. اللسان (ق ر م).

(4)

في ص، س:"حفة"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"خسفة"، والخشفة، وبالحاء المهملة أيضا: حجارة تنبت في الأرض نباتا، أو صخرة رخوة في سهل من الأرض. اللسان (ح ش ف، خ ش ف).

ص: 517

ثم ترَكه في الماءِ، حتى إذا غرَبت

(1)

الشمس من يوم الأحدِ اجْترَّه بالخيط ثم شواه، فوجَد جارٌ له ريحَ حوتٍ، فقال: يا فلان إِنِّي أجدُ في بيتك ريحَ نُونٍ. فقال: لا. قال: فتطَلَّعَ في تنُّورِه فإذا هو فيه، فأخبره حينئذٍ الخبرَ. فقال: إِنِّي أَرَى اللَّهَ سَيُعذِّبُك. قال: فلمَّا لم يَرَه عُجِّل عذابًا، فلما أتى السبتُ الآخرُ أخذَ اثنين فربَطَهما، ثم اطَّلَعَ جَارٌ له عليه، فلمَّا رآه لم يُعجَّلْ عذابًا جعلوا يصيدونَه، فاطَّلعَ أهل القرية عليهم، فنهاهم الذين ينهَون عن المنكر، فكانوا فرقتَيْن؛ فرقةٌ تنهاهم وتكُفُّ، وفرقةٌ تنهاهم ولا تكُفُّ، فقال الذين نَهَوا وكَفُّوا للذين ينْهَوْن ولا يكفُّون:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ؟ فقال الآخرون: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . فقال الله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . قال الله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . وقال لهم أهل تلك القريةِ: عمِلتم بعمل سُوءٍ، من كان يريدُ يعتزل ويتطَهَّرُ فليعتزِلْ هؤلاء. قال: فاعتزل هؤلاء وهؤلاءِ في مدينتهم، وضربوا بينهم سورًا، فجعلوا في ذلك السور أبوابا يخرج بعضُهم إلى بعضٍ. قال: فلما كان الليلُ طَرقَهم الله بعذاب، فأصبَح أولئك المؤمنون لا يرون منهم أحدًا، فدخلوا عليهم، فإذا هم قردةٌ؛ الرجلُ وأزواجه وأولاده، فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونَه، فيقولون: يا فلان ألم نحذِّرك سَطُواتِ اللَّهِ؟ ألم نُحذِّرْك نِقماتِ اللهِ؟ ونحذِّرْك ونحذِّرْك؟ قال: فليسَ إلا بكاءٌ

(2)

. قال: وإنما عذَّب الله الذين ظلموا، الذين أقاموا على ذلك. قال: وأما الذين نَهَوا فكلُّهم قد نَهى، ولكن بعضهم أفضلُ من بعضٍ. فقرأ:{أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

(3)

.

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2 ت 3، س، ف:"له".

(2)

في ص، س، ف:"تكاكا"، وفي ت 1:"بكاء كما".

(3)

تقدم تخريج أوله في ص 511.

ص: 518

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن داود، عن عكرمة، قال: قرأ ابن عباسٍ هذه الآية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: لا أدرى أنجا القومُ أو هلكوا، فما زلتُ أبصِّرُه حتى عرف أنهم نجَوا، وكسانى حُلَّةً

(1)

.

حدثني يونس، قال: أخبرني أشهبُ بنُ عبد العزيزِ، عن مالك، قال: زعم ابن رومانَ أن قوله: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} . قال: كانت تأتيهم يوم السبتِ، فإذا كان المساءُ ذهَبتْ فلا يُرَى منها شيءٌ إلى السبتِ، فاتَّخَذ لذلك رجلٌ منهم خَيْطًا ووتِدًا، فربط حونًا منها في الماءِ يومَ السبتِ، حتى إذا أمْسَوا ليلةَ الأحدِ أخَذه فاشْتواه، فوجَد الناسُ ريحه، فأتوْه فسألوه عن ذلك، فجحَدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جِلْدُ حوتٍ وجَدناه. فلمَّا كان السبتُ الآخرُ فعَلَ مثل ذلك - ولا أدرِى لعلَّه قال: ربط حوتَينِ - فلما أمسَى من ليلة الأحدِ أَخَذه فاشْتواه، فوجدوا رائحتَه، فجاءوا فسألوه، فقال لهم: لو شِئتم صنعتُم كما أصنعُ. فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعَل، حتى كثر ذلك، وكانت لهم مدينةٌ لها رَبَضٌ

(2)

، فغلَّقوها عليهم، فأصابَهم من المسخِ ما أصابَهم، فغَدا إليهم جيرانُهم ممَّن كان يكون حولهم يطلُبون منهم ما يطلبُ الناسُ، فوجدوا المدينةَ مُغلقةً عليهم، فنادَوا فلم يُجيبُوهم، فتسَوَّروا عليهم، فإذا هم قِردةٌ، فجعَلَ القِرْدُ يدْنو يتمسَّحُ بمن كان يعرفُ قبلَ ذلكَ، يدنو منه ويتمسَّحُ به

(3)

.

وقال آخرون: بل الفرقةُ التي قالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} . كانت من الفرقة الهالكةِ.

(1)

ينظر ما تقدم تخريجه في ص 514.

(2)

الربض: سور المدينة وما حولها، وقيل: الفضاء حول المدينة. التاج (ر ب ض).

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 495 عن المصنف.

ص: 519

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن داود بن حُصينٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . إلى قوله: {شُرَّعًا} . قال: قال ابن عباسٍ: ابتدعوا السبتَ فابتلُوا فيه، فحرِّمتْ عليهم [فيه الحيتانُ]

(1)

، فكانوا إذا كان يوم السبت شَرَعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحرِ، فإذا انقضَى السبتُ ذهَبتُ فلم تُرَ حتى السبتِ المقبل، فإذا جاء السبتُ جاءتْ شُرَّعًا، فمكَثوا ما شاءَ اللَّهُ أَنْ يمكثوا كذلك، ثم إن رجلًا منهم أخذ حوتًا [فَخَزَمه بأنفِه]

(2)

، ثم ضرب له وَتِدًا في الساحلِ، وربطه وترَكه في الماءِ، فلما كان الغدُ أخَذه فشَواهُ فأكَله، ففعل ذلك وهم يَنظُرون ولا يُنكِرون، ولا يَنهاه منهم أحدٌ، إِلَّا عُصبةٌ منهم نهوْه، حتى ظهَر ذلك في الأسواق وفعِلَ علانيةً. قال: فقالت طائفةٌ للذين يَنْهَوْنَ: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} ، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِرُوا بِهِ} إلى قوله:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} . قال ابن عباس: كانوا أثلاثًا، ثلُثٌ نَهَوْا، وثلثٌ قالوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} . وثلثٌ أصحاب الخطيئةِ، فما نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا، وهَلَك سائرُهم، فأصبح الذين نَهَوْا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقَّدون الناسَ لَا يروْنَهم، [فغلَّقوا عليهم]

(3)

دورَهم، فجَعلوا يقولون: إن للناس لشأنًا، فانظروا ما شأنُهم. فاطَّلعوا في دورِهم، فإذا القومُ قد مُسِخوا في ديارهم قردةً، يَعرِفونَ الرجلَ

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

في م: "فخرم أنفه"، وفى ف:"فخرمه بأنفه". وخزم أنف الدابة: ثقبها، وجعل فيه خزامة، وهي حلقة تجعل في أحد منخريها. ينظر اللسان (خ ز م).

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"فعلوا على".

ص: 520

بعينِه وإنه لقرْدٌ، ويعرِفُون المرأةَ بعينها وإنها لقردةٌ، قال اللهُ:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}

(1)

[البقرة: 66].

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن أبي بكرٍ الهذليِّ، عن عكرمة، عن ابن عباس:{أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الآية. قال ابن عباس: نَجا الناهون، وهلك الفاعِلون، ولا أدْرِى ما صُنعَ بالسَّاكِتِين

(2)

.

حدثنا ابن عبد الأعلَى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمَر، عن قتادة، عن ابن عباسٍ:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} . قال: هم ثلاثُ فرقٍ؛ الفرقة التي وعَظَتْ، والموعوظَةُ التي وُعِظَت، والله أعلم ما فعلَت الفرقة الثالثة، وهم الذين قالوا:{لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} . وقال الكلبي: هما فرقتان؛ الفرقة التي وعَظَتْ، والفرقة التي قالت:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} . قال: هي الموعوظة

(3)

.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمرانُ بنُ عُيينةَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لأن أكونَ علِمْتُ مَن هؤلاء الذين قالوا: {لِمَ تَعظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذَّبْهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ؟ أحبُّ إلى مِمَّا عُدِلَ به

(4)

.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاء، قال: قال ابن عباس: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مَّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} . قال: أسمعُ الله يقولُ: {أَنجَيْنَا

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1598، 1599، 1600، 1601 من طريق عبد الله بن إدريس به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 137 إلى أبى الشيخ. وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 496: وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا؛ لأنَّه تبين حالهم بعد ذلك والله أعلم.

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 138 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 239 عن معمر به.

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 138 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 521

الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}. فليت شعرِى ما فُعِلَ بهؤلاءِ الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} ؟

حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفر، عن ماهانَ الحنفيِّ أبي صالحٍ في قوله:{تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} . قال: كانوا في المدينة التي على ساحل البحرِ، وكانت الأيام ستةً، الأحدُ إلى الجمعةِ، فوضعتِ اليهود يوم السبتِ، وسَبَّتوه على أنفُسِهم، فَسَبَّته اللَّهُ عليهم، ولم يكن السبتُ قبل ذلك، فوكَّده الله عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتانِ، فجعَلت تَشْرَعُ يوم السبتِ، فيتَّقون أنْ يُصيبوا منها، حتى قال رجلٌ منهم: والله ما السبتُ بيومٍ وكَّدَه الله علينا، ونحنُ وكَّدناه على أنفسِنا، فلو تناولتُ من هذا السمكِ. فتناولَ حوتًا من الحيتانِ، فسمِعَ بذلك جارُه، فخاف العقوبة، فهرَبَ من منزلِه، فلما مكَث ما شاء الله ولم تُصبه عقوبةٌ تناول غيره أيضًا في يوم السبت، فلمَّا لم تُصبهم العقوبةُ، كثُرَ [من تناوَل]

(1)

في يوم السبتِ، واتَّخذُوا يوم السبت وليلةَ السبتِ عيدًا يشربون فيه الخمورَ، ويلعبونَ فيه بالمعازِف، فقال لهم خيارهم وصُلحاؤُهم: وَيُحَكم، انتهوا عما تفعلون، إن الله مُهْلِكُكم أو مُعذِّبُكم عذابًا شديدًا، أفلا تعقلون؟ ولا تعدوا

(2)

في السبتِ. فأبَوْا، فقال خيارُهم: نضرِبُ بيننَا وبينَهم

(3)

حائطًا. ففعلوا، وكان إذا كان ليلةُ السبتِ تأذَّوْا بما يسمعون من أصواتِهم وأصوات المعازف، حتى إذا كانت الليلة التي مُسخوا فيها، سكنتْ أصواتهم أوّلَ الليلِ، فقال خيارُهم: ما شأنُ قومِكم قد سكنتْ أصواتهم الليلةَ؟ فقال بعضُهم: لعلّ الخمرَ غَلبتهم فناموا. فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حِسًّا، فقال بعضُهم لبعض:

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"ما يتناول".

(2)

في ص، ف:"تعتدوا".

(3)

في ف: "بينكم".

ص: 522

ما لنا لا نسمعُ من قومِكم حِسًّا؟ فقالوا لرجلٍ: اصعد الحائطَ، وانْظُرْ ما شأنهم. فصعِد الحائط فرآهم يموجُ بعضُهم في بعض، قد مُسخوا قردةً، فقال لقومه: تعالوا فانظُروا إلى قومكم ما لَقُوا. فصعدوا، فجعلوا ينظُرونَ إلى الرجل فيتوسَّمونَ فيه، فيقولون: أيْ فلانُ، أنت فلان؟ فيومئُ بيدِه إلى صدرِه: أي نعم، بما كسَبتْ يداىَ.

حدثني يعقوبُ وابن وكيعٍ، قالا: ثنا ابن عُلَيةَ، عن أيوبَ، قال: تلا الحسنُ ذات يومٍ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} . فقال: حوتٌ

(1)

حرَّمه الله عليهم [في يومٍ وأحلَّه]

(2)

لهم فيما سوَى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله عليهم كأنه المخاض، لا يمتنع من أحدٍ - وقلَّما رأيتُ أحدًا يُكثرُ الاهتمام بالذنب إلا واقَعه. قال: فجعلوا يَهُمُّون ويُمسكون حتى أخذُوه، فأكلوا أوخَمَ أكلة أكلها قومٌ قطُّ، [أبقَى خِزْيًا]

(3)

في الدنيا، وأشدَّ عقوبةً في الآخرة، وايْمُ الله، [ما حُوتٌ أَخَذه قومٌ فأكَلوه، أعظمَ عندَ الله من قتل رجلٍ مؤمنٍ، و]

(4)

لَلْمُؤمن أعظم حرمة عند الله من حوتٍ، ولكنَّ الله جعَل موعد قوم الساعةَ، والساعةُ أدْهَى وأمَرُّ

(5)

.

حدَّثني يونس، قال: أخبرنا سفيانُ، عن أبي موسى، عن الحسن، قال: جاءتهم الحيتانُ تَشْرَعُ في حياضهم كأنها المخاضُ، فأكلوا والله أوخمَ أكْلةٍ أكلَها

(1)

في م، والدر المنثور:"كان حوتا".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يوم أحله".

(3)

في م: "أثقله خزيا".

(4)

زيادة من: م. وليست في مصادر التخريج. وينظر روح المعاني 9/ 138.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 531، وابن أبي الدنيا في العقوبات (228) من طريق ابن علية به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1599 من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن به بنحوه مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 138 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 523

قومٌ قطُّ، أسْوأه عقوبةً في الدنيا، وأشدَّه

(1)

عذابًا في الآخرة. وقال الحسن: وقتلُ المؤمنِ واللَّهِ أعظم من أكل الحيتان.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاء، قال: كنت جالسًا في المسجدِ، فإذا شيخٌ قد جاءَ وجلسَ الناسُ إليه، فقالوا: هذا من أصحاب عبد الله بن مسعودٍ. فقال: قال ابن مسعود: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية. قال: لما حُرِّمَ عليهم السبتُ كانت الحيتان تأتى يوم السبت وتأمنُ، فتجِيءُ فلا يستطيعونَ أنْ يمسُّوها، وكان إذا ذهَب السبتُ ذهَبتْ، فكانوا يتصيَّدُونَ كما يتصيَّدُ الناسُ، فلمَّا أرادوا أن يَعْدُوا في السبتِ اصْطادُوا، فنهاهم قومٌ من صالحيهم فأبَوا، وكَثرَهم

(2)

الفُجَّارُ، فأرادَ الفُجَّارُ قتالَهم، فكان فيهم من لا يشتهون قِتالَه؛ أبو أحدِهم أو أخوه أو قريبُه، فلما نهوهم وأبَوْا، قال الصَّالحون: إِنْ

(3)

[أَبَيْتُم، فإنا]

(4)

نجعل بيننا وبينكم

(5)

حائطًا. ففعَلُوا، فلما فقَدُوا أصواتَهم، قالوا: لو نَظَرْتُم إلى إخوانِكُم ما فعلوا؟ فنظروا فإذا هم قد مُسِخُوا قردةً، يعرفون الكبيرَ بكِبَرِه، والصغيرَ بصِغَرِه، فجعَلوا يبكونَ إليهم، وكان هذا بعدَ موسى صلى الله عليه وسلم

(6)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} .

يقولُ تعالى ذكره: فلما ترَكَت الطائفةُ التي اعتدت في السبتِ ما أمرَها الله به

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أشد".

(2)

كثرهم الفجار: غلبوهم كثرة. ينظر النهاية 4/ 152.

(3)

في م: "إنا".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"اسهم وإنا"، وفى م:"نباينهم وإنا". والمثبت من العقوبات.

(5)

في م: "بينهم".

(6)

أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (227) من طريق جرير به.

ص: 524

مِن تركِ الاعتداء فيه، وضيَّعتْ ما وعَظتْها به الطائفةُ الواعظةُ، وذكرتها ما ذكَّرتها به من تحذيرها عقوبةَ الله على معصِيَتها، فتقدَّمتْ على استحلالِ ما حرَّمَ اللَّهُ عليها - أنْجى الله الذين ينْهَوْنَ منهم عن السُّوءِ، يعنى عن معصية الله، واستحلال حُرَمِه، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا}. يقولُ: وأَخَذ الله الذين اعتدَوْا في السبتِ، فاستحلُّوا فيه ما حرَّم الله من صيدِ السمكِ وأكْلِه، فأحلَّ بهم بأسَه، وأهلكهم بِعَذَابٍ شديدٍ بَئيسٍ بما كانوا

(1)

يُخالفون أمرَ اللَّهِ، فيخرجونَ من طاعته إلى معصيَتِه، وذلك هو الفسقُ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا ابن جُريجٍ في قولِه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} . قال: فلما نسُوا موعظة المؤمنينَ إيَّاهم، الذين قالوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}

(2)

.

حدثني محمد بن المثنَّى، قال: ثنا حَرَمِيٌّ، قال: ثنى شعبةُ، قال: أخبرني عمارةُ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس:{أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} . قال: يا ليتَ شعرى ما السُّوءُ الذي نَهَوْا عنه.

وأما قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} . فإنّ القرَأةَ اختلَفتْ في قراءته؛ فقرأته عامّةُ قرَأةِ أهل المدينة (بعذابٍ بِيسٍ) بكسرِ الباءِ وتخفيفِ الياء بغير همزٍ، على مثال "فِعْلٍ"

(3)

.

(1)

بعده في م، ت 1، ت 2، س، ف:"يفسقون"، ومضروب عليها في: ص.

(2)

تفسير عبد الرزاق 12/ 240، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1601.

(3)

وهى قراءة نافع وأبي جعفر. النشر 2/ 205.

ص: 525

وقرأ ذلك بعضُ قَرَأةِ الكوفة والبصرةِ: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} . على مثلِ "فَعيلٍ"، من البؤسِ، بنصب الباءِ وكسر الهمزة ومدِّها

(1)

.

وقرأ ذلك كذلك بعض المكيين، غير أنه كسر باءَ:(بِئيسٍ). على مثال "فعيل"

(2)

.

وقرأه بعضُ الكوفيين: (بَيْئِسٍ). بفتح الباء وتسكين الياء وهمزةٍ بعدها مكسورةٍ، على مثالِ "فَيْعِلٍ"

(3)

.

وذلك شاذٌّ عند أهلِ العربية؛ لأنَّ "فَيْعِل" إذا لم يكن من ذواتِ الياء والواو، فالفتح في عينه الفصيحُ في كلام العربِ، وذلك مثل قولهم في نظيره من السالم: صَيْقَلٌ

(4)

، ونَيْرَبٌ

(5)

. وإنما تُكْسَرُ العين من ذلك في ذواتِ الياء والواوِ، كقولهم: سَيِّدٌ، وميِّتٌ. وقد أنشدَ بعضُهم قول امرئِ القيس بن عابسٍ الكنديِّ

(6)

:

كِلاهُما كانَ رَئِيسًا بَيْئِسَا

يَضْرِبُ في يَوْمِ الهِياجِ القَوْنَسا

(7)

بكسر العين من "فيعِل"، وهى الهمزةُ من "بَيْئِس". فلعل الذي قرَأ ذلك كذلك قرأه على هذه.

وذُكِرَ عن آخَرَ من الكوفيين أيضًا أنه قرَأه: (بَيْئَسٍ). نحو القراءة التي ذكرناها

(1)

وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو وحمزة والكسائي، وحفص عن عاصم. ينظر النشر 2/ 205.

(2)

ينظر تفسير القرطبي 7/ 308، والبحر المحيط 4/ 413، وقد نسباها إلى أهل مكة ولم يسميا أحدا.

(3)

هي قراءة عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 4/ 413.

(4)

الصيقل: شحاذ السيوف. اللسان (ص ق ل).

(5)

النيرب: الشر والنميمة، وهو أيضا الرجل الجليد. اللسان (ن ر ب).

(6)

البيت في البحر المحيط 4/ 413.

(7)

القونس: مقدم الرأس. اللسان (ق ن س).

ص: 526

قبلَ هذه، وذلك بفتحِ الباءِ وتسكينِ الياءِ وفتح الهمزة بعدَ الياء، على مثالِ "فَيْعَلٍ" مثل

(1)

صَيْقَلٍ

(2)

.

وروى عن بعض البصريينَ أنه قرأه: (بَئِسٍ). بفتح الباء وكسر الهمزةِ، على مثال "فَعِلٍ"

(3)

، وكما قال ابن قيسِ الرقياتِ

(4)

:

لَيْتَنِي أَلْقَى رُقَيَّةَ فِي

خَلْوَةٍ مِنْ غيرِ ما بَئِسٍ

ورُويَ عن آخَرَ منهم أنه قرأ: (بِئْسَ). بكسر الباء وفتح السينِ، على معنى: بئس العذاب

(5)

.

وأولى هذه القراءاتِ عندى بالصَّواب قراءة من قرأه: ({بَئِيسٍ}). بفتح الباء وكسر الهمزة ومدِّها على مثال "فَعِيلٍ"، كما قال ذو الأصبع العدوانيُّ

(6)

:

حَنَقًا عَلَيَّ وما

(7)

تَرَى

لي

(8)

فِيهِمُ أَثَرًا بَئِيسا

لأن أهل التأويل أجمعوا على أن معناه: شديدٌ، فدل ذلك على صحةِ ما اخترنا.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا ابن جُريجٍ،

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"على مثال".

(2)

وهى رواية عن أبي بكر، عن عاصم. ينظر السبعة 296.

(3)

وهى قراءة أبى عبد الرحمن بن مصرف وهى شاذة. ينظر البحر المحيط 4/ 413.

(4)

ديوانه ص 160.

(5)

وهى قراءة الحسن. إتحاف فضلاء البشر ص 139.

(6)

البيت في مجاز القرآن 1/ 231، والأغاني 3/ 102.

(7)

في م، والأغانى:"لن".

(8)

في س، ف:"لهم".

ص: 527

قال: أخبَرنى رجلٌ، عن عِكرمة، عن ابن عباس في قوله:{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} : أليمٍ وجِيعٍ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{بِعَذَابِ بَئِيسٍ} . قال: شديدٍ.

حدثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} : أليمٍ شديدٍ

(2)

.

حدثنا محمد بن عبد الأعلَى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ:{بِعَذَابٍ بَيسٍ} . قال: مُوجعٍ

(3)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} . قال: بعذابٍ شديدٍ.

‌القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} .

يقول تعالى ذِكرُه: فلمَّا تمرَّدُوا فيما نُهُوا عنه من اعتدائهم في السبتِ، واستحلالهم ما حرم الله عليهم من صيدِ السمكِ وأَكْلِه، وتمادَوْا فيه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أيْ: بُعداءَ من الخيرِ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 242، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1602.

(2)

تفسير مجاهد ص 345 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1602. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 239 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 138 إلى عبد بن حميد.

ص: 528

‌ذكر من قال ذلك

حدثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{فَلَمَّا عَتَوْا عَن ما نُهُوا عَنْهُ} . يقولُ: لمّا مَرَد القومُ على المعصيةِ {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ، فصاروا قردةً لها أذنابٌ تَعاوَى، بعدَ ما كانوا رجالًا ونساءً

(1)

.

حدثني محمدُ بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} : فجعل الله منهم القردة والخنازير، فزُعِم أن شبابَ القوم صارُوا قردةً، وأنَّ المشيخة صارُوا خنازير

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا الحمّانيُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ، أو سعيد بن جبيرٍ، قال: رأى موسى عليه السلام رجلًا يحمِلُ قَصَبًا يومَ السبتِ، فضرَب عُنقه.

‌القول في تأويل قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقوله: {وَإِذْ تَأَذَّن} : واذْكُرْ يا محمد إذْ آذن ربُّك فأعْلَمَ. وهو "تفعَّل" من الإيذانِ، كما قال الأعشى ميمونُ بن قيسٍ

(3)

:

آذَنَ اليَوْمَ جِيرَتِى بِخُفُوفِ

(4)

صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ

يعنى بقوله: آذَنَ: أَعْلَمَ. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضعِ

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه في 2/ 63.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 133 (673) عن محمد بن سعد به.

(3)

ديوانه ص 313.

(4)

خفوف: ارتحال، يقال: خفّ القوم عن وطنهم خفوفا: ارتحلوا مسرعين. التاج (خ ف ف).

(5)

ينظر ما تقدم في 2/ 361.

ص: 529

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهد في قولِ اللَّهِ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} . قال: قال

(1)

.

حدثنا الحارثُ، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهد:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} . قال: أَمَرَ رَبُّك.

وقوله: {لَيَبْعَنَّ عَلَيْهِمْ} . يعنى: أعْلَمَ رَبُّكَ لَيبعثَنَّ على اليهودِ مَن يسومُهم سوءَ العذابِ. قيل: إن ذلك العربُ، بعثهم الله على اليهودِ يُقاتِلُون مَن لم يُسلم منهم ولم يُعطِ الجزيةَ، ومَن أَعْطَى منهم الجزية كان ذلك له صَغَارًا وذِلَّةً.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنى بن إبراهيم وعليُّ بنُ داود، قالا: ثنا عبدُ الله بن صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس قولَه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: هي الجزية، الذين يسومونهم؛ محمد صلى الله عليه وسلم وأمّتُه إلى يوم القيامة

(2)

.

حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن

(1)

سقط من: ف، وفى م:"أمر ربك". والأثر في تفسير مجاهد ص 345، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1603. ويعنى بقوله: قال. أي: قال ربك. كما في مصدرى التخريج.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1604 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى ابن المنذر وابن مردويه.

ص: 530

أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} : فهى المسكنة وأخذُ الجزية منهم

(1)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قال ابن عباس:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: يهودُ وما ضُرِبَ عليهم من الذِّلة والمسكنةِ.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: فبعث الله عليهم هذا الحيَّ من العربِ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامةِ.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ} . قال: بعث عليهم هذا الحيَّ من العرب، فهم في عذابٍ منهم إلى يوم القيامةِ. وقال عبد الكريم الجزرى: يُستحبُّ أن تُبعثَ الأنباط في الجزية.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيلَ، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيدٍ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ} . قال: العربُ، {سُوءَ الْعَذَابِ}. قال: الخراجُ، وأوّلُ من وضَع الخراج موسى عليه السلام، فجَبَى الخراج سبْع سنينَ

(2)

.

حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيدٍ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ} . قال: العرب، {سُوءَ

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 497.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1604 من طريق يعقوب به مقتصرا على قوله: قال: الخراج.

ص: 531

الْعَذَابِ}. قال: الخراجُ. قال: وأوّلُ مَن وضع الخراج موسى، فجبَى الخراجَ سبعَ سنينَ.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيدٍ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: هم أهلُ الكتاب، بعث الله عليهم العربَ يَجبُونَهم الخراجَ إلى يوم القيامة، فهو

(1)

سوءُ العذاب، ولم يجب نبيُّ الخراج قطُّ إلا موسى صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً، ثم أمسَك، وإلّا النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قوله:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: يَبْعَثُ

(3)

عليهم هذا الحيَّ من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة.

قال: أخبرنا معمرٌ، قال: أخبرني عبد الكريم، عن ابن المسيَّب، قال: يُستحبُّ أن تُبعثَ الأنباط في الجزيةِ

(4)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّل، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . يقولُ: إن ربَّك يبعَثُ على بنى إسرائيل العرب، فيسومونَهم سوءَ العذاب؛ يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"فهم".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1603 من طريق يعقوب به من قول ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى أبى الشيخ من قول ابن عباس.

(3)

في ف: "بعث"، وفي تفسير عبد الرزاق:"يتعب".

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 239، وفي مصنفه (9877، 9880).

ص: 532

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : ليبعَثنَّ على يهودَ

(1)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} .

يقولُ تعالى ذكره: إن ربك يا محمد لسريعٌ عقابُه إلى مَن استوْجَبَ منه العقوبةَ على كفره به ومعصيته له، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. يقولُ: وإنه لذو صَفحٍ عن ذنوبِ مَن تابَ من ذنوبه، فأنابَ وراجع طاعتَه، يستر عليها بعفوه عنها، رحيمٌ له أن يُعاقبه على جُرْمه بعد توبتِه منها؛ لأنَّه يَقْبلُ التوبة ويُقيلُ العثْرَةَ.

‌القول في تأويل قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} .

يقول تعالى ذكره: وفرَّقنا بنى إسرائيل في الأرض {أُمَمًا} ، يعنى جماعاتٍ شتَّى مُتفرِّقين.

كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا إسحاقُ بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن جعفر، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَقَطَعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} . قال: في كلِّ أرضٍ يدخُلُها قومٌ من اليهود

(2)

.

حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهد:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} . قال: يهودُ

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1604 من طريق أصبغ عن ابن زيد به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1605 من طريق يعقوب به. وهو في الدر المنثور من تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.

(3)

تفسير مجاهد ص 346، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1605، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى ابن المنذر وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 533

وقولُه: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} . يقولُ: من هؤلاءِ القوم الذين وصفهم الله مِن بني إسرائيلَ - {الصَّالِحُونَ} . يعنى: مَن يؤمن بالله ورسله، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}. يعنى: دونَ الصَّالحِ.

وإنَّما وصفهم الله جلَّ ثناؤُه بأنهم كانوا كذلك قبلَ ارتدادهم عن دينِهم، وقبلَ كفرهم بربِّهم، وذلك قبل أن يُبعث فيهم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه.

وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . يقول: واختبرناهم بالرَّخاء في العيش، والخفضِ في الدنيا، والدَّعَةِ والسَّعة في الرزقِ، وهى الحسنات التي ذكرها جل ثناؤه. ويعنى بـ {وَالسَّيِّئَاتِ}: الشدّة في العيش، والشَّظَفَ فيه، والمصائبَ والرزايا في الأموالِ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. يقولُ: ليرجعوا إلى طاعة ربِّهم، ويُنيبوا إليها، ويتوبوا من معاصيه.

‌القول في تأويل قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} .

يقول تعالى ذكرُه: فخلف من بعدِ هؤلاء القوم الذين وصف صِفَتَهم - {خَلْفٌ} يعني: خَلْفُ سَوْءٍ. يقولُ: حدَثَ بعدهم وخِلافَهم، وتبدَّل منهم بَدَلُ سَوْءٍ.

يقال منه: هو خَلَفُ صِدْقٍ، وخَلْفُ سَوْءٍ. وأكثر ما جاء في المدح بفتحِ اللامِ، وفي الذمِّ بتسكينِها، وقد تُحرَّكُ في الذمِّ، وتُسكَّنُ في المدحِ، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان

(1)

:

لنا القَدَمُ الأُولى إليكَ وخَلْفُنا

لأَوَّلِنا في طَاعَةِ اللَّهِ تابعُ

(1)

ديوانه ص 241.

ص: 534

وأحْسَبُ أنه إذا وُجِّه إلى الفسادِ مأخوذٌ من قولهم: خَلَف اللبنُ، إذا حمِض من طُولِ تركه في السِّقاءِ حتى يَفْسُدَ. فكأنَّ الرجلَ الفاسد مشبَّهٌ به. وقد يجوزُ أن يكونَ من

(1)

قولهم: خَلَف فمُ الصائم، إذا تغيَّرت رِيحُه.

وأمّا في تسكينِ اللام في الذمِّ، فقول لبيدٍ

(2)

:

ذَهَب الذين يُعاشُ في أكْنافِهم

وبَقِيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَب

وقيل: إن الخلْفَ الذي ذكر الله في هذه الآيةِ أَنْهم خَلَفُوا مَن قبلهم، هم النَّصارى.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهد في قولِ اللَّهِ:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} . قال: النصارى

(3)

.

والصواب من القول في ذلك عندى أن يقال: إِن اللَّه تعالى ذكره إنما وصَفَ أنه خَلَف القومَ الذين قصَّ قَصصهم في الآياتِ التي مضت - خَلْفُ سَوْءٍ رَدِئٌ، ولم يذكُرْ لنا أنهم نَصارى في كتابه، وقِصَّتُهم بقَصَص اليهودِ أَشبَهُ منها بقَصَص النصارى.

وبعدُ، فإن ما قبل ذلك خبرٌ عن بني إسرائيلَ، وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكونَ خبرًا عنهم أشبه؛ إذْ لم يكن في الآية دليلٌ على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليلٌ يوجب صحة القول به.

(1)

في النسخ: "منه". والمثبت صواب العبارة.

(2)

ديوانه ص 157.

(3)

تفسير مجاهد ص 346، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1607، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 535

فتأويلُ الكلامِ إذن: فتبدّلَ من بعدهم بَدَلُ سَوْءٍ، ورِثوا كتاب الله فعلِموه

(1)

، وضَيَّعوا العمل به، فخالفوا حُكْمَه؛ يُرْشَوْن في حكم الله فيأخذون الرِّشْوَة فيه من عرضِ هذا العاجل الأدْنَى، يعنى بـ {الْأَدْنَى}: الأقربَ من الآجلِ الأبعدِ، ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا. تمنِّيًا على الله الأباطيلَ، كما قال جلَّ ثناؤُه فيهم:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُم مَّمَّا كَنَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم ممَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . يقولُ: وإِنْ شَرَع لهم ذنبٌ حرامٌ مثلُه من الرِّشوة بعد ذلك، أخذوه واستحلوه، ولم يَرْتدِعوا عنه. يُخبِرُ جلَّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرارٍ على ذنوبهم، وليسوا بأهل إنابةٍ ولا توبةٍ.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختلفت عنه عباراتهم.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا فضيلُ بن عياضٍ، عن منصورٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . قال: يعملون بالذنب ثم يستغفِرُونَ اللَّهَ، فإن عرَضَ ذلك الذنب أخذوه

(2)

.

حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن سعيد بن جبيرٍ:{وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضُ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . قال: من الذنوبِ

(3)

.

(1)

في م: "تعلموه"، وفى ت 1، ت 2، س:"يعلموه".

(2)

أخرجه عبد الرزاق 1/ 240 في تفسيره، وسعيد بن منصور في سننه (966 - تفسير)، والبيهقي في الشعب (7158) من طريق فضيل به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1607 من طريق سفيان به.

ص: 536

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصور، عن سعيد بن جبيرٍ:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} . قال: يعملون بالذنوبِ، {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. قال: ذنب آخرُ يعمَلوا به.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن منصور، عن سعيد بن جبيرٍ:{يَأخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} . قال: الذنوبُ، {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مَثْلُهُ يَأخُدُوهُ}. قال: الذنوبُ.

حدثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} . قال: ما أشرَف لهم من شيءٍ في اليوم من الدنيا حلالٌ أو حرامٌ يشتهونَه، أخَذوه، ويبتغُون

(1)

المغفرةَ، فإن يجِدُوا الغدَ مثلَه يأخذوه

(2)

.

حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوه، إلا أنه قال: يتمنَّون المغفرةَ.

حدثنا الحارث، قال: ثنا عبد العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} . قال: لا يُشْرِفُ لهم شيءٌ من الدنيا إلا أخَذوه، حلَالًا كان أو حرامًا، ويتمنَّون المغفرةَ، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} . وإن يجدوا عرضًا مثله يأخُذوه.

حدَّثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} : إى واللهِ، لَخَلْفُ سَوْءٍ ورِثوا الكتاب بعدَ أنبيائِهم ورسلِهم،

(1)

في مصادر التخريج: "يتمنون"، وهو اللفظ الآتي.

(2)

تفسير مجاهد ص 346، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1607، 1608، وهو تمام الأثر المتقدم في ص 535.

ص: 537

ورَّثَهم الله وعهِدَ إليهم، وقال الله في آيةٍ أخرى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]. قال: {يَأخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} : تمنَّوا على الله أمانيَّ، وغرَّةٌ يغترُّون بها، {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ}: لا يشغَلُهم شيءٌ عن شيءٍ، ولا ينهاهم عن ذلك، كلَّما أشرف

(1)

لهم شيءٌ من الدنيا أكلوه، لا يُبَالُون حلالًا كان أو حراما

(2)

.

حدَّثنا محمد بن عبد الأعلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن قَتادة:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} . قال: يأخُذونَه إن كان حلالًا وإن كان حرامًا، {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ}. قال: إن جاءهم حلالٌ أو حرامٌ أخذوه

(3)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّلِ، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ قولَه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} إلى قوله: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} . قال: كانت بنو إسرائيلَ لا يسْتقضُون قاضيًا إلا ارتَشَى في الحكم، وإنّ خيارَهم اجتمَعوا فأَخَذَ بعضُهم على بعض العهود ألا يفعلوا، ولا يرتشُوا

(4)

، فجعَل الرجلُ منهم إذا استقضي ارْتشَى، فيقالُ له: ما شأنُك ترتشي في الحُكْمِ؟ فيقولُ: سيُغفرُ لِي. فيطعُنُ عليه البقيةُ الآخرون من بنى إسرائيلَ فيما صنَعَ، فإذا ماتَ أو نُزِعَ، و

(5)

جُعلَ مكانَه رجلٌ ممَّن كان يطعُنُ عليه فيرتشي. يقولُ

(6)

: وإن يأتِ الآخرين

(7)

عرض الدنيا

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"وصف".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1606، 1607 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى عبد بن حميد، وأبى الشيخ.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 240 عن معمر به.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يرتش".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أو".

(6)

في ص: "فيقول"، وسقط من: ت 1، ت 2، س، ف.

(7)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"الآخر".

ص: 538

يأخُذوه. وأمّا "عَرَضُ الأدْنى

(1)

"، فعرضُ الدنيا من المالِ

(2)

.

حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} . يقولُ: يأخذون ما أصابوا، ويتركون ما شاءوا من حلالٍ أو حرام، ويقولون:{سَيُغْفَرُ لَنَا}

(3)

.

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {يَأْخُدُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} . قال: الكتاب الذي كتبوه، ويقولون:{سَيُغْفَرُ لَنَا} ؛ لا نُشركُ بالله شيئًا، {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضُ مِثْلُهُ يَأخُذُوهُ}: يأتِهم المُحِقُّ برشوةٍ فيُخرجوا له كتابَ اللهِ، ثم يحكموا له بالرِّشوةِ، وكان الظالمُ إذا جاءَهم برشوَةٍ أخرَجوا له المَثْنَاةَ

(4)

، وهو الكتاب الذي كتبوه، فحكَموا له بما في المثناة بالرِّشوة، فهو فيها مُحِقٌّ، وهو في التوراة ظالمٌ، فقال الله:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ}

(5)

.

حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} . قال: يعملون بالذنوبِ، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. قال: الذنوب

(6)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"الدنيا".

(2)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 139 إلى أبى الشيخ مختصرا.

(3)

ينظر التبيان 5/ 21.

(4)

قيل: إن "المثناة" هي أن أحبار بنى إسرائيل بعد موسى عليه السلام وضعوا كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله. النهاية 1/ 225.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1607، 1608 من طريق أصبغ، عن ابن زيد به.

(6)

تقدم تخريجه في ص 536.

ص: 539

‌القولُ في تأويل قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

(1)

(169)}.

يقول تعالى ذكره: ألم يُؤْخَذْ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: سَيغفِرُ الله لنا فعلَنا هذا. إذا عُوتِبوا على ذلك - {مِيثَاقُ الْكِتَابِ} ؟ وهو أخذ الله العهودَ على بني إسرائيلَ بإقامة التوراة والعمل بما فيها، فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصَّ قِصَّتَهم في هذه الآية، مُوبِّخًا لهم على خِلافهم أمرَه، ونقضهم عهدَه وميثاقَه: ألم يأخذِ الله عليهم ميثاقَ كتابِه ألا يقولوا على الله إلا الحقَّ، ولا يُضِيفوا إليه إلَّا ما أنزلَه على رسوله موسى عليه السلام في التوارةِ، وألا يَكْذِبوا عليه.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباس: {أَلَم يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ} . قال: فيما يوجِبُون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها

(2)

.

وأما قوله: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} . فإنه معطوفٌ على قوله: {وَرِثُوا الْكِتَابَ} . ومعناه: فخلَفَ من بعدهم خلفٌ ورِثوا الكتاب ودرسوا ما فيه. ويعنى بقولِه: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} : قرَءُوا ما فيه. يقولُ: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرَسُوا، فضيَّعوه وترَكوا العملَ به، وخالفوا عهدَ الله إليهم في ذلك.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله:

(1)

في ص، ت 1، ت 3، س، ف:"يعقلون". وبالتاء قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم، وبالياء قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. ينظر حجة القراءات ص 301. وأثبتنا القراءة بالتاء كرسم مصحفنا، وإن كان تفسير المصنف على القراءة بالياء كما سيأتي.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 499، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 140 إلى أبي الشيخ.

ص: 540

{وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} . قال: عَلِموه

(1)

؛ علِمُوا ما في الكتاب الذي ذكَرَ الله. وقرَأ: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}

(2)

[آل عمران: 79].

{وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . يقول جل ثناؤُه: وما في الدار الآخرةِ - وهو ما في المعادِ عندَ اللهِ مما أعدَّ لأوليائه، والعاملين بما أنزل في كتابه، المحافظين على حدوده - خيرٌ للذين يتقونَ اللَّهَ، ويَخافونَ عقابَه، فيُراقبونه في أمرِه ونهيِه، ويُطيعونه في ذلك كلِّه في دنياهم، (أَفَلا يَعْقِلُونَ

(3)

). يقولُ: أَفَلا يعقِلُ هؤلاء الذين يأخُذونَ عَرَضَ هذا الأدنى على أحكامهم، ويقولون سيغفر لنا، أَنَّ ما عند الله في الدار الآخرة للمتَّقِين العادلين بين الناس في أحكامهم - خيرٌ من هذا العرضِ القليل الذي يَسْتَعْجِلونه

(4)

في الدنيا على خلافِ أمرِ الله، والقضاء بين الناس بالجورِ.

‌القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} .

واختلَفت القرأه في قراءةِ ذلك؛ فقرأه بعضُهم: (يُمْسِكُونَ). بتخفيفِ الميمِ وتسكينها، مِن: أمسَك يُمْسكُ

(5)

.

وقرأه آخرون: {يُمَسِّكُونَ} . بفتح الميمِ وتشديد السينِ، من مَسَّك يُمسِّك

(6)

.

(1)

بعده في م: "و".

(2)

ينظر ما تقدم تخريجه في 5/ 529.

(3)

في ص، م:"تعقلون".

(4)

في ص: "تستعجلونه".

(5)

وهى قراءة أبى بكر عن عاصم. السبعة ص 297.

(6)

وهى قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم. ينظر السابق.

ص: 541

[ومعنى ذلك]

(1)

: والذين يعملونَ بما في كتابِ الله، وأقاموا الصلاةَ بحدودِها، ولم يضيِّعوا أوقاتَها، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}. يقول تعالى ذكرُه: فمن فعَل ذلك مِن خلقِى، فإني لا أُضيعُ أجر عمله الصالح.

كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} . قال: كتاب الله الذي جاءَ به موسى صلى الله عليه وسلم

(2)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} : من يهودَ أو نصارى، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}

(3)

.

‌القول في تأويل قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} .

يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ يا محمد إذ اقتلعنا الجبلَ فرفَعناه فوقَ بني إسرائيلَ كأنه ظلَّةُ غمامٍ من الظلالِ

(4)

، وقلنا لهم:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} من فرائِضنا، وألزَمْناكم من أحكامِ كتابِنا، فاقبَلُوه، واعمَلُوا باجتهادٍ منكم في أدائِه من غير تقصيرٍ ولا توانٍ، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ}. يقول: ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. يقولُ: كَيْ تتَّقوا ربَّكم، فتخافوا عقابه، بترككم العملَ به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المواثيق.

(1)

في م: "ويعنى بذلك"، وفى ت 1، ت 2 ت 3، س، ف:"ويعني ذلك".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1609 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.

(3)

تفسير مجاهد ص 346، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1609، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 40 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبى الشيخ وابن المنذر.

(4)

في م: "الظلام".

ص: 542

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} : فقال لهم موسى: خُذوا ما [آتاكم الله]

(1)

بقوةٍ. يقولُ

(2)

: العمل بالكتابِ، وإلَّا خَرَّ عليكم الجبلُ فأَهلَكَكم. فقالوا: بل نأخذ ما آتانا الله بقوّةٍ. ثم نكَثوا بعد ذلك

(3)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} : فهو قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء: 154]. فقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} وإلّا أرسلْتُه عليكم

(4)

.

حدَّثني إسحاقُ بن شاهينٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، عن داودَ، عن عامرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إنى لأعْلَمُ خلقِ اللَّهِ لأى شيءٍ سجَدتِ اليهود على حرفِ وجوههم، لمَّا رُفِع الجبل فوقهم سجَدُوا وجعلوا ينظرون إلى الجبل؛ مخافة أن يقعَ عليهم. قال: فكانت سجدَةً رَضِيَها الله، فاتَّخَذُوها سنةً

(5)

.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا دواد، عن عامر، عن

(1)

في م: "أتيناكم".

(2)

بعده في م: "من".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1612 عن محمد بن سعد به مقتصرا على قوله: "العمل بالكتاب".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1610 من طريق أبي صالح به مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 140 إلى ابن المنذر.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1611 من طريق داود به بزيادة ستأتى في تفسير الآية 16 من سورة مريم، وبهذه الزيادة عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 140 إلى أبى الشيخ، وفى 4/ 264 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

ص: 543

ابن عباسٍ مثلَه.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي: بجِدٍّ، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، جبلٌ نزَعه الله من أصلِه، ثم جعله فوق رءوسهم، فقال: لتأخُذُنَّ أَمْرِى، أو لأرمينَّكم به

(1)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ: قال مجاهدٌ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ} . قال: كما تُنتقُ الزُّبْدَةُ

(2)

. قال ابن جريج: كانوا أَبَوا التوراة أن يقبَلوها أو يؤمنوا بها، {خُذُوا مَا آتيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}. قال: يقولُ: لَتَؤْمِنُنَّ بالتوراةِ ولتقبلُنَّها، أو لَيقَعنَّ عليكم

(3)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكر بن عبدِ اللهِ، قال: هذا كتابُ اللهِ، أتقبلونَه بما فيه، فإنّ فيه بيانَ ما أَحَلَّ لكم، وما حَرَّم عليكم، وما أمرَكم وما نهاكم. قالوا: انْشُرْ علينا ما فيها، فإن كانت فرائضُها يسيرةً، وحدودها خفيفةً قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لا حتى نعلم ما فيها كيفَ حدودُها وفرائضُها. فراجعوا موسى مرارًا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع، فارتفع في السماءِ حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماءِ، قال لهم موسى: ألا تروْنَ ما يقولُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1612 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 140 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ. وينظر ما تقدم في 2/ 49.

(2)

في م: "الربذة"، ونتق السقاء والجراب وغيرها من الأوعية نتقا: إذا نفضه ليقتلع منه زبدته. اللسان (ن ت ق).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1610 من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 140 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ بلفظ: كما تنتق الزبدة أخرجنا الجبل.

ص: 544

ربِّي: لئن لم تَقْبَلُوا التوراةَ بما فيها لأرمينكم بهذا الجبلِ. قال: فحدثني الحسنُ البصريُّ، قال: لما نظَرُوا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسرِ، ونظَرَ بعينه اليمنى إلى الجبل، فَرَقًا من أن يسقطَ عليه. فلذلك ليس في الأرض يهوديٌّ يسجُدُ إلا على حاجِبِه الأيسرِ، يقولون: هذه السَّجْدة التي رفعت عنا بها العقوبة. قال أبو بكر: فلما نشَر الألواحَ فيها كتابُ اللهِ كتبه بيدِه، لم يَبْقَ على وجه الأرضِ جبلٌ ولا شجرٌ ولا حجر إلا اهتزَّ، فليس اليومَ يهوديٌّ على وجه الأرض صغيرٌ ولا كبيرٌ تُقرأُ عليه التوراة إلَّا اهتزَّ ونغَض

(1)

لها رأسه

(2)

.

واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: {نَتَقْنَا} ؛ فقال بعضُ البصريين

(3)

: معنى {نَتَقْنَا} : رَفعْنا. واستَشهَد بقول العجَّاجِ

(4)

:

يَنْتُقُ أَقْتَادَ

(5)

الشَّلِيلِ

(6)

نَتْقا

وقال: يعنى بقوله: ينْتُقُ: يرفعُها عن ظهرِه.

وبقول الآخرِ

(7)

.

وَنَتَقُوا أحلامنا الأثاقِلا

وقد حُكى عن قائل هذه المقالة قولٌ آخرُ، وهو أن أصل النَّتْقِ والنُّتُوقِ،

(1)

في س: "نفض"، وفى ف:"نقص"، وغير منقوطة في ص، والنغض والنفض بمعنى التحريك. ينظر اللسان (ن غ ض، ن ف ض).

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 499 عن سنيد بن داود به.

(3)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 232.

(4)

ديوانه ص 72.

(5)

في الديوان: "رحلى". والأقتاد، جمع قَتَد، وهو خشب الرحل، وقيل: من أدوات الرحل، وقيل: جميع أداته. اللسان (ق ت د).

(6)

الشليل: مسح من صوف أو شعر يجعل على عجز البعير من وراء الرحل. اللسان (ش ل ل).

(7)

هو رؤبة بن العجاج، والبيت في ديوانه ص 122.

ص: 545

كلُّ شيءٍ قَلَعْتَه مِن موضعِه فرَميتَ به، يقالُ منه: نَتَقْتُ نَتْقًا. قال: ولهذا قيل للمرأةِ [الكثيرة الولد]

(1)

: ناتِقٌ؛ لأنها ترمِى بأولادِها رمْيًا. واستَشهدَ ببيت النابغةِ:

لَم يُحْرَمُوا حُسْنَ الغِذَاءِ وأُمُّهُمْ

دَحَقَّتْ

(2)

عَلَيْكَ بِناتقٍ مِذْكارِ

وقال آخرُ منهم

(3)

: معناهُ في هذا الموضعِ: رفَعناه. وقال: قالوا: نتقَنى السَّيرُ: حركني. وقال: قالوا: ما نتَق برجلِه: لا يركضُ والنَّتقُ: نَتْقُ الدابةِ صاحبَها

(4)

حينَ تعدُو به وتُتعبُه حتى يربو

(5)

. فذلك النَّتْقُ والنُّتُوقُ، ونَتَقَتْنِي الدابةُ، ونتقتِ المرأةُ تَنتُقُ نُتوقًا: كثُر ولدُها.

وقال بعضُ الكوفيين

(6)

: {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} : علقنا الجبلَ فوقَهم فرفعناه، نَنْتُقُه نَتْقًا، وامرأَةٌ مِنْتاقٌ: كثيرةُ الولدِ. قال: وسمِعتُ: أخَذ الجرابَ فنَتَقَ ما فيه: إذا نثَر ما فيه.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذْكُر يا محمدُ ربَّك إذ استَخرَج ولد آدمَ من أصلابِ آبائِهم، فقَرَّرهم بتوحيده، وأشهدَ بعضَهم على بعضٍ شهادتَهم بذلك

(1)

في النسخ: "الكبيرة". والمثبت هو الصواب، وينظر اللسان (ن ت ق).

(2)

في الديوان: "طفحت"، وأشار محققه إلى روايتنا هذه، ودحقت: ولدت بعض أولادها في إثر بعض. اللسان (د ح ق).

(3)

سقط من: م.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"صاحبه".

(5)

ربا يربو ربوًا، أخذه الربو، وهو النفَس العالى. اللسان (ر ب و).

(6)

ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 399.

ص: 546

وإقرارَهم به.

كما حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطُوسِيُّ، قال: ثنا الحسينُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا جريرُ بنُ حازمٍ، عن كُلْثومِ بن جَبْرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أخَذ اللَّهُ الميثاقَ مِن ظَهْرِ آدمَ بنَعْمانَ - يعنى عرفةَ - فأخرَج مِن صُلْبه كلَّ ذريةٍ ذَرأها، فنثَرَهم بينَ يديه كالذَّرِّ، ثم كلَّمَهم قِبَلًا

(1)

فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} . الآية إلى: {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} "

(2)

.

حدَّثنا عِمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا كُلثومُ بنُ جبرٍ، قال: سألتُ سعيدَ بنَ جُبيرٍ عن قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

(3)

}. قال: سألتُ عنها ابنَ عباسٍ، فقال: مسَح ربُّك ظهرَ آدمَ، فخرَجت كلُّ نَسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامةِ بنَعْمانَ هذه

(4)

- وأشار بيدِه - فأخَذ مواثيقَهم، وأشهدَهم على أنفسِهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}

(5)

.

(1)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"فتلا". وغير منقوطة في ص، وتقدم تفسير هذه الكلمة في 1/ 549.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 134، وأخرجه أحمد 4/ 267 (2455)، وابن أبي عاصم في السنة (202)، والنسائى في الكبرى (11191)، والطحاوى في المشكل (3889)، وابن منده في الرد على الجهمية ص 57 (29)، والحاكم 2/ 544، والبيهقى في الأسماء والصفات (714) من طريق الحسين بن محمد به، وأخرجه الحاكم 1/ 27، والبيهقى (441، 714) من طريق جرير به. وقال النسائي: كلثوم ليس بالقوى، وحديثه ليس بالمحفوظ. واختلف في رفعه ووقفه، ورجح ابن كثير الموقوف. ينظر البداية والنهاية 1/ 211، والتفسير 3/ 502. وقد أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1613 من طريق الحسين به موقوفا.

(3)

في النسخ: "ذرياتهم". وسنثبتها كرسم مصحفنا دون الإشارة إلى ما في النسخ، وينظر هذه القراءة فيما تقدم في 1/ 436.

(4)

في م: "هذا".

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 134، وأخرجه ابن سعد 1/ 29، والفريابي في القدر (59) من طريق كلثوم بن جبر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ وابن المنذر.

ص: 547

حدَّثنا ابن وكيعٍ ويعقوبُ قالا: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا كُلثومُ بنُ جَبرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . قال: مسَح ربُّك ظهرَ آدمَ، فخرَجتْ كلُّ نسَمَةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة بنَعْمانَ هذا الذي وراءَ عرفةَ، وأخَذ ميثاقَهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}

(1)

. اللفظُ الحديث يعقوبَ.

وحدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال ربيعةُ بنُ كُلثومٍ، عن أبيه في هذا الحديثِ: (قالوا بلى شَهِدْنا أَنْ يَقُولُوا

(2)

يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عن هذا غافِلِينَ)

(3)

.

حدَّثنا عمرٌو، قال: ثنا عِمرانُ بنُ عُيَيْنةَ، قال: أخبَرنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أوَّلُ ما أهبط اللَّهُ آدمَ أَهْبَطه بدَحْناءَ

(4)

أَرضٌ بالهند، فمسَح الله ظهرَه، فأَخرَجَ منه كلَّ نَسَمَةٍ هو بارئُها إلى أن تَقُومَ الساعةُ، ثم أخَذ عليهم الميثاقَ وأَشْهَدَهم على أَنْفُسِهِم:(أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدْنا أَن يَقُولُوا (2) يومَ القِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عن هذا غافِلِينَ)

(5)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمرانُ بنُ عُيَيْنة، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أُهبط آدمُ حينَ أُهبطَ، فمسَح اللَّهُ ظهرَه، فَأَخْرَج منه كلَّ نَسَمَةٍ هو خالقُها إلى يومِ القيامةِ، ثم قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ثم تلا:

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 134. وأخرجه ابن سعد 1/ 29 عن ابن علية به.

(2)

في م، وطبقات ابن سعد:"تقولوا". وفى الدر المنثور في آخر الأثر: هكذا قرأها: يقولوا؛ بالياء. وهى قراءة أبي عمرو، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 298، وسيأتي كلام المصنف على هاتين القراءتين في ص 565.

(3)

أخرجه ابن سعد 1/ 29 عن ابن علية به، وأخرجه الفريابي في القدر (60) من طريق ربيعة بن كلثوم به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

(4)

في م: "بدجني". وغير واضحة في ت 1، ت 2، س، ف. وينظر الأوائل للسيوطى ص 18.

(5)

أخرجه ابن سعد 1/ 29 من طريق عطاء به.

ص: 548

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . فجفّ القلمُ من يومئذٍ بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ

(1)

.

حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن حبيبِ بن أبى ثابتٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. قال: لما خلَق الله آدمَ، أخَذ ذرِّيَّتَه من ظهرِه مثلَ الذَّرِّ، فقبَضَ قَبضتين، فقال لأصحاب اليمين: ادْخُلُوا الجنةَ بسلامٍ. وقال للآخَرين: ادْخُلوا النارَ ولا أُبالى

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن الأعمشِ، عن حبيبٍ، عن ابن عباسٍ، قال: مسَح الله ظهَر آدمَ، فَأَخرَجَ كلَّ طيِّبٍ في يمينِه، وأخرَج كلَّ خبيثٍ في الأُخرى.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن شَريكٍ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: مسَح الله

(3)

ظهرَ آدمَ، فاستَخرجَ منه كلُّ نَسَمة هو خالقُها إلى يوم القيامة.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبي قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ، عن ابن عباسٍ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: لما خلق الله آدمَ مسَح ظهرَه بدَحْناء

(4)

، وأخرَجَ من ظهرِه كلَّ نَسمةٍ هو خالقُها

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 134، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 135، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (876)، ومن طريقه ابن منده في الرد على الجهمية (34)، والفريابي في القدر (56)، والآجرى في الشريعة (441)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1613 من طريق الأعمش.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، ف:"على"، وفى س:"الله على".

(4)

في م: "بدجنى".

ص: 549

إلى يوم القيامة، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . قال: فَيُرَوْنَ يومَئِذٍ جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن المسعودِيِّ، عن عليّ بن بَذِيمةَ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما خلق الله آدم عليه السلام أخَذ ميثاقَه، فمسَح ظهرَه، فأَخَذ ذرِّيَّتَه كهيئةِ الذَّرِّ، فكتَب آجالَهم وأرزاقَهم ومصائبَهم، وأشَهدهم على أنفسِهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .

قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن المسعودِيِّ، عن عليِّ بن بَذِيمةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. قال: لما خلَقَ الله آدمَ، أخَذَ ميثاقَه أنه رَبُّه، وكتَبَ أجلَه ومصائبَه، واستَخرَج ذريتَه كالذَّرِّ، وأخَذ ميثاقَهم، وكتَب آجالَهم وأرزاقَهم ومصائِبَهم

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن ربيعةَ بن كُلثوم، عن أبيه، عن سعيد جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . قال: مسَح اللَّهُ ظهرَ آدمَ عليه السلام وهو ببطنِ نَعْمانَ، وادٍ إلى جنب

(3)

عرفَةَ، وأَخْرَج ذريتَه من ظهرِه كهيئةِ الذَّرِّ، ثم أَشْهَدهم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} .

قال: ثنا أبي، عن أبي هلالٍ، عن أبي جَمْرَةَ

(4)

الضُّبَعيِّ، عن ابن عباسٍ، قال:

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 136.

(2)

أخرجه الفريابي في القدر (57)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1613 من طريق المسعودى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

في س: "بطن".

(4)

في م: "حمزة"، وينظر تهذيب الكمال 29/ 363.

ص: 550

أَخْرج الله ذرية آدمَ عليه السلام من ظهرِه كهيئةِ الذَّرِّ، وهو في آذيٍّ

(1)

من الماء

(2)

.

حدَّثني عليُّ بن سهلٍ، قال: ثنا ضَمْرةُ بنُ رَبيعةَ، قال: ثنا أبو مسعودٍ، عن جُويبرٍ، قال: مات ابنٌ للضحاكِ بن مُزاحمٍ، ابنَ ستةِ أيامٍ. قال: فقال: يا جابرُ، إذا أنت وضَعتَ ابنى في لَحْدِه، فأَبْرِزْ وجهَه، وحُلَّ عنه عُقَدَه، فإن ابني مُجْلَسٌ ومسئولٌ. ففعلتُ به الذي أمَرنى، فلما فرَغتُ قلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، عمّ يُسْئَلُ ابنُكَ؟ [من يَسْأَلُه إياه]

(3)

؟ قال: يُسئلُ عن الميثاقِ الذي أقرَّ به في صُلب آدم عليه السلام. قلتُ: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاقُ الذي أقرَّ به في صُلبِ آدم؟ قال: ثني ابن عباسٍ أنَّ الله مسَح صُلْبَ آدمَ، فاستَخرَج منه كلَّ نَسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة، وأخَذ منهم الميثاق أن يَعْبُدوه ولا يُشْرِكوا به شيئًا، [وتَكَفَّلَ لهم بالأرزاقِ، ثم أعادهم في صلبه]

(4)

، [فلن تَقُومَ الساعةُ]

(5)

حتى يُولَدَ من أعطَى الميثاقَ يومَئذٍ، فمن أدركَ منهم الميثاقَ الآخِرَ فوفَى به، نفَعَه الميثاقُ الأولُ، ومن أدرَك الميثاقَ الآخِرَ فلم يَفِ به، لم يَنْفَعُه الميثاقُ الأولُ، ومن مات صغيرًا قبل أن يُدْركَ الميثاق الآخر، ماتَ على الميثاقِ الأول على الفطرة

(6)

.

حدَّثني يونسُ بنُ عبد الأعلَى، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني السَّرِيُّ بن يَحيى، أن الحسنَ بن أبي الحسنِ حدثهم، عن الأسودِ بنَ سَريعٍ، من بنى سعدٍ، قال: غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعَ غَزَواتٍ. قال: فتناول القومُ الذُّرِّيَّةَ بعد ما

(1)

الآذى: الموج الشديد. النهاية 1/ 34.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1613، وابن منده في الرد على الجهمية ص 60 (31) من طريق أبي هلال به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى عبد بن حميد وأبي الشيخ.

(3)

سقط من: م.

(4)

سقط من: النسخ. والمثبت من تفسير ابن كثير.

(5)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 502 عن المصنف.

ص: 551

قَتَلوا المقاتِلةَ، فبلَغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشَتدَّ عليه، ثم قال:"ما بالُ أقوام يَتَناوَلون الذُّرِّيةَ؟ " فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أليسوا أبناءَ المشركين؟ فقال: "إنَّ خيارَكم أبناءُ

(1)

المشركين، ألا إنَّها ليست نَسَمَةٌ تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ على الفِطْرَةِ، فما تَزالُ عليها حتى يَبينَ عنها لسانُها، فأبَوَاها يُهَوِّدانها أو يُنَصِّرانِها". قال الحسنُ: لقد قال الله ذلك في كتابه، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}

(2)

.

حدَّثنا عبدُ الرحمن بنُ الوليدِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ أبى طَيْبَةَ

(3)

، عن سفيانَ بن

(4)

سعيدٍ، عن الأَجْلَحِ، عن الضحاكِ، وعن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ اللهِ بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: أُخذوا من ظهرِه كما يُؤْخَذُ بالمُشْطِ من الرأسِ، فقال لهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} قالت الملائكةُ: (شهدْنا أن يَقولوا

(5)

يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) "

(6)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن

(1)

في م: "أولاد".

(2)

أخرجه الطحاوى في المشكل (1395) عن يونس به. وأخرجه أحمد 26/ 231 (16303)، والبخارى في الكبير 1/ 445، وفى الصغير 1/ 114، والطحاوى (1394)، وابن حبان (132)، والطبراني في الكبير (827) من طريق السرى بن يحيى به. وأخرجه معمر في جامعه (20090)، وابن أبي شيبة 12/ 386، وأحمد 24/ 354، 26/ 227 (15588، 16299)، والدارمي 1/ 223، والنسائي في الكبرى (8616)، وأبو يعلى (942)، والطحاوى (1396، 1397)، والطبراني في الكبير (826، 828 - 835)، وفى الأوسط (1984، 4941)، والحاكم 2/ 123، والبيهقي 9/ 77، 130، والحازمي في الاعتبار ص 213 من طرق عن الحسن به مطولا ومختصرا.

(3)

في م: "ظبية". وينظر تهذيب الكمال 1/ 359.

(4)

في النسخ: "عن". والمثبت كما في الإسناد بعده، وسفيان بن سعيد هو الثورى.

(5)

في م: "تقولوا".

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 502 عن المصنف.

ص: 552

مجاهدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: أخَذَهم

(1)

كما يَأْخُذُ المُشطُ من الرأسِ

(2)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ وابنُ حُمَيْدٍ، قالا: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن عمرٍو:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: أخَذهم كما يَأْخُذُ

(3)

المُشطُ من الرأس. قال ابن حُمَيْدٍ: كما يُؤْخَذُ بالمُشطِ

(4)

.

حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجوهريُّ، قال: ثنا روحُ بنُ عُبادةَ وسعدُ بنُ عبدِ الحميد بن جعفرٍ، عن مالكِ بن أنسٍ، عن زيدِ بن أبي أُنَيْسَةَ، عن عبدِ الحميدِ بن عبد الرحمن بن زيدِ بن الخطابِ، عن مسلمِ بن يسارٍ الجُهَنيِّ، أن عمرَ بنَ الخطابِ سُئل عن هذه الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} فقال عمرُ: سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنَّ الله خلق آدمَ ثم مسَح على

(5)

ظهره بيمينِه، فاستَخرَج منه ذرِّيَّةً، فقال: خلَقتُ هؤلاء للجنةِ، وبعملِ أهلِ الجنةِ يَعْمَلون. ثم مسَح ظهرَه فاستَخرَج منه ذرِّيَّةً، فقال: خلَقتُ هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يَعْمَلون". فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ فَفيم العملُ؟ قال: "إن الله إذا خلَق العبدَ للجنةِ استَعمَله بعملِ أهلِ الجنة، حتى يَمُوتَ على عملٍ مِن عملِ أهل الجنةِ فيُدْخِلَه الجنةَ، وإذا خلَق العبد للنارِ استَعمَله بعملِ أهلِ النارِ، حتى يَمُوتَ على عملِ من عملِ أهلِ النارِ فيُدْخِلَه النارَ"

(6)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أخذ".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1613، واللالكائى في شرح أصول الاعتقاد (993) من طريق سفيان به نحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يؤخذ".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"المشط".

(5)

سقط من: م.

(6)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 135. وأخرجه مالك 2/ 898، ومن طريقه أحمد 1/ 399 (311)، =

ص: 553

حدَّثنا إبراهيمُ، قال: ثنا محمدُ بنُ المُصَفَّى، عن بَقِيةَ، عن عُمَرَ

(1)

بن جُعْثُمٍ

(2)

القرشيِّ، قال ثني زيدُ بن أبي أُنَيْسَةَ، عن عبد الحميدِ بن عبد الرحمنِ، عن مسلمِ بن يسارٍ، عَن نُعَيْمِ بن ربيعةَ، عن عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه

(3)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن عُمارة، عن أبي محمدٍ رجلٍ من أهل المدينة، قال: سألتُ عمرَ بنَ الخطابِ عن قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عنه كما سألْتني، فقال:"خلَق الله آدمَ بيدِه، ونفَخ فيه من رُوحِه، ثم أجلَسَه فمسَح ظهرَه بيدِه اليمنى، فأَخْرَجَ ذَرأً، فقال: ذَرْءٌ ذَرَأْتُهم للجنة. ثم مسَح ظهرَه بيده الأخرَى، وكلتا يَدَيه يمينٌ، فقال: ذَرْءٌ ذَرَأَتُهم للنارِ، يَعْمَلُون فيما شئتُ من عملٍ، ثم أختِمُ لهم بأسوأ أعمالِهم، فأُدْخِلُهم النارَ"

(4)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن

= وأبو داود (4703)، والترمذى (3075)، والنسائى في الكبرى (11190)، وابن أبي عاصم في السنة (196)، الفريابي في القدر (27، 28)، وابن حبان (6166)، والآجرى في الشريعة (324)، وابن منده في الرد على الجهمية ص 56 (28)، والحاكم 1/ 27، 2/ 324، 544، واللالكائي (990)، والبيهقي في الأسماء والصفات (710)، والبغوى في شرح السنة (77)، وفي التفسير 3/ 297. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 142 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ، وابن مردويه.

(1)

في م: "عمرو". وينظر تهذيب الكمال 21/ 287.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"جعفر".

(3)

أخرجه أبو داود (4704) عن محمد بن المصفى به. وأخرجه البخارى في تاريخه 8/ 96، وابن أبي عاصم في السنة (201)، ومحمد بن نصر في كتاب الرد على ابن محمد بن الحنفية - كما في النكت الظراف 8/ 113 - والطحاوى في المشكل (3887، 3888)، وابن عبد البر في التمهيد 6/ 4، 5 من طريق زيد بن أبي أنيسة به.

(4)

ذكره ابن عبد البر في التمهيد 18/ 81 - معلقا - من طريق حكام به بنحوه، وأخرجه ابن منده في الرد على الجهمية (25) من طريق عمارة به.

ص: 554

ابن عباسٍ قولَه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: إِن اللَّهَ خلَق آدمَ، ثم أخرَج ذريتَه من صلبِه مثلَ الذَّرِّ، فقال لهم: من ربُّكم؟ قالوا: اللَّهُ ربُّنا. ثم أعادَهم في صلبِه، حتى يُولَدَ كلُّ مَن أخَذ ميثاقَه، لا يُزادُ فيهم ولا يُنقَصُ منهم إلى أن تَقُومَ الساعةُ

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . إلى قوله: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . قال ابن عباسٍ: إن الله لمَّا خلَق آدمَ مسَح ظهرَه، وأَخرَج ذريتَه كلَّهم كهيئةِ الذُّرِّ، فَأَنطَقَهم فتكَلَّموا، وأَشْهَدَهم على أنفسهم، وجعَل مع بعضِهم النورَ، وإنه قال لآدمَ: هؤلاء ذريتُك آخُذُ عليهم الميثاق أنى

(2)

أنا ربُّهم؛ لئلا يُشْرِكوا بى شيئًا، وعليَّ رزقُهم. قال آدمُ: فمن هذا الذي معه النورُ؟ قال: هو داودُ. قال: يا ربِّ، كم كتَبتَ له من الأجل؟ قال: ستين سنةً. قال: كم كتَبتَ لى؟ قال: ألفَ سنةٍ، وقد كتبتُ لكلِّ إنسانٍ منهم كم يُعَمَّرُ وكم يَلْبَثُ. قال: يا ربِّ، زِدْه. قال: هذا الكتابُ موضوعٌ، فأَعْطِه إن شئتَ مِن عُمرِكَ. قال: نعم. وقد جفَّ القلمُ عن أجَل سائرِ بني آدمَ، فكتَب له من أجَلِ آدمَ أربعين سنةً، فصارَ أجلُه مائةَ سنةٍ، فلمَّا عُمِّر تِسعَمائةِ سنةٍ وستينَ سنةً، جاءه ملكُ الموتِ، فلمّا رآه آدمُ، قال: ما لَكَ؟ قال له: قد استَوفَيتَ أجلَك. قال له آدمُ: إِنَّما عُمِّرْتُ تِسعَمائة سنةٍ

(3)

وستين سنةً، وبقى أربعون سنةً

(4)

. فلما قال ذلك للمَلَكِ، قال الملَكُ: قد أخبرني بها ربِّي.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1614، واللالكائى في شرح أصول الاعتقاد (992) من طريق عبد الله بن صالح به.

(2)

سقط من النسخ، والمثبت من تاريخ المصنف.

(3)

ليست في: ص، م، ت 1، ت 2، س.

(4)

بعده في م: "قال".

ص: 555

قال: فارْجِعْ إلى ربِّك فاسْأَله. فرجَع الملَكُ إلى ربِّه، فقال: ما لَكَ؟ قال: يا ربِّ، رجَعتُ إليك لِمَا كنتُ أعلمُ مِن تَكْرِمَتِكَ إيَّاه. قال الله: ارجِعْ فأَخْبِرْه أنه قد أعطَى ابنه داودَ أربعين سنةً

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن الزبير بن موسى، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إن الله تبارك وتعالى ضرَب مَنْكِبَه الأيمنَ، فخرَجتْ كلُّ نفسٍ مخلوقةٍ للجنةِ بيضاءَ نقيةً، فقال: هؤلاء أهلُ الجنةِ. ثم ضرَب مَنْكِبَه الأيسرَ، فخرَجتْ كلُّ نفسٍ مخلوقةٍ للنارِ سوداءَ، فقال: هؤلاء أهلُ النارٍ. ثم أخَذ عهودَهم على الإيمانِ والمعرفةِ له ولأمره، والتصديقِ به وبأمره، بنى آدم كلِّهم، فأَشْهَدهم على أنفسِهم، فآمَنوا وصدَّقوا، وعرَفوا وأقَرُّوا، وبلَغَنى أنه أَخرَجَهم على كفِّه أمثالَ الخَرْدَلِ. [قال ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال]

(2)

: إن الله لمَّا أخرجَهم قال: يا عبادَ الله، أجِيبُوا الله - والإجابةُ الطاعةُ - فقالوا: أَطَعنا، اللهم أطَعنا

(3)

، اللهم لبَّيك. قال: فأعطاها إبراهيم عليه السلام في المناسكِ: لبَّيك اللهم لبَّيك. وقال: ضرَب متن آدمَ حينَ خلَقه. قال: وقال ابن عباسٍ: خلق آدمَ، ثم أخرَج ذريتَه من ظهرِه مثل الذُّرِّ، فكلَّمهم، ثم أعادهم في صلبه، فليس أحدٌ إلا وقد تَكلَّم فقال: رَبِّيَ اللَّهُ. فقال: وكلُّ خَلْقٍ خَلَق [وهو]

(4)

كائنٌ إلى يوم القيامةِ، وهي الفِطرةُ التي فطَر الناسَ عليها. قال ابن جُريجٍ: قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: أخَذ الميثاقَ عليهم بنَعْمَانَ - ونَعْمانُ مِن وراءِ عرَفةَ - أن يَقُولوا يومَ القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ؛ عن الميثاق الذي أخَذ عليهم

(5)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 156.

(2)

في الرد على الجهمية: "قال مجاهد عن ابن عباس".

(3)

بعده في م، ت 1، ت 2، س، ف:"اللهم أطعنا".

(4)

في م: "فهو".

(5)

أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية (35) من طريق حجاج به دون قول سعيد بن جبير. وأخرجه =

ص: 556

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيع، عن أبي العاليةِ، عن أُبيِّ بن كعبٍ، قال: جمَعهم يومئذٍ جميعًا ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، ثم استَنْطَقهم وأخَذ عليهم الميثاقَ، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}. قال: فإني أُشْهِدُ عليكم السماوات السبعَ والأرَضِين السبعَ، وأُشْهِدُ عليكم أباكم آدم؛ أنْ تَقُولوا يوم القيامةِ: لم نَعْلَم بهذا. اعْلَموا أنه لا إلهَ غيرى، ولا ربَّ غيرِى، ولا تُشْرِكوا بي شيئًا، و

(1)

سأُرْسِلُ إليكم رسلًا يُذَكِّرُونكم عَهْدى وميثاقي، وسأُنْزِلُ عليكم كتبى. قالوا: شهِدنَا أَنَّكَ رَبُّنا وإلهُنا، لا ربَّ لنا غيرُك، ولا إلهَ لنا غيرُك. فأقَرُّوا له يومئذٍ بالطاعةِ، ورفَع عليهم أباهم آدمَ، فنظَر إليهم، فرأى منهم الغنيَّ والفقيرَ، وحَسنَ الصورة ودونَ ذلك، فقال: ربِّ، لولا ساويتَ بينَهم؟ قال: فإنى أُحِبُّ أن أُشكَر. قال: وفيهم الأنبياءُ عليهم السلام يومئذٍ مثلُ

(2)

السُّرُج، وخَصَّ الأنبياءَ بميثاقٍ آخرَ، قال الله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]. وهو الذي يقولُ تعالى ذكرُه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. وفى ذلك قال: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: 56]. يقولُ: أخَذنا ميثاقَه مع النذر الأولى. ومن

(3)

ذلك قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا

= الفريابي في القدر (58)، والآجرى في الشريعة (442) من طريق ابن جريج به إلى قوله: وأقروا. وأخرجه ابن منده (36) من طريق الحكم، عن سعيد بن جبير إلى قوله: وأقروا.

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أنا".

(2)

في م: "مثل".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"في".

ص: 557

أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. [وهو قولُه تعالى]

(1)

: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74]. قال: كان في علمِه يومَ أقرُّوا به من يُصَدِّقُ ومَن يُكَذِّبُ

(2)

.

حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في هذه الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} . قال: أَخرَجَهم من ظهرِ آدمَ، وجعَل لآدمَ عمر ألفِ سنةٍ. قال: فعُرِضوا على آدمَ، فرأى رجلًا من ذريتِه له نورٌ، فأعجَبه، فسأل عنه، فقال: هو داودُ، وقد جُعِلَ عمُرُه ستين سنةً. فجعَل له من عُمُرِهِ أربعين سنةً، فلما حُضِرَ

(3)

آدمُ جعَل يُخاصِمُهم في الأربعين سنةً، فقيل له: إنك أعطيتها داود. قال: فجعَل يُخاصِمُهم

(4)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: أَخْرَجَ ذُرِّيَّته من ظهره [في صورة]

(5)

كهيئةِ الذَّرِّ، فعرَضَهم على آدمَ بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم وآجالهم.

(1)

سقط من: النسخ، والمثبت من مصادر التخريج.

(2)

أخرجه الفريابي في القدر (52)، والآجرى في الشريعة (435)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1615، والحاكم 2/ 323، واللالكائى في شرح أصول الاعتقاد (991)، والبيهقى في الأسماء والصفات (785)، وابن عبد البر في التمهيد 18/ 91 من طريق أبي جعفر به.

وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند 5/ 135 (الميمنية)، والفريابي في القدر (53)، وابن منده في الرد على الجهمية ص 59، 62 (30، 33)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 7/ 396 من طريق الربيع به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 142 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ وابن مردويه. وتقدم في ص 337 مختصرا.

(3)

في م: "احتضر". وكلاهما بمعنى. ينظر اللسان (ح ض ر).

(4)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 157.

(5)

سقط من: م.

ص: 558

قال: فعرَض عليهِ رُوحَ داودَ في نورٍ ساطعٍ، فقال: من هذا؟ قال: هذا مِن ذُرِّيَّتِك

(1)

، نبيٌّ خليفةٌ

(2)

. قال: كم عمرُه؟ قال: ستون سنةً. قال: زيدوه من عمرى أربعين سنةً. قال: والأقلامُ رَطْبةٌ تَجْرى، فأُثبتَتْ لداودَ الأربعون، وكان عمُرُ آدم ألفَ سنةٍ، فلمَّا استَكمَلها الأربعينَ سنةً، بُعِثَ إليه ملَكُ الموتِ، فقال: يا آدمُ، أُمِرْتُ أن أَقْبِضُك. قال: ألم يَبْقَ من عُمرى أربعون سنةً؟ قال: فرجَع ملَكُ الموتِ إلى ربِّه، فقال: إن آدمَ يَدَّعِي من عمرِه أربعين سنةً. قال: أخبر آدمَ أنه جعَلها لابنه داودَ والأقلامُ رَطْبَةٌ، فأُثْبِتَت لداودَ

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو داودَ، عن يعقوبَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ بنحوِه.

قال: ثنا ابن فُضَيل وابنُ نُميرٍ، عن عبد الملكِ، عن عطاءٍ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: أَخرَجَهم من ظهرِ آدمَ حتى أخَذ عليهم الميثاقَ، ثم رَدَّهم في صُلبه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نُميرٍ، عن نَضْرِ بن عَربيٍّ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: أخرَجهم من ظهرِ آدمَ حتى أخَذ عليهم الميثاقَ، ثم ردَّهم في صُلبه.

قال: ثنا محمدُ بنُ عُبيدٍ، عن أبي بسطامَ، عن الضحاكِ، قال: حيثُ ذرَأَ اللَّهُ خلقَه لآدمَ. قال: خلَقهم وأشهَدهم على أنفسِهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .

حُدِّثت عن الحسين بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدٌ، قال:

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ذريته".

(2)

في ص، وتاريخ المصنف:"خلقته".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 158.

ص: 559

سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال: قال ابن عباسٍ: خلق الله آدمَ، ثم أَخْرَجَ ذُرِّيَّته من ظهرِه، فكَلَّمهم الله وأنطَقهم، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . ثم أعادَهم في صُلبِه، فليس أحدٌ من الخلقِ إِلَّا قد تكلَّم فقال: ربِّيَ اللهُ. وإنّ القيامة لن تَقُومَ حتى يُولَدَ من كان يومئذٍ أَشْهَدَ على نفسه.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ طلحةَ، عن أسباطَ، عن السُّدِّيِّ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . وذلك حين يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]. وذلك حينَ يقولُ: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]. يعنى: يومَ أخَذ منهم الميثاق ثم عرَضَهم على آدم عليه السلام

(1)

.

قال: ثنا عمرٌو، عن أسباطَ، عن السُّدِّيِّ، قال: أَخرَج الله آدم من الجنةِ، ولم يَهْبِطْ من السماءِ، ثم مسَح

(2)

صَفْحةَ ظهرِه اليُمنى، فَأَخْرَج منه ذرَّيةً [كهيئةِ الذَّرِّ أبيضَ مثل اللُّؤْلُو]

(3)

، فقال لهم: ادْخُلوا الجنة برحمتى. ومسَح صفحةَ ظهرِه اليسرى، فأخرَج منه [كهيئةِ الذَّرِّ سُودًا]

(4)

، فقال: ادْخُلُوا النار ولا أُبالى. فذلك حينَ يقولُ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} ، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 27، 41]. ثم أخَذ منهم الميثاقَ، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . فأعطاه

(5)

طائفةٌ

(1)

أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 18/ 85 من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدى بإسناده المعروف مطولا.

(2)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ظهر آدم".

(3)

في م: "بيضاء مثلى اللؤلؤ كهيئة الذر".

(4)

في م: "ذرية سوداء كهيئة الذر".

(5)

في م: "فأطاعه".

ص: 560

طائعين، وطائفةً كارهين على وجهِ التَّقِيَّةِ

(1)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عَمْرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ بنحوهِ، وزاد فيه بعدَ قولِه: وطائفةً على وجهِ التَّقِيَّةِ: فقال هو والملائكةُ: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا

(2)

يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا

(2)

إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}. فلذلك ليس في الأرضِ أحدٌ من ولد آدمَ إلا وهو يَعْرِفُ أن ربَّه الله، ولا مشركٌ إلا وهو يقولُ لابنه:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ} [الزخرف: 22]. وذلك حينَ يقولُ اللَّهُ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . وذلك حين يقولُ {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]. وذلك حينَ يقولُ: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]. يعني: يومَ أخَذ منهم الميثاقَ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن الكَلْبيِّ:{مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: مسَح الله على صُلْبِ آدم، فأخرَج من صُلْبِه من ذريتِه ما يكونُ إلى يوم القيامةِ، وأخَذ ميثاقَهم أنه ربُّهم، فأَعْطَوْه ذلك، ولا تَسْألُ

(4)

[أحدًا؛ كافرًا]

(5)

ولا غيرَه: مَنْ ربُّك؟ إلا قال: الله. وقال الحسنُ مثل ذلك أيضًا

(6)

.

(1)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 136، وهو جزء من الأثر السابق.

(2)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"يقولوا"، وغير منقوطة في ص، وبالياء قراءة تقدم تخريجها في ص 548.

(3)

تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.

(4)

في م، ت 1، ت 2، س، ف:"يسأل"، وغير منقوطة في ص.

(5)

في م: "أحد كافر".

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 242 عن معمر، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قوله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى ابن المنذر من قول ابن عباس.

ص: 561

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ غياثٍ، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن عليّ بن حُسينٍ أنه كان يَعزِلُ

(1)

ويتأوّلُ هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}

(2)

.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا موسى بنُ عُبيدةَ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرظيِّ في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: أقرَّتِ الأرواحُ قبلَ أنْ تُخْلَقَ أجسادُها

(3)

.

حدَّثنا أحمدُ بنُ الفرج الحِمْصِيُّ، قال: ثنا بَقِيَّةُ بنُ الوليد، قال: ثني الزُّبَيديُّ، عن راشدِ بن سعدٍ، عن عبد الرحمنِ بن قتادةَ النَّصْرِيِّ

(4)

، عن أبيه، عن هشامِ بن حكيمٍ، أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أَتَبْدَأَ

(5)

الأعمالُ أم قد قُضِيَ القضاءُ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله أخذ ذريةَ آدم من ظهورهم، ثم أشْهَدَهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كَفَّيْه، ثم قال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار. فأهلُ الجنةِ مُيَسَّرون لعمل أهل الجنةِ، وأهلُ النارِ مُيَسَّرون لعملِ أهلِ النارِ"

(6)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يقول". وأثبتت في: م. من الدر المنثور، وهى كذلك أيضا في مصنف ابن أبي شيبة.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 218 عن حفص به.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 115، وابن عبد البر في التمهيد 18/ 80 من طريق موسى بن عبيدة به بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 141 إلى أبى الشيخ.

(4)

في م: "النضرى"، وفى ت 1، ت 2، س، ف:"البصرى"، وينظر الإكمال 1/ 390.

(5)

في م: "ابتدأ".

(6)

أخرجه البخارى في التاريخ الكبير 8/ 191، 192، والبزار (2140 - كشف) عن أحمد بن الفرج به. وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده - كما في المطالب العالية (3253) - ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (711) - والبخارى في الكبير 5/ 341، 8/ 191، والطبرانى في الكبير 22/ 169 (435) من طريق بقية به. =

ص: 562

حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ الطائيُّ، قال: ثنا حَيْوَةُ ويزيدُ، قالا: ثنا بَقِيَّةُ، عن الزُّبَيْديِّ، عن راشدِ بن سعدٍ، عن عبدِ الرحمن بن قتادةَ النَّصْرِيِّ، عن أبيه، عن هشامِ بن حكيمٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثله.

حدَّثني [عبد الله بنُ]

(1)

أحمدَ بن شَبُّويَه، قال: ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا عمرُو بنُ الحارثِ، قال: ثنا عبدُ الله بنُ سالمٍ

(2)

، عن الزبيدي، قال: ثنا راشدُ بنُ سعدٍ، أن عبدَ الرحمنِ بنَ قتادةَ، حدثه، أن أباه حدثه أن هشامَ بنَ حكيمٍ حدثه، أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ. فذكر مثله

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عوفٍ، قال: ثني أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن راشد بن سعدٍ، عن عبد الرحمنِ بن قتادةَ، عن هشامِ بن حكيمٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه

(4)

.

واختُلِفَ في قوله: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ؛ فقال السُّدِّيُّ: هو خبرٌ من الله عن نفسِه وملائكتِه أنه جلَّ ثناؤُه

= وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (168)، والفريابي في القدر (22، 23)، والآجرى في الشريعة (330)، والبيهقى في الأسماء والصفات (712) من طريق بقية به، وعندهم: عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم. وينظر تعجيل المنفعة 1/ 809، والإصابة 4/ 352.

(1)

سقط من النسخ، والمثبت مما تقدم في 2/ 499.

(2)

في النسخ: "مسلم". والمثبت من مصدرى التخريج. وينظر تهذيب الكمال 14/ 549.

(3)

أخرجه البخارى في الكبير 5/ 341 عن إسحاق بن إبراهيم به. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (169) من طريق عبد الله بن سالم به.

(4)

أخرجه الفريابي في القدر (24)، والطبراني في الكبير 22/ 168 (434)، وابن منده في الرد على الجهمية (54) من طريق أبي صالح به وأخرجه ابن سعد 1/ 30، 7/ 417، وأحمد 29/ 206 (17660)، والفريابي في القدر (25، 26)، وابن قانع في معجم الصحابة 2/ 159، وابن حبان (338)، والحاكم 1/ 31 من طريق معاوية بن صالح، وليس فيه: هشام بن حكيم.

ص: 563

قال هو وملائكتُه، إذ أَقَرَّ بنو آدمَ بربوبيتِه حينَ قال

(1)

لهم: ألستُ بربِّكم؟ فقالوا: بلى.

فتأويلُ الكلامِ على هذا التأويل: وإذ أخَذ ربُّك من بنى آدمَ من ظُهورِهم ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدهم على أنفسِهم: ألستُ بربِّكم؟ قالوا: بلى. فقال الله وملائكتُه: شَهِدنا عليكم بإقرارِكم بأن الله ربُّكم؛ كَيْلا تَقُولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.

وقد ذَكَرتُ الرواية عنه بذلك فيما مضَى، والخبرَ الآخر الذي رُوِى عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك

(2)

.

وقال آخرون: ذلك خبرٌ من الله عن قيل بعض بني آدمَ لبعضٍ حينَ أَشْهَدَ اللَّهُ بعضَهم على بعضٍ. وقالوا: معنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} : وأَشْهَدَ بعضَهم على بعضٍ بإقرارِهم بذلك. وقد ذَكَرتُ الرواية بذلك أيضًا عمَّن قاله قبلُ.

قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى القولين في ذلك بالصوابِ ما رُوى عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كان صحيحًا، ولا أعلمُه صحيحًا؛ لأن الثِّقاتِ الذين يُعْتَمَدُ على حفظِهم وإتقانهم حدَّثوا بهذا الحديثِ عن الثوريِّ فوَقَفُوه على عبدِ اللهِ بن عمرٍو ولم يَرْفَعوه، ولم يَذْكُروا في الحديث هذا الحرفَ الذي ذكَره أحمدُ بنُ أَبي طَيْبة

(3)

عنه. وإن لم يَكُنْ ذلك عنه صحيحًا، فالظاهرُ يَدُلُّ على أنه يَدُلُّ على أنه خبرٌ من الله عن قيل بني آدمَ بعضِهم لبعضٍ؛ لأنه جلَّ ثناؤُه قال:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . فكأنه قيل: فقال الذين شَهِدوا على المُقِرِّين حينَ أَقَرُّوا فقالوا:

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"قيل".

(2)

تقدم أثر السدى في ص 561، وحديث عبد الله بن عمرو تقدم في ص 552، 553.

(3)

في م: "ظبية".

ص: 564

{بَلَى} . شَهِدنا عليكم بما أَقْرَرْتم به على أنفسكم؛ كيلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.

‌القول في تأويل قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: شَهِدنا عليكم أيها المقرُّون بأن الله ربكم؛ كيْلَا تَقُولوا يوم القيامةِ: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} : إنا كنا لا نَعْلَمُ ذلك، وكنا في غفلةٍ منه، {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} . اتَّبَعْنا منهاجَهم، {أَفَتُهْلِكُنَا} بإشراكِ مَن أَشرَك بك

(1)

من آبائنا، واتباعِنا منهاجَهم على جهلٍ منا بالحقِّ.

و يعنى بقوله: {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} : بما فعل الذين أَبْطَلوا في دَعْواهم إلهًا غير الله.

واختلفتِ القَرَأَةُ في قراءة ذلك؛ فقرأه بعضُ المكِّيين والبَصْريِّين: (أَنْ يَقُولُوا). بالياء، بمعنى: شهدنا لِئلَّ

(2)

يَقُولُوا. على وجه الخبر عن الغَيبِ.

وقرأ ذلك عامَّةُ قَرَأةِ أهل المدينةِ والكُوفَةِ: {أَن تَقُولُوا} . بالتاء، على وجهِ الخطابِ من الشهودِ للمشهودِ عليهم

(3)

.

والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان صحيحتًا المعنى، مُتّفقتا التأويل، وإن اختلفت ألفاظُهما؛ لأنّ العربَ تَفْعَلُ ذلك في الحكاية، كما قال اللهُ:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} ، و (لَيُبَيِّنُنَّه) [آل عمران: 187]. وقد بَيَّنَّا نظائرَ ذلك فيما مضَى

(1)

سقط من: م.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ألا".

(3)

تقدم تخريج هاتين القراءتين في ص 548.

ص: 565

بما أغنى عن إعادتِه

(1)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} .

يقول تعالى ذكره: وكما فصّلنا يا محمد لقومك آيات هذه السورة، وبيَّنا فيها ما فعَلنا بالأمم السالفة قبل قومك، وأحْللنا بهم من المثلاتِ بكفرهم، وإشراكهم في عِبادتي غيرى، كذلك نُفَصِّلُ الآياتِ، غيرها، ونُبيِّنُها لقومِك، لينزَجروا ويَرْتَدِعوا، فيُنيبُوا إلى طاعتى، ويَتُوبُوا من شركهم وكفرهم، فيَرْجِعُوا إلى الإيمان والإقرار بتوحيدى، وإفراد الطاعة لى، وترك عبادة ما سواى.

‌القولُ في تأويل قولِه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)} .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ} يا محمد على قومِك {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} . يعني خبرَه وقصتَه.

وكانت آيات الله للذى

(2)

آتاهُ اللهُ إيَّاها فيما يقالُ: اسمُ الله الأعظمُ. وقيل: النبوةُ.

واختلف أهلُ التأويلِ فيه؛ فقال بعضُهم: هو رجلٌ من بني إسرائيلَ.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بن المفضَّل، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ في هذه الآية:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: هو بَلْعَمُ

(3)

.

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 155، 2/ 188، 263.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"الذي".

(3)

أخرجه النسائي في الكبرى (11193) عن حميد به.

ص: 566

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ مثلَه.

قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبد اللهِ، قال: هو بَلْعَمُ بنُ أَبَر

(1)

.

حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن ابن مسعودٍ في قوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} . قال: رجلٌ من بني إسرائيلَ يقالُ له: بَلْعَمُ بنُ أَبَرَ.

حدَّثنا محمد بن المثنَّى، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ وابنُ مَهديٍّ وابنُ أَبي عَدِيٍّ، قالوا: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية. فذكر مثله، ولم يَقُل: ابنَ أَبَرَ.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عمرٍو، عن منصور، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن ابن مسعودٍ:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: رجلٌ من بنى إسرائيل يقال له: بَلْعَمُ بنُ أَبَرَ.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عِمْرانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن حُصَينٍ، عن عِمْرانَ بن الحارث، عن ابن عباسٍ، قال: هو بَلْعَمُ بنُ باعرا

(2)

.

حدَّثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ، عن ابن مسعودٍ في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1616، والطبراني (9064)، وابن عساكر في تاريخه 10/ 397 من طريق سفيان به.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 507.

ص: 567

آيَاتِنَا}. إلى: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} : هو بَلْعَمُ بنُ أَبَر.

حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن الأعمش، و

(1)

عن منصورٍ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن ابن مسعودٍ مثله، إلا أنه قالَ: ابْنُ أَبْرَ، بضمِّ الباءِ

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: هو رجلٌ من مدينة الجبارين يقال له: بَلْعَمُ

(3)

.

حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَانسَلَخَ مِنْهَا} . قال: بَلْعَامُ بنُ باعر

(4)

، من بني إسرائيل

(5)

.

حدَّثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سَمِعتُ مجاهدًا يقولُ. فذكر مثله.

حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، قال: أخبرني عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ، أنه سمع مجاهدًا يقولُ. فذكر مثله

(6)

.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن وابنُ أَبي عَدِيٍّ، عن شعبة، عن

(1)

سقطت الواو من: النسخ، وأثبتناها من مصادر التخريج.

(2)

تفسير عبد الرزاق 1/ 243. ومن طريقه الحاكم 2/ 325، وابن عساكر في تاريخه 10/ 397، ولفظ الحاكم: بلعم بن باعوراء.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1616 من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 145 إلى ابن المنذر.

(4)

في م: "باعرا".

(5)

تفسير مجاهد ص 347.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1618 من طريق حجاج به، عن ابن عباس من قوله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 145 إلى ابن المنذر.

ص: 568

حُصين، عن عكرمة، قال في الذي {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. قال: هو بَلْعَامُ

(1)

.

وحدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ، عن شعبة، عن حصين، عن عكرمة، قال: هو بَلْعَمُ.

قال: ثنا عمرانُ بنُ عُيينةَ، عن حُصينٍ، عن عِكْرِمةَ، قال: هو بَلْعَمُ.

حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن حصينٍ، قال: سَمِعتُ عكرمة يقولُ: هو بَلْعَامُ.

حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيلُ، عن حصينٍ، عن مجاهدٍ، قال: هو بَلْعَمُ.

حدَّثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: هو بَلْعَمُ. [وقالت ثَقِيفٌ: هو أُميةُ بن أبي الصَّلْتِ]

(2)

.

وقال آخرون: كان بَلْعَمُ هذا من أهل اليمن.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: هو رجلٌ يُدعى بَلْعَمُ مِن أهل اليمن

(3)

.

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخه 10/ 398 من طريق شعبة به.

(2)

سقط من: م. والأثر ذكره ابن كثير في تفسير 3/ 507 عن المصنف. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1617 من طريق جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن عباس.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1618 عن محمد بن سعد به.

ص: 569

أَوْ تَقُولُوا وقال آخرون: كان من الكَنْعانِيِّين.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: هو رجلٌ من مدينة الجبارين يُقال له: بَلْعَمُ

(1)

.

وقال آخرون: هو أُميةُ بن أبي الصَّلتِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمنِ بن مهديٍّ، قال: ثنا سعيد بنُ السائب، عن غُطَيْفِ

(2)

بن أبي سفيان، عن يعقوبَ ونافع بن

(3)

عاصم، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، قال في هذه الآية:{الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ، قال: هو أميةُ بن أبي الصَّلتِ

(4)

.

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديٍّ، قال: أنبأنا شعبة، عن يَعْلَى بَنِ عطاء، عن نافع بن عاصم، قال: قال عبد الله بن عمرو: هو صاحبكم أمية بن أبي الصَّلْتِ

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه في ص 568.

(2)

في م: "غضيف". وهما قولان في اسمه. ينظر تهذيب الكمال 23/ 116.

(3)

كذا في النسخ، ويعقوب ونافع أخوان، وهما ابنا عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي، وينظر تهذيب الكمال 29/ 277، 32/ 339.

(4)

أخرجه النسائي في الكبرى (11194) من طريق عبد الرحمن به. وأخرجه النسائي أيضًا في كتاب الأخوة - كما في تحفة الأشراف 6/ 386 (8941) - وابن عساكر في تاريخه 9/ 265 من طريق سعيد بن السائب به.

(5)

أخرجه النسائي في الكبرى (11192)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1616 من طريق شعبة به.

ص: 570

حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن ووهب بن جريرٍ، قالا: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، عن نافعِ بن عاصمٍ، عن عبدِ الله بن عمرٍو بمثله.

حدَّثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن رجلٍ، عن عبد الله بن عمرٍو:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} . قال: هو أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: غُنْدَرٌ، عن شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، قال: سمعتُ نافع بنَ عاصمِ بن عروةَ بن مسعودٍ، قال: سَمِعتُ عبد الله بن عمرٍو قال في هذه الآية: {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: هو صاحبُكم. يعنى أمية بن أبي الصَّلتِ.

قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيبٍ، عن رجلٍ، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: هو أميةُ بن أبي الصَّلْتِ.

قال: ثنا يزيد، عن شَرِيكٍ، عن عبد الملكِ، عن فضالة، أو ابن فضالة، عن عبد اللهِ بن بن عمرٍو، قال: هو أميةُ.

حدَّثنا ابن حُمَيْدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن عبد الملكِ بن عُمَيرٍ، قال: تذاكروا في جامعِ دمشق هذه الآية: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ، فقال بعضُهم: نَزَلَتْ في بلعم بن باعوراء. وقال بعضُهم: نزلت في الراهب

(2)

. فخرج عليهم عبد الله بنُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1620 من طريق محمد بن بشار به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 243 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 9/ 266 - عن سفيان الثورى عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن عمرو. دون واسطة.

(2)

كذا في النسخ، وفى مصادر التخريج:"صيفى بن الراهب". والراهب هو أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وهو الذي بنى مسجد الضرار. وينظر قصة أبي عامر الراهب في سيرة ابن هشام 1/ 584، والبداية والنهاية 7/ 188 وينظر تفسير ابن أبي حاتم 5/ 1617، والبحر المحيط 4/ 422.

ص: 571

عمرو بن العاص، فقالوا: فيمن نزلت هذه؟ قال: نزلت في أميةَ بن أَبي الصَّلْتِ الثقفيِّ

(1)

.

حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الكَلْبِيَّ:{الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: هو أميةُ بن أبي الصَّلتِ. وقال قتادةُ: يُشَكُّ فيه، يقولُ بعضُهم: بَلْعَمُ. ويقولُ بعضُهم: أميةُ بن أبي الصَّلت

(2)

.

واختلف أهل التأويل في الآياتِ التي كان أُوتِيَها التي قال جلّ ثناؤُه: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} ؛ فقال بعضُهم: كانت اسم الله الأعظم.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٍو قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ، قال: إن الله لمَّا انقَضَتِ الأربعون سنةً - يعنى التي قال الله فيها: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26] - بعث يُوشَعَ بن نونٍ نبيًّا، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبيّ، وأن الله قد أمَرَه أن يُقاتِلَ الجبَّارين، فبايعوه وصدَّقوه، وانطلق رجلٌ من بنى إسرائيل يُقال له: بَلْعَمُ. وكان عالمًا يَعْلَمُ الاسم الأعظم المكتوم، فكفَر وأتَى الجبّارين، فقال: لا ترهَبوا بنى إسرائيلَ، فإنى إذا خَرَجتُم تقاتلونهم أدعُو عليهم دعوةً فيهلِكون. وكان عندهم فيما شاءَ من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيعُ أن يأتى النساء [من عِظَمِهن]

(3)

، فكان يَنْكِحُ أَتانًا له، وهو الذي يقولُ اللهُ: {وَأَتْلُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1616، وابن مردويه - كما في البداية والنهاية 3/ 275 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 9/ 265 من طريق عبد الملك بن عمير، عن نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود عن عبد الله بن عمرو بنحوه.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 243، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 9/ 266 عن معمر به.

(3)

في م: "يعظمهن"، وفى ف:"من عظمتهن".

ص: 572

عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي: تَبَصَّر

(1)

، {فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. إلى قوله:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}

(2)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} . قال: هو رجلٌ يقالُ له: بَلْعَمُ. وكان يعلمُ اسم الله الأعظم

(3)

.

حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: كان لا يَسْأَلُ الله شيئًا إلا أعطاه

(4)

.

وقال آخرون: بل الآياتُ التي كان أُوتِيَها كتابٌ من كتب الله.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا القاسم قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُمَيلَة، عن أبي حمزة، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ وعكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كان في بني إسرائيلَ بَلعامُ بن باعرَ، أُوتى كتابًا

(5)

.

وقال آخرون: بل كان أُوتى النبوة.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن غيره - قال

(1)

في م: "تنصل"، وفى ف:"تنصر"، وفى تاريخ المصنف:"فبصر".

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 439 عن السديِّ بإسناده المعروف.

(3)

تقدم تخريجه ص 568.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 508.

(5)

تفسير مجاهد ص 346 من طريق جابر به.

ص: 573

الحارثُ: قال عبد العزيز: يعني عن غير نفسه - عن مجاهدٍ، قال: هو نبيٌّ في بني إسرائيل - يعنى بَلْعَمَ - أُوتى النبوة، فرشَاه قومُه على أن يَسْكُتَ، ففعل، وتركهم على ما هم عليه

(1)

.

حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه أنه سُئِلَ عن الآية:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . فحدَّث عن سَيَّارٍ أنه كان رجلًا يقال له: بَلْعَامُ، وكان قد أُوتى النبوةَ، وكان مجابَ الدعوة

(2)

.

قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القول في ذلك أن يُقالَ: إِنَّ الله تعالى ذكره أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَتْلُو على قومه خبَر رجلٍ كان الله آتاه حُجَجَه وأدلَّته، وهى الآياتُ.

وقد دلَّلنا على أن معنى الآياتِ الأدلةُ والأعلامُ فيما مضى، بما أغنَى عن إعادَته

(3)

.

وجائزٌ أن يكونَ الذي كان اللهُ آتاه ذلك بَلْعَمَ، وجائزٌ أن يكونَ أُمية.

وكذلك الآيات؛ إن كانت بمعنى الحُجَّةِ التي هي بعضُ كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلَّمها

(4)

الذي ذكره اللهُ في هذه الآية وعناه بها، فجائزٌ أن يكون الذي كان أُوتِيَها بَلْعَمَ، وجائزٌ أن يكون أميّةً؛ لأنَّ أمية كان فيما يقال قد قرأ من كُتب أهل الكتاب.

وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على مَن أُمِر نبيُّ اللهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 146 إلى المصنف.

وقال الماوردى - كما في تفسير القرطبي 7/ 320 - : وهذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى لا يصطفى لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته. وخطأ هذا القول أيضًا ابن كثير في تفسيره 3/ 509.

(2)

سيأتي بتمامه ص 576 - 578.

(3)

ينظر ما تقدم في 1/ 104.

(4)

في ت 1، ت 2، س:"فيعلمه"، وغير منقوطة في ص، ف.

ص: 574

يتْلُو على قومِه نبأَه، أو بمعنى اسم اللهِ الأعظم، أو بمعنى النبوةِ - فغيرُ جائزٍ أن يكونَ مَعْنِيًّا به أميةُ؛ لأنَّ أميةً لا تَخْتَلِفُ الأمةُ في أنه لم يَكُنْ أُوتِيَ شيئًا من ذلك، ولا خبرَ بأيِّ ذلك المرادُ، وأيِّ الرجلين المعنيُّ، يُوجِبُ الحجةَ، ولا في العقل دلالةٌ على أن ذلك المعنيُّ به مِن أيٍّ.

فالصوابُ أنْ يُقال فيه ما قال الله، ويُقَرَّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحى من الله.

وأما قولُه: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . فإنه يعنى: خرَج من الآياتِ التي كان الله آتاها إيّاه، فتبرَّأ منها.

وبنحو ذلك قال أهل التأويل.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس، قال: لما نزل موسى عليه السلام يعنى بالجبارين - ومن معه، أتاه - يعنى بَلْعَمَ

(1)

- بنو عمِّه وقومُه: فقالوا: إن موسى رجلٌ حديدٌ، ومعه جنودٌ كثيرةٌ، وإنه إن يَظْهَرْ علينا يُهْلِكُنا، فادْعُ الله أَن يَرُدَّ عنا موسى ومن معه. قال: إني إن دعوتُ الله أن يَرُدَّ موسى ومن معه ذهَبَتْ دنياي وآخِرَتى. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلَخَه اللهُ مما كان عليه، فذلك قوله:{فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}

(2)

.

حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، س، ف:"أتاه".

(2)

تقدم تخريجه ص 568.

ص: 575

أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: كان اللهُ آتاهُ آياتِه فترَكها

(1)

.

حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُرَيْجٍ: قال ابن عباس: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . قال: نزع منه العلم

(2)

.

وقوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} . يقولُ: فصيَّره لنفسه تابعًا؛ يَنْتَهِي إلى أمرِه في معصية الله، ويُخالفُ أمر ربَّه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن.

وقوله: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} . يقول: فكان من الهالكين؛ لضلاله وخلافه أمرَ ربِّه، وطاعةِ الشيطان.

‌القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} .

يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفَعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}. يقولُ: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض، ومال إليها، وآثَر لذَّتها وشهواتِها على الآخرة، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ، ورفض طاعةَ اللهِ، وخالف أمره.

وكانت قصة هذا الذي وصف اللهُ خبره في هذه الآية، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره، ما حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، عن أبيه أنه سُئل عن الآية:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . فَحَدَّث عن سيّارٍ أنه كان رجلًا يقال له: بَلْعامُ. وكان قد أُوتى النبوة، وكان مجابَ الدعوة. قال: وإنّ موسى أقبل في بنى إسرائيل يريدُ الأرضَ التي فيها بَلْعَامُ - أو قال: الشامَ - قال: فرُعِبَ الناسُ منه رعبًا شديدًا. قال: فأتوا بَلْعامَ، فقالوا: ادْعُ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1618 عن محمد بن سعد به.

(2)

هو تمام الأثر المتقدم في ص 568.

ص: 576

الله على هذا الرجل وجيشِه، قال: حتى أُوامِرَ

(1)

ربِّي - أو: حتى أُوَامِرَ - قال: فوامَرَ في الدعاء عليهم، فقيل له: لا تَدْعُ عليهم؛ فإنّهم عبادِي، وفيهم نَبِيُّهم. قال: فقال لقومه: إنى قد

(2)

وأمَرْتُ ربِّي في الدعاء عليهم، وإني قد نُهِيتُ. قال: فأَهْدَوا إليه هديةً فقبلها، ثم راجعوه فقالوا: ادْعُ عليهم. فقال: حتى أُوامِرَ رَبِّي. فوامَرَ فلم [يَحُرْ إليه شيءٌ]

(3)

. قال: فقال: قد وامرْتُ فلم [يَحُرْ إلى شيءٌ]

(4)

. فقالوا: لو كَرِه ربُّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال: فأَخَذ يَدْعُو عليهم، فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاءُ على قومه، وإذا أراد أنْ يدْعُوَ أنْ يُفْتَحَ لقومه، دعا أن يُفْتَحَ لموسى وجيشه - أو نحوًا من ذلك إن شاء اللهُ - قال: فقالوا: ما نراك تدعو إلا علينا. قال: ما يَجْرِى على لسانى إلَّا هكذا، ولو دعوتُ عليه ما استُجيب لى، ولكن سأدُلُّكم على أمرٍ عسى أن يَكُونَ فيه هلاكُهم، إنّ الله يُبْغِضُ الزنى، وإنهم إن وقَعوا بالزنى هلكُوا، ورجوتُ أن يُهلكهم اللهُ، فأَخْرِجوا النساء فلْيَسْتَقْبِلْنهم

(5)

، وإنهم قومٌ مسافرون، فعسى أَنْ يَزْنوا فيَهْلِكُوا. قال: ففَعَلوا وأخْرجُوا النساءَ يَسْتَقْبِلْنهم

(6)

. قال: وكان للملك ابنةٌ، فذكر من عِظَمِها ما اللهُ أعلم به. قال: فقال أبوها أو بَلْعامُ: لا تُمكنى نفسَك إِلَّا من موسى. قال: ووقعوا في الزنى. قال: وأتاها رأسُ سِبْطٍ من أسباط بني إسرائيل. قال: فأرادَها على نفسه. قال: فقالت: ما أنا بمُمْكِنةٍ نفسى إلا من موسى. قال: فقال:

(1)

في م: "أوامر" بالهمز، وكلاهما بمعنى. وكل ما كان في المطبوعة بالهمز، جعلناه بغير همز، إلا اللفظة التالية فهى بالهمز؛ لشك الراوى.

(2)

سقط من: م.

(3)

في م: "يأمره بشيء". وقوله: لم يحر. من: حار يَحُور حَوْرًا. أي: لم يرجع. التاج (ح و ر).

(4)

في م: "يأمرني بشيء".

(5)

في م: "لتستقبلهم".

(6)

في م: "تستقبلهم".

ص: 577

إن من منزِلتى كذا وكذا، وإن من حالى كذا وكذا. قال: فأَرْسَلتْ إلى أبيها تستأمرُه. قال: فقال لها: أَمْكِنيه. قال: ويأتيهما رجلٌ من بنى هارونَ معه الرمحُ

(1)

فيَطْعُنُهما. قال: وأَيَّده اللهُ بقوةٍ، فانتظمهما جميعًا، [ورفعهما]

(2)

على رمحِه، قال: فرآهما الناسُ. أو كما حدَّثَ. قال: وسَلّط الله عليهم الطاعونَ. قال: فمات منهم سبعون ألفًا.

قال: فقال أبو المعتمرِ: فحدَّثنى سيَّارٌ أَنّ بَلعَامَ رَكِب حمارةً له، حتى إذا أَتَى المَعْلُولَ

(3)

- أو قال: طريقًا بين

(4)

المعلولِ

(5)

- جعَل يَضْرِبُها ولا تَقَدَّمُ. قال: وقامت عليه فقالت: عَلامَ تَضْرِبُنى؟ أما تَرَى هذا الذي بين يديْك؟ قال: فإذا الشيطان بين يديْه. قال: فنزل فسجد له، قال اللهُ:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} . إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . قال: فحَدَّثني بهذا سَيَّارٌ، ولا أَدْرِى لعلَّه قد دخل فيه شيءٌ من حديث غيرهِ

(6)

.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، عن أبيه، قال: وبلغنى حديث رجلٍ من أهل الكتابِ يُحَدِّثُ أنّ موسى سأل الله أن يَطْبَعَه، وأن يَجْعَلَه من أهل النارِ. قال: ففعَل اللهُ. قال: أُنبئْتُ أَنَّ موسى قتله بعدُ.

(1)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"قال".

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

في م: "المعلولى". ولعل المراد من هذه اللفظة الجبل، كما في الأثر التالي.

(4)

في م: "من".

(5)

في م: "المعلولي"، وفي تفسير ابن كثير:"العلولى". ولعله اسم الجبل حسبان الآتي في أثر سالم أبي النضر.

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 510 عن المصنف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 147 إلى المصنف وأبى الشيخ إلى قوله: فمات منهم سبعون ألفا.

ص: 578

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمد بن إسحاق، عن سالمٍ أبي النَّضْرِ، أنه حدّث أنّ موسى لما نزل في أرض بنى كَنْعان من أرض الشامِ، أتَى قومُ أَتَى بَلْعَمَ إلى بَلْعَمَ، فقالوا له: يا بلعم، إنّ هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يُخْرِجُنا من بلادنا، ويَقْتُلُنا ويُحِلُّها بني إسرائيلَ ويُسْكِنُها، وإنا قومُك، وليس لنا منزلٌ، وأنت رجلٌ مجاب الدعوة، فاخرُج فادْعُ الله عليهم. فقال: ويْلكم، نبيُّ الله معه الملائكةُ والمؤمنون، كيف أَذْهَبُ أدْعُو عليهم وأنا أَعْلَمُ من اللهِ ما أَعْلَمُ! قالوا: ما لنا من منزلٍ. فلم يزالوا به يُرفِّقُونه

(1)

ويَتَضَرَّعون إليه، حتى فَتَنوه فافْتَتَن، فرَكِب حمارةً

(2)

له مُتوجِّهًا إلى الجبل الذي يُطْلِعُه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبلُ حُسْبانَ

(3)

، فلمَّا سار عليها غير كثيرٍ رَبَضَتْ

(4)

به، فنزل عنها فضرَبها، حتى إذا أَذْلَقها

(5)

قامت فركِبها، فلم تَسِرْ به كثيرًا حتى رَبَضَتْ به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تَسِر به كثيرًا حتى رَبَضَتْ به، فضربها، حتى إذا أَذْلَقها أذِن الله لها فكلَّمته، حجةً عليه، فقالت: ويحك يا بَلْعَمُ، أين تذهب! أما

(6)

ترى الملائكة أمامى

(7)

تَرُدُّنى عن وجهى هذا! أَتَذْهَبُ إلى نبيِّ الله والمؤمنين تَدْعُو عليهم! فلم يَنْزِعْ عنها يَضْرِبُها

(8)

، فخَلَّى اللهُ سبيلَها حين فعل بها ذلك. قال: فانطَلَقت به

(9)

، حتى إذا

(1)

في النسخ: "يرفعونه"، وفى تاريخ دمشق ونسخة من تاريخ المصنف:"يرفقونه". والمثبت من تاريخ المصنف.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف، وتاريخ دمشق ونسختين من تاريخ المصنف:"حمارا".

(3)

في ص، م، ت 1، ت 2، س:"حسان"، وفى ف:"حسنان". والمثبت من مصدرى التخريج.

(4)

ربَضت الدابة: بركت. اللسان (ر ب ض).

(5)

أذلقها: جهدها، ومعنى الإذلاق: أن يبلغ منه الجهد حتى يقلق ويتضوَّر. اللسان (ذ ل ق).

(6)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ألا".

(7)

سقط من: م. وفى ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ألا". والمثبت من مصدرى التخريج.

(8)

في م: "فضربها".

(9)

زيادة من: م

ص: 579

أشرفت على رأس جبلِ حُسْبانَ

(1)

، على عسكر موسى وبنى إسرائيل، جعَل يَدْعو عليهم، فلا يَدْعو عليهم بشيءٍ

(2)

إلا صُرف لسانُه إلى قومه، ولا يَدعو لقومِه بخيرٍ إلَّا صُرِف لسانُه إلى بني إسرائيلَ. قال: فقال له قومُه: أَتَدْرِى يا بَلْعَمُ ما تَصْنَعُ؟ إنما تدعو لهم وتَدْعو علينا. قال: فهذا ما لا أَمْلِكُ، هذا شيءٌ قد غلب الله عليه. واندَلَعَ لسانُه فوقَع على صدرِه، فقال لهم: قد ذهَبت الآن منِّى الدنيا والآخرةُ، فلم يَبْقَ إلا المكرُ والحيلةُ، فسأَمْكُرُ لكم وأَحْتالُ؛ جَمِّلُوا النساءَ، وأَعْطُوهن السِّلَعَ، ثم أرْسِلوهن إلى العسكرِ يَبِعْنَها فيه، ومُرُوهن فلا تَمْنَعُ امرأةٌ نفسَها من رجلٍ أرادها، فإنهم إن زنَى منهم واحدٌ كُفِيتُموهم. ففعَلُوا، فلما دخَل النساءُ العسكرَ، مَرَّتِ امرأةٌ من الكَنْعانِيِّين - اسمُها كسى

(3)

ابنةُ صور رأسِ أُمَّتِه - برجلٍ من عظماءِ بني إسرائيلَ، وهو زمرى بنُ شُلُومَ رأسُ سِبْطِ شَمعونَ

(4)

بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ، فقام إليها فأخَذ بيدِها حينَ أعجَبَه جمالُها، ثم أقبل بها حتى وقَف بها على موسى عليه السلام فقال: إني أَظُنُّك ستقولُ: هذه حرامٌ عليك؟ فقال: أجَلْ، هي حرامٌ عليك، لا تَقْرَبُها. قال: فوالله لا نُطِيعُك في هذا. ثم دخل بها قُبَّتَه فوقَع عليها، وأَرسَل الله الطاعونَ في بني إسرائيلَ، وكان فِنْحاصُ بنُ العَيْزارِ بن هارونَ صاحبَ أمْرِ موسى، وكان رجلًا قد أُعْطِي بَسْطَةً في الخَلْقِ وقوةً في البطش، وكان غائبًا حينَ صنَع زمرى ابن شَلومَ ما صنَع، فجاء والطاعونُ يَحُوسُ

(5)

في بني إسرائيلَ، فأُخْبِر الخبرَ،

(1)

في ص، م، ت 1، ت 2، س:"حان"، وفى م:"حنان".

(2)

في م: "بشر".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف، ونسخة من تاريخ المصنف:"كسبى"، وفى نسخة منه:"كسبى"، وفي تاريخ دمشق:"كيسي".

(4)

في ص، س، ف:"بن سمعان"، وفى ت 1:"بن شمعان".

(5)

في م: "يجوس" والحوس والجوس بمعنى، وهو العيث في الديار ذهابا وجيئة. التاج (ج و س، ح و س).

ص: 580

فأخَذ حربتَه، وكانت من حديدٍ كلُّها، ثم دخَل عليه القُبَّةَ وهما متضاجِعان، فانتَظَمَهما بحربتِه، ثم خرَج بهما رافِعَهما إلى السماءِ، والحربةُ قد أخَذها بذراعِه، واعتَمَد [بمِرْفَقِه على]

(1)

خاصِرته، وأسْند الحربةَ إلى لحْيتِه

(2)

، وكان بِكْرَ العَيْزار، وجعَل يقولُ: اللهم هكذا نَفْعَلُ بمن يَعصِيك. ورُفِع الطاعونُ. فحُسِبَ مَن هَلَك من بني إسرائيلَ في الطاعون، فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتَله فِنْحاصُ، فوُجِدوا

(3)

قد هلَك منهم سبعون ألفًا، والمُقلِّلُ يقولُ: عشرون ألفًا. في ساعةٍ من النهارِ، فمِن هنالك يُعْطِى بنو إسرائيلَ ولدَ فِنْحاصَ ابن العَيْزارِ بن هارونَ مِن كُلِّ ذبيحةٍ ذبَحوها القِبَةَ

(4)

والذراعَ واللَّحْى؛ لاعتماده بالحربة على خاصرتِه، وأخْذِه إياها بذراعِه، وإسنادِه إياها إلى لحيتِه (2)، والبِكْرَ من كلِّ أموالِهم وأنفسِهم؛ لأنه كان بكرَ العيْزارِ، ففى بَلْعَمَ بن باعورَا أنزَل الله على محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . يعنى بَلْعَمَ، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}. إلى قوله:{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

(5)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: انطلَقَ رجلٌ من بنى إسرائيلَ يقالُ له: بَلْعَمُ. فأتى الجبارين فقال: لا تَرْهَبُوا مِن بني إسرائيلَ، فإني إذا خرَجتم تُقَاتِلونهم أدْعو عليهم. فخرَج يُوشَعُ يُقاتِلُ الجبارين في الناسِ، وخرَج بَلْعَمُ مع الجبارين على أتانِه، وهو يُرِيدُ أن يَلْعَنَ بنى إسرائيلَ، فكلَّما أراد أنْ يَدعُوَ على بني إسرائيلَ دعا على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تَدْعُو علينا. فيقولُ: إنما أردتُ بني إسرائيلَ. فلما بلَغ بابَ المدينةِ أَخَذَ مَلَكٌ بِذَنَبِ الأَتَانِ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"على مرفقه إلى".

(2)

في م: "لحييه".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف، وتاريخ دمشق:"فوجدوه".

(4)

في م: "الفشة". والقبة: هنة متصلة بالكرش ذات أطباق. اللسان (ق ب و).

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 437، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 10/ 401 - 403.

ص: 581

فأمسَكَها، فجعَل يُحَرِّكُها فلا تَتَحَرَّكُ، فلمَّا أكثرَ ضرْبَها تكلَّمتْ، فقالت: أنتَ تَنْكِحُنِي بالليلِ وتَرْكبُنى بالنهارِ! وَيْلى منك، ولو أنى أطقْتُ الخروجَ لخرَجتُ، ولكن هذا الملَكُ يَحْبِسُنى. وفى بَلْعَمَ يقولُ اللهُ:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} الآية

(1)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيز، قال: ثنى رجلٌ سَمِعَ عكرمة يَقُولُ: قالت امرأةٌ منهم: أَرُونى موسى، فأنا أفْتِنُه. قال: فتطَيَّبَتْ، فَمَرَّت على رجلٍ يُشْبِهُ موسى، فواقَعَها، فأُتِىَ ابن هارونَ فأُخبِرَ، فأخَذ سيفًا، فطعَن به في إحليلِه حتى أخرَجَه [وأخرَجه]

(2)

من قُبُلِها، ثم رفَعهما حتى رآهما الناسُ، فعُلِمَ أنه ليس موسى، ففُضِّلَ آلُ هارونَ في القُربانِ على آل موسى بالكَتِفِ

(3)

والعَضُدِ والفَخِذِ. قال: فهو {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . يعنى بَلْعَمَ.

واختلَف أهلُ التأويل في تأويلِ قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لرفَعناه بعلمِه بها.

‌ذكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} لرفَعَه اللهُ تعالى بعلمِه

(4)

.

وقال آخرون: معناه: لرَفعنا عنه الحالَ التي صار إليها من الكفر بالله، بآياتِنا.

(1)

تقدم تخريجه في ص 573.

(2)

سقط من: م، والعبارة غير مستقيمة.

(3)

في ص، ت 1، ف:"بالكتاب"، وفى س:"بالكتاف".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 146 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.

ص: 582

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، [عن مجاهدٍ]

(1)

، في قولِ اللهِ:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} : [لدَفعنا عنه]

(2)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} : لدفَعناه

(3)

عنه.

قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصواب أن يقالَ: إِنَّ الله عمَّ الخبرَ بقولِه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} . أنه لو شاء رفَعه بآياتِه التي آتاه إياها، والرفعُ يَعُمُّ معانىَ كثيرةً؛ منها الرفعُ في المنزلةِ عندَه، ومنها الرفعُ في شرفِ الدنيا ومكارمِها، ومنها الرفعُ في الذكرِ الجميلِ والثناءِ الرفيعِ. وجائزٌ أن يكون الله عنى كلَّ ذلك أنه لو شاء لرفَعه، فأعطاه كلَّ ذلك بتوفيقِه للعملِ بآياتِه التي كان آتاها إياه.

وإذ كان ذلك جائزًا، فالصوابُ من القولِ فيه ألا يُخَصَّ منه شيءٌ، إذ كان لا دلالةَ على خصوصِه من خبرٍ ولا عقلٍ.

وأما قولُه: {بِهَا} . فإن ابنَ زيدٍ قال في ذلك كالذي قلنا.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} : بتلك الآياتِ

(4)

.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

في ص، س، ف:"لدفعناه عنه"، وفى م:"لرفعنا عنه بها". والأثر في تفسير مجاهد ص 347، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1619. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 146 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

في م: "لرفعناه".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1619 من طريق أصبغ، عن ابن زيد به.

ص: 583

وأما قولُه: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} . فإن أهلَ التأويلِ قالوا فيه نحوَ قولِنا فيه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن أبي الهيثمِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} . يعنى: ركَن إلى الأرضِ

(1)

.

قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شَريكٍ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} . قال: نزَع إلى الأرضِ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَخْلَدَ} : سكَن

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ وعكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كان في بني إسرائيلَ بَلعامُ بنُ باعرَ، أُوتىَ كتابًا، فأَخلَدَ إلى شهواتِ الأرض ولذتِها وأموالِها، لم يَنْتَفِعْ بما جاء به الكتابُ

(4)

.

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} : أما {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} فاتبع الدنيا وركَن إليها.

(1)

ينظر تاريخ دمشق لابن عساكر 10/ 398.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1619، وابن عساكر في تاريخ دمشق 10/ 398 من طريق شريك به بنحوه.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1619 من طريق ابن أبي نجيح به.

(4)

تمام الأثر المتقدم في ص 573.

ص: 584

وأصلُ الإخلادِ في كلامِ العربِ الإبطاءُ والإقامةُ، يقالُ منه: أَخلَدَ فلانٌ بالمكان: إذا أقامَ به، وأخلَدَ نفسَه إلى المكانِ: إذا أتاه من مكانٍ آخر. ومنه قولُ زُهَيْرٍ

(1)

:

لمَنِ الديارُ غشيِتَها بالفَدْفَدِ

(2)

كالوَحْيِ في حَجَرِ المَسِيل المُخلِدِ

(3)

يعني المقيمَ.

ومنه قولُ مالكِ بن نُوَيْرةَ

(4)

:

بأبْناءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مالِكِ

وعَمْرِو بن يَرْبُوعِ أَقامُوا فَأَخْلَدوا

وكان بعضُ البَصْريين يقولُ

(5)

: معنى قولِه: {أَخْلَدَ} : لَزِمَ وتقاعَسَ وأبطأ، والمَخْلِدُ أيضًا هو الذي يُبْطِئُ شَيْبُه من الرجالِ، وهو من الدوابِّ الذي تَبْقَى ثناياه حتى تَخْرُجَ رَباعِيَتاه.

وأما قولُه: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} . فإن

(6)

ابنَ زيدٍ قال في تأويلِه ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} . قال: كان هواه مع القومِ

(7)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ

(1)

شرح ديوان زهير ص 268.

(2)

في م: "بالغرقد". والفدفد: المرتفِع، فيه صلابة وحجارة، ويقال: أرض مستوية. المصدر السابق ص 269.

(3)

الوحى هنا: الكتاب، وإنما جعله في حجر المسيل لأنه أصلب له. ينظر المصدر السابق.

(4)

البيت في الأصمعيات ص 193.

(5)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 223.

(6)

في النسخ: "كان". والمثبت يقتضيه السياق.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1620 من طريق أصبغ، عن ابن زيد به.

ص: 585

تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}.

يقولُ تعالى ذكرُه: فمَثَلُ هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلَخَ منها مَثَلُ الكلب الذي يَلْهَثُ؛ طَرَدْتَه أو ترَكْتَه.

ثم اختَلَف أهلُ التأويل في السببِ الذي من أجلِه جعَل اللهُ مَثَله كمَثَل الكلبِ؛ فقال بعضُهم: مثَّله به في اللَّهْثِ، لتركِه العملَ بكتاب الله وآياتِه التي آتاها إياه، وإعراضِه عن مواعظِ الله التي فيها إعراضُ مَن

(1)

لم يؤْتِه الله شيئًا من ذلك، فقال جلَّ ثناؤُه فيه، إذ

(2)

كان سواءٌ أَمْرُه، وُعِظ بآياتِ اللهِ التي آتاها إياه أولم يُوعَظُ، في أنه لا يَتَّعِظُ بها، ولا يَتْرُكُ الكفرَ به: فمثَلُه مَثَلُ الكلبِ الذي سواءٌ أمرُه في لَهْثِه؛ طُردَ أو لم يُطْرَدْ، إذ كان لا يَتْرُكُ اللهثَ بحالٍ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي، نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} . قال: تَطْرُدُه، هو مَثَلُ الذي يَقْرَأُ الكتاب ولا يَعْمَلُ به

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ، قال مجاهدٌ:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} . قال: تَطْرُدُه بدابَّتِك ورِجْلك يَلْهَثْ. قال: مَثَلُ الذي يَقْرَأُ الكتابَ ولا يَعْمَلُ بما فيه. قال ابن جُريجٍ: الكلبُ منقطِعُ الفؤادِ، لا فؤادَ له، {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"لمن".

(2)

في النسخ: "إذا".

(3)

تفسير مجاهد ص 347، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1620.

ص: 586

يَلْهَثْ}. قال: مَثَلُ الذي يَتْرُكُ الهدَى لا فؤادَ له، إنما فؤادُه منقطعٌ

(1)

.

حدَّثني ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ

(2)

، عن معمرٍ، عن بعضِهم:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} : فذلك هو الكافرُ، هو ضالٌّ إن وعَظْتَه وإن لم تَعِظْه

(3)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} : إن تُحمل عليه الحكمةُ لم يَحْمِلْها، وإِن تُرِكَ لم يَهْتَدِ لخيرٍ، كالكلبِ، إن كان رابضًا لَهَثَ، وإِن طُرِد لَهَثَ

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: آتاه الله آياتِه فترَكها، فجعَل اللهُ مَثَله كمثلِ الكلبِ {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}

(5)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} الآية: هذا مثلٌ ضرَبه الله لمن عُرِضَ عليه الهُدى. فأبَى أن يَقْبَلَه وترَكَه - قال: وكان الحسنُ يقولُ: هو المنافقُ - {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} . قال: هذا مَثَلُ الكافر،

(1)

قول ابن جريج عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 146 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في النسخ: "توبة".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 244 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 1/ 397 - عن معمر، عن الكلبى قوله.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1620 من طريق عبد الله بن صالح به. وهو تمام الأثر المتقدم في ص 568.

(5)

تقدم تخريجه في ص 576.

ص: 587

ميتُ الفؤادِ

(1)

.

وقال آخرون: إنما مَثَّلَه جل ثناؤُه بالكلبِ لأنه كان يَلْهَثْ كما يَلْهَتُ الكلبُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} : وكان بَلْعَمُ يَلْهَثْ كما يَلْهَثُ الكلبُ، وأما {تَحْمِلْ عَلَيْهِ}: فتَشُدَّ عليه

(2)

.

قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى التأويلين في ذلك بالصواب تأويلُ من قال: إنما هو مَثَلٌ لتركِه العملَ بآياتِ اللهِ التي أتاها إياه. وإن معناه: سواءٌ وُعِظَ أو لم يُوعَظُ، في أنه لا يَتْرُكُ ما هو عليه من خلافِه أمرَ ربِّه، كما سواءٌ حُمِلَ على الكلبِ وطُرِدَ، أو تُرِكَ فلم يُطْرَدْ، في أنه لا يَدَعُ اللهثَ في كلتا حالتيه.

وإنما قلنا: ذلك أوْلى القولين بالصوابِ؛ لدلالة قوله تعالى ذكرُه: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} . فجعَل ذلك مَثَلَ المكذِّبين بآياتِه، وقد عَلِمنا أن اللُّهاثَ ليس في خِلقةِ كلِّ مكذِّبٍ كُتِبَ عليه تركُ الإنابة من تكذيبٍ بآياتِ اللهِ، وإنَّ ذلك إنما هو مثلٌ ضرَبه الله لهم، فكان معلومًا بذلك أنه للذى وصف الله صفتَه في هذه الآية - كما هو لسائرِ المكذِّبين بآياتِ اللهِ - مَثَلٌ.

‌القولُ في تأويلِ قوله: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: هذا المثلُ الذي ضرَبتُه لهذا الذي آتيناه آياتِنا فانسَلَخ منها،

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1617، 1618، 1619، 1620 من طريق يزيد به مفرقًا دون قول الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 146 - دون قول الحسن - إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

تقدم تخريجه في ص 573 دون آخره.

ص: 588

مثلُ القومِ الذين كذَّبوا بحُججِنا وأعلامِنا وأدلتِنا، فسَلَكوا في ذلك سبيلَ هذا المنسلِخِ من آياتِنا الذي آتيناها إياه، في تركِه العملَ بما آتيناه من ذلك.

وأما قولُه: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} . فإنه يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فاقْصُصْ يا محمدُ هذا القصصَ الذي اقْتَصصتُه عليك - من نبأ الذي آتيناه آياتِنا، وأخبار الأمم التي أخبرتُك أخبارَهم في هذه السورة، واقتَصصتُ عليك نبأَهم ونبأَ أشباهِهم، وما حلَّ بهم من عقوبتِنا، ونزَل بهم حينَ كذَّبوا رسلَنا من نِقمتِنا - على قومِك من قريشٍ، ومَن قِبَلَك من يهودِ بني إسرائيلَ؛ لِيَتفَكَّروا في ذلك فيَعْتَبِروا ويُنيبوا إلى طاعتِنا؛ لئلا يَحِلَّ بهم مثلُ الذي حلَّ بمن قبلَهم من النِّقمِ والمَثَّلاتِ، ويَتَدَبَّرَه اليهودُ من بني إسرائيلَ، فيَعْلَموا حقيقةَ أمرِك، وصحةَ نبوتِك، إذ كان نبأُ الذي آتيناه آياتِنا من خفيِّ علومِهم ومكنونِ أخبارِهم، لا يَعْلَمُه إلا أحبارُهم ومن قرَأ الكتبَ ودرَسَها منهم، وفى علمِك بذلك - وأنتَ أُمِّيٌّ لا تَكْتُبُ ولا تَقْرَأُ، ولا تَدْرُسُ الكتبَ، ولم تُجالِسْ أهلَ العلم - الحجةُ البينةُ لك عليهم بأنك لله رسولٌ، وأنك لم تَعْلَمُ ما عَلِمْتَ من ذلك، وحالُك الحالُ التي أنت بها، إلَّا بوحيٍ من السماء.

وبنحوِ ذلك كان أبو النَّضْرِ يقولُ:

حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدٍ، عن سالمٍ أبي النضر:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} : يعنى بني إسرائيل، أي

(1)

: قد جِئتَهم بخبر ما كان فيهم مما يُخْفُون عليك، لعلَّهم يَتَفَكَّرون فيَعْرِفون أنه لم يأتِ بهذا الخبر عما مضَى فيهم إلا نبيٌّ يأتيه خبرُ السماءِ

(2)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"أنى"، وفى م:"إذ"، والمثبت موافق لما في مصدر التخريج.

(2)

تمام الأثر المتقدم في ص 579 - 581. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1621 من طريق سلمة به.

ص: 589

يَظْلِمُونَ (177)}.

يقولُ تعالى ذكرُه: ساء مثلًا القومُ الذين كَذَّبوا بحجج اللهِ وأدلتِه فجَحَدوها، وأنفسَهم كانوا يَنقُصُون حظوظَها، ويَبْخَسُونها منافِعَها، بتكذيبِهم بها لا غيرها.

وقيل: {سَاءَ مَثَلًا} من السُّوءِ

(1)

، بمعنى: بئسَ مثلًا [مَثَلُ القوم]

(2)

. وأُقيم "القومُ" مُقامَ "المثل" وحُذف "المثلُ"، إذ كان الكلامُ مفهومًا معناه، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]. فإن معناه: ولكنَّ البِرَّ بِرٌّ

(3)

مَنْ آمَن باللهِ.

وقد بيَّنا نظائرَ ذلك في مواضعَ غير هذا بما أغنَى عن إعادتِه

(4)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: الهدايةُ والإضلالُ بيد الله، والمهتدى - وهو السالكُ سبيل الحقِّ، الراكبُ قَصْدَ المحجَّةِ في دينِه - من هداه الله لذلك، فوَفَّقه لإصابته، والضالُّ مَن خَذَله الله، فلم يُوَفِّقْه لطاعتِه، ومَن فعل الله ذلك به فهو الخاسرُ، يعني: الهالكُ.

وقد بيَّنا معنى "الخَسارة" و "الهدايةِ" و "الضلالةِ" في غيرِ موضعٍ من كتابنا هذا بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ

(5)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، ف:"السر"، وفى م:"الشر". وينظر تعليق الشيخ شاكر.

(2)

سقط من النسخ، وينظر تفسير القرطبي 7/ 324.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

ينظر ما تقدم في 3/ 77.

(5)

ينظر ما تقدم في معنى الخسارة في 1/ 442، وما تقدم في معنى الهداية في 1/ 165 - 169، 234، وما تقدم في معنى الضلالة في 2/ 415، 416.

ص: 590

‌القولُ في تأويل قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} .

يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد خَلَقْنا لجهنم كثيرًا مِن الجنِّ والإنسِ. يقالُ منه: ذَرَأ الله خَلْقَه يَذْرَؤُهم ذَرْءًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني عليُّ بنُ الحسن

(1)

الأزْدِيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يَمَانٍ، عن مبارك بن فَضالةَ، عن الحسنِ، في قوله:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . قال: مما خَلَقْنا

(2)

.

حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن أبي زائدةَ، عن مباركٍ، عن الحسنِ في قوله:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} . قال: خَلَقْنا.

قال: ثنا زكريا، عن عَتَّابِ بن بَشِيرٍ، عن عليّ بن بَذِيمَةَ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، قال: أولادُ الزِّنا مما ذَرَأ الله لجهنم

(3)

.

قال: ثنا زكريا بنُ عَدِيٍّ، وعثمانُ الأَحْوَلُ، عن مَرْوانَ بن معاويةَ، عن الحسنِ

(1)

في النسخ: "الحسين". وقد تقدم على الصواب في 7/ 377 وينظر تاريخ المصنف 1/ 87، 97، 5/ 125، 256.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1622 من طريق مبارك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 147 إلى أبي الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1622 من طريق عتاب به.

ص: 591

ابن عمرٍو، عن معاويةَ بن إسحاقَ، عن جليسٍ له بالطائفِ، عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إِنَّ الله لَما ذَرَأَ لجهنمَ ما ذَرَأ، كان وَلَدُ الزِّنا مِمَّن ذَرَأ لجهنمَ"

(1)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} . [يقولُ: خَلَقْنا لجهنم]

(2)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيز، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سَمِعتُ مجاهدًا يقولُ في قولِه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} . قال: لقد خلَقْنا لجهنم

(3)

من الجنِّ والإنس

(4)

.

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} : خَلَقْنا

(5)

.

وقال جلَّ ثناؤُه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . لِنَفَادِ عِلْمِه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربِّهم.

وأما قولُه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} . فإن معناه: لهؤلاء الذين ذَرَأَهم الله لجهنمَ مِن خَلْقِه، قلوبٌ لا يَتَفكَّرون بها في آياتِ اللهِ، ولا يَتَدَبَّرون بها أدِلَّته على وَحْدانِيَّتِه، ولا يَعْتَبرون بها حُجَجَه لرُسُلِه، فيَعْلَموا توحيدَ ربِّهم، ويَعْرِفوا حقيقةَ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1622 من طريق مروان بن معاوية به، وعنده:"لما ذرأ لجهنم مَنْ ذرأ". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 147 إلى أبي الشيخ وابن مردويه.

(2)

في م: "لجهنم يقول خلقنا".

(3)

بعده في م: كثيرًا".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 147 إلى المصنف، بلفظ:"لقد خلقنا لجهنم".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1621 من طريق عبد الله به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 147 إلى ابن المنذر.

ص: 592

نبوَّة أنبيائِهم. فوَصَفَهم ربُّنا جلَّ ثناؤُه بأنهم لا يَفْقَهون بها؛ لإعراضِهم عن الحقِّ، وتَرْكِهم تدبُّرَ صحةِ الرُّشْدِ، وبُطُولِ الكُفْرِ.

وكذلك قولُه: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} . معناه: ولهم أعينٌ لا يَنْظرونَ بها إلى آياتِ اللهِ وأدِلَّتِه، فيَتَأَمَّلُوها ويَتَفَكَّروا فيها، فيَعْلَموا بها صحةَ ما تَدْعوهم إليه رسلُهم، وفسادَ ما هم عليه مُقيمون من الشركِ بالله، وتكذيبِ رسلِه. فوَصَفَهم الله بتركِهم إعمالَها في الحقِّ، أَنَّهم

(1)

لا يُبْصرون بها. وكذلك قولُه: {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} آيات كتاب الله فيَعْتَبِروها ويَتَفَكَّروا فيها، ولكنَّهم يُعرضون عنها، ويقولون:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وذلك نظيرُ وصف الله إياهم في موضعٍ آخرَ بقولِه: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. والعربُ تقولُ ذلك للتارِكِ استعمالَ بعضِ جوارحِه فيما يَصْلُحُ له. ومنه قولُ مسكين الدَّارِميِّ

(2)

:

أَعْمَى إِذا ما جارَتي خَرَجَتْ

حتى يُوَارِى جارتى السِّتْرُ

(3)

فأَصَمُّ

(4)

عمَّا كان بينهما

سَمْعى [ومَا بالسَّمْع مِن]

(5)

وَقْرِ

فوَصَفَ نفسَه لتَرْكه النظرَ والاستماعَ بالعمىَ والصَّمَمِ.

ومنه قولُ الآخرِ

(6)

:

(1)

في م: "بأنهم".

(2)

ديوانه ص 45.

(3)

في الديوان: "الخدر".

(4)

في م: "وأصم"، وفي الديوان:"ويصم".

(5)

في الديوان: "وما بي غيره". وبهذه العبارة تصبح "وقر" مرفوعة، فلا يكون في البيت إقواء.

(6)

هو عبد الله بن مرة العجلى. والبيتان في حماسة البحترى ص 172 كما ذكر ذلك الشيخ شاكر، أما البيت الأول فقد وجدناه في تفسير القرطبي 1/ 214.

ص: 593

وَعَوْرَاءِ

(1)

الكلامِ صَمَمْتُ عنها

[ولو أَنِّي]

(2)

أَشَاءُ بها سَمِيعُ

وبادِرَةِ وَرِعْتُ

(3)

النَّفْسَ عنها

وقد

(4)

[تَئقَتْ مِن الغَضَبِ]

(5)

الضُّلوعُ

وذلك كثيرٌ في كلامِ العربِ وأشعارِها.

وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويل.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، قال: سمعتُ مجاهدًا يقولُ في قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} . قال: [لا يفقهون بها]

(6)

شيئًا من أمر الآخرة. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} الهُدَى. {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} الحقَّ. ثم جَعَلهم كالأنعامِ سواءً، ثم جَعَلهم شرًّا من الأنعام، فقال:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ} . ثم أخْبَر أنهم هم الغافلون.

‌القولُ في تأويل قوله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} .

يعنى جلَّ ثناؤُه بقوله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} : هؤلاء الذين ذَرَأَهم لجهنمَ هم

(1)

في ص، ت 1، ت 2 س، ف:"اللام". وفى: م: "اللئام". وأثبتناه كما في مصادره. والعوراء: الكلمة القبيحة. وقال الليث: العوراء: الكلمة التي تهوى في غير عقل ولا رشد. ينظر اللسان (ع و ر).

(2)

في م: "وإني لو".

(3)

في م، والحماسة - كما عند الشيخ شاكر -:"وزّعت" والورع والوزع واحد، ومعناهما: الكفُّ. التاج (و ر ع، و ز ع).

(4)

في م: "لو".

(5)

في النسخ: "بينت من العصب". وأثبتنا كما في الحماسة، وينظر تعليق الشيخ شاكر، وتثق: إذا امتلأ غضبًا وغيظًا أو حزنًا. التاج (ت أ ق).

(6)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"له قلب لا يفقه به".

ص: 594

كالأنعام، وهى البهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها، ولا تَفْهَمُ ما أَبْصَرَتُه، لما

(1)

يَصْلُحُ ولما

(2)

لا يصلُحُ، ولا تَعْقِلُ بقلوبها الخيرَ من الشرِّ، فتُميِّز بينهما

(3)

، فشَبَّههم اللهُ بها؛ إذ كانوا لا يَتَذَكَّرون ما يَرَوْن بأبصارِهم من حُجَجه، ولا يَتَفَكَّرون فيما يسمعون من آي كتابه. ثم قال:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ} . يقولُ: هؤلاء الكفرة الذين ذَرَأَهم لجهنم، أَشَدُّ ذهابًا عن الحقِّ، وأَلْزَمُ لطريق الباطل من البهائم؛ لأنَّ البهائم لا اختيار لها ولا تمييز، فتَخْتارَ وتُميِّزَ، وإنَّما هي مُسَخَّرَةٌ، ومع ذلك تَهْرُبُ مِن المَضَارِّ، وتَطْلُبُ لأَنفُسِها من الغذاء الأصْلَحَ. والذين وصف اللهُ صِفَتَهم في هذه الآية، مع ما أُعطوا من الأفهام والعقول المميِّزة بين المَصَالِحِ والمضارِّ، تترك ما فيه صلاح دنياها وآخرتها، وتَطْلُبُ ما فيه مَضَارُّها

(4)

، فالبهائم منها أَسَدُّ، وهى منها أَضَلُّ، كما وَصَفَها به ربُّنا جلَّ ثناؤُه.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . يقول تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين وَصَفْتُ صفَتَهم القومُ الذين غَفَلوا - يَعْني سَهَوا - عن آياتي وحُجَجى، وتَرَكوا تدبُّرها والاعتبار بها والاستدلالَ على ما دَلَّتْ عليه من توحيدِ ربِّها، لا البهائم التي قد عَرَّفها ربُّها ما سخَّرها له.

‌القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} .

يقول تعالى ذكرُه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وهي كما قال ابن عباسٍ.

(1)

في م: "مما".

(2)

في م: "ما".

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"بينها".

(4)

بعده في ص، ت 1، س، ف:"فيها".

ص: 595

حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، [قال: حدَّثني عمِّي، قال: حدَّثني أبي]

(1)

، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . ومِن أسمائِه العزيزُ الجبارُ، وكلُّ أسماءِ اللهِ حَسَنٌ

(2)

.

حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشام بن حسانَ، عن ابن سيرينَ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، مائةً إلا واحدًا، مَن أَحْصاها كُلَّها دَخَل الجنةَ"

(3)

.

وأمَّا قولُه: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . فإنه يعنى به المشركين. وكان إلحادُهم في أسماءِ اللهِ أَنَّهم عَدَلوا بها عما هي عليه؛ فسَمَّوا بها آلهتَهم وأوثانَهم، وزادوا فيها ونَقَصوا منها؛ فسَمَّوْا بعضها اللات، اشتقاقًا منهم لها من اسم اللهِ الذي هو اللهُ، وسَمَّوْا بعضَها العُزَّى، اشتقاقًا لها من اسمِ اللهِ الذي هو العزيزُ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

(1)

سقط من: م.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1623 عن محمد بن سعدٍ به.

(3)

أخرجه أحمد 15/ 315 (9513) عن ابن علية به وأخرجه أحمد أيضًا 15/ 315 (9513)، 16/ 291، 403 (10481، 10686)، والترمذى (3506)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1622، وابن حبان (807)، والطبراني في الدعاء، (103)، والحاكم 1/ 17، وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (10) - وعند الحاكم والبيهقى ذكرُ تفصيل الأسماء التسعة والتسعين - من طريق هشام بن حسان به. وأخرجه معمر في جامعه (19656)، وأحمد 13/ 61، 16/ 291، 402، 403 (7623، 10481، 10685)، ومسلم (2677)، والعقيلي في الضعفاء 3/ 15، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1622، والطبراني في الدعاء (95 - 105، 112)، وفى الأوسط (2295، 4900)، والحاكم 1/ 17، والبيهقى في الأسماء والصفات (103) من طريق ابن سيرين به، وعند الحاكم والعقيلي والطبراني (الدعاء - حديث 112 فقط) والبيهقى (حديث 10 فقط) ذكر تفصيل الأسماء الحسنى.

ص: 596

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . قال: إلحادُ المُلْحِدِين أن دَعَوُا اللاتَ في أَسماءِ اللهِ

(1)

.

حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . قال: اشْتَقُّوا العُزَّى من العزيز، واشْتَقُّوا اللاتَ مِن اللهِ

(2)

.

واخْتَلَف أهل التأويل في تأويل قوله: {يُلْحِدُونَ} .

فقال بعضُهم: يُكذِّبونَ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . قال: الإلحاد التكذيبُ

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: يُشْرِكون.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن

(4)

ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1623 عن محمد بن سعد به، زاد فيه:"والعزى" بعد قوله: "اللات".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 517 عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1623 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 149 إلى ابن المنذر.

(4)

في النسخ: "أبو". والمثبت من تفسير ابن أبي حاتم.

ص: 597

{يُلْحِدُونَ} . قال: يشركون

(1)

.

وأصل الإلحاد في كلام العرب، العُدُولُ عن القصد، والجَوْرُ عنه، والإعراضُ. ثم يُسْتَعْمَلُ في كلِّ مُعْوَجٍّ غير مستقيمٍ، ولذلك قيل للحدِ القبر: لَحْدٌ. لأنه في ناحيةٍ منه، وليس في وَسَطِه. يُقال منه: ألحَد فلانٌ يُلْحِدُ إلحادًا. ولَحَدَ يَلْحَدُ لَحْدًا ولُحُودًا. وقد ذُكِر عن الكِسائيِّ أنه كان يُفَرِّقُ بين الإلحادِ واللَّحْدِ؛ فيقولُ في الإلحاد: إنه العُدولُ عن القصدِ. وفي اللَّحْدِ: إنه الرَّكُونُ إلى الشيء. وكان يَقْرَأُ جميع ما في القرآن "يُلْحِدُون" بضَمِّ الياء وكسرِ الحاءِ، إلا التي في "النحلِ"، فإنه كان يَقْرَؤُها "يَلْحَدُون" بفتح الياءِ والحاءِ. ويَزْعُمُ أنه بمعنَى الرُّكُونِ

(2)

. وأما سائرُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ، فيَرَوْن أن معناهما واحدٌ، وأنَّهما لغتانِ جاءَتا في حرفٍ واحدٍ بمعنًى واحدٍ.

واخْتَلَفَتِ القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فَقَرَأَتْه عامَّة أهل المدينة وبعضُ البَصْرِيِّين والكوفيِّين: {يُلْحِدُونَ} بضمِّ الياء وكسر الحاء، مِن: ألْحَد يُلحِد. في جميع القرآن. وقرأَ ذلك عامَّةُ قَرَأَةِ أهل الكوفة (يَلْحَدون) بفتح الياءِ والحاءِ، من: لَحَدَ يَلْحَدُ

(3)

.

والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما لغتانِ بمعنًى واحدٍ، فبأيَّتِهما قَرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك، غير أنِّى أختارُ القراءةَ بِضمِّ الياء، على لغةِ مَن قالَ:

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1623 من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 244 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 149 إلى عبد بن حميد.

(2)

ينظر السبعة ص 298، 375، والكشف عن وجوه القراءات 1/ 484.

(3)

قرأ حمزة بفتح الياء، والحاء، ومثله في النحل والسجدة، ووافقه الكسائي على ذلك في النحل، وقرأ الباقون "يُلحِدون" بضم الياء وكسر الحاء. ينظر الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/ 484، 485، والتيسير في القراءات السبع ص 94.

ص: 598

ألحَدَ. لأنها أشهرُ اللغَتين وأفصحُهما. وكان ابن زيدٍ يقولُ في قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} : إنه منسوخٌ.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . قال: هؤلاء أهل الكفرِ، وقد نُسِخ، نَسَخه القِتالُ

(1)

.

ولا معنى لما قال ابن زيدٍ في ذلك من أنه منسوخٌ؛ لأنَّ قولَه: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . ليس بأمرٍ مِن الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بتَرْكِ المشركين أن يقولوا ذلك، حتى يَأْذَنَ له في قتالِهم. وإنَّما هو تهديدٌ مِن اللهِ للمُلْحِدِين في أسمائه ووعيدٌ منه لهم، كما قال في موضعٍ آخر:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} الآية [الحجر: 3]. وكقولِه: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 66]. وهو كلامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الأَمْرِ بمعنى الوعيد والتهديدِ، ومعناه: إنْ نُمْهِل

(2)

الذين يُلْحِدون، يا محمدُ، في أَسماءِ اللهِ إلى أجلٍ هم بالِغُوه، فسوف يُجْزَوْن - إذا جاءَهم أجلُ اللهِ الذي [أجَّلَهم إليه]

(3)

- جزاءَ أعمالهم التي كانوا يعمَلونها قبل ذلك؛ من الكفر باللهِ، والإلحادِ في أسمائِه، وتكذيبِ رسوله.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} .

يقول تعالى ذكرُه: ومن الخَلْقِ الذين خَلَقْنا {أُمَّةٌ} . يعني: جماعةٌ. {يَهْدُونَ} . يقولُ: يَهْتَدُون {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . يقولُ: وبالحقِّ يَقْضون ويُنصِفون الناس. كما قال ابن جريجٍ.

(1)

ذكره ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 339، والقرطبي في تفسيره 7/ 328.

(2)

في م: "تمهل".

(3)

في م: "أجله إليهم".

ص: 599

حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قوله:{أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . قال ابن جُريجٍ: ذُكر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "هذه أُمَّتِى". قال: "بالحقِّ يَأْخُذون ويُعطون ويقْضُون"

(1)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} بَلَعْنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ إِذا قَرَأَهَا: "هذه لكم، وقد أَعْطِى القومُ بينَ أيْدِيكُم مِثْلَها: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} "

(3)

[الأعراف: 159].

‌القولُ في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} .

يقولُ تعالى ذِكرُه: والذين كَذَّبوا بأدِلَّتِنا وأعلامِنَا، فَجَحَدوها ولم يَتَذَكَّروا بها، سَنُمْهِلُه بغرَّتِه ونُزَيِّنُ له سوءَ عملِه، حتى يَحْسَبَ أنه [فيما هو]

(4)

عليه من تكذيبِه بآياتِ اللهِ، إلى نفسِه مُحْسِنٌ، وحتى يَبْلُغَ الغاية التي كُتب له مِن المَهَلِ، ثم نَأْخُذُه بأعمالِه السيئة، فنجازيه بها من العقوبة ما قد أُعِدَّ له. وذلك استدراجُ اللهِ إياه. وأصلُ الاسْتِدْراجِ اغْتِرارُ المُسْتَدْرَجِ بلُطفٍ، مِن حيثُ يَرَى المُستدرَجُ أَنَّ

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 149 إلى المصنف وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1623 من طريق محمد بن عبد الأعلى به، بلفظ:"يعنى هذه الأمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، كما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 244 عن معمر به، مثل لفظ ابن أبي حاتم.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 518 عن سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 149 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.

(4)

في م: "هو فيما".

ص: 600

المستدرج، إليه محسنٌ، حتى يُوَرِّطَه مكروهًا.

وقد بيَّنَّا وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضَى، بما أغْنَى عن إعادته في هذا الموضع

(1)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} .

يقول تعالى ذكره: وأُؤَخِّرُ هؤلاء الذين كَذَّبوا بآياتِنا مِلاوَةً

(2)

، بالكسرِ والضَّمِّ والفتح، من الدهر - وهى الحينُ، ومنه قيل: انتظرتُك مَلِيًّا - ليَبْلُغوا بمعصيتهم ربَّهم المقدارَ الذي قد كتبه لهم من العقاب والعذابِ، ثم يَقْبِضُهم إليه. {إِنَّ كَيْدِي} . والكيد هو المكرُ، وقوله:{مَتِينٌ} . يعني: قويٌّ شديدٌ. ومنه قولُ الشاعرِ

(3)

:

عَدَلْنَ عُدُولَ النَّاسِ وَامْتَحّ

(4)

يَبْتَلِي

(5)

أفانينَ

(6)

مِن أُلْهُوبِ

(7)

شَدٍّ

(8)

مُمَاتِنِ

(1)

ينظر ما تقدم في 1/ 317 - 320.

(2)

في م: "ملاءة". والملاوة - مثلثة الميم كما ذكَر المصنِّف - والمَلا والمِلئُ، كله مَدَّةُ العَيْش. وقد تملَّى العيش وملِّيه وأملاه الله إياه وملَّاه وأمْلَى الله له: أمْهَلَه وطول له. اللسان (م ل و).

(3)

لم نستطع العثور عليه.

(4)

في م: "اقبح". وفى ت 1: "افتح". وغير منقوطة في ص، ت 2، ت 3، س، ف. وامتحّ: افعلّ من المَتْحِ. قال في التاج: "ومن المجاز: فرس متّاح: طويل مدّاد. أي في السير

ومن المجاز: الإبل تتمتَّح في "سيرها. أي تتروح بأيديها. وفى بعض النسخ: تتراوح" التاج (م ت ح).

(5)

في ص، ت 1، ت 2، ف:"سلي".

(6)

في م: "أفاس" وفى ت 1، ت 2، ت 3، س:"أفاسى"، وغير منقوطة في ص، ف والأفانين جمع أُفْنُون والأفنون: الجرى المختلط من جرى الفرس والناقة. اللسان (ف ن ن).

(7)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"الهرب". وفى م: "الهرّاب". والألهوب أن يجتهد الفرس في عدوه حتى يثير الغبار، والأصل فيه الجرى الشديد الذي يثير اللهب، وهو الغبار الساطع. ويوصف به فيقال: شَدُّ الهوب.

(8)

الشدُّ: العَدو. اللسان (ش د د).

ص: 601

يعني: سَيْبًا

(1)

شديدًا باقيًا لا يَنْقَطِعُ.

‌القولُ في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} .

يقول تعالى ذكرُه: أولم يَتَفَكَّرُ هؤلاء الذينَ كَذَّبوا بآياتنا، فيَتَدَبَّروا بعقولهم، ويعلموا أن رسولَنا الذي أرْسَلْناه إليهم، لا جِنَّةَ به ولا بَلَ، وأنَّ الذي دعاهم إليه هو [الصحيحُ والدينُ]

(2)

القويمُ، والحقُّ المبين. ولذا أُنزِلَتْ هذه الآية فيما قيل.

كما حدَّثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قال: ذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان على الصَّفا، فدعا قريشًا، فَجَعَل يُفَخِّذُهُم فَخْذًا فَخْذًا

(3)

: "يا بَنى فلانٍ، يا بني فلانٍ". فَحَذَّرَهم بَأْسَ اللهِ، ووَقائِعَ اللهِ. فقال قائِلُهم: إِنَّ صاحِبَكم هذا لمجنونٌ! بات يُصَوِّتُ إلى الصباحِ. أو: حتى أصْبَح، فأَنزَل اللهُ تبارك وتعالى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}

(4)

.

ويعنى بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ؛ ما هو إلا نذيرٌ يُنذِرُكم

(5)

عقابَ اللهِ

(1)

في م: "سيرًا". والسيب: الجرى. وساب الماء سيبًا: جرى وساب يسيب: مشى مسرعًا. التاج (س ي ب).

(2)

في م: "الدين الصحيح".

(3)

يقال: فخَّذ الرجل بني فلان. إذا دعاهم فخذا فخذا. والفَخْذُ هو حَيُّ الرَّجُل إذا كان من أقرب عشيرته. تاج العروس (ف خ ذ).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1624 من طريق يزيد به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 149، 150 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(5)

في م: "منذركم".

ص: 602

على كفركم به، إن لم تُنِيبوا إلى الإيمان به.

ويعنى بقوله: {مُبِينٌ} قد أبان لكم، أيها الناسُ، إنذاره ما أَنْذَرَكم به مِن بأس اللهِ، على كفرِكم به.

‌القول في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: أولم يَنْظُرُ هؤلاء المُكَذِّبون [بآياتِ اللهِ]

(1)

، في مُلكِ اللهِ وسلطانه في السماواتِ وفى الأرض، وفيما خلق جلَّ ثناؤُه من شيءٍ فيهما، فيتَدَبَّروا ذلك ويعتبروا به، ويَعْلَموا أَنَّ ذلك لَمن

(2)

لا نظير له ولا شَبِيهَ، ومِن فعل مَن لا يَنْبَغِى أن تكونَ العبادة والدينُ الخالصُ إلا له، فيُؤْمِنوا به، ويُصَدِّقوا رسوله، ويُنيبوا إلى طاعتِه، ويَخْلعوا الأندادَ والأوثانَ، ويَحْذَروا أن تكونَ آجالُهم قد اقتَرَبت، فيَهلِكوا على كفرِهم ويصيروا إلى عذاب الله، وأليم عقابه؟!

وقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: فبأيِّ تخويفٍ وتحذيرٍ وترهيبٍ، بعد تحذيرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وترهيبِه، الذي أتاهم به من عندِ اللهِ في آي كتابه يُصَدِّقون، إن لم يُصدِّقوا بهذا الكتاب الذي جاءَهم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من عندِ اللهِ تعالى؟!

‌القول في تأويل قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)} .

يقول تعالى ذكره: إِنَّ إعْراضَ

(3)

هؤلاء الذين كَذَّبوا بآياتِنا، التاركِي النظر في

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"بآياتنا".

(2)

في م: "ممن ".

(3)

في ت 1، ت 2، س، ف:"أعرض".

ص: 603

حُججِ الله والفكر فيها - لإضْلالِ اللهِ إيَّاهم، ولو هداهم اللهُ لَاعْتَبَروا وتَدَبَّروا، فأَبْصَروا رُشْدَهم، ولكنَّ الله أضلَّهم، فلا يُبْصرون رُشدًا، ولا يهتدون سبيلًا، ومَن أَضَلَّه عن الرَّشادِ فلا هادى له إليه

(1)

، ولكنَّ الله يَدَعُهم في تَمَادِيهِم في كفرهم، وتَمرُّدِهم في شِركهم، يَتَردَّدون؛ ليَسْتَوْجِبوا الغاية التي كتبها اللهُ لهم من عقوبته وأليم نكاله.

‌القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الذين عُنُوا بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} .

فقال بعضُهم: عُنى بذلك قومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريشٍ، وكانوا سَأَلُوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌ذِكْرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمر، عن قَتادةَ قال: قالت قريشٌ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنَّ بيننا وبينك قرابةً، فأَسِرَّ إلينا متى الساعةُ؟ فقال اللهُ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}

(2)

.

وقال آخرون: بل عُنى به قومٌ من اليهود.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونس بن بكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بن إسحاقَ، قال: ثني محمد بن أبي محمدٍ مولَى زيد بن ثابتٍ، قال: ثني سعيدُ بن جبيرٍ أو عكرمةُ،

(1)

سقط من: م.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 245 عن معمر به.

ص: 604

عن ابن عباسٍ، قال: قال جَبَلُ

(1)

بن أبي قُشيرٍ وسمولُ

(2)

بنُ زيدٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، أخبِرنا متى الساعةُ إن كنتَ نبيًّا كما تقولُ، فإِنَّا نَعْلَمُ متى هي. فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن طارقِ

(4)

بن شهابٍ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يزالُ يَذْكُرُ مِن شأن الساعة حتى نَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}

(5)

.

قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القول في ذلك أن يُقالَ: إِنَّ قوما سَألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ، فَأَنزل الله هذه الآيةَ، وجائزٌ أن يكونَ كانوا من قريشٍ، وجائزٌ أن يكونَ

(6)

كانوا من اليهودِ، ولا خبرَ بذلك عندنَا يُجَوِّزُ قَطَّعَ القول على أيِّ ذلك كان.

فتأويلُ الآيةِ إذن: يَسْأَلُك القومُ الذين يَسْأَلُونك عن الساعةِ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؟ يقولُ: متى قيامها؟

ومعنى أيَّانَ: متى. في كلامِ العربِ، ومنه قول الراجز

(7)

:

(1)

في م، والدر المنثور:"حمل". وينظر سيرة ابن هشام 1/ 515، 569، والبداية والنهاية 5/ 7.

(2)

كذا في النسخ والدر المنثور، وفى سيرة ابن هشام، والبداية والنهاية:"شمويل".

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 569، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى أبي الشيخ.

(4)

في النسخ: "مخارق". والمثبت من تفسير ابن كثير وتحفة الأشراف، وينظر تهذيب الكمال 13/ 341، 342.

(5)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 526 عن وكيع به، وأخرجه النسائي في الكبرى (11645) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به.

(6)

في م، ص:"يكونوا".

(7)

الرجز في مجاز القرآن 1/ 234، وتفسير القرطبي 7/ 335، واللسان (أ ب ن) غير منسوب.

ص: 605

أَيَّانَ تَقْضى

(1)

حاجَتي أَيَّانا

أمَا تَرَى

(2)

لِنُجْحِها إبَّانا

(3)

ومعنى قولِه: {مُرْسَاهَا} : قيامُها. مِن قولِ القائلِ: أرساها اللَّهُ فهى مُرْساةٌ. وأرساها القومُ: إذا حَبَسوها. ورَسَتْ هي تَرْسو رُسُوًّا.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا

(4)

محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} . يقولُ: متى قيامُها

(5)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} : متى قيامُها

(6)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: مُنْتهاها. وذلك قريبُ المعنى مِن معنى مَن قال: معناه: قيامُها. لأنَّ انْتِهاءَها بُلُوغُها وقتَها. وقد بَيَّنا أن أصلَ ذلك الحبسُ والوقوفُ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن

(1)

في ص: "بعصى" وفى ت 1، س، ف:"يقضى". وينظر مصادر التخريج.

(2)

غير منقوطة في ص، ت 1، وفى س:"يرى". وينظر مصادر التخريج.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س:"إيانا"، وفى تفسير القرطبي:"أوانا". وإبَّانُ كل شيء وقته وحينه الذي يكون فيه. اللسان (أ ب ن).

(4)

في م: "حدثني".

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1626 من طريق أحمد بن المفضل به.

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى عبد بن حميد مطولًا، وسيورد المصنِّف بقيته بعد قليل في موضعين.

ص: 606

عباسٍ قولَه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} . يعنى: مُنْتهاها

(1)

.

وأما قولُه: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} . فإنه أمرٌ مِن اللَّهِ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يجيبَ سائِليه عن الساعةِ، بأنه لا يَعْلَمُ وقتَ قيامِها إلا اللَّهُ الذي يَعْلَمُ الغيبَ، وأنه لا يُظْهِرُها لوقتِها، ولا يعلمُها غيرُه جلَّ ذكرُه.

كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} . يقولُ: علمُها عندَ اللَّهِ، هو يُجَلِّيها لوقتِها، لا يعلمُ ذلك إلا اللَّهُ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَا يُجَلِّيهَا} : يأتى بها

(3)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {لَا يُجَلِّيهَا} . قال

(4)

: لا يَأْتى بها {إِلَّا هُوَ} .

[حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}. يقولُ: لا يُرسِلُها لوقتِها إلا هو]

(5)

(6)

.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 520 عن علي عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1626 من طريق الضحاك عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى ابن المنذر.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627 من طريق يزيد به.

(3)

تفسير مجاهد ص 347، ومن طريق ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627 من طريق شبل عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(4)

سقط من: م.

(5)

سقط من: س، ف. وفى ت 1:"حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: {لَا يُجَلِّيهَا} قال: لا يأتى بها إلا هو".

(6)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى المصنِّف وأبى الشيخ مطولًا، وستأتى بقيته في الأثر القادم، وعند تفسير قوله:{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .

ص: 607

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .

اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ثَقُلَت الساعةُ على أهلِ السماواتِ والأرضِ، أن يَعْرِفوا وقتَها ومجيئَها؛ لخَفائِها عنهم، واسْتِئْثارِ اللَّهِ بعِلْمِها.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ قولَه:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . [يقولُ: خَفِيَتْ في السماواتِ والأرضِ]

(1)

، فلم يَعْلَمْ قيامَها؛ متى تقومُ - مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، جميعًا عن معمرٍ، عن بعضِ أهلِ التأويلِ {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قال: ثَقُل علمُها على أهلِ السماواتِ وأهلِ الأرضِ، أنهم لا يَعْلَمون

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كَبُرَتْ

(4)

عندَ مجيئِها على أهلِ السماواتِ والأرضِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، وحدَّثنا الحسنُ بنُ

(1)

سقط من: ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627 من طريق أحمد بن المفضل به، وقد تقدم به، وقد تقدم أوله في الأثر السابق.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 244 عن معمر عن قتادة والكلبى، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فقط، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 - قول قتادة فقط - إلى ابن المنذر.

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"كثرت".

ص: 608

يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، جميعًا عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ في قولِه: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يعنى: إذا جاءتْ ثَقُلَتْ على أهلِ السماءِ وأَهلِ الأرضِ. يقولُ: كَبُرَتْ عليهم

(1)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: إذا جاءت انشقَّت السماءُ، وانْتَثَرَت النجومُ، وكُوِّرَت الشمسُ، وسُيِّرت الجبالُ، وكان ما قال اللَّهُ، فذلك ثِقَلُها

(2)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: قال بعضُ النَّاسِ في {ثَقُلَتْ} : عَظُمَتْ.

وقال آخرون: معنى قولِه: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . على السماواتِ والأرضِ.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي على السماواتِ والأرضِ.

قال أبو جعفرٍ: وأوْلَى عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: ثَقُلَتِ الساعةُ في السماواتِ والأرضِ على أهلِها، أن يَعْرِفوا وقتَها وقيامَها؛ لأنَّ اللَّهَ أَخفى ذلك عن خَلْقِه، فلم يُطْلِعْ عليه منهم أحدًا. وذلك أن اللَّهَ أَخْبَر بذلك بعدَ قولِه:

(1)

تفسير عبد الرزاق 1/ 245 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى ابن المنذر.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 521 عن ابن جريج، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

ص: 609

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} . وأخبر بعدَه أنها لا تَأْتى إلا بغتةً، فالذى هو أوْلَى؛ أن يكون ما بيَن ذلك أيضًا خبرًا عن خَفاءِ علمِها عن الخلقِ، إذ كان ما قبلَه وما بعدَه كذلك.

وأما قولُه: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} . فإنه يقولُ: لا تجئ الساعةُ إلا فجأةً، لا تَشْعُرون بمجيئها.

كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} . [يقولُ: يَبْغتُهُم قيامُها، تَأْتيهم على غفلةٍ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} ]

(2)

، قَضَى اللَّهُ أَنها لا تَأْتيكم إلا بغتةً. قال: وذُكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بالناسِ، و

(3)

الرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَه، والرجلُ يَسْقى ماشيتَه، والرجلُ يُقِيمُ سِلْعَتَه في السوقِ، [والرجلُ]

(4)

يَخْفِضُ مِيزانَه ويَرْفَعُه"

(5)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: يسألُك هؤلاءِ القومُ عن الساعةِ، {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} .

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628 من طريق أحمد بن المفضل به، وقد تقدم أوله.

(2)

سقط من: س.

(3)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1627 من طريق يزيد به، مقتصرًا على الموقوف منه دون المرفوع. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 150 إلى المصنف وعبد بن حميد، الموقوف منه والمرفوع.

ص: 610

[واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويل قولِه: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}]

(1)

.

فقال بعضُهم: يَسْأَلُونك عنها كأنك حفيٌّ بِهم. وقالوا: معنى قولِه: {عَنْهَا} . التقديمُ، وإن كان مُؤَخَّرًا

(2)

.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثني عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}. يقولُ: كأَنَّ بينَك وبينَهم مَوَدَّةً، كأنك صديقٌ لَهم. قال ابن عباسٍ: لَمَّا سأل الناسُ محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ، سأَلوه سؤالَ قومٍ كأَنَّهم يَرَوْن أن محمدًا حَفِيٌّ بهم، فأوحَى اللَّهُ إليه أنما علمُها عندَه، اسْتَأْثَر

(3)

بعلمِها، فلم يُطْلِعْ عليها ملَكًا ولا رسولًا

(4)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال قتادةُ: قالتْ قريشٌ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنَّ بينَنا وبينَك قرابةً، فأسِرَّ إلينا متى الساعةُ؟ فقال اللَّهُ:[{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}]

(5)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} : أَىْ حفيٌّ بهم

(6)

. قال: قالتْ قريشٌ: يا محمدُ، أسِرَّ إلينا علمَ الساعةِ، لِمَا

(1)

سقط من النسخ، وأثبتناه كالذى جرت به عادة أبى جعفر ومنهاجه.

(2)

قال الفراء: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} مقدَّم ومؤخَّرٌ، ومعناه: يسألونك عنها كأنك حفى بها. معاني القرآن 1/ 399.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يستأثر". وينظر مصدرا التخريج.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628، 1629 عن محمد بن سعد به، نحوه وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى ابن مردويه.

(5)

في ص: "يسألونك عنها كأنك حفى بهم". وقد تقدم الأثر ص 604، وكانت العبارة هناك على الصواب في ص.

(6)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

ص: 611

بينَنا وبينَك مِن القَرابة؛ لقَرَابتِنا منك

(1)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ وهانئُ بنُ سعيدٍ، عن حجاجٍ، عن خُصيفٍ، عن مجاهدٍ وعكرمةَ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . قال: حَفِيٌّ بهم حينَ يَسْأَلونك

(2)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قال: قريبٌ

(3)

منهم، وتَحفَّى عليهم. قال: وقال أبو مالكٍ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بهم. قال: قريبٌ منهم، وتَحفَّى عليهم. قال: وقال أبو مالكٍ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بهم، فتُحَدِّثُهم

(4)

.

حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} : كأَنَّك صديقٌ لهم

(5)

.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد اسْتحْفَيْتَ المسألةَ عنها فعَلِمْتَها.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628 من طريق يزيد به، وقد تقدم أوله ص 606.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (971 تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628 من طريق خصيف عن مجاهد وحده، وعزاه السيوطي عن مجاهد في الدر المنثور 3/ 151 إلى عبد بن حميد.

(3)

في م: "قربت".

(4)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 من قول أبى مالك إلى عبد بن حميد، بلفظ: كأنك حفى بهم حين يأتونك يسألونك.

وكذا ورد الأثر في جميع النسخ. ولعل صوابه أن يكون: عن ابن عباس: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . قال: قريب منهم وتحفى عليهم قال: وقال أبو مالك: كأنك حفى بهم فتحدثهم.

(5)

ينظر تفسير ابن كثير 3/ 522.

ص: 612

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} : اسْتَحْفَيْتَ عنها السؤالَ حتى عَلِمْتَها

(1)

.

حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا أبو سعدٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . قال: استحفيتَ عنها السؤالَ حتى علمتَ وقتَها.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضَّحَّاكِ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . قال: كأنك عالمٌ بها.

قال: ثنا جابرُ

(2)

بنُ نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . قال: [أي لستَ]

(3)

تَعْلَمُها

(4)

.

حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنى عُبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . يقولُ: يَسْأَلُونك عن الساعةِ، كأَنَّ عندَك عِلْمًا مِنها، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} .

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن بعضِهم:{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} : كأَنَّك عالمٌ بها

(5)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 348 ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في النسخ: "حامد". وهو جابر بن نوح بن جابر أبو بَشير الكوفى، ينظر تهذيب الكمال 4/ 459.

(3)

في م: "كأنك".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628 من طريق أبى روق عن الضحاك عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 عن ابن عباس إلى أبى الشيخ.

(5)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 245 عن معمر عن الكلبى.

ص: 613

حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . قال: كأَنَّك بها عالمٌ. وقال: أخْفَى عِلْمَها على خَلْقِه. وقرَأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، حتى ختَمَ السورةَ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليّ بن أبى طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . يقولُ: كأنك يُعجِبُك سؤالُهم إياك، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}. وقولُه:{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . يقولُ: لطيفٌ بها

(2)

.

فوجَّه هؤلاء تأويلَ قولِه: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} . إلى: "حَفِيٌّ بها"، وقالوا: تقولُ العربُ: تَحَفَّيْتُ له في المسألةِ، وتَخَفَّيْتُ عنه. قالوا: ولذلك قيل: أتَيْنَا فلانًا نَسألُ به. بمعنى: نَسأَلُ عنه.

قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى القولينِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: كأنك حَفِيٌّ بالمسألةِ عنها فتَعْلَمُها.

فإن قال قائلٌ: وكيف قِيل: {حَفِيٌّ عَنْهَا} ، ولم يُقَلْ:"حَفى بها"، إن كان ذلك تأويلَ الكلامِ؟

قِيل: إن ذلكَ قيل كذلك؛ لأن الحفاوةَ إنَّما تكونُ في المسألةِ؛ وهي البَشاشَةُ للمسئولِ عندَ المسألةِ، والإكثارُ مِن السؤالِ عنه. والسؤالُ يُوصَلُ بـ "عن" مرَّةً وبـ "الباء" مرةً، فيقالُ: سألتُ عنه، وسألتُ به. فلمَّا وضِع قولُه:{حَفِيٌّ}

(3)

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 522.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1628 من طريق عبد الله بن صالح به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ، مقتصرا على قوله:"لطيف بها".

(3)

في ص، ت 1، س، ف:"بمعنى".

ص: 614

مَوْضِعَ السؤالِ، وُصِل بأغْلَبِ الحرفينِ اللَّذَينِ يُوصَلُ بهما السؤالُ، وهو "عن"، كما قال الشاعرُ

(1)

:

سؤالَ حَفِيٍّ

(2)

عن أخيه كأَنَّه

بِذِكْرَتِهِ

(3)

وَسْنانُ أَو مُتَواسِنُ

وأما قولُه: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} ، فإن معناه: قُلْ، يا محمدُ، لسائليك عن وقتِ الساعةِ وحينِ مَجيئِها: لا عِلْمَ لى بذلكَ، ولا يَعْلَمُ

(4)

به إِلَّا اللَّهُ الذي يَعْلَمُ غيبَ السماواتِ والأرضِ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ: ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعْلَمون أن ذلك لا يَعْلَمُه إلا اللَّهُ، بل يَحْسَبون أن علمَ ذلك يُوجَدُ عندَ بعضِ خَلْقِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} .

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ: صلى الله عليه وسلم قُلْ، يا محمدُ، لسائليك عن الساعةِ أَيَّانَ مُرْساها:{لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} . يقولُ: لا أُقْدِرُ على اجْتِلابِ نفعٍ إلى نَفْسِي، ولا دَفْعِ ضُرٍّ يَحِلُّ بها عنها، إلا ما شاءَ اللَّهُ أَن أَمْلِكَه مِن ذلكَ، بِأَنْ يُقَوِّيَنِى

(1)

قال في ديوان الهذليين: "قال المعطّل أحد بنى رهم بن سعد بن هذيل

وقال أيضًا". ثم ذكر قصيدة منها هذا البيت. أما شرح أشعار الهذليين ففيه: "وقال مالك بن خالد، لم يروها إلا الجمحى والأصعمى، ويقال: إنها للمعطَّل. هكذا قال أبو نصر". ثم ذكر القصيدة وفيها هذا البيت. ديوان الهذليين 3/ 43 - 49، وشرح أشعار الهذليين 1/ 444 - 450.

(2)

كذا الرواية عند أبى جعفر والذي في مصدرى التخريج: "سؤال الغنى". وسياق القصيدة يقضى بأنه سؤال الغنى المستغنى - غير الحفى - لا سؤال الحفى. وقوله: "سؤال حفى" يتعارض مع قوله: "وسنان أو متواسن".

(3)

في م: "يذكره".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"علم".

ص: 615

عليه، ويُعِينَنى. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}. يقولُ: لو كنتُ أَعْلَمُ ما هو كائنٌ مما لم يَكُنْ بعدُ {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} . يقولُ: لأَعْدَدْتُ الكثيرَ مِن الخيرِ.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الخيرِ الذي عَناهُ اللَّهُ بقولِه: {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: لاسْتَكثرتُ مِن العملِ الصالحِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ قولَه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} . قال: الهُدَى والضلَالةُ. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} . قال: {أَعْلَمُ الْغَيْبَ} : متى أموتُ، لاستكثرتُ مِن العملِ الصالحِ

(1)

.

حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مِثْلَه

(2)

.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} . قال: لَاجْتَنَبْتُ ما يكونُ مِن الشَّرِّ واتَّقَيْتُه

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لأَعْدَدْتُ للسَّنَةِ المُجْدِبةِ مِن المُخْصِبَةِ، ولَعَرَفْتُ الغلاءَ من الرُّخْصِ، واسْتَعْدَدْتُ له في الرخصِ.

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى أبى الشيخ، وينظر تفسير ابن كثير 3/ 526.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 526 عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1629 من طريق منصور عن مجاهد.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1630 من طريق أصبغ عن ابن زيد به، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 527 عن ابن زيد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى أبى الشيخ.

ص: 616

وقولُه: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} . يقولُ: وما مسَّنِىَ الضُّرُّ. {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} . يقولُ: ما أنا إلا رسولُ اللَّهِ أَرْسَلنى إليكم، أُنذِرُ عقابَه مَن عَصاه منكم وخالَف أمْرَه، وأُبَشِّرُ بثوابِه وكرامتِه، مَنْ آمَنَ به وأطاعَه

(1)

منكم. وقولُه: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: يُصَدِّقون بأنى للَّهِ رسولٌ، ويُقِرُّونَ بحقيقةِ

(2)

ما جئتُهم به مِن عندِه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . يعنى بالنفسِ الواحدةِ آدمَ.

كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . قال: آدمُ عليه السلام

(3)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : مِن آدمَ

(4)

.

ويعنى بقولِه: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : وجعَل من النفْسِ الواحدةِ، وهو آدمُ، زَوْجَهَا حَوَّاءَ.

كما حدَّثني بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ؛ حواءَ، فجُعِلَتْ مِن ضِلَعٍ من أضْلاعِه لِيَسْكُنَ إليها

(4)

.

(1)

في ت 1، س، ف:"طاعه".

(2)

في م: "بحقية".

(3)

تقدم تخريجه في 6/ 340.

(4)

تقدم تخريجه في 6/ 340.

ص: 617

ويعنى بقولِه: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} : ليَأْوِىَ إليها لقضاءِ الحاجةِ ولَذَّتِهِ. ويعنى بقولِه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} : فَلَمَّا تَدَثَّرَها لقضاءِ حاجَتِه منها، فقضَى حاجتَه منها، {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} . وفى الكلامِ محذوفٌ تُرِك ذكرُه استغناءً بما ظَهَر عما حُذِفَ

(1)

، وذلك قولُه:{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ} . وإنَّما الكلامُ: فلمَّا تَغَشَّاها فقضَى حاجتَه منها حَمَلَتْ. وقولُه: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} . يعنى بخِفَّةِ الحمْلِ الماءَ الذي حَمَلَتْه حواءُ في رَحِمها مِن آدمَ، أَنَّه كان حَمْلًا خفيفًا، وكذلك هو حملُ المرأةِ ماءَ الرجلِ؛ خفيفٌ عليها. وأمَّا قولُه:{فَمَرَّتْ بِهِ} . فإنه يعنِى: اسْتَمَرَّت بالماءِ؛ قامتْ به وقعَدتْ، وأَتَمَّت الحملَ.

كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن أبي عُميرٍ، عن أيوبَ، قال: سألتُ الحسنَ عن قولِه: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} . قال: لو كنتَ امْرَأً عربيًّا لَعَرَفتَ ما هي، إنما هي: فاسْتَمَرَّتْ به

(2)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} : اسْتَبَان حَمْلُها

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمَرَّتْ بِهِ} . قال: اسْتَمَرَّ حملُها

(4)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه: {حَمَلَتْ

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"يحذف".

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 528 عن أيوب به نحوه، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 248 عن معمر عن الحسن، وعزاه السيوطي نحوه في الدر المنثور إلى أبى الشيخ.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1631 من طريق يزيد به.

(4)

تفسير مجاهد ص 348، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1632 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

ص: 618

حَمْلًا خَفِيفًا}. [وهى]

(1)

النُّطْفَةُ، و

(2)

قولُه: {فَمَرَّتْ بِهِ} . يقولُ: اسْتَمَرَّتْ به

(3)

.

وقال آخرون: معنى ذلك: فشَكَّتْ فيه.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَمَرَّتْ بِهِ} : فشَكَّتْ أَحَمَلَتْ أم لا

(4)

.

ويعنى بقولِه: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} : فلمَّا صار ما في بطنِها مِن الحَمْلِ الذي كان خفيفًا - ثَقيلًا، ودَنَتْ ولادتُها. يقالُ منه: أَثْقَلَتْ فلانةُ. إذا صارَتْ ذَاتَ ثِقْلٍ بحملِها. كما يقالُ: أَتَمْرَ فلانٌ. إذا صار ذا تَمْرٍ.

كما حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} : كبِر

(5)

الولدُ في بطنِها

(6)

.

قال أبو جعفرٍ: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} . يقولُ: نادَى آدمُ وحواءُ ربَّهما وقالا: يا ربَّنا، {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .

واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الصلاحِ الذي أقْسَم آدمُ وحواءُ، عليهما

(1)

في م: "قال هي".

(2)

زيادة من: م.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1631 من طريق عمرو به. شطره الأول، وأخرج شطره الثاني في 5/ 1632 من طريق عمرو به.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1631 عن محمد بن سعد به.

(5)

في ص، س، ف:"كثر".

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1632 من طريق عمرو به.

ص: 619

السلامُ، أنه إن آتاهما

(1)

في حملِ حواءَ لتَكُونَنَّ مِن الشَّاكرين؛

فقال بعضُهم: ذلك هو أن يكون الحَمْلُ غلامًا.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ في قولِه: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} . قال: غلامًا

(2)

.

وقال آخرون: بل هو أن يكونَ المولودُ بشرًا سويًّا مِثلَهما، ولا يكونَ بهيمةً.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن زيدِ بن جبيرٍ الجُشَمِيِّ

(3)

. عن أبى البَخْتَرِيِّ، في قولِه:{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . قال: أَشْفَقا أن يكونَ شيئًا دونَ الإنسانِ

(4)

.

قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن زيدِ بن جُبيرٍ، عن أبي البَخْتَرِيِّ، قال: أشْفَقا أن لا يكونَ إنسانًا.

قال: ثنا محمدُ بنُ عُبيدٍ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ، قال: لَمَّا حَمَلَت امرأَةُ آدمَ فَأَثْقَلَتْ، [كَانَا يُشْفِقان]

(5)

أن يكونَ بَهيمةً، فَدَعَوَا رَبَّهما: {لَئِنْ آتَيْتَنَا

(1)

بعده في م: "صالحًا".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1633 من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 248 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152 إلى ابن المنذر بلفظ:"غلاما سويا".

(3)

في ص، م، س، ت 2، ف:"الحسمى"، وفى ت 1:"الجسمى". وينظر تهذيب الكمال 10/ 32؛ أنه من بنى جُشَم بن معاوية.

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1633 تعليقا، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 528 بلفظ الأثر الآتى.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"كانوا يشفقون".

ص: 620

صَالِحًا} الآية

(1)

.

قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، [عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: أشْفَقا أن يكونَ بهيمةً

(2)

.

حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ]

(3)

، قال: قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: لَمَّا هَبَط

(4)

آدمُ وحواءُ، أُلْقِيت الشهوةُ في نفسِه فأصابَها، فليسَ إِلَّا أن أصابَها حَمَلَتْ، فليس إلا أن حَمَلَتْ تحرَّكَ في بطنِها ولدُها، [قالتْ: ما هذا]

(5)

؟ فجاءَها إبليسُ، فقال

(6)

: أتَرَيْنَ في الأرضِ إلا ناقةً أو بقرةً أو ضائنةً

(7)

أو ماعزةً؟ هو

(8)

بعضُ ذلك. قالت: واللَّهِ ما منِّى شيءٌ إلا وهو يَضِيقُ عن ذلكَ. قال: فأطِيعِينِى وسَمِّيه عبدَ الحارثِ تَلِدِى شِبْهَكُما مِثْلَكما. قال: فذَكَرَتْ ذلك لآدمَ عليه السلام. فقال: هو صاحِبُنا الذي قد [أَخْرَجَنا من الجنةِ]

(9)

. فماتَ، ثم حَمَلَتْ بآخرَ، فجاءها فقال: أطِيعِينى وسَمِّيه عبدَ الحارثِ - وكان اسمُه في الملائكةِ الحارثَ - وإلَّا وَلَدتِ ناقةً أو بقرةً أو ضائنةً أو ماعزةً، أو قَتَلتُه، فإنى أنا قتلتُ الأوَّلَ. قال: فذَكَرَتْ ذلك

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1633 من طريق محمد بن عبيد به، كما أخرجه أيضا في نفس الصفحة من طريق آخر عن إسماعيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 528.

(3)

سقط من: ت 1، س، ف.

(4)

في ت 1: "أهبط".

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"قال". والمثبت موافق لما في الدر المنثور.

(6)

بعده في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"ما هذا".

(7)

في ص غير منقوطة. وفى ت 1، س، ف، وابن أبي حاتم والدر المنثور:"ضانية". والضّائِن من الغَنَم: ذو الصوف. ويُوصَف به فيقال: كبش ضائن، والأنثى ضائِنة. اللسان (ض أ ن).

(8)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أو". وينظر الدر المنثور.

(9)

مكانه في ص، ت 1، ت 2، س ف بياض. وفى الدر المنثور:"علمت".

ص: 621

لآدمَ، فكأنه لم يَكْرَهُه، فسَمَّتْه عبدَ الحارثِ، فذلك قولُه:{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} . يقولُ: شِبْهنَا مِثْلَنَا. {فَلَمَّاآتَيْتَنَا صَالِحًا} . قال: شِبْهَهما مِثْلَهما

(1)

.

حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} ، كَبِر الولدُ في بطنِها، جاءَها إبليسُ، فخَوَّفَها وقال لها: ما يُدرِيك ما في بطنِك؟ لعلَّه كلبٌ أو خِنزيرٌ أو حمارٌ، وما يُدْرِيكِ مِن أين يَخْرُجُ؛ مِنْ

(2)

دُبُرِك فيَقْتُلَك، أو من قُبُلِك، أو يَنْشَقُّ بطنُك فيَقْتُلَك؟ فذلك حِيَن {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا}. يقولُ: مِثْلَنَا - {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}

(3)

.

قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إِن اللَّهَ أَخْبرَ عن آدمَ وحواءَ، أنهما دَعَوَا اللَّهَ ربَّهما بحَمْلِ حواءَ، وأَقْسَما لئن أعْطاهما ما

(4)

في بطنِ حواءَ صالحًا، ليَكُونَانِ للَّهِ مِن الشاكرين. والصَّلاحُ قد يَشْمَلُ معانىَ كثيرةً؛ منها الصلاحُ في اسْتِواءِ الخَلْقِ، ومنها الصلاحُ في الدِّينِ، والصلاحُ في العقلِ والتدبيرِ. وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبرَ عن الرسولِ يُوجِبُ الحُجَّةَ بأنَّ ذلك على بعضِ

(5)

معانِى الصلاحِ دونَ بعضٍ، ولا فيه مِن العقلِ دليلٌ - وَجَب أن يُعَمَّ كما عَمَّه اللَّهُ، فيقالَ: إنهما قالا: لئن آتَيْتَنا صالحًا. بجميعِ

(6)

معاني الصلاحِ.

وأما معنى قولِه: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . فإنه: لَنَكونَنَّ مُمَّن يَشْكُرُك على ما وَهَبْتَ له مِن الولدِ صالحًا.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1632، 1633، من طريق سالم بن أبى حفصة، عن سعيد بن جبير، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152 إلى ابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في م: "أمن".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1632، 1633 من طريق عمرو به نحوه.

(4)

سقط من: م.

(5)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(6)

في ت 1، س، ف:"لجميع".

ص: 622

‌القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا رَزَقَهما اللَّهُ ولدًا صالحًا، كما سألَا، جعَلا له شركاءَ فيما آتاهما ورَزَقهما.

ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الشركاءِ التي جَعَلا

(1)

فيما أُوتِيا مِن المولودِ؛ فقال بعضُهم: جعَلا له شركاءَ في الاسمِ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا عمرُ بنُ إبراهيمَ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كانت حَوَّاءُ لا يعيشُ لها ولدٌ، فَنَذَرَتْ لئن عاش لها ولدٌ لَتُسمِّيَنَّه عبدَ الحارثِ، فعاش لها ولدٌ، فسَمَّتْه عبد الحارثِ، وإنَّما كان ذلك عن

(2)

وَحْى الشيطانِ"

(3)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا معتمرٌ، عن أبيه، قال: ثنا أبو العلاءِ، عن سَمُرةَ بن جندبٍ أنه حدَّث أن آدمَ عليه السلام سمَّى ابنَه عبدَ الحارثِ

(4)

.

(1)

في م: "جعلاها".

(2)

في م، وأكثر مصادر التخريج:"من".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 148 بهذا الإسناد. وأخرجه أحمد 5/ 11 (الميمنية)، والترمذى (3077)، والحاكم 2/ 545 من طريق عبد الصمد به نحوه. كما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1631، والطبرانى (6895)، وابن عدى في الكامل 5/ 1700، وابن مردويه في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 3/ 529 - من طريق عمر بن إبراهيم به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى أبى الشيخ.

(4)

بعده في النسخ: "قال: ثنا المعتمر عن أبيه".

ص: 623

قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن سليمانَ التَّيْميِّ، عن أبي العلاءِ بن الشِّخِّيرِ، عَن سَمُرَةَ بن جُندُبٍ، قال: سَمَّى آدمُ ابنَه عبدَ الحارثِ

(1)

.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن داودَ بن الحُصَينِ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت حواءُ تَلِدُ لآدمَ، فتُعَبِّدُهم للَّهِ، وتُسَمِّيه عبدَ اللَّهِ، وعُبَيدَ الله، ونحوَ ذلك، فيُصيُبهم الموتُ، فأتاها إبليسُ وآدمَ، فقال: إنكما لو تُسَمِّيانِه بغيرِ الذي تُسمِّيانه لَعاش. فوَلَدَتْ له رجلًا، فسمَّاه عبدَ الحارثِ، ففيه أَنْزَل اللَّهُ تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . إلى قولِه: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . إلى آخرِ الآيةِ

(2)

.

حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه في آدمَ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . إلى قولِه: {فَمَرَّتْ بِهِ} : فشَكَّتْ أَحَبِلَتْ أم لا، {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} الآية. فأتاهما الشيطانُ فقال: هل تَدْرِيان ما يُولَدُ لكما، أم هل تَدْرِيان ما يكونُ، أبهيمةً يكونُ

(3)

أم لا؟ وزَيَّن لهما الباطلَ، إنه غَوِيٌّ مُبِينٌ. وقد كانتْ قبلَ ذلك وَلَدَتْ ولدَيْنِ فماتا، فقال لهما الشيطانُ: إِنَّكما إن لم تُسَمِّياه بى لم يَخْرُجْ سَوِيًّا ومات كما مات الأَوَّلانِ. فسَمَّيا ولدَهما عبدَ الحارثِ، فذلك قولُه:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الآية

(4)

.

حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 529 نقلا عن المنصف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 151 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.

(2)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 148، 149 بهذا الإسناد، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 530 عن ابن إسحاق به.

(3)

سقط من: ف. وفى م: "تكون".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 530 عن العوفى به، وقد تقدم طرف منه في ص 619.

ص: 624

ابن عباسٍ: لَمَّا وُلِد له أوَّلُ ولدٍ، أتاه إبليسُ فقال: إِنِّي سَأَنْصَحُ لك في شأنِ ولدِك هذا، تُسَمِّيه عبدَ الحارثِ. فقال آدمُ: أعوذُ باللَّهِ من طاعتِك - قال ابن عباسٍ: وكان اسمُه في السماءِ الحارثَ - قال آدمُ: أعوذُ باللَّهِ من طاعتِك، إنى أطَعْتُك في أكْلِ الشَّجرةِ، فأَخْرَجْتَنى مِن الجنةِ، فلن أُطِيعَك. فمات ولدُه، ثم وُلِد له بعدَ ذلك ولدٌ آخرُ، فقال: أطِعْنى وإلا مات كمامات الأوّلُ. فعصاه، فمات، فقال: لا أزالُ أقْتُلُهم حتى تُسمِّيَه عبدَ الحارثِ. فلم يَزَلْ به حتى سَمَّاه عبدَ الحارثِ، فذلك قولُه:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} ؛ أَشْرَكَه في طاعتِه في غيرِ عبادةٍ، ولم يُشرِكْ باللَّهِ، ولكن أطاعَه.

حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا ......

(1)

، عن هارونَ، قال: أخبرنا الزبيرُ بنُ الخِرِّيتِ، عن عِكْرِمَةَ، قال: ما أَشْرَك آدمُ ولا حواءُ، وكان لا يعيشُ لهما ولدٌ، فأتاهما الشيطانُ فقال: إن سَرَّكما أن يعيشَ لكما ولدٌ فسَمِّياه

(2)

عبدَ الحارثِ. فهو قولُه: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} .

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} . قال: كان آدمُ عليه السلام لا يولدُ له ولدٌ إلا مات، فجاءَه الشيطانُ فقال: إن سَرَّك أن يعيشَ ولدُك هذا، فسَمِّه

(3)

(1)

مكانه في ص، ت 1، ت،2 س ف بياض، وكتب مقابله: حرف "ط"، وفى م:"سلمة".

مكان هذا البياض فما ندرى أهم وضعوها أم كانت في أصولهم على أن الظاهر أن هذا البياض في النسخ الخطية معناه سقوط بقية سند ابن حميد مع متنه وبعض سند هارون الذي بعده. وسند "هارون" كما تقدم في 4/ 218، 8/ 310 حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هارون النحوى، قال: ثنا الزبير بن الخريت، عن عكرمة.

(2)

في ص، ت 1، س:"فسماه".

(3)

في م: "فسميه".

ص: 625

عبدَ الحارثِ. ففَعَل، قال: فأشْرَكا في الاسمِ ولم يُشْرِكا في العبادةِ

(1)

.

حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . ذُكِر لنا أنه كان لا يعيشُ لهما ولدٌ، فأتاهما الشيطانُ، فقال لهما: سَمِّياه

(2)

عبدَ الحارثِ. وكان مِن وحى الشيطانِ وأمرِه، وكان شِركًا في طاعتِه

(3)

، ولم يكنْ شركًا في عبادتِه

(4)

(5)

.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قال: كان

(6)

لا يعيشُ لآدمَ وامرأتِه ولدٌ، فقال لهما الشيطانُ: إذا وُلِد لكما ولدٌ، فسَمِّياه

(7)

عبدَ الحارثِ. ففَعَلا وأطاعاه، فذلك قولُ اللَّهِ:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} الآية

(8)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فضيلٍ، عن سالمِ بن أبى حفصةَ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ قولَه:{أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} . إلى قولِه تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قال: لَمَّا حَمَلَتْ حواءُ في أوَّلِ ولدٍ وَلَدَتْه حِينَ أَثْقَلَتْ، أَتاها إبليسُ قبلَ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 245 عن معمر عن الكلبى وقتادة.

(2)

في ت 1، س، ف:"سميا".

(3)

في ص، ت 1، س، ف:"طاعة". والمثبت موافق لمصدرى التخريج الآتيين.

(4)

في ص، ت 1، س، ف:"عبارة". والمثبت موافق لمصدرى التخريج الآتيين.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1634 من طريق يزيد به، مقتصرا على قوله:"كان شركًا .. " إلى آخره، وكذا عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152، 153 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(6)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(7)

في ص، ت 1، ت 2، س:"فأسمياه".

(8)

تفسير مجاهد ص 348 وينظر أسباب النزول ص 171.

ص: 626

أن تَلِدَ، فقال: يا حواءُ، ما هذا الذي في بطنِك؟ فقالت: ما أدرى. [فقال: مِن أينَ يَخْرُجُ؛ مِن أنفِكِ، أو من عينِك، أو مِن أُذُينِك؟ قالت: لا أدرى]

(1)

. قال: أَرَأَيْتِ إن خرَج سليمًا، أَمُطِيعَتِى

(2)

أنتِ فيما آمُرُك به؟ قالت: نعم. قال: سَمِّيه عبدَ الحارثِ. وقد كان يُسَمَّى إبليسُ الحارثَ. فقالت: نعم. ثم قالتْ بعدَ ذلك لآدمَ: أتانى آتٍ في النومِ فقال لى كذا وكذا. فقال: إن ذلك الشيطانُ، فَاحْذَرِيه؛ فإنه عَدُوُّنا الذي أَخْرَجَنا مِن الجنةِ. ثم أتاها إبليسُ، فأعاد عليها، فقالتْ: نعم. فلمَّا وَضَعَتْه أَخْرَجَه اللَّهُ سليمًا، فَسَمَّتْه عبدَ الحارثِ، فهو قولُه:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

(3)

.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ وابنُ فُضيلٍ، عن عبدِ الملكِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: قِيل له: أشْرَك آدمُ؟ قال: أعوذُ باللَّه أن أَزْعُمَ أن آدمَ أشْرَك، ولكنَّ حواءَ لَمَّا أَثْقَلَتْ، أتاها إبليسُ فقال لها: مِن أين يَخْرُجُ هذا؟ مِن أنفِك، أو مِن عينِك، أو مِن فِيكِ؟ فقَنَّطَها، ثم قال: أَرَأَيْتِ إن خَرَج سويًّا

(4)

- زادَ ابن فُضيلٍ: لم يَضُرَّك ولمْ يَقْتُلْك - أتُطِيعيِنى؟ قالت: نعم. قال: فسَمِّيه عبدَ الحارثِ. فَفَعَلَتْ. زاد جريرٌ: فإنَّما كان شِرْكُه في الاسمِ

(5)

.

حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: فوَلَدَتْ غلامًا - يعنى حوّاءَ - فأتاها

(6)

إبليسُ فقال: سَمُّوه عبدِى وإلا قَتَلْتُه.

(1)

سقط من: ت 1، س، ف.

(2)

في م: "أتطيعينى".

(3)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 149 بهذا الإسناد.

(4)

بعده في تاريخ المصنف: "قال ابن وكيع".

(5)

أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 149، 150 بهذا الإسناد، وينظر مختصر تاريخ دمشق 7/ 320.

(6)

في م: "فأتاهما".

ص: 627

قال له آدمُ عليه السلام: قد أطعتُك وأَخْرَجْتَنِى مِن الجنةِ. فأبى أن يُطِيعَه، فَسَمَّاه عبدَ الرحمنِ، فسَلَّط اللَّهُ عليه إبليسَ فقَتَلَه، فحَمَلَتْ بآخرَ، فَلَمَّا وَلَدَتْه قال لها: سمِّيه عبدى وإلا قَتَلْتُه. قال له آدمُ: قد أطعتُك فأَخْرَجْتَنى مِن الجنةِ. فأبَى، فسَمَّاهُ صالحًا، فقَتَلَه. فلمَّا أن كان الثالثُ، قال لهما:[فإذ غلَبَتُمونِى]

(1)

فسَمُّوه عبدَ الحارثِ. وكان اسمَ إبليسَ، وإنما سُمِّي إبليسُ حينَ أَبْلَسَ، فعَنَوا

(2)

، فذلك حيَن يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . يعنى في الأسماءِ

(3)

.

وقال آخرون: بل المَعْنِيُّ بذلك رجلٌ وامرأةٌ من أهلِ الكفرِ من بنى آدمَ، جعَلا للَّهِ شركاءَ مِن الآلهةِ والأوثانِ حينَ رَزَقَهما ما رزَقهما من الولدِ. وقالوا: معنى الكلام: هو الذي خَلَقَكُم مِن نفسٍ واحدةٍ، وجعَل منها زوجَها ليسْكُنَ إليها، فلمَّا [تغشاها أيُّها]

(4)

الرجلُ الكافرُ، حَمَلَتْ حملًا خفيفًا، فلمَّا أَثْقَلَتْ [دَعَوْتُما اللَّهَ ربَّكما]

(5)

. قالوا: وهذا مما ابْتُدِئ به الكلامُ على وجهِ الخطابِ، ثم رُدَّ إلى الخبرِ عن الغائبِ، كما قِيل:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]. وقد بيَّنَّا نظائرَ ذلك بشواهدِه

(6)

فيما مضَى قبلُ.

(1)

في م: "فإذا غلبتم". ومعنى فإذ غلبتموني: إذ لم تنساقوا لأمرى فتسموه عبدى، فسموه إذن عبد الحارث.

(2)

في م: "ففعلوا". وعَنَوا: خضعا. ينظر تاج العروس (ع ن و).

(3)

في م: "التسمية". والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 150، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1634 من طريق عمرو به، مقتصرا على قوله:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} ، إلى آخر الأثر.

(4)

في ص: "تغشيتها أيها"، وفى م:"تغشاها. أي هذا".

(5)

في ف: "دعوا الله ربهما".

(6)

في ص، ت 1، ت،2 س:"بشواهدها". وينظر ما تقدم في 1/ 155، 156.

ص: 628

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا [سهلُ بنُ يوسفَ]

(1)

، عن عمرٍو

(2)

، عن الحسنِ:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . قال: كان هذا في بعضِ أهلِ المللِ، ولم يكنْ بآدمَ

(3)

.

حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ: عنَى بهذا ذريةَ آدمَ؛ مَن أَشْرَك منهم بعدَه. يَعْنى قولَه: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

(4)

.

حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ يقولُ: هم اليهودُ والنصارى، رَزَقَهم الله أولادًا فهوَّدوا ونَصَّروا

(5)

.

قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى القولين بالصَّوابِ قولُ مَن قال: عنَى بقولِه: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} في الاسمِ لا في العبادةِ، وأن المَعْنِيَّ بذلك آدمُ وحواءُ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن أهلِ التأويلِ على ذلك.

فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ، إذ كان الأمرُ على ما وَصَفْتَ في تأويلِ هذه

(1)

في ف: "شبل بن حوشب". وسهل هو ابن يوسف الأنماطى البصرى، يروى عن عمرو وهو ابن عبيد بن باب البصرى. ينظر تهذيب الكمال 12/ 213، 22/ 123.

(2)

في ف: "عمر". وينظر الحاشية السابقة.

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 529 عن المصنف، وصحح إسناده في 3/ 530. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152 إلى أبى الشيخ.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 530 عن المصنف وصحح إسناده، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 245 عن معمر به.

(5)

نقله ابن كثير في تفسيره 3/ 530 عن المصنف، وصحح إسناده، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1634 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152، 153 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

ص: 629

الآيةِ، وأن المعنيَّ بها آدمُ وحواءُ - في قولِه:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؛ أهو اسْتِنْكافٌ مِن اللَّهِ أن يكونَ له في الأسماءِ شريكٌ، أو في العبادةِ؟ فإن قلتَ: في الأسماءِ. دَلَّ على فسادِه قولُه: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191]. وإن قلتَ: في العبادةِ. قِيل لك: أفكان آدمُ أشْرَك في عبادةِ الله غيرَه؟

قيل له: إن القولَ في تأويلِ قولِه: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ليسَ بالذي ظَنَنْتَ، وإنما القولُ فيه: فتعالى اللَّهُ عما يُشْرِكُ به مشركُو العربِ مِن عَبَدَةِ الأوثانِ. فأما الخبرُ عن آدمَ وحواءَ فقد انْقَضَى عندَ قولِه: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . ثم اسْتُؤْنف قولُه: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقولُ: هذه فَصْلٌ مِن آيةِ آدمَ، خاصَّةٌ في آلهةِ العربِ

(1)

.

واخْتَلَفَت القَرأَةُ في قراءةِ قولِه: {شُرَكَاءَ} ؛ فقَرَأ ذلك عامَّةُ قرأَةِ أهلِ المدينةِ وبعضُ المكِّيين والكوفيِّين: [(جَعَلا لَهُ شِرْكًا). بكسرِ الشينِ، بمعنى الشَّرِكَةِ

(2)

.

وقرَأه بعضُ المكِّيِّين وعامةُ قرأَةِ الكوفيين]

(3)

وبعضُ البصريين: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} . بضَمِّ الشينِ، بمعنى جمعِ شَرِيكٍ

(4)

.

وهذه القراءةُ أوْلَى القراءتين بالصوابِ

(5)

؛ لأنَّ القراءةَ لو صحَّتْ بكسرِ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1635 من طريق أحمد بن المفضل به.

(2)

قرأ بها نافع وأبو بكر عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 299.

(3)

سقط من: س.

(4)

قرأ بها ابن كثير وحفص عن عاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائى. المصدر السابق.

(5)

القراءتان كلتاهما صواب.

ص: 630

الشينِ، لَوَجَب أن يكونَ الكلامُ: فلمَّا آتاهُما صالحًا، جعَلا

(1)

لغيرِه فيه شِركًا؛ لأن آدمَ وحواءَ لم يَدِينا بأنَّ ولدَهما مِن عَطِيَّةِ إبليسَ ثم يَجْعَلا للَّهِ فيه شِركًا؛ بتَسْمِيَتِهما

(2)

إياه بعبدِ اللَّهِ، وإنما كانا يدِينان - لا شكَّ - بأن ولدَهما مِن رزقِ اللَّهِ وعطيَّتِه، ثم سَمَّياه عبدَ الحارثِ، فجعَلا لإبليسَ فيه شِرْكًا بالاسمِ. فلو كانت قراءةُ مَن قَرَأَ (شِرْكًا) صحيحةً؛ وَجَب ما قلنا مِن

(3)

أن يكونَ الكلامُ: جعَلا لغيرِه فيه شِركًا، وفى نزولِ وحى اللَّهِ بقولِه:{جَعَلَا لَهُ} ما يُوضِحُ عن أنَّ الصحيحَ مِن القراءةِ؛ {شُرَكَاءَ} بضمِّ الشينِ، على ما بَيَّنتُ قبلُ.

فإن قال قائلٌ: فإنَّ آدمَ وحواءَ إنما سَمَّيا ابْنَهما عبدَ الحارثِ، والحارثُ واحدٌ، وقولُه:{شُرَكَاءَ} . جماعةٌ، فكيف وَصَفَهما جلَّ ثناؤُه بأنهما جعَلا له شركاءَ، وإنما أشْرَكا واحدًا؟

قيل: قدْ دَلَّلْنا فيما مضَى على أن العربَ تُخرِجُ الخبرَ عن الواحدِ، مُخْرَجَ الخبرِ الجماعةِ، إذا لم تَقْصِدْ واحدًا بعينِه ولم تُسَمِّه، كقولِه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وإنما كان القائلُ ذلك واحدًا، فأَخْرَج الخبرَ مُخرجَ الخبرِ عن الجماعةِ، إذ لم يَقْصِدْ قَصْدَه. وذلك مُسْتَفِيضٌ في كلامِ العربِ وأشعارِها

(4)

.

وأمَّا قولُه: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فتنزيهٌ مِن اللَّهِ تبارك وتعالى نفسَه، وتعظيمٌ لها عما يقولُ فيه المُبْطِلون، ويَدْعون معه مِن الآلهةِ والأوثانِ.

كما حدَّثنا القاسِمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:

(1)

سقط من: ت 1، س، ف.

(2)

في م: "لتسميتهما".

(3)

ليست في: م، ت 1، ت 2، س، ف.

(4)

ينظر ما تقدم في 1/ 302، 2/ 404 - 406.

ص: 631

{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قال: هو الإنْكافُ، أَنْكَفَ نَفْسَه جَلَّ وعزَّ - يقولُ: عَظَّم نفسَه - وأنْكَفَتْه الملائكةُ وما سَبَّحَ له

(1)

.

حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عُيَيْنَةَ، قال: سمعتُ صَدَقَةً يُحَدِّثُ عن السِّديِّ، قال: هذا مِن المَوْصولِ المُفَصَّلِ

(2)

، قولُه:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . في شأنِ آدمَ وحواءَ

(3)

. ثم قال اللَّهُ تبارك وتعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قال: عما يُشرِكُ المشركون، ولم يَعْنِهِما

(4)

.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} .

يقولُ تعالى ذكرُه: أيُشْركون في عبادةِ اللَّهِ، فيَعْبُدون معه ما لا يَخْلُقُ شيئًا، واللَّهُ يخلقُها ويُنْشِئُها؟ وإنما العبادةُ الخالصةُ للخالقِ، لا للمخلوقِ.

وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك بما.

حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، قال: وُلِد لآدمَ

(5)

ولدٌ، فسَمَّاه

(6)

عبدَ اللَّهِ، فأتاهما إبليسُ فقال: ما سَمَّيْتما يا آدمُ ويا حواءُ ابْنَكما؟ قال: وكان وُلِد لهما قبلَ ذلك ولدٌ، فَسَمَّياه عبدَ اللَّهِ، فماتَ. فقالا: سَمَّيْناه عبدَ اللَّهِ. فقال إبليسُ: أَتَظُنَّانِ أن اللَّهَ تاركٌ عبدَه عندَكُما، لا واللَّهِ لَيَذْهَبَنَّ به، كما

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1635 من طريق حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد، وعنده في أوله:"الانتكاف" بدل" هو الإنكاف"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 153 من قول مجاهد إلى أبى الشيخ.

(2)

في م، والدر المنثور:"والمفصول". والمثبت موافق لما في تفسير ابن أبي حاتم.

(3)

بعده في الدر المنثور: "يعني في الأسماء".

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 246، وعنده "المفصول المفصل". كما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1634 عن الحسن بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 152 إلى ابن المنذر، وأبى الشيخ.

(5)

بعده في م: "وحواء". وينظر مصدرا التخريج.

(6)

في م: "فسمياه". وينظر مصدرا التخريج.

ص: 632

ذَهَب بالآخَرِ، ولكنْ أدُلكما على اسمٍ يَبْقَى لكما ما بَقيتما فسَمِّياه عبدَ شمسٍ

(1)

. قال: فذلك قولُ اللَّهِ تبارك وتعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . آلشمسُ تَخْلُقُ شيئًا حتى يكونَ لها عبد؟! إنما هي مخلوقةٌ، وقد قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَدَعَهما مَرَّتَيْن

(2)

؛ خدَعهما في الجنةِ، وخدَعهما في الأرضِ"

(3)

.

وقيل: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . فَأَخْرَج مَكْنِيَّهم مُخْرَجَ مَكْنِيِّ بنى آدمَ

(4)

، وقد قال:{أَيُشْرِكُونَ مَا} ، فَأَخْرَج ذِكْرَهم بـ "ما" لا بـ "مَنْ" مُخرجَ الخَبرِ عن غيرِ بني آدمَ؛ لأنَّ الذي كانوا يَعْبُدونه إنما كان حَجَرًا أو خشبًا أو نُحاسًا، أو بعضَ الأشياءِ التي يُخْبَرُ عنها بـ "ما" لا بـ "مَنْ"، فقِيل لذلك:"ما". ثم قِيل: "وهم". فأُخْرِجَتْ كنايتُهم مُخرجَ كنايةِ بنى آدمَ؛ كان الخبرَ عنها بتعظيمِ المشركيَن إياها نظيرُ الخبِر عن تعظيمِ الناسِ بعضِهم بعضًا.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} .

يقولُ تعالى ذِكرُه: أَيُشْرِكُ هؤلاء المشركون في عبادةِ اللَّهِ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا مِن خَلْقِ اللَّهِ، ولا يستطيعُ أن يَنْصُرَهم، إن أراد اللَّهُ بهم سوءًا، أو أَحَلَّ بهم عقوبةً، ولا هو قادرٌ إنْ أراد به سوءًا نَصْرَ نفسِه، ولا دَفْعَ ضُرٍّ عنها، وإنما العابدُ يَعْبُدُ ما يَعبُدُه، لاجْتِلابِ نفعٍ منه، أو لدفعِ ضُرٍّ منه عن نفسِه، وآلِهَتُهم التي يَعْبُدونَها [ويُشرِكونها]

(5)

في عبادةِ اللَّهِ، لا تَنْفَعُهم ولا تَضُرُّهم، بل لا تَجْتَلِبُ

(1)

بعده في تفسير ابن أبي حاتم والدر المنثور: "فمسياه".

(2)

بعده في مصدرى التخريج: "قال زيد".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1635 من طريق أصبغ عن ابن زيد به نحوه.

(4)

يعنى المصنف بقوله: "مكنيهم " الضمير "هم" في الآية. قال في اللسان (ك ن ى): قال ابن سيده: واستعمل سيبويه الكناية في علامة المضمر.

(5)

في ص، ت 1، س، ف:"فيشركونها".

ص: 633

إلى نفسِها نفعًا، ولا تَدْفَعُ عنها ضُرًّا، فهى مِن نفعِ غيرِ أنْفُسِها، أو دفعِ الضُّرِّ عنها، أبْعَدُ. يُعَجِّبُ تبارك وتعالى خَلْقَه مِن عظيمِ خطأَ هؤلاء الذين يُشْركون في عبادتِهم اللَّهَ غيرَه.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} .

يقولُ تعالى ذكرُه في وصفِه وعيبِه ما يُشْرِكُ هؤلاء المشركون في عبادتِهم ربَّهم إياه: ومِن صِفَتِه أنكم أيُّها الناسُ إنْ تَدْعوهم إلى الطريقِ المستقيمِ والأمرِ الصحيحِ السَّديدِ، لا يَتَّبِعوكم؛ لأنها ليستْ تَعْقِلُ شيئًا، فتَتْرُكَ مِن الطَّرْقِ ما كان عن القَصْدِ مُنْعَدِلًا جائرًا، وتَرْكَبَ ما كان مستقيمًا سديدًا.

وإنَّما أراد اللَّهُ جلَّ ثناؤُه بوَصْفِ آلهتِهم بذلك مِن صِفَتِها، تنبيهَهم على عظيمِ خطئِهم وقُبْحِ اخْتيارِهم. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فكيف يهديكم إلى الرشادِ مَن إن دُعِى إلى الرشادِ وعُرِّفَه، لم يَعْرِفْه، ولم يَفْهَمْ رشادًا مِن ضلالٍ، وكان سواءً دعاءُ داعيهِ إلى الرشادِ وسكوتُه؛ لأنه لا يَفْهَمُ، دعاءَه، ولا يَسْمَعُ صوتَه، ولا يَعْقِلُ ما يُقالُ له. يقولُ: فكيف يُعْبَدُ ما

(1)

كانت هذه صفتَه، أم كيف يُشْكِلُ عَظِيمُ جَهِلِ مَن اتَّخَذَ ما هذه صفتُه إلهًا؟ وإنَّما الرَّبُّ المعبودُ هو النافعُ مَن يَعْبُدُه، الضَّارُّ مَن يَعْصيه، الناصرُ وليَّه، الخاذِلُ عدوَّه، الهادى إلى الرشادِ مَن أطاعَه، السامعُ دعاءَ مَن دعاه.

وقيلَ: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ، فعطَف بقولِه:{صَامِتُونَ} وهو اسمٌ، على قولِه:{أَدَعَوْتُمُوهُمْ} وهو فعلٌ ماضٍ، ولم يَقُلْ: أمْ صمتُّمْ

(2)

. كما قال الشاعرُ:

(1)

في م: "من".

(2)

ينظر كتاب سيبويه 3/ 64.

ص: 634

سَواءٌ عليك النَّفْرُ

(1)

أم بِتَّ ليلةً

بأَهْلِ القِبابِ مِن نُمَيْرِ بن عَامِرِ

(2)

وقد يُنْشَدُ: أم أنت بائِتٌ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)} .

يقولُ جلَّ ثناؤُه لهؤلاءِ المشركين مِن عبدةِ الأوثانِ، موبِّخَهمْ على عبادتِهم ما لا يضرُّهم ولا ينفعُهم من الأصنامِ: إن الذين تدعونَ أيُّها المشركونَ آلهةً من دونِ اللَّهِ، وتعبدونها شركًا منكمْ، وكفرًا باللَّهِ، عبادٌ أمثالُكمْ، يقولُ: هم أملاكٌ لربِّكمْ كما أنتم له مماليكُ، فإن كنتم صادقيَن أنها تضرُّ وتنفَعُ، وأنها تستوجبُ منكم العبادةَ لنفْعِها إياكُمْ، فلْيَستجِيبُوا لدعائِكم إذا دعَوْتُموهُم، فإن لم يَسْتَجيبُوا لكم لأنها لا تسمعُ دعاءَكُم، فأَيْقِنوا بأنّها لا تنفعُ ولا تضرُّ؛ لأن الضُّرَّ والنفعَ إنما يكونان مِمَّن إذا سُئل سمِع مسألةَ سائلِه

(3)

، وأعطَى وأفضلَ؛ ومَن إذا شُكِىَ إليه مِن شيءٍ سمِع فضرَّ من استحقَّ العقوبةَ، [ونفَع مَن]

(4)

لا يستوجبُ الضُّرَّ.

‌القولُ في تأويلِ قولِه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} .

يقولُ تعالى ذِكرُه لهؤلاءِ الذين عبدوا الأصنامَ مِن دونِه، مُعرِّفهم جهلَ ما هُم عليه مقيمون، الِأصْنامِكم هذه أيُّها القومُ {أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} . فيسعَونَ معكُم

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"الفقر"، وفى: م "القفر". والمثبت من مصدرى التخريج.

(2)

ينظر معاني القرآن 1/ 401، والتبيان 5/ 57. غير منسوب فيهما.

(3)

في م: "سائل".

(4)

سقط من: ص، ت 1، س، ف.

ص: 635

ولكُمْ في حوائجِكم، ويتصرفون بها في منافِعِكُم {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصدِ من يقصدكم بشرٍّ ومَكروهٍ، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} فيعرّفوكُم ما عاينوا وأبْصَروا مما تَغيبون عنه فلا تروْنه {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فيخبروكُم بما سمعوا دونَكُم، مما لم تَسْمَعُوه، يقولُ جلَّ ثناؤُه: فإن كانتْ آلهتكم التي تعبدونَها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتُها - والمعظم من الأشياء إنما يعظَّمُ لما يُرْجَى منه من المنافع التي توصل إليه بعضُ هذه المعاني عندكم - فما وجه عبادتكم أصنامكُم التي تعبدونها وهي خاليةٌ من كلِّ هذه الأشياء التي بها يُوصل إلى اجتلابِ النفع ودفعِ الضُّرِّ.

وقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وهى

(1)

، {فَلَا تُنظِرُونِ}. يقولُ: فلا تُؤخِّرون بالكيد والمكر، ولكن عجِّلُوا بذلكَ. يُعلِمُه جلَّ ثناؤُه بذلكَ أنهم لم يضرُّوه، وأنَّه قد عصمه منهم، ويُعرِّف الكفرةً به عَجْزَ أوثانهم عن نُصرَةِ مَن بغَى أولياءهم بسوء.

‌القول في تأويل قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمشركين من عبدة الأوثان: {إِنَّ وَلِيِّيَ} . نصيرى ومُعينى وظَهِيرِى عليكم {اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابِ} عَلَيَّ بالحقِّ، وهو الذي يتولى من صلح عمله بطاعتِه مِن خلقه.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)} .

(1)

في م: "وهن".

ص: 636

وهذا أيضًا أمْرٌ من الله جلَّ ثناؤُه نبيَّه

(1)

أن يقوله للمشركين، يقول

(2)

تعالى: قلْ لَهم: إن الله نصيري وظهيري، والذين تَدعون أنتم أيها المشركون من دونِ الله من الآلهة، لا يستطيعونَ نصْرَكُم، ولا هم مع عجزهم عن نُصرتِكُم يقدرون على نصرة أنفسهم، فأى هذين أولى بالعبادة، وأحقُّ بالألوهةِ، أَمَنْ يَنصرُ وليَّه ويمنعُ نفسه ممن أرادَه، أم من لا يستطيعُ نصر وليه ويعجز عن منع نفسه ممن أرادَه وبَغاه بمكروهٍ؟!

‌القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)} .

يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: وإن تدعُوا أيها المشركون آلهتكم إلى الهدَى، وهو الاستقامة إلى السداد، {لَا يَسْمَعُوا}. يقولُ: لا يَسمَعُوا دعاءَكم، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} . وهذا خطابٌ من الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، يقولُ: وترى يا محمدُ آلهتهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، ولذلكَ وحَّدَ، ولو كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطابِ المشركين لقال: وترونهم ينظرونَ إليكم.

وقد رُوى عن السديِّ في ذلك ما حدثني محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمد بن المفضَّلِ، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} . قال: هؤلاء المشركون

(3)

.

وقد يحتمل قول السُّديِّ هذا أن يكون أراد بقوله: هؤلاء المشركون - قول الله

(1)

في م، ت 2:"لنبيه".

(2)

في م، ت 1، ف:"بقوله".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1637 من طريق أحمد بن مفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 153 إلى أبي الشيخ.

ص: 637

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لَا يَسْمَعُوا} .

وقد كان مجاهد يقولُ في ذلك ما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهد:{وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يبْصِرُونَ} [ما تدعوهم إلى الهدَى]

(1)

.

وكأن مجاهدًا وجَّه معنى الكلام إلى أن معناه: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون، فهو وجه، ولكن الكلام في سياق الخبرِ عن الآلهة فهو بوصفها أشبه.

قال أبو جعفر: فإن قال قائلٌ: فما

(2)

معنى قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} ؟ وهل يجوزُ أن يكون شيءٌ ينظر إلى شيءٍ ولا يراه؟

قيلَ: إنَّ العرب تقول للشيءِ إذا قابل شيئًا أو حاذاهُ: هو ينظرُ إلى كذا. ويقال: مَنزلُ فلان ينظر إلى منزلى. إذا قابله.

وحُكِى عنها: إذا أتيت موضع كذا وكذا، فنظر إليك الجبل، فخُذ يمينا أو شمالا.

وحُدثت عن أبي عُبيد، قال: قال الكسائيُّ: الحائط ينظر إليك، إذا كان قريبا منك حيثُ تراهُ، ومنه قول الشاعرِ

(3)

:

إِذَا نَظَرَتْ بِلادُ بَنِي تَمِيمٍ

(4)

بِعَيْنٍ أَوْ بِلادُ بَنِي صُباحِ

(1)

في تفسير ابن أبي حاتم والدر المنثور: "ما تدعوهم إليه من الهدى". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1637 من طريق أبي حذيفة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 153 إلى أبى الشيخ.

(2)

بعده في ف: "وجه".

(3)

البيت في النوادر في اللغة لأبي زيد ص 131، ومعجم مقاييس اللغة 4/ 203 غير منسوب فيهما.

(4)

في النوادر: "حبيب"، وفي معجم مقاييس اللغة:"نمير".

ص: 638

يريدُ: تقابل نبتُها وعشبُها وتحاذَى.

فمعنى الكلام وترى يا محمد آلهة هؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، [يقابلونك ويحاذونك]

(1)

، وهم لا يبصرونَك؛ لأنَّه لا أبصار لهم. وقيل:{وَتَرَاهُمْ} ولم يُقَل: (وتراها)؛ لأنها صورٌ

(2)

مصورّةٌ على صور بنى آدمَ.

‌القول في تأويل قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} .

اختلف أهل التأويلِ في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: تأويله: خُذِ العفو من أخلاق الناسِ، وهو الفضل، وما لا يجهدهم.

‌ذكر من قال ذلك

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنبسة، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ، عن مجاهد في قوله:{خُذِ الْعَفْوَ} . قال: من أخلاق الناسِ وأعمالهم بغيرِ تَحسُّسٍ

(3)

.

حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن ليث، عن مجاهد في قوله:{خُذِ الْعَفْوَ} . قال: عفْوَ أخلاق الناسِ، وعفْوَ أمورهم.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: ثنى ابن أَبي الزِّنادِ، عن هشام بن عُرُوةَ، عن أبيه، في قوله:{خُذِ الْعَفْوَ} الآية. قال عُروةُ: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفوَ مِن أخلاقِ الناسِ

(4)

.

(1)

في ف: "يقاتلونك ويحادونك".

(2)

في ص، ف:"صورة".

(3)

في ص: "تحسيس"، وفى ف:"تجسيس"، والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 535.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2451، وسعيد بن منصور في سننه (974 - تفسير)، والبزار (2182).

ص: 639

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عَن مَعمرٍ، عن هشام بن عُروةَ، عن أبيه، عن ابن [الزبير، قال: ما أنزلَ اللَّهُ هذه الآيةَ إلا في أخلاقِ الناسِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآية

(1)

.

حدثنا ابن وكيع قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن مجاهد: {خُذِ الْعَفْوَ} : من أخلاقِ الناس وأعمالهم بغيرِ تَحسُّسٍ

(2)

.

قال

(3)

: ثنا أبو معاويةَ، عن هشام بن عروةَ، عن وهب بن كَيْسان، عن [ابن الزبير:{خُذِ الْعَفْوَ} . قال: من أخلاق الناسِ، والله لآخذنّه منهم صَحِبتهم

(4)

.

قال

(3)

: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عُروة، عن ابن]

(5)

، الزُّبَيرِ، قال: إنما أنزل الله: {خُذِ الْعَفْوَ} . من أخلاق الناسِ

(6)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 388، وهناد في الزهد (1264)، والبخارى (4643)، وأبو داود (4787)، والبزار (2181)، والطبراني (13/ 107)(257)، والحاكم 1/ 124، والبيهقي في الدلائل 1/ 310 من طريق هشام به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

(2)

ينظر الأثر المتقدم تخريجه في ص 639.

(3)

القائل: هو ابن وكيع.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (975 - تفسير)، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1637 من طريق أبي معاوية به. وقال الحافظ في الفتح 8/ 10305: رواية أبي معاوية شاذة، مع احتمال أن يكون لهشام فيه شيخان.

(5)

أخرجه النَّسَائِي في الكبرى (11195) من طريق عبدة به، ومن طريقه النحاس في ناسخه ص 448، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 153 إلى ابن المنذر وابن مردويه.

(6)

في م: "أبي".

ص: 640

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{خُذِ الْعَفْوَ} . قال: من أخلاق الناسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسٍ أو تَحَسُّسٍ، شَكَّ أبو عاصمٍ

(1)

.

وقال آخرون: بلْ معنى ذلك: خُذِ

(2)

العَفْوَ من أموال الناس، وهو الفضلُ.

قالوا: وأُمِر بذلك قبل نزول الزكاةِ، فلما نزلتِ الزكاةُ نُسِخ.

‌ذكرُ مَن قال ذلك

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قولَه:{خُذِ الْعَفْوَ} . يعنى: خُذْ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوْكَ به من شيءٍ فخُذْه، فكانَ هذا قبل أن تنزِلَ "براءةُ" بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت الصدقات إليه

(3)

.

حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّل، قال: ثنا أسباط السدى: {خُذِ الْعَفْوَ} . أمّا العفو: فالفضْلُ من المالِ، نسَختْها الزكاةُ

(4)

.

حُدِّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} . يقولُ: خُذْ ما عفا من أموالهم، وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضَةُ

(5)

.

(1)

تفسير مجاهد ص 349، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1637 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 153 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(2)

في ص، ف:"هو".

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1638 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 154 إلى ابن المنذر.

(4)

أخرجه النحاس في ناسخه ص 446 من طريق أسباط به.

(5)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1638 معلقا.

ص: 641

وقال آخرون: بلْ ذلكَ أمْرُ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفوِ عن المشركين، وترْكِ الغِلظةِ عليهم قبل أن يُفرَضَ قتالهم عليه.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدثني يونس، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} . قال: أمره فأعرضَ عنهم عشْرَ سنينَ بمكَّةَ، قال: ثم أمَره بالغِلْظَة عليهم وأن يَقْعُدَ لهمْ كُلَّ مَرصدٍ وأن يَحْصُرَهُم، ثم قال:{فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلوةَ} [التوبة: 5]. الآية كلها، وقرأَ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9]. قال: وأَمَر المؤمنين بالغِلظة عليهم، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مَّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]. بعد ما كانَ أمَرهُم بالعفو، وقرأ قولَ اللهِ:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]. ثم لم يقبلْ منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل، فنسَخَتْ هذه الآيةُ العفو

(1)

.

قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى هذه الأقوال بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: خُذِ العفو من أخلاقِ الناس واتْركِ الغلظةَ عليهمْ. وقال: أُمِر بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصوابِ؛ لأنّ الله جل ثناؤُه أَتْبَعَ ذلك تعليمَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم مُحاجَّتَه المشركين في الكلام، وذلك قوله:{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195]. وعقَّبه بقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 202 - 203].

فما بين ذلكَ بأن يكون من تأديبه نبيَّه صلى الله عليه وسلم في عِشْرتِهم به أشبهُ وأوْلَى من الاعتراض

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1638، 1639 من طريق أصبغ عن ابن زيد مختصرًا.

ص: 642

بأمرِه بأخذ الصدقة من المسلمين.

فإن قال قائلٌ: أَفَمنسوخٌ ذلكَ؟ قيلَ: لا دَلالة عندنا على أنه منسوخٌ، إذ كان جائزًا أن يكونَ - وإن كان الله أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام في تعريفه عِشْرَةَ من لم يُؤْمَرُ بقتاله من المشركين - مرادًا

(1)

به تأديب نبيِّ الله والمسلمين جميعًا في عِشرة الناسِ، وأمرُهم بأخْذِ عَفْوِ أخلاقِهم، فيكونَ - وإن كان من أجلهم نزَل - تعليمًا مِن الله خلْقَهُ صفةَ عِشْرة بعضهم بعضًا، لم يجب استعمالُ الغِلظةِ والشِّدة في بعضِهم، فإذا وجب استعمال ذلك فيهم، استعمل الواجبَ، فيكون قوله:{خُذِ الْعَفْوَ} أمرًا بأخذه ما لم يجبْ غيرُ العفو، فإذا وجب غيرُه، أخَذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك، فلا

(2)

يُحكَمُ على الآية بأنها منسوخة لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كُتبنا.

وأما قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} . فإنّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضُهم بما حدثنِي الحسنُ بنُ الزِّبْرِقانِ النَّخَعِيُّ، قال: ثنى حسينٌ الجعفيُّ، عن سفيان بن عيينة، عن رجل قد سمّاه، قال: لما نزلت هذه الآيةُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يا جِبْرِيلُ ما هَذَا؟ " قال: ما أدرِى حتى أسألَ العالِمَ، قال: ثم قال جبريلُ: يا محمد إنّ اللَّهَ يَأْمرُكَ أَنْ تَصِلَ من قطعك، وتُعطِىَ من حرمك، وتَعفُوَ عمّن ظلمك.

حدثني يونس

(3)

، قال: أخبرنا سُفيانُ، عن أُميٍّ

(4)

، قال: "لما أنزَل الله على نبيِّه

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"من أدائه".

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"أن".

(3)

بعده في ف: "قال: أخبرنا ابن وهب".

(4)

في م: "أبي". وهو أمى الصيرفى. وينظر تهذيب الكمال 11/ 177.

ص: 643

صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا جِبْرِيلُ"؟ قال: إن الله يأمرُك أن تعفو عمن ظلمك، وتُعطِيَ مَن حرمك، وتصلَ من قطَعك

(1)

.

وقال آخرون بما حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن هشامِ بن عُروة، عن أبيه:{وَأْمُرُ بِالْعُرْفِ} . يقول: بالمعروف

(2)

.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} . قال: أمّا العرفُ: فالمعروف

(3)

.

حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} : أي بالمعروف

(4)

.

قال أبو جعفر: والصوابُ من القول في ذلك أن يقالَ: إِنَّ الله أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرَ الناس بالعُرْفِ، وهو المعروفُ في كلام العرب، مصدر في معنى المعروف، يقالُ: أوليتُه عُرفًا

(5)

وعارفًا وعارفةً. كلُّ ذلك بمعنى المعروف. فإذ كان معنى العُرفِ ذلكَ، فمن المعروفِ صلة رحم مَن قَطَع، وإعطاءُ مَن حرم، والعفو عمن ظلم، وكلُّ ما أمر الله به من الأعمال أو ندَب إليه، فهو من العُرْفِ، ولم يَخصُصِ اللَّهُ مِن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1638 عن يونس به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 246، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (25) من طريق سفيان به، وأخرجه ابن أبي حاتم 5/ 1638 من طريق سفيان عن أمى عن الشعبي، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 153 إلى المصنف وابن أبي الدنيا وابن المنذر وأبى الشيخ عن الشعبي.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 245 عن معمر به.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1638 من طريق أسباط به.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 536.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"معروفا".

ص: 644

ذلك معنى دونَ معنًى؛ فالحقُّ فيه أن يُقالَ: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله لا ببعض معانيه دونَ بعض.

وأما قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهلِينَ} . فإنه أمر من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعرِضَ عمن جَهِل، وذلك وإن كان أمرًا مِن الله نبيَّه، فإنّه تأديبٌ منه عزّ ذكره لخلقه باحتمالِ من ظلمَهم أو اعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جَهل الواجب عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجَهل وحدانيَّتِه وهو للمسلمين حَرْبٌ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

‌ذِكرُ مَن قال ذلك

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهلِينَ} . قال: أخلاقٌ أمَر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودلَّه عليها

(1)

.

‌القول في تأويل قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} .

يعني جل ثناؤُه بقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} : وإِمَّا يُغضبنَّك من الشيطانِ غَضَبْ يَصُدُّكَ عن الإعراض عن الجاهلين، ويحملك على مجازاتهم:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} . يقولُ: فاستجِرْ باللَّهِ من نَزْغِه. {إِنَّهُ سَمِيعُ عَلِيمٌ} ، يقولُ: إِنَّ الله الذي تستعيذُ به من نَزْغِ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك، ولاستعاذتك به من نَزْغِه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيءٌ، عليمٌ بما يُذْهِبُ عنكَ نَزْغَ الشَّيطانِ، وغير ذلك من أمورِ خلقه.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 537، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 154 إلى المصنف وعبد بن حميد.

ص: 645

كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهلِينَ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَكَيْفَ بالغَضَبِ يا رَبِّ" قال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(1)

.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال

(2)

: علِمَ اللَّهُ أَن هذا العدوَّ مَنيعٌ

(3)

ومَرِيدٌ

(4)

. وأصلُ النَّزغِ: الفسادُ، يُقالُ

(5)

: نزغ الشيطان بين القومِ، إذا أفسَد بينَهم، وحمَّل بعضهم على بعض، ويقال منه: نزَغَ يَنزَغُ، ونغَز ينغُرُ.

‌القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ

(6)

مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}.

يقول تعالى ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الله مِن خلقه، فخافوا عقابَه بأداءِ فرائضِه، واجتنابِ معاصيه؛ {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَرُوا}. يقولُ: إذا ألمَّ بهم طَيْفٌ من الشيطانِ من غضبٍ أو غيره، مما يصدُّ

(7)

عن واجب حقِّ الله عليهم

(8)

، تذكروا عقاب الله وثوابه، ووعده ووعيده، وأبصَرُوا الحقَّ فعمِلُوا

(1)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 154 إلى المصنف.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"قد".

(3)

في ف: "متبع"، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"مبتغى"، وفى الدر المنثور:"مبتغ".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1639 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 154 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ.

(5)

في ف، ت 1:"فقال"، وفى ت 2:"ويقال". وفى م: "يقول".

(6)

في ص، ف: طيف". وهي قراءة كما سيأتي.

(7)

في ص، ف:"يصده".

(8)

في ص، ت 2، ف:"عليه".

ص: 646

به، وانتهوْا إلى طاعة الله فيما فرَض عليهم، وتركوا فيه طاعة الشيطانِ.

واختلفت القرأةُ في قراءةِ قوله: (طَيْفٌ)؛ فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والكوفة {طَائِفٌ} على مثالِ "فاعلٍ"، وقرأه بعض المكيِّين والبصريِّينَ والكوفيين (طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطانِ)

(1)

.

واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين الطائفِ والطَّيْف.

فقال بعضُ البصريين: الطائف والطيف سواءٌ، وهو ما كان كالخيال

(2)

والشيءُ يُلِمُّ بكَ. قال: ويجوز أنْ يكونَ الطيفُ مخفَّفًا عن طيِّفٍ مثل مَيتٍ ومَيِّتٍ.

وقال بعضُ الكوفيين: الطائفُ، ما طافَ بك من وَسْوسةِ الشيطانِ. وأمَّا الطيفُ: فإنما هو من اللمم

(3)

والمَسِّ.

وقال آخرُ منهم: الطيفُ: اللَّممُ. والطائف: كلُّ شيءٍ طاف بالإنسان.

وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقولُ: الطيفُ: الوسْوسةُ.

قال أبو جعفر: وأوْلَى القراءتين في ذلك عندِى بالصواب

(4)

قراءة من قرَأه

(5)

: {طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} ؛ لأنّ أهلَ التأويل تأوّلوا ذلك بمعنى الغضب أو

(6)

الزَّلة تكون من المَطِيف به. وإذا كان ذلك معناه، كان معلومًا - إذ كان الطيفُ إنما هو مصدرٌ من قول القائل: طاف يَطِيفُ - أنّ ذلك خبرٌ من الله عما يمس الذين اتقوا من الشيطانِ، وإنّما يَمسُّهم ما طاف بهم من أسبابِه، وذلك كالغضبِ والوسوسةِ، وإنما

(1)

أما قراءة {طائف} فهى قراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. وأما قراءة (طَيْفٌ) مثل ضيف فهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي. ينظر الكشف عن وجوه القراءات 1/ 486، 487، والتيسير ص 94.

(2)

في ص، ف:"كالجبال".

(3)

اللمم: الجنون. اللسان (ل م م).

(4)

القراءتان كلتاهما صواب.

(5)

في م: "قرأ".

(6)

في م: "و".

ص: 647

يطوفُ الشيطانُ بابن آدم ليستزلَّه عن طاعة ربِّه، أو ليوسوس له، والوسوسة والاستزلال هو الطائفُ من الشيطان، وأما الطيفُ فإنّما هو الخيالُ، وهو مصدرٌ مِن طافَ يَطيفُ، ويقولُ: لم أسمع في ذلك طافَ يَطيفُ، ويتأوّله بأنه بمعنى الميت وهو من الواو.

وحكى البصريون وبعضُ الكوفيين سماعًا من العرب

(1)

: طاف يطيفُ، وطِفتُ أَطِيفُ، وأنشدوا في ذلك

(2)

:

أنّي أَلَمَّ بِكَ الخيَالُ يَطِيفُ

ومَطافُه لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ

(3)

وأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: ذلك الطائفُ: هو الغضبُ.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدثنا أبو كريبٍ وابن وكيعٍ، قالا: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفر، عن سعيد:{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} . قال: الطيفُ: الغضبُ

(4)

.

حدثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حكّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسم بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهد في قوله:{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} . قال: هو الغضب

(5)

.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن رجاءٍ، عن ابن جُريجٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن

(1)

ينظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 237.

(2)

البيت لكعب بن زهير في ديوانه ص 113.

(3)

في ص، ت 1، ت 2، "شقوف"، وفى م:"شغوف". والمثبت من الديوان، والشَّعَف: إحراق الحب القلب مع لذة. اللسان (ش ع ف).

(4)

ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1640 معلقا.

(5)

ينظر الأثر بعد التالى.

ص: 648

كثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال: الغضبُ

(1)

.

حدثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهد في قوله:{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مَّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَرُوا} . قال: هو الغضب

(2)

.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قولِ اللهِ:{طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} . قال: الغضب.

وقال آخرون: هو اللَّمة والزَّلةُ من الشيطانِ.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَرُوا} : و

(3)

الطائف: اللَّمَّةُ من الشيطانِ {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}

(4)

.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} . يقولُ: نَزْغٌ من الشيطانِ، {تَذَكَرُوا}

(5)

.

(1)

ينظر الأثر التالى.

(2)

تفسير مجاهد ص 349، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 155 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وابن المنذر وأبى الشيخ.

(3)

سقط من: م.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1640 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 155 إلى ابن المنذر وابن مردويه. وستأتى بقيته في ص 651، 655.

(5)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط 4/ 450.

ص: 649

حدَّثني محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمد بن المفضَّلِ، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَرُوا} . يقولُ: إذا زَلُّوا تابُوا

(1)

.

قال أبو جعفر: وهذان التأويلانِ متقاربا المعنَى؛ لأن الغضب من استزلالِ الشيطانِ، واللَّمَّةُ من الخطيئة أيضًا منه، وكلُّ

(2)

ذلك من طائف الشيطان. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه الخصوص معنًى منه دونَ معنى، بل الصواب أن يعُمَّ كما عمَّه جلّ ثناؤه، فيقالَ: إن الذين اتقوا إذا عرَض لهم عارضٌ من أسباب الشيطان - ما كان ذلك العارض - تذكروا أمرَ اللَّهِ، وانتهَوا إلى أمرِه.

وأما قوله: {فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ} . فإنه يعنى: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه، فمنتهون

(3)

عما دعاهم إليه طائف الشيطان.

كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ} . يقول: إذا هم منتهون عن المعصيةِ، آخذون بأمرِ اللهِ، عاصونَ للشيطان

(4)

.

‌القول في تأويل قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} .

يقول تعالى ذكره: وإخوان الشياطين تمدُّهم الشياطين في الغَيِّ، يعنى بقوله:{يَمُدُّونَهُمْ} : يزيدونَهم، ثم لا [يَنقُصون عما نقص]

(5)

عنه الذين اتقوا إذا مسَّهمْ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1641 من طريق أحمد بن مفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 155 إلى أبي الشيخ.

(2)

في النسخ: "كان". والمثبت هو الصواب. وينظر تعليق الشيخ شاكر 13/ 337.

(3)

في ص، ت 1، ت 2:"فمشهود". وفى س: "فينتهوا".

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1641 بهذا الإسناد مثله.

(5)

في م: "يقصرون عما قصر". وينظر البحر المحيط 4/ 451.

ص: 650

طائفٌ من الشيطان.

وإنما هذا خبرٌ من الله عن فريقَى الإيمان والكفرِ؛ بأن فريق الإيمان، وأهل تقوى الله إذا استزلَّهم الشيطان تذكَّروا عظمة الله وعقابه، فكفتهم رهبته عن معاصيه، وردَّتْهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلَّةٍ، وأن فريق الكافرين يَزيدُهم الشيطانُ غيًّا إلى غيِّهم إذا ركِبوا معصيةً من معاصي الله، ولا يحجزهم

(1)

تقوَى اللَّهِ، ولا خوفُ المعادِ إليه عن التمادى فيها والزيادة منها، فهو أبَدًا في زيادة من ركوبِ الإثم، والشيطان يزيده أبدًا، لا يُقصرُ الإنسى عن [شيء من]

(2)

ركوبِ الفواحش، ولا الشيطان من مدِّهِ منه.

كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله

(3)

: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيَّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} قال: لا الإنسُ يُقصِرون عما يعملون من السيئاتِ، ولا الشياطينُ تُمسِكُ عنهم

(4)

.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . يقولُ: هم الجنُّ يُوحون إلى أوليائِهم من الإنسِ {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . يقولُ: لا يسأمون

(5)

.

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"يجحدهم".

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، س.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1642 من طريق عبد الله بن صالح به، وهو جزء من الأثر المتقدم تخريجه في ص 649.

(5)

في ت 1، س:"يسمون". وفى ت 2 ف: "يسمعون". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1642، 1643 بهذا الإسناد مثله مفرقا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 155 إلى أبى الشيخ وابن مردويه.

ص: 651

حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضَّلِ، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} : إخوانُ الشياطين من المشركينَ، يمدُّهم الشيطان في الغيِّ، {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}

(1)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: قال عبدُ الله بن كثيرٍ: وإخوانهم من الجنِّ، يمدّونَ إخوانهم من الإِنسِ، {ثُمَّ لَا يُقصِرُونَ}. ويقولُ: ثم لا يُقصِرُ الإنسانُ. قال: والمدُّ الزيادةُ، يعنى: أهلَ الشركِ، يقولُ: لا يُقصرُ أهل الشركِ، كما يُقصِرُ الذين اتقَوا؛ لأنهم [لا يَرْعَرُون]

(2)

، لا يحجزهم الإيمان

(3)

. قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ: {وَإِخْوَانُهُمْ} . من الشياطين {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} ، اسْتِجْهالًا يمدوُّن أهل الشرك، قال ابن جريج:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]. قال: فهؤلاءِ الإنسُ. يقولُ الله: {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُم فِي الْغَيِّ} .

حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلَى، قال: ثنى محمد بن ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن قتادة:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . قال: إخوانُ الشياطين يمدُّهم الشيطانُ

(4)

في الغى ثم لا يُقْصِرون

(5)

.

حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1641 من طريق أحمد بن مفضل به.

(2)

سقط من: م. وفى ص، ت 1، ت 2، س، ف، وتفسير بن أبي حاتم:"يرعون". والمثبت هو الصواب.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1642، 1643 من طريق ابن جريج به مفرقا.

(4)

في ص، م:"الشياطين".

(5)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 245 عن معمر به.

ص: 652

نجيحٍ، [عن مجاهدٍ]

(1)

: {وَإِخْوَانُهُمْ} . من الشياطين {يَمُدُّونَهم في الْغَيِّ} استجهالًا

(2)

.

وكان بعضُهم يتأوّلُ قولَه: {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . بمعنى: ولا الشياطينُ يُقْصِرون في مدِّهم إخوانهم من الغيِّ.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا بشرُ بن معاذ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} عنهم، ولا يرحمونهم

(3)

.

قال أبو جعفر: وقد بينا أولى التأويلين عندنا بالصواب، وإنما اخترنا ما اخترنا من القولِ في ذلك على ما بيَّناه؛ لأن الله وصَف في الآية قبلها أهلَ الإيمان به، وارتداعَهم عن معصيته وما يكرهُه إلى محبته عند تذكُّرِهم عظمته، ثم أتبع ذلك الخبرَ عن إخوان الشياطين، وركوبهم معاصيه، وكان الأولى وصفهم بتماديهم فيها؛ إذ كان عقيب الخبر عن تقصير المؤمنين عنها.

وأمَّا قولُه: {يَمُدُّونَهُمْ} ، فإن القرَأةَ اختلفت في قراءته؛ فقرأه بعضُ المدنيين (يُمدُّونَهُم) بضمِّ الياء من أَمْدَدْتُ، وقرأته عامة قرأة الكوفيين والبصريِّين {يَمُدُّونَهُمْ} بفتح الياء من مدَدت

(4)

.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"استحلالا". والأثر في تفسير مجاهد ص 349، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1642 بآخره فقط، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 155 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(3)

ذكره الطوسي في التبيان 5/ 65 والقرطبي في تفسيره 7/ 351.

(4)

قرأ (يُمِدونهم) بضم الياء وكسر الميم نافع، وقرأ {يَمُدونهم} بفتح الياء وضم الميم الباقون وهم؛ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة والكسائي. ينظر الكشف عن وجوه القراءات 1/ 487، والتيسير ص 94.

ص: 653

قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك عندنا {يَمُدُّونَهم} بفتحِ الياءِ؛ لأن الذي يمدّ الشياطين

(1)

إخوانَهم من المشركين، إنما هو زيادةٌ من جنسِ الممدودِ، وإذا كان الذي مدَّ من جنس الممدود كان كلام العربِ مَدَدْتُ لا أمدَدْت.

وأما قوله: {يُقصِرُونَ} . فإن القرَأَةَ على لغة من قال: أَقَصْرتُ أُقْصِرُ. وللعربِ فيه لغتان: قصرتُ عن الشيء، وأقْصَرتُ عنه.

‌القول في تأويل قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} .

يقولُ تعالى ذكره: وإذا لم تأتِ يا محمد هؤلاء المشركين بآية [من الله]

(2)

، {قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}. يقولُ: قالوا: هلا اخترتها واصطفيتها، من قولِ اللَّهِ تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. يعنى: يختارُ ويصطفى. وقد بيَّنا

(3)

ذلك في مواضعه

(4)

بشواهده

(5)

.

ثم اختلف أهلُ التأويلِ في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: هلَّا افتعَلْتَها من قِبَلِ نفسك واختلَقْتَها؟ بمعنى: هلا اجتبيتها اختلاقًا؟ كما تقولُ العرب: لقد اختار فلان هذا الأمر وتخيَّره اختلاقًا.

‌ذكرُ من قال ذلك

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهم بآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . أي: لولا أتيتنا بها من قبل نفسك. هذا قول كفار

(1)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"الشيطان".

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

بعده في ف: "معنى".

(4)

في ص، ت 1، ت 2، س:"موضعه".

(5)

ينظر ما تقدم في 9/ 386.

ص: 654

قريشٍ

(1)

.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عبدِ الله بن كثيرٍ، عن مجاهد قوله:{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْنَهَا} . قالوا: لولا اقتضَبْتَها

(2)

. قالوا: تُخْرِجُها من نفسك

(3)

.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . قالوا: لولا تقوَّلتَها، جئت بها من عندِك

(4)

.

حدثني المثنى، قال: ثنى عبد الله، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس قولَه:{لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . يقولُ: لولا تلقَيْتَها. وقال مرةً أخرى: لولا أحدثْتها فأنشأْتها

(5)

.

حدثني محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّل، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْنَهَا} . يقولون

(6)

: لولا أحدثتها

(7)

.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ قوله:{لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . قال: لولا جئت بها من نفسك

(8)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1644 من طريق يزيد به.

(2)

في ص، ف:"اقتضيتها"، واقتضَب الكلام: ارتجله من غير تهيئة أو إعداد. تاج العروس (ق ض ب).

(3)

تفسير مجاهد ص 349 بلفظ: "لولا ابتدعتها من قبل نفسك"، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 540 بلفظ المصنف.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 540.

(5)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"بإنشائها". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1643 من طريق عبد الله بن صالح به، وهو جزء من الأثر المتقدم تخريجه في ص 649.

(6)

في م: "يقول".

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1643 من طريق أحمد بن مفضل به.

(8)

تفسير عبد الرزاق 1/ 247.

ص: 655

وقال آخرون: معنى ذلك: هلّا أخذتَها من ربِّك، وتقبلتها منه.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} ، يقول: لولا تقبلتها من الله

(1)

.

حدثنا محمد بن عبد الأعلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن مَعمر، عن قتادةَ:{لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . يقول: لولا تقبَّلْتَها

(2)

من ربِّك

(3)

.

حُدِّثتُ عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمان، قال: سمعتُ الضحاك يقول في قوله: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . يقول: لولا أخذتها أنت، فجئت بها من السماء

(4)

.

قال أبو جعفر: وأوْلَى التأويلين بالصوابِ في ذلك، تأويلُ مَن قال: تأويلُه؛ هلَّا أحدثتها من نفسِك؛ لدلالة قولِ اللَّهِ: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} . يُبيِّنُ ذلك أن الله إنما أمَر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبَهم بالخبرِ عن نفسِه أنه إنما يتبع ما يُنَزِّلُ عليه ربُّه ويوحيه إليه، لا أنه يُحدِثُ من قِبَل نفسِه قولًا ويُنشِئُه، فيدعو الناس إليه.

وحكى عن الفراء أنه كان يقول

(5)

: اجتبيتُ الكلام واختلفته وارتجلتُه: إذا افتعلته من قبل نفسك. حدثني بذلك الحارث، قال: ثنا القاسم عنه.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1643 بهذا الإسناد مثله.

(2)

في ص، م:"تلقيتها".

(3)

ذكره الطوسي في التبيان 5/ 66.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1643 من طريق أبي معاذ به.

(5)

ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 402.

ص: 656

قال أبو عُبيدٍ، وكان أبو زيدٍ يقولُ: إنما تقولُ العرب ذلك للكلام يَبتَدِئُه

(1)

الرجلُ لم يكن أعدَّه قبل ذلك في نفسه

(2)

.

قال أبو عبيد

(3)

: واخترعته

(4)

مثل ذلك (2).

‌القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للقائلين لك إذا لم تأتهم بآيةٍ: هلّا أحدثتها من قبل نفسك: إن ذلك ليس لِي، ولا يجوز لي فِعْلُه؛ لأن الله إنما أمرنى باتِّباع ما يُوحى إليَّ من عنده، فإنما أتبع ما يوحَى إليّ من ربِّي؛ لأنى عبده، وإلى أمرِه أَنتَهى، وإيَّاه أُطيعُ، {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ}. يقولُ: هذا القرآن والوحى الذي أتلوه عليكم - {بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ} . يقولُ: حُججٌ عليكم، وبيان لكم من ربِّكم، واحدتها: بصيرةٌ، كما قال جل ثناؤه:{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]. وإنما ذكر هذا ووحَّد في قولِه: {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ} . لما وصفتُ من أنه مراد به القرآن والوحىُ.

وقوله: {وَهُدًى} . يقولُ: وبيانٌ يهدى المؤمنين إلى الطريق المستقيم، ورحمةٌ رَحِمَ الله به عبادَه المؤمنين، فأنقذهم به من الضلالةِ والهَلَكَةِ، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يقولُ: هو بصائرُ من الله وهدى ورحمةٌ لمن آمن، يقولُ: لمن صدَّقَ بالقرآن أنه تنزيل الله ووحيه، وعمل بما فيه دونَ مَن كذَّبَ به وجحدَه، وكفرَ به، بلْ هو على الذين لا يؤمنون به غمٌّ وخِزْىٌ.

(1)

في ص، ف:"البدية"، وفى م:"بيديه". والمثبت من التبيان.

(2)

ذكره الطوسي في التبيان 5/ 66.

(3)

في التبيان: "أبو عبيدة".

(4)

في م: "اخترعه".

ص: 657

‌القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} .

يقولُ تعالى ذكره للمؤمنين به، المصدّقينَ بكتابه، الذين القرآن لهم هدى ورحمةٌ:{إِذَا قُرِئَ} عليكم أيها المؤمنون {الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} . يقولُ: أَصغُوا له سمعَكم لتتفهَّموا آياتِه، وتعتبروا بمواعظِه، وأنصتوا إليه لتعقلُوه وتدبروه

(1)

، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. يقولُ: ليرحمكُمْ ربُّكُم بالعاظِكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم ربكم من فرائضه في آيِه.

ثم اختلف أهل التأويل في الحالِ التي أمر الله بالاستماع لقارئ القرآن إذا قرَأ والإنصات له؛ فقال بعضهم: ذلك حال كون المصلِّي في الصلاة خلف إمام يأتمٌّ به، وهو يسمعُ قراءة الإمام، عليه أن يستمع

(2)

لقراءتِه، وقالوا: في ذلك نزلت

(3)

هذه الآية.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن عاصمٍ، عن المسيب بن رافعٍ، قال: كان عبد الله يقولُ: كنا يُسلِّمُ بعضنا على بعض في الصلاةِ؛ سلامٌ على فلانٍ، وسلامٌ على فلان، قال: فجاءَ القرآنُ: {وَإِذَا قُرئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}

(4)

.

(1)

في م: "تتدبروه".

(2)

في م: "يسمع".

(3)

في م: "أنزلت".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 541 عن المصنف.

ص: 658

قال: ثنا حفصُ بن غِياثٍ، عن إبراهيم الهجريِّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} . والآية الأخرى أُمروا بالإنصات

(1)

.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفصٌ، عن أشعثَ، عن الزهريِّ، قال: نزلت هذه الآية في فتًى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئًا قرَأَهُ، فنزلت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}

(2)

.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربِيُّ، عن داود بن أبي هندٍ، عن يُسَيْرِ

(3)

بن جابرٍ، قال: صلَّى ابن مسعودٍ فسمع ناسًا يقرءُون مع الإمام، فلما انصرف، قال: أما آن لكم أن تفقهوا؟ أما آن لكم أن تعقِلوا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} ، كما أمركم الله

(4)

.

حدثنا حميد بن مَسعدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا الجُريريُّ، عن طلحةَ بن عُبيدِ اللهِ بن كريزٍ، قال: رأيتُ عُبيد بن عُميرٍ وعطاء بن أبي رباحٍ يتحدثان، والقاصُّ يقصُّ، فقلتُ: ألا تستمعان

(5)

إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرَا إليَّ ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدتُ، فنظرا إليَّ، ثم أقبلا على

(1)

أخرجه ابن المنذر في الأوسط 3/ 105، والبيهقى 2/ 155، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 29 من طريق إبراهيم بن مسلم الهجرى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 156 إلى أبى الشيخ وابن مردويه. وينظر ما سيأتي.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 541 عن المصنف، والواحدى في أسباب النزول ص 172.

(3)

في ص، ت 1، س، ف:"سر" غير منقوطة، وفى م:"بشير"، والمثبت من ت 1، ويقال: أسير، وينظر تهذيب الكمال 32/ 302.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1646، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 29 من طريق داود، عن أبي نضرة، عن أسير، عن جابر المحاربي، عن ابن مسعود. وأخرجه البيهقي في القراءة خلف الإمام (258) من طريق داود عن أبي نضرة عن رجل عن ابن مسعود، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 156 إلى عبد بن حميد وأبى الشيخ.

(5)

في ت 1، س، ف:"تسمعان".

ص: 659

حديثهما. قال: فأعدتُ الثالثةَ، قال: فنظرًا إليَّ، فقالا: إنما ذلك في الصلاةِ، {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}

(1)

.

حدَّثني العباسُ بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعيَّ، قال: ثنا عبد الله بن عامرٍ، قال: ثنى زيد بن أسلمَ، عن أبيه، عن أبي هريرة عن هذه الآية:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: نزلت في رفْعِ الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة

(2)

.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصَّلاةِ

(3)

.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديٍّ، عن رجل، عن قتادة، عن سعيدِ بن المسيَّبِ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصلاة

(4)

.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: ثنا ليثٌ، عن مجاهد:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصلاة

(5)

.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمعتُ

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 542، عن المصنف.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1645، والدارقطنى 1/ 326 من طريق العباس بن الوليد به، وأخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 171 من طريق عبد الله بن عامر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 155 إلى أبى الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر.

(3)

سيأتي تخريجه ص 663.

(4)

أخرجه البيهقي في القراءة خلف الإمام (269) من طريق ابن مهدى عن حماد بن سلمة عن قتادة به، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد 11/ 30 من طريق حجاج عن حماد به.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 479 عن ابن إدريس به.

ص: 660

حميدًا الأعرجَ، قال: سمعتُ مجاهدًا يقولُ في هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصلاةِ.

قال: ثنى عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا حميد، عن مجاهدٍ بمثله.

حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ وابن إدريسَ، عن ليث، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصلاة المكتوبة.

قال: ثنا المحاربيُّ، عن ليثٍ، عن مجاهد، وعن حجاج، عن القاسم بن أبى بَزَّةَ، عن مجاهد، وعن ابن أبي ليلى، عن الحكمِ، عن سعيد بن جبيرٍ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصلاة المكتوبة

(1)

.

قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد: في الصلاة المكتوبة

(2)

.

قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن ليث، عن مجاهدٍ مثلَه.

قال: ثنا المحاربيُّ وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: في الصلاة المكتوبة

(3)

.

قال: ثنا جرير وابن فُضيلٍ، عن مغيرةَ، عن إبراهيم، قال: في الصلاة المكتوبة

(4)

.

حدَّثنا بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: كانوا يتكلمون في صلاتهم

(1)

أثر سعيد بن جبير ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 543.

(2)

سيأتي تخريجه ص 663.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478، وزاد:"وعند الذكر"، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 30 من طريق جويبر به.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478 من طريق مغيرة به، وذكره ابن عبد البر في التمهيد 11/ 30.

ص: 661

بحوائِجِهم أوّلَ ما فُرضت عليهم، فأنزل الله ما تسمعون:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}

(1)

.

حدثنا محمد بن عبد الأعلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن معمر، عن قتادة:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: كان الرجل يأتى وهم في الصلاة فيسألُهم: كم صليتم؟ كم بقى؟ فأنزل الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}

(2)

. وقال غيره: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنارِ، فأنزل الله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرَآنُ}

(3)

.

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ والمحاربيُّ، عن أشعثَ، عن الزهريِّ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ ورجلٌ يقرأُ، فنزلت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}

(4)

.

قال: ثنا أبو خالد الأحمرُ، عن الهَجَريِّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرةَ، قال: كانوا يتكلمون في الصلاةِ، فلما نزلت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: هذا في الصلاة

(5)

.

قال: ثنا أبى، عن حُريثٍ

(6)

، عن عامرٍ، قال: في الصلاة المكتوبةِ

(7)

.

(1)

ذكره الواحدى في أسباب النزول ص 172 بنحوه، وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/ 156 مقرونا بالأثر الآتي مع زيادة أخرى، وعزاه إلى المصنف وعبد بن حميد وأبى الشيخ.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 247 عن معمر به.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 247 عن معمر، عن الكلبي، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 57 إلى ابن المنذر.

(4)

تقدم تخريجه في ص 659.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478، وابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1645 من طريق أبي خالد الأحمر به، وتقدم تخريجه في ص 659.

(6)

في مصدر التخريج: "جرير". وينظر تهذيب الكمال 5/ 562.

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478 عن وكيع به.

ص: 662

حدَّثني محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمد بن المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: إذا قُرئَ في الصلاة

(1)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} . يعني: في الصلاة المفروضة

(2)

.

حدَّثنا الحسنُ بنُ يَحيى، قال: أخبرنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا الثوري، عن أبى هاشمٍ، عن مجاهد، قال: هذا في الصلاة في قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}

(3)

.

قال

(4)

: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهدٍ، أنه كره إذا مرَّ الإمام بآية خوفٍ أو بآية رحمةٍ أن يقول أحدٌ مِمن

(5)

خلفه شيئًا، قال: السكوت

(6)

.

قال: أخبرنا الثورى، عن ليث، عن مجاهد، قال: لا بأسَ إذا قرأ الرجلُ في غير الصلاة أن يتكلم

(7)

.

حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قال: هذا إذا قام الإمامُ للصلاة فاستمعوا له وأنصتوا

(8)

.

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 543 عن السدي.

(2)

أخرجه ابن المنذر في الأوسط 3/ 105 من طريق أبي صالح به.

(3)

تفسير عبد الرزاق 1/ 247، وهو في مصنفه (4056).

(4)

القائل هو عبد الرزاق.

(5)

في ف، والمصنف، والدر:"من".

(6)

تفسير عبد الرزاق 1/ 248، وهو في مصنفه (4055)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى عبد بن حميد.

(7)

تفسير عبد الرزاق 1/ 247.

(8)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 543، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1646 عن يونس، عن ابن =

ص: 663

حدَّثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونسَ، عن الزهريِّ، قال: لا يُقرأ من وَراءِ الإمامِ فيما يجهر به من

(1)

القراءةِ، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يُسْمِعْهُم

(2)

صوته، ولكنهم يقرءون فيما لا

(3)

يجهر به سرًّا في أنفسِهم، ولا يصلح لأحدٍ خلفه أن يقرأ معه فيما يجهرُ به سرًّا ولا علانيةً، قال الله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَم وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

(4)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن ابن هُبيرَة، عن ابن عباسٍ، أنه كان يقولُ في هذه:{وَاذْكُر ربَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} . هذا في المكتوبةِ. وأما ما كان من قَصَص أو قراءة بعد ذلك، فإنما هي نافلةٌ، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة مكتوبةٍ، وقرأ أصحابه وراءه فخلطوا عليه، قال: فنزل القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} . فهذا في المكتوبة.

وقال آخرون: بل عُنى بهذه الآية الأمرُ بالإنصات للإمام في الخطبة إذا قُرئَ القرآن في خطبة.

‌ذكر من قال ذلك

حدثنا تميمُ بن المنتصرِ، قال: ثنا إسحاقُ الأزرقُ، عن شريك، عن سعيدِ بن مسروقٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . قال: الإنصاتُ للإمام يومَ الجمعةِ.

= وهب، عن ابن زيد، عن أبيه، نحوه.

(1)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(2)

في ت 1، س، ف:"يسمع".

(3)

في م، ف:"لم".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 542 عن ابن المبارك به، وينظر الأوسط لابن المنذر 3/ 106.

ص: 664

حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالد وابن أبي غَنِيَّةَ

(1)

، عن العوامِ، عن مجاهد، قال: في خطبة يوم الجمعة

(2)

.

وقال آخرون: عُنى بذلك الإنصاتُ في الصلاة وفي الخطبة.

‌ذِكرُ من قال ذلك

حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعتُ إبراهيم بن أبي حرَّةَ

(3)

، يُحدَّثُ أنه سمع مجاهدا يقولُ في هذه الآية:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة

(4)

.

حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا هارون، عن عَنْبَسةَ، عن جابر، عن عطاء، قال: وجَب الصُّموتُ في اثنتين: عندَ الرجل يقرأُ القرآن وهو يصلى، وعند الإمام وهو يَخطُبُ.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن جابر، عن مجاهد:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} . قال: وجَب الإنصات

(5)

في اثنتين: في الصلاةِ والإمامُ يَقرأُ، والجمعة والإمامُ يَخطب

(6)

.

(1)

في م، ف:"عتبة"، وغير منقوطة في (ص). ينظر تهذيب الكمال 34/ 467.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (976 - تفسير)، وابن أبي شيبة 2/ 478 من طريق العوام بن حوشب به.

(3)

في ص، م:"حمزة". وينظر التاريخ الكبير 1/ 281.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478 عن محمد بن جعفر به، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (977 - تفسير) من طريق شعبة به.

(5)

بعده في: "قال وجب".

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478 عن وكيع به.

ص: 665

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين: قال هشيم: أخبرنا من سمع الحسن يقولُ: في الصلاة المكتوبة، وعند الذكر

(1)

.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرَنا عبد الرزَّاقِ، قال: أخبرنا الثورى، عن جابر، عن مجاهد، قال: وجَب الإنصاتُ في اثنتين: في الصلاة ويوم الجمعة

(2)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المباركِ، عن بقيةَ بن الوليدِ، قال: سمعتُ ثابت بن عجلان يقولُ: سمعتُ سعيد بن جبير يقولُ في قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . قال: الإنصاتُ يومَ الأضحَى، ويوم الفطر، ويومَ الجمعةِ، وفيما يجهر به الإمامُ من

(3)

الصلاة

(4)

.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَوْنٍ

(5)

، قال: أخبرنا هشيم، عن الربيع بن صُبيح عن الحسن، قال: في الصلاة، وعند الذكر

(6)

.

حدثنا ابن البرقيِّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: ثنى ابن جريجٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قال: أوْجَبَ الإنصات يومَ الجمعةِ قولُ اللَّهِ تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُمْ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وفى

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 478 عن هشيم به.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1646 عن الحسن بن يحيى به، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 247، وفيه: عن الثورى عن جابر بن عبد الله، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى عبد بن حميد.

(3)

في ت 1، س، ف:"في".

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 543، عن ابن المبارك به. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1646، والبيهقى 2/ 155 من طريق ثابت عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وذكره بن السيوطي في الدر المنثور 3/ 156 عن ابن عباس، وعزاه إلى أبى الشيخ وابن مردويه.

(5)

في ص، ف:"عمرو بن"، وفى م:"عمرو بن حماد"، وهو خطأ، ينظر تهذيب الكمال 22/ 177.

(6)

ذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 543 عن هشيم به.

ص: 666

الصلاة مثل ذلك

(1)

.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أُمروا باستماع القرآن في الصلاةِ إذا قرأ الإمامُ، وكان من خلفه ممن يأتم به يَسْمَعُه، وفي الخطبة.

وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا قرأ الإمامُ فأنْصِتوا"

(2)

. وإجماع الجميع على أن مَن سَمِع خطبة الإمامِ ممن عليه الجمعة، الاستماع والإنصاتُ لها، مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لا وقتَ يجبُ على أحدٍ استماعُ القرآنِ والإنصات لسامعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين، على اختلاف في إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به. وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من قوله:"إذا قرأ الإمام فأَنْصِتُوا". فالإنصاتُ خلفه لقراءته واجبٌ على مَن كان به مؤتمًا سامعا قراءته بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌القولُ في تأويل قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} .

يقول تعالى ذكره: واذكر أيها المستمِع المنصتُ للقرآن، إذا قُرى في صلاةٍ أو خطبة - {رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ}. يقولُ: اتعِظْ بما في آي القرآنِ، واعتبر به،

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5369) عن ابن جريج به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى أبى الشيخ بنحو لفظ عبد الرزاق.

(2)

جزء من حديث أخرجه أحمد 4/ 415 (الميمنية)، ومسلم (404/ 63)، وأبو داود (973)، وابن ماجه (847) من حديث أبي موسى. وأخرجه أحمد 14/ 469 (8889)، وأبو داود (604)، وابن ماجه (846)، والنسائي (920، 921)، من حديث أبي هريرة.

وقد اختلف فيه، فصححه مسلم، والمصنف كما سيأتي، والحافظ في الفتح 2/ 242، وغيرهم، وردّه ابن معين وأبو داود وأبو حاتم وغيرهم. ينظر سنن البيهقي 2/ 156، 157، وينظر نصب الراية 2/ 14 - 17.

ص: 667

وتذكَّرْ معادَك إليه عند سماعكه. {تَضَرُّعًا} ، يقول: افعل ذلك تخشُّعًا لله، وتواضعًا له. {وَخِيفَةً} ، يقول: وخوفًا [من الله]

(1)

أن يعاقبَك على تقصير يكونُ منك في الاتعاظ به والاعتبارِ، وغفلةٍ عما بَيَّنَ اللَّهُ فيه من حدودِه، {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} ، يقولُ: ودعاءٌ باللسانِ للهِ في خفاءٍ لا جهارٍ. يقولُ: ليكن ذكرُ اللَّهِ عند استماعك القرآنَ في دعاء إن دعوت غير جهارٍ، ولكن في خفاء من القول.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} . لا يجهرُ بذلك

(2)

.

حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو سعد، قال: سمعتُ مجاهدا يقول في قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} الآية، قال: أُمِرُوا أن يذكروه في الصدور تضرعا وخيفةً

(3)

.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاقِ، قال: أخبرنا ابن التّيمى، عن أبيه، عن حيانَ بن عُميرٍ، عن عُبيدِ بن عُمير في قوله:{وَاذكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} . قال: يقول الله: إذا ذكرني عبدى في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني عبدى وحده ذكرتُه وحدى، وإذا ذكرني في ملأ ذكرتُه في أحسن منهم وأكرم"

(4)

.

(1)

في ص، ت 1، س، ف:"لله من".

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1647 من طريق أصبغ، عن ابن زيد به. وأخرجه أيضًا عن يونس عن ابن وهب عن زيد عن أبيه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى أبى الشيخ.

(3)

ذكره البغوي في تفسيره 3/ 321.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1647 عن الحسن بن يحيى به، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 248، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى أبي الشيخ.

ص: 668

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} . قال: يُؤمر بالتضرُّع في الدعاء والاستكانة، ويُكرَهُ رفعُ الصوت والنداء والصياحِ بالدعاء

(1)

.

وأما قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالأصَالِ} . فإنه يعنى: بالبُكْرِ والعَشِيَّاتِ. وأما الأصال فجمعٌ.

واختلف أهل العربية فيها؛ فقال بعضُهم: هي جمع أصيلٍ، كما الأيمانُ جمعُ يمين، والأسرارُ جمعُ سَريرٍ.

وقال آخرون منهم: هي جمع أُصُلٍ، والأصل جمع أصيلٍ

(2)

.

وقال آخرون منهم: هي جمعُ أُصل وأصيل

(3)

. قال: وإن شئت جعلت الأصل جمعًا للأصيل، وإن شئت جعلته واحدا. قال: والعرب تقول: قد دَنا الأصل. فيجعلونه واحدًا.

وهذا القولُ أولى بالصواب في ذلك، وهو أنه جائز أن يكون جمع أصيلٍ وأُصل؛ لأنهما قد يُجمعان على أفعال.

وأما الآصالُ فهى فيما يقالُ في كلام العرب ما بين العصر إلى المغرب.

وأما قوله: {وَلَا تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ} . فإنه يقولُ: ولا تكن من اللاهين إذا قرئ القرآنُ عن عظاتِه وعِبَره، وما فيه من عجائبه، ولكن تدبَّر ذلك وتفهَّمه، وأشعره قلبك [بذكرِ اللهِ]

(4)

وخُضوع له، وخوف من قدرة الله

(1)

ذكره البغوي في تفسيره 3/ 321 عن ابن جريج.

(2)

ينظر مجاز القرآن 1/ 239.

(3)

بعده في ف: "والأصل جمع أصيل".

(4)

كذا بالنسخ، ولعل الصواب:"بذكر الله".

ص: 669

عليك إن أنت غَفَلتَ عن ذلك.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالأصَالِ} . قال: بالبُكْرِ والعَشِيِّ، {وَلَا تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ}

(1)

.

حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مُعَرِّفُ بنُ واصلِ السَّعدى، قال: سمعت أبا وائل يقولُ لغلامه [عند مغيب الشمس]

(2)

: آصَلْنا بعدُ

(3)

؟.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهدٌ، قوله:{وَلَا تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ} . قال: الغدوُّ: آخرُ

(4)

الفجرِ صلاة الصبح، والآصال: آخرُ العَشِيِّ صلاة العصر، قال: وكلُّ ذلك لها وقتٌ، أوّلُ الفجر وآخره، وذلك مثل قوله في سورة آل عمران:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} آل عمران: 41]. وقيل: العشِيُّ: ميل الشمس إلى أن تغيبَ، والإبكارُ: أولُ الفجر

(5)

.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن محمد بن شريكٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، سُئل عن صلاة الفجرِ، فقال: إنها لفى كتاب الله، ولا يقوم عليها، ثم قرأ:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} الآية [النور: 36].

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد

(6)

، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} إلى قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} . أمر الله بذكره،

(1)

تقدم طرفه في ص 668.

(2)

سقط من: ص، ت 1، ت 2، س، ف.

(3)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى عبد بن حميد.

(4)

في ص، ت 1، س، ف:"وآخر".

(5)

عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى المصنف وأبى الشيخ.

(6)

بعده في ص، م، ت 1 س:"قال: ثنا سويد". وهو إسناد دائر.

ص: 670

ونهَى عن الغفلةِ. أما {بِالْغُدُوِّ} : فصلاة الصبح، {وَالْأَصَالِ}: بالعَشِيِّ

(1)

.

‌القولُ في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} .

يقول تعالى ذكره: لا تَستَكبر أيها المستَمِعُ المنصتُ للقرآن عن

(2)

عبادة ربك، واذكره إذا قُرئَ القرآنُ تَضَرُّعًا وخيفةً، ودون الجهر من القول، فإن الذين عند ربِّك من ملائكته لا يستكبرون عن التواضع له والتَّخَشُّع، وذلك هو العبادةُ.

{وَيُسَبِّحُونَهُ} . يقولُ: ويعظمون ربَّهم بتواضعهم له وعبادتهم، {وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. يقولُ: واللَّهِ يُصلُّون، وهو سجودهم، فصلوا أنتم أيضًا له، وعظِّموه بالعبادة كما يفعله من عندَه مِن ملائكته.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1647، 1648 من طريق يزيد به مفرقًا، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 246 عن معمر، عن قتادة بآخره، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 157 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.

(2)

في ص، ت 1، ت 2، س، ف:"من".

ص: 671