الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ الحِجْرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ
(1)}.
أما قولُه جلَّ ثناؤُه وتقدَّست أسماؤُه: {الر} . فقد تَقَدَّم بيانُنا
(1)
فيما مضَى قبلُ
(2)
.
وأما قولُه: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} . فإنه يَعْنى: هذه الآيات آياتُ الكُتُبِ التي كانت قبل القرآنِ، كالتوراةِ والإنجيلِ، {وَقُرْآنٍ}. يقولُ: وآياتُ قرآنٍ {مُبِينٍ} . يقولُ: يَبِينُ لَمَنْ
(3)
تأَمَّله وتَدَبَّره رُشْدُه وهُداه.
كما حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} ، قال: يَبِينُ واللَّهِ هداه ورُشْدُه وخيرُه
(4)
.
حدَّثنا المُثنَّى، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن مجاهدٍ:{الر} : فواتحُ يَفْتَتِحُ اللهُ
(5)
بها كلامَه، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}. قال: التوراةُ
(1)
في م: "بيانها".
(2)
تقدم في 1/ 204 وما بعدها.
(3)
في م: "من".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 92 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ليست في: ص، م، ت 2، ف.
والإنجيلُ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا هشامٌ، عن عمرٍو، عن سعيدٍ، عن قتادةَ في قولِه:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} . قال: الكتُبُ التي كانت قبل القرآن
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ
(2)}.
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {رُبَمَا} ؛ فقرَأت ذلك عامةُ قرَأةِ أهلِ المدينةِ وبعضُ الكوفيين: {رُبَمَا} . بتخفيفِ الباءِ. وقرَأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ بتشديدِها
(3)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان، بمعنًى واحدٍ، قد قرَأ بكلِّ واحدةِ منهما أئمةٌ مِن القرأَةِ، فبأيتِهما قرَأ القارى فهو مُصِيبٌ.
واختلَف أهلُ العربيةِ في معنى "ما" التي مع "رُبَّ"؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: أُدْخِلَ مع "ربَّ""ما"؛ ليتَكَلَّمَ بالفعلِ بعدها، وإن شِئْتَ جعَلت "ما" بمنزلةِ شيءٍ، فكأنَّك قلتَ: ربَّ شيءٍ يَوَدُّ. أي: ربَّ وُدٍّ يَوَدُّه الذين كفَروا.
وقد أنكَر ذلك مِن قولِه بعضُ نحويِّى الكوفةِ، وقال: المصدرُ لا يحتاجُ إلى عائدٍ، و "الوُدُّ" قد وقع على "لو": ربما يَوَدُّون لو كانوا؛ أن يَكُونوا. وقال: وإذا
(1)
أخرج أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 1921، 7/ 2098 (11316) من طريق ابن جريج، عن مجاهد، وينظر ما تقدم في 1/ 205.
(2)
تقدم تخريجه في 12/ 105، وهو تمام الأثر المتقدم قبله.
(3)
بالتخفيف قرأ عاصم ونافع، وبالتشديد قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر التيسير ص 110، وحجة القراءات ص 380.
أُضْمِر الهاءُ في "لو" ليس
(1)
بمفعولٍ، وهو موضعُ المفعولِ، ولا يَنْبَغى أن يُتَرْجَمَ المصدرُ بشيءٍ، وقد ترجمَه بشيءٍ، ثم جعَله وُدًّا، ثم أعاد عليه عائدًا، فكان الكسائي والفرَّاءُ
(2)
يقولان: لا تكادُ العربُ تُوقِعُ "رُبَّ" على مستقبَلٍ، وإنما يُوقِعونها على الماضي مِن الفعلِ، كقولِهم: ربَّما فعَلتُ كذا. و: ربما جاءني أخوك. قالا: وجاء في القرآنِ مع المستقبلِ: {رُبَمَا يَوَدُّ} . وإنما جاز ذلك؛ لأن ما كان في القرآنِ مِن وعدٍ ووعيدٍ وما فيه، فهو حقٌّ، كأنه عِيانٌ، فجرَى الكلامَ فيما لم يَكُنْ بعدُ منه مجراه فيما كان، كما قيل:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]. وقولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} [سبأ: 51]. كأنه ماضٍ وهو منتظَرٌ؛ لصدقِه في المعنى - وأنه لا مكذِّبَ له - وإن القائل ليقولُ إذا نَهَى أو أمَر فعصاه المأمورُ: أما واللهِ لرُبَّ ندامةٍ لك تَذْكُرُ قولى فيها. لعلمِه بأنه سيَنْدَمُ ويقولُ، واللهُ ووعدُه أصدقُ مِن قولِ المخلوقين.
وقد يجوزُ أن يَصْحَبَ "ربَّما" الدائمُ
(3)
، وإن كان في لفظ "يَفْعَلُ"، يقالُ: ربَّما يموتُ الرجلُ فلا يُوجَدُ له كفنٌ. وإن أُوليتِ الأسماءَ، كان معَها ضميرٌ "كان"، كما قال أبو
(4)
دواد
(5)
:
ربَّما الجاملُ
(6)
المؤبَّلُ
(7)
فيهم
…
وعَناجِيجُ
(8)
بينَهن المِهارُ
(1)
في م: "فليس".
(2)
معاني القرآن 2/ 82.
(3)
المراد بالدائم عند الكوفيين اسم الفاعل. مصطلحات النحو الكوفي ص 50.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ابن".
(5)
ديوانه (دراسات في الأدب العربي) ص 316.
(6)
الجامل: جماعة من الإبل تقع على الذكور والإناث، لا واحد لها من لفظها. ينظر اللسان (ج م ل).
(7)
المؤبلة: الإبل إذا كانت للقنية. الصحاح (أ ب ل).
(8)
العناجيج، واحدها عنوج: النجيب من الإبل، وقيل: هو الطويل العنق من الإبل والخيل. اللسان (ع ن ج).
فتأويلُ الكلامِ: ربما يودُّ الذين كفَروا باللهِ، فجحَدوا وحدانيتَه، لو كانوا في دار الدنيا مسلمين.
كما حدَّثنا عليُّ بنُ سعيدِ بن مسروقٍ الكنديُّ، قال: ثنا خالدُ بنُ نافعٍ الأشعريُّ، عن سعيدِ بن أبي بُرْدةَ، عن أبي بُرْدةَ، عن أبي موسى، قال: بلَغنا أنه إذا كان يومُ القيامةِ، واجتَمع أهلُ النارِ في النارِ، ومعهم مَن شَاء اللَّهُ مِن أهلِ القبلةِ، قال الكفارُ لمن في النارِ مِن أهل القبلةِ: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامُكم، وقد صِرْتم معَنا في النارِ؟ قالوا: كانت لنا ذُنوبٌ فأُخِذنا بها. فسمِع اللهُ ما قالوا، فأمَر بكلِّ مَن كان مِن أهلِ القبلةِ في النارِ فَأُخْرِجوا، فقال مَن في النارِ مِن الكفارِ: يا ليتَنا كنا مسلمين. ثم قرَأ رسولُ اللهِ: " {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} "
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ الهيثمِ أبو قَطَنٍ القُطَعِيُّ ورَوْحُ بنُ عبادةَ القَيْسيُّ وعفانُ بنُ مسلمٍ - واللفظُ لأبي قَطَنٍ - قالوا: ثنا القاسمُ بنُ الفضلِ، [عن عبيدِ]
(2)
اللهِ بن أبى جَرُوةَ، قال: كان ابن عباسٍ وأنسُ بن مالكٍ يتأوَّلان هذه الآيةَ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قالا: ذاك يومَ يَجْمَعُ اللَّهُ أهلَ الخطايا مِن المسلمين والمشركين في النارِ. وقال عفان: حين يُحْبَسُ أهلُ الخطايا مِن المسلمين والمشركين - فيقولُ المشركون: ما أغْنَى عنكم ما كنتم تَعْبُدون - زاد أبو قَطَنٍ: قد جُمِعنا وإياكم - وقال أبو قَطَنٍ
(1)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (843)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 4/ 443 - والطبراني - كما في تفسير ابن كثير 4/ 443، والبداية والنهاية، 20/ 180، والحاكم 2/ 242، والبيهقي في البعث والنشور (85) من طريق خالد بن نافع الأشعرى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 92 إلى ابن مردويه.
(2)
في النسخ: "بن عبد". والمثبت من مصدرى التخريج، وينظر الجرح والتعديل 5/ 314.
وعفانُ: فيَغْضَبُ الله لهم بفضلِ رحمتِه. ولم يَقُلْه روحُ بنُ عُبادةَ. وقالوا جميعًا: فيُخْرِجُهم اللهُ، وذلك حينَ يقولُ اللهُ:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا عفانُ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، قال: ثنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: يُدْخِلُ الجنةَ ويَرْحَمُ، حتى يقولَ في آخرِ ذلك: مَن كان مسلمًا فلْيَدْخلِ الجنةَ. قال: فذلك قولُه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} : ذلك يومَ القيامةِ، يَتَمَنَّى الذين كفَروا لو كانوا موحِّدين
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن سلمةَ بن كُهَيلٍ، عن أبي الزعراءِ، عن عبدِ اللهِ في قولِه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: هذا في الجَهَنَّمِيين إذ رأَوْهم يَخْرُجون مِن النارِ
(4)
.
(1)
أخرجه البيهقى في البعث والنشور (82) من طريق روح، عن القاسم به، وأخرجه الحسين في زوائده على زهد ابن المبارك (1602) من طريق القاسم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 92 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
أخرجه البيهقى في البعث والنشور (81) من طريق أبي عوانة به، وأخرجه هناد في الزهد (190) من طريق عطاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 92 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
أخرجه اليبهقى في البعث والنشور (80) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 92 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه البيهقي في البعث والنشور (86) من طريق سلمة بن كهيل به.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبَرنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا ابن أبى جَرْوةَ
(1)
العبديُّ، أن ابنَ عباسٍ وأنسَ بنَ مالكٍ كانا يتأوَّلان هذه الآيةَ:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . يتأوّلانها: يومَ يَحْبِسُ اللهُ أهلَ الخطايا مِن المسلمين مع المشركين في النارِ. قال: فيقولُ لهم المشركون: ما أغْنَى عنكم ما كنتُم تَعْبُدون في الدنيا؟ قال: فيَغْضَبُ اللهُ لهم بفضلِ رحمتِه فيُخْرِجُهم، فذلك حين يقولُ:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: ما يَزالُ اللَّهُ يُدْخِلُ الجنة ويَرْحَمُ ويُشَفِّعُ، حتى يقولَ: مَن كان مِن المسلمين فلْيَدْخُلِ الجنةَ. فذلك قولُه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن هشامٍ الدَّسْتوائيِّ، قال: ثنا حمادٌ، قال: سألْتُ إبراهيمَ عن هذه الآيةِ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: حُدِّثت أن المشركين قالوا لمن دخَل النارَ مِن المسلمين: ما أَغْنَى عنكم ما كنتم تَعْبُدون؟ قال: فيَغْضَبُ اللَّهُ لهم، فيقولُ للملائكةِ والنبيين: اشْفَعوا. فيَشْفَعُون، فيَخْرُجون مِن النارِ، حتى إن إبليسَ ليَتَطاولُ رجاءَ أَن يَخْرُجَ معهم، قال: فعندَ ذلك {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(4)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن إبراهيمَ أنه قال في قولِ
(1)
في النسخ، وتفسير ابن كثير:"فروة". وتقدم على الصواب.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 442 عن المصنف.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 353 - وعنه البيهقى في البعث والنشور (81) - من طريق جرير به.
(4)
أخرجه الحسين في زوائده على زهد ابن المبارك (1270) عن ابن علية به.
اللهِ عز وجل: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: يقولُ مَن في النارِ مِن المشركين للمسلمين: ما أغْنَت عنكم: لا إلهَ إلا اللَّهُ؟ قال: فيَغْضَبُ اللَّهُ لهم، فيقولُ: مَن كان مسلمًا فَلْيَخْرُجُ مِن النارِ. قال: فعندَ ذلك: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرَنا معمرٌ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ في قولِه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} ، قال: إن أهلَ النارِ يَقُولون: كنا أهلَ شِرْكِ وكُفْرٍ، فما شأنُ هؤلاء الموحِّدين، ما أَغْنَى عنهم عبادتُهم إياه؟ قال: فيُخْرِجُ مِن النارِ مَن كان فيها مِن المسلمين. قال: فعندَ ذلك {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن حمادٍ، عن إبراهيمَ، و
(2)
عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ، قالا
(3)
: يقولُ أهلُ النارِ للموحِّدين: ما أَغْنَى عنكم إيمانُكم؟ قال: فإذا قالوا ذلك، قال: أَخْرِجوا مَن كان في قلبِه مِثقالُ ذرّةٍ. فعندَ ذلك [قولُه: {رُبَمَا]
(4)
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مسلمٌ، قال: ثنا هشامٌ، عن حمادٍ، قال: سأَلْتُ إبراهيمَ عن قولِ اللَّهِ عز وجل: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} : قال الكفارُ يُعَيِّرون أهلَ التوحيدِ: ما أغْنَى عنكم: لا إلهَ إلا اللَّهُ؟ فيَغْضَبُ اللَّهُ لهم،
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 345.
(2)
سقط من النسخ، والمثبت من تفسير عبد الرزاق. وينظر تهذيب الكمال 2/ 233، 8/ 257.
(3)
في م: "قال".
(4)
سقط من: م.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 345. وأخرجه هناد في الزهد (209) من طريق الثورى، عن خصيف، عن مجاهد.
فيَأْمُرُ النبيِّين والملائكةَ فيَشْفَعون، فيَخْرُجُ أهلُ التوحيدِ [مِن النارِ]
(1)
، حتى إن إبليس ليَتَطاولُ رجاءَ أن يَخْرُجَ. فذلك قولُه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
حدَّثنا أحمدُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا عبدُ السلامِ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ، قال: هذا في الجَهَنَّمِيين إذا رأَوهم يَخْرُجون مِن النارِ: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا حمادٌ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن مجاهدٍ، قال: إذا فرَغ اللهُ مِن القضاءِ بينَ خلقِه، قال: مَن كان مسلمًا فلْيَدخُلِ الجنةَ. فعندَ ذلك: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى الحسنُ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: يومَ القيامةِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ بنُ عطاءٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
أخرجه البيهقى في البعث والنشور (83) من طريق عبد الكريم، عن مجاهد بنحوه.
(3)
تفسير مجاهد ص 415.
قال: فيها وجهان اثنان؛ يقولون: إذا حضر الكافر الموتُ ودَّ لو كان مسلمًا. ويقولُ آخرون: بل يُعَذِّبُ اللَّهُ ناسًا مِن أهل التوحيدِ في النارِ بذُنوبهم، فيَعْرِفُهم المشركون فيقولون: ما أغنت عنكم عبادة ربِّكم وقد ألقاكم في النارِ؟ فيَغْضَبُ لهم، فيُخْرِجُهم، فيقولُ:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيعِ، عن أبي العالية في قوله:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: نزَلت في الذين يخرجون من النار.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} : وذلك والله يوم القيامةِ، وَدُّوا لو كانوا في الدنيا مسلمين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ، قال: ما يَزَالُ اللهُ يُدْخِلُ الجنةَ ويُشَفِّعُ، حتى يقول: مَن كان مِن المسلمين فلْيَدْخُلِ الجنةَ. فذلك حين يقولُ: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ذَرْ يا محمدُ هؤلاء المشركين يَأْكلوا في هذه الدنيا ما هم آكِلوه، ويَتَمَتَّعوا من لذاتها وشهواتهم
(1)
فيها، إلى أجَلِهم الذي
(1)
في ت 2، ف:"شهواتها".
أجَّلْتُ لهم، ويُلهِهِمُ الأملُ عن الأخذ بحظِّهم من طاعة الله فيها، وتزودهم لمعادِهم منها بما يقرِّبُهم مِن ربِّهم، فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه وقد هلكوا على كُفْرِهم بالله وشركهم، حين يُعاينون عذابَ اللهِ، أنهم كانوا مِن تَمَتَّعِهم بما كانوا يَتَمَتَّعون فيها من اللذاتِ و
(1)
الشهوات، كانوا في خَسارٍ وتبابٍ.
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} .
يقول تعالى ذكرُه: وما أهلكْنا يا محمدُ {مِن} أهل قرية من أهل القرى التي أهْلَكْنا أهلها فيما مضَى، {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}. يقولُ: إلا ولها أجلٌ مؤقَّتٌ، ومدةٌ معروفةٌ، لا نُهْلِكُهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك. فيقول
(2)
لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: فكذلك أهل قريتك التي أنت منها، وهى مكة، لا نُهْلكٌ
(3)
مشركي أهلِها إلا بعد بلوغ كتابهم أجلَه؛ لأن من قضائى أَلَّا أُهْلِكَ أَهلَ قريةٍ إلا بعد بلوغ كتابهم أجلَه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .
يقول تعالى ذكرُه: ما يَتَقَدَّمُ هلاكُ أمةٍ قبل أجلها الذي جعله الله أجلًا لهلاكها، ولا يَسْتَأْخِرُ هلاكها عن الأجلِ الذي جعل لها أجلًا.
كما حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريِّ في قوله:{ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ} . قال: نَرَى
(4)
(1)
بعده في ت 1: "من".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فقوله".
(3)
في ص، ت 2:"يهلك".
(4)
في ت 2، ف:"يرى".
أنه إذا حضَر أجلُه، فإنه لا يُؤَخَّرُ ساعةً ولا يُقَدَّمُ، وأما ما لم يَحْضُرُ أجله
(1)
، فإن الله يُؤَخِّرُ ما شاء، ويُقَدِّمُ ما شاء
(2)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)} .
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون لك، من قومِك، يا محمد:{يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ؛ وهو القرآنُ الذي ذكَّر الله بما
(3)
فيه [من المواعظ]
(4)
خلقَه، {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في دعائك إيانا إلى أن نتبعَك ونَذَرَ آلهتنا، {لَو مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ}. قالوا: هَلَّا تَأْتِينا بالملائكة شاهدةً لك على صدق ما تقول، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. يَعْنى: إن كنت صادقا في أن الله بعثك إلينا رسولًا، وأنزل عليك كتابًا، فإنَّ الربَّ الذي فعل ما تَقُولُ بك، لا يَتَعَذَّرُ عليه إرسال ملك من ملائكته معك، حجةً لك علينا، وآيةً لك على نبوَّتِك وصدقِ مقالتك.
والعربُ تَضَعُ موضِعَ "لوما""لولا"، وموضعَ "لولا""لوما"، و
(5)
من ذلك قول ابن مُقْبِلٍ
(6)
:
لَوْما الحياءُ ولَوْما الدينُ عِبْتُكما
…
ببعضِ ما فيكما إذ عِبْتُما عَوَرِى
يُريدُ: لولا الحياء.
(1)
في ت 2، ف:"آجالا".
(2)
جامع معمر (20386)، وفيه زيادة من قول ابن المسيب.
(3)
سقط من: م، وفى ص، ت 2، ف:"بها"، وفى ت 1:"به". وهو تصحيف عما أثبتناه.
(4)
في م: "مواعظ".
(5)
ليست في: ص، م، ت 2، ف.
(6)
ديوانه ص 76. وفيه: "لولا". في الموضعين، والبيت كما استشهد به المصنف في مجاز القرآن 1/ 346.
وبنحو الذي قلنا في معنى "الذكرِ" قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني المثنَّى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} . قال: القرآنُ
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ
(2)
الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}.
اختلفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {مَا نُنَزِّلُ
(3)
الْمَلَائِكَةَ}. فقرأ ذلك عامةُ قرأة المدينة والبصرةِ: (ما تَنَزَّلُ الملائِكَةُ). بالتاءِ مِن "تَنَزَّلُ"، وفتحِها، ورَفْعِ
(4)
"الملائكة"
(5)
. بمعنى: ما تَنَزَّلُ الملائكةُ، على أن الفعل للملائكة.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأة أهل الكوفةِ: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} . بالنون في "نُنَزِّلُ"، وتشديدِ الزاي، ونَصْبِ "الملائكة"
(6)
، بمعنى: ما نُنَزِّلُها نحن. و"الملائكةُ" حينئذ منصوبٌ بوقوع "نُنَزِّلُ" عليها.
وقرَأه بعضُ قرأةِ أهل الكوفة: (ما تُنَزَّلُ الملائكةُ). برَفعِ "الملائكة"، والتاء في "تُنَزَّلُ" وضَمِّها، على وجهِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه
(7)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94 إلى المصنف.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"تنزل". قراءة كما سيأتي.
(3)
في ت 1، 2، ف:"تنزل".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فتح".
(5)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 366.
(6)
وهى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. السابق.
(7)
وهى قراءة عاصم في رواية أبى بكر. السابق.
قال أبو جعفرٍ: وكلُّ هذه القراءات الثلاث متقارباتُ المعانى، وذلك أن الملائكةَ إذا نَزَّلها الله على
(1)
رسولٍ من رسلِه، تَنزَّلَت إليه، وإذا تنزلت إليه، فإنما تَنْزِلُ بإنزالِ اللَّهِ إياها إليه. فبأيِّ هذه القراءات الثلاثِ قرأ ذلك القارئُ، فمصيبٌ الصواب في ذلك، وإن كنتُ أُحِبُّ لقارئِه ألا يَعْدُو في قراءته إحدى القراءتين اللتين ذكَرت من قراءة أهل المدينة، والأخرى التي عليها جمهور قرأة الكوفيين؛ لأن ذلك هو القراءةُ المعروفة في العامة؛ والأُخرى - أعنى قراءة من قرَأ ذلك:(ما تُنَزَّلُ). بضمِّ التاءِ مِن "تُنَزَّلُ" ورفعِ "الملائكةِ" - شاذّةٌ
(2)
، قليلٌ من قرَأ بها
(3)
.
فتأويل الكلام: ما نُنَزِّلُ ملائكتَنا إلا بالحقِّ. يعنى بالرسالة إلى رُسُلنا، أو بالعذاب لمن أردنا تعذيبَه، ولو أرسلنا إلى هؤلاء المشركين على ما يَسْأَلون إرسالهم معَك آيةً فكفَروا، لم يُنظروا فيؤخَّروا بالعذابِ، بل عُوجِلوا به، كما فعلنا ذلك بمَن قبلهم من الأمم حين سألوا الآياتِ، فكفَروا حين أتتهم الآيات، فعاجلناهم بالعقوبة.
وبنحو الذي قُلْنا في تأويل قوله: {مَا نُنَزَّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} . قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد في قوله:{مَا نُنَزَّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} . قال:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"إلى".
(2)
في ص، ت 1، ت 2 ف:"شاذ".
(3)
القراءة بذلك ليست شاذة، بل متواترة.
بالرسالة والعذاب
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} .
يقول تعالى ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ} وهو القرآنُ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. قال: وإنا للقرآن لحافظون، من أن يزادَ فيه باطلٌ ما ليس منه، أو يُنْقَصَ منه ما هو منه؛ من أحكامه وحدوده وفرائضه.
والهاء في قوله: {لَهُ} . من ذكر "الذكرِ".
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، وحدَّثني الحسنُ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . قال: عندنا
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
(1)
تفسير مجاهد ص 415. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: و
(1)
قال في آيةٍ أُخرى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَطِلُ} - والباطلُ إبليسُ - {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]. فأَنزَله الله ثم حفظه، فلا يَسْتَطيعُ إبليس أن يَزيدَ فيه باطِلًا، ولا يَنْتَقِصَ منه حقًّا، حفظه اللهُ مِن ذلك
(2)
.
حدثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . قال: حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلًا، أو يَنْقُصُ منه حقًّا
(3)
. وقيل: إن
(4)
الهاء في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . مِن ذكرِ محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: وإنا لمحمدٍ حافظون ممن أراده بسوءٍ مِن أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك في الأممِ الأوَّلين رسلًا. وترَك ذِكْرَ الرسل اكتفاءً بدلالة قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} عليه.
وعَنَى به {شيع الْأَوَّلِينَ} أمم الأوَّلين، واحدتُها شِيعَةٌ، ويقال أيضًا لأولياء الرجل: شيعته.
وبنحو الذي قُلْنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
ليست في: ص، م، ت 2، ف.
(2)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (122) من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وفى 5/ 367 إلى عبد بن حميد، وينظر ما سيأتي في 20/ 444.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 345 عن معمر به، وأخرجه ابن الضريس في فضائله (123) من طريق عقبة بن زياد، عن قتادة.
(4)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} . يقولُ: أممِ الأَوَّلين
(1)
.
حدثني المُثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيدٍ، عن قتادة في قوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} . قال: في الأممِ.
وقوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مَّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} . يقولُ: وما يأتى شِيعَ الأوَّلين من رسول من اللهِ يُرْسِلُه إليهم بالدعاء إلى توحيده والإذعان بطاعته، {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} ، يقول: إلا كانوا يَسْخَرون بالرسولِ الذي يُرْسِلُه اللَّهُ إليهم، عُتوًّا منهم وتمرُّدًا على ربِّهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} .
يقول تعالى ذكره: كما سلَكنا الكفر في قلوبِ شِيَع الأوَّلين؛ الاستهزاء
(2)
بالرسلِ، كذلك نَفْعَلُ ذلك في قلوب مشركي قومك، الذين أجرَموا الكفر
(3)
باللهِ. {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} . يقولُ: لا يُصَدِّقون بالذكرِ الذي أنزلتُه
(4)
إليك.
والهاء في قوله: {نَسْلُكُهُ} . من ذكر الاستهزاء بالرسل والتكذيب بهم.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م، ف:"بالاستهزاء".
(3)
في م: "بالكفر".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ف:"أنزل".
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} . قال: التكذيبَ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} . قال: إذا كذَّبوا سلَك الله في قلوبهم ألا يُؤْمِنوا به
(1)
.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حميدٍ، عن الحسن في قوله:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} . قال: الشرك
(2)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهالِ، قال: ثنا حماد بن سلمةَ، عن حميدٍ، قال: قرأتُ القرآنَ كلَّه على الحسن في بيت أبي خليفةَ، ففسَّره أجمعَ على الإثبات، فسألته عن قوله:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} . قال: أعمالٌ سيعملونها
(3)
لم يعمَلوها
(4)
.
حدثني المثنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المباركِ، عن حماد بن سلمةَ، عن حميد الطويل، قال: قرأت القرآن كلَّه على الحسن، فما كان يُفَسِّره إلا على الإثباتِ، قال: وقَفْتُه على: {نَسْلُكُهُ} . قال: الشركَ. قال ابن المبارك: سمعت سفيان يقولُ في قوله: {نَسْلُكُهُ} ، قال: نَجْعَلُه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} . قال: هم كما قال الله، هو
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 345 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2822 (15993) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 345، 346، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94 إلى ابن المنذر.
(3)
في ت 1: "ستعلمونها".
(4)
في م: "يعملونها"، وفى ت 1:"تعملوها". وينظر ما سيأتي في 17/ 649.
أضلَّهم ومنعهم الإيمانَ
(1)
.
يقال منه: سلَكه يَسْلُكُه سَلكًا وسلوكًا، وأسلكه يُسلِكُه إسلاكًا. ومِن السلوكِ قولُ عديِّ بن زيدٍ
(2)
:
وكنت لزازَ خَصْمِك لم أُعَرَّدْ
…
وقد سلَكوك في يومٍ عصيبِ
من الإسلاكِ قولُ الآخرِ
(3)
:
حتى إذا أسلكوهم في قُتائِدَةٍ
…
شلًّا كما تَطْرُدُ الجَمالةُ الشُّرُدَا
وقوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} . يقول تعالى ذكره: لا يُؤْمِنُ بهذا القرآنِ قومك الذين سلكت في قلوبهم التكذيب، حتى يَرَوُا العذاب الأليم، أخذًا منهم سُنةَ أسلافِهم من المشركين قبلهم، من قوم عاد وثمود وضُربائهم من الأمم التي كذَّبت رُسُلَها فلم تُؤْمِنْ بما جاءها من عندِ اللهِ، حتى حلَّ بها سَخَطُ اللَّهِ فهلكت.
ما قُلْنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{كَذَلِك نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} : وقائعُ اللَّهِ في مَن خلا قبلكم من الأممِ
(4)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مَّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2822 (15995) من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(2)
تقدم في 12/ 497.
(3)
تقدم في 1/ 467.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 94، 95 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}.
اختلَف أهلُ التأويل في المعْنِيِّين بقولِه: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معنى الكلام: ولو فتَحْنا على هؤلاء القائلين لك يا محمدُ: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ} . بابًا مِن السماء، فظلَّت الملائكةُ تَعْرُجُ فيه، وهم يَرَوْنهم عيانًا، لقالوا:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مَّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يعْرُجُونَ} . يقول: لو فتحنا عليهم بابًا من السماءِ فظَلَّت الملائكةُ تَعْرُجُ فيه
(1)
، لقال أهل الشرك: إنما أخذ أبصارنا، وشَبَّه علينا، وإنما سَحَرَنا. فذلك قولهم:{لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن ابن عباس:{فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} : فظلَّت الملائكةُ يَعْرُجون فيه، يراهم بنو آدم عيانًا، لقالوا:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)} . قال: ما بينَ ذلك إلى قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)} . قال: رجع إلى قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} ما بينَ
(1)
في ص، ت 2، ف:"منه".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 346 عن معمر عن قتادة عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذلك. قال ابن جريجٍ: قال ابن عباسٍ: فظلَّت الملائكةُ تَعْرُجُ، فنظروا إليهم، لقالوا:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . قال: قريشٌ تقوله
(1)
.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مَّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} . قال: قال ابن عباسٍ: لو فتَح الله عليهم من السماءِ بابًا، فظلَّت الملائكةُ تَعْرُجُ فيه. يقولُ: يَخْتَلِفون فيه جائين وذاهبين، لقالوا:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}
(2)
.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيد بن سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مَّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} : يعنى الملائكةَ. يقولُ: لو فتحتُ على المشركين بابا من السماءِ فنظروا إلى الملائكةِ تَعْرُج بين السماءِ والأرضِ، لقال المشركون:{نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} : سُحِرنا، وليس هذا بالحق، ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الآية:{لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ} ؟
حدثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرَ
(3)
، عن نصر، عن الضحاك في قوله:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} .
قال: لو أني فتَحت بابًا من السماءِ تَعْرُجُ فيه الملائكة بين السماء والأرض، لقال المشركون:{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} . ألا ترى أنهم قالوا: {لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ؟
وقال آخرون: إنما عُنِى بذلك بنو آدمَ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن المنذر، وعزاه في 4/ 94 إلى المصنف وأبي عبيد وابن المنذر مقتصرًا على قول ابن جريج بلفظ آخر.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 346، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ت 2: "عمرو". وينظر تهذيب الكمال 21/ 520.
ومعنى الكلام عندهم: ولو فَتَحْنا على هؤلاء المشركين من قومك يا محمدُ بابًا من السماءِ، فظلُّوا هم فيه يَعْرُجُون، لقالوا:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مَّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} . قال قتادة: كان الحسن يقولُ: لو فُعِل هذا ببنى آدمَ، {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}. أي: يَخْتَلِفون، لقالوا:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} .
وأما قوله: {يَعْرُجُونَ} . فإن معناه: يَرْقَوْن فيه ويَصْعَدُون، يقال منه: عَرَج يَعْرُجُ عُرُوجًا. إذا رَقِى وصعد، وواحدة المعارِجِ مَعْرَجٌ ومِعْرَاجٌ؛ ومنه قولُ كُثيرٍ:
إلى حَسَبٍ عَوْدٍ
(1)
بَنا
(2)
المرء قبله
…
أبوه له فيه مَعارِجُ سُلَّمِ
وقد حكى "عَرَجٌ يَعْرِجُ" بكسر الراء في الاستقبالِ.
وقوله: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . يقولُ: لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلَّ ثناؤه صفتهم: ما هذا بحقٍّ، إنما سُكِّرت أبصارنا.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {سُكِّرَتْ} ؛ فقرأ أهل المدينة والعراقِ: {سُكِّرَتْ} . بتشديد الكافِ
(3)
. بمعنى: غُشِّيت وغطِّيت. هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه.
(1)
حسب عود: قديم. ينظر اللسان (ع و د).
(2)
بنا يبنو لأنَّه من العلو في الشرف. ينظر اللسان (ب ن و).
(3)
وهى قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 366.
وذكر عن مجاهدٍ أنه كان يقرأُ: (لقالوا إنما سُكِرَت)
(1)
.
حدثني بذلك الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: سمعت الكسائيَّ، يحدِّث عن حمزةَ، عن شبلٍ، عن مجاهد أنه قرأها:(سُكِرَتْ أبْصَارُنا). خفيفة
(2)
.
وذهَب مجاهدٌ في قراءةِ ذلك كذلك إلى: حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر. من سُكُورِ
(3)
الريحِ، وذلك سُكونُها ورُكودُها، يقال منه: سَكَرت الريحُ. إذا سَكَنتْ وركَدت.
وقد حُكِى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقولُ: هو مأخوذٌ مِن سُكْرِ الشرابِ، وأن معناه: قد غَشَّى أبصارَنا السُّكرُ.
وأما أهل التأويل فإنَّهم اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضُهم: معنى {سُكِّرَتْ} : سُدَّت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدثني المثنَّى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:{سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . قال: سُدَّت
(4)
.
(1)
وهى قراءة ابن كثير من السبعة. السابق.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"سكون".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا حجاج، يعني ابن محمد، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني ابن كثير، قال: سُدَّت.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} : يَعْنى: سُدَّت.
فكأنَّ مجاهدًا ذهب في قوله وتأويله ذلك بمعنى "سُدَّت"، إلى أنه بمعنى: مُنعت النظرَ. كما يُسْكَرُ الماءُ فيُمْنَعُ
(1)
مِن الجَرْيِ، بحَبْسِه في مكان بالسِّكْرِ الذي يُسْكَرُ به.
وقال آخرون: معنى
(2)
{سَكِّرَتْ} : أُخِذَت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ، عن ابن عباس:{لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . يقولُ: أُخِذت أبصارُنا
(3)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ: إنما أخَذ أبصارَنا، وشَبَّه علينا، وإنما سَحَرَنا
(4)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة:
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"فيمتنع".
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"ذلك".
(3)
تقدم تخريجه في ص 24.
(4)
تقدم تخريجه في ص 23.
{لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . يقولُ: سُحِرَت أبصارنا. يقولُ: أُخِذت أبصارنا.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حمادٍ، قال: ثنا شيبان، عن قتادة، قال: من قرأ: {سُكِّرَتْ} . مُثقَّلةً
(1)
، يعنى: سُدَّت، ومَن قرأ (سُكِرَتْ). مخففةً، فإنه يعنى: سُجِرت
(2)
.
وكأن هؤلاء وجَّهوا معنى قوله: {سُكِّرَتْ} . إلى أن أبصارَهم سُحِرت، فشُبِّه عليهم ما يُبْصِرون، فلا يُمَيزون بين الصحيحِ مما يرَون وغيره، من قول العرب: سُكِّر على فلان رأيُه. إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد، فلم يَدْرِ
(3)
الصواب فيه مِن غيره. فإذا عزَم على الرأي قالوا: ذهَب عنه التَّسْكِيرُ.
وقال آخرون: هو مأخوذٌ من السُّكْر، ومعناه: غُشِّى على أبصارِنا فلا تُبْصِرُ، كما يَفْعَلُ السُّكرُ بصاحبِه، فذلك إذا دِيرَ به وغُشِّى بَصَرُه، كالسَّماديرِ
(4)
، فلم يُبْصِرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . قال: سُكِّرت، السكرانُ
(5)
الذي لا يَعْقِلُ
(6)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: عُمِّيَت.
(1)
في م: "مشددة". والتثقيل هو التشديد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"ما".
(4)
سدر بصره واسمدرَّ: إذا تحير فلم يحسن الإدراك، وفى بصره سدر وسمادير. أساس البلاغة (س د ر).
(5)
في ت 1: "كالسكران".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 446.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاءٍ، عن الكلبي:{سُكِّرَتْ} . قال: عمِّيت.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ عندى قولُ مَن قال: معنى ذلك: أُخِذت أبصارُنا وسُحِرت، فلا تُبْصِرُ الشيءَ على ما هو به، وذهَب
(1)
حدُّ
(2)
إبصارِها
(3)
، وانطَفأ نورُه
(4)
. كما يقالُ للشيءِ الحارِّ إذا ذهَبت فَوْرَتُه وسَكَن حَدُّ حَرِّه: قد [سكَر يَسْكُرُ]
(5)
، كما
(6)
قال [المُثَنَّى بنُ جَنْدَلٍ]
(7)
الطُّهَوِيُّ
(8)
:
جاء الشتاءُ واجْثَأَلَّ القُبَّرُ
(9)
واسْتَخْفَت الأفعى وكانت تَظْهَرُ
وجَعَلَت عينُ الحرُورِ تَسْكُرُ
أي: تَسْكُنُ
(10)
وتَذْهَبُ وتَنْطَفئُ. وقال ذو الرمةِ
(11)
:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ذهبت".
(2)
في ت 1: "حدة".
(3)
في ت 1، ف:"أبصارنا".
(4)
في ت 1: "نورها".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"سكن يسكن".
(6)
سقط من م، ت 1، ف.
(7)
كذا في النسخ، وصوابه جندل بن المثنى، وينظر تعليقنا عليه في 9/ 412.
(8)
الرجز في مجاز القرآن 1/ 348، واللسان (س ك ر، ق ب ر، ج ث ل).
(9)
في مجاز القرآن، والموضع الثاني من اللسان:"القنبر"، واجثأل: اجتمع وتقبض، والقبر: جنس من الطيور من فصيلة القبريات، ورتبة الجواثم المخروطية المناقير، سمر في في أعلاها، ضاربة إلى بياض في أسفلها، وعلى صدرها بقعة سوداء، ينظر اللسان (س ك ر)، والوسيط (ق ب ر).
(10)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لتسكن".
(11)
ديوانه 1/ 316.
قبلَ انْصِداعِ الفجرِ والتَّهَجُّرُ
وخَوْضُهن الليل حينَ يَسْكُرُ
يعني: حينَ تَسْكُنُ فَوْرَتُه.
وذُكِر عن قيسٍ أنها تقولُ: سكرت الريحُ تَسْكُرُ سُكُورًا. بمعنى: سكَنت. وإن كان ذلك عنها صحيحًا، فإن معنى "سُكِرَت" و "سُكِّرَت" - بالتخفيفِ والتشديدِ - متقاربان، غير أن القراءةَ التي لا أستجيزُ غيرها في القرآن:{سُكِّرَتْ} . بالتشديدِ؛ لإجماع الحجة من القرأةِ عليها، وغير جائزٍ خلافها فيما جاءت به مجمعةً عليه
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)} .
يقول تعالى ذكرُه: ولقد جعلنا في السماءِ الدنيا منازلَ للشمس والقمرِ، وهى كواكب يَنزِلُها الشمس والقمرُ، {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} ، يقولُ: وزيّنا السماء بالكواكب لمن نظَر إليها وأبصرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنَّى، قال: أخبرنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ،
(1)
تقدم أن القراءة بالتخفيف قراءة ابن كثير، وهو من السبعة، فهي متواترة.
وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد اللهِ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد في قوله:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} . قال: كواكبَ
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} : وبُروجها نجومها
(2)
.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{بُرُوجًا} ، قال: الكواكب
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)} .
يقول تعالى ذكره: وحفظنا السماء الدنيا من كلِّ شيطانٍ لعينٍ، قد رجَمَه اللَّهُ ولعَنه، {إلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} ، يقولُ: لكن قد يَسْتَرِقُ من الشياطين السمع مما يَحْدُثُ في السماءِ بعضُها، فيَتْبَعُه شهابٌ مِن النارِ مبينٌ، يَبِينُ أثرُه فيه، إما بإخبالِه وإفساده، أو بإحراقه.
وكان بعضُ نحويِّي أهل البصرة يقولُ في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} : هو استثناءٌ خارجٌ، كما قال: ما أشْتَكى إلا خيرًا. يريدُ: لَكِن
(4)
أذكُرُ خيرًا.
(1)
تفسير مجاهد ص 415، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
في ص: "سحرمها"، وفى ت 1:" .. منها"، وفى ت 2، ف:"ط منها". إشارة من النساخ إلى أن هنا خطأ.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 95 إلى المصنف وابن أبي حاتم، ويُنظر ما سيأتي تخريجه في 17/ 484.
(4)
سقط من النسخ، وزادها ناشرو المطبوعة، ولا بد منها لاستقامة السياق.
وكان يُنكِرُ ذلك من قبله بعضُهم، ويقول: إذا كانت "إلَّا" بمعنى "لكن"، عمِلت عملَ "لَكِنْ"، ولا يحتاج إلى إضمار "أذْكُرُ". ويقولُ: لو احتاج والأمرُ كذلك إلى إضمار "أذْكُرُ"، احتاج قول القائل: قام زيد لا عمرٌو. إلى إضمارِ "أذكرُ".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلمٍ، قال: ثنا عبد الواحدِ بنُ زيادٍ، قال ثنا الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تصعد الشياطين أفواجًا تَسْتَرِقُ السَّمْعَ. قال: فيَنْفَرِدُ الماردُ منها فيعلو، فيُرمى بالشهاب، فيُصِيبُ جبهتَه أو جَنبه، أو حيث شاء الله منه، فيلتهب، فيَأْتى أصحابه وهو يَلْتَهبُ، فيقولُ: إنه كان من الأمر كذا وكذا
(1)
. قال: فيَذْهَبُ أولئك إلى إخوانهم من الكهنةِ، فيزيدون عليه أضعافَه من الكذبِ، فيُخبرونهم به، فإذا رأوا شيئًا
(2)
مما قالوا قد كان، صدَّقوهم بما جاءوهم به من الكذبِ
(3)
.
حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:{وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} . قال: أراد أن يَخْطِفَ السمعَ، وهو كقوله:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ}
(4)
[الصافات: 10].
(1)
بعده في ص: "وكذا".
(2)
في ص، ف:"أشياء".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"كذب".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} : وهو نحو قولِه: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريج قوله:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} . قال: خَطِفَ الخَطْفةَ.
حدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضحاك يقولُ في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} : هو كقوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . كان
(1)
ابن عباس يقولُ: إن الشُّهُبَ لا تَقْتُلُ، ولكن تَحرِقُ وتُخَبِّلُ وتَجرَحُ، مِن غير أن تَقْتُلَ
(2)
.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:{مِن كُلَّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} . قال: الرجيم الملعون. قال: وقال القاسمُ، عن الكسائيِّ، أنه قال: الرجمُ في جميع القرآنِ الشَّتْمُ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)} .
يَعنى تعالى ذكره بقوله: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} : والأَرضَ دَحَوْناها فبَسَطناها، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} ، يقولُ: وألقَيْنا في ظهورِها رَواسيَ، يَعْنى جبالًا ثابتةً.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} : وقال في آية أخرى: {وَالْأَرْضَ بَعدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وذُكِر لنا أن أمَّ القرى مكةَ منها دُجيت الأرضُ. قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} : رواسيها جبالُها
(1)
.
وقد بينّا معنى الرُّسُوِّ فيما مضى بشواهده المُغْنِيَةِ عن إعادته
(2)
.
وقوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)} . يقولُ: وأنبتنا في الأرضِ {مِن كُلَّ شَيْءٍ} ، يقولُ: مِن كُلِّ شيءٍ بقدرٍ
(3)
مقدَّرٍ، وبحدٍّ معلومٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا المثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . يقولُ: معلومٍ
(4)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبى، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . يقولُ: معلومٍ.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، أو عن أبي مالك في قوله:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: بقدرٍ.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرُو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيلَ بن أبي خالد، عن أبي صالح، أو عن أبي مالك مثله.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحِمّانيُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن خُصَيفٍ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تقدم في 13/ 414.
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن المنذر.
عكرمةَ: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: بقدرٍ.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليٌّ - يعني ابن الجعد - قال: أخبرنا شَرِيك، عن خُصيفٍ، عن عكرمة:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: بقدرٍ.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن خُصَيفٍ، عن عكرمة، قال: بقدرٍ
(1)
.
حدثنا أحمد، [قال: حدَّثنا أبو أحمدَ]
(2)
، قال: ثنا سفيان، عن حُصينٍ، عن سعيد بن جبير:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: معلوم.
حدثنا مجاهدُ بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعتُ الحكم بن عُتَيْبةَ، وسأَله أبو مخزومٍ عن قوله:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: من كلِّ شيءٍ مَقْدورٍ.
حدَّثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيدُ بن هارونَ، قال: أخبرنا عبدُ اللَّهِ بنُ يونسَ، قال: سمعت الحكَمَ، وسأَله أبو عُرْوةَ عن قولِ اللَّهِ عز وجل:{مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوزُونٍ} . قال: من كلِّ شيءٍ مقدورٍ. هكذا قال الحسن: وسأله أبو عُروةَ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنا الحسن بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: مقدورٍ
(1)
تفسير سفيان ص 159.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
بقدرٍ
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: مقدور بقدرٍ.
حدثني المثنى، قال: ثنا عليُّ بن الهيثمِ، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: مقدورٍ بقدرٍ.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عليُّ بن الهيثمِ، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ:{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . قال: بقدرٍ.
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)} . يقولُ: معلوم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ مثلَه
(2)
.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . يقولُ: معلومٍ.
وكان بعضهم يقولُ: معنى ذلك: وأنبتنا في الجبال من كلِّ شيءٍ موزون، يعنى: من الذهب والفضة والنُّحاس والرصاصِ ونحو ذلك من الأشياء التي تُوزنُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَأَنْبَتَنَا
(1)
تفسير مجاهد ص 415، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 346 عن معمر به.
فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}. قال: الأشياء التي تُوزنُ
(1)
.
وأولَى القولين عندنا بالصوابِ القول الأوَّلُ؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} .
يقول تعالى ذكره: وجعلنا لكم
(2)
أيها الناسُ في الأرضِ معايشَ، وهي جمعُ معيشةٍ، {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} .
اختلف أهل التأويل في المعني بقوله
(3)
: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ؛ فقال بعضُهم: عَنَى به الدوابَّ والأنعامَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(4)
، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنا الحسن بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، جميعًا عن ورقاءَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} : الدواب والأنعام
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في ت 1: "فيها".
(3)
في ص، م، ت 2، ف:"في قوله".
(4)
في النسخ: "الحسين". وهو إسناد دائر.
(5)
تفسير مجاهد ص 416. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقال آخرون: عنى بذلك الوَحْشَ خاصةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصورٍ في هذه الآية:{وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} . قال: الوَحْشُ
(1)
.
فتأويل {وَمَن} في: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} . على هذا التأويل بمعنى
(2)
"ما"، وذلك قليل في كلام العرب.
وأولى ذلك بالصواب وأحسنُ أن يقال: عنى بقوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} . من العبيد والإماء والدوابِّ والأنعامِ. فمعنى ذلك: وجعلنا لكم فيها معايش والعبيد والإماء والدواب والأنعام. وإذا كان ذلك كذلك، حسن أن تُوضَعَ حينئذ مكان العبيد والإماءِ والدوابِّ
(3)
"مَنْ"؛ وذلك أن العرب تفعلُ ذلك إذا أرادت الخبر عن البهائمِ معها بنو آدمَ. وهذا التأويلُ على ما قلناه وصرفنا
(4)
إليه معنى الكلام، إذا كانت {وَمَن} في موضع نصبٍ، عطفًا به على {مَعَايِشَ} بمعنى: جعلنا لكم فيها معايشَ، وجعَلْنا لكم فيها
(5)
مَن لستم له برازقين.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"معني".
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"و".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"صرفناه".
(5)
سقط من: ص، ت 1، وبعده في ت 2:"معايش و".
وقد قيل: إِنَّ {وَمَن} في موضعِ خفضٍ عطفًا به على الكاف والميم في
(1)
قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ} . بمعنى: وجعلنا لكم فيها معايش ولمن
(2)
لستم له برازقين.
وأحْسَبُ أن منصورًا في قوله: هو الوحشُ. قصد هذا المعنى، وإياه أراد. وذلك وإن كان له وجهٌ في كلام العربِ، فبعيدٌ قليلٌ؛ لأنها لا تكادُ تُظاهِرُ على معنًى في حالِ الخفض، وربما جاء في شعرِ بعضهم في حال الضرورة، كما قال بعضُهم
(3)
:
هلَّا سأَلتَ بذى الجماجم عنهم
…
وأبي نُعَيم ذى اللِّواءِ المُحْرَقِ
(4)
فردَّ "أبا نُعَيْمٍ" على الهاء والميم في "عنهم". وقد بيَّنتُ قبحَ ذلك في كلامهم
(5)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} .
يقول تعالى ذكره: وما من شيءٍ مِن الأمطار إلا عندَنا خزائنُه، وما نُنَزِّلُه إلا بقدَرٍ لكل أرض، معلوم عندنا حده ومبلغه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زيادٍ، عن
(1)
في ص، ت 1:"على".
(2)
في م، ت 1، ف:"من".
(3)
معاني القرآن للفراء 2/ 86.
(4)
في م: "المخرق".
(5)
تقدم في 6/ 346.
رجلٍ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: ما مِن أرضٍ أمطرَ مِن أَرضٍ، ولكنَّ اللَّهَ يَقْدُرُه في الأرضِ. ثم قرَأ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن يزيدَ بن أبي زيادٍ، عن أبي جُحَيفةَ، عن عبد الله، قال: ما مِن عامٍ بأمطرَ من عامٍ، ولكنَّ اللَّهَ يَصْرِفُه عمن يشاءُ. ثم قرَأ
(1)
: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}
(2)
.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا إبراهيم بن مهدى المصيصيُّ، قال: ثنا عليُّ ابن مُسْهِرٍ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن أبي جُحَيفةَ، عن عبدِ اللهِ بن مسعود: ما مِن عامٍ بأمطرَ من عامٍ، ولكنَّ اللَّهَ يَقْسِمُه حيثُ يشاءُ
(3)
، عاما هاهنا، وعاما هاهنا. ثم قرأ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}
(4)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} . قال: المطرُ خاصةً (9).
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عتيبة في قوله:{وَمَا نُنَزَّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} . قال: ما مِن عام بأكثر مطرًا من عام ولا أقلَّ، ولكنه يُمطَرُ قومٌ ويُحْرَمُ آخرون، وربما كان في البحر. قال: وبلغنا أنه يَنْزِلُ مع المطرِ [مِن الملائكةِ]
(5)
أكثر من عددٍ ولد إبليسَ وولد
(1)
في م: "قال".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 447 عن يزيد بن أبي زياد به، وأخرجه البيهقي 3/ 363 من طريق آخر، عن ابن مسعود مختصرًا.
(3)
في م: "شاء".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى المصنف.
(5)
في ت 1: "ملائكة".
آدمَ، يُحْصُون كلَّ قطرةٍ حيثُ تَقَعُ وما تُنْبِتُ
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} .
اختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة القرأةِ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} .
وقرأه بعضُ قرَأةِ أهل الكوفةِ: (وأَرْسَلْنَا الرِّيحَ لَوَاقِحَ)
(2)
. فوحد الريحَ وهى موصوفةٌ بالجمعِ، أعنى بقولِه:{لَوَاقِحَ} . وينبغى أن يكون معنى ذلك أن الريحَ وإن كان لفظها واحدًا
(3)
فمعناها الجمع؛ لأنَّه يقال: جاءت الريحُ مِن كلِّ وجهٍ، وهبَّت من كلِّ مكانٍ. فقيل:{لَوَاقِحَ} . لذلك، فيكون معنى جمعهم نَعْتها وهى في اللفظ واحدةٌ
(4)
معنى قولهم: أرضٌ سباسبُ
(5)
، وأرضُ أغفالٌ
(6)
، وثوبٌ أخلاقٌ، كما قال الشاعر
(7)
:
جاء الشتاءُ وقميصى أخلاقْ
شراذِمٌ
(8)
يَضْحَكُ منه التَّواقُ
(9)
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 448 عن المصنف، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (495) من طريق هشيم به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
وهى قراءة حمزة، وقرأ الباقون بالجمع كالقراءة الأولى. ينظر حجة القراءات ص 382.
(3)
في ص، ف:"حد"، وفى ت 1، ت 2:"موحد".
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"و".
(5)
السباسبُ جمع سبسب، والسبسب: المفازة. اللسان (سبسب).
(6)
الأغفال: الأرض المجهولة التي ليس فيها أثر يعرف. اللسان (غ ف ل).
(7)
معاني القرآن للفراء 2/ 87، وتهذيب اللغة 7/ 30، 9/ 256، والأزهية ص 13، ونسبه أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات - كما في الخزانة 1/ 234 - إلى بعض الأعراب.
(8)
ثوب شراذم: قطع. اللسان (شرذم).
(9)
التواق، قيل: إنه اسم ابنه. اللسان (ت و ق).
وكذلك تَفْعَلُ العربُ في كلِّ شيءٍ اتسَع.
واختلَف أهلُ العربية في وجهِ وصف الرياح باللَّقَحِ، وإنما هي مُلْقِحةٌ لا لاقحةٌ، وذلك أنها تُلقِحُ السحاب والشجرَ، وإنما تُوصَفُ باللَّقَحِ الملقوحة لا الملقِحُ، كما يقالُ: ناقةٌ لاقحٌ. وكان بعضُ نحويِّى البصرة يقولُ: قيل: {الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . فجعلها على لاقحٍ، كأن الرياحَ لَقِحَت؛ لأن فيها خيرًا، فقد لقحت بخيرٍ. قال: وقال بعضُهم: الرياحُ تُلْقِحُ السحابَ. فهذا يدلُّ على ذلك المعنى؛ لأنها إذا أنشأته وفيها خيرٌ وصل ذلك إليه.
وكان بعضُ نحويِّى الكوفة يقولُ
(1)
: في ذلك معنيان؛ أحدهما، أن يَجْعَلَ الريحَ هي التي تَلْقَحُ بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح. فيقال: ريحٌ لاقحٌ. كما يقالُ: ناقة لاقحٌ. قال: ويَشْهَدُ على ذلك أنه وصف ريحَ العذابِ فقال: {عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]. فجعلها عقيمًا إذ
(2)
لم تَلْقَحْ. قال: والوجه الآخرُ، أن يكونَ وصَفَها باللَّقَحِ وإن كانت تُلْقِحُ، كما قيل: ليلٌ نائمٌ، والنوم فيه، وسرٌّ كاتمٌ. وكما قيل:
* المبروزُ والمختومُ
(3)
*
فجعله
(4)
مبروزًا، ولم يَقُلْ: مُبْرَزًا. بناه
(5)
على غيرِ فعلٍ
(6)
، أي أن ذلك من
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 87.
(2)
في النسخ: "إذا". والمثبت هو الصواب، وكذلك هو في معاني القرآن.
(3)
عجز بيت للبيد، وتمامه:
أو مُذْهَبٌ جَدَدٌ على ألواحـ
…
هنَّ الناطق المبروزُ والمختومُ.
شرح ديوان لبيد ص 119.
(4)
في النسخ: "فجعل"، والمثبت من معاني القرآن.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"بناء".
(6)
في م: "فعله".
صفاته، فجاز "مفعولٌ" لـ "مُفْعَلٍ"، كما جاز "فاعل" لـ "مفعول"، إذ
(1)
لم يُرِدِ
(2)
البناء على الفعل، كما قيل: ماء دافقٌ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن الرياح لواقع كما وصفها به جلَّ ثناؤه من صفتها، وإن كانت قد تُلْقِحُ
(3)
السحابَ والأشجارَ، فهى لاقحةٌ مُلْقِحةٌ، ولَقْحُها حملها الماءَ، وإلقاحُها السحابَ والشجر عملُها فيه، وذلك كما قال عبد الله بن مسعودٍ.
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن سكنٍ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ في قوله:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: يُرْسِلُ الله الرياح فتَحْمِلُ الماءَ، فتُجرى السحابَ، فَتَدِرُّ كما تَدِرُ اللِّقْحَةُ، ثم تُمْطِرُ
(4)
.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن قيس بن سكنٍ، عن عبدِ اللهِ:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: يَبْعَثُ اللهُ الريحَ فَتُلْقِحُ السحابَ، ثم تَمرِيه
(5)
، فتدِرُّ كما تَدِرُ اللِّقْحَةُ، ثم تُمْطِرُ.
حدَّثنا الحسنُ بن محمد، قال: ثنا أسباطُ بنُ محمدٍ، عن الأعمشِ، عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السَّكن، عن عبدِ اللهِ بن مسعود في قوله:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: يُرْسِلُ الرياح فتَحْمِلُ الماءَ مِن السماءِ، ثم
(1)
في النسخ: "إذا".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ترى".
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"و".
(4)
أخرجه الطبراني (9080)، والبيهقى 3/ 364 من طرق عن الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مكارم الأخلاق.
(5)
مرت الريح السحاب: إذا أنزلت منه المطر. اللسان (م ر ى).
تَمرِى السحابَ، فتدِرُّ كما تَدِرُ اللِّقْحَةُ.
فقد بينَّ عبد الله بقوله: يُرسل الرياح فتَحْمِلُ الماء. أنها هي اللاقحةُ بحَمْلِها الماءَ، وإن كانت مُلقِحَةً بإلقاحها السحابَ والشجرَ.
وأما جماعةٌ أُخَرُ مِن أهل التأويل، فإنهم وجَّهوا وصفَ الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقِحُ، إلى أنه بمعنى مُلْقِحةٍ، وأن اللواقحَ وُضِعَت موضعَ مَلاقِحَ، كما قال نَهْشَلُ بنُ حَرِّيٍّ
(1)
:
ليُبْكَ يزيدُ بائسٌ لضراعةٍ
…
وأَشْعثُ ممن طوَّحَتْه الطَّوائحُ
(2)
يريدُ المَطاوِحَ. وكما قال النابغةُ
(3)
:
كِلِيني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ
…
وليلٍ أُقاسيه بطئِ الكواكبِ
بمعنى: مُنْصِب.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: تُلْقِحُ السحابَ
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن إبراهيمَ
(1)
مجاز القرآن 1/ 348، ونسبه في الكتاب 1/ 288 إلى الحارث بن نهيك، وصواب نسبته كما هنا وينظر الخزانة 1/ 303 - 313.
(2)
طوحته الطوائح: قذفته القواذف. اللسان (ط وح).
(3)
تقدم البيت في 13/ 595.
(4)
تفسير الثورى ص 159 ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة (855).
مثلَه.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن أبي رجاء، عن الحسن قولَه {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}. قال: لواقحُ للشجرِ. [قلت: أو]
(1)
للسحابِ. قال: وللسحابِ، تَمريه حتى يُمْطِر
(2)
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ سليمانَ، عن أبي سنانٍ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن عُبَيدِ بن عميرٍ، قال: يَبْعَثُ اللهُ المبشِّرةَ فتَقُمُّ الأَرضَ قَمًّا، ثم يَبْعَثُ اللهُ المثيرة فتُثير السحابَ، ثم يَبْعَثُ اللهُ المؤلِّفةَ فَتُؤَلِّفُ السحابَ، ثم يَبْعَثُ اللهُ اللواقحَ فتُلْقِحُ الشجرَ. ثم تلا عبيد:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . يقولُ: لواقحُ للسحابِ، وإن من الريحِ عذابًا، وإن منها رحمةً
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لَوَاقِحَ} . قال: تُلقِحُ الماءَ في السحابِ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن ابن
(1)
في ت 2: "قلنا و".
(2)
أخرجه أبو الشيخ (856) من طريق ابن علية به نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96 إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (719) من طريق إسحاق بن سليمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (832) من طريق سعيد به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 346.
عباسٍ: {لَوَاقِحَ} . قال: تُلْقِحُ الشجرَ وتَمرِى السحابَ
(1)
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاك يقول في قولِه: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} : الرياحُ يَبْعَثُها الله على السحابِ فتُلْقِحُه، فيَمْتَلئُ ماءً
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، قال: ثنا عُبَيسُ
(3)
بنُ ميمونٍ، قال: ثنا أبو المهزَّم، عن أبي هريرة، قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الريحُ الجَنوبُ من الجنةِ، وهى الريحُ اللواقحُ، وهى التي ذكر اللهُ في كتابِه، وفيها مَنافِعُ للنَّاس"
(4)
.
حدَّثني أبو الجُماهر الحمصيُّ أو الحضرميُّ
(5)
محمد بن عبد الرحمنِ، قال: ثنا عبدُ العزيز بنُ موسى، قال: ثنا عُبَيسُ (3) بن ميمونٍ أبو عبيدةَ، عن أبي المهزَّمِ، عن أبي هريرةَ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فذكر مثله سواء.
وقوله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} . يقول تعالى ذكره: فأنزلنا من السماء مطرًا فأسقَيناكم ذلك المطرَ لشُرْب أرضِكم ومواشِيكم. ولو كان معناه: أنزلناه لتشربوه. لقيل: فسقيناكموه. وذلك أن العرب تقول إذا سقَت الرجلَ ماءً
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96 إلى المصنف وأبي عبيد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عيسى" ينظر تهذيب الكمال 19/ 276.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 449 عن المصنف، وأخرجه أبو الشيخ (804، 805) من طرق عن عُبَيس بن ميمون به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 6 إلى ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس.
(5)
في ت 1، ت 2:"الحصرمي"، وفى ف:"الحرمضى".
يشرَبُه
(1)
، أو لبنًا أو غيرَه: سقَيتُه. بغير ألفٍ، إذا كان لسَقيِه، وإذا جعَلوا
(2)
له ماءً لشُرْبِ أرضه أو ماشيتِه، قالوا: أسْقَيْتُه، وأسْقَيْتُ أرضه وماشيتَه. وكذلك
(3)
إذا استَسْقَت له، قالوا: أَسْقَيْتُه، واسْتَسْقَيْتُه
(4)
. كما قال ذو الرُّمَّةِ
(5)
:
وقفتُ على رسمٍ لميَّةَ ناقتِي
…
فما زِلْتُ أَبكى عنده وأُخاطبه
وأُسقِيه حتى كاد مما أبُثُّه
…
تُكَلِّمُنى أحجارُه ومَلاعبُه
وكذلك إذا وهَبَت لرجل إهابًا
(6)
ليَجْعَلَه سِقاءً، قالت: أَسْقَيتُه إياه.
وقولُه: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} ، يقولُ: ولستم بخازني الماء الذي أنزَلنا من السماء فأسقَيناكموه، فتَمْنَعوه مَن أُسْقِيه؛ لأن ذلك بيديَّ وإليَّ، أُسقيه مَن أَشَاءُ، وأَمْنَعُه مَن أَشاء.
كما حدَّثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: قال سفيان: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} . قال: بمانعين
(7)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)}
يقول تعالى ذكرُه: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي} من كان ميِّتًا إذا أردنا، {وَنُمِيتُ} من كان حيًّا إذا شئنا، {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}. يقولُ: ونحن نرِثُ الأَرضَ ومَن عليها،
(1)
في م: "شربه".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"جعلوه".
(3)
في ت 1: "وكذا".
(4)
في ص ت 1، ت 2، ف:"فاستسقت له".
(5)
ديوانه 2/ 821.
(6)
الإهابُ: الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يُدبغ. اللسان (أهـ ب).
(7)
تفسير الثورى ص 159 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
بأن نُميت جميعهم، فلا يبقى حيٍّ سوانا، إذا جاء ذلك الأجلُ.
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ولقد علمنا من مضى من الأممِ فتقدم هلاكهم قد خُلق وهو حيٌّ، ومن لم يُخْلَقُ بعد ممن سيُخْلَقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال: المستقدمون من قد خُلق ومن خلا من الأمم، والمستأخرون
(1)
من لم يُخلق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة في قوله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال: هم خَلْقُ الله كلهم، قد علم مَن خَلَق منهم إلى اليوم، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن عكرمة، قال: إن الله خلق الخلق ففرغ منهم، فالمستقدمون من خرج من الخلقِ، والمستأخرون مَن بَقى في أصلابِ الرجالِ لم يَخْرُجُ
(2)
.
حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبي
(3)
أبو معشر، قال: سمعتُ عونَ بن عبدِ اللَّهِ بن عتبةَ بن مسعودٍ يُذاكر محمد بن كعب في قولِ اللهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . فقال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عتبة بن مسعود:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المستأخرين".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 348.
(3)
ليست في: م، ت 1، ت 2، ف.
خيرُ صفوفِ الرجال المقدَّمُ، وشرُّ صفوفِ الرجالِ المؤخَّرُ، وخيرُ صفوف النساءِ المؤخَّرُ، وشر صفوفِ النساءِ المقدّمُ. فقال محمدُ بنُ كعب: ليس هكذا، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ}: الميت والمقتول، و {الْمُسْتَأْخِرِينَ}: مَن يَلْحَقُ بهِم مِن بعدُ، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. فقال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ: وفقك اللَّهُ، وجزاك خيرًا
(1)
.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا [المعتمرُ، عن أبيه]
(2)
، قال: قال قتادة: {الْمُسْتَقْدِمِينَ} : مَن مضى، {الْمُسْتَأْخِرِينَ}: من بقى في أصلاب الرجال.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا سعيد بن مسروق، عن عكرمة، وخُصَيف، عن مجاهد في قوله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قالا: مَن مات ومَن بقى
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} . قال: كان ابن عباس يقولُ: آدم صلى الله عليه، ومَن مضَى
(4)
من ذريته، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}: مَن بَقى في أصلاب
(5)
الرجال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} . قال: المستقدمون آدم ومَن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 450 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 97 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1: "محمد بن ثور عن معمر".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(4)
في م: "منى"، وفى ف:"معنا".
(5)
في ص: "صلبه".
بعده حتى نزلت هذه الآية، والمستأخرون، قال: كلُّ مَن كان من ذريته
(1)
.
قال أبو جعفر: أظنُّه أنا قال
(2)
: لم يُخلَق، وما هو مخلوقٌ.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، قال: المستقدمون ما خرج من أصلاب الرجال، والمستأخرون ما لم يَخْرُجُ، ثم قرأ:{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
(3)
.
وقال آخرون: عنى بالمستقدمين الذين قد هلكوا، والمستأخرين الأحياء الذين لم يهلكوا.
ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} : يعنى بالمُسْتَقدِمين من مات، ويَعْنى بالمُسْتَأخرين مَن هو حيٌّ لم يمت.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقولُ في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} : يعنى الأموات منكم، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}: بقيَّتهم، وهم الأحياء. يقولُ: علمنا من مات ومَن بقي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال: المستقدمون منكم الذين
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 348.
(2)
بعده في م: "ما".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 97 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
مضوا في أوّل الأمم، والمستأخرون الباقون.
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلقِ، والمستأخرين في آخرهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} . قال: أول الخلقِ وآخره.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدى، عن داودَ، عن الشعبي في قولِ اللهِ:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال
(1)
: ما اسْتَقْدَم في أول الخلقِ، وما اسْتَأْخَر في آخرِ الخلقِ.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا على بن عاصم، عن داود بن أبى هند، عن عامر في قوله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} . قال: في العصر
(2)
، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال وأرحام النساء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا
(1)
ليست في: ص، م، ت 1، ف.
(2)
العصر: الدهر. اللسان (ع ص ر).
شبابةُ، قال: أخبرنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} . قال: القرونَ الأول، و {الْمُسْتَأْخِرِينَ}: أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا محمدُ بنُ عبيد، قال: ثنى عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال: المستقدمون ما مضى من الأمم، والمستأخرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد بنحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الملك، عن مجاهد بنحوه، ولم يَذْكُر قيسًا
(2)
.
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير [والمستأخرين عنه]
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال: كان الحسن يقولُ: المستقدمون في
(1)
تفسير مجاهد ص 416، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 348.
(3)
في ت 2: "والمتأخرين".
طاعةِ اللهِ، والمستأخرون في معصية الله
(1)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبّادِ بن راشد، عن الحسن، قال:{الْمُسْتَقْدِمِينَ}
(2)
في الخير، و {الْمُسْتَأْخِرِينَ}. يقول: المبطئين عنه
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها، بسبب النساء.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل، أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناسٌ يَسْتَأْخِرون في الصفوفِ مِن أجل النساء. قال: فأنزل الله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}
(4)
.
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا جعفرُ بنُ سليمان، قال: أخبرني عمرُو بنُ مالك، قال: سمعت أبا الجَوْزاءِ يقولُ في قول الله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} . قال: المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين
(5)
.
حدثني محمد بن موسى الحَرَشيُّ
(6)
، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عمرُو بنُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 97 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المستقدمون".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 97 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 450 عن المصنف.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 348.
(6)
في م: "الحَرَسيُّ". وينظر تهذيب الكمال 26/ 528.
مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: كانت تُصلى خلف رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -: امرأة - قال ابن عباس: لا والله ما إن رأيتُ مثلَها قَطُّ - فكان بعض المسلمين إذا صَلَّوْا اسْتَقْدَمُوا، وبعضُ يَسْتَأْخِرون، فإذا سجدوا نظَروا إليها من تحتِ أيديهم، فأنزل الله:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} .
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نوحُ بنُ قيس، وحدثنا أبو كريب، قال ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا نوح بن قيسٍ، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباسٍ، قال: كانت تُصَلِّى خلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعضُ الناسِ يَسْتَقْدِمُ في الصف الأول لئلا يراها، ويَسْتَأْخِرُ بعضُهم حتى يكون في الصف المؤخَّرِ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصف، فأنزل الله في شأنها:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}
(1)
.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندى في ذلك بالصحة قولُ مَن قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بنى آدمَ فتقدّم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيٌّ، ومن هو حادث منكم ممن لم يَحْدُثُ بعد. لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله:{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} . وما بعده، وهو قوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} . على أن ذلك كذلك؛ إذ كان بين
(1)
أخرجه الطيالسي (2835)، وأحمد (2783)، والترمذى (3122)، والنسائي (869)، وفي الكبرى (11273)، وابن ماجه (1046)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 4/ 450 - ، وابن خزيمة (1696، 1697)، وابن حبان (401)، والطبراني (12796)، والحاكم 2/ 353، والبيهقى 3/ 98 من طرق عن نوح بن قيس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 96، 97 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه. وقال ابن كثير: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. إلى أن قال: فالظاهر أنه من كلام أبى الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر.
هذين الخبرين، ولم يَجْرِ قبل ذلك من الكلام ما يَدلُّ على خلافه، ولا جاء بعده
(1)
، وجائزٌ أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء، والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكونُ اللَّهُ عز وجل عمَّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جل ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلقِ وأَحْصَيْناهم وما كانوا يَعْمَلُون، ومَن هو حى منكم، ومَن هو حادث بعدكم أيها الناسُ، وأعمال جميعكم؛ خيرها وشرَّها، وأحْصَيْنا جميعَ ذلك، ونحن نَحْشُرُ
(2)
جميعهم، فنجازى كلًّا بأعماله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرا فشرًا. فيكون ذلك تهديدًا ووعيدًا للمستأخرين في الصفوف لشأنِ النساء، ولكلِّ مَن تعدَّى حد الله وعمل بغير ما أذن [له به]
(3)
، ووعدا لمن تقدَّم في الصفوف لسبب النساءِ، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها.
وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} . يعنى بذلك جل ثناؤه: وإن ربك يا محمد هو يَجْمَعُ جميعَ الأَوَّلين والآخرين عندَه يومَ القيامة، أهل الطاعة منهم والمعصية، وكلَّ أحد من خلقه، المستقدمين منهم والمستأخرين.
وبنحو ما
(4)
قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} . قال: أي: الأول والآخر
(5)
.
(1)
في م: "بعد".
(2)
في ت 2: "نحشرهم".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
في ف: "الذي".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد القرشي، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة في قوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} . قال: هذا من ههنا، وهذا من ههنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} . قال: وكلهم ميت، ثم يحشُرُهم ربُّهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا على بن عاصم، عن داود بن أبى هند، عن عامرٍ:{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} . قال: يَجْمَعُهم اللَّهُ يومَ القيامةِ جميعًا
(1)
.
قال الحسنُ: قال على: قال داود: و
(2)
سمعت عامرًا [ويُفَسِّرُه.
وقوله]
(3)
: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} . يقولُ: إن ربك حكيم في تدبيره خلقه، في
(4)
إحيائهم إذا أحياهم، وفى إماتتهم إذا أماتهم، عليم بعددهم وأعمالهم، وبالحى منهم والميت، والمستقدم منهم والمستأخر.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة، قال: كلُّ أولئك قد علمهم الله. يَعْنى المستقدمين والمستأخرين
(5)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "يفسر قوله".
(4)
في ت 1: "من".
(5)
تقدم تخريجه في ص 50.
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا آدم - وهو الإنسانُ - مِن صَلْصَالٍ.
واختلف أهل التأويل في معنى الصلصال؛ فقال بعضُهم: هو الطين اليابس لم تُصِبْه نارٌ، فإذا نقَرتَه صَلَّ، فسمعت له صلصلة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خُلق آدم من صلصال و
(1)
من حمأٍ ومِن طينٍ لازب، وأما اللازب فالجيد، وأما الحَمةُ فالحمأة، وأما الصَّلصال فالتراب المدقَّق
(2)
، وإنما سُمِّيَ إنسانًا؛ لأنه عُهد إليه فنسي
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} . قال: والصلصال التراب اليابس الذي يُسْمَعُ له صَلْصَلةٌ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: الصلصال الطين اليابس، يُسْمَعُ له صَلْصَلَةٌ
(4)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن
(5)
، عن الحسن بن صالح،
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
في م: "المرقق".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 92 سندًا ومتنًا، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1016) من طريق يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى ابن المنذر.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 348، 349، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
بعده في ص، ت 2:"قال".
عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس:{مِنْ صَلْصَالٍ} . قال: الصلصال الماءُ يَقَعُ على الأرض الطيبة، ثم يَحْسُرُ عنها، فتشَقَّقُ، ثم تَصِيرُ مثل الخزف الرقاقِ
(1)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خُلق الإنسانُ مِن ثلاثة؛ مِن طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون، والطين اللازبُ: اللازقُ الجيد، والصلصال المَدْقُوقُ
(2)
الذي يُصْنَعُ منه الفَخَّارُ، والمسنون: الطين فيه الحمأة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} . قال: هو التراب اليابس الذي يُبَل بعد يُبْسِه
(3)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاء، عن مسلم، عن مجاهد، قال: الصلصالُ الذي يُصَلْصِلُ مثل الحَزَفِ مِن الطين الطيب
(4)
.
حدثتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيد، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ: الصلصال طينٌ صُلْب يخالطه الكَثِيبُ.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{مِنْ صَلْصَالٍ} . قال: التراب اليابس.
وقال آخرون: الصلصال المنتنُ. وكأنهم وجَّهوا ذلك إلى أنه من قولهم: صَلَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
في م: "المرقق".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 416 بنحوه.
اللحمُ وأَصَلَّ. إذا أنتن، يقال في
(1)
ذلك باللغتين كليهما
(2)
؛ بـ "فَعَلَ" و "أَفْعَلَ".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{مِنْ صَلْصَالٍ} : الصلصال المنتنُ.
والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكونَ الصَّلصال في هذا الموضع الذي له
(3)
صوتٌ من الصَّلصَلَةِ، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر، فقال:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]. فشبهه [تعالى ذكره]
(4)
بأنه كان كالفخَّارِ في يُبسه، ولو كان معناه في ذلك المُنْتِنَ، لم يُشَبِّهه بالفخّارِ؛ لأن الفخّار ليس بمنتنٍ فيُشَبَّهَ به في النَّتْنِ
(5)
غيرُه.
وأما قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . فإن الحمأ جمعُ حَمْأَة، وهو الطين المتغيرُ إلى السواد.
وقوله: {مَسْنُونٍ} . يعنى المتغير.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: {مَسْنُونٍ} ؛ فكان بعضُ
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "كلتيهما".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"هو".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"فقال ذكر".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المنتن".
نحويي البصريين يقولُ: عُنى به حَمَأٌ [مصوَّرٌ تامٌّ]
(1)
. وذكر عن العرب أنهم قالوا: سُنَّ، على مثالِ
(2)
سُنَّةِ الوجهِ، أي: صورته. قال: وكأن سنةَ الشيء ذلك، أي: مثاله الذي وُضِع عليه. قال: وليس من الآسن المتغير؛ لأنه من "سنن" مضاعفٌ.
وقال آخر
(3)
منهم: هو الحَمأُ المصبوب. قال: [والمسنونُ المصبوب]
(4)
. قال
(5)
: وهو من قولهم: سنَنْتُ الماء على الوجه وغيره. إذا صببته.
وكان بعضُ أهل الكوفة يقولُ
(6)
: هو المتغيرُ. قال: كأَنه أُخِذ من: سنَنْتُ الحجر على الحجر. وذلك أن يُحَكَّ أحدهما بالآخر، يقال منه
(7)
: سنَنتُه أسنُّه سنًّا، فهو مسنونٌ. قال: ويُقالُ للذى يَخْرُجُ مِن بينهما: سَنينٌ. و
(8)
يكون ذلك مُنْتِنًا. وقال: منه سُمّى المسَنَّ؛ لأن الحديدَ يُسَنُّ عليه.
وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك نحو ما قلنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا عبيد
(9)
الله بن يوسفَ الجُبَيْرِيُّ، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"منصوب قائم".
(2)
بعده في ص، ف:"مثل".
(3)
في ت 2: "آخرون".
(4)
في م: "المصبوب المسنون"، وفى ت 2:"المنصوب المسنون".
(5)
سقط من: م.
(6)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 88.
(7)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"قد".
(8)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"لا".
(9)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عبد". ينظر تهذيب الكمال 19/ 179.
مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: الحمأُ النتنة
(1)
.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودى، قال: ثنا أبى، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: الذي قد أنتَن.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارة، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاك، عن ابن عباس:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: مُنْتِن
(2)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: هو التراب المبتل المنتِنُ، فَجُعِل صَلصالًا كالفَخَّارِ.
حدثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى
(3)
، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: مُنْتِن
(4)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} :
(1)
في م: "المنتنة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 2، ف:"الحسن".
(4)
تفسير مجاهد ص 416.
والحَمأُ المسنونُ الذي قد تغيَّر وأنتن.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر [، عن قتادة]
(1)
(2)
. قال: قد أسِنَ
(3)
. قال: منتنة
(4)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن جويبر، عن الضحاكِ في قوله:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . قال: من طين لازبٍ، وهو اللازقُ من الكثيب، وهو الرمل.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} : هو
(5)
الحَمأُ المنتن.
وقال آخرون منهم في ذلك: هو الطينُ الرَّطْبُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:{مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . يقولُ: مِن طين رَطْبٍ
(6)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} .
يقول تعالى ذكره: {وَالْجَانَّ} . وقد بينا فيما مضى معنى الجانّ
(7)
، ولم قيل
(1)
سقط من النسخ، والمثبت مما تقدم في ص 27، فهذا تمام الأثر المتقدم، وهو أيضًا إسناد دائر.
(2)
بعده في ت 2: "والحمأ المسنون".
(3)
في م، ت 2:"أنتن".
(4)
تقدم تخريجه في ص 57.
(5)
في م: "قال".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7)
ينظر ما تقدم في 1/ 535 وما بعدها.
له: جانٌّ. وعنى بالجان ههنا. إبليس أبا الجنّ، يقولُ تعالى ذكره: وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نارِ السَّموم.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} : وهو إبليس خُلق قبل آدمَ، وإنما خُلق آدم آخرَ الخَلقِ، فحسَده عدو اللَّهِ إبليس على ما أعطاه الله من الكرامة، فقال: أنا نارى، وهذا طيني. فكانت السجدة لآدم والطاعة لله تعالى ذكره، فقال:{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}
(1)
[الحجر: 34، ص: 77].
واختلف أهل التأويل في معنى: {نَارِ السَّمُومِ} ؛ فقال بعضُهم: هي السَّموم الحارة التي تَقْتُلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} . قال: السموم الحارة
(2)
التي تَقْتُلُ
(3)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شَرِيكَ، عن أبي إسحاق، عن
(4)
التميمي، عن ابن عباس:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} . قال: هي السموم التي تَقْتُلُ، {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]. قال: هي السَّموم التي تَقْتُلُ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"الحار".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 98 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: م.
وقال آخرون: يعنى بذلك: من لهب نارٍ
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مَغْراء، عن جويبرٍ، عن الضحاك في قوله:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} . قال: من لَهَبٍ من نار السموم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن
(2)
سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حيِّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن. خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: وخُلقت الجن الذين ذكروا في القرآنِ مِن مارج من نار
(3)
.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: دخَلْتُ على عمرو بن الأصمِّ أَعُودُه، فقال: ألا أُحَدِّثُك حديثا سمعته من عبد الله؟ سمعتُ عبد الله يقولُ: هذه السَّموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خرج منها الجان. قال: وتلا: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}
(4)
.
وكان بعضُ أهل العربية يقولُ: السَّمومُ بالليل والنهار. وقال بعضُهم: الحرورُ
(1)
في م: "النار".
(2)
في النسخ: "عن". وهو إسناد دائر.
(3)
تقدم تخريجه بتمامه في 1/ 485.
(4)
أخرجه الطيالسي - كما في تفسير ابن كثير 4/ 451 - من طريق شعبة به، وأخرجه الحاكم 2/ 474 من طريق أبي إسحاق به، وأخرجه الطبراني (9057) من طريق سفيان، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، وأخرجه معمر في جامعه (20357) عن أبي إسحاق، عن عمرو بن عاصم، عن ابن مسعود.
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 98 إلى الفريابي وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب.
بالنهار، والسموم بالليل، يقال: سَمَّ يومنا يَسُمُّ سَمومًا.
حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن سهل بن عَسْكَرٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريم، قال: ثنى عبد الصمد بنُ مَعْقِلٍ، قال: سمعتُ وهَبَ بنَ مُنَبِّهٍ، وسُئِل عن الجنِّ ما هم، وهل يأكلون أو يشربون أو يموتون أو يتناكحون؟ قال: هم أجناسٌ، فأما خالص الجنِّ، فهم ريحٌ لا يأكلون ولا يَشْرَبون ولا يموتون ولا يَتَوالدون، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويَتَناكَحون ويموتون، وهى هذه التي منها السَّعالى
(1)
والغُولُ
(2)
وأشباه ذلك
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمدُ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} . يقولُ: فإذا صوّرته فعدَّلتُ صورته، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} . فصار بشرًا حيًّا، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} سجود تحية وتكرمة، لا سجود عبادة.
وقد حدثني جعفر بن مكرم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شَبيبُ بنُ بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرًا مِن طين، فإذا أنا خلَقتُه فاسجدوا له. فقالوا: لا نَفْعَلُ. فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم،
(1)
السعالى، جمع سعلاة: وهم سحرة الجن. النهاية 2/ 369.
(2)
الغول: جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولا، أي: تتلون تلونا في صور شتى. النهاية 3/ 396.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1095) من طريق إسماعيل به.
وخلق ملائكةً أُخرَى، فقال: إني خالق بشرًا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له. فأبوا، قال: فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم. ثم خلق ملائكة أُخرى، فقال: إني خالق بشرًا مِن طين، فإذا أنا خلَقتُه فاسْجُدوا له. فأبوا. قال
(1)
: فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكةٌ، فقال: إني خالق بشرًا مِن طين، فإذا أنا خلَقتُه فاسْجُدوا له. فأبوا. قال
(1)
: فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة، فقال: إني خالق بشرًا من طين، فإذا أنا خلَقتُه فاسْجُدوا له. فقالوا: سمعنا وأطعنا. إلا إبليس كان من الكافرين الأولين
(2)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)} .
يقول تعالى ذكره: فلما خلق الله ذلك البشر، ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه، سجد
(3)
الملائكةُ كلُّهم جميعًا
(4)
، إلا إبليس، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودِهم لآدم حين سجدوا له
(1)
، فلم يَسْجُد له معهم تكبرا وحسَدًا وبغيًّا.
فقال الله تعالى ذكره: {يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} . يقولُ: ما منعك مِن أن تَكونَ مع الساجدين. فـ "أن" في قول بعض نحويى الكوفة خَفْضٌ، وفى قول بعض أهل البصرةِ نَصْبٌ بفَقْدِ الخافض.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1039) من طريق أبي عاصم به، وينظر ما تقدم في 1/ 541.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وسجد".
(4)
بعده في ت 1، ت 2، ف:"أجمعون".
الدِّينِ (35)}.
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأٍ مسنون، وهو من طينٍ وأنا من نارٍ، والنارُ تأكلُ الطين.
وقوله: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} . يقولُ: قال
(1)
الله تعالى ذكره لإبليس: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} .
والرجيم المرجوم، صُرِف مِن "مفعولٍ" إلى "فعيلٍ"، وهو المشتوم. كذلك
قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر بعض
(1)
من قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله
(2)
: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} : والرجيم الملعون
(3)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله:{فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} . قال: ملعون، والرجم في القرآنِ الشَّتْمُ.
وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} . يقولُ: وإِنَّ عَضَبَ اللَّهِ عليك بإخراجه إياك من السماواتِ وطَرْدِك عنها إلى يوم المجازاة، وذلك يوم القيامة.
وقد بينا معنى اللعنة في غير موضع بما أغنى عن إعادته ههنا
(4)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
ليست في: ص، م، ت 1، ف.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 170، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 95 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وعزاه أيضًا في 5/ 321 إلى المصنف، وسيأتي في 20/ 147.
(4)
تقدم في 2/ 231، 232.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} .
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: ربِّ فإذ أخرجتنى مِن السماواتِ ولعَنتنى، فأَخِّرْنى إلى يومِ تَبْعَثُ خلقَك مِن قبورهم، فتَحْشُرُهم لموقف القيامة.
قال الله له: فإنك ممن أُخر هلاكه إلى يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع خلقى، وذلك حين لا يبقى على الأرضِ مِن بنى آدمَ دَيَّارٌ
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} .
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} ؛ باغوائِكَ، {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}. وكأن قوله:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي} . خرج مخرَجَ القَسَمِ، كما يقال: بالله، أو بعزة الله، لأُغوِيَنَّهم.
وعنى بقوله: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} : لأُحَسِّنن لهم معاصيك، ولأُحبِّبنَّها إليهم في الأرضِ، {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. يقولُ: ولأَضِلَّنَّهم عن سبيل الرشادِ.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . يقولُ: إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لى عليه ولا طاقة لى به.
وقد قُرِئَ: (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخلِصِينَ)
(2)
. فمَن قرأ ذلك كذلك، فإنه يَعْنى به: إلا مَن أخلَص طاعتك، فإنه لا سبيل لى عليه.
(1)
ديار: أحد، ولا يستعمل إلا في النفي. اللسان (دور).
(2)
هي قراءة ابن كثير وأبى عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 348.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} : يعنى المؤمنين
(1)
.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا هشام، قال: ثنا عمرو، عن سعيد، عن قتادة:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . قال قتادة: هذه ثنيَّةُ
(2)
الله تعالى ذكره (1).
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} .
اختلفت القرأة في قراءة قوله: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} ؛ فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة والكوفة والبصرة: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . بمعنى: هذا طريق إلى مستقيم.
فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إليَّ، فأُجازى كُلًّا بأعمالهم. كما قال الله تعالى ذكره:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]. وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويَتَهدَّدُه: طريقك عليَّ، وأنا على طريقك. فكذلك قوله:{هَذَا صِرَاطٌ} . معناه: هذا طريقٌ عليَّ، وهذا طريقٌ إليَّ. وكذلك تأوَّل مَن قرأ ذلك كذلك.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف.
(2)
بعده في ت 1: "من".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابه، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد قوله:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . قال: الحَقُّ يَرْجِعُ إلى الله، وعليه طريقه، لا يُعَرِّجُ على شيءٍ
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه.
حدثنا أحمد بن يوسفَ، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ شُجاعٍ، عن خصيفٍ، عن زياد بن أبى مريم وعبدِ اللهِ بن كثير أنهما قرأها:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . وقالا: عليَّ هي "إليَّ" وبمنزلتها
(2)
.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، وسعيد، عن قتادة، عن الحسنِ:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . يقولُ: إليَّ مستقيمٌ
(3)
.
وقرأ ذلك قيس بن عُبَادٍ وابن سيرين وقتادة فيما ذُكِر عنهم: (هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) برفع "عليٌّ"، على أنه نعت للصراط، بمعنى: رفيعٌ.
(1)
تفسير مجاهد ص 416، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف وأبي عبيد وابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابن أبي حماد، قال: ثني جعفر البصرى، عن ابن سيرين أنه كان يَقْرَأُ:(هذا صراط عليٌّ مستقيمٌ) يعني: رفيعٌ
(1)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:(هذا صِراطٌ عليٌّ مستقيمٌ). أي: رفيع مُستقيم. قال بشرٌ: قال يزيد: قال سعيد: هكذا نقرَؤُها نحن وقتادة
(2)
.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب، عن هارون، عن أبي العوَّامِ، عن قتادة، عن قيس بن عُبَادٍ:(هذا صِراطٌ عليٌّ مستقيمٌ). يقولُ: رفيعٌ
(3)
.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندنا قراءةُ مَن قرأَ: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} . على التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن البصرى ومَن وافقهما عليه؛ لإجماع الحجةِ من القرأة عليها، وشذوذ ما خالفها.
وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . يقول تعالى ذكره: إن عبادى ليس لك عليهم حجةٌ، إلا مَن اتَّبَعك على ما دعوته إليه من الضلالة، ممن غوى وهلك.
حدثني المثنى، قال: ثنا سُوَيدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن مَوْهَبٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ قُسَيط، قال: كانت الأنبياء لهم مساجد خارجةٌ مِن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف وأبي عبيد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف.
قراهم
(1)
، فإذا أراد النبيُّ أن يَسْتَنْبِئ رَبَّه عن شيءٍ، خرج إلى مسجده فصلَّى ما كتب الله له، ثم سأل ما بداله، [فبينما نبيٌّ]
(2)
في مسجدِه، إذ جاء عدو الله حتى جلس
(3)
بينه وبين القبلة، فقال النبي: أعوذُ باللهِ مِنَ الشيطان الرجيم. فقال عدو الله أرأيتَ الذي تَعَوَّذُ منه فهو هو. فقال النبي
(4)
: أعوذُ باللهِ من الشيطان الرجيم. فردَّد ذلك ثلاثَ مراتٍ، فقال عدو الله: أخبرني بأى شيءٍ تنجو منى. فقال النبي
(5)
: بل
(6)
أخبِرْنى بأَيِّ شيءٍ تَغْلِبُ ابن آدمَ. مرتين، فأَخَذ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه، فقال النبي
(4)
: إن الله تعالى ذكره يقولُ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . قال عدو الله: قد سمِعتُ هذا قبل أن تُولَدَ. قال النبيُّ
(4)
: ويقولُ الله تعالى ذكره: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. وإني والله ما أحْسَنتُ بك قط إلا اسْتَعَدتُ بالله منك.
فقال عدو الله: صدقت، بهذا تَنْجُو منى. فقال النبي
(4)
: فأخبرني بأي شيءٍ تَغْلِبُ ابنَ آدَمَ؟ قال: آخُذُه عند الغضَبِ وعند
(7)
الهوَى
(8)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} .
يقول تعالى ذكره لإبليس: وإن جهنم لموعد من تبعك أجمعين،
{لَهَا سَبْعَةُ
(1)
في ص، ف:"قرارهم".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فبينا هو".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"حاس".
(4)
بعده في النسخ: "صلى الله عليه وسلم".
(5)
سقط من: ص، وبعده في م، ت 1، ت 2:"صلى الله عليه وسلم"، وفى ف:"رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"على".
(8)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 454 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى المصنف.
أَبْوَابٍ} يقولُ: لجهنم سبعة أطباقٍ، لكلِّ طبقٍ منهم - يَعْنى مِن تُبَّاعِ
(1)
إبليس - {جُزْءٌ} . يعنى: قسمًا ونصيبًا مقسومًا.
وذُكِر أن أبواب جهنم طبقاتٌ
(2)
بعضُها فوق بعضٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ أبا هارونَ الغَنَويَّ، قال: سمعتُ حِطَّانَ، قال: سمعتُ عليًّا وهو يَخْطُبُ، قال: إن أبواب جهنم هكذا. ووضع شُعبةُ إحدى يديه على الأُخرى.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي هارونَ الغَنَويِّ، عن حطان بن عبد الله، قال: قال عليٌّ: تَدْرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم، كنحو هذه الأبواب. فقال: لا، ولكنها هكذا. فوصف أبو هارونَ أطباقًا بعضُها فوق بعضٍ، وفعل ذلك أبو بشرٍ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بن محمدٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم، عن أبي هارونَ الغَنَويِّ، عن حِطَّانَ بن عبدِ اللَّهِ، عن عليٍّ، قال: هل تدرون كيف أبوابُ النارِ؟ قالوا: كنحو هذه الأبواب. قال: لا، ولكن هكذا. ووصف بعضها فوق بعض
(3)
.
(1)
في م: "أتباع".
(2)
في ت 1: "طباق".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 154 عن ابن علية به، وأخرجه ابن المبارك في الزهد ص 85 (294 - زوائد نعيم)، وأحمد في الزهد ص 131، والبيهقى في البعث والمنشور (507) من طريق أبي هارون الغنوى به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في التخويف من النار لابن رجب ص 83 - من طريق حطان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 99 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا هارونُ بن إسحاق، قال: ثنا مصعبُ بنُ المقدام، قال: أخبرنا إسرائيلُ، قال: ثنا أبو إسحاق، عن هُبَيرةَ، عن عليٍّ، قال: أبوابُ جهنم سبعةٌ، بعضُها فوق بعضٍ، فيَمْتَلئُ الأولُ، ثم الثاني، ثم الثالثُ، ثم تَمتَلئُ كلُّها
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن عليٍّ، قال: أبوابُ جهنم سبعةٌ، بعضُها فوق بعضٍ. وأشار بأصابعه على الأولِ، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تُملأ كلُّها.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا يونسُ بن أبى إسحاق، عن أبيه، عن هُبيرة بن يريم
(2)
، قال: سمعتُ عليًّا يقولُ: إن أبواب جهنم بعضُها فوق بعضٍ، فيُمْلأُ، فيُمْلأُ الأولُ ثم الذي يليه إلى آخرها
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عليٌّ، قال: أخبرنا محمدُ بنُ يزيد الواسطيُّ، عن جَهْضَمٍ، قال: سمعتُ عكرمة يقولُ في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} . قال: لها سبعةُ أطباقٍ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قوله:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} . قال: أولها جهنمُ، ثم لَظًى، ثم الحُطمةُ، ثم السعيرُ، ثم سَقَرُ، ثم الجحيمُ، ثم الهاويةُ، والجحيمُ فيها أبو جهلٍ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 154، والبيهقى في البعث والنشور (506) من طريق أبى إسحاق به.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ف:"مريم". وينظر تهذيب الكمال 30/ 150.
(3)
أخرجه هناد في الزهد (247) من طريق يونس بن أبى إسحاق به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (7) من طريق أبى إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (10) عن علي بن الجعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 100 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (8) من طريق حجاج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 100 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} : وهى واللَّهِ منازلُ بأعمالهم
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} .
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوُا الله بطاعته وخافوه، فتَجنَّبوا معاصيه في جناتٍ وعُيونٍ، يقالُ لهم:
ادْخُلوها بسلام آمنين من عقاب الله، أو أن تُسلبوا نعمةً أنعمها الله عليكم، وكرامةً أكرمكم بها.
وقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . يقولُ: وأخرجنا ما في صدورِ هؤلاء المتقين الذين وصف صفتهم، مِن حقدٍ وضغينةٍ، من
(2)
بعضهم لبعضٍ.
ثم
(3)
اختلف أهلُ التأويلِ في الحالِ التي يَنْزِعُ اللَّهُ ذلك من صدورهم؛ فقال بعضُهم: يَنْزِعُ ذلك بعد دخولهم الجنةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو غَسّانَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن بشرٍ البصريِّ، عن القاسم بن عبدِ الرحمنِ، عن أبي أُمامة، قال: يَدْخُلُ أهل الجنةِ الجنةَ على ما في صدورهم في الدنيا مِن الشَّحْناءِ والضَّغائن، حتى إذا تَوافُوا وتَقابَلُوا نزَعَ اللَّهُ ما في صدورهم في الدنيا مِن غِلٍّ. ثم قرأ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (11) من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 100 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ف:"و".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو فَضالةَ، عن لقمانَ، عن أبي أمامة، قال: لا يَدْخُلُ مؤمنٌ الجنةَ حتى يَنْزِعَ اللَّهُ ما في صدورهم مِن غلٍّ، ثم يُنْزَعُ منه مثل
(1)
السَّبُعِ الضارى
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهال، قال: ثنا سفيانُ بن عيينة، عن إسرائيل
(3)
أبى موسى، سمِع الحسن البصريَّ يقولُ: قال عليٌّ: فينا والله أهل بدرٍ نزلت الآيةُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبيرِ، عن ابن عيينة:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . قال: من عداوةٍ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطيُّ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحاك:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . قال: العداوةُ
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فُضَيل، عن عطاء بن السائب، عن [رجلٍ، عن عليٍّ]
(5)
: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . قال: العداوةُ
(6)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: جاء ابن جُرموزٍ قاتلُ الزبيرِ يَسْتَأْذِنُ على عليٍّ، فحجَبه طويلًا ثم أذن له، فقال له: أما أهلُ البلاء فتَجْفوهم. قال عليٌّ: بفِيكَ الترابُ؛ إنى لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه سنيد في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 4/ 456 - عن ابن فضالة أبى فضالة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
بعده في النسخ: "عن"، وهو خطأ؛ فإسرائيل هو ابن موسى ويكنى أبا موسى، وقد تقدم على الصواب في 10/ 198، وينظر تهذيب الكمال 2/ 514.
(4)
تقدم تخريجه في 10/ 198.
(5)
في ت 1: "الضحاك".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى المصنف.
مُتَقَابِلِينَ}
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن جعفرٍ، عن عليٍّ نحوَه
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبانِ بن عبدِ اللَّهِ البجليِّ، عن نعيم بن أبى هندٍ، عن ربعيِّ بن حِراشٍ بنحوه، وزاد فيه: قال: فقام إلى عليٍّ رجلٌ من هَمْدان فقال: الله أعدَلُ من ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فصاح عليٌّ صيحةً ظننتُ أن القصر تَدَهْدَه لها، ثم قال: إذا لم نكن نحن، فمن هم
(3)
؟
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا أبو معاوية الضريرُ، قال: ثنا أبو مالكٍ الأشجعيُّ، عن أبي حبيبة مولًى لطلحةَ، قال: دخل عمرانُ بن طلحة على عليٍّ بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحَّب به وقال: إنى لأرجو أن يَجْعَلَنى الله وأباك
(4)
من الذين قال الله: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . ورجلان جالسان على ناحية البساطِ، فقالا: الله أعدلُ من ذلك، تَقْتُلُهم بالأمس، وتكونون إخوانًا؟ فقال عليٌّ: قُومَا أبعد أرضٍ وأَسْحَقَها، فمن هو
(5)
إذن إن لم أكن أنا وطلحة. وذكر لنا أبو معاوية الحديثَ بطوله
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1299) من طريق وكيع به، وأخرجه ابن سعد 3/ 113 من طريق سفيان به، وأخرجه أحمد أيضًا في الفضائل (1291) من طريق منصور به، وينظر ما تقدم في 10/ 199.
(2)
أخرجه أحمد في الفضائل (1299) عن وكيع به، وأخرجه ابن سعد 3/ 113، والبيهقى في الاعتقاد ص 528 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى سعيد بن منصور وابن مردويه.
(3)
أخرجه وكيع وابن أبي شيبة في مصنفه 15/ 281، 282، وأحمد في الفضائل (1300)، والبيهقى 8/ 173 من طريق وكيع به، وأخرجه ابن سعد 3/ 225، والحاكم 2/ 353 من طريق أبان بن عبد الله البجلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"إياك".
(5)
في م: "هم".
(6)
أخرجه أحمد في الفضائل (1298)، والبيهقى 8/ 173 من طريق أبى معاوية به، وأخرجه ابن سعد 3/ 224، والحاكم 3/ 376 من طريق أبى مالك به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال
(1)
: ثنا عفانُ، قال: ثنا عبدُ الواحد، قال: ثنا أبو مالكٍ، قال: ثنا أبو حبيبة، قال: قال عليٌّ لابن طلحةَ: إني لأرجو أن يَجْعَلَنى اللَّهُ وأباك
(2)
من الذين نزع ما في صدورهم من غلٍّ، ويَجْعَلَنا إخوانًا على سرُرٍ متقابلين
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بن محمدٍ، قال: ثنا حمادُ بن خالدٍ الخياطُ، عن أبي الجُوَيْرِيةِ، قال: ثنا معاويةُ بنُ إسحاق، عن عمران بن طلحةَ، قال: لما [نظر إليّ]
(4)
عليٌّ قال: مرحبًا بابن أخى. فذكر نحوه.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبرنا هشامٌ، عن محمدٍ، قال: استأذن الأشترُ على عليٍّ وعنده ابنٌ لطلحةَ، فحبَسه، ثم أذن له، فلما دخل قال: إنى لأراك إنما حبستنى لهذا. قال: أجَلْ. قال: إني لأراه
(5)
لو كان عندك ابنٌ لعثمانَ لحبستنى. قال: أجل، إني لأرجو أن أكون أنا وعثمانُ ممن قال اللهُ:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}
(6)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا إسحاق الأزرقُ، قال: أخبرنا عوفٌ، عن ابن سيرين بنحوه.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرميُّ، قال: ثنا السَّكَنُ بنُ المغيرة، قال: ثنا معاويةُ بن راشدٍ، قال: قال عليٌّ: إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .
(1)
في ص، ت 2:"و".
(2)
في ت 1، ف:"إياك".
(3)
أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1295) من طريق أبى حبيبة به.
(4)
في م: "نظرنى". وفى ت 1، ت 2، ف:"نظر لى".
(5)
في ص، ت 2، ف:"لا أراه".
(6)
أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (374) من طريق محمد بن سيرين به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ثنا أبو
(1)
المتوكِّل الناجيُّ، أن أبا سعيدٍ الخدريَّ حدَّثهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَخْلُصُ المؤمنون مِن النارِ، فيُحْبَسون على قنطرةٍ بين الجنةِ، والنارِ، فيُقْتَصُّ لبعضهم مِن بعضٍ مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دُخول الجنة
(2)
، فوالذى نفسُ محمدٍ بيده، لأحَدُهم أهدَى بمنزله في الجنة منه بمنزله الذي كان في الدنيا". وقال بعضُهم: ما يُشَبَّهُ بهم إلا أهلُ جُمُعةٍ حين
(3)
انصرَفوا مِن جمعهم
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عفانُ بن مسلمٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدُ بنُ أبى عروبة في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . قال: ثنا قتادة، أن أبا المتوكل الناجيَّ حدَّثهم، أن أبا سعيدٍ الخدريَّ حدَّثهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر نحوه إلى قوله: "وأُذن لهم في دخول الجنةِ". ثم جعل سائر الكلام عن قتادة، قال: وقال قتادةُ: فوالذى نفسى بيده لأحدهم أهدى بمنزله، ثم ذكر باقى الحديثِ نحو حديثِ بشرٍ، غير أن الكلام إلى آخره عن قتادة، سوى أنه قال في حديثه: قال قتادةُ: وقال بعضُهم: ما يشبَّهُ بهم إلا أهلُ الجُمعة إذا انصرفوا من الجمعة.
(1)
في النسخ: "ابن" وسيأتي على الصواب كما في الإسناد بعده. وينظر تهذيب الكمال 20/ 425.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "جمعتهم".
والحديث أخرجه أحمد 18/ 235، (6535)، والبخارى (6535)، وابن أبي عاصم في السنة (858)، وابن منده في كتاب الإيمان (837)، والبيهقى في الشعب (345) من طريق يزيد بن زريع به. وأخرجه أحمد 18/ 146 (11603)، وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه - كما في الفتح 11/ 398 - من طريق سعيد به. وأخرجه أحمد (17/ 162 (11098)، وعبد بن حميد (935)، والبخارى (2440) وفى الأدب المفرد (486)، وابن أبي عاصم في السنة (857)، وأبو يعلى (1186)، وابن حبان (7434)، وابن منده (838)، والحاكم 2/ 354 من طريق قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى ابن المنذر.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْدِيُّ، قال: ثنا عمر بن زُرعةَ، عن محمدِ بن إسماعيل الزُّبيديِّ، عن كَثِيرٍ النّوّاءِ، قال: سمعته يقولُ: دخلتُ على أبى جعفرٍ محمدِ بن عليٍّ، فقلتُ: وليِّى وليُّكم، وسلمى سِلْمُكم، وعدوِّي عدوُّكم، وحربى حربُكم، إنى أسألُكَ بالله، أتبرأُ من أبى بكرٍ وعمر؟ فقال: قد ضَلَلْتُ إذن وما أنا من المهتدين، تولَّهما يا كثيرُ، فما أدْرَكك فهو في رقبتى. ثم تلا هذه الآية:{إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}
(1)
.
[وقوله: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}
(2)
. يقولُ: إخوانا يقابل بعضُهم وجه بعضٍ، لا يَسْتديره فينظر في قفاه. وكذلك تأوَّله أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤملٌ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا حُصينٌ، عن مجاهدٍ في قوله:{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . قال: لا يَنْظُرُ أحدُهم في قفا صاحبه
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمنِ ومؤملٌ، قالوا: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
والسُّرر جمعُ سريرٍ، كما الجُدُدُ جمعُ جديدٍ. وجُمع سُرَرًا
(4)
، وأُظْهِر التضعيفُ فيها، والراءان متحرِّكتان؛ لخفة الأسماءِ، ولا يُفعَلُ ذلك في الأفعال؛
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 15/ 706، 707 (مخطوط) من طرق عن كثير النواء به نحوه، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 457 عن كثير النواء به وزاد بعد الآية: قال.
(2)
سقط من النسخ، وأثبتنا ما يستقيم به السياق.
(3)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (434) - زوائد نعيم، وابن أبي شيبة 13/ 138، وهناد في الزهد (80) طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 101 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ص، ت 1، ت 2 ف:"سرر".
لثقل الأفعال، ولكنهم يُدْغِمون في الفعل
(1)
أحد الحرفين فيخفُّ
(2)
، فإذا دخل على الفعل ما يُسَكِّن الثاني، أظهروا حينئذٍ التضعيف.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} .
يقولُ تعالى ذكره: لا يَمَسُّ هؤلاء المتقين الذين وصف صفتهم في الجناتِ {نَصَبٌ} يعنى: تَعَبٌ، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}. يقولُ: وما هم من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها بمخرجين، بل ذلك دائمٌ أبدًا.
وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم أخبِرْ عبادى يا محمد، أنى أنا الذي أَسْتُرُ على ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها، وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم أن أعذِّبَهم بعد توبتهم منها عليها .
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} يقولُ: وأخبرهم أيضًا أن عذابى لمن أصرَّ على معاصيَّ، وأقام عليها، ولم يَتُبْ منها، هو العذابُ الموجعُ الذي لا يُشبهه عذابٌ. هذا من الله تحذيرٌ لخلقه التقدمَ على معاصيه، وأمرٌ لهم بالإنابة والتوبة.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} . قال: بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يَعْلَمُ العبدُ قدر عفو الله لما تورَّع من حرامٍ، ولو يَعْلَمُ قدر عذابه
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ف:"ليسكن"، ومضروب عليها في: ص.
(2)
في م: "فيخفف".
لبَخَعَ
(1)
نفسه"
(2)
.
حدَّثنا المثنى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: أخبرنا ابن المكيِّ، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا مصعبُ بن ثابتٍ، قال: ثنا عاصم بن عبيدِ
(3)
اللَّهِ، عن ابن أبي رباحٍ، عن رجلٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: اطَّلع
(4)
علينا
(5)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن الباب الذي يَدْخُلُ منه بنو شَيْبةَ، فقال:"ألا أراكم تضحَكُون؟ " ثم أدْبَر، حتى إذا كان عند الحجرِ رجع إلينا القَهْقَرَى، فقال:"إنى لما خرجتُ جاء جبريل عليه السلام، فقال: يا محمدُ، إن الله يقولُ: لِمَ تُقَنِّطُ عبادِي؟ نبِّئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم، وأن عذابى هو العذابُ الأليم"
(6)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)} .
يقول تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وأَخْبِرْ عبادى يا محمد عن {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} . يعنى الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم خليل الرحمن، حين أرسلهم ربُّهم إلى قوم لوط ليُهْلِكوهم، {فَقَالُوا سَلَامًا}. يقولُ: فقال الضيفُ لإبراهيم: سلامًا.
{قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} . يقولُ: قال إبراهيم: إنا منكم خائفون.
(1)
بخع نفسه: قتلها غيظًا أو غمًا. اللسان (ب خ ع).
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 458 عن سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 102 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في النسخ: "عبد". والمثبت من الزهد وتفسير ابن كثير، وإن كان ورد في الزهد: عبيد الليثى. وينظر تهذيب الكمال 13/ 500.
(4)
في م: "طلع".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"إلينا".
(6)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (892) عن مصعب بن ثابت به، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 458 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 102 إلى المصنف وابن مردويه.
وقد بيَّنا وجه النصب في قوله: {سَلَامًا} . وسببَ وَجَلِ إبراهيمَ مِن ضيفه، واختلاف المختلفين، ودلَّلنا على الصحيح من القول فيه فىما مضى قبلُ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع
(1)
.
وأما قولُه: {فَقَالُوا سَلَامًا} . وهو يعنى به الضيف، فجمع الخبرُ عنهم
(2)
وهم في لفظ واحدٍ، فإن الضيف اسمٌ للواحد والاثنين والجمع، مثلَ الوَزْنِ والقَطْرِ والعَدْلِ، فلذلك جُمِع خبرُه، وهو في لفظ واحدٍ.
وقوله: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ} . يقولُ: قال الضيفُ لإبراهيمَ: لا تَوْجَلْ؛ لا تَخَفْ {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} .
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)} .
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للملائكة الذين بشَّرُوه بغلامٍ عليم: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} . يقولُ: فبأَيِّ شيءٍ تُبَشِّرُونَ؟
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنا الحسنُ بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءٌ، وحدَّثنى [المثنى، [قال: ثنا إسحاق]
(3)
، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} . قال: عجب مِن]
(4)
(1)
تقدم في 12/ 466، 470، 471 وما بعدهما.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عليهم".
(3)
سقط من النسخ، وهو إسناد دائر.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
[كبره وكبر امرأته
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ]
(2)
، عن مجاهدٍ مثله.
وقال: {عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} . ومعناه: لأن مسَّنى الكبرُ، وبأن مَسَّنِى الكبَرُ. وهو نحوُ قوله:{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105]. بمعنى: بأن
(3)
لا أقول. ويمثِّلهُ في الكلام: أتيتُك أنك تُعْطِى، فلم أجدك تُعطى.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} .
يقولُ تعالى ذكره: قال ضيفُ إبراهيم له
(4)
: بشَّرناك بحقٍّ يقينٍ، وعِلْمٍ منَّا بأنَّ الله قد وهَب لك غلامًا عليمًا، فلا تكن من الذين يَقْنَطُون من فضل الله، فيأْيَسُون
(5)
منه، ولكن أبشر بما بشَّرناك به، واقْبَلِ البُشْرَى.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {مِنَ الْقَانِطِينَ} ؛ فقرأته عامة قرأة الأمصار: {مِنَ الْقَانِطِينَ} . بالألف. وذُكر عن يحيى بن وثّابٍ أنه كان يَقْرَأُ ذلك: (القَنِطِينَ)
(6)
.
والصوابُ من القراءة في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصار؛ لإجماع الحجة على
(1)
تفسير مجاهد ص 416، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 102 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ص، ت 1 ت 2:"ما".
(4)
بعده في ت: "ميسرا"، ولعل صوابها:"مبشرا".
(5)
في م: "فييأسون".
(6)
وقرأ بها طلحة والأعمش ورويت عن أبي عمرو. ينظر البحر المحيط 5/ 459.
ذلك، وشذوذ ما خالفه.
وقولُه: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال إبراهيم للضيف: ومَن يأيسُ
(1)
من رحمةِ اللَّهِ إلا القومُ الذين قد أخطئوا سبيل الصواب، وتركوا قَصْدَ السبيل في تركهم رجاءَ اللهِ، ولا يَخِيبُ مَن رَجاه، فضَلُّوا بذلك عن دينِ اللَّهِ.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والكوفة: {وَمَنْ يَقْنَطُ} . بفتح النون، إلا الأعمش والكسائيَّ، فإنهما كسرا النونَ مِن:(يَقْنِطُ)
(2)
.
فأما الذين فتحوا النونَ منه ممن ذكرنا، فإنهم قرءوا:{مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28]. بفَتْحِ القافِ والنون. وأما الأعمش فكان يَقْرَأُ ذلك: (من بعدِ ما قنطوا)، بكسر النون. وكان الكسائيُّ يَقْرؤُه بفتح النون. وكان أبو عمرو بنُ العلاء يَقْرَأُ الحرفىن جميعًا على النحو الذي ذكرنا من قراءة الكسائيِّ.
وأولى القراءاتِ في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأه: {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} . بفتح النون، (وَمَن يَقْنِطُ). بكسر النون، لإجماع الحجة من القرأة على فتحها في قوله:{مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} . فكسْرُها
(3)
في: (وَمَنْ يَقْنِطُ). أولى، إذ كان مجمعًا على فتحها في "قنط"؛ لأن "فَعَل" إذا كانت عينُ الفعل منها مفتوحةً، ولم تكن من الحروف الستة التي هي حروفُ الحلق، فإنها تكونُ في "يفعل" مكسورةً أو
(1)
في م: "ييأس".
(2)
وبفتح النون قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، وبكسر النون قرأ أيضًا أبو عمرو. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 367، والبحر المحيط 5/ 459.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بكسرها".
مضمومةٌ، فأما الفَتْحُ فلا يُعرَفُ [أتى ذلك في]
(1)
كلام العرب.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)} .
يقول تعالى ذكرُه: قال إبراهيمُ للملائكة: فما شأنُكم، ما أمْرُكم أيُّها المرسلون؟
قالت الملائكةُ له: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} . يقولُ: إلى قومٍ قد اكتسبوا الكفر باللَّهِ،
{إِلَّا آلَ لُوطٍ} . يقولُ: إلا تُبّاع لوطٍ على ما هو عليه من الدَّينِ، فإنا لن نُهْلِكَهم، بل نُنَجِّيهم من العذاب الذي أمرنا أن نُعذّبَ به
(2)
قومَ لوطٍ، سوى امرأة لوطٍ، {قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}. يقولُ: قضَى اللَّهُ فيها إنها لمن الباقين، ثم هي مُهْلَكةٌ بعدُ.
وقد بيَّنا معنى
(3)
الغابرِ فىما مضى بشواهده
(4)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)} .
يقول تعالى ذكره: فلما أتى رسلُ اللَّهِ آلَ لوط، أنكرهم لوطٌ فلم يَعْرِفُهم، وقال لهم:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . أي: نُنكِرُكم لا نَعْرِفُكم.
فقالت له الرسلُ: بل نحن رسلُ الله، جئناك بما كان فيه قومُك يَشُكّون أنه نازلٌ بهم من عذابِ اللهِ على كفرهم به.
(1)
في م: "ذلك في"، وفى ت 1 ت 2:"في ذلك من"، وفى ف:"في ذلك".
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
(3)
سقط من: م.
(4)
تقدم في 10/ 308.
حدَّثني محمد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى الحسن بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . قال: أنكرهم لوطٌ. وقوله: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} . قال: بعذاب قومِ لوطٍ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)} .
يقول تعالى ذكره: قالت الرسلُ للوطٍ: وجئناك بالحقِّ اليقين من عند الله، وذلك الحقُّ هو العذاب الذي عذَّب الله به قوم لوطٍ. وقد ذكرتُ خبَرَهم وقصصهم في سورة "هودٍ" وغيرها، حين بعث الله رسلَه ليُعَذِّبَهم به
(2)
.
وقولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . يقولون: إنا لصادقون فيما أخبرناك به يا لوطُ، من أن اللَّهَ مُهْلِكُ قومِك،
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} . يقولُ تعالى ذكره مخبرًا عن رسله أنهم قالوا للوط: فأسْرِ بأهلك ببقية من الليل، واتَّبِعْ يا لوط أدبار أهلك الذين تَسْرِى بهم؛ كنْ
(3)
مِن ورائهم، وسِر خلفهم وهم أمامك، ولا
(1)
تفسير مجاهد ص 417، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 102 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
تقدم في 12/ 494 وما بعدها.
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"تكن".
يَلْتَفِتْ منكم وراءه أحدٌ، وامضوا حيثُ يأمُرُكم الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمروٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} : لا يَلْتَفِتْ وراءه أحدٌ، ولا يُعرِّج.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدُ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} : لا يَنظُرُ وراءه أحدٌ
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} . قال: أُمر أن يكون خلفَ أهْلِهِ، يَتَّبِعُ أدبارهم في آخرِهم إذا مشوا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} . قال: بعض الليلِ، {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}: أدبار أهلِه.
(1)
تفسير مجاهد ص 417، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 2066.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 349 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 102 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وفرغنا إلى لوطٍ من ذلك الأمر، وأوحينا، {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}
(1)
. يقولُ: إن آخرَ قومك وأولهم مجذودٌ مُسْتَأْصَلٌ صباح ليلتهم.
و {أَنَّ} من قوله: {أَنَّ دَابِر} . في موضع نصبٍ، ردًّا على الأمرِ بوقوع القضاء عليها، وقد يجوزُ أن تكون في موضع نصب بفقد الخافض، ويكونَ معناه: وقضينا إليه ذلك الأمر بأن دابر هؤلاء مقطوعٌ مُصبحين. وذُكر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (وقلنا إنَّ دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين)
(2)
.
وغُنى بقوله: {مُصْبِحِينَ} : إذا أصبحوا، أو: حين يُصبحون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} : يَعْنى استئصال هلاكهم مصبحين
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قوله:
(1)
بعده في ت 1: "يقول إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين".
(2)
ينظر البحر المحيط 5/ 461.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف.
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} . قال: أوحينا إليه
(1)
.
وقوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} . يقولُ: وجاء أهلُ مدينة سَدُومَ، وهم قومُ لوطٍ، لما سمعوا أن ضيفًا قد ضاف لوطًا، مستبشرين بنزولهم مدينتهم؛ طمعًا منهم في ركوب الفاحشة.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} : استَبْشَروا بأضياف نبيِّ الله لوطٍ صلى الله عليه، حين نزلوا، لما أرادوا أن يأتُوا إليهم من المنكرِ
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال لوطٌ لقومه: إن هؤلاء الذين جئتُموهم تريدون منهم الفاحشةً ضَيْفى، وحقٌّ على الرجل إكرامُ ضيفه، فلا تَفْضَحونِ أَيُّها القومُ في ضيفى، وأكرمون في تركِكم التعرُّضَ لهم بالمكروه.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} . يقولُ: وخافوا الله فيَّ وفى أنفسكم، أن يَحِلَّ بكم عقابه، {وَلَا تُخْزُونِ}. يقولُ: ولا تُذِلُّون، ولا تُهينون فىهم، بالتعرُّض لهم بالمكروه،
{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} . يقول تعالى ذكرُه: قال للوطٍ قومُه: أو لم نَنْهَك أن تُضِيفَ أحدًا من العالمين.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قال: ألم ننهك أن تُضِيفَ أحدًا
(2)
؟
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال لوطٌ لقومه: تزوَّجوا النساء فائْتُوهن
(1)
، ولا تَفْعَلُوا ما قد حرَّم الله عليكم مِن إتيانِ الرجالِ، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، ومُنْتَهين إلى أمرى.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} : أمرهم نبيُّ الله لوطٌ أن يتزوَّجوا النساء، وأراد أن يقى أضيافه ببناته
(2)
.
وقولُه: {لَعَمْرُكَ} . يقولُ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وحياتك يا محمدُ، إن قومك من قريشٍ {لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}. يقول: لفى ضلالتهم وجهلهم يَتَرَدَّدون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مسلم بنُ إبراهيم، قال: ثنا سعيدُ بن زيدٍ، قال: ثنا عمرُو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاء
(3)
، عن ابن عباسٍ، قال: ما خلق الله وما ذرًا وما برأ نفسًا أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سمعتُ الله أقسم بحياة أحدٍ غيره، قال الله
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فائتوهم".
(2)
تقدم تخريجه في 12/ 503.
(3)
بعده في ت 1: "عن أبي مالك".
تعالى ذكره: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بن محمدٍ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إسحاق الحضرميُّ، قال: ثنا الحسنُ بن أبى جعفرٍ، قال: ثنا عمرُو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابن عباسٍ في قولِ اللَّهِ:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال: ما حلَف الله تعالى بحياة أحدٍ إلا بحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: وحياتك يا محمدُ وعَمْرِك وبقائك في الدنيا، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} : [وهى كلمةٌ من كلام العرب، {لَفِي سَكْرَتِهِمْ}]
(2)
أي: في ضلالتهم، {يَعْمَهُونَ} أَي: يَلْعَبون
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، قال: سأَلْتُ الأعمش عن قوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال: لفى غَفْلَتِهِم يَتَردَّدون
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{لَفِي سَكْرَتِهِمْ} . قال: في ضلالتهم {يَعْمَهُونَ} . قال: يَلْعبون
(5)
.
(1)
أخرجه الحارث بن أبى أسامة في مسنده - كما في المطالب (4026) - وأبو نعيم في الدلائل (21)، والبيهقى في الدلائل 5/ 488 من طريق سعيد بن زيد به.
وأخرجه أبو يعلى (2754)، وأبو نعيم في الدلائل (22) من طريق عمرو بن مالك به مقتصرين على قوله:"بحياتك". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 349 عن معمر به.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال مجاهدٌ: {يَعْمَهُونَ} . قال: يَتَردَّدون
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليّ، عن ابن عباسٍ قوله:{لَعَمْرُكَ} . يقولُ: لَعَيْشُك، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}. قال: يَتَمادَوْن
(2)
.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يَكْرَهون أن يقول الرجلُ: لعَمْرِى. يرونه كقوله: وحياتى.
وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} . يقول تعالى ذكره: فأخذتهم صاعقةُ العذاب، وهي الصيحةُ. {مُشْرِقِينَ} ، يقول: إذ أشرقوا، ومعناه: إذ أشرقت الشمسُ. ونَصْبُ {مُشْرِقِينَ} و {مُصْبِحِينَ} على الحال، بمعنى: إذ أصبحوا، وإذ أشْرَقوا، يقالُ منه: صيح بهم. إذا أهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ
(3)
: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} . قال: حين أشرقت الشمسُ، ذلك {مُشْرِقِينَ}
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 324.
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 323.
(3)
بعده في ت 2: "عن مجاهد".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} .
يقولُ تعالى ذكره: فجَعَلْنا عالى أرضهم سافلها، وأمطرنا عليهم حجارةً من طينٍ
(1)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن عكرمة:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} أي: من طينٍ
(2)
.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . يقول: إن في الذي فعلنا بقوم لوطٍ من إهلاكهم، وأحلَلْنا بهم من العذاب، لعلاماتٍ ودَلالاتٍ للمُتَفَرِّسين المعتبرين بعلاماتِ اللهِ وعِبره، على عواقب أمور أهل معاصيه والكفر به. وإنما يعنى تعالى ذكره بذلك قوم نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم من قريشٍ، يقولُ: فلقومك يا محمدُ في قوم لوطٍ، وما حلَّ بهم من عذابِ اللَّهِ حين كذَّبوا رسولَهم، وتَمادَوا في غيِّهم وضلالهم - مُعتَبرٌ.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا يَعْلى بنُ عبيدٍ، قال: ثنا عبدُ الملك بنُ أبى سليمان، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: للمُتَفَرِّسين.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن عبد الملك، وحدَّثنا الحسنُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"سجيل".
(2)
تقدم تخريجه في 12/ 526.
الزَّعْفَرانيُّ، قال: ثنى محمدُ بنُ عُبَيدٍ، قال: ثنى عبدُ الملك، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: للمُتَفَرِّسين.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنا الحسنُ بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذَيْفَةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ، قال: المتوسِّمين المتفرِّسين. قال: توسَّمتُ فيك الخيرَ نافلةً.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبى سليمان، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: للمتَفَرِّسين
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةٌ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . يقولُ: للناظرين
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بن يزيدَ، عن جويبرٍ، عن الضحاك: لِلْمُتَوَسَمِينَ}. قال: للناظرين
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 417، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م: "المتفرسين"، والأثر في تفسير سفيان ص 160.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 461.
لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي: للمُعْتَبِرين
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ قوله:{لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: للمُعْتَبِرين
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنى حسنُ بنُ مالكٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ، عن عمرو بن قيسٍ، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا فراسة المؤمنِ، فإنه يَنْظُرُ بنور الله". ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}
(3)
".
حدَّثنا أحمدُ بنُ محمدٍ الطُّوسيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ مولى بنى هاشمٍ، قال: ثنا عمرُو بن قيسٍ المُلائِيُّ، عن عطية، عن أبي سعيدٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطوسيُّ، قال: ثنا الحسنُ
(4)
بن محمدٍ، قال: ثنا الفُراتُ بنُ السائبِ، قال: ثنا ميمونُ بن مهران، عن ابن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا فِرَاسةً المؤمن، فإن المؤمنَ يَنظُرُ بنور الله"
(5)
.
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (50) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 349 عن معمر به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 4/ 461 - والطبرانى في الأوسط (7843)، والعقيلى في الضعفاء 4/ 129، والخطيب في تاريخه 3/ 191، 7/ 242 من طريق محمد بن كثير به، وأخرجه البخارى في تاريخه 7/ 354، والترمذى (3127) من طريق عمرو بن قيس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى ابن مردويه وابن السنى وابن أبي نعيم، كلاهما في الطب.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الحسين".
(5)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 94 من طريق فرات بن السائب، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 461 عن المصنف.
حدَّثنا عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنى سعيدٌ بنُ محمدٍ الجرميُّ
(1)
، قال: ثنا عبدُ الواحد بنُ واصلٍ، قال: ثنا أبو بشرٍ المُزلَّقُ، عن ثابت البنانيٍّ، عن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ للهِ عبادًا يَعْرِفون الناسَ بالتَّوَسُّم"
(2)
.
حدَّثني يونسُ بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: المتفكِّرون والمعتبِرون الذين يَتَوَسَّمون الأشياءَ، ويَتَفَكرون فيها ويَعْتَبِرون.
حدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . يقول: للناظرين.
حدَّثني أبو شرحبيلٍ الحمصيُّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ سلمة، قال: ثنا المؤملُ بنُ سعيد بن يوسف الرحبيُّ، قال: ثنا أبو المعلَّى أسدُ بنُ وداعة الطائيُّ، قال: ثنا وهبُ بن منبِّهٍ، عن طاوس بن كيسان، عن ثَوْبانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْذَروا فِراسةَ المؤمن، فإنه يَنْظُرُ بنورِ اللَّهِ، ويَنْطِقُ
(3)
بتوفيقِ اللَّهِ"
(4)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} .
يقول تعالى ذكره: وإن هذه المدينة - مدينةَ سَدُومَ - لبطريقٍ واضحٍ مقيمٍ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الجوينى". وينظر تهذيب الكمال 11/ 45.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط (2935) من طريق سعيد بن محمد الجرمى به، والبزار (3632) - كشف) من طريق سعيد، عن أبي بشر، بدون ذكر عبد الواحد بن واصل، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 461 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى الحكيم الترمذي وابن السنى وأبى نعيم. وينظر ميزان الاعتدال 1/ 344.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ينظر".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 461 عن المصنف.
يراها المجتازُ بها، لا خَفَاءَ بها، ولا يَبْرَحُ
(1)
مكانُها، فيَجْهَلَ ذو لُبٍّ أَمرَها، وغبَّ معصية الله والكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نميرٍ، عن ورقاء، وحدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المُثنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، وحدَّثنى محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . قال: لبطريقٍ مَعْلَمٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . يقولُ: بطريقٍ واضحٍ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . قال: طريق، السبيلُ الطريقُ.
حدِّثت عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمعت الضحاك يقولُ في قوله: {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . يقولُ: بطريقٍ مَعْلَمٍ
(3)
.
(1)
في ص: "نترح"، وفى ت 1:"تبرح"، وغير منقوطة في ت 2.
(2)
تفسير مجاهد ص 417، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 462.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن في صنيعِنا بقوم لوطٍ ما صنعنا بهم، لعلامةً ودَلالةً بينةً لمن آمن باللَّهِ، على انتقامِه مِن أهل الكفر به، وإنقاذه من عذابه - إذا نزل بقومٍ - أهل الإيمان به منهم.
كما حدَّثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن سماكٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله:{إِنّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} . قال: هو كالرجل يقول لأهله: علامةُ ما بينى وبينكم أن أُرسل إليكم خاتمى، أو آيةً كذا وكذا.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن سماكٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} . قال: أما تَرَى الرجل يُرْسِلُ بخاتمه إلى أهله فىقولُ: هاتوا كذا
(1)
، هاتوا كذا
(2)
. فإذا رأوه علموا أنه حقٌّ
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)} .
يقول تعالى ذكره: وقد كان أصحابُ الغَيْضَةِ ظالمين. يقولُ: كانوا باللَّهِ كافرين. والأيكةُ الشجرُ الملتفُّ المجتمعُ، كما قال أميةُ
(4)
:
كبُكا الحمام على فُرو
…
ع الأيْكِ في الغُصُنِ
(5)
الجوانح
(6)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في ص: "حدنى"، وفى م ف:"خذى"، وفى ت:1 "مديى"، وفى ت 2:"خدنى". والمثبت من مصدرى التخريج.
(2)
سقط من: ت 1، وفى م ف:"خذى"، وغير منقوطة في ص، ت 2، والمثبت من مصدرى التخريج.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 354 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى ابن المنذر وابن أبى حاتم.
(4)
البيت في سيرة ابن هشام 2/ 30 وليس في ديوانه.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الطين".
(6)
الجوانح: الموائل. يقال: جنح. إذا مال. شرح غريب السيرة 2/ 77.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا إسحاقُ بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيدِ، قال: ثنا عتّاب بنُ بشيرٍ، عن خُصيفٍ، قال في قوله:{أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} . قال: الشجرُ
(1)
، وكانوا يأكُلون في الصيف الفاكهة الرطبة، وفى الشتاء اليابسة
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} : ذُكر لنا أنهم كانوا أهلَ غَيْضةٍ، وكان عامَّةَ شجرهم هذا الدَّوْمُ
(3)
، وكان رسولهم فيما بلغنا شُعيبٌ صلى الله عليه وسلم، أُرسِل إليهم وإلى أهل مدينَ، أُرسل إلى أمتين من الناس، وعُذِّبتا بعذابين شتَّى؛ أما أهلُ مدينَ، فأَخَذتْهم الصيحةُ، وأما أصحابُ الأيكة، فكانوا أهل
(4)
شجرٍ مُتَكاوس
(5)
، ذكر لنا أنه سُلِّط عليهم الحرُّ سبعةَ أيامٍ، لا يُظلُّهم منه ظلٌّ، ولا يمنعُهم منه شيءٌ، فبعث الله عليهم سحابةً، [فحلُّوا تحتها]
(6)
يَلْتَمِسون الرَّوحَ فيها، فجعلها الله عليهم عذابًا، بعث عليهم نارًا، فاضْطَرمت عليهم، فأكلتهم، فذلك عذابُ يوم الظلة، إنه كان عذاب يومٍ عظيمٍ
(7)
.
(1)
في ص، ت 2:"الشجرة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف.
(3)
الدوم: شجر عظام من الفصيلة النخيلية، يكثر في صعيد مصر وفى بلاد العرب، ويعرف بالمقل والأبلم، وثمرته في غلظ التفاحة ذات قشر صلب، أحمر وله نواة ضخمة ذات لب إسفنجى. الوسيط (د و م).
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أصحاب".
(5)
متكاوس: ملتف متراكب. اللسان (ك) و (س).
(6)
في ت 1، ت 2، ف:"فجعلوا".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وهو في تفسير ابن أبي حاتم 9/ 2811 (15902) من طريق سعيد به إلى قوله: شجر متكاوس. وأخرجه أيضًا في 9/ 2815 (15931) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة وفيه زيادة.
وقال ابن كثير في تفسيره 6/ 168: والصحيح أنهم أمة واحدة، وُصفوا في كل مقام بشئ، ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء الكيل والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة. وينظر البداية والنهاية 1/ 438، 139.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بن أبى حمادٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ ثابتٍ، عن أبيه، عن سعيدٍ بن جبيرٍ، قال: أصحابُ الأيكة أصحابُ غَيْضَةٍ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ قوله: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} . قال: قومٌ شعيبٍ. قال ابن عباسٍ: الأيكة ذاتُ آجامٍ وشجرٍ كانوا فيها
(2)
.
حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} . قال: هم قومُ شعيبٍ، والأيكةُ الغَيْضَةُ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيدٍ بن أبى هلالٍ، عن عمرو بن عبدِ اللهِ، عن قتادةَ أنه قال:{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} : والأيكةُ الشجرُ الملتفُّ
(4)
.
وقوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} . يقولُ تعالى ذكره: فانتَقَمنا من ظلمة أصحاب الأيكة.
وقولُه: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} . يقولُ: وإن مدينة أصحاب الأيكة، ومدينةَ
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2810 عقب الأثر (15899) معلقًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2810 (15896) من طريق جويبر، عن الضحاك مقتصرًا على أوله.
(4)
سقط من النسخ، وأثبتنا نص الآية ليستقيم السياق.
قوم لوط. والهاءُ والميمُ في قوله: {وَإِنَّهُمَا} مِن ذِكْرِ المدينتين. {لَبِإِمَامٍ} . يقولُ: لبطريقٍ يَأْتُّمون به في سفرهم، ويَهْتَدون به، {مُبِينٍ}. يقولُ: يَبين لمن ائتمَّ به استقامتُه. وإنما جُعل الطريق إمامًا؛ لأنه يُؤَمُّ ويُتَّبَعُ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثنَّى، قال: ثنا عبد الله بن صالحٍ، قال: ثنى معاوية، عن علي بن أبى طلحةً، عن ابن عباس قوله:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} . يقولُ: على الطريق
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} . يقولُ: طريقٍ ظاهرٍ
(2)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنا الحسن بن محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا ورقاء، وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبد الله، عن وَرقاءَ، وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} . قال: بطريقٍ مَعْلَمٍ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف.
(3)
تفسير مجاهد ص 417، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} . قال: طريقٍ واضحٍ
(1)
.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} : بطريقٍ مُستبينٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد كذَّب سكانُ الحجرِ. وجُعِلوا - لشُكْناهم فيها ومُقامِهم بها - أصحابَها، كما قال تعالى ذكرُه:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: 44]. فجعَلهم أصحابَها؛ لسُكناهم فيها ومُقامِهم بها. والحِجْرُ: مدينةُ ثمودَ.
وكان قتادةُ يقولُ في معنى الحِجْرِ ما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن مَعمرٍ، عن قتادةَ:{أَصْحَابُ الْحِجْرِ} . قال: أصحابُ الوادى
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونسُ، عن ابن شهابٍ وهو يَذْكُرُ الحِجْرَ مساكنَ ثمودَ، قال: قال سالمُ بنُ عبدِ اللهِ: إن عبدَ اللهِ بنَ عمرَ قال: مرَرنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحِجْرِ، فقال لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْخُلوا مساكنَ الذين ظلَموا أنفسَهم إلا أن تكونوا باكين، حَذَرًا أن يُصِيبَكم مثلُ ما
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 349 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 340 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
أصابَهم". ثم زجَر
(1)
فأسْرَع حتى خلَّفَها
(2)
.
حدَّثنا زكريا بنُ يَحيى بن أبانٍ المصريُّ، قال: ثنا أبو يوسفَ يعقوبُ بنُ إسحاقَ بن أبي عبادٍ المكيُّ، قال: ثنا داودُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خثيمٍ، عن ابن سابطٍ، عن جابرِ بن عبدِ اللهِ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال وهو بالحِجْرِ:"هؤلاء قومُ صالحٍ أهلَكهم اللهُ إلا رجلًا كان في حرَمِ اللَّهِ، منَعه حرَمُ اللَّهِ مِن عذابِ اللَّهِ". قيل: يا رسولَ اللَّهِ مَن هو؟ قال: "أبو رِغالٍ"
(3)
.
وقولُه: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . يقولُ: وأريناهم أدلتَنا وحُجَجَنا على حقيقةِ ما بعَثْنا به إليهم رسولَنا صالحًا، فكانوا عن آياتِنا التي آتيناهموها مُعْرِضين، لا يَعْتَبرون بها ولا يَتَّعِظون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وكان أصحابُ الحجرِ، وهم
(4)
ثمودُ قومُ صالحٍ، يَنْحِتون من الجبالِ بُيوتًا آمنين مِن عذابِ اللهِ، وقيل: آمنين مِن الخرابِ، أن تَخْرَب بيوتُهم التي نحَتوها مِن الجبالِ. وقيل: آمنين
(5)
مِن الموتِ.
(1)
أي زجر البعير.
(2)
أخرجه الطحاوى في المشكل (3742) عن يونس به، وأخرجه مسلم (39/ 2980)، وابن حبان (6199) من طريق ابن وهب به، وأخرجه أحمد (5705)، والبخارى (3381) من طريق يونس بن يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق (1624)، وأحمد (5342)، والبخارى (3380، 4419)، والبغوى في تفسيره 3/ 156، وفى شرح السنة (4165)، والبيهقى في الدلائل 2/ 451 من طريق معمر، عن الزهرى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 296، 297.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"هو".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ليس".
وقولُه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} . يقول: فأَخَذَتْهم صيحةُ الهلاكِ حين أصبَحوا. من اليومِ الرابعِ من اليومِ الذي وُعِدُوا العذابَ، وقيل لهم:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65].
وقولُه: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . يقولُ: فما دفَع
(1)
عنهم عذابَ اللهِ ما كانوا يجترِحون من الأعمالِ الخبيثةِ قبلَ ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِي (86)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما خلَقنا الخلائقَ كلَّها، سماءَها وأرضَها، ما فيهما وما بينَهما. يعنى بقولِه:{وَمَا بَيْنَهُمَا} : [وما بينَهما]
(2)
مما في أطباقِ ذلك. {إِلَّا بِالْحَقِّ} . يقولُ: إلا بالعدلِ والإنصافِ، لا بالظلمِ والجَوْرِ.
وإنما يَعْنى تعالى ذكرُه بذلك أنه لم يَظْلِمُ أحدًا مِن الأممِ التي اقتَصَّ قَصَصَها في هذه السورةِ، وقَصَصَ إهلاكِه إياها، بما فعَل به مِن تعجيلِ النقمةِ له، على كفرِه به، فيعدِّ بَه ويُهْلِكَه بغيرِ استحقاقٍ؛ لأنه لم يَخْلُقِ السماواتِ والأرضَ وما بينَهما بالظلمِ والجَوْرِ، ولكنه خلَق ذلك بالحقِّ والعدلِ.
وقولُه: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإن الساعةَ، وهى الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ، لجَائيةٌ، فارْضَ بها لمشركى
(3)
قومِك الذين كذَّبوك، وردُّوا عليك ما جئتَهم به من الحقِّ.
(1)
في ص، ت 2، ف:"رفع".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"بمشركى".
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} . يقولُ: فأعرِضْ عنهم إعراضًا جميلًا، واعفُ عنهم عفوًا حسنًا.
وقولُه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّك هو الذي خلَقهم وخلَق كلَّ شيءٍ، وهو عالمٌ بهم وبتدبيرِهم، وما يَأْتون مِن الأفعالِ.
وكان جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ تقولُ: هذه الآيةُ منسوخةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} : ثم نُسِخ ذلك بعدُ، فأمَره اللهُ تعالى ذكرُه بقتالِهم حتى يَشْهَدوا ألا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، لا يَقْبَلُ منهم غيرَه
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبرَنا ابن المباركِ، عن جُوَيْبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} ، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]، و {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]، و {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]: وهذا النحوُ كلُّه في القرآنِ، أَمَرَ اللهُ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكونَ ذلك منه، حتى أمَره بالقتالِ، فنُسِخ ذلك كلُّه، فقال:{وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}
(1)
[التوبة: 5].
حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} . قال: هذا قبلَ القتالِ
(2)
.
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 352.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن المنذر.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ، عن سفيانَ بن عيينةَ في قولِه:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} . وقولِه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . قال: كان هذا قبلَ أن يَنْزِلَ الجهادُ، فلما أمِر بالجهادِ قاتَلهم، فقال:"أنا نبيُّ الرحمةِ، ونبيُّ الملحمةِ، وبُعِثتُ بالحصادِ، ولم أُبْعَثْ بالزراعةِ"
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى السَّبْعِ الذي آتى اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم مِن المثانى [وما هنَّ؟ وفى معنى المثانى]
(2)
؛ فقال بعضُهم: عَنَى بالسبعِ السبعَ السورِ مِن أوَّلِ القرآنِ اللواتى يُعْرَفن بالطُّوَلِ. وقائلو هذه المقالةِ مختلِفون في المثانى؛ فكان بعضُهم يقولُ: المثانى هي
(3)
هذه السبعُ، وإنما سُمِّين بذلك لأنهنَّ ثُنِّى فيهن الأمثالُ والخبرُ والعِبَرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن يونسَ، عن ابن سيرينَ، عن ابن مسعودٍ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: السبعُ الطُّوَلُ
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن سعيدٍ الجُرَيْريِّ، عن رجلٍ، عن ابن عمرَ، قال: السبعُ الطُّوَلُ
(5)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ،
(1)
أخرج نحو المرفوع منه ابن سعد 1/ 105 من طريق أبى حصين، عن مجاهد.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف.
(5)
في ف: "الطوال". والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 464.
عن ابن عباسٍ في قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: السَّبْعُ الطُّوَلُ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبرَنا هُشيمٌ، عن الحجَّاجِ، عن الوليدِ بن العَيْزارِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: هنَّ السَّبْعُ الطُّوَلُ، ولم يُعْطَهن أحدٌ إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأُعطِىَ موسى منهن اثْنَتَيْن
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ وابنُ حميدٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ البَطِينِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أوتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم سبعًا مِن المثانى الطُّوَلِ، وأُوتى موسى ستًّا، فلما ألْقَى الألواحَ رُفِعت اثنتان وبَقيت أربعٌ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنَ محمدٍ، قال: ثنا عليُّ بنُ عبدِ اللهِ بن جعفرٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ البطينِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن مسلمٍ البطينِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: البقرةُ، وآلُ عمرانَ، والنساءُ، والمائدةُ، والأنعامُ، والأعرافُ. قال إسرائيلُ: وذكَر السابعةَ فنَسِيتُها
(4)
.
(1)
تفسير سفيان ص 161، ومن طريقه الطحاوى في المشكل 3/ 246، والطبرانى في الكبير (11038).
(2)
أخرجه البيهقى في الشعب (2357) من طريق عمرو بن عون به، وأخرجه أيضًا في (2423) من طريق يحيى بن عبد الحميد، عن هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى الفريابى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
أخرجه أبو داود (1459)، والنسائى (914)، والطحاوى في المشكل 3/ 246، والحاكم 2/ 354، والبيهقى في الشعب (2416) من طريق جرير به.
(4)
أخرجه النسائي في الكبرى (11276)، والحاكم 2/ 355، والبيهقى في الشعب (2417) من طريق إسرائيل به، وأخرجه الطحاوى في المشكل 3/ 247، والنسائى (915) من طريق أبى إسحاق به.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: هي السبعُ
(1)
الطُّوَلُ؛ البقرةُ، وآلُ عمرانَ، والنساءُ، والمائدةُ، والأنعامُ، والأعرافُ، ويونسُ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . قال: البقرةُ، وآلُ عِمرانَ، والنساءُ، والمائدةُ، والأنعامُ، والأعرافُ، ويونسُ، فيهنَّ الفرائضُ والحدودُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن شعبةَ، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ بنحوِه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن ابن أبي خالدٍ، عن خوَّاتٍ، عن سعيدِ بن جبيرِ، قال: السبعُ الطُّوَلُ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال أبو بشرٍ، أخبَرنا عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: هنَّ السبعُ الطُّوَلُ. قال: وقال مجاهدٌ: هن السَّبْعُ الطُّوَلُ. قال: ويقالُ: هنَّ القرآنُ العظيمُ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: البقرةُ، وآلُ عِمرانَ، والنساءُ،
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 118، والبيهقى في الشعب (2418) من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (181) من طريق جعفر أبى بشر به، بزيادة: عن ابن عباس في أوله.
والمائدةُ، والأنعامُ، والأعرافُ، ويونسُ، تُثْنَى فيها الأحكامُ والفرائضُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدِ
(1)
بن الصبَّاحِ، قال: ثنا هشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: هن السَّبْعُ الطُّوَلُ.
حدثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا سعيدُ بنُ منصورٍ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: البقرةُ، وآلُ عِمرانَ، والنساءُ، والمائدةُ، والأنعامُ، والأعرافُ، ويونسُ. قال: قلت له
(2)
: ما المثانى؟ قال: يُثْنَى فيهنَّ القضاءُ والقَصَصُ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن مسلمٍ البَطينِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . قال: البقرةُ، وآلُ عِمرانَ، والنساءُ، والمائدةُ، والأنعامُ، والأعرافُ، [ويونسُ]
(3)
.
حدثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: السَّبْعُ الطُّوَلُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ القرشيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
(1)
بعده في ص: "قال حدثنا محمد". وينظر تهذيب الكمال 6/ 310.
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: ص.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ البطينِ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعت لَيْثًا، عن مجاهدٍ، قال: هي السَّبْعُ الطُّوَلُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، [قال: حدَّثنا محمدُ]
(1)
بنُ عبيدٍ
(2)
، قال: ثنا عبدُ الملكِ، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: هي السَّبْعُ الطُّوَلُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . قال: مِن القرآنِ السَّبْعُ الطُّوَلُ، السبْعُ الأُوَلُ
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا شبابةُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ وابنُ نُمَيرٍ، عن عبدِ الملكِ، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ، قال: هنَّ السَّبْعُ الطُّوَلُ.
حدَّثنا محمد بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن مَعمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: السَّبْعُ الطُّوَلُ.
(1)
سقط من: م. وينظر تهذيب الكمال 6/ 310، 18/ 324.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"عبيد الله". وينظر تهذيب الكمال 26/ 54.
(3)
تفسير مجاهد ص 418، ومن طريقه البيهقى في الشعب (2419)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى آدم بن أبى إياس وابن أبي شيبة وابن المنذر.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن نُميرٍ، عن سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بن عثمانَ بن خُثَيمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: هي الأمثالُ والخبَرُ والعِبَرُ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نميرٍ، عن إسماعيلَ، عن خوَّاتٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: هي السَّبْعُ الطُّوَلُ، أُعْطِى موسى ستًّا، وأُعْطِى محمدٌ صلى الله عليه وسلم سبعًا.
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} : يعنى السَّبْعَ الطُّوَلَ
(2)
.
وقال آخرون: عنَى بذلك سبعَ آياتٍ، وقالوا: هن آياتُ فاتحةِ الكتابِ؛ لأنهنَّ سبعُ آياتٍ.
وهم أيضًا مختلِفون في معنى المثانى؛ فقال بعضُهم: إنما سُمَّين مثانَى؛ لأنهنَّ يُثْنَيْنَ في كلِّ ركعةٍ مِن الصلاةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: أخبَرنا ابن عُلَيةَ، عن سعيدٍ الجُرَيْريِّ، عن أبي نَضْرةَ، قال: قال رجلٌ منا يقالُ له: جابرٌ أو جُوَيبرٌ: طلَبتُ إلى عمرَ حاجةً في خلافتِه، فقَدِمتُ المدينةَ ليلًا، فمثَلْتُ بينَ أن أتَّخِذَ منزلًا وبينَ المسجدِ، فاخْتَرتُ المسجدَ منزلًا. فأرِقْتُ
(3)
نَشْوًا
(4)
مِن آخرِ الليلِ، فإذا إلى جنبى رجلٌ يُصَلِّي، يَقْرَأُ بأمِّ
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (2422) من طريق محمد بن العلاء أبى كريب، عن يحيى بن يمان، عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 464.
(3)
في ص: "فورقت"، وفى ت 2:"فدرقت"، وفى ف:"فررقت".
(4)
في ت 1: "نسوا".
الكتابِ، ثم يُسَبِّحُ قدرَ السورةِ، ثم يَرْكَعُ ولا يَقْرَأُ. فلم أعرِفْه حتى جهَر، فإذا هو عُمرُ، فكانت في نفسى، فغدَوت عليه، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين، حاجةٌ مع حاجةٍ. قال: هاتِ حاجتَك. قلت: إنى قدِمت ليلًا فَمَثَلْتُ بينَ أن أتخِذَ منزلًا وبينَ المسجدِ، فاخْتَرتُ المسجدَ، فأَرِقْتُ
(1)
نَشْوًا
(2)
مِن آخِرِ الليلِ، فإذا إلى جنبى رجلٌ يَقْرَأُ بأمِّ الكتابِ، ثم يُسَبِّحُ قَدرَ السورةِ، ثم يَرْكَعُ ولا يَقْرَأُ، فلم أعرِفه حتى جهَر، فإذا هو أنت، وليس كذلك نَفْعَلُ قِبَلَنا. قال: وكيف تَفْعَلون؟ قال: يَقْرَأُ أَحدُنا أُمَّ الكتابِ، ثم يَفْتَتِحُ السورةَ فيَقْرَؤها. قال: ما لهم يعلَمون ولا يعمَلون، ما لهم يعلَمون ولا يعمَلون، ما لهم يعلَمون ولا يعمَلون؟ وما تَبْغِى عن السبعِ المثانى وعن التسبيحِ صلاةِ الخلقِ
(3)
.
حدَّثني طَليقُ
(4)
بنُ محمدٍ الواسطيُّ، قال: أخبَرنا يزيدُ، عن الجُرَيْريِّ، عن أبي نَضرةَ، عن جابرٍ أو جُويْبرٍ، عن عُمَرَ بنحوِه، إلا أنه قال: فقال: يَقْرَأُ القرآنَ ما تيسَّر أحيانًا، ويُسَبِّحُ أحيانًا - مالهم رغبةٌ عن فاتحةِ الكتابِ، وما يُبْتَغَى بعدَ المثانى، وصلاةُ الخلقِ التسبيحُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يَحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّديِّ، عن عبدِ خيرٍ: عن عليٍّ، قال: السبعُ المثانى فاتحةُ الكتابِ
(5)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، عن الحسنِ بن صالحٍ وسفيانَ، عن السديِّ، عن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ مثلَه.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فورقت".
(2)
في ص: "نسرا"، وفى ت 1، ت 2، ف:"نشرا".
(3)
ذكره ابن كثير في مسند الفاروق مختصرا بدون القصة 2/ 594 من طريق أبى نضرة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى المصنف وابن المنذر، وليس عندهما ذكر القصة.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"طلق". وينظر تهذيب الكمال 13/ 464.
(5)
تفسير سفيان ص 161، ومن طريقه الطحاوى في المشكل 3/ 247، والبيهقى في الشعب (2353)، وأخرجه ابن الضريس في فضائله (154)، والدارقطنى، 1/ 313، والبيهقى 2/ 45 من طريق السدى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى الفريابى وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ مثلَه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، جميعًا عن سفيانَ، عن السديِّ، عن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ مثلَه.
حدَّثنا أبو كريبٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، قال: ثنا هشامٌ، عن ابن سيرينَ، قال: سُئل ابن مسعودٍ عن سبعٍ مِن المثانى، قال: فاتحةُ الكتابِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: أخبَرنا يونسُ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ. قال: وقال ابن سيرينَ، عن ابن مسعودٍ: هي فاتحةُ الكتابِ
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عَونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن يونسَ، عن ابن سيرينَ، عن ابن مسعودٍ:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ.
حدَّثني سعيدُ بنُ يَحيى الأُمويُّ، قال: ثنى أبى، قال: ثنا ابن جريجٍ، قال: أخبرنا أبى، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ أنه قال في قولِ اللهِ تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: هي فاتحةُ الكتابِ. فقرَأها عليَّ ستًّا، ثم قال:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآيةُ السابعةُ. قال سعيدٌ: وقرَأها ابن عباسٍ عليَّ كما قرَأتُها
(3)
عليك، ثم قال: الآيةُ السابعةُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
(1)
أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (153) من طريق ابن سيرين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف.
(3)
في النسخ: "قرأها" والمثبت من مصادر التخريج.
الرَّحِيمِ}. فقال ابن عباسٍ: قد أخرَجها اللهُ لكم، وما أخرَجها لأحدٍ قبلكم
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرنى ابن جُريجٍ، أن أباه حدَّثه، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: قال لى ابن عباسٍ فاستَفتَح بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ثم قرَأ فاتحةَ الكتابِ، ثم قال: تَدْرى ما هؤلاء
(2)
؟ {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} .
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . يقولُ: السبعُ آياتٍ
(3)
: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والقرآنُ العظيمُ. ويقالُ: هنَّ السبعُ الطُّوَلُ، وهن المِئون.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جريجٍ، عن أبيه، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: فاتحةُ الكتابِ.
حدَّثني عِمْرانُ بنُ موسى القزازُ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ سُوَيدٍ، عن يحيى بن يَعْمَرَ وعن أبي فاختةَ في هذه الآية:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . قالا: هي أمُّ الكتابِ
(4)
.
(1)
أخرجه الشافعي (222)، وعبد الرزاق في المصنف (2609) وفى تفسيره 1/ 350، وأبو عبيد في الفضائل ص 118، وابن المنذر في الأوسط (1351)، والطحاوى في المشكل (1210)، والحاكم 2/ 257، والبيهقى 2/ 44، 47،45، 48، وفى الشعب (2321)، وفى المعرفة (699)، وابن عبد البر في التمهيد 20/ 212 من طريق ابن جريج به، وأخرجه الطبراني في الكبير (11700) من طريق عكرمة عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 104، 105 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في م: "هذا".
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (147) من طريق عبد الوارث به.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن السديِّ، عمَّن سمِع عليًّا يقولُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : هي السبعُ المثانى.
حدَّثنا ابن
(1)
المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ العلاءَ بنَ عبدِ الرحمنِ، يحدِّثُ عن أبيه، عن أبيِّ بن كعبٍ أنه قال: السبعُ المثانى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ في قولِ اللهِ تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ سبعُ آياتٍ. قلتُ للربيعِ: إنهم يقولون: السبعُ الطُّوَلُ. فقال: لقد أُنْزِلت هذه وما نزَل
(3)
من الطُّوَلِ شيءٌ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ، قال: فاتحةُ الكتابِ. قال: وإنما سمِّيت المثانىَ لأنه يُثْنَى بها، كلما قرَأ القرآنَ قرَأها. فقيل لأبى العاليةِ: إن الضحاكَ بنَ مُزاحِمٍ يقولُ: هي السبعُ الطُّوَلُ. فقال: لقد نزَلت هذه السورة {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} وما أنزِل شيءٌ من الطُّوَلِ.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبيه، عن سعيدٍ بن جبيرٍ، قال: فاتحةُ الكتابِ
(5)
.
(1)
في النسخ: "أبو". وهو إسناد دائر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف.
(3)
في م: "أنزل".
(4)
أخرجه البيهقى في الشعب (2420) من طريق أبى جعفر الرازى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (159) من طريق ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد به.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، و
(1)
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، جميعًا عن سفيانَ، عن الحسنِ [عبيدِ اللهِ]
(2)
، عن إبراهيمَ، قال: فاتحةُ الكتابِ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الحسنِ بن عبيدِ اللهِ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمَانٍ، وحدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، وحدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، جميعًا عن هارونَ بن أبى إبراهيمَ البربريِّ، عن عبدِ اللهِ بن عُبيدِ بن عُميرٍ، قال: السبعُ مِن المثانى: فاتحةُ الكتابِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مُلَيْكَةَ:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ. قال: وذِكْرُ فاتحةِ الكتابِ لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم، لم تُذْكَرْ لنبيٍّ قبلَه
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن لَيْثٍ، عن شهرِ بن حَوْشَبٍ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ
(5)
.
حدَّثني [محمودُ بنُ خِداشٍ]
(6)
، قال: ثنا محمدُ بنُ عُبيدٍ، قال: ثنا هارونُ البَرْبرِيُّ، عن عبدِ اللهِ بن عبيدِ بن عميرٍ الليثيِّ في قولِ اللهِ تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: هي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
(1)
في ص، ف:"قال".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عبد". وينظر تهذيب الكمال 6/ 199.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 465.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 465.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 465.
(6)
في ص، ف:"محمد بن حداس"، وفى م: محمد بن أبى خداش". والمثبت كما تقدم في 1/ 174. وينظر تهذيب الكمال 27/ 298.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي رجاءٍ، قال: سأَلتُ الحسنَ عن قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . قال: هي فاتحةُ الكتابِ. ثم سُئل عنها وأنا أسمَع، فقرَأها {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتى على آخِرِها، فقال: تُثْنَى في كلِّ قراءةٍ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: فاتحةُ الكتابِ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: فاتحةُ الكتابِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} : ذُكِر لنا أنهن فاتحةُ الكتابِ، وأنهن يُثْنَين في كلِّ قراءةٍ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ تُثْنَى في كلِّ ركعةٍ مكتوبةٍ وتطوُّعٍ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ وحجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: أخبَرنى أبى، عن سعيدِ بن جبيرٍ، أنه أخبَره أنه سأَل ابنَ عباسٍ عن السبعِ المثانى، فقال: أمُّ القرآنِ. قال سعيدٌ: ثم قرَأها، وقرَأ منها:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قال أبى: قرَأها سعيدٌ كما قرَأها ابن عباسٍ، وقرَأ فيها:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (155) من طريق منصور، عن مجاهد.
(3)
أخرجه ابن الضريس في فضائله (151) من طريق يزيد به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 349، 350 عن معمر به.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . قال سعيدٌ: قلتُ لابنِ عباسٍ: فما المثانى؟ قال: هي أمُّ القرآنِ، استَثْناها اللهُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فرفَعها في أمِّ الكتابِ، فدَخَرها
(1)
لهم حتى أخرَجها لهم، ولم يُعْطَها أحدٌ
(2)
قبلَه. قال: قلتُ لأبى: أخبَرك سعيدٌ أن ابنَ عباسٍ قال له: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيةٌ مِن القرآنِ؟ قال: نعم. قال ابن جريجٍ: قال
(3)
عطاءٌ: فاتحةُ الكتابِ، وهى سبعٌ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، والمثانى القرآنُ
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عطاءٍ أنه قال: السبعُ المثانى أمُّ القرآنِ
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنى يحيى بنُ واضِحٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ العَتَكيُّ، عن خالدٍ الحنَفيِّ قاضى مَرْوَ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال: فاتحةُ الكتابِ.
وقال آخرون: عنَى بالسبعِ المثانى معانِىَ القرآنِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بن حبيبِ بن
(6)
الشهيدِ الشَّهيديُّ، قال: ثنا عتَّابُ بن بَشيرٍ، عن خُصَيفٍ، عن زيادِ بن أبى مريمَ في قولِه:{سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} . قال:
(1)
في م: "فذخرها".
(2)
في م: "لأحد".
(3)
في ص، ف:"وقال".
(4)
أخرجه الضياء المقدسى في الأحاديث المختارة 10/ 226 من طريق حماد بن زيد وحجاج به، وينظر ما تقدم في ص 114، 115.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 350 عن ابن جريج، عن عطاء.
(6)
سقط من: م.
أعْطَيْتُك سبعةَ أجزاءٍ؛ مُرْ، وأنْهَ، وبَشِّرْ، وأنْذِرُ، وأضْرِبِ الأمثالَ، واعْدُدِ النعمَ، وآتَيْتك نَبَأَ القرآنِ
(1)
.
وقال آخرون مِن الذين قالوا: عنَى بالسبعِ المثانى فاتحةَ الكتابِ: المثانى هو القرآنُ العظيمُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عِمرانُ بنُ عيينةَ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ، قال: القرآنُ كلُّه مثانى
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ، قال: القرآنُ كلُّه مثانى.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا عُبَيدٌ أبو زيدٍ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ، قال: القرآنُ مثانى. وعَدَّ البقرةَ، وآلَ عمرانَ، والنساءَ، والمائدةَ، والأنعامَ، والأعرافَ، وبراءةَ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ، وعن ابن طاوسٍ، عن أبيه، قال: القرآنُ كلُّه يُثْنَى
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: المثانى ما ثُنِى مِن القرآنِ، ألم تَسْمَعْ لقولِ
(4)
اللهِ تعالى
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (2421) من طريق عتاب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف وابن أبي شيبة، وابن المنذر.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 350 فيه معمر عن ابن أبي نجيح.
(4)
في ص، ف:"بقول".
ذكرُه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}
(1)
[الزمر: 23].
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعت الضحاكَ يقولُ: المثانى القرآنُ، يَذْكُرُ اللهُ القصةَ الواحدةَ مِرارًا، وهو قولُه:{نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عنَى بالسبعِ المثانى
(3)
السبعَ اللواتى هنَّ آياتُ أمِّ الكتابِ؛ لصحةِ الخبرِ بذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي حدَّثنيه يزيدُ بنُ مَخْلَدِ بن خِدَاشٍ الواسطيُّ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، عن عبدِ الرحمنِ بن إسحاقَ، عن العلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أمُّ القرآنِ السبعُ المثانى التي أُعْطِيتُها"
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ المِقدامِ العِجْليُّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ القاسمِ، [عن العلاءِ]
(5)
، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لأُبَيٍّ:"إنى أُحِبُّ أَن أُعَلِّمَك سورةً لم ينزِلْ في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزبورِ، ولا في الفرقانِ مثلُها". قال: نعم يا رسولَ اللهِ. قال: إنى لأرْجُو ألا تَخْرُجَ مِن هذا البابِ حتى تَعْلَمَها. ثم أخَذ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدى يُحَدِّثُنى، فجعَلتُ أتَباطَأُ
(6)
مخافةَ أن يَبْلُغَ البابَ قبلَ أن يَنْقضىَ الحديثُ، فلما دنَوتُ قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ما السورةُ التي وعَدْتَنى؟ قال:"ما تَقْرَأُ في الصلاةِ؟ ". فقرَأتُ عليه أمَّ القرآنِ، فقال: "والذي
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"الآيات".
(4)
أخرجه أبو يعلى (6531) من طريق خالد بن عبد الله الواسطى به.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(6)
في ص، ف:"أتباطأه".
نفسى بيَدِه ما أُنْزِل في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في الفرقانِ مثلُها، إنها السَّبْعُ مِن المثانى والقرآنُ العظيمُ الذي أُعْطِيتُه"
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ العُكْليُّ، قال: ثنا مالكُ بنُ أنسٍ، قال: أخبرني العلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن يعقوبَ مولَى الحُرَقةِ
(2)
، عن أبي سعيدٍ مولى عامرِ بن فلانٍ، أو ابن فلانٍ، عن أبيِّ بن كعبٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال له:"إذا افتَتحتَ الصلاةَ بم تَفْتَتِحُ؟ ". قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حتى ختَمها، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هي السبعُ المثانى، والقرآنُ العظيمُ الذي أُعطِيتُ"
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن عبدِ الحميدِ بن جعفرٍ، عن العلاءِ بن عبدِ الرحمنِ بن يعقوبَ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، عن أُبَيٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألا أُعَلِّمُك سورةً ما أُنْزِل في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في القرآنِ
(4)
"مثلُها". قلتُ: بلى. قال: "إنى لأرْجُو ألا تَخْرُجَ مِن ذلك البابِ حتى تَعْلَمَها". فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقمْتُ معه، فجعَل يُحَدِّثُنى ويدى في يدِه، فجعَلتُ أتباطَأُ كراهيةَ أن يَخْرُجَ قبلَ أن يُخبِرَنى بها، فلما قَرُب مِن البابِ قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، السورةَ التي وعَدْتَنى. قال:"كيف تَقْرَأُ إِذا افتَتَحْتَ الصلاةَ؟ ". قال: فقرَأتُ
(5)
فاتحةَ الكتابِ. قال: "هي هي، وهى السَّبْعُ المثانى التي قال اللهُ تعالى:
(1)
تقدم تخريجه في 11/ 106.
(2)
في م: "لعروة". وينظر تهذيب الكمال 18/ 18.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 83، ومن طريقه أبو عبيد في الفضائل ص 117، والحاكم 1/ 557، والبيهقى في القراءة خلف الإمام (107).
(4)
في م: "الفرقان".
(5)
في ص، م:"فقرأ".
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} والقرآنُ العظيم الذي أُوتِيتُ"
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن إبراهيمَ بن الفضلِ المدنِّى، عن سعيدٍ المَقْبُريِّ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"الركعتان اللتان لا يُقْرَأُ فيهما كالخِدَاجِ لم يَتِمَّا"
(2)
. قال رجلٌ: أرَأَيتَ إن لم يكنْ معى إلا أمُّ القرآنِ؟ قال: "هي حَسْبُك، هي أمُّ القُرآنِ، هي السبعُ المثانى".
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن نميرٍ، عن إبراهيمَ بن الفضلِ، عن المَقْبُريِّ، عن أبى هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الركعةُ التي لا يُقْرَأُ فيها كالخِداجِ". قلتُ لأبى هريرةَ: فإنْ لم يَكُنْ معى إلا أمُّ القرآنِ؟ قال: هي حسبُك، هي أمُّ الكتابِ، وأمُّ القرآنِ، والسبعُ المثانى.
حدَّثني أبو كريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، عن محمدِ بن جعفرٍ، عن العلاءِ بن عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسى بيدِه، ما أُنْزِل
(3)
في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في القرآنِ
(4)
مثلُها" يعنى أمَّ القرآنِ "وإنها لهى السبعُ المثانى التي
(5)
آتانى اللهُ تعالى"
(6)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرَنى ابن أبى
(1)
أخرجه الدارمى 2/ 446، والحاكم 1/ 557، والبيهقى في الشعب (2348)، وفى القراءة خلف الإمام (103)، وابن عبد البر في التمهيد 20/ 219 من طرق عن أبي أسامة به، وأخرجه أحمد (8682)، والترمذى (3125)، وأبو يعلى (6482)، والطحاوى في المشكل (1209)، والبغوى في شرح السنة (1186) من طرق عن إسماعيل بن جعفر به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يتم".
(3)
بعده في م: "الله".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"الفرقان".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الذي".
(6)
تقدم تخريجه في 11/ 107.
ذئبٍ، عن سعيدٍ المقبُريِّ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"هي أمُّ القرآنِ، وهى فاتحةُ الكتابِ، وهى السبعُ المثانى"
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ وشبابةُ، قالا: أخبرَنا ابن أبى ذئبٍ، عن المَقْبُريِّ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فاتحةِ الكتابِ، قال:"هي فاتحةُ الكتابِ، وهى السَّبْعُ المثانى، والقرآنُ العظيمُ"
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا عفانُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا العلاءُ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: مَرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أُبيِّ بن كعبٍ فقال: "أتُحِبُّ أن أعَلِّمَك سورةً لم يَنْزِلَ في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في الفرقانِ مثلُها؟ " قلتُ: نعم يا رسولَ اللَّهِ. قال: "فكيف تَقرأُ في الصلاةِ؟ ". فقرَأتُ عليه أمَّ الكتابِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسى بيدِه ما أُنزلت سورةٌ في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزَّبورِ، ولا في الفرقانِ
(3)
مثلُها، وإنها السبعُ المثانى والقرآنُ العظيمُ"
(4)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا [شعبةُ، عن خُبَيبٍ]
(5)
، عن حفصِ بن عاصمٍ، عن أبي سعيدِ بن المعلَّى، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعاه وهو يُصَلِّى، فصلَّى ثم أتاه فقال:"ما منَعك أن تُجيبَنى؟ " قال: إنى كنتُ أصلِّى. قال: "ألم يَقُلِ اللَّهُ:
(1)
أخرجه الدارمى 2/ 446، وأحمد (9788، 9790)، والبخارى (4704)، وأبو داود (1457)، والترمذى (3124)، والطحاوى في المشكل (1210)، والبيهقى 2/ 376، والبغوى في شرح السنة (1187) من طرق عن ابن أبي ذئب به.
(2)
أخرجه أحمد (9788) عن يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب به.
(3)
في ص، ف:"القرآن".
(4)
أخرجه أحمد (9345) عن عفان به.
(5)
في ص: "سعد بن حبيب"، وفى م، ف:"سعيد بن حبيب". والمثبت من مصادر التخريج.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} " [الأنفال: 24]. قال: ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأُعَلِّمَنَّك أعظمَ سورةٍ في القرآنِ". فكأنه بيَّنَها أو نسِىَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، الذي قلتَ؟ قال: "{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبعُ المثانى، والقرآنُ العظيمُ الذي أوتِيتُه"
(1)
.
فإذ كان الصحيحُ مِن التأويلِ في ذلك ما قلنا، للذى به استَشْهَدنا، فالواجبُ أن تكونَ المثانى مرادًا بها القرآنُ كلُّه، فيكونُ معنى الكلامِ: ولقد آتَيْناك سبعَ آياتٍ، مما يَثْنِى بعضُ آيِه بعضًا. وإذا كان ذلك كذلك، كانت المثانى جمعَ مَثْناةٍ، وتكونُ آىُ القرآنِ موصوفةً بذلك؛ لأن بعضَها يَثْنِى بعضًا، وبعضَها يَتْلو بعضًا
(2)
، بفصولٍ تَفْصِلُ بينَها، فيُعْرَفُ انقضاءُ الآيةِ وابتداءُ التي تليها، كما وصَفها به تعالى ذكرُه فقال:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
وقد يجوزُ أن يكونَ معناها كما قال ابن عباسٍ والضحاكُ ومن قال ذلك، أن القرآنَ إنما قيل له: مَثَانى. لأن القَصَصَ والأخبارَ كُرِّرت فيه مرَّةً بعدَ أُخرى. وقد ذكَرنا قولَ الحسنِ البصريِّ قبلُ
(3)
، أنها إنما سمِّيت مَثانَى؛ لأنها تُثْنَى في كلِّ قراءةٍ. وقولَ ابن عباس: إنها إنما سمِّيت مَثانَى؛ لأن الله تعالى ذكرُه استثْناها لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم دونَ سائرِ الأنبياءِ غيرِه، فدخَرها
(4)
له.
(1)
أخرجه الطحاوى في المشكل (1207) من طريق وهب بن جرير به.
وأخرجه الطيالسى (1362)، وأحمد (15730، 17851)، والبخارى (4474، 4647، 4703، 5006)، وأبو داود (1458)، والنسائى (912)، وابن ماجه (3785)، وابن حبان (777)، وغيرهم من طرق عن شعبة به.
(2)
في ف: "بعضها".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "فادخرها".
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يَزْعُمُ أنها سمِّيت مَثانَى؛ لأن فيها {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مرَّتين، وأنها تُثْنَى في كلِّ سورةٍ، يعنى:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
وأما القولُ الذي اخْتَرناه في تأويلِ ذلك، فهو أحدُ أقوالِ ابن عباسٍ، وهو قولُ طاوسٍ، ومجاهدٍ، وأبى
(1)
مالكٍ، وقد ذكَرنا ذلك قبلُ.
وأما قولُه: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . فإن "القرآنَ" معطوفٌ على "السبعِ"، بمعنى: ولقد آتَيْناك سبعَ آياتٍ مِن القرآنِ، وغيرَ ذلك مِن سائرِ القرآنِ. كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} . قال: سائرَه
(2)
. يعنى سائرَ القرآنِ، مع السبعِ مِن المثانى.
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} : يعنى الكتابَ كلَّه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه
(3)
صلى الله عليه وسلم: لا تَتَمَنَّينَّ يا محمدُ ما جعَلنا مِن زينةِ هذه الدنيا متاعًا للأغنياءِ مِن قومِك الذين لا يُؤْمِنون باللهِ واليومِ الآخرِ، يَتَمَتَّعون فيها، فإن مِنْ ورائِهم عذابًا غليظًا، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. يقولُ: ولا تَحْزَنْ على ما مُتِّعوا به،
(1)
في ص، ف:"ابن".
(2)
تفسير مجاهد ص 418.
(3)
بعده في م: "محمد".
فعُجِّل لهم، فإن لك في الآخرةِ ما هو خيرٌ منه، مع الذي قد عَجَّلنا لك في الدنيا مِن الكرامةِ، بإعطائِناك
(1)
السبعَ من
(2)
المثانى، والقرآنَ العظيمَ. يقالُ منه: مَدَّ فلانٌ عينَه إلى مالِ فلانٍ. إذا اشتَهاه وتمنَّاه وأراده.
وذُكِر لى
(2)
عن ابن عُيَيْنةَ أنه كان يَتَأَوَّلُ هذه الآيةَ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ليس منَّا مَن لم يَتَغَنَّ بالقرآنِ"
(3)
. أي: مَن لم يَسْتَغْنِ به
(4)
. ويقولُ: ألا تراه يقولُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . فأمَره بالاستغناءِ بالقرآنِ عن المالِ. قال: ومنه قولُه
(5)
الآخرُ: "مَن أُوتى القرآنَ فرأى أنَّ أحدًا أُعْطِىَ أفضل مما أُعْطِىَ، فقد عظَّم صغيرًا، وصغَّر عظيمًا
(6)
".
وبنحوِ الذي قلْنا في قولِه: {أَزْوَاجًا} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
(1)
في م: "بإعطائنا".
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه الحميدى (76)، وعبد الرزاق 2/ 483، وابن أبي شيبة 10/ 464، وأحمد (1549)، والدارمى 1/ 349، وأبو داود (1470)، والبزار (1234)، وأبو يعلى (748)، والحاكم 1/ 569، والبيهقى 10/ 230، من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن أبى نهيك، عن سعد بن أبى وقاص. وينظر مسند الطيالسى (198).
(4)
قال ابن كثير في تفسيره: وهو تفسير صحيح، ولكن ليس هو المقصود من الحديث. وينظر الفتح 8/ 68 وما بعدها.
(5)
في النسخ: "قول". والمثبت صواب السياق.
(6)
أخرجه ابن نصر في قيام الليل ص 72، والطبرانى - كما في المجمع 7/ 159 - من حديث عبد الله بن عمرو، مرفوعا وأخرجه ابن المبارك في الزهد (799) من حديث ابن عمرو، موقوفا. وأخرجه الخطيب 9/ 396 من حديث ابن عمر مرفوعًا. وعندهم إسماعيل بن رافع، وهو ضعيف. وينظر فضائل القرآن لأبى عبيد ص 53، ومعالم السنن 1/ 292.
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}: الأغنياءَ، الأمثالُ: الأشباهُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . قال: نُهِى الرجلُ أن يَتَمَنَّى مالَ صاحبِه
(2)
.
وقولُه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وألِنْ لمن آمَن بك، واتَّبعك، واتَّبع كلامَك، وقَرَّبْهم منك، ولا تَحِدَّ
(3)
بهم، ولا تغلُظْ عليهم. يأمرُه تعالى ذكرُه بالرفْقِ بالمؤمنين. والجناحان مِن بنى آدمَ جنباه، والجناحان الناحيتان، ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22]. قيل: إن
(4)
معناه: إلى ناحيتِك وجَنْبِك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وقُلْ يا محمدُ للمشركين: إنى أنا النذيرُ الذي قد أبان إنذارَه لكم مِن البلاءِ والعقابِ، أن يَنْزِلَ بكم مِن اللهِ، على تماديكم في غيِّكم، {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}. يقولُ: مثلَ الذي أَنْزَل اللهُ تعالى مِن البلاءِ والعقابِ، على الذين اقْتَسَموا القرآنَ فجعَلوه عِضِين.
(1)
تفسير مجاهد ص 418، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 105 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "تجف". وحدَّ يحِدّ حددًا: غضب. اللسان (ح د د).
(4)
سقط من: م.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في الذين عُنُوا بقولهِ: {الْمُقْتَسِمِينَ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به اليهودُ والنصارى. وقال: كان اقتسامُهم أنهم اقْتَسَموا القرآنَ وعَضَّوه، فآمَنوا ببعضِه وكفَروا ببعضِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عيسى بنُ عثمانَ الرمليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن أبى ظَبْيانَ، عن ابن عباسٍ في قولِ اللهِ:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: هم اليهودُ والنصارى، آمَنوا ببعضٍ وكفَروا ببعضٍ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: هم أهلُ الكتابِ، جزَّءوه، فجعَلوه أعضاءً أعضاءً، فآمَنوا ببعضِه وكفَروا ببعضِه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبى ظَيْبانَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: الذين آمَنوا ببعضٍ وكفَروا ببعضٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ، عن أبي
(1)
أخرجه البخارى (4706)، والحاكم (2/ 355) من طريق الأعمش به.
(2)
أخرجه البخارى (4705) عن يعقوب بن إبراهيم - وحده - به، وأخرجه أيضًا (3945) من طريق هشيم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى سعيد بن منصور والفريابى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
تفسير سفيان ص 161.
ظَبْيانَ، عن ابن عباسٍ، قال:{الْمُقْتَسِمِينَ} : أهلُ الكتابِ، {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}. قال: يُؤمِنون ببعضٍ ويَكْفُرون ببعضٍ.
حدَّثني مطرُ بنُ محمدٍ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ أنه قال في قولِه:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} . قال: هم أهلُ الكتابِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، أنه قال في هذه الآية:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: هم أهلُ الكتابِ، آمَنوا ببعضِه وكفَروا ببعضِه.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: هم أهلُ الكتابِ، جزَّءوه، فجعَلوه أعضاءً، فآمَنوا ببعضِه وكفَروا ببعضِه
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: جزَّءوه، فجعَلوه أعضاءً كأعضاءِ الجَزُورِ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن منصورٍ، عن الحسنِ، قال: هم أهلُ الكتابِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} . قال: هم اليهودُ والنصارَى من أهلِ الكتابِ، قَسَّموا الكتابَ فجعَلوه أعضاءً. يقولُ: أحزابًا، فآمَنوا ببعضٍ وكفَروا ببعضٍ.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 4/ 467 - معلقا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {الْمُقْتَسِمِينَ} : آمَنوا ببعضٍ وكفَروا ببعضٍ، وفرَّقوا الكتابَ.
وقال آخرون: المقتسمون أهلُ الكتابِ، ولكنهم سُمُّوا المقتسمين؛ لأن بعضَهم قال استهزاءً بالقرآنِ: هذه السورةُ لى. وقال بعضُهم: هذه لى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ أنه قال في هذه الآيةِ:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: كانوا يَسْتَهزئون؛ يقولُ هذا لى سورةُ "البقرةِ". ويقولُ هذا: لى سورةُ "آلِ عمرانَ".
وقال آخرون: هم أهلُ الكتابِ، ولكنهم قيل لهم: المقتسمون؛ لاقتسامِهم كتُبَهم، وتفريقِهم ذلك بإيمانِ بعضِهم ببعضِها، وكفرٍ
(1)
ببعضٍ، وكفرِ آخرين بما آمَن به غيرُهم، وإيمانِهم بما كفَر به الآخرون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ الملكِ، عن قيسٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: هم اليهودُ والنصارى، قسَّموا كتابَهم، ففرَّقوه وجعَلوه أعضاءً.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنى الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ،
(1)
في م: "كفره".
قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} . قال: أهلُ الكتابِ، فرَّقوه وبدَّدوه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} . قال: أهلُ الكتابِ.
وقال آخرون: عُنِى بذلك رهطٌ مِن كفارِ قريشٍ بأعيانِهم.
[ذكرُ مَن قال ذلك]
(2)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} : رهطٌ خمسةٌ من قريشٍ، عَضَّوا
(3)
كتابَ اللهِ
(4)
.
وقال آخرون: عُنِى بذلك رهطٌ
(5)
من قومِ صالحٍ، الذين تَقَاسموا على تبييتِ صالحٍ وأهلِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} . قال: الذين تقاسَموا بصالحٍ. وقرَأ قولَ اللهِ تعالى:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"بدلوه".
والأثر في تفسير مجاهد ص 419.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، م، ت 2، ف:"عضهوا".
(4)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 354.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا
(1)
تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل: 48، 49]. [حتى بلَغ]
(2)
الآيةَ.
وقال بعضُهم: هم قومٌ اقتَسَموا طُرُقَ مكةَ أيامَ قدومِ الحاجِّ عليهم، كان أهلُها بعَثوهم في عِقابِها
(3)
، وتقدَّموا إلى بعضِهم أن يُشِيعَ في الناحيةِ التي توجَّه إليها لمن قد
(4)
سأَله عن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن القادمين عليهم، أن يقولَ: هو مجنونٌ. وإلى آخرَ: إنه شاعرٌ. وإلى بعضِهم: إنه ساحرٌ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يُقالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه أمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ قومَه الذين عَضَّوُا القرآنَ ففرَّقوه، أنه نذيرٌ لهم مِن سَخَطِ اللَّهِ تعالى وعُقوبتِه؛ أن يَحُلَّ بهم على كفرِهم ربَّهم، وتكذيبِهم نبيَّهم، ما حلَّ بالمُقْتَسِمين مِن قبلِهم ومنهم.
وجائزٌ أن يكونَ عُنِى بالمُقْتَسِمين أهلُ الكتابين؛ التوراةِ والإنجيلِ؛ لأنهم اقْتَسَموا كتابَ اللَّهِ، فأقرَّت اليهودُ ببعضِ التوراةِ، وكذَّبت ببعضِها، وكذَّبت بالإنجيلِ والفرقانِ، وأقرَّت النصارى ببعضِ الإنجيلِ، وكذَّبت ببعضِه وبالفرقانِ.
وجائزٌ أن يكونَ عُنِىَ بذلك المشركون مِن قريشٍ؛ لأنهم اقْتَسموا القرآنَ، فسمَاه بعضُهم شعرًا، وبعضٌ كَهانةً، وبعضٌ أساطيرَ الأوّلين.
وجائزٌ أن يكونَ عُنِى به الفريقان.
وممكنٌ أن يَكُونَ عُنِىَ به المُقْتَسِمون على صالحٍ مِن قومِه.
(1)
في م: "قال".
(2)
في ت 1: "لنبيتنه وأهله". ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 467.
(3)
العقَبة: طريق في الجبل وعرٌ، والجمع: عَقَب وعِقاب. اللسان (ع ق ب).
(4)
سقط من: م، وفى ص، ت 2، ف:"عر".
فإذ لم يكنْ في التنزيلِ دلالةٌ على أنه عُنِى به أحدُ الفرقِ الثلاثةِ دون الآخرَين، ولا في خبرٍ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا في فطرةِ عقلٍ، وكان ظاهرُ الآيةِ مُحْتَمِلًا ما وصفْتُ - وجَب أن يكونَ مَقْضِيًّا بأنّ كلَّ مَن اقْتَسم [كتابًا للَّهِ]
(1)
، بتكذيبِ بعضٍ وتصديقِ بعضٍ، واقْتَسَم على معصيةٍ للَّهِ
(2)
، ممن حلَّ به عاجلُ نقمةِ اللَّهِ في الدارِ الدنيا قبل
(3)
نزولِ هذه الآيةِ، فداخلٌ في ذلك؛ لأنهم لأشكالِهم مِن أهلِ الكفرِ باللَّهِ كانوا عِبْرةً، وللمتعظين بهم منهم عِظَةً.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: الذين جعَلوا القرآنَ فِرَقًا مُفْتَرِقةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: فرَقًا
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرَنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: جزَّءوه فجعَلوه أعضاءً، فآمنوا ببعضِه وكفروا ببعضِه
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن
(1)
في ت 2: "كتاب اللَّهُ".
(2)
في م: "اللَّهُ".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مثل".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف.
(5)
تقدم تخريجه في ص 129.
الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: جزَّءوه فجعَلوه أعضاءً كأعضاءِ
(1)
الجزورِ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا طلحةُ، عن عطاءٍ:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: المشركون مِن قريشٍ، عَضَّوُا القرآن فجعَلوه أجزاءً، فقال بعضُهم: ساحرٌ. [وقال بعضُهم: شاعرٌ]
(3)
. وقال بعضُهم: مجنونٌ. فذلك العِضُون
(4)
.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرَنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} : جعلوا كتابَهم أعضاءً كأعضاءِ الجزورِ، وذلك أنهم تقَطَّعوه
(5)
زُبُرًا، كلُّ حزبٍ بما لديهم فَرِحون، وهو قولُه:{فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 32].
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} : عضَهُوا كتاب اللَّهِ؛ زعَم بعضُهم أنه سِحْرٌ، وزعَم بعضُهم أنه شِعْرٌ، وزعم بعضُهم أنه كاهنٌ - قال أبو جعفرٍ: هكذا قال: كاهنٌ. وإنما هو: كهانةٌ - وزعَم بعضُهم أنه أساطيرُ الأوَّلين.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن أبي ظبيانَ، عن ابن عباسٍ: {الَّذِينَ
(6)
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}. قال: آمَنوا ببعضٍ وكفَروا ببعضٍ
(7)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"كأجزاء".
(2)
تقدم تخريجه في ص 130.
(3)
سقط من: ص، ت، ت 1، ف.
(4)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 4/ 467.
(5)
في ص: "تقطعوهن"، وفى ت 1، ت 2:"يقطعوهن".
(6)
في النسخ: "الذي"، وصواب القراءة ما أثبتنا.
(7)
أخرجه الحاكم 2/ 355 من طريق جرير به. وينظر ما تقدم في ص 129.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: جعَلوه أعضاءً، كما تُعَضَّى الشاةُ؛ قال بعضُهم: كَهانةٌ. وقال بعضُهم: هو سحرٌ. وقال بعضُهم: هو
(1)
شِعْرٌ. وقال بعضُهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} الآية [الفرقان: 5]. جعَلوه أعضاءً كما تُعَضَّى الشاةُ.
فوجَّه قائلو هذه المقالةِ قولَه: {عِضِينَ} . إلى أن واحدَها عُضْوٌ، وأن عِضِينَ جمعُه، وأنه مأخوذٌ مِن قولِهم: عَضَّيتُ الشيءَ تَعْضِيةً، إذا فرَّقتَه. كما قال رُؤْبةُ
(2)
:
وليس دينُ اللَّهِ بالمعَضَّى
يعني: بالمفرَّقِ. وكما قال الآخَرُ:
وعضَّى بنى عَوْفٍ فَأَمَّا عَدُوَّهُمْ
…
فأرْضى وأمَا العزَّ منهمْ فغبَّرا
(3)
يعنى بقولِه: وعضَّى: سبَّاهم وقطَّعاهم بألسنتِهما
(4)
.
وقال آخرون: بل هي جمعُ عِضَةٍ، جُمِعت
(5)
عِضِين كما جُمِعت البُرَةُ بُرِين، والعِزَةُ عِزِين. فإذا وُجِّه ذلك إلى هذا التأويلِ، كان أصلُ الكلمةِ
(6)
عِضَهَةً، ذهَبت هاؤُها الأصليةُ
(7)
، كما نقَصُوا الهاءَ مِن الشَّفَةِ وأصلُها شَفَهَةٌ، ومِن الشاةِ
(1)
سقط من: م.
(2)
ديوانه ص 81.
(3)
في م: "فغيرا"، وعزّ أغبر: ذاهب دارس. اللسان (غ ب ر).
(4)
كذا في النسخ بالإسناد إلى المثنى، وعضَّى وأرضى مسندان إلى المفرد، ولعل سبب ذلك الألف في "فغبرا" وهي لإطلاق القافية.
(5)
في ص، ف:"جمع".
(6)
في م: "الكلام".
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الأصل".
وأصلُها شاهةٌ. يَدُلُّ على أنَّ ذلك الأصلَ تصغيرُهم الشَّفَةَ شُفَيْهَةً، والشاةَ شُوَيْهةً، فيَرُدُّون الهاءَ التي تَسْقُطُ في غيرِ حالِ التصغيرِ إليها في حالِ التصغيرِ، يقالُ منه: عَضَهْتُ الرجلَ أعْضَهُه عَنْهًا. إذا بَهَتَّه، وقَذَفْتَه ببُهتانٍ.
وكأن تأويلَ مَن تأوَّل ذلك كذلك: الذين عَضَهُوا القرآنَ، فقالوا: هو سِحْرٌ، أو هو شعرٌ. نحوَ
(1)
القولِ الذي ذكَرناه عن قتادةَ.
وقد قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ: إنه إنما عَنَى بالعَضْهِ في هذا الموضعِ نسبتَهم إياه إلى أنه سِحْرٌ خاصةً، دونَ غيرِه مِن معاني الذمَّ، كما قال الشاعرُ
(2)
:
للماء مِن عِضاتِهن زمْزَمَهْ
(3)
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا ابن عيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: سحرًا
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{عِضِينَ} . قال: عَضَهُوه وبَهَتُوه
(5)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: كان عكرمةُ يقولُ: العَضْهُ السحرُ بلسانِ قريشٍ، تقولُ للساحرةِ: إنها
(6)
(1)
في ص: "عر"، وفى ت 1:"بخبر"، وفى ت 2:"فخبر"، وفى ف:"يخبر".
(2)
التبيان 6/ 354.
(3)
الزمزمة: صوت خفى لا يكاد يفهم. اللسان (ز م م).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 350، 351 عن معمر به.
(6)
في ف: "أيها".
العاضِهَةُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاءَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال: سِحْرًا، أعضاءً، الكتبَ كلَّها، وقريشٌ فرَّقوا القرآنَ، قالوا: هو سحرٌ
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه أمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ قومًا عَضَهُوا القرآنَ، أنه لهم نذيرٌ مِن عقوبةٍ تَنْزِلُ بهم بعَضْهِهم
(3)
إياه، مثلِ ما أَنْزَلَ بالمقتسمين، وكان عَضُهُهم إياه قذفَهُمُوه بالباطلِ، وقيلَهم: إنه شعرٌ وسحرٌ. وما أشبَه ذلك.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى التأويلاتِ به. لدَلالةِ ما قبلَه مِن ابتداءِ السورةِ وما بعدَه، وذلك قولُه:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . على صحةِ ما قلنا، وأنه إنما عَنَى بقولِه:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . مشرِكى قومِه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه لم يكنْ في مُشرِكى قومِه مَن يُؤْمِنُ ببعضِ القرآنِ ويَكْفُرُ ببعضٍ، بل إنما كان قومُه في أمْرِه على أحدِ معنيين؛ إما مؤمِنٌ بجميعِه، وإما كافرٌ بجميعِه. وإذ كان ذلك كذلك، فالصحيحُ مِن القولِ في معنى قولِه:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قولُ الذين زعَموا أنهم عَضَهُوه؛ فقال بعضُهم: هو سحرٌ. وقال بعضُهم: هو شعرٌ. وقال بعضُهم: هو كَهانةٌ. وما أشبَه ذلك مِن القولِ، أو عَضَّوْه،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر.
(2)
تقدم تخريجه في ص 132 وهو في تفسير مجاهد: فقالوا: هذا سحر وشعر.
(3)
في ص، ف:"بعضهم".
ففرَّقوه بنحوِ ذلك مِن القولِ. وإذا كان ذلك
(1)
معناه، احْتَمَل قولُه:{عِضِينَ} . أن يكون جمعَ عِضَةٍ، واحْتَمل أن يكونَ جمعَ عُضْوٍ؛ لأن معنى التَّعْضِيةِ
(2)
التفريقُ، كما تُعَضَّى الجزُورُ والشاةُ، فتُفَرَّقُ أعضاءً، والعَضَهُ البَهْتُ، ورميُه بالباطلِ مِن القولِ، فهما مُتَقارِبان
(3)
في المعنى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فوربِّك يا محمدُ لنسألنَّ هؤلاء الذين جعَلوا القرآنَ في الدنيا عِضِين، في الآخرةِ، عما كانوا يَعْمَلون في الدنيا، فيما أمَرناهم به، وفيما بَعثناك به
(4)
إليهم مِن أيِ كتابى الذي أنْزَلتُه إليهم، وفيما دعَوناهم إليه مِن الإقرارِ به
(5)
مِن توحيدى والبراءةِ مِن الأندادِ والأوثانِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا، عن بشيرٍ
(6)
، عن أنسٍ في قولِه:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . قال: عن شهادةِ ألا إلهَ إلا اللَّهُ
(7)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"العضة".
(3)
في ص، ف:"يتقاربان"، وفى ت 2:"مقاربان".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(5)
بعده في م: "و".
(6)
في م: "بشر". وينظر ما سيأتي في تخريجه.
(7)
أخرجه البخاري في الكبير 2/ 86 من طريق ابن إدريس به. وأخرجه الترمذي عقب الحديث (3126) =
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شريكٌ، عن ليثٍ، عن بشيرِ
(1)
بن نَهِيكٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . قال: "عن لا إلهَ إلا اللَّهُ"
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن
(3)
بشير، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا الثوريُّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال: لا إلهَ إلا اللَّهُ
(5)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شريكٌ، عن هلالٍ، عن
(6)
عبدِ اللَّهِ [بن عُكَيمٍ]
(7)
، قال: قال عبدُ اللَّهِ: والذي لا إلهَ غيرُه، ما منكم مِن أحدٍ إلا سيَخْلو اللَّهُ به يومَ القيامةِ، كما يَخْلُو أحدُكم بالقمرِ ليلةَ البدرِ، فيقولُ: ابنَ آدمَ، ماذا غرَّك منى بى؟ ابنَ آدمَ، ماذا عمِلتَ فيما علِمْتَ؟ ابنَ آدمَ، ماذا
(8)
= من طريق ابن إدريس به، وفيه: بشر. وينظر التاريخ الكبير 8/ 133، وتفسير ابن كثير 4/ 468. وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 365، والبخاري في الكبير 2/ 86 من طريق حفص بن غياث عن ليثٍ.
(1)
في ت 2، ف:"بشر".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير 4/ 468 من طريق شريك به، وأخرجه الترمذي (3126) من طريق معتمر بن سليمان، عن ليثٍ، عن بشر، عن أنسٍ مرفوعا.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"ابن".
(4)
أخرجه أبو يعلى (4058) من طريق جرير، عن ليث، عن بشر، عن أنس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(5)
تفسير عبد الرزاق، 1/ 351، وهو في تفسير الثوري ص 162 عن أبيه، عن مجاهد.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بن".
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عن عليم".
(8)
في ص، ت 1، ت 2:"ما".
أجْبَتَ المرسلين
(1)
؟
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال: يُسأَلُ العبادُ كلُّهم عن خَلَّتين يومَ القيامةِ؛ عما كانوا يَعْبُدون، وعما أجابوا المُرْسَلين
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا الحسينُ الجُعْفِيُّ، عن فضيلِ بن مرزوقٍ، عن عطيةَ العَوفيِّ، عن ابن عمرَ:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال: عن لا إلهَ إلا اللَّهُ
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ثم قال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]. قال: لا يَسْأَلُهم: هل عمِلتم كذا وكذا؛ لأنه أعْلَمُ بذلك منهم، ولكنْ يَقُولُ لهم: لِمَ عمِلتم كذا وكذا
(4)
؟
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يونسُ بن بُكَيرٍ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي محمدٍ مولى زيدِ بن ثابتٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، أو عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: أنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . فإنه أمرٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 468 عن المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 468 عن أبي جعفر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 328 عن الحسين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه البيهقي في البعث والنشور (157، 158) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن أبي حاتم.
نبيَّه صلى الله عليه وسلم، بتَبْلِيغِ رسالتِه قومَه وجميعَ مَن أُرْسِل إليه
(1)
.
ويعنى بقولِه: {فَاصْدَعْ [بِمَا تُؤْمَرُ]
(2)
}: فامضِ وافْرُقْ. كما قال أبو ذُؤَيبٍ
(3)
:
وكأنهنَّ رِبابةٌ وكأنَّه
…
يَسَرٌ يُفيضُ على القِداحِ ويَصْدَعُ
(4)
يعني بقولِه: يَصْدَعُ: يُفَرِّقُ بالقداحِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . يقولُ: فامْضِه
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قولَه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . يقولُ: افْعَلْ ما تؤمرُ
(6)
.
حدَّثنا الحسينُ بنُ يزيدَ الطحانُ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: بالقرآنِ.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْدِيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ إبراهيمَ، عن سفيان،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف وابن إسحاق.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
ديوان الهذليين 1/ 6.
(4)
الرَّبابةُ هاهنا الجماعة من القداح، وأصل الرّبابة الجلدة التي تجعل فيها القداح، واليسرُ: صاحب الميسر الذي يضرب بالقداح. شرح ديوان الهذليين 1/ 18.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن المنذر.
عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: هو القرآنُ
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: بالقرآنِ.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: الجهرُ بالقرآنِ في الصلاةِ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: بالقرآنِ في الصلاةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: الجهْرُ بالقرآنِ في الصلاةِ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثنا موسى بنُ عبيدةَ
(3)
، عن أخيه
(4)
عبدِ اللَّهِ بن عبيدةَ
(3)
، قال: ما زال النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا
(5)
. نزلت
(6)
: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . فخرَج هو وأصحابه
(7)
.
(1)
تفسير الثوري ص 162، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 351، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 419.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عبدة".
(4)
بعده في ف: "عن".
(5)
في ص، ف:"متخفيا"، وفى ت:"مخفيا".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"نزل".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 469 عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف عن أبي عبيدة، أن عبد الله بن مسعود قال.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . قال: بالقرآنِ الذي يُوحَى إليه أن يُبَلِّغَهم إياه
(1)
.
وقال تعالى ذكرُه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . ولم يَقُلْ: بما تُؤمَرُ به. والأمرُ يَقْتَضى الباءَ؛ لأن معنى الكلامِ: فاصْدَعْ بأمرِنا، فقد أمَرناك أَن تَدْعُوَ إلى ما
(2)
بَعَثناك به مِن الدينِ خَلْقِي، وأذِنَّا لك في إظهارِه.
ومعنى "ما" التي في قولِه: {بِمَا تُؤْمَرُ} معنى المصدرِ، كما قال تعالى ذكرُه:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]. معناه: افْعَلِ الأمرَ الذي تُؤْمَرُ به.
وكان بعضُ نحويِّي أهلِ الكوفةِ يقولُ في ذلك: حُذِفت الباءُ التي يُوصَلُ بها {تُؤْمَرُ} من قولِه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . على لغةِ الذين يَقُولون: أَمَرْتُك أمرًا. وكان يقولُ: للعربِ في ذلك لغتان؛ إحداهما: أمرتُك أمرًا. والأُخرى: أمرتُك بأمرٍ. فكان يقولُ: إدخالُ
(3)
الباءِ في ذلك وإسقاطُها سواءٌ. واستَشْهَد لقولِه
(4)
ذلك بقولِ حُضَيْنِ
(5)
بن المنذرِ الرَّقاشيِّ ليزيدَ بن المهلبِ
(6)
:
أمَرتُك أمرًا حازمًا
(7)
فَعَصَيْتَني
…
فأصبَحتَ مَسْلوبَ الإمارةِ نادمًا
فقال: أمَرتُك أمرًا. ولم يَقُلْ: أمَرتُك بأمرٍ. وذلك كما قال تعالى ذكرُه:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ص، ت 2.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بقوله".
(5)
في النسخ: "حصين"، والمثبت من مصادر البيت، وينظر الإكمال 2/ 481.
(6)
تاريخ الطبري 6/ 396، والكامل 4/ 504.
(7)
في م: "جازما".
{أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هود: 60]. ولم يَقُلْ: بربِّهم. وكما قالوا: مدَدْتُ الزِّمامَ، ومدَدْتُ بالزِّمامِ. وما أشْبَهَ ذلك مِن الكلامِ.
وأما قولُه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: بَلِّغْ قومَك ما أُرْسِلتَ به، واكْفُفْ عن حربِ المشركين باللَّهِ وقتالِهم. وذلك قبلَ أن يُفْرَضَ عليه جهادُهم، ثم نسَخ ذلك بقولِه:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} : وهو مِن المنسوخِ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} . {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]: وهذا النحوُ كلُّه في القرآنِ، أمَر اللَّهُ تعالى ذكرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكونَ ذلك منه، ثم
(2)
أمَره بالقتالِ، فنسَخ ذلك كلَّه، فقال:{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}
(3)
الآية [النساء: 89].
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنا كفَيْناك المستهزئين يا محمدُ، الذين يَسْتَهْزِئون بك، ويَسْخرون منك، فاصْدَعْ بأمرِ اللَّهِ، ولا تَخَفْ شيئًا سوى اللَّهِ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 106 إلى ابن أبي حاتم وأبي داود في ناسخه.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"في".
(3)
تقدم في ص 106.
فإن اللَّهَ كافيك مَن ناصَبك وآذاك، كما كفاك المستهزِئين. وكان رؤساءُ المستهزِئين قومًا مِن قريشٍ معروفين.
ذكرُ أسمائِهم
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنى محمدٌ، قال: كان عظماءُ المستهزِئين، كما حدَّثني يزيدُ بنُ رومانَ، عن عروةَ بن الزُّبيرِ، خمسةَ نفرٍ من قومِه، وكانوا ذوِى أسنانٍ
(1)
وشرفٍ في قومِهم؛ مِن بني أسدِ بن عبدِ العُزَّى بن قُصَيٍّ: الأسودُ بنُ المطلبِ أبو زمْعَةَ - وكان رسولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم فيما بلَغني قد دعا عليه؛ لِما كان يَبْلُغُه مِن أذاه واستهزائِه، فقال:"اللهمَّ أعْمِ بصرَه، وأثْكِلْه ولدَه" - ومن بني زُهرةَ: الأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ بن وهَبِ بن عبدِ منافِ بن زُهرةَ، ومِن بني مخزومٍ: الوليدُ بنُ المغيرةِ بن عبدِ اللَّهِ [بن عمرَ]
(2)
بن مخزومٍ، ومن بني سَهمِ بن عمرِو بن هُصَيصِ بن كعبِ بن لؤىٍّ: العاصُ بنُ وائلِ بن هشامِ بن سُعَيدِ
(3)
بن سَهْمٍ، ومن خُزَاعةَ: الحارثُ بنُ الطُّلاطِلة بن عمرِو بن الحارثِ بن عبدِ
(4)
عمرِو بن مَلْكان، فلما تمادَوْا في الشرِّ، وأكثَروا برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الاستهزاءَ، أنزَل اللَّهُ تعالى ذكرُه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . إلى قولِه: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . قال محمدُ بنُ إسحاقَ: فحدَّثني يزيدُ بن رُومانَ، عن عُرُوةَ بن الزبيرِ، أو غيرِه مِن العلماءِ، أن جبريلَ أتى رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهم يَطُوفون بالبيتِ، فقام وقام رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى جنبِه، فمرَّ به الأسودُ بنُ المطلبِ، فرمَى في وجهِه بورقةٍ خضراءَ فعَمِى ومرَّ به الأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، فأشَار إلى بطنِه، فاسْتَسْقَى
(1)
ذوو الأسنان: الأكابر والأشراف. ينظر النهاية 2/ 413.
(2)
سقط من: م.
(3)
بعده في النسخ: "بن سعد". والمثبت موافق لما في سيرة ابن هشام، وينظر جمهرة أنساب العرب ص 163.
(4)
سقط من: م، ت 1، وفى ص، ت 2، ف:"عبد بن". والمثبت من سيرة ابن هشام.
بطنُه، فمات منه حَبَنًا. ومرَّ به الوليدُ بنُ المُغيرةِ، فأشار إلى أثرِ جُرْحٍ بأسفلِ كعبِ رجلِه كان أصابه قبلَ ذلك بسنين
(1)
، وهو يَجُرُّ سَبَلَه - يَعْنى إزارَه - وذلك أنه مرَّ برجلٍ مِن خزاعةً يَرِيشُ نَبْلًا له، فتَعَلَّق سهمٌ
(2)
مِن نَبْلِه بإزارِه، فخدَش رجلَه ذلك الخدشَ، وليس بشيءٍ، فانْتَقَض به فقتَله. ومرَّ به العاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ، فأشار إلى أَخْمَصِ
(3)
رجلِه، فخرَج على حمارٍ له يُريدُ الطائفَ، فربَض
(4)
على شِبْرِقةٍ، فدخَل في أخْمَصِ رجلِه منها
(5)
شوكةٌ، فقتلَته - قال أبو جعفرٍ: الشِّبرقةُ: المعروفُ بالحَسَكِ
(6)
. منه حَبَنًا، والحَبَنُ: الماءُ الأصفرُ - ومرَّ به الحارثُ بنُ الطُّلاطِلةِ، فأشار إلى رأسِه، فامتَخَط قَيْحًا فقتَله
(7)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن محمدِ بن أبي محمدٍ القرشيِّ، عن رجلٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كان رأسُهم الوليدَ بنَ المُغيرةِ، وهو الذي جمَعهم
(8)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن زيادٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: كان المستهزئين الوليدُ بنُ المغيرةِ، والعاصُ بنُ وائلٍ، وأبو زَمْعةَ، والأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، والحارثُ بنُ غَيْطلةَ
(9)
،
(1)
في م: "بسنتين".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"نبلة".
(3)
الأخمصُ: باطن القدم وما رقَّ من أسفلها وتجافى عن الأرض، اللسان (خ م ص).
(4)
في م، ت 1، ت 2:"فوقص"، وفى ف:"فرقص".
(5)
في ص، ت 2، ف:"فيها".
(6)
الحسك: نبات من الفصيلة الرطريطية، له ثمرة خشنة تتعلق بأصواف الغنم وأوبار الإبل. الوسيط (ح س ك).
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 470 عن ابن إسحاق به.
(8)
سيرة ابن هشام 1/ 408، وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (201، 202) من طريق ابن إسحاق به.
(9)
في النسخ: "عيطلة". وينظر سيرة ابن هشام 1/ 208، 209، وجمهرة أنساب العرب ص 165.
فأتاه جبريلُ فأومَأ بإصبَعِه إلى رأسِ الوليدِ، فقال:"ما صَنَعتَ شيئًا". قال: كُفِيت. وأَوْمَأ بيدِه إلى أخْمَصِ العاصِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا صَنَعت شيئًا". فقال: كُفِيت. وأومأ بيدِه إلى عينِ أبي زمعةَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما صنَعْتَ شيئًا". فقال: كُفِيت. [وأوْمَأ بإصبَعِه إلى رأسِ الأسودِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ودَع لي خالي". فقال: كُفِيت]
(1)
. وأومَأ بإصبعِه إلى بطنِ الحارثِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما صَنَعْت شيئًا". فقال كُفِيت. قال: فمرَّ الوليدُ على قَيْنٍ
(2)
لخُزاعةَ وهو يَجُرُّ ثيابَه، فتَعَلَّقت بثوبِه بَرْوةٌ
(3)
أو شَرَرَةٌ، وبين يدَيه نساءٌ، فجعَل يَسْتَحْيِي أَن يَطَأْمَنَ
(4)
يَنْتَزِعُها، وجعَلت تَضْرِبُ ساقَه، فخَدَشَتْه، فلم يَزَلْ مريضًا حتى مات، وركِب العاصُ بنُ وائلٍ بغلةً له بيضاءَ، إلى حاجةٍ له بأسفلِ مكةَ، فذهَب يَنْزِلُ، فوضَع أَخْمَصَ قدمِه على شِبْرِقةٍ، فحكَّت رجلَه، فلم يزَلْ يَحُكُّها حتى مات، وعَمِى أبو زمعةَ، وأخَذت
(5)
الأكِلَةُ
(6)
في رأسِ الأسودِ، وأخَذ الحارثَ الماءُ في بطنِه
(7)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: هم خمسةُ رهطٍ مِن قريشٍ؛ الوليدُ بنُ المغيرةِ، والعاصُ بنُ وائلٍ، وأبو زمعةَ، والحارثُ بن غَيْطلةَ
(8)
، والأسودُ بنُ قيسٍ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرنا هُشَيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
القَيْنُ: الحداد. اللسان (ق ي ن).
(3)
البروة لغة في البُرَة، وهى الحلقة في أنف البعير.
(4)
طأمن وطمأن بمعنى. اللسان (ط م ن).
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أخذ".
(6)
الأكِلَةُ: داء يقع في العضو فيأتكل منه. اللسان (أ ك ل).
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 471 عن سعيد بن جبير.
(8)
في النسخ: "عيطلة".
سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: الوليدُ بنُ المغيرةِ، والعاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ، والأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، والأسودُ بنُ المُطَّلِبِ، والحارثُ بن غَيْطلةَ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرّزاقِ، قال: أخبربا ابن عيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: هم خمسةٌ، كلُّهم هلَك قبل بَدْرٍ؛ العاصُ بنُ وائلٍ، والوليدُ بنُ المغيرةِ، وأبو زمعةَ بنُ عبدِ الأسودِ، والحارثُ بنُ قيسٍ، والأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: الوليدُ بنُ المغيرةِ، والعاصُ بنُ وائلٍ، والأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، والحارثُ بن غَيْطَلةَ (1).
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبربا هُشَيمٌ، عن أبي بكرٍ الهُذَليِّ، قال: قلتُ للزُّهريِّ: إن سعيدَ بنَ جبيرٍ وعكرمةَ اختَلَفا في رجلٍ مِن المستهزئين، فقال سعيدٌ: هو الحارثُ بن غَيْطلةَ (1). وقال عكرمةُ: هو الحارثُ بنُ قيسٍ. فقال: صدَقا، كانت أمُّه تسمى غَيْطلةَ (1)، وأبوه قيسٌ
(3)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبربا هُشَيمٌ، عن حُصَيْنٍ، عن الشعبيِّ، قال: المستهزئين سبعةٌ. وسَمَّى
(4)
منهم أربعةً
(5)
.
(1)
في النسخ: "عيطلة".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 352.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 108 إلى المصنف وأبي نعيم.
(4)
في ص، ت 1:"يسمى"، وفى ت 2:"تسمى".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 108 إلى المصنف وسعيد بن منصور وأبي نعيم.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عامرٍ:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: كانوا مِن قريشٍ خمسةُ نفرٍ؛ العاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ، كُفِى بصُداعٍ أخَذه
(1)
في رأسِه، فسال دماغُه حتى كان يَتَكَلَّمُ مِن أنفِه، والوليدُ بنُ المغيرةِ المخزوميُّ، كُفِى برجلٍ من خُزاعةَ أصلَح سهمًا له، فندَرَت
(2)
منه شَظِيَّةٌ، فَوَطِئَ عليها فمات، وهَبّارُ بنُ الأسودِ، وعبدُ يَغُوثَ بنُ وهبٍ، والحارثُ بن غَيْطلةَ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن جابرٍ، عن عامرٍ:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: كلُّهم مِن قريشٍ؛ العاصُ بنُ وائلٍ، فكُفِى بأنه أصابه صُداعٌ في رأسِه، فسال دماغُه حتى لا
(4)
يَتَكَلَّمَ إلا مِن تحتِ أنفِه، والحارثُ بن غَيْطلةَ
(3)
بصَفَرٍ في بطنِه، وابنُ الأسودِ فكُفِى بالجُدَريِّ، والوليدُ بأن رجلًا ذهَب ليُصْلِحَ سهمًا له، فوقَعت شَظِيَّةٌ، فوَطِئَ عليها، وعبدُ يَغُوثَ فَكُفِي بالعَمَى، ذهَب بصرُه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، وعن مِقْسمٍ:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . قال: هم الوليدُ بنُ المغيرةِ، والعاصُ بنُ وائلٍ، وعَدِيُّ بنُ قيسٍ، والأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، والأسودُ بنُ المطلبِ، مرُّوا رجلًا رجلًا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه جبريلُ، فإذا مرَّ به رجلٌ منهم قال جبريلُ: كيف تَجدُ هذا؟ فيقولُ: "بئسَ عدوُّ اللَّهِ". فيقولُ جبريلُ: كفاكَه. فأما الوليدُ بنُ المغيرةِ، فتردَّى، فتعلَّق سهمٌ بردائِه، فذهَب يَجْلِسُ، فقُطِع أكْحَلُه
(5)
، فنُزِف فمات، وأما
(1)
في ص: "فأخذه"، وفى ت 2، ف:"وأخذه".
(2)
في ص، ت 2، ف:"فبدرت".
(3)
في النسخ: "عيطلة".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ما".
(5)
الأكحل: عرق في وسط الذراع يكثر فصده. النهاية 4/ 154.
الأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، فأُتِى بغُصْنٍ فيه شَوْكٌ، فضُرِب به وجهُه، فسالت حدَقتاه على وجهِه، فكان يقولُ: دعَوتُ على محمدٍ دعوةً، ودعا عليَّ دعوةً، فاسْتُجيب لى، واسْتُجِيب له؛ دعا عليَّ أن أعْمَى، فَعَمِيتُ، ودعَوتُ عليه أن يكونَ وحيدًا فريدًا في أهلِ يَثْرِبَ، فكان كذلك. وأما العاصُ بنُ وائلٍ، فوَطِئَ على شَوْكةٍ فتساقَط لحمُه عن عِظامِه حتى هلَك. وأما الأسودُ بنُ المطلبِ، وعديُّ بنُ قيسٍ، فإن أحدَهما قام مِن الليلِ وهو ظمآنُ، فشرِب ماءً مِن جَرَّةٍ، فلم يَزَلْ يَشْرَبُ حتى انْفَتَق بَطنُه فمات، وأما الآخرُ فَلَدَغته حيةٌ فمات.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبربا عبدُ الرَزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ وعثمانَ، عن مِقْسمٍ مولى ابن عباسٍ في قولِه:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} . ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابن عبدِ الأعلى، عن ابن ثورٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} : هم رهطٌ خمسةٌ مِن قريشٍ، عَضَهوا القرآنَ؛ زعَم بعضُهم أنه سحرٌ، وزعَم بعضُهم أنه شعرٌ، وزعم بعضُهم أنه أساطيرُ الأوَّلين؛ أما أحدُهم فالأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، أَتى على نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو عندَ البيتِ، فقال له الملَكُ: كيف تَجِدُ هذا؟ قال: "بئسَ عبدُ اللَّهِ على أنه خالي". قال: كفَيناك. ثم أتَى عليه الوليدُ بنُ المغيرةِ، فقال له الملَكُ: كيف تَجِدُ هذا؟ قال: "بئسَ عبدُ اللَّهِ". قال: كفَيناك. ثمَّ أتى عليه عديُّ بنُ قيسٍ أخو بني، سهمٍ، فقال له
(2)
الملَكُ: كيف تَجِدُ هذا؟ قال: "بئسَ عبدُ اللَّهِ". قال: كفَيناك. ثم أتَى عليه الأسودُ بنُ
(3)
المطلبِ، فقال له الملَكُ: كيف تَجِدُ هذا؟ قال: "بِئسَ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 351، 352 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 108، 109 إلى ابن المنذر وأبي نعيم.
(2)
سقط من: م.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"عبد".
عبدُ اللَّهِ". قال: كفَيناك. ثمَّ أتى عليه العاصُ بنُ وائلٍ، فقال له الملَكُ: كيف تَجِدُ هذا. قال: "بئس عبدُ اللَّهِ". قال: كفَيناك. فأما الأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ، فَأُتِي بِغُصْنٍ مِن شَوْكٍ، فضُرِب به وجهُه، حتى سالَت حدَقتاه على وجهِه، فكان بعد ذلك يقولُ: دعا عليَّ محمدٌ بدعوةٍ، ودعَوتُ عليه بأخرى، فاستجاب اللَّهُ له فىَّ، واستجاب اللَّهُ لى فيه، دعا عليَّ أن أَثْكَلَ وأن أعْمَى، [وكان]
(1)
كذلك، ودعَوتُ عليه أن يَصِيرَ شَرِيدًا طريدًا، فطرَدناه مع يهودِ يَثْربَ وسُرَاقِ الحجيجِ، وكان كذلك. وأما الوليدُ بنُ المغيرةِ، فذهَب يَرْتَدِى، فتعَلَّق برِدائِه سهمُ غَرْبٍ
(2)
، فأصاب أَكْحَلَه أَو أَبْجَلَه
(3)
، فأُتِيَ في كلِّ ذلك، فمات. وأما العاصُ بنُ وائلٍ، فَوَطِئَ على شَوْكَةٍ، فأُتي في ذلك؛ جعَل يَتَساقَطُ لحمُه عُضْوًا عُضْوًا، فمات وهو كذلك. وأما الأسودُ بنُ المطَّلِبِ، وعديُّ بنُ قيسٍ، فلا أدرى ما أصابَهما. ذُكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ بَدْرٍ نهَى أصحابَه عن قتلِ أبي البَخْتَريِّ، وقال:"خُذُوه أخْذًا، فإنه قد كان له بلاءٌ". فقال له أصحابُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا البَخْتَريَّ، إنا قد نُهينا عن قتلِك، فهلُمَّ إلى الأمَنةِ والأمانِ. فقال أبو البَخْتَريِّ: وابنُ أخى معى. فقالوا: لم تُؤْمَرُ إلا بك. فراوَدوه
(4)
ثلاثَ مراتٍ، فأبى إلا وابنُ أخيه معه، قال: فأغلَظ للنبيِّ
(5)
صلى الله عليه وسلم الكلامَ، فحمَل عليه رجلٌ مِن القومِ فطعَنه فقتَله، فجاء قاتلُه وكأنما على ظهرِه جبَلٌ
(6)
أو ثِقْلٌ، مخافةَ أن يَلُومَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبِر بقولِه،
(1)
في م: "فكان".
(2)
سَهْمُ غَربٍ وغَرَبٍ: إذا كان لا يدرى من رماه. اللسان (غ ر ب).
(3)
الأَبْجَلُ: عرق غليظ في الرجل، وقيل: هو عرق في باطن مفصل الساق في المأبض، وقيل: هو في اليد إزاء الأكحل. اللسان (ب ج ل).
(4)
في ص، ت 1:"فرادوه"، وفي ت 2:"فزادوه".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"النبي".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"حمل".
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أبْعَدَه اللَّهُ وأَسْحَقَه". وهم المستهزِئون الَّذين قال اللَّهُ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . وهم الخمسةُ الذين قيل فيهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} : استهزَءوا بكتابِ اللَّهِ ونبيِّه صلى الله عليه وسلم.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} : هم مِن قريشٍ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ: وزعَم ابن أبي بَزَّة أنهم
(1)
: العاصُ بنُ وائلٍ السهميُّ، والوليدُ بنُ المغيرةِ الوحيدُ، والحارثُ بنُ عديِّ بن سهمِ، ابن الغَيْطِلةِ
(2)
، والأسودُ بنُ المطَّلبِ بن أسدِ بن
(3)
عبدِ العُزَّى بن قُصَيٍّ وهو أبو زمعةَ، والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ، وهو ابن خالِ
(4)
رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني عمرُو بنُ دينارٍ، عن ابن عباسٍ، نحوَ حديثِ محمدِ بن عبدِ الأعلى، عن محمدِ بن ثورٍ، غيرَ أنه قال: كانوا ثمانيةً. ثم عدَّهم وقال: كلُّهم مات قبلَ بدرٍ
(5)
.
وقولُه: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . وعيدٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه، وتهديدٌ
(6)
للمُسْتَهزِئين الذين أخبَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه قد كفَاه أمرَهم. يقولُ
(7)
تعالى ذكرُه: إنا كفَيناك يا محمدُ الساخرين منك، الجاعلين مع اللَّهِ شريكًا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أنه".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"العياطلة"، وفى م:"العيطلة".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"و".
(4)
في، ت 1، ت 2:"خالة". وتقدم أنه خال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ينظر جمهرة أنساب العرب: ص 129، 441، وفهارس سيرة ابن هشام.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 107 إلى المصنف والطبراني وابن مردويه.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"تهددا".
(7)
في م، ف:"بقوله".
في عبادتِه، فسوف يَعْلَمون ما يَلْقَون مِن عذابِ اللَّهِ عندَ مصيرِهم إليه في القيامةِ، وما يَحُلُّ بهم مِن البلاءِ.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولقد نَعْلَمُ يا محمدُ أنك يَضِيقُ صدرُك بما يقولُ هؤلاء المشركون مِن قومِك؛ مِن تَكْذيبِهم إياك، واستهزائِهم بك، وبما جْئْتَهم به، وأن ذلك يحزنُك
(1)
،
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} . يقولُ: فافْزَعُ فيما نابَك مِن أمرٍ تَكْرَهُه منهم إلى الشكرِ للَّهِ والثناءِ عليه والصلاةِ، يَكْفِك اللَّهُ مِن ذلك ما أَهَمَّك
(2)
. وهذا نحوُ الخبرِ الذي رُوِى عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا حَزَبه أمرٌ فَزِع إلى الصلاةِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: واعبُدْ ربَّك حتى يأتِيَك
(4)
الموتُ، الذي هو مُوقَنٌ به. وقيل: يَقِينٌ. وهو مُوقَنٌ به، كما قيل: خمرٌ عتيقٌ، وهي مُعَتَّقةٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، قال: ثني طارقُ
(1)
في ص، م:"يحرجك"، وفى ت 2، ف:"يخرجك".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"همك".
(3)
أخرجه أحمد 5/ 388، (23347 - الميمنية)، وأبو داود (1319) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4)
بعده في ف: "اليقين".
ابن عبدِ الرحمنِ، عن سالم بن عبدِ اللَّهِ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قال: الموتُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني عباسُ
(3)
بنُ محمدٍ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: أخبَرني ابن كثيرٍ، أنه سمِع مجاهدًا يقولُ:{حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قال: الموتُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قال: يعنى الموتَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قال: اليقينُ الموتُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزّاقِ، قال: أخبربا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(4)
.
(1)
أخرجه البخارى (1243) من طريق عقيل، عن ابن شهاب به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20422)، وأحمد 6/ 436 (27497 - الميمنية)، والبخاري (7018)، وعبد بن حميد (1591) من طريق معمر عن الزهرى به.
(2)
تفسير مجاهد ص 419، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 109 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ف: "عياش". وينظر تهذيب الكمال 14/ 245.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 352.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا سويدُ بنُ نصرٍ، قال: أخبربا ابن المباركِ، عن مباركِ بن فضالةَ، عن الحسنِ في قولِه:{حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قال: الموتُ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن طارقٍ، عن سالمٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبربا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . قال: الموتُ، إذا جاءه الموتُ، جاءه تصديقُ ما قال اللَّهُ له وحدَّثه مِن أمرِ الآخرةِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبربا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونسُ بنُ يزيدَ، عن ابن شهابٍ، أن خارجةَ بنَ زيدِ بن ثابتٍ أخبرَه، عن أمِّ العلاءِ - امرأةٍ مِن الأنصارِ قد بايعَت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أخبرَته أنهم اقتَسَموا المهاجرين قُرْعةً، قالت: وطار لنا عثمانُ (2) بنُ مَظْعونٍ، فأنزَلناه في أبياتِنا، فوَجِع وجَعَه الذي مات فيه، فلما تُوُفِّي وغُسِّل وكُفِّن في أثوابِه، دخَل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلْت: يا عثمانُ بنَ مظعونٍ، رحمةُ اللَّهِ عليك أبا السائبِ، فشهادَتي عليك، لقد أكرَمك اللَّهُ. فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وما يُدْرِيكِ أن اللَّهَ أكْرَمه؟ ". قالت: يا رسولَ اللَّهِ فمَن؟ فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد جاءَه اليقينُ، وواللَّهِ إنى لأرْجُو له الخيْرَ".
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا إسماعيلُ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ سعدٍ، قال: ثنا ابن شهابٍ، عن خارجةَ بن زيدٍ، عن أمِّ العلاءِ، امرأةٍ مِن
(1)
الزهد لابن المبارك (19).
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف. والأثر في تفسير سفيان ص 162، ومن طريقه ابن أبي شيبة. 13/ 521، وابن أبي الدنيا في اليقين (19).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 109 إلى المصنف.
نسائِهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسروقيُّ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: أخبربا إبراهيمُ بنُ إسماعيلَ، عن محمدِ بن شهابٍ، أن خارجةَ بنَ زيدٍ حدَّثه، عن أمِّ العلاءِ، امرأةٍ منهم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بنحوِه، إلا أنه قال في حديثِه: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد عايَن اليقينَ".
آخرُ تفسيرِ سورةِ الحجرِ
(1)
أخرجه أحمد 6/ 436 (27497 - الميمنية) والبخاري (3929)، والطبراني 25/ 140 (338) من طريق إبراهيم بن سعد به.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ النحلِ
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(1)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: أتى أمرُ اللَّهِ، فقرُب منكم أيُّها الناسُ ودَنَا، فلا تَسْتَعْجِلُوا وُقوعَه.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في الأمرِ الذي أعلَم اللَّهُ عبادَه مجيئَه وقُرْبَه منهم ما هو، وأيُّ شيءٍ هو؛ فقال بعضُهم: هو فرائضُه وأحكامُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، في قولِه:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . قال: الأحكامُ والحدودُ والفرائضُ
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك وعيدٌ مِن اللَّهِ لأهلِ الشركِ به، أخبَرهم أن الساعةَ قد قَرُبت، وأن عذابَهم قد حضَر أجَلُه، فدَنَا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال:[حدَّثنا الحسينُ، قال]
(2)
: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م.
قال: لما نزَلت هذه الآيةُ، يعنى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . قَالَ رَجْلٌ
(1)
مِن المنافقين بعضُهم لبعضٍ: إن هذا يَزْعُمُ أن أمرَ اللَّهِ قد
(2)
أتى، فأمْسِكوا عن بعضِ ما كنتم تعمَلون، حتى تَنْظُروا ما هو كائنٌ. فلما رأَوا أنه لا يَنْزِل شيءٌ، قالوا: ما نراه نزَل شيءٌ. فنزَلت: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]. فقالوا: إن هذا يَزْعُم مثلَها أيضًا. فلما رأَوْا أَنه لا يَنْزِلُ شيءٌ، قالوا: ما نرَاه نزَل شيءٌ. فنزَلت: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
(3)
[هود: 8].
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ، عن أبي بكرِ بن حَفْصٍ، قال: لما نزَلت: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} . رفَعوا رُءوسَهم، فنزَلت:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ شعيبٍ، قال: سمِعتُ أبا صادقٍ
(5)
يَقرَأُ: (يا عِبادِى أتَى أمرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه).
وأولى القولَين في ذلك عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: هو تهديدٌ مِن اللَّهِ أهلَ الكفرِ به وبرسولِه، وإعلامٌ منه لهم قربَ العذابِ منهم والهلاكِ؛ وذلك أنه عَقَّب
(1)
في م: "رجال". ورجل بفتح الراء وسكون الجيم اسم للجمع وقيل جمع. تاج العروس (ر ج ل).
(2)
سقط من: م.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى المصنف وابن المنذر عن ابن جريج به.
(4)
أخرجه الخطيب في الموضح 2/ 422 من طريق يحيى بن يمان به بزيادة: "سيجاء به"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 109 إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم.
(5)
هو أبو صادق الأزدي الكوفي، من أزد شنوءة، روى عنه أبو بكر بن شعيب. ترجمته في تهذيب الكمال 33/ 412، وينظر أيضًا 96/ 33.
ذلك بقولِه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فدلَّ بذلك على تَقْريعِه المشركين به
(1)
، ووعيدِه
(2)
لهم. وبعدُ، فإنه لم يَبْلُغَنا أن أحدًا مِن أصحابِ رسولِ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم استَعْجَل فرائضَ قبل أن تُفْرَضَ عليهم؛ فيقالَ لهم مِن أجلِ ذلك: قد جاءَتكم فرائضُ اللَّهِ فلا تَسْتَعْجِلوها. وأما مُسْتَعْجِلو العذابِ مِن المشركين، فقد كانوا كثيرًا.
وقولُه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تنزيهًا للَّهِ وعلوًّا له عن الشركِ الذي كانت قريشٌ ومَن كان مِن العربِ على مثلِ ما هم عليه يَدين به.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه تعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؛ فقرَأ ذلك أهلُ المدينةِ وبعضُ البصريين والكوفيين: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} . بالياءِ
(3)
على الخبرِ عن أهلِ الكفرِ باللَّهِ، وتوجيهٍ للخطابِ بالاستعجالِ إلى أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكذلك قرَءوا الثانيةَ بالياءِ. وقرأ ذلك عامَّةُ قرأةِ الكوفةِ بالتاءِ على توجيهِ الخطابِ بقولِه:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} إلى أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وبقولِه تعالى: (عَمَّا تُشْرِكُونَ
(4)
) إلى المشركين
(5)
. والقراءةُ بالتاءِ في الحرفين جميعًا على وجهِ الخطابِ للمشركين أولى بالصوابِ، لما بيَّنتُ مِن التأويلِ أن ذلك إنما هو وعيدٌ مِن اللَّهِ
(1)
سقط من: م.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ووعيد".
(3)
في ف: "بالتاء".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يشركون". ومقتضى قراءة القوم ما أثبتناه.
(5)
قرأ حمزة والكسائي: "تشركون". بالتاء، وقرأ الباقون بالياء على الابتداء. ينظر حجة القراءات ص 384.
للمشركين، ابتدَأ أوَّلَ الآيةِ بتهديدِهم، وختَم آخرَها بنكيرِ
(1)
فعلِهم، واستعظامِ كفرِهم، على وجهِ الخطابِ لهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ
(2)}.
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} ، بالياءِ، وتشديدِ الزايِ، ونَصْبِ الملائكةِ، بمعنى: يُنَزِّلُ اللَّهُ الملائكةَ بالرُّوحِ
(2)
. وقرَأ ذلك بعضُ البصريين وبعضُ المكيين: (يُنزِلُ المَلائِكَةَ) بالياءِ وتخفيفِ الزايِ، ونصبِ الملائكةِ
(3)
. وحُكِى عن بعضِ الكوفيين أنه كان يَقْرَؤُه: (تُنَزَّلُ المَلائِكَةُ) بالتاءِ وتشديدِ الزايِ، والملائكةُ بالرفعِ
(4)
، على اختلافٍ عنه في ذلك، وقد رُوِى عنه موافقةُ سائرِ قرأةِ بلدِه.
وأولى القراءاتِ
(5)
بالصوابِ في ذلك عندى قراءةُ مَن قرَأ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} . بمعنى: يُنَزِّلُ اللَّهُ ملائكةً. وإنما اختَرت ذلك، لأن اللَّهَ هو المنزِّلُ ملائكتَه بوحيِه إلى رسلِه، فإضافةُ فعلِ ذلك إليه، أولى وأحقُّ. واختَرت "يُنَزِّلُ" بالتشديدِ على التخفيفِ، لأنه تعالى ذكرُه كان يُنَزِّلُ مِن الوحيِ على مَن نزَّله، شيئًا بعدَ شيءٍ، والتشديدُ به، إذ كان ذلك معناه، أولى مِن التخفيفِ.
[فتأويلُ الكلامِ: يُنَزِّل اللَّهُ ملائكتَه بما يحيا]
(6)
به الحقُّ، ويَضْمَحِلُّ به
(1)
في ت 1: "بتكبير"، وفى ت 2، ف:"بتكثير".
(2)
وهى قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 370.
(3)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو. الموضع السابق.
(4)
وهى قراءة عاصم في رواية أبي بكر عنه. السبعة لابن مجاهد ص 370.
(5)
في ت 1: "القراءتين".
(6)
سقط من ت 1، ت 2، ف.
الباطلُ، {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. يَعْنى: على مَن يشاءُ مِن رسلِه، {أَنْ أَنْذِرُوا} . فـ "أن" الأولى
(1)
في موضعِ خفضٍ، ردًّا على الروحِ، والثانيةُ في موضعِ نَصْبٍ بـ "أنذروا". ومعنى الكلامِ: يُنزِّلُ الملائكةَ بالروحِ مِن أمرِه على مَن يشاءُ مِن عبادِه، بأن أنذِروا عبادى سطْوَتى على كُفرِهم بي، وإشراكِهم في اتخاذِهم معىَ الآلهةَ والأوثانَ، فإنه {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}. يَقولُ: لا تَنْبَغى الأُلوهةُ إلَّا لي، ولا يَصْلُحُ أَن يُعْبَدَ شَيءٌ سواى، {فَاتَّقُونِ}. يقولُ: فاحذَروني؛ بأداءِ فرائضِى، وإفرادِ العبادةِ، وإخلاصِ الربوبيةِ لى، فإن ذلك نجاتُكم مِن الهَلَكَةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} . يقولُ: بالوحيِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . يقولُ: يُنَزِّلُ الملائكةَ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِ اللَّهِ:{بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} : إنه لا
(1)
غير واضحة في ت 1، وفى ص، ت 2، ف:"الأول".
(2)
عزاء السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
يَنْزِل ملَكٌ إلا ومعه رُوحٌ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ قولَه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} . قال: لا يَنْزِلُ ملَكٌ إلا معه رُوحٌ. {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . قال: بالنُّبوةِ. قال ابن جريجٍ: وسمِعت الرُّوحَ خَلْقٌ مِن الملائكةِ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} [الشعراء: 193]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}
(2)
[الإسراء: 85].
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن أبيه، عن الربيعِ بن أنسٍ في قولِه:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} . قال: كلُّ كَلِمٍ
(3)
تَكلم به ربنا فهو رُوح منه، قال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . إلى قولِه: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}
(4)
[الشورى: 53،52].
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولهَ:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} . [يقولُ: يُنَزِّلُ بالرحمةِ والوحْيِ مِن أمرِه]
(5)
{عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيَصْطَفى منهم رسلًا.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:
(1)
تفسير مجاهد ص 420، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (426) من طريق ابن جريج به. مقتصرا على أوله.
(3)
في ت 2، ف:"تكلم".
(4)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (428) من طريق عبد الله به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ [مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]
(1)
}. قال: بالوحيِ والرحمةِ
(2)
.
وأما قولُه: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} . فقد بيَّنا معناه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} إنما بعَث الله المرسلين أن يُوَحَّدَ
(3)
اللهُ وحدَه، ويُطاعَ أمرُه، ويُجتنَبَ سخَطُه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(3)}.
يقولُ تعالى ذكرُه معرِّفًا خلقَه حجتَه عليهم في توحيدِه، وأنه لا تَصْلُحُ الأُلوهةُ إلا له: خلَق ربُّكم، أيُّها الناسُ، السماواتِ والأرضَ بالعدلِ، وهو الحقُّ، منفردًا بخلِقها، لم يَشْرَكْه في إنشائِها وإحداثِها شريكٌ، ولم يُعِنْه
(4)
مُعِينٌ، فأَنَّى يكونُ له شريكٌ؟ {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يقولُ جلَّ ثناؤه: علا
(5)
ربُّكم، أيُّها القومُ، عن شِرْكِكم ودعواكم إلهًا دونَه، فارتَفع عن أن يَكُونَ له مِثْلٌ
(6)
أو شريكٌ أو ظَهِيرٌ،
(1)
سقط من: ص.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 353 من طريق معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ف:"يوحدوا".
(4)
بعده في ص، ت 2، ف:"عين". وبعده في م: "عليه".
(5)
في ت 1: "تعالى".
(6)
بعده في ت 2: "أو ند".
لأنه لا يَكُونُ إلهًا إلا مَن يَخْلُقُ ويُنْشِئُ بقدرتِه مثل السماواتِ والأرضِ، ويَبْتَدِعُ الأجسامَ فيُحْدِثُها مِن غيرِ شيءٍ، وليس ذلك في قُدرةِ أحدٍ سوى اللهِ الواحدِ القهارِ، الذي لا تَنْبَغى العبادةُ [إِلَّا له]
(1)
، ولا تَصْلُحُ الأُلوهةُ لشيءٍ سواه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن حُجَجِه عليكم أيضًا، أيُّها الناسُ، أنه خلَق الإنسانُ من نطفةٍ، فأحدَث مِن ماءٍ مَهينٍ خلقًا عجيبًا، قَلَبه تاراتٍ خَلْقًا بعد خلقٍ، في ظلماتٍ ثلاثٍ، ثم أخرَجه إلى ضياءِ الدنيا، بعدَما تمَّ خلقُه، ونفَخ فيه الروحَ، فغذّاه ورزَقه القوتَ، ونمَّاه، حتى إذا استوى على سُوقِه، كفَر بنعمةِ ربِّه، وجحَد مدبرَه، وعبَد مَن لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ، وخاصَم إلهَه، فقال:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. ونَسِى الذي خلَقه، فسوَّاه خلقًا سَوِيًّا مِن ماءٍ مَهِينٍ. ويَعْنى بالمُبينِ: أنه يُبينُ عن خصومتِه بمنطقِه، ويجادِلُ بلسانِه، فذلك إبانتُه، وعُنِى بالإنسانِ: جميعُ الناسِ، أُخْرِج بلفظِ الواحدِ، وهو في معنى الجميعِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن حُجَجِه عليكم أيُّها الناسُ ما خلَق لكم مِن الأنعامِ، فسخَّرها لكم، وجعَل لكم من أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها ملابسَ تَدْفَئُون بها، ومنافعَ من ألبانِها، وظهورَها تَرْكَبُون
(2)
، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. يقولُ: ومِن
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
في م: "تركبونها".
الأنعامِ ما تَأْكُلون لحمَه؛ كالإبلِ والبقرِ والغنمِ وسائرِ ما يُؤكَلُ لحمُه. وحُذِفت "ما" من الكلامِ، لدِلالة "مِن" عليها.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى وعليُّ بنُ داودَ، قال المُثَنَّى: أخبرنا. وقال ابن داودَ: ثنا عبدُ اللهِ بن صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} . يقولُ: الثيابُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} : يَعْنى بالدفءِ الثيابَ، والمنافعِ ما تَنْتَفِعون به مِن الأطعمةِ والأشربةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِ اللهِ تعالى:{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} . قال: لباسٌ يُنْسَجُ، ومنها مَرْكَبٌ ولبنٌ ولحمٌ
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} : لباسٌ يُنْسَجُ، {وَمَنَافِعُ}: مَرْكَبٌ ولحمٌ ولبنٌ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 420 من طريق ورقاء به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} . قال: نَسْلُ كلِّ دابةٍ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ بإسنادِه، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} . يقولُ: لكم فيها لباسٌ ومنفعةٌ وبُلْغةٌ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . قال: هو منافعُ ومآكلُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قولِه:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} . قال: دفءُ اللُّحُفِ التي جعَلها اللهُ منها.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ، عن ابن جريجٍ، قال: بلَغني عن مجاهدٍ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} . قال: نِتاجُها
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 353، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 476 عن قتادة.
ورُكوبُها وألبانُها ولحومُها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خَلَقها اللهُ لكم {جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} . يعني: تَرُدُّونَها بالعشيِّ من مسارحِها إلى مُراحِها ومنازلِها
(1)
التي تأوِى إليها، ولذلك سُمِّى المكانُ المُراحَ، لأنها تُراحُ إليه عشاءً
(2)
، فتأوى إليه، يقالُ منه: أراح فلانٌ ماشيتَه، فهو يُريحُها إراحةً. وقولُه:{وَحِينَ تَسْرَحُونَ} . يقولُ: وفى وقتِ إخراجِكموها غُدوةً مِن مُراحِها إلى مسارحِها، يقالُ منه: سَرَّح فلانٌ ماشيتَه يُسَرِّحُها تَسريحًا [وشروحا]
(3)
، إذا أخرَجها للمرعى
(4)
غُدْوةً، وسرَحت الماشيةُ: إذا خرَجت للمرعى، تَسْرَح سرْحًا [وسُرُوحا]
(5)
فالسَّرْحُ بالغداةِ، والإراحةُ بالعشيِّ، ومنه قولُ الشاعرِ
(6)
:
كأنَّ بقايا الأثرِ
(7)
فوق مُتُونِه
…
مَدَبُّ الدَّبَى
(8)
فوقَ النّقا
(9)
وَهْوَ سارحُ
(1)
في ص: "مباركها".
(2)
في م: "عشيا".
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، ت 2، م:"للرعى".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف
(6)
البيت أورده الفراء غير منسوب. معاني القرآن 3/ 210.
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الأثن"، وفى م:"الأتن" والصواب المثبت، وهو موافق لما في معاني القرآن، وما سيأتي في تفسير الآية (10) من سورة القيامة.
(8)
في ت 1: "الذي"، والدبى: الجراد قبل أن يطير، وقيل: الدبى أصغر ما يكون من الجراد والنمل. وقيل: الجراد أول ما يكون سِرْوٌ، وهو أبيض، فإذا تحرك واسْوَدَّ فهو دَبى قبل أن تنبت أجنحته. اللسان (د ب ى).
(9)
النقا: كثيب الرمل. اللسان (ن ق ى).
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} : وذلك أعجبُ ما يكونُ، إذا راحت عظامًا ضُروعُها، طِوالًا، أسنِمتُها، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ}: إذا سرَحت لرِعْيَتِها
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ}
(2)
. قال: إذا راحت كأعظمِ ما تَكونُ
(2)
أسنمةً وأحسنِ ما تكونُ
(3)
ضُروعًا
(4)
.
وقولُه: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} .
يقولُ: وتَحْمِلُ هذه الأنعامُ أثقالكم
(5)
إلى بلدٍ آخرَ، لم تَكُونوا بالغِيه
(6)
إلا بجَهْدٍ من أنفسِكم شديدٍ، ومشقةٍ عظيمةٍ، كما حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شريكٌ، عن جابرٍ، عن عكرمةٍ:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . قال: لو تُكَلَّفونه لم تَبْلُغوه إلا بجَهْدِ شديدٍ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شريكٍ، عن سِماكٍ، عن
(1)
في م: "لرعيها". والرِّعية: ما ينبته الله من المرعى. الوسيط (ر ع ى).
(2)
بعده في م: "وحين تسرحون".
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"يكون".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 353 من طريق معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 110 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في ت 2: "إياكم"
(6)
بعده في ص، ف:"بها".
عكرمةَ: {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . قال: لو كُلِّفْتُموه لم تَبْلغوه إلا بشِقِّ الأنفسِ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحِمانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ:{إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . قال: البلدُ مكةُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرَنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِ اللهِ:{إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . قال: مشقةٍ عليكم
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد مثله.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} ، يقول: بِجَهْدِ الأنفسِ.
حدَّثنا محمدُ [بنُ عبدِ الأعلى]
(4)
، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ بنحوِه
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 111 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر، متضمنًا الأثر الآتى، عن ابن عباس لا عن عكرمة.
(2)
أخرجه البغوي في تفسيره 5/ 9 بسنده عن عكرمة.
(3)
تفسير مجاهد ص 420، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 111 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 353 عن معمر به.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ بكسرِ الشينِ: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . سوى أبي جعفر القارئِ
(1)
، فإن المثنى حدَّثني، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حمادٍ، قال: ثني أبو سعيدٍ الرازيُّ، عن أبي جعفرٍ قارئِ المدينةِ أنه كان يَقْرَأُ:{لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} ، بفتحِ الشينِ، وكان يقولُ: إنما الشَّقُّ: شَقُّ النفسِ. وقال ابن أبي حمادٍ: وكان معاذٌ الهرَّاءُ يقولُ: هي لغةٌ، تقولُ العربُ: بشَقٍّ وبشِقٍّ، وبرَقٍّ وبرِقٍّ.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا ما عليه قرأةُ الأمصارِ، وهى كسرُ الشينِ، لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه، وشذوذِ ما خالَفه، وقد يُنْشَدُ هذا البيتُ بكسرِ الشينِ وفتحِها، وذلك قولُ الشاعرِ
(2)
:
وذى إبلٍ يَسْعَى ويَحْسِبُها له
…
أخي نَصَبٍ مِن شِقِّها ودُءوبِ
و "مِن شَقِّها"، أيضًا، بالكسرِ والفتحِ؛ وكذلك قولُ العجّاجِ
(3)
:
أصبَح مَسْحولٌ
(4)
يوازى شَقًا
و "شَقًّا"، بالفتحِ والكسرِ، يَعْنى بقولِه:"يوازى شِقًّا": يُقاسي مشقةً. وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يَذْهَبُ بالفتحِ إلى المصدرِ مِن: شَقَقْتُ عليه أَشُقُّ شَقًّا. وبالكسرِ إلى الاسمِ. وقد يَجُوزُ أن يكونَ الذين قرَءوا بالكسرِ، أرادوا إلا ينقصٍ مِن القوَّةِ، وذَهَابِ شيءٍ منها، حتى لا يَبْلُغَه إلا بعدَ نَقْصِها، فيكونَ معناه عندَ ذلك: لم
(1)
النشر في القراءات العشر 2/ 227، وإتحاف فضلاء البشر ص 168.
(2)
البيت للنمر بن تولب. ديوانه ص 40، وقد نسب البيت لأبي حزام العكلي في شرح القصائد السبع الجاهليات ص 138، ونسب أيضًا لحاتم الطائى في المجاز من شعر بشار للخالديين ص 134.
(3)
ديوانه ص 72.
(4)
مسحول: اسم جَمَلِه. ديوان العجاج شرح الأصمعي ص 72.
تكونوا بالغيه إلا بشقِّ قُوَى أنفسِكم، وذَهَابِ شِقِّها الآخرِ. ويُحْكَى عن العربِ: خُذْ هذا الشِّقَّ. لشِقَّةِ الشاةِ، بالكسرِ. فأما في: شَقَقْتُ
(1)
عليك شَقًّا، فلم يُحْكَ فيه إلا النصبُ
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّكم أيُّها الناسُ ذو رأفةٍ
(3)
ورحمةٍ، ومن رحمتِه بكم خلَق لكم الأنعامَ لمنافِعِيكم ومصالحِكم، وخلَق السماواتِ والأرضَ أدلةً لكم على وحدانيةِ ربِّكم، ومعرفةِ إلهِكم، لتَشْكُروه على نِعَمِه عليكم، فيزيدَكم مِن فضلهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وخلَق الخيلَ والبغالَ والحَميرَ لكم أيضًا لتركَبوها، {وَزِينَةً}. يقولُ: وجعَلها لكم زينةً، تَتَزَينون بها، مع المنافعِ التي فيها لكم للركوبِ وغيرِ ذلك، ونُصِبَ الخيلُ والبغالُ، عطفًا على الهاءِ والألفِ في قولِه:{خَلَقَهَا} . ونُصِبَ الزينةُ بفعل مضمرٍ على ما بَيَّنتُ، ولو لم يَكُنْ معها
(4)
، واوٌ، وكان الكلامُ: لتركَبوها زينةً. كانت منصوبةً بالفعلِ الذي قبلَها، الذي هي به متصلةٌ، ولكنَّ دخولَ الواوِ آذَنَت بأن معها ضميرَ فعلٍ، وبانقطاعِها عن الفعلِ الذي قبلَها.
(1)
في م: "شقت".
(2)
معاني القرآن 2/ 97
(3)
بعده في ص، م:"بكم".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"معهما".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} . قال: جعَلها لتَرْكَبوها، وجعَلها زينةً لكم
(1)
.
وكان بعضُ أهلِ العلمِ يرى أن في هذه الآيةِ دلالةً على تحريمِ أكلِ لُحومِ الخيلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدِ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو حمزةَ
(2)
، عن أبي
(3)
إسحاقَ، عن رجلٍ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} . قال: هذه للرُّكوبِ. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} . قال: هذه للأكلِ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: ثنا
(4)
هشامٌ الدَّستوائيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ أبي كثيرٍ، عن مولى
(5)
نافعِ بن عَلْقمةَ، أن ابنَ عباسٍ كان يَكْرَهُ لحومَ الخيلِ والبغالِ والحميرِ، وكان يقولُ: قال اللهُ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . فهذه للأكلِ، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 353 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في النسخ: "ضمرة"، والمثبت هو الصواب، وهو محمد بن ميمون المروزى أبو حمزة السكرى.
تهذيب الكمال 26/ 544 وينظر أيضًا تهذيب الكمال 32/ 23.
(3)
في ت 1، ت 2:"ابن". وينظر تهذيب الكمال 26/ 544.
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"ابن".
(5)
بعده في ت 2: "عن".
لِتَرْكَبُوهَا}؛ فهذه للرُّكوبِ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابن
(2)
أبي ليلى، [عن المنهالِ]
(3)
، عن سعيدٍ، عن ابن عباسٍ، أنه سُئِل عن لُحومِ الخيلِ، فكرِهها، وتلا هذه الآية:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} الآية
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا قيسُ بنُ الربيعِ، عن ابن أبي ليلى، عن المنهالِ بنُ عمرٍو، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ أنه سُئِل عن لُحومِ الخيلِ، فقال: اقْرَأ التي قبلَها: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
…
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ، فجعَل هذه للأكلِ، وهذه للرُّكوبِ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عبدِ الملكِ بنُ أبي غَنِيَّة
(5)
، عن أبيه، عن الحَكَمِ:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} : فجعَل منه الأكلَ. ثم قرَأ حتى بلَغ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} . قال: لم يَجْعَلْ لكم فيها أكلًا. قال: وكان الحَكَمُ يقولُ: الخيلُ والبغالُ والحميرُ حرامٌ في كتابِ اللهِ
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 71 عن ابن علية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 111 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت، ف.
(3)
سقط من: ت 1، ت، ف.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 70 عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5)
في ص: "عسه" بدون نقط، وفى ت 1:"عبينة"، وفى ت 2:"عيينة"، وفى ف:"عينية". وهو يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي. تهذيب الكمال 31/ 446.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 111 إلى المصنف وابن المنذر.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا ابن أَبي غَنِيَّةً
(1)
، عن الحَكَمِ، قال لُحومُ الخيلِ حرامٌ في كتابِ اللهِ. ثم قرَأ:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} إلى قولِه: {لِتَرْكَبُوهَا} .
وكان جماعةٌ غيرُهم مِن أهلِ العلمِ يُخالِفونهم في هذا التأويلِ، ويَرَوْن أن ذلك غيرُ دالٍّ على تحريمِ شيءٍ، وأن الله جلَّ ثناؤُه إنما عرَّف عبادَه بهذه الآيةِ، وسائرِ ما في أوائلِ هذه السورةِ، نِعَمَه عليهم، ونبَّههم به على حُجَجِه عليهم، وأدلتِه على وحدانيتِه، وخَطَأَ فعلِ مَن يُشْرِكُ به مِن أهلِ الشركِ.
ذكرُ بعضِ مَن كان لا يَرَى بأسًا بأكلِ لحمِ الفَرَسِ
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن شعبةَ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ، أنه أكَل لحمَ فَرَسٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن شعبةَ، عن الحَكَمِ، عن إبراهيمَ، عن الأسود بنحوِه.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: نحَر أصحابُنا فَرَسًا في النَّجْعِ
(3)
، وأكَلوا منه، ولم يرَوا به بأسًا
(4)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا ما قاله أهلُ القولِ الثاني، [وذلك]
(5)
أنه لو
(1)
في ت 1، ت 2:"عيينة".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 69 من طريق مغيرة به.
(3)
النَّجع: مكان انتجاع القبيلة، يطلق على مواضيع النجعة، والنُّجعة: طلب الكلأ في موضعه. التاج (ن ج ع).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8732)، وابن أبي شيبة 8/ 69 من طريق سفيان به بنحوه.
(5)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
كان في قولِه تعالى ذكرُه: {لِتَرْكَبُوهَا} . دِلالةٌ على أنها لا تَصْلُحُ - إذ كانت للركوبِ - للأكلِ، لكان في قولِه:{فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . دلالةٌ على أنها لا تَصْلُحُ - إذ كانت [للأكلِ والدِّفْءِ - للركوبِ، وفي إجماعِ الجميعِ على أن ركوبَ
(1)
ما قال تعالى ذكرُه: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . جائزٌ حلالٌ غيرُ حرامٍ، دليل]
(2)
واضحٌ على أن أكلَ ما قال: {لِتَرْكَبُوهَا} . جائزٌ حلالٌ غيرُ حرامٍ، إلا بما نَصَّ على تحريمِه، أو وضَع على تحريمِه دلالةً؛ مِن كتابٍ، أو وحيٍ إلى رسولهِ صلى الله عليه وسلم. فأما بهذه الآيةِ، فلا يُحَرَّمُ أَكلُ شيءٍ. وقد وضَع الدَّلالةَ على تحريمِ لُحومِ الحُمُرِ الأهليةِ بوحيِه إلى رسولِه، وعلى البغالِ بما قد بيَّنا في كتابِنا، كتابِ الأطعمةِ، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ، إذ لم يَكُنْ هذا الموضعُ من مواضعِ البيانِ عن تحريمِ ذلك، وإنما ذكَرنا ما ذكَرنا، ليَدُلَّ على ألَّا وجهَ لقولِ
(3)
مَن اسْتَدَلَّ بهذه الآيةِ على تحريمِ لُحومِ
(4)
الفرسِ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن عبدِ الكريمِ، عن عطاءٍ، عن جابرٍ، قال: كنا نأكُلُ لحمَ الخيلِ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قلت: فالبغالُ؟ قال: أما البغالُ فلا
(5)
.
وقولُه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ويَخْلُق ربُّكم مع خلقِه هذه الأشياءَ التي ذكَرها لكم، ما لا تَعْلَمون، مما أعَدَّ في الجنةِ لأهلِها، وفي
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يكون".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بقول".
(4)
في م: "لحم".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8733)، وابن أبي شيبة 8/ 71، والنسائى (4342، 4345)، وابن ماجه (3197) من طريق عبد الكريم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى ابن مردويه.
النارِ لأهلِها، مما لم تَرَهُ عَينٌ، ولا سمِعته أذنٌ، ولا خطَر على قلبِ بشرٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وعلى اللهِ، أَيُّها الناسُ، بيانُ طريقِ الحقِّ لكم، فمن اهْتَدى فلنفسِه، ومَن ضلَّ فإنما يَضِلُّ عليها. والسبيلُ هي الطريقُ، والقصدُ مِن الطرقِ
(1)
: المستقيمُ الذي لا اعوجاجَ فيه، كما قال الراجزُ
(2)
:
فصَدَّ عن نَهْج الطريقِ القاصدِ
وقولُه: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} . يَعْنى تعالى ذكرُه: ومن السبيلِ جائزٌ عن الاستقامةِ مُعْوَجٌّ، فالقاصدُ من السُّبُلِ الإسلامُ، والجائرُ منها اليهوديةُ والنصرانيةُ وغيرُ ذلك مِن مِلَلِ الكفرِ، كلُّها جائرٌ عن سواءِ السبيلِ وقصدِها، سوى الحنيفيةِ المسلمةِ، وقيل:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} . لأن السبيلَ يُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ، فأُنثتْ في هذا الموضعِ. وقد كان بعضُهم يقولُ: إنما قيل: {وَمِنْهَا} ، لأنَّ السبيلَ وإن كان لفظُها لفظَ واحدٍ، فمعناها الجمعُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . يقولُ: البيانُ
(3)
.
(1)
في م: "الطريق".
(2)
تقدم في 1/ 171.
(3)
في ت 1: "علي الله البيان"، والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 479 عن علي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، يقولُ: على اللهِ البيانُ؛ أن يُبَيِّن الهدى والضلالةَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . قال: طريقُ الحقِّ على اللهِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، [قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه]
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . يقولُ: على اللهِ البيانُ؛ بيانُ
(4)
حلالِه وحرامِه، وطاعتِه ومعصيتِه
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . قال: [السبيلُ طريقً الهدى]
(6)
(7)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 479 عن العوفي عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 420، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ت 1: "عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال: طريق الحق".
(4)
في ص، ت 2، ف:"تبيان".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في ص، ت 2، ف:"السبيل الأرض الطريق الهدى"، وفى ت 1:"السبيل الطريق الهدى".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى المصنف.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} . قال: إنارتُها.
حدَّثت عن الحسينِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ، يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، يقولُ: على اللهِ البيانُ، يُبَيِّنُ الهدى مِن الضلالةِ، ويُبَيِّنُ السبيلُ التي تَفَرَّقت عن سُبُلِه، ومنها جائرٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} : أي من السُّبُل
(2)
، سُبُلُ
(3)
الشيطانِ. وفى قراءةِ عبدِ اللهِ بن مسعودٍ: (وَمِنْكُمْ جائِرٌ، وَلَوِ شَاءَ
(4)
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).
حدَّثنا محمدُ بن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} . قال: في حرفِ ابن مسعود: (وَمِنْكُمْ جائِرٌ)
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، [عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} . يعنى: السبلُ المتفرِّقةُ
(6)
.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليّ]
(7)
، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 479 عن الضحاك به.
(2)
في ت 2: "السبيل".
(3)
في ت 2: "سبيل".
(4)
بعده في م: "الله".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 354 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(7)
سقط من: ت 1.
ابن عباسٍ، في قولِه:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} . يقولُ: الأهواءُ المختلفةُ
(1)
.
حدَّثت عن الحسينِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ، يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} . يعنى: السبلُ التي تَفَرَّقت عن سبيلِه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} السبلُ المتَفَرقةُ عن سبيلِه.
حدَّثنا يونسُ، [قال: أخبَرنا ابن وهبٍ]
(2)
، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} . قال: من السُّبُلِ جائرٌ عن الحقِّ. قال: وقال اللهُ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(3)
[الأنعام: 153].
وقولُه: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . يقولُ: ولو شاء اللهُ للَطَفَ بجميعِكم، أيُّها الناسُ، بتَوْفِيقِه، فكنتم تَهْتَدون، وتَلْزَمون قصدَ السبيلِ، ولا تَجُورون عنه، فتَتَفرَّقون في سبلٍ عن الحقِّ جائرةٍ.
كما حدّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قولِه:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . قال: لو شاء لهداكم أجمعين لقَصْدِ السبيلِ الذي هو الحقُّ. وقرَأ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} الآية [يونس: 99)، وقرَأ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآية [السجدة: 13].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1: "القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى المصنف.
يقولُ تعالى ذكرُه: والذي أنعَم عليكم هذه النِّعَمَ، وخلَق لكم الأنعامَ والخيلَ وسائرَ البهائمِ لمنافعِكم ومصالحِكم، هو الربُّ الذي أنزَل من السماءِ {مَاءً} ، يعني: مطرًا، {لَّكُمْ} ، مِن ذلك الماءِ {شَرَابٌ} تَشْرَبونه، {وَمِنْهُ} شرابُ أشجارِكم وحياةُ غُروسِكم ونباتُها. {فِيهِ تُسِيمُونَ}. يقولُ: في الشجرِ الذي يَنْبُتُ مِن الماءِ الذي أُنْزِل مِن السماءِ تُسِيِمون، يعنى تُرْعُون، يقالُ منه: أسام فلانٌ إبِلَه يُسِيمُها إسامةً، إذا أرْعاها، وسوَّمها أيضًا يُسوِّمُها، وسامَت هي، إذا رعَت، فهي تَسُومُ، وهى إبلٌ سائمةٌ، ومن ذلك قيل للمواشِي المُطْلَقَةِ في الفلاةِ وغيرها للرَّعْيِ: سائمةٌ. وقد وجَّه بعضُهم معنى السَّوْمِ في البيعِ، إلى أنه مِن هذا، وأنه ذَهابُ كلِّ واحدٍ من المتَبايِعَيْن، فيما يَنْبَغى له مِن زيادةِ ثمنٍ ونقصانٍ
(1)
كما تَذْهَبُ سوائمُ المواشى حيثُ شاءَت مِن مراعيها، ومنه قولُ الأعشى
(2)
:
ومشَى القومُ بالعِمَادِ إلى الرَّزْ
…
حَى
(3)
وأعيا المُسيمَ أين المساقُ
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن النَّضْرِ بن عربيٍّ، عن عكرمةَ:{وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . قال: تُرْعُونَ
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ سهيلٍ الواسطيُّ، قال: ثنا قرةُ بنُ عيسى، عن النضرِ بن عربيٍّ،
(1)
في م: "نقصانه".
(2)
ديوانه ص 213.
(3)
في م: "المرعى". والرزحى: جمع الرازح، وهو الشديد الهزال من الإبل. اللسان (ر ز ح).
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 479 عن عكرمة به.
عن عكرمةَ، في قولِه:{فِيهِ تُسِيمُونَ} . قال: تُرْعُون
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: تُرْعُون.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . يقولُ: شَجَرٌ يُرْعُون فيه أنعامَهم وشاءَهم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {فِيهِ تُسِيمُونَ} . قال: تُرْعُون.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ وأبو خالدٍ، عن جُوَييرٍ، عن الضحاكِ: فيه تُرْعُون
(2)
.
حدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ، يقولُ: ثنا عبيدٌ، عن الضحاكِ، في قولِه:{تُسِيمُونَ} . يقول: تُرْعُون أنعامَكم
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن طلحةَ بن أبي طلحةَ القَنّادِ، قال: سمِعت عبدِ اللهِ بنَ عبدِ الرحمنِ بن أَبزَى، قال: فيه تُرْعُون.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . يقولُ: تُرْعُون.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 479 عن الضحاك به.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: تُرْعُون
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سنانٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، عن قتادةَ في قولِ اللهِ:{شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . قال: تُرْعُون.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . قال: تُوْعُونَ
(2)
.
قال: الإسامةُ الرِّعْيَةُ، وقال الشاعرُ
(3)
:
مثلِ ابن بَزْعَةَ أَو كَآخَر مِثْلِهِ
…
أَوْلَى لك ابنَ مُسِيمةِ الأجْمالِ
قال: يا بنَ راعيةِ الأجْمالِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يُنْبِتُ لكم ربُّكم بالماءِ الذي أنزَل لكم مِن السماءِ، زَرْعَكم وزَيْتونَكم ونَخِيلَكم وأعنابَكم، {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ، يعنى مِن كلِّ الفواكهِ غيرِ ذلك، أرزاقًا لكم وأقواتًا وإدامًا وفاكهةً، نعمةً منه عليكم بذلك وتَفْضُّلًا، وحُجَّةً على مَن كفَر به منكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: إن في إخراجِ اللهِ بما يُنْزِلُ مِن السماءِ مِن ماءٍ، ما وصَف لكم {لَآيَةً}. يقول: لدلالةً واضحةً، وعلامةً بيِّنةً {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. يقولُ: لقومٍ يَعْتَبرون مواعظَ اللهِ، ويَتَفَكَّرون في حُجَجِه، فيَتَذَكَّرون ويُنيبون.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 354 عن معمر به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 479 عن ابن زيد به.
(3)
هو الأخطل، وتقدم في 5/ 266.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {(11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن نِعَمِه عليكم أيُّها الناسُ، مع التي ذكَرها قبلُ، أن سخَّر لكم الليلَ والنهارَ يَتَعاقَبان عليكم، هذا لتَصَرُّفِكم في معاشِكم، وهذا لسكَنِكم فيه، {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لمعرفةِ أوقاتِ أزمنتِكم وشهورِكم وسنينِكم، وصلاحِ معايِشكم، {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} لكم بأمرِ الله، تَجْرى في فَلَكِها، لتَهْتَدُوا بها في ظُلُماتِ البرِ والبحرِ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: إن في تَسْخيرِ اللهِ ذلك على ما سخَّره، لدِلالاتٍ واضحاتٍ، لقومٍ يَعْقِلُون حُجَجَ اللهِ ويَفْهَمون عنه تنبيهَه إياهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)} .
يعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} : وسخَّر لكم ما ذرَأ لكم، أي ما خلَق لكم في الأرضِ {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} مِن الدوابِّ والثمارِ.
كما حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٍ، عن قتادةَ قوله:{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} . يقول: وما خلَق لكم {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} من الدوابِّ، ومن الشجرِ والثمارِ، نِعَمٌ مِن الله مُتظاهِرةٌ، فاشْكُروها للهِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 112 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قتادةَ، قال: مِن الدوابِّ والأشجارِ والثمارِ
(1)
.
ونُصِب قولُه: {مُخْتَلِفًا} لأن قولَه {وَمَا} في موضعِ نصبٍ بالمعنى الذي وصَفت. وإذا كان ذلك كذلك، وجَب أن يكونَ {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} ، حالًامِن "ما"، والخبرُ دونَه تامٌّ
(2)
، ولو لم تَكُنْ "ما" في موضعِ نصبٍ، وكان الكلامُ مبتدأً مِن قولِه:{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} لم يَكُنْ في "مختلفٍ" إلا الرفعُ؛ لأنه كان يصيرُ مُرافَعَ "ما" حينَئذٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: والذي فعَل هذه الأفعالَ بكم وأنعَم عليكم، أيُّها الناسُ، هذه النِّعَمَ، هو الذي سخَّر لكم البحرَ، وهو كلُّ نَهَرٍ، مِلْحًا كان ماؤه أو عَذْبًا {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} ، وهو السمكُ الذي يُصْطادُ منه {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} ، وهى اللُّؤلُؤُ والمَرجانُ.
كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: أخبرنا هشامٌ، عن عمرٍو، عن سعيدٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} . قال: منهما
(3)
جميعًا. {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} ، قال: هذا اللُّؤْلُوُ
(4)
.
(1)
عبد الرزاق 1/ 353 - 354 من طريق معمر به.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"منها" ومنهما، أي: من البحرين المالح والعذب جميعًا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 113 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} ، يعني: حِيتانَ البحرِ.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا [خلَّادُ بنُ]
(1)
يحيى، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الملكِ، قال: جاء رجلٌ إلى أبى جعفرٍ، فقال: هل في حُلْيِ النساءِ صَدَقَةٌ؟ قال: لا، هي كما قال اللهُ عز وجل:{حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}
(2)
.
{وَتَرَى الْفُلْكَ} ، يعنى: السُّفْنَ {مَوَاخِرَ فِيهِ} ، وهى جمعُ ماخِرةٍ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {مَوَاخِرَ} ؛ فقال بعضُهم: المواخرُ المواقِرُ
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرٍو بنُ موسى القزّازُ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا يونسُ، عن الحسنِ في قولِه:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} . قال: المواقِرُ
(4)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا به عبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ، قال: ثنا محمدُ بنُ ربيعةَ، عن أبي بكرٍ الأصمِّ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} ، قال: ما أُخِذ عن يمينِ السفينةِ وعن يَسارِها مِن الماءِ، فهو المواخرُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن أبي مَكِينٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} . قال: هي السفينةُ تقولُ بالماءِ هكَذا. يَعْنى:
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"حماد عن". وينظر تهذيب الكمال 8/ 359.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 155 من طريق إسماعيل به
(3)
المواقر: ذوات الأحمال الثقيلة. ينظر اللسان (و ق ر).
(4)
ذكره القرطبي 10/ 89 عن الحسن به.
تَشْقُّه
(1)
.
وقال آخرون فيه: بما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه} . قال: تَجْرى فيه مُتَعَرِّضةً.
وقال آخرون فيه بما حدَّثني به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه} . قال: تَمْخُرُ السفينةُ الرياحَ، ولا تَمْخُرُ الريحُ من السُّفُنِ، إلا الفُلْكَ العظيمَ
(2)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا: إسحاقُ، قال: ثنا عبد اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه، غيرَ أن الحارثَ قال في حديثِه: ولا تَمْخُرُ الرياحُ مِن السفنِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَوَاخِرَ} . قال: تَمْخُرُ الريحَ.
وقال آخرون فيه ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 113 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "العظام". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 113 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 420.
{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} : تَجْرِى بريحٍ واحدةٍ، مُقبلةً ومُدبِرةً
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: تجرى مُقْبِلةً ومُدْبِرةً، بريحٍ واحدةٍ
(2)
.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن يزيدَ بنُ إبراهيمَ، قال: سمِعت الحسنَ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} . قال: مقبلةً ومدبرةً، بريحٍ واحدةٍ
(3)
.
والمخْرُ في كلامِ العربِ صوتُ هبوبِ الريحِ إذا اشتدَّ هبوبُها، وهو في هذا الموضعِ صوتُ جريِ السفينةِ بالريحِ إذا عصَفَت، وشَقِّها الماءَ حينَئِذٍ بصدرِها. يُقالُ: منه: مخَرَت السفينةُ تَمْخُرُ مَخْرًا ومُخورًا، وهى ماخرةٌ. ويقالُ: امْتَخَرْتُ الريحَ وتَمَخَّرْتُها. إذا نظَرْتَ مِن أين هُبوبُها، وتَسَمَّعْتَ صوتَ هُبوبِها. ومنه قولُ واصلٍ مولى أبي
(4)
عُيَيْنةَ: كان يُقالُ: إذا أراد أحدُكم البولَ فلْيَتَمَخَّرِ الريحَ. يريدُ بذلك: ليَنْظُرْ مِن أينَ مَجراها وهبوبُها؛ ليَسْتَدْبِرَها، فلا تُرجِعَ عليه البولَ وتردَّه عليه
(5)
.
وقولُه: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولتَتصَرَّفوا في طلبِ معايِشِكم بالتجارةِ
(6)
، كما حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . قال: تجارةُ البرِّ والبحرِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 13 إلى المصنف، كما ذكره البغوي في تفسيره 5/ 12 عن قتادة.
(2)
عبد الرزاق 1/ 354 عن معمر به.
(3)
في م: "واحد". والأثر ذكره الطوسى في التبيان 6/ 367 عن الحسن به
(4)
في م، ص، ف:"ابن"، وينظر مصدر التخريج.
(5)
ينظر تلخيص الحبير لابن حجر 1/ 107.
(6)
بعده في النسخ: "سخر لكم"، وهو انتقال نظر. والمثبت ما يقتضيه السياق.
وقولُه: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . يقولُ: ولتَشْكُروا ربَّكم على ما أنعَم به عليكم، من ذلك [ما سخَّر لكم]
(1)
مِن هذه الأشياءِ، التي عدَّدها في هذه الآياتِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن نِعَمِه عليكم أيُّها الناسُ أيضًا، أن ألْقَى في الأرضِ رواسِيَ، وهى جمعُ راسيةٍ، وهى الثوابتُ في الأرضِ مِن الجبالِ.
وقولُه: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} يعنى: أن لا تميدَ بكم، وذلك كقولِه:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176). والمعنى: أن لا تَضِلوا. وذلك أنه جلَّ ثناؤُه أرْسَى الأرضَ بالجبالِ، لئلا تَمِيدَ خلقَه الذي على ظهرِها، وقد كانت مائدةً قبل أن تُرْسَى بها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن قيسِ بن عُبَادٍ، أن الله تبارك وتعالى لما خلَق الأرضَ جَعَلت تمورُ، قالت الملائكةُ: ما هذه بمُقِرَّةٍ على ظهرِها أحدًا، فأصبَحت صُبحًا وفيها رواسيها
(2)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا الحجاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا حمادٌ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن عبدِ اللهِ بن حبيبٍ، عن عليّ بن أبى طالبٍ، قال: لما خلّق اللهُ الأَرضَ قمَصت
(3)
، وقالت: أي ربِّ، أَتَجْعَلُ عليَّ بنى آدمَ، يَعْمَلُون عليَّ الخطايا، ويَجْعَلُون
(1)
في النسخ: "سخر لكم ما سخر". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 481، كما عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 113 إلى المصنف وابن المنذر وعبد بن حميد.
(3)
قمصت: اضطربت.
عليَّ الخَبَثَ؟ قال: فأَرْسَى اللهُ عليها مِن الجبالِ ما تَرَوْن وما لا تَرَوْنَ، فكان إقرارُها كاللحمِ يَتَرَجْرَجُ
(1)
.
والمَيْدُ هو الاضْطرابُ والتكفِّى
(2)
، يُقال: مادت السفينةُ تمِيدُ مَيْدًا. إذا تَكَفَّأتْ بأهلِها، ومالَت، ومنه المَيْدُ الذي يَعْتَرى راكبَ البحرِ: وهو الدُّوَارُ
(3)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: أن تُكْفَأَ بكم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} . قال: الجبالَ، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}. قال قتادةُ: سمعتُ الحسنَ يقولُ: لما خُلِقت الأَرضُ كادَت تَميدُ، فقالوا: ما هذه بمُقِرَّةٍ على ظهرِها أحدًا. فأصبَحوا وقد خُلِقت الجبالُ، فلم تَدْرِ الملائكةُ ثمَّ
(4)
خُلِقت الجبالُ
(5)
؟
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 481، 482 نقلا عن الطيرى.
(2)
في م: "التكفر".
(3)
تفسير مجاهد ص 420 من طريق ابن أبي نجيح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 113 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ت 2: "ثم".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 354 عن معمر به.
وقولُه: {وَأَنْهَارًا} . يقولُ: وجعَل فيها أنهارًا، فعطَف بالأنهارِ على الرواسِي، وأعملَ فيها ما أعملَ في الرواسِي، إذ كان مفهومًا معنى الكلامِ والمرادُ منه، وذلك نظيرُ قول الراجزِ
(1)
:
تَسْمَعُ في أجوافِهن صَوْرا
…
وفي اليَدَيْنِ حَشَّةً وبَوْرَا
والحشَّةُ: اليُبْسُ، فعَطَف بالحَشَّةِ على الصوتِ، والحَشَّةُ لا تُسْمَعُ، إذ كان مفهومًا المرادُ منه، وأن معناه: وتَرَى في اليدين حَشَّةً.
وقوله: {وَسُبُلًا} ، وهي جمعُ سبيلٍ، كما الطُّرُقُ جمعُ طريقٍ. ومعنى الكلامِ: وجعَل لكم أيُّها الناسُ في الأرضِ سُبُلًا وفجاجًا تَسْلُكونها، وتَسيرون فيها في حوائجِكم، وطَلَبِ معايشِكم؛ رحمةً بكم ونعمةً منه بذلك عليكم، ولو عمّاها عليكم لهلَكتم ضلالًا وحَيْرةً.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَسُبُلًا} ، أي: طُرُقًا
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَسُبُلًا} . قال: طُرُقًا
(3)
.
وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، يقولُ: لكي تَهْتَدوا بهذه السُّبُلِ التي جعَلها
(1)
البيتان في التبيان للطوسي 6/ 367.
(2)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 113 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب في كتابه النجوم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق 1/ 354 عن معمر به.
لكم في الأرضِ، إلى الأماكن التي تَقْصِدون، والمواضعِ التي تُرِيدون، فلا تَضِلُّوا وتَتَحَيَّروا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بالعلاماتِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها معالمُ الطرقِ بالنهارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . يعنى بالعلاماتِ: معالمَ الطُّرُقِ بالنهارِ، {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل
(1)
.
وقال آخرون: عُنِى بها النجومُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . قال: منها ما يكونُ علاماتٍ، ومنها ما يَهتَدُون به.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . قال: منها ما يكونُ علامةً، ومنها ما يُهْتَدى به
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 113 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 114 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
حدَّثنا المُثَنَّى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(1)
.
حدثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا قَبيصةُ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ مثلَه. قال المُثَنَّى: قال
(2)
إسحاقُ: خالَف قَبيصةُ وكيعًا في الإسنادِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} والعلاماتُ النجومُ، وإن الله تبارك وتعالى إنما خلَق هذه النجومَ لثلاثِ خَصَلات؛ جعَلها زينةً للسماءِ، وجعَلها يُهتَدى بها، وجعَلها رُجومًا للشياطين، فمن تعَاطى فيها غيرَ ذلك، فقد رأيَه، وأخطَأ حظَّه، وأضاع نصيبَه، وتكلَّف ما لا علمَ له به.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَعَلَامَاتٍ} . قال: النجومُ
(3)
.
وقال آخرون: عُنِى بها الجبالُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ عن الكلبيِّ:{وَعَلَامَاتٍ} . قال: الجبالُ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 14 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
بعده في م: "ثنا".
(3)
أخرجه عبد الرزاق 1/ 354 عن معمر به.
(4)
تفسير البغوي 5/ 113 عن الكلبي به، وعبد الرزاق 1/ 354 عن معمر به، كما عزاه السيوطي في الدر 4/ 113 إلى المصنف وابن المنذر.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه عدَّد على عبادِه مِن نِعَمِه إنعامَه عليهم بما جعَل لهم مِن العلاماتِ التي يهْتدون بها في مسالِكهم وطُرُقِهم التي يَسيرونها، ولم يَخْصُصْ بذلك بعضَ العلاماتِ دونَ بعضٍ، فكلُّ علامةٍ اسْتَدلَّ بها الناسُ على طُرُقِهم وفِجاجِ سُبُلِهم، فداخلٌ في قولِه:{وَعَلَامَاتٍ} ، والطُّرُقُ المسْبُولةُ الموطوءةُ علامةٌ للناحيةِ المقصودةِ، والجبالُ علامات يُهْتَدى بهنَّ إلى قَصْدِ السبيل، وكذلك النجومُ بالليلِ، غير أن الذي هو أولى بتأويلِ الآيةِ أن تَكُونَ العلاماتُ من أدلةِ النهارِ إذ كان اللهُ قد فصَل منها أدلةَ الليل بقولِه:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ؛ وإذ كان ذلك أشبهَ وأولى بتأويلِ الآيةِ، فالواجبُ أن يَكُون القولُ في ذلك ما قاله ابن عباسٍ في الخبرِ الذي رُوِّيناه عن عطيةَ عنه، وهو أن العلاماتِ معالمُ الطُّرُقِ وأماراتُها التي يُهْتدى بها إلى المستقيمِ منها نهارًا، وأن يكون النَّجمِ الذي يُهْتدى به ليلًا هو الجَدْىُ والفَرْقدانِ، لأنَّبها اهتداءَ السفرِ، دونَ غيرِها مِن النجومِ.
فتأويلُ الكلامِ إذن: وجعَل لكم أيُّها الناسُ علاماتٍ تسْتَدِلُّون بها نهارًا على طُرُقِكم في أسفارِكم، ونجومًا تهتَدون بها ليلًا في سُبُلكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لعَبَدةِ الأوثانِ والأصنامِ: أفمن يخلقُ هذه الخلائقَ العجيبةَ، التي عدَّدناها عليكم، ويُنْعِمُ عليكم هذه النِّعَمَ العظيمةَ، كمن لا يخلقُ شيئًا، ولا يُنْعِمُ عليكم نعمةً صغيرةً ولا كبيرةً. يقول: أتُشْرِكون هذا في عبادةِ هذا؟ يُعَرِّفُهم بذلك عِظمَ جهلِهم، وسوءَ نظرِهم لأنفسِهم، وقلَّةَ شُكْرِهم لمن أَنْعَم عليهم بالنِّعمِ التي عدَّدها عليهم، التي لا يُحْصِيها أحدٌ غيرُه. قال لهم جلَّ ثناؤُه مُوَبِّخَهم:
{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَيُّها الناسُ. يقولُ: أفلا تَذكَّرون نِعمَ اللهِ عليكم، وعظيمَ سُلطانِه وقُدرتِه على ما شاء، وعجزَ أوثانِكم وضعْفَها وَمَهانتَها، وأنها لا تَجْلُّبُ إلى نفسِها نفعًا، ولا تَدْفَعُ عنها ضُرًّا، فتَعْرِفوا بذلك خَطَأَ ما أنتم عليه مُقيمون، من عبادِتكُموها، وإقرارِكم
(1)
لها بالأُلُوهَةِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . واللهُ هو الخالقُ الرازقُ، وهذه الأوثانُ التي تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ تُخْلَقُ، ولا تَخْلُقُ شيئًا، ولا تَمْلِك لأهلِها ضَرًّا ولا نفعًا. قال اللهُ:{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
(2)
.
وقيل: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [ومن لا يَخْلُقُ]
(3)
هو الوَثَنُ والصَّنَمُ، و "مَن" لذَوِى التمييزِ خاصةً، فجُعِل في هذا الموضعِ لغيرِهم التمييزُ، إذ وقَع تَفْصِيلًا بينَ مَن يَخْلُقُ ومَن لا يَخْلُقُ. ومَحْكيٌّ عن العربِ: اشْتَبه عليَّ الراكبُ وحملُه
(4)
، فما أَدْرِى مَن ذا مِن
(5)
ذا. حيثُ جُمِعًا وأحدُهما إنسانٌ، حَسُنت "من" فيهما جميعًا. ومنه قولُ اللهِ عز وجل:{فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45].
وقولُه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} : لا تُطِيقوا أداءَ شُكْرِها، {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. يقول جلَّ ثناؤُه:{إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} لما كان منكم من تقصيرٍ في شكرِ بعضِ ذلك، إذا تُبتُم وأنَبْتُم إلى طاعتِه، واتباعِ مَرْضاتِه،
(1)
في ت 1، ت 2:"إفرادكم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 114 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(4)
في م: "جملة". وينظر معاني القرآن 2/ 98.
(5)
في م: "ومن".
{رَحِيمُ} بكم أن يُعَذِّبَكم عليه بعدَ الإنابةِ إليه والتوبةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واللهُ
(1)
الذي هو إلهُكم أيها الناسُ، يَعْلَمُ مَا تُسِرُّون في أنفسِكم من ضمائرِكم، فتُخْفُونه عن غيرِكم فَمَا
(2)
تُبْدُونه
(3)
بألسنتِكم وجوارحِكم، وما تُعْلِنونه بألسنتِكم وجوارحِكم من
(4)
أفعالِكم، وهو مُحْصِ ذلك كلَّه عليكم، حتى يُجَازِيَكم به يومَ القيامةِ؛ المحسنَ منكم بإحسانِه، والمسيءَ منكم بإساءتِه، ومُسائِلُكم عما كان منكم مِن الشكرِ في الدنيا على نِعَمِه التي أنعَمها عليكم، منها
(5)
التي أحْصَيتم والتي لم تُحْصُوا.
وقولُه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأوثانُكم الذين تَدْعون مِن دونِ اللهِ، أَيُّها الناسُ، آلهةً لا تَخْلُقُ شيئًا وهى تُخْلَقُ - فكيف يَكُونُ إلهًا ما كان مصنوعًا مُدَبَّرًا؟ لا تَمْلِك لأنفسِها نفعًا ولا ضَرًّا؟.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء المشركين مِن قريشٍ: والذين تَدْعُون مِن دونِ اللهِ، أيُّها الناسُ، {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . وجعَلها جلَّ ثناؤُه
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(2)
في ت 2، ف:"مما".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"تبدوه".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ف:"و".
(5)
في م: "فيها".
أمواتًا غيرَ أحياءٍ؛ إذ كانَت لا أرواحَ فيها، كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} : وهى هذه الأوثانُ التي تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ، أمواتٌ لا أرواحَ فيها، ولا تَمْلِكُ لأهلِها ضَرًّا ولا نَفْعًا.
وفي رفْعِ الأمواتِ وجهان؛ أحدُهما: أن يَكُونَ خبرًا للذين. والآخرُ على الاستئنافِ.
وقولُه: {وَمَا يَشْعُرُونَ} . يقولُ: وما تَدْرِى أصنامُكم التي تَدْعونَ مِن دونِ اللهِ متى تُبْعَثُ. وقيل: إنما عُنِى بذلك الكفارُ، أنهم لا يَدْرون متى يُبعَثون.
القولُ في تأويلَ قولِه عز وجل: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: معبودُكم الذي يَسْتَحِقُّ عليكم العبادةَ وإفرادَ الطاعةَ له، دونَ سائرِ الأشياءِ - معبودٌ واحدٌ؛ لأنه لا تَصْلُحُ العبادةُ إلا له، فأَفْرِدوا له الطاعةَ، وأخْلِصوا له العبادةَ، ولا تَجْعَلُوا معه شريكًا سواه. {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ}. يقولُ تعالى ذكرُه: مستنكرةٌ لما نَقُصُّ عليهم مِن قدرةِ اللهِ وعظمتِه، وجميلِ نِعَمِه عليهم، وأن العبادةَ لا تَصْلُحُ إلا له، والأُلوهةَ ليست لشيءٍ غيرِه
(1)
، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. [يقولُ: وهم مستكبرون]
(2)
عن إفرادِ اللهِ بالأُلوهةِ، والإقرارِ له بالوحدانيةِ، اتباعًا منهم لما مضَى عليه من الشركِ باللهِ أسلافُهم، كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} لهذا الحديثِ الذي قضَى
(3)
، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عنه
(1)
بعده في م: "يقول".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "مضى".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {لَا جَرَمَ} : حقًّا
(1)
أن الله يَعْلَمُ ما يسرُّ هؤلاء المشركون، من إنكارِهم ما ذكَرنا من الأنباءِ في هذه السورةِ، واعتقادِهم نكيرَ
(2)
[قولِنا لهم]
(3)
: إلهُكم إلهٌ واحدٌ، واستكبارِهم
(4)
على اللهِ وما يُعْلِنون من كفرِهم باللهِ وفِرْيتِهم عليه، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}. يقولُ: إن الله لا يُحِبُّ المستكبرين عليه أنْ يُوَحِّدوه، ويَخْلَعوا ما دونَه مِن الآلهةِ والأندادِ، كما حدَّثنا محمدُ بنُ [عُمرَ بنُ عليٍّ]
(5)
، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: ثنا مِسْعَرٌ، عن رجلٍ، أن الحسنَ بنُ عليٍّ كان يَجْلِسُ إلى المساكينِ، ثم يقولُ:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يُؤمِنون بالآخرةِ من المشركين: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} أي شيءٍ أَنزَل ربُّكم؟ قالوا: الذي أنزَل ما سطَّره الأوَّلون مِن قَبْلِنا [من الأباطيلِ]
(6)
.
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(2)
في ف: "نكر".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قولهم لنا".
(4)
في ف: "واستنكارهم".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عمرو بن علي". وفى م: "عمرو". وهو محمد بن عمر بن علي بن عطاء، المقدمي، شيخ الطبرى، ترجمته في تهذيب الكمال 26/ 174.
(6)
سقط من: ت 1، ف.
وكان ذلك كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . يقولُ: أحاديثُ الأوَّلين وباطِلُهم، قال ذلك قومٌ مِن مشركي العربِ كانوا يَقْعُدون بطريقِ مَن أَتَى النبيَّ
(1)
صلى الله عليه وسلم، فإذا مرَّ بهم أحدٌ من المؤمنين
(2)
يريدُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالوا
(3)
لهم: أساطيرُ الأوّلين. يُريدُ: أحاديثُ الأوَّلين وباطِلُهم.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عبدِ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . يقولُ: أحاديثُ الأوَّلين
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يقولُ هؤلاء المشركون لمن سأَلهم: ماذا أنزَل ربُّكم؟: الذي أنزَل ربُّنا - فيما يَزْعُم محمدٌ - عليه أساطيرُ الأوَّلين. لتَكُونَ لهم ذنوبُهم التي هم عليها مُقِيمون، مِن تكذيبِهم باللهِ
(5)
، وكفرِهم بما أنْزَل على رسولِه صلى الله عليه وسلم، ومِن ذُنوبِ الذين يَصُدُّونهم عن الإيمانِ باللهِ - يُضِلُّون: يَفْتِنون منهم - بغير علمٍ.
وقولُه: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} . يقولُ: ألا ساء الإثمُ الذي يَأْثَمون، والثِّقَلُ {الذي يَتَحَمَّلون]
(6)
.
وبنحوَ الذي قلنا في تأويلِ
(7)
ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في م، ف:"نبي الله".
(2)
في ت 2: "الأولين".
(3)
في ف، ت 2:"قال".
(4)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 372 عن ابن عباس.
(5)
في م: "الله".
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(7)
سقط من: م، ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن [أبى نجيحٍ]
(1)
، عن مجاهدٍ قولَه:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، ومِن أوزارِ مَن أضَلوا؛ احتمالُهم
(2)
ذنوبَ أنفسِهم، وذنوبَ مَن أَطاعَهم، [ولا يُخَفِّفُ ذلك عمن أطاعَهم]
(3)
مِن العذابِ شيئًا
(4)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوَه، إلا أنه قال: ومن أوزارِ الذين يُضِلونهم: حملُهم ذُنوبَ أنفسِهم. وسائرُ الحديثِ مثلُه
(5)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وحدَّثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدِ اللهِ، عن ورقاءَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} . قال: حملُهم ذُنوبَ أنفسِهم وذنوبَ مَن أطاعَهم، ولا يُخَفِّفُ ذلك عمن أطاعَهم من العذابِ شيئًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
(1)
في ت 1: "جريج".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أعمالهم".
(3)
سقط من: ت 1، ت 2 ف.
(4)
ذكره ابن كثير 4/ 484، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
تفسير مجاهد ص 421.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : أي ذنوبَهم وذنوبَ الذين يُضِلُّونهم بغيرِ علمِ، {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [يقولُ: يَحْمِلُون ذُنوبَهم، وذلك مِثْلُ قولِه: {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]. يقولُ: يَحْمِلُون مع ذُنوبِهم ذُنوبَ الذين يُضِلُّونهم بغيرِ علمٍ]
(1)
(2)
.
حدَّثني المثنى، قالَ: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} . قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما داعٍ دعَا إلى ضلالةٍ فاتُّبِع، فإن عليه مِثْلَ أوزارِ مَن اتَّبَعَه مِن غيرِ أن يَنْقُصَ مِن أوزارِهم شيءٌ؛ وأيُّما داعٍ دعا إلى هُدًى فاتُّبِع، فله مثلُ أجورِهم مِن غيرِ أن يَنْقُصَ مِن أجورِهم شيءٌ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا سويدٌ، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، عن رجلٍ، قال: قال زيدُ بنُ أسلَمَ أنه بلَغه أنه يَتَمَثَّلُ للكافرِ عملُه في صورةِ أقبَح ما خلَق اللهُ وجهًا، وأنتَنِه ريحًا، فيَجْلِسُ إلى جَنْبِه كلَّما أفزَعه شيءٌ زادَه
(4)
، وكلَّما تخوَّف شيئا
(5)
زادَه
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
ذكره ابن كثير 4/ 484 عن العوفى عن ابن عباس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 116 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وأصله في مسلم (2674).
(4)
بعده في م: "فزعا".
(5)
في ت 2: "شيء".
خوفًا. فيقولُ: بئس الصاحبُ أنت، ومن أنت؟ فيقولُ: وما تَعْرِفُني؟ فيقولُ: لا. فيقولُ: أنا عمَلُك، كان قبيحًا، فلذلك تَرَانى قبيحًا، وكان مُنتِنًا، فلذلك تَرَانى مُنْتِنًا، طَاطِئْ إليَّ
(1)
أرْكَبْك، فطالَما ركِبتنى في الدنيا. فيَرْكَبُه، وهو قولُه:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قد مكَر الذين من قبلِ هؤلاء المشركين، الذين يَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ من أراد اتباعَ دينِ اللهِ، فرامُوا
(3)
مغالبةَ اللهِ ببناءٍ بَنَوْه، يُريدون بزعمِهم الارتفاعَ إلى السماءِ لحربِ مَن فيها. وكان الذي رام ذلك - فيما ذُكر لنا - جبارًا من جبابرةِ النَّبَطِ، فقال بعضُهم: هو نُمرودُ بنُ كَنْعانَ. وقال بعضُهم: هو بُخْتُنَصَّرَ. وقد ذكَرتُ بعضَ أخبارِهما في سورة "إبراهيم"
(4)
. وقيل: إن الذي ذُكِر في هذا الموضعِ هو الذي ذكَره اللهُ في سورةِ "إبراهيمَ".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: أمر الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه بإبراهيمَ فأُخْرج - يعنى: من مدينتِه - قال
(5)
:
(1)
في ص: "لى".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ف.
(4)
ينظر 13/ 718 وما بعدها.
(5)
سقط من: ت 1.
فأُخرِج
(1)
فلقِى لوطًا على بابِ المدينةِ، وهو ابن أخيه، فدعاه، فآمَن به، وقال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، وحلَف نُمرودُ أن
(2)
يطلبَ إلهَ إبراهيمَ، فأخذ
(3)
أربعةَ أفراخٍ
(4)
من أفراخِ
(5)
النُّسورِ، فرباهنَّ باللحمِ والخبزِ
(6)
، حتى كَبِرْنَ وغَلُظْنَ واستعلَجنَ
(7)
، فربطهنَّ في تابوتٍ، وقعَد في ذلك التابوتِ، ثم رفع رجْلًا من لحمٍ لهنَّ فطِرْنَ، حتى إذا ذهَبنَ في السماءِ، أشرَف يَنظُرُ إلى
(8)
الأرضِ، فرأَى الجبالَ تَدِبُّ كدبيبِ النملِ، ثم رفَع لهنَّ اللحمَ، ثم نظرَ فرأى الأرضَ يُحيطُ
(9)
بها بحرٌ، كأنها فَلَكةٌ
(10)
في ماءٍ، ثم رفَع طويلًا فوقَع في ظلمةٍ، فلم يَرَ ما فوقَه [ولم يرَ]
(11)
ما تحتَه، ففزِع، فألقى اللحمَ، فاتَّبِعْنَه مُنقَضَّاتٍ؛ فلمَّا نظَرت الجبالُ إليهنَّ، وقد أَقْبَلْنَ مُنقضَّاتٍ، وسمِعنَ
(12)
حفيفَهنَّ، فزِعَت الجبالُ، وكادت أن تزولَ من أمكنتِها، ولم يفعلنَ، وذلك قولُ اللهِ:{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]. وهي في قراءةِ ابن مسعودٍ: (وَإنْ
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
بعده في ت 2: "أحد".
(4)
في ص، ت 2، ف:"أفرخ".
(5)
في ص، ت 2، ف:"فراخ".
(6)
في ص، ف:"الحمر". وفى ت 2: "الخمر".
(7)
في م: "واستعجلن".
(8)
في ف: "ليرين".
(9)
في م: "محيطا". وفي ت 1: "محيط".
(10)
الفَلَكُ: قطع من الأرض تستدير وترتفع عما حولها، الواحدة فَلكة، بفتح اللام، وقيل: بتسكينها. اللسان (ف ل ك).
(11)
ليست في: م، ت 1، ت 2، ف.
(12)
في م: "سمعت".
كادَ
(1)
مَكْرُهُمْ). فكان طَيْرُورَتُهن
(2)
به من بيتِ المقدسِ ووقوعُهن به في جبلِ الدخانِ، فلمَّا رأَى أنه لا يُطِيقُ شيئًا، أخَذ في بُنيانِ الصرحِ، فبَنى حتى إذا أسنَده
(3)
إلى السماءِ ارتقَى فوقَه يَنْظُرُ
(4)
، يَزعْمُ، إلى إلهِ إبراهيمَ، فأحدَث، ولم يكن يُحدِثُ، وأخَذَ اللهُ بُنْيانَهُ مِنَ القَوَاعد، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} ، يقولُ: من مأمنِهم. وأخَذهم من أساسِ
(5)
الصَّرْحِ، فتَنَقَّضَ بهم، يسقُط
(6)
، فتَبلْبلَتْ ألسنُ الناسِ يومئذٍ من الفزعِ، فتكلَّموا بثلاثةٍ وسبعين لسانًا، فلذلك سُمَّيَتْ بابلَ. و [إنما كان لسانُ الناسِ من]
(7)
قبلِ ذلك بالسُّريْانيةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} . قال: هو نُمرودُ حينَ بنى الصرحَ
(8)
.
حدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن زيدِ ابن أسلمَ: إن أوّلَ جبارٍ كان في الأرضِ نُمرودُ، فبعَث اللهُ عليه بَعوضةً، فدخَلت في مَنخَرِه، فمكث أربعَمائةِ سنةٍ يُضْرَبُ رأسُه بالمطارقِ، أرحمُ الناسِ به من جمعَ يديه
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"كان". وينظر ما تقدم في 13/ 718.
(2)
في ت 2: "طيروروهن". يقال: طار يطير طيرًا وطيرورةً.
(3)
في م، ف:"شيده".
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في ت 1: "يناس"، وفي ت 2:"أيناس".
(6)
في م: "فسقط".
(7)
سقط من: ت 1، ت 2.
(8)
ذكره ابن كثير 4/ 485 عن العوفى عن ابن عباس به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف، وابن أبي حاتم.
فضَرَب بهما رأسَه، وكان جبارًا أربعَمائةِ سنةٍ، فعذَّبه اللهُ أربعَمائةِ سنةٍ كمُلْكِه، ثم أماته اللهُ؛ وهو الذي كان بني صَرْحًا إلى السماءِ، وهو الذي قال اللهُ:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} .
وأما قولُه: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} فإن معناه: هدَم اللهُ بنيانَهم من أصلِه. والقواعدُ جمعُ قاعدةٍ، وهى الأساسُ، فكان
(1)
بعضُهم يقولُ: هذا مثَلٌ للاستئصالِ، وإنما معناه أن الله استأصَلهم. وقال: العربُ تقولُ ذلك إذا استُؤْصِل الشيءُ.
وقولُه: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} . اختَلف أهل التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم
(2)
: فخرَّ عليهم السقفُ من فوقِهم: أعالى بيوتِهم من فوقِهم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} : [إى واللهِ، لأَتاها]
(3)
أمرُ الله من أصلِها]
(4)
، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} . والسقفُ أعالى البيوتِ. فَائْتفَكتْ
(5)
بهم بيوتُهم، فأهلَكهم اللهُ ودمَّرهم، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}
(6)
.
(1)
في م: "وكان".
(2)
بعده في ص، م، ت 2، ف:"معناه".
(3)
في ص، ت 2، ف:"لأتاهم". وينظر مصدر التخريج.
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
ائتفكت: انقلبت. اللسان (أ ف ك).
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} . قال: أتَى اللهُ بنيانَهم من أصولِه، فخرَّ عليهم السقفُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ؛ وحدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} . قال: مَكْرُ نُمرودَ بن كَنْعانَ الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقال آخرون: عنَى بقولِه: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} . أن العذابَ أتاهم من السماءِ.
ذُكر من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} . يقولُ: عذابٌ من السماءِ، لمَّا رأَوْه استسلَموا وذَلُّوا.
وأولى القولين بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: تساقَطت عليهم سقوفُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 355 من طريق معمر به.
(2)
تفسير مجاهد ص 421 من طريق ورقاء به. وذكره ابن كثير 4/ 485، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر.
بيوتِهم، إذ أتَى أصولَها وقواعدَها أمرُ اللهِ، فائْتَفَكتْ بهم منازلُهم؛ لأن ذلك هو الكلامُ المعروفُ من قواعدِ البنيانِ وخَرَّ السقفِ، وتوجيهُ معاني كلامِ اللهِ إلى الأشهرِ الأعرفِ منهما
(1)
أولى من توجيهِها
(2)
إلى غيرِ ذلك ما وُجِد إليه سبيلٌ.
{وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأتى هؤلاء الذين مكَرُوا من قبلِ مشركي قريشٍ، عذابُ
(3)
اللهِ من حيثُ لا يدرُون أنه أتاهم منه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه: فعَل اللهُ بهؤلاء الذين مكَروا، الذين وصَف اللهُ جلَّ ثناؤُه أمرَهم، ما فعَل بهم في الدنيا من تعجيلِ العذابِ لهم والانتقامِ، بكفرِهم وجحودِهم وحدانيتَه، ثم هو مع ذلك يومَ القيامةِ مُخزِيهم فمذلُّهم بعذابٍ أليمٍ، وقائلٌ لهم عندَ ورودِهم عليه:{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أصلُه من شاققتُ فلانًا، فهو يُشاقُّنى، وذلك إذا فعَل كلُّ واحدٍ منهما بصاحبِه ما
(4)
يَشُقُّ عليه. يقولُ تعالى ذكرُه يومَ القيامةِ، تقريعًا
(5)
للمشركين بعبادتِهم الأصنامَ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} . يقولُ: أين الذين كنتم
(1)
في م: "منها".
(2)
في ص: "توجيههما". وفى ت 1، ت 2:"توجيهه".
(3)
بعده في ت 1: "من".
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"لما".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"تعريفًا".
تزعُمون في الدنيا أنهم [شركاءُ فيَّ]
(1)
اليومَ، ما لهم لا يحضُرونكم، فيدفعُوا عنكم ما أنا مُحِلٌّ بكم من العذابِ، فقد كنتم تعبُدونهم في الدنيا، وتتولَّونهم، والوليُّ يَنْصُرُ وليَّه. وكانت مشاقَّتُهم الله في أوثانِهم مخالفتَهم إياه في عبادتِهم.
كما حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} . يقولُ: تخالفِونى
(2)
.
وقولُه: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} . يعنى: الذِّلَّةَ
(3)
والسوءَ. يعنى: عذابَ اللهِ على الكافرين.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال الذين أوتوا العلمَ: إن الخزىَ اليومَ والسوءَ على مَن كَفَر باللهِ، فجَحَد وحدانيتَه، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}. يقولُ: الذين تقْبِضُ أرواحَهم الملائكةُ، {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}. يعني: وهم على كفرِهم وشركِهم باللهِ.
وقيل: إنه عنَى بذلك من قُتِل من قريشٍ ببدرٍ، وقد أُخرِج إليها كَرْهًا. حدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ محمدٍ الزُّهريُّ، قال: ثني سفيانُ بن عيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ، قال: كان ناسٌ بمكةَ أَقَرُّوا بالإسلامِ
(4)
ولم يهاجِرُوا، فأُخرِج بهم كَرْهًا إلى بدرٍ، فقُتِل بعضُهم، فأَنزَلَ اللهُ
(1)
في م: "شركائى".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في م: "والهوان".
(4)
سقط من: ص.
فيهم: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} .
وقولُه: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} . يقولُ: فاستسلَموا لأمرِه، وانقادُوا له حينَ عاينُوا الموتَ قد نزَل بهم؛ {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} . وفي الكلامِ محذوفٌ استُغنِى بفَهْمِ سامعيه ما
(1)
دلّ عليه الكلامُ عن ذكرِه، وهو: قالوا
(2)
: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} ، يُخْبِرُ
(3)
عنهم بذلك أنهم كذَبوا وقالوا: ما كنا نعصِى الله. اعتصامًا
(4)
منهم بالباطلِ، رجاءَ أن ينجُوا بذلك، فكذَّبهم اللهُ، فقال: بل قد
(5)
كنتم تعمَلون السوءَ، وتصدُّون عن سبيلِ اللهِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقولُ: إن اللهِ ذو علمٍ بما كنتم تعمَلون في الدنيا من معاصيه، وتأتُون فيها ما يُسخِطُهُ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يُقالُ
(6)
لهؤلاء الظلمةِ أنفسِهم حينَ يقولون لربِّهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} : {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} . يعني: طبقاتِ جهنمَ. {خَالِدِينَ فِيهَا} . يعنى: ماكثين فيها. {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . يقولُ: فلبئس منزلُ مَن تكبَّر على اللهِ، ولم يُقِرَّ بربوبيتِه، ويصدِّق بوحدانيتِه - جهنمُ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"بما".
(2)
في ت 1: "قوله".
(3)
في ت 1، ف:"مخبر".
(4)
في ت 1: "استعصاما".
(5)
سقط من: م، ت 1.
(6)
في م، ف:"يقول".
الْمُتَّقِينَ (30)}.
يقولُ تعالَى ذكرُه: وقيل للفريقِ الآخَرِ
(1)
، الذين هم أهلُ إيمانٍ وتقوَى للهِ:{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} ؟ قالوا: {خَيْرًا} . يقولُ: قالوا: أنزَل خيرًا.
وكان بعضُ أهل العربيةِ من الكوفيين يقولُ: إنما اختَلف الإعرابُ في قولِه: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24]. وقولِه: {خَيْرًا} . والمسألةُ قبلَ الجوابين كليهما واحدةٌ، وهى قولُه:{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} . لأن الكفارَ جحَدوا التنزيلَ، فقالوا حين سمِعوه:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . أي: هذا الذي جِئْتَ به أساطيرُ الأوَّلين: ولم يُنزِل اللهُ منه شيئًا. وأما المؤمنون فصدَّقوا التنزيلَ، فقالوا:{خَيْرًا} . بمعنى أنه أنزَل خيرًا. فانتصَب بوقوعِ الفعلِ من اللهِ على الخيرِ، فلهذا افترقا. ثم ابتدَأ الخبرَ، فقال:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . وقد بيَّنا القولَ في ذلك فيما مَضَى قبلُ، بما أغنَى عن إعادتِه
(2)
.
وقولُه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: للذين آمَنوا باللهِ في هذه الدنيا ورسولِه، وأطاعوه فيها، ودعَوا عبادَ اللَّهِ إلى الإيمانِ والعملِ بما أمَر اللهُ به، {حَسَنَةٌ}. يقولُ: كرامةٌ من اللهِ.
{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} . يقولُ: ولدارُ الآخرِة خيرٌ لهم من دارِ الدنيا، وكرامةُ اللهِ التي أعدَّها لهم فيها أعظمُ من كرامتِه التي عجَّلها لهم في الدنيا.
{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} . يقولُ: ولنعم دارُ الذين خافوا الله في الدنيا فاتَّقَوْا عقابَه بأداءِ فرائضِه، وتجنَّب معاصيه، دارُ الآخرةِ.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 198.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةً قولَه:{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وهؤلاء مؤمنون، فيقالُ
(1)
لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} فيقولون: {خَيْرًا} . {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . أي: آمَنُوا باللهِ، وأمَروا بطاعةِ اللهِ، وحَثُوا أهلَ
(2)
طاعةِ اللهِ على الخيرِ ودعَوْهم إليه
(3)
.
القول في تأويلِ قولِه عز وجل: {جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)} .
يعنى تعالَى ذكرُه بقولِه: {جَنَّات عَدْنٍ} : بساتينُ للمُقام
(4)
. وقد بيَّنا اختلافَ أهلِ التأويلِ في معنى "عَدْنٍ" فيما مَضَى، بما أغنَى عن إعادتِهُ
(5)
.
{يَدْخُلُونَهَا} . يقولُ: يدخُلون جناتِ عدنٍ. وفى رفعِ "جنات" أوجهٌ ثلاثةٌ: أحدُها أن يكونَ مرفوعًا على الابتداءِ، والآخرُ بالعائدِ من الذكرِ في قولِه:{يَدْخُلُونَهَا} . والثالثُ على أن يكون خبرًا لـ "نعم"، فيكونُ المعنى إذا جُعِلَتْ خبرًا لـ "نعم": ولنعمَ دارُ المتقين جنَّاتُ عَدْنٍ. ويكونُ {يَدْخُلُونَهَا} في موضعِ حالٍ، كما يُقالُ: نعم الدارُ دارٌ تسكنُها أنتَ. وقد يجوزُ أن يكونَ - إذا كان الكلامُ بهذا
(1)
في ص، ف:"فقال".
(2)
سقط من: ص، ت 2.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ص، ت 2، ف:"المقام".
(5)
تقدم في 11/ 559 - 564.
التأويلِ - {يَدْخُلُونَهَا} من صلةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} .
وقولُه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
يقولُ: تجرِى مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}. يقولُ: للذين أحسَنوا في هذه الدنيا في جناتِ عدنٍ ما يشاءون، مما تَشْتَهِي أنفسُهم، وتَلَذُّ أعينُهم، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}. يقولُ: كما يَجْزِى اللهُ هؤلاء الذين أحسَنوا في هذه الدنيا، بما وصَف
(1)
لكم أيها الناسُ أنه جَزَاهم به في الدنيا والآخرةِ، كذلك يجزِى الذين اتقَوه بأداءِ فرائضِه واجتنابِ مَعاصِيه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: كذلك يجزِى اللهُ المتقين الذين تَقْبِضُ أرواحَهم ملائكةُ اللهِ، وهم طَيِّبون بتَطْيِيبِ اللهِ إيَّاهم
(2)
بنَظافةِ الإيمانِ وطُهْرِ الإسلامِ، في حالِ حياتِهم وحالِ مماتِهم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المثنى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، [عن مجاهدٍ]
(3)
في قولِه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} . قال: أحياءً وأمواتًا، قدَّر
(1)
في ت 2، ف:"وصفت".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"إياها".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
اللهُ ذلك لهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقولُه: {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} . يعنى جلَّ ثناؤُه أن الملائكةَ تَقْبِضُ أرواحَ هؤلاء المتقين وهى تقولُ لهم: سلامٌ عليكم، صِيروا إلى الجنةِ. بشارةً مِن اللهِ، تُبَشِّرُهم بها الملائكةُ.
كما حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرَني أبو صَخْرٍ، أنه سمِع محمدَ بنُ كعبٍ القُرَظيَّ يقولُ: إِذا اسْتَنْقَعَتْ
(2)
نفسُ العبدِ المؤمنِ، جاءه مَلَكٌ فقال: السلامُ عليك وليَّ اللهِ، اللهُ يقرأُ عليك السلامَ. ثم نزَع
(3)
بهذه الآيةِ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} إلى آخرِ الآيةِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91].
(1)
تفسير مجاهد ص 421 من طريق ورقاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص: "اسنبفت"، وفى ت 2:"استيفعت"، وفى الحلية:"انتزعت"، وفى الشعب:"استنفقت"، وفى الدر المنثور:"استفاقت". واستنقعت نفس المؤمن: إذا اجتمعت في فيه تريد الخروج، كما يَسْتَنْقِع الماءُ في قراره، وأراد بالنَّفْس الرُّوح. لسان العرب (ن ق ع).
(3)
نزع: تَمَثَّل أو استنبط، ففى تاج العروس (ن ز ع): انتزع بالآية والشعر: تَمَثَّل. ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية: قد انتزع معنًى جيدًا، وهو مجاز.
(4)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 157، وأبو نعيم في الحلية 3/ 217، من طريق أبي صخر به. والبيهقى في شعب الإيمان (402) من طريق يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن منده في كتاب الأحوال.
قال: الملائكةُ يَأْتُونه
(1)
بالسلامِ مِن قِبَلِ اللهِ، وتُخبِرَه أنه من أصحابِ اليمينِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا الأشْيَبُ
(3)
أبو عليٍّ، عن أبي رجاءٍ، عن محمدِ بن مالكٍ، عن البَرَاءِ، قال: قولُه: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]. قال: يُسلِّمُ عليه عندَ الموتِ
(4)
.
وقولُه: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . يقولُ: بما كنتم تُصِيبون في الدنيا - أيامَ حياتِكم فيها - طاعةَ اللهِ، وطَلَبَ مرضاتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هل يَنتظِرُ هؤلاء المشركون إلا أن تأتِيَهم الملائكةُ لقبضِ أرواحِهم، أو يأتىَ أمرُ ربِّك بحشرِهم لموقفِ القيامةِ، {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. يقول جلَّ ثناؤُه: كما يَفعَلُ هؤلاء مِن انتظارِهم ملائكةَ اللهِ لقبضِ أرواحِهم، أو إتيانِ أمرِ اللهِ، فَعَلَ أسلافُهم مِن الكفرةِ باللهِ؛ لأن ذلك في كلِّ مشركٍ باللهِ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: وما ظلَمهم اللهُ بإحلالِ سُخْطِه بهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بمعصيتِهم ربَّهم وكفرِهم به، حتى اسْتَحَقُوا عقابَه، فعُجِّل لهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يأتونهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 167 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
في م، ت 1، ت 2:"الأشب". وفى ف غير واضحة. وهو الحسن بن موسى الأشيب أبو على البغدادى. ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 426، والأنساب 1/ 173، وتهذيب الكمال 6/ 328.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 266، 267 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} . قال
(1)
: بالموتِ. وقال في آيةٍ أُخرَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال: 50]: وهو مَلَكُ الموتِ، وله رُسُلٌ، قال اللهُ تعالى:{أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} . و
(2)
ذاكم يومَ القيامةِ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: أخبرَنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} . يقولُ: عندَ الموتِ حين تَتَوَفَّاهم. {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} : ذلك يومَ القيامةِ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأصاب هؤلاء الذين فعَلوا مِن الأممِ الماضيةِ فِعْلَ هؤلاء المشركين مِن قريشٍ، {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}. يعني: عقوباتُ ذنوبِهم، ونِقَمُ مَعاصِيه التي اكْتَسَبوها، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يقولُ: وحلَّ بهم مِن عذابِ اللهِ، ما كانوا به
(5)
يستهزِئون منه، ويَسْخَرون عندَ إِنذَارِهم ذلك رُسُلُ اللهِ، ونزَل ذلك بهم دونَ غيرِهم من أهلِ الإيمانِ باللهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
سقط من: م.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 117 إلى المصنف.
(5)
سقط من: م.
عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الذين أشرَكوا بالله، فعبَدوا الأوثانَ والأصنامَ مِن دونِ الله: ما نَعْبُدُ هذه الأصنامَ إلا لأنَّ الله قد رضِي عبادَتَناها
(1)
، ولا نُحَرِّمُ ما حَرَّمْنا من البَحَائِر والسَّوائبِ، إلا أنَّ الله شاء منا ومِن آبائِنا تَحْرِيمَنَاها ورَضِيَه، لولا ذلك لقد غَيَّر ذلك ببعضِ عقوباتِه، أو بهدايتِه إيَّانا إلى غيرِه من الأفعالِ.
يقولُ تعالى ذكرُه: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِن الأممِ المشركةِ الذين اسْتَنَّ هؤلاء سُنَّتَهم، فقالوا مثلَ قولِهم، وسلَكوا سبيلَهم في تكذيبِ رسلِ الله، واتباعِ أفعالِ آبائِهم الضُلَّالِ.
وقولَه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يقولُ جلَّ ثناؤُه: فهل أيُّها القائلون: لو شاء اللهُ ما أشرَكنا ولا آباؤُنا. على رسلِنا الذين نُرْسِلُهم لإنذارِكم عقوبتَنا على كفرِكم - {إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . يقولُ: إِلا أَن تُبَلِّغَكم ما أَرْسَلنا إليكم مِن الرسالةِ. ويعنى بقولِه: {الْمُبِينُ} . الذي يُبِينُ عن معناه لِمَنْ أَبْلَغَه، ويُفْهِمُه مَن أُرْسِل إليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد بَعَثْنا أيها الناسُ في كلِّ أمةٍ سلَفَتْ قبلَكم رسولًا، كما بعَثنا فيكم، بأن اعبدوا الله وحدَه لا شريكَ له، وأفْرِدوا له الطاعةَ، وأخْلِصوا له
(1)
في م: "عبادتنا هؤلاء".
العبادةَ، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. يقولُ: وابْعُدُوا مِن الشيطانِ، واحْذَروه
(1)
أن يُغْوِيَكم، ويَصُدَّكم عن سبيلِ اللهِ، فتَضِلُّوا، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}. يقولُ: فمِمَّن بعَثْنا فيهم رسلَنا مَن هدَى اللهُ، فوَفَّقه لتصديقِ رسلِه والقَبُولِ منها، والإيمانِ بالله، والعملِ بطاعتِه، ففاز وأفْلَح، ونجا مِن عذابِ الله. {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}] (3). يقولُ: وممن بَعَثْنا رسلَنا إليه مِن الأممِ، آخرون حقت عليهم الضلالة فجاروا عن قَصْدِ السبيلِ، فكفَروا بالله، وكذَّبوا رسلَه، واتَّبَعوا الطاغوتَ، فأهلَكهم اللهُ بعقابهِ، وأنزَل بهم
(2)
بأسَه الذي لا يُرَدُّ عن القومِ المجرمين. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لمشركي قريشٍ: إن كنتم أيها الناسُ غيرَ مصدِّقى رسولِنا فيما يُخبِرُكم به عن هؤلاء الأممِ، الذين حلَّ بهم ما حلَّ مِن بأسِنا، بكفرِهم بالله وتكذيبِهم رسولَه، فسيروا في الأرضِ التي كانوا يَسْكُنونها، والبلادِ التي كانوا يَعْمُرُونها، فانظروا إلى آثارِ الله فيهم، وآثارِ سُخُطِه النازلِ بهم، كيف أعْقَبَهم تكذيبُهم رسلَ الله ما أعْقَبَهم، فإنكم تَرَوْن حقيقةَ ذلك، وتعلمون به صحةَ الخبرِ الذي يُخبِرُكم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن تحرصْ يا محمدُ على هُدَى هؤلاء المشركين إلى الإيمانِ باللهِ واتباعِ الحقِّ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} .
اخْتَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ الكوفيين: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
(1)
في م: "احذروا".
(2)
في م: "عليهم".
مَنْ يُضِلُّ} بفتحِ الياءِ مِن {يَهْدِي} ، وضمِّها من {يُضِلُّ}
(1)
. وقد اخْتَلَف في معنى ذلك قارِئوه كذلك؛ فكان بعضُ نَحْويى الكوفةِ يَزْعُمُ أن معناه: فإن الله مَن أَضَلَّه لا يَهْتَدِى. وقال: العربُ تقولُ: قد هَدَى الرجلُ. يريدون: قد اهْتَدَى. [وهَدَى]
(2)
واهْتَدَى بمعنًى واحدٍ
(3)
. وكان آخرون منهم يَزْعُمون أن معناه: فإن الله لا يهدِى مَن أَضلَّه. بمعنى أن مَن أَضلَّه اللهُ، فإن الله لا يَهْديه
(4)
. وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ المدينةِ والشامِ والبصرةِ: (فَإِنَّ الله لا يُهْدَى) بضمِّ الياءِ مِن (يُهْدَى) ومِن (يُضِلُّ) وفتحِ الدالِ مِن (يُهدَى)
(5)
. بمعنى: مَن أَضلَّه اللهُ فلا هاديَ له.
وهذه القراءةُ أولى القراءتين عندى بالصوابِ؛ لأن يَهْدِى بمعنى يَهْتَدِى
(6)
قليلٌ في كلامِ العربِ غيرُ مُسْتَفيضٍ، وأنه لا فائدةَ في قولِ قائلِ: مَن أَضلَّه اللهُ فلا يَهْدِيه. لأن ذلك مما لا يَجْهَلُه كثيرُ
(7)
أَحَدٍ. وإذ كان ذلك كذلك، فالقراءةُ بما كان مستفيضًا في كلامِ العربِ من اللغةِ بما فيه الفائدةُ العظيمةُ، أَوْلَى وأخرَى.
فتأويلُ الكلامِ - لو كان الأمرُ على ما وَصَفْنا - إن تَحرِصْ يا محمدُ على هُداهم، فإن مَن أضلَّه اللهُ منهم
(7)
فلا هاديَ له، فلا تُجْهِدْ نفسَك في أمرِه، وبَلِّغْه ما أُرْسِلْتَ به لتَتِمَّ عليه الحُجَّةُ.
(1)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 372 والتيسير في القراءات السبع ص 112.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
ينظر معاني القرآن 2/ 99، وتفسير القرطبي 10/ 104.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يهدى".
(5)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وابن عامر. ينظر المصدرين السابقين
(6)
في ص، ت 2، ف:"يهدى". وفى ت 1 غير واضحة.
(7)
سقط من: م.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} . يقولُ: وما لهم مِن ناصرٍ يَنْصُرُهم مِن اللهِ إِذا أراد عقوبتهم، فيَحُولُ بينَ اللهِ وبينَ ما أراد مِن عقوبتِهم.
وفي قولِه: {إِنْ تَحْرِصْ} . لغتان؛ فمِن العربِ مَن يقولُ: حرَص يَحْرِصُ. بفتحِ الراءِ في فَعَل وكسرِها في يَفْعِل. و: حَرِص يَحْرَصُ، بكسرِ الراءِ في فَعِل، وفتحِها في يَفْعَل. والقراءةُ على الفتحِ في الماضي، والكسرِ في المُسْتَقْبَل
(1)
، وهى لغةُ أهلِ الحجازِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وحلَف هؤلاء المشركون مِن قريشٍ {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} حَلِفَهم: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} . بعدَ مماتِه، وكذَبوا وبَطَلُوا
(2)
في أيمانِهم التي حَلَفوا بها كذلك، بل سيَبْعَثُه اللهُ بعد مماتِه {وَعْدًا عَلَيْهِ} أن يَبْعَثَهم؛ وَعْدَ عبادِه، واللهُ لا يُخلِفُ الميعادَ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يقولُ: ولكن أكثرَ قريشٍ لا يعلمون وَعْدَ اللهِ عبادَه، أنه باعثُهم يومَ القيامةِ بعد مماتِهم أحياءً.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:
(1)
يعنى أن القراءة عند القرأة في قوله تعالى: {إن تحرص} على فتح الراء في الفعل الماضي "حرص"، وكسرها في المضارع "يَحْرِص".
(2)
في م: "أبطلوا". وبطَل الشيء يبطُل بُطْلا وبُطْولا وبُطْلانا ذهب ضياعًا وخسرا فهو باطل. وأبطَل: جاء بالباطل. لسان العرب (ب ط ل).
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} : تكذيبًا [بأمرِ اللهِ - أو: بأمرِنا - فإن]
(1)
الناسَ صاروا في البعثِ فريقين
(2)
؛ مُكَذِّبٌ ومُصَدِّقٌ، ذُكِر لنا أن رجلًا قال لابنِ عباسٍ: إن ناسًا بهذا العراقِ يَزْعُمون أن عليًّا مبعوثٌ قبلَ يومِ القيامةِ، ويَتَأَوَّلون هذه الآيةَ. فقال ابن عباسٍ: كذَب أولئك، إنما هذه الآيةُ للناسِ عامَّةً، ولَعَمْرِى لو كان عليٌّ مبعوثًا قبلَ يوم القيامة، ما أنْكَحْنا نساءَه، ولا قَسَمْنا ميراثَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: قال ابن عباسٍ: إن رجالًا يقولون: إن عليًّا مبعوثٌ قبلَ يومِ القيامةِ، ويتأوَّلون:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . قال: لو كُنَّا نَعْلَمُ أن عليًّا مبعوثٌ، ما تَزوَّجْنا نساءَه، ولا قَسَمْنا ميراثَه، ولكنْ هذه للناسِ عامَّةً
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن أبيه، عن الرَّبيعِ في قولِه:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} . قال: حلَف رجلٌ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند رجلٍ من المُكَذِّبين، فقال: والذي يرسِلُ الرُّوحَ مِن بعدِ الموتِ. فقال: وإنك لتزعُمُ أنك مبعوثٌ من بعدِ الموتِ. وأقسَم باللهِ جهدَ يمينِه: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يموتُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرَّبِيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: كان لرجلٍ من المسلمين على رجلٍ من المشركين دَيْنٌ، فأتاه يَتَقاضاه، فكان فيما تَكَلَّم به: والذي أرجوه بعدَ الموتِ إنه لكذا. فقال
(1)
في ص: "بأمر فإن"، وفى ت 1:"فإن"، وفى ت 2:"بأمن فإن"، وفى ف:"يأمن فإن".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فرقتين".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 355 عن معمر به.
المشركُ: إنك
(1)
تَزْعُمُ أَنك تُبْعَثُ بعدَ الموتِ. فَأَقْسَم باللهِ جهدَ يمينِه: لا يَبْعَثُ اللهُ مَن يموتُ. فأنزل اللهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن عطاءِ بن أبى رباحٍ، أنه أخبَره أنه سمِع أبا هريرةَ يقولُ: قال اللهُ: سبَّنى ابن آدمَ ولم يكنْ ينْبَغي له أن يَسُبَّنى، وكذَّبنى ولم يكن يَنْبغى له أن يُكَذِّبَنى، فأما تكذيبُه إيَّايَ، فقال:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} . قال: قلتُ: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} . وأما سَبُّه إِيَّاى، فقال:{إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]. وقلتُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
(3)
[الإخلاص: 1 - 4].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: بل لَيَبْعَثَنَّ اللهُ مَن يموتُ، وعدًا عليه حقًّا؛ ليُبيِّنَ لهؤلاء الذين يَزْعُمون أن الله لا يَبْعَثُ مَن يموتُ، ولغيرِهم الذي يختلفون فيه؛ مِن إحياءِ اللهِ خَلْقَه بعدَ فنائِهم، وليعلمَ الذين جحَدوا صحةَ ذلك، وأنكَروا حقيقتَه، أنهم كانوا كاذبين في قِيلِهم: لا يَبْعَثُ اللهُ مَن يموتُ.
(1)
في ص: "وإنك".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تفسير ابن كثير 4/ 491، من طريق حجاج عن ابن جريج عن عطاء وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كما أخرجه أحمد 13/ 531، 532 (8220)، والبخارى (4975)، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعًا، والبخاري في (3193، 4974) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} . قال: للناسِ عامَّةً
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إِنَّا إِذا أَرَدْنا أَن نَبْعَثَ مَن يموتُ، فلا تَعَبَ علينا ولا نَصَبَ في إحيائِناهم، ولا في غيرِ ذلك مما [نَخلُقُ ونُكَوِّنُ ونُحْدِثُ]
(2)
؛ لأَنَّا إِذا أَرَدْنَا خَلْقَه وإنشاءَه، فإنما نقولُ له: كُنْ. فيكونُ، لا معاناةَ فيه، ولا كُلْفَةَ علينا.
واخْتَلَفَت القرأةُ في قراءةِ قولِه: "يكونُ"، فقرَأَه أكثرُ قرأةِ الحجازِ والعراقِ على الابتداءِ
(3)
، وعلى أن قولَه:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} . كلامٌ تامٌّ مُكْتَفٍ بنفسِه عما بعدِه، ثم يُبْتَدَأُ فيُقالُ:{فَيَكُونُ} . كما قال الشاعرُ
(4)
:
* يُريدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فيُعْجِمُهُ *
وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ أهلِ الشامِ، وبعضُ المتأخرين من قرأةِ الكوفيين:(فَيَكونَ) نصبًا، عطفًا على قولِه:{أَنْ نَقُولَ لَهُ} . وكأنَّ معنى الكلامِ على
(1)
تقدم تخريجه من طريق معمر عن قتادة مطولا.
(2)
في ص، ت 2 ف:"يخلق ويكون ويحدث"، وفى ت 1:"نخلق ونكون ويحدث".
(3)
هي قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة، كما في السبعة ص 373، والتيسير ص 112.
(4)
البيت في الملحق بديوان رؤبة ص 186 وفى كتاب سيبويه 3/ 52،53 منسوبا لرؤبة أيضًا، والعقد الفريد 2/ 480 غير منسوب، والأغانى 2/ 196، والعمدة لابن رشيق 1/ 74 منسوبا عندهما للحطيئة، ونسبه في اللسان (ع ج م) لرؤبة.
مذهبِهم: ما قولُنا لشيءٍ إذا أرَدْناه إلا أن نقولَ له: كُنْ. فيكونَ. وقد حُكِى عن العربِ سَماعًا: أُريدُ أن آتِيَك، فيَمْنَعَنِى المطرُ. عطفًا بـ "يَمْنَعَنى" على "أن آتيَك".
وقولُه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين فارَقوا قومَهم ودُورَهم وأوطانَهم؛ عداوةً لهم في اللهِ على كفرِهم، إلى آخرين غيرِهم. {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}. يقولُ: مِن بعدِ نِيلَ منهم في أنفسِهم بالمَكَارهِ
(1)
في ذاتِ اللهِ. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} . يقولُ: لَنُسْكِنَنَّهم في الدنيا مَسْكَنًا يَرْضَوْنه صالحًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} . قال: هؤلاء أصحابُ محمدٍ، ظلَمهم أهلُ مكةَ، فأخْرَجوهم مِن ديارِهم، حتى لَحِق طوائفُ منهم بالحَبَشَةِ، ثم بَوَّأَهمُ اللَّهُ المدينةَ بعدَ ذلك، فجَعَلها لهم دارَ هجرةٍ، وجعَل لهم أنصارًا من المؤمنين
(2)
.
حُدِّثتُ عن القاسمِ بن سَلَّامٍ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن داودَ بن أبي هندٍ، عن الشَّعْبيِّ:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا} . قال: المدينةَ
(3)
.
(1)
في ص: "بالمكابرة"، وفى ت 1:"بالمكابرة"، وفى ت 2:"بالمكابرة". وفى ف "بالمكاثرة".
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 20، وابن كثير في تفسيره 4/ 491 بلفظ المدينة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 491، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وابن المنذر.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} . قال: هم قومٌ هاجَروا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من أهلِ مكةَ، بعدَ ظُلمِهم؛ وظَلَمَهمُ المشركون
(1)
.
وقال آخرون: عنَى بقولِه: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} : لَنَرْزُقَنَّهم في الدنيا رزقًا حسنًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} : لَتَرْزُقَنَّهم في الدنيا [رزقًا حسنًا]
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن العَوَّامِ، عمَّن حدَّثه، أن عمرَ بنَ الخطابِ كان إذا أعطَى الرجلَ من المهاجرين عطاءَه يقولُ: خُذْ، بارَك اللهُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الشرك". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وابن أبى حاتم وابن مردويه، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 491.
(2)
سقط من: ص، ف. والأثر في تفسير مجاهد ص 421، من طريق ورقاء به. وذكره ابن كثير في تفسره 4/ 491، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبى حاتم.
لك فيه، هذا ما وعَدك اللهُ في الدنيا، وما ذَخَره
(1)
لك في الآخرةِ أفضلُ. ثم تَلَا هذه الآيةَ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(2)
.
وأوْلَى القولَيْن في ذلك بالصوابِ، قولُ مَن قال: معنى {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} : لَنُحِلَّنَّهم ولَنُسْكِنَنَّهم؛ لأن التَّبَوُّءَ في كلامِ العربِ الحلولُ بالمكانِ والنزولُ به. ومنه قولُ اللهِ تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93].
وقيل: إن هذه الآيةَ نزَلت في أبى جَنْدَلِ بن سُهَيْلٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن داودَ بن أبى هندٍ، قال: نزَلت: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} ، إلى قولِه:{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في أبى جَنْدلِ بن سُهَيْلٍ.
وقولُه: {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . يقولُ: ولثوابُ اللَّهِ إيَّاهم - على هجرتِهم فيه - في الآخرةِ، أكبرُ؛ لأن ثوابَه إيَّاهم هنالك الجنةُ، التي ويدُومُ نعيمُها ولا يَبِيدُ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال اللهُ:
(1)
في ص غير منقوطة، وفى ت 1، ت 2، ف:"دخر"، وفى مصادر التخريج:"ادخر" وادَّخر وذخر بمعنى، ينظر النهاية 2/ 155، 156، وتاج العروس (ذ خ ر).
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 20، وابن كثير في تفسيره 4/ 491، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى ابن المنذر.
{وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} ؛ أي: واللهِ لَمَا يُثِيبُهم اللهُ عليه
(1)
مِن جنتِه أكبرُ {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين وَصَفْنا صِفَتَهم، وآتيناهم الثوابَ الذي [ذَكَرْنا، هم]
(3)
{الَّذِينَ صَبَرُوا} في اللهِ على ما نابهم في الدنيا. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . يقولُ: وباللَّهِ يَثِقُون في أمورِهم، وإليه يَسْتَنِدون في نوائبِ الأمورِ التي تنوبُهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
(4)
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمدُ إلى أُمَّةٍ من الأممِ، للدعاءِ إلى توحيدِنا، والانتهاءِ إلى أمرِنا ونَهْينا {إِلَّا رِجَالًا} مِن بَنى آدمَ {نُوحِي
(5)
إِلَيْهِمْ} وَحْيَنا - لا ملائكةً. يقولُ: فلم نُرْسِلْ إلى قومِك إلا مثلَ الذي كُنَّا نُرْسِلُ إلى مَن قَبْلَهم مِن الأممِ؛ مِن جنسِهم، وعلى مِنهاجِهم. {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}. يقولُ المشركى قريشٍ: وإن كنتم لا تَعْلَمون أن الذين كُنَّا نَرْسِلُ إلى مَن قبلَكم مِن الأممِ، رجالٌ مِن بنى آدمَ مثلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقلتُم: هم ملائكةٌ. أو
(6)
(1)
زيادة من: م، والدر المنثور.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "ذكرناه".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يوحى" بالياء. وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة. وقرأ عاصم في رواية حفص "نوحى "ينظر السبعة ص 373، والتيسير في القراءات السبع ص 106.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يوحى".
(6)
في م: "أي". ولا يتجه بها المعنى.
ظَنَنْتُم أن اللَّهَ كلَّمهم قِبَلًا
(1)
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} وهم الذين قد قَرءُوا الكتبَ مِن قبلِهم؛ التوراةَ والإنجيلَ، وغيرَ ذلك مِن كتبِ اللهِ التي أنزَلها على عبادِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا المُحاربيُّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} قال: أهل التوراة
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعِ، قال: ثنا المُحاربيُّ، عن سفيانَ، قال: سأَلتُ الأعمشَ عن قولِه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} . قال: سمِعْنا أنه مَن أسلَم من أهلِ التوراةِ والإنجيلِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
(4)
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. قال: هم أهلُ الكتابِ
(5)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . قال: قال
(1)
رأيتُه قَبَلًا وقُبُلًا وقُبَلًا وقِبَلًا وقَبَليًّا وقَبِيلًا. أي مُقابَلَةً وعِيانًا. لسان العرب، وتاج العروس (ق ب ل).
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 493، بلفظ:"اليهود. والذكر: التوراة".
(3)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 493.
(4)
هنا، وفيما يأتى عند ذكر الآية ومن كلام المصنف على تفسير الآية، في ص، ت 1، ت 2، ف:"يوحى".
(5)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 384 وأبو حيان في البحر المحيط 5/ 493 بلفظ "اليهود والنصارى"، وابن كثير في تفسيره 4/ 492.
لمشركي قريشٍ: إن محمدًا في التوراةِ والإنجيلِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بن عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ عن ابن عباسٍ، قال: لما بعَث اللهُ محمدًا رسولًا، أنكَرتِ العربُ ذلك، أو مَن أنكَر منهم، وقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكونَ رسولُه بشرًا مثلَ محمدٍ. قال: فأنزَل اللهُ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس:2]. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . فاسألوا أهلَ الذكرِ؛ يعنى أهلَ الكتبِ الماضيةِ: أبشرًا كانت الرسلُ التي أتَتْكُم أم ملائكةً؟ فإن كانوا ملائكةً أنكَرْتم
(2)
، وإن كانوا بشرًا فلا تُنكِروا أن يكونَ محمدٌ
(3)
رسولًا. قال: ثم قال: {أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]. أي ليسوا من أهلِ السماءِ كما قلتُم
(4)
.
وقال آخرون في ذلك ما:
حدَّثنا به ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن يَمَانٍ، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن أبي جعفرٍ:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . قال: نحن أهلُ الذكرِ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَاسْأَلُوا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 للمصنف والفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أتتكم".
(3)
زيادة من: م.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 492، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 118 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(5)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 384، وأبو حيان في البحر المحيط 5/ 493، بلفظ:"أهل القرآن"، وابن كثير في تفسيره 4/ 492.
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. قال: الذكرُ القرآنُ
(1)
. وقرأ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقرَأ:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} الآية [فصلت: 41].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أرسلنا بالبيناتِ والزُّبُرِ رجالًا نُوحِى
(2)
إليهم.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} ؟ وما الجالبُ لهذه الباءِ في قولِه: {بِالْبَيِّنَاتِ} فإن قُلتَ
(3)
: جالِبُها قولُه: {أَرْسَلْنَا} . وهى مِن صلتِه. فهل يجوزُ أن تكون صلةُ {وَمَا} قبلَ {إِلَّا} ، بعدَها؟؛ وإن قلتَ: جالبُها غيرُ ذلك. فما هو، وأين الفعلُ الذي جلَبها؟
قيل: قد اختلَف أهلُ العربيةِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: الباءُ التي في قولِه: {بِالْبَيِّنَاتِ} من صلة {أَرْسَلْنَا} . قال
(4)
: {إِلَّا} في هذا الموضعِ، ومع الجحدِ والاستفهامِ في كلِّ موضعٍ، بمعنى "غَيْر". وقال: معنى الكلامِ: وما أرسلنا من قبلِك بالبيناتِ والزُّبُرِ غيرَ رجالٍ نُوحِى إليهم. ويقولُ على ذلك: ما ضَرَب إلا أخوك زيدًا. وهل كلَّم إلا أخوك عَمْرًا؟ بمعنى: ما ضَرَب زيدًا غيرُ أخيك. وهل كلَّم عَمْرًا إلا أخوك. ويَحْتجُّ في ذلك بقولِ أَوْسِ بن حَجَرٍ
(5)
:
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 493 بلفظ: "أهل القرآن"، وابن كثير في تفسيره 4/ 492، والزيادة الآتية من بقية الأثر ليست عندهما.
(2)
في ص: "يوحى" غير منقوطة، وفى ت 1 غير واضحة، وفى ت 2، ف:"يوحى".
(3)
ينظر ما سيذكره المصنف هنا وفى الصفحة القادمة، ومعاني القرآن 2/ 100، 101.
(4)
في م: "وقال".
(5)
ديوانه ص 21، وينظر معاني القرآن 2/ 101.
أبَنى لُبَيْنَى لَسْتُمُ بيدٍ
…
إلا يدٍ ليْسَت لها عَضُدُ
ويقولُ: لو كانت "إلا" بغيرِ مَعْنَى "غَيْر"
(1)
"؛ لَفَسَد الكلامُ؛ لأن الذي خفَض الباءُ قبلَ "إلا" لا يَقْدِرُ على إعادتِه بعدَ "إلا" لخفضِ اليدِ الثانيةِ
(2)
، ولكنْ مَعْنَى "إِلَّا" معنَى "غير" ويَسْتَشْهدُ أيضًا بقولِ اللَّهِ عز وجل:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [الأنبياء:22]،:"إلا" بمعنَى "غَيْر" في هذا الموضعِ.
وكان غيره يقولُ: إنما هذا على كلامين؛ يُريدُ: وما أَرْسَلْنا من قبلِك إلا رجالًا، أرْسَلْنا بالبيناتِ والزُّبُرِ. قال: وكذلك قولُ القائلِ: ما ضرَب إلا أخوك زيدًا. معناه: ما ضرَب إلا أخوك. ثم يَبْتَدِئُ: ضرَب زيدًا. وكذلك ما مَرَّ إلا أخوك بزيدٍ. ما مرَّ إلا أخوك. ثم يقولُ: مرَّ يزيدٍ. ويَسْتَشْهدُ على ذلك ببيتِ الأعْشَى
(3)
:
وليس مُجِيرًا إِن أَتَى الحيَّ خائفٌ
…
ولا قائلًا
(4)
إلا هو المُتَعَيَّبَا
ويقولُ: لو كان ذلك على كلمةٍ لكان خطأً؛ لأن المُتَعَيَّبَا من صلةِ القائلِ
(5)
، ولكن جاز ذلك على كلامين
(6)
. وكذلك قولُ الآخرِ
(7)
:
نُبِّئْتُهم عذَّبوا بالنارِ جارَهم
…
وهل يُعَذِّبُ إِلا اللَّهُ بالنارِ
فتأويلُ الكلامِ إذن: وما أرْسَلنا من قبلِك إلا رجالًا نُوحِي إليهم، أرْسَلْناهم بالبيناتِ والزُّبُرِ، وأنْزَلْنا إليك الذكرَ. والبيناتُ هي الأدلةُ والحُجَجُ
(1)
يعنى باليد الثانية: "يد" التي جاءت بعد قوله: "إلا" التي بمعنى غير أول الشطر الثاني للبيت.
(2)
سقط من: م.
(3)
ديوانه ص 113، وينظر معاني القرآن 2/ 101.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قائل".
(5)
يعنى بـ: "القائل" لفظة" قائلا" في البيت.
(6)
يعني: لا قائلًا إلا هو. قائلًا - أو قال -: المتعيبا.
(7)
معاني القرآن 2/ 101، وشرح التصريح 1/ 284. وعند الأول" جارتهم" بدل "جارهم".
التي [أعْطاها اللهُ رسلَه؛ أدلةً]
(1)
على نبوتِهم، شاهدةً لهم على حقيقةِ ما أَتَوْا به إليهم مِن عنِد اللهِ.
والزُّبُرُ الكتبُ. وهى جمعُ زَبُورٍ. مِن زَبَرْتُ الكتابَ وذَبَرْتُه. إذا كتَبْتَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}. قال: الزُّبُرُ الكتبُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، {بِالْبَيِّنَاتِ}. قال: الآياتِ. {وَالزُّبُرِ} قال
(3)
: الكتبِ
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قال: الزُّبُرُ الكتبُ.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالزُّبُرِ}
(5)
يَعْنى: بالكتبِ
(6)
.
(1)
في ص: "أعطى الله رسله أدلته"، وفى ت 1:"أعطاها الله رسوله أدلة"، وفى ت 2، ف:"أعطاها الله رسوله أدلته".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 493.
(3)
سقط من: م.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 493، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في النسخ: "وبالزبر". والمثبت هو صواب القراءة.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 493.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْر} . يقولُ: وأَنزَلْنا إليك يا محمدُ هذا القرآنَ؛ تذكيرًا للناسِ، وعِظَةً
(1)
لهم. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} . يقولُ: لتُعَرِّفَهم ما نُزِّل
(2)
إليهم من ذلك. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . يقولُ: ولِيَتَذَكَّروا فيه، ويَعْتَبِروا بما
(3)
أنْزَلْنا إليك.
وقد حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: ثنا الثوريُّ، قال: قال مجاهدٌ: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . قال: يُطِيعون
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أفأمِن الذين ظلَموا المؤمنين مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فراموا أن يَفْتِنوهم عن دينِهم، مِن مشركى قريشٍ - الذين قالوا، إذ قيل لهم: ماذا أنْزَل ربُّكم؟ قالوا
(5)
: أساطيُر الأوَّلين. صدًّا منهم، لمن أراد الإيمانَ باللهِ، عن قصدِ السبيلِ - أن يَخْسِفَ اللهُ بهم الأرضَ، على كفرِهم وشركِهم، أو يَأْتِيَهم عذابُ اللهِ من مكانٍ لا يُشْعَرُ به، ولا يُدرَى مِن أين يأتيه؟ وكان مجاهدٌ يقولُ: عَنى بذلك نُمُرودَ بنَ كَنْعَانَ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثنى المثنى، قال: ثنا إسحاقُ،
(1)
في ص، ت 2:"عطية"، وفى ف:"غطية".
(2)
في م: "أنزل".
(3)
في ص، ت 2، ف:"به"، وفى م:"به أي بما".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف.
(5)
سقط من: م
قال: ثنا عبد اللهِ، عن وَرْقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} إلى قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} . قال: هو نُمرُودُ بنُ كَنْعانَ وقومُه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وإنما اخْتَرْنا القولَ الذي قُلْناه في تأويلِ ذلك؛ لأن ذلك تهديدٌ مِن اللَّهِ أَهلَ الشركِ به، وهو عَقِيبُ قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . فكان تهديدُ مَن لم يُقِرَّ بِحُجّةِ اللَّهِ، الذي جرَى الكلامُ بخطابِه قبلَ ذلك، أحْرَى مِن الخبرِ عمَّن انْقَطَع ذكرُه عنه.
وكان قتادةُ يقولُ في معنى السيئاتِ في هذا الموضعِ، ما حدَّثنا به بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} . أي: الشركَ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أو يُهْلِكَهم في تصرفِهم في البلادِ، وتردُّدِهم في أسفارِهم. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فإنهم لا يُعجِزون الله مِن ذلك، إن أراد أخْذَهم كذلك. وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 421، 422 من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى وعليُّ بن داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} . يقولُ: في اختلافِهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} . قال: إن شئتَ أَخَذْتَه في سفرِه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} : في أسفارِهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ مثلَه.
وقال ابن جريجٍ في ذلك ما: حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} . قال: التَّقَلُّبُ أَن يَأْخُذَهم بالليل والنهارِ
(4)
.
وأما قولُه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} . فإنه يعنى: أو يُهْلِكَهم بتخوُّفٍ، وذلك بنقصٍ من أطرافِهم
(5)
ونَواحيهم، الشىَء بعدَ الشئِ، حتى يُهْلِكَ جميعَهم،
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 21، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "سفر". والأثر ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 495 بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 للمصنف وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 356 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 495.
(5)
في ص، ت 1:"أصوافهم" وفى ت 2: "أصوابهم"، وفى ف:"أصواتهم".
يقالُ. منه: تخَوَّف مالَ فلانٍ الإنفاقُ. إذا انْتَقَصَه. ونحوُ تخَوُّفِه - مِن التَّخوُّفِ - بمعنى التنقُّصِ، قولُ الشاعرِ
(1)
:
تخَوَّف السيرُ منها تامِكًا قَرِدًا
…
كما تخوَّف عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
(2)
[يعنى بقولهِ: تخَوَّف السيرُ. تنَقَّص سَنامَها. وقد ذكَرْنا عن الهيثمِ بن عديٍّ
(3)
أنه كان يقولُ: هي لغةٌ لأَزْدِ شَنُوءةَ، معروفةٌ لهم.
ومنه قولُ آخَرَ
(4)
:
تخوُّفُ غَدْرِهم
(5)
مالى وأُهدِى
…
سَلاسلَ في الحُلُوقِ لها صَلِيلُ]
(6)
وكان الفرَّاءُ يقولُ
(7)
: العرب تقول: [تحَوَّفْتُه - أي: تنَقَّصْتُه - تحَوُّفًا]
(8)
.
أي: أخَذْتُه مِن حافاتِه وأطرافِه. قال: فهذا الذي سمِعْتُه
(9)
، وقد أتَى التفسيرُ
(1)
البيت لابن مقبل كما في ديوانه ص 104، ولسان العرب (خ) و (ف). ونسبه صاحب سمط اللآلئ 2/ 738 لقعنب ابن أم صاحب، ونسبه الزمخشرى في أساس البلاغة (خ و ف) لزهير وليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 10/ 110، والشيخ زاده في حاشيته على تفسير البيضاوى 3/ 179 لأبي كبير الهذلي وليس في ديوان الهذليين، ونسبه ابن منظور في اللسان (س ف ن) لذى الرمة وليس في ديوانه.
(2)
تامكا: التامك: السَّنام ما كان. وقيل: هو السنام المرتفع وناقة تامك: عظيمة السنام. قَرَدا: القَرَد: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبَّد. وقرد الشعرُ والصوفُ - بالكسر - يقرَد قَرَدا فهو قرِد، وتقرَّد: تجعَّد وانْعَقَدَت أطرافُه. النَّبعة: النَّبْع شجر من أشجار الجبال تُتَّخذ منه القِسى. والسفَن: الحديدة التي تُبرد بها القِسيّ. لسان العرب (ت م ك، ق، ر د، ن ب ع، س ف ن).
(3)
ينظر تفسير القرطبي 10/ 110، و البحر المحيط 4/ 495.
(4)
البيت في مجاز القرآن 1/ 360، والتبيان 6/ 386، وتفسير القرطبي 10/ 110، وفتح القدير 3/ 165.
(5)
في م، ص، والتبيان، وفتح القدير:"عدوهم". والمثبت من مجاز القرآن وتفسير القرطبي؛ فيه يستقيم السياق.
(6)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(7)
معاني القرآن 2/ 101، 102.
(8)
في ت 1، ف:"تخوفته أي تنقصته تخوفا".
(9)
في ص، ت 1، ف:"سمعه".
بالخاءِ
(1)
، وهو
(2)
بمعنى. قال
(3)
: ومثلُه ما قُرِئ بوجهيْن؛ قوله: إن لك في النهارِ سَبْحًا وسَبْخًا
(4)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن المسعوديِّ، عن إبراهيمَ بن عامرِ بن مسعودٍ، عن رجلٍ، عن عمرَ، أنه سألهم عن هذه الآيةِ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} : ما نَرَى إلا أنه عندَ تنقُّصِ
(5)
ما نُردِّدُه
(6)
مِن الآياتِ. فقال عمرُ: ما أَرَى
(7)
إلا أنه على ما تَنْتَقِصون مِن معاصى اللَّهِ. قال: فخرَج رجلٌ ممن كان عندَ عمرَ، فَلَقِى أعرابيًّا، فقال: يا فلانُ، ما فعَل ربُّك
(8)
؟ قال: قد تخَيَّفْتُه؛ يعنى تنَقَّصْتُه
(9)
. قال: فرجَع إلى عمرَ فأَخْبَرَه، فقال: قدَّر اللهُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"بالحاء".
(2)
في م: "هما".
(3)
أي الفراء.
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"سبحا". وهى الآية السابعة من سورة المزمل. والقراءة بالخاء من القراءات الشاذة، وهي قراءة أبى وائل وعكرمة ويحيى بن يعمر وابن أبي عبلة، كما في مختصر الشواذ لابن خالويه ص 164، ينظر القرطبي 19/ 42، والبحر المحيط 8/ 363، والسبخ: السعة، والسبح نحوه. ينظر معاني القرآن 2/ 102.
(5)
سقط من: ت 1. وفى ص، ت 2، ف: "نقص".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ف "يردده" وفى ص غير منقوطة، والمثبت موافق لما في الدر المنثور.
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أدرى".
(8)
كذا في النسخ والدر المنثور، وفى تفسير القرطبي:"دَيْنُك". والمعنى متوجِّه على "ربك" فهو السيد والمَوْلى، كما هو معروف من معانيه.
(9)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"انتقصته".
ذلك
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} . يقولُ: إِنْ شَئتُ أَخَذْتُه على أثرِ موتِ صاحبِه، نُخَوِّفُ
(2)
بذلك
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريج، عن عطاءٍ الُخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ:{عَلَى تَخَوُّفٍ} . قال: التنقُّصِ والتَّقْريعِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} : على تنقُّصٍ
(5)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(6)
، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن وَرْقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن
(1)
أشار الحافظ في الفتح 8/ 386 إلى رواية المصنِّف، وذكره القرطبي مطولًا ببعض اختلاف في تفسيره 10/ 110، 111، وعنده: "قال سعيد بن المسيب: بينما عمر على المنبر قال
…
" وفيه أن مفسِّر التخوف شيخ من بنى هذيل، وفيه ذكر بيت الشعر" .... تامكًا قردًا
…
" ونسبته لأبى كبير الهذلى. ووقع في الدر المنثور 4/ 119 ذِكْر المتن، لكن سقط ذِكْر العزو فدخل ذلك مع عزو الأثر الثالث هنا للمصنِّف، من طريق عطاء الخراسانى عن ابن عباس.
(2)
في م، والدر المنثور:"تخوف"، وفى ت 1 غير واضحة، وفى ف:"يخوف".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 494، وعنده:"تخوفه". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "التفزيع"، وفى ص، ت 2: غير منقوطة.
والأثر ذكره الطوسى في التبيان 6/ 386 بلفظ: "التفزيع". والقرطبى في تفسيره 10/ 109 - 111، والبحر المحيط 5/ 495، والشوكانى في فتح القدير 3/ 165 بلفظ:"على تقريع بما قدموه من ذنوبهم".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر، بلفظ:"يأخذهم بنقص بعضهم".
(6)
في ص، ت 1، ف:"الحسين". والحسن هو ابن موسى الأشيب، ينظر ترجمته في تهذيب الكمال 6/ 328، 329.
مُجاهدٍ: {عَلَى تَخَوُّفٍ} . قال: تنقُّصٍ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} ، فيُعاقِبَ أو يَتَجاوزَ
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} . قال: كان يقالُ: التخوُّفُ التنقُّصُ؛ يَنْتَقِصُهم مِن البُلدانِ مِن الأطرافِ
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} . يعنى: يَأْخُذُ العَذَابُ طائفةً، ويَتْرُكُ أخرى، و
(3)
يُعَذِّبُ القريةَ ويُهْلِكُها، ويَتْرُكُ أخرى إلى جَنْبِها
(4)
.
وقولُه: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . يقولُ: فإن ربَّكم إن لم يَأْخُذْ هؤلاء الذين مكَروا السيئاتِ بعذابٍ مُعَجَّلٍ لهم، وأخَذَهم بالموتِ
(5)
وتنقُّصِ بعضِهم في أثرِ بعضٍ، لَرءوفٌ بخلقِه، رحيمٌ بهم، ومِن رأفتِه ورحمتِه بهم لم يَخْسِفُ بهم الأرضَ، ولم يُعَجِّلْ لهم العذابَ، ولكن يُخَوِّفُهم ويُنَقِّصُهم بموتٍ.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 111، وأبو حيان في البحر المحيط 5/ 495، والشوكانى في فتح القدير 3/ 165.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
زيادة من: م.
(4)
أخرجه الثورى في تفسيره ص 165، بإسناده عن الضحاك، وذكره القرطبي في تفسيره 10/ 110، وأبو حيان في البحر المحيط 5/ 495.
(5)
في م: "بموت".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)} .
اخْتَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَتْه عامةُ قرَأةِ الحجازِ والمدينةِ والبصرةِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا} بالياءِ على الخبرِ عن الذين مكَروا السيئاتِ. وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ الكوفيين: (أَوَ لَمْ تَرَوا) بالتاءِ على الخطابِ
(1)
.
وأولى القراءتين عندى بالصوابِ قراءةُ مَن قَرَأ بالياءِ، على وجهِ الخبرِ عن الذين مكَروا السيئاتِ؛ لأن ذلك في سياقِ قَصَصِهم والخبرِ عنهم، ثم عَقِبَ ذلك الخبرُ [عن ذَهابهم]
(2)
عن حجةِ اللهِ عليهم، وترْكِهم النظرَ في أدلتِه، والاعتبارَ بها.
فتأويلُ الكلامِ إذن: أولم يَرَ هؤلاء الذين مكَروا السيئاتِ، إلى ما خلَق اللهُ مِن جسم قائمٍ؛ شجرٍ أو جبلٍ أو غيرِ ذلك. {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}. يقولُ: يَرْجِعُ مِن موضعٍ إلى موضعٍ، فهو في أولِ النهارِ على حالٍ، ثم يَتَقَلَّصُ، ثم يَعودُ إلى حالٍ أُخرى في آخرِ النهارِ.
وكان جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ يقولون في اليمينِ والشَّمائلِ ما:
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} . أما اليمينُ فأولُ النهارِ، وأما الشمائلُ
(3)
فآخرُ النهارِ
(4)
.
(1)
قرأ حمزة والكسائى: (أولم تروا إلى ما) بالتاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم {أو لم يروا} بالياء. وقرأ أبو عمرو:(تتفيأ) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. السبعة ص 373، 374، والتيسير في القراءات السبع ص 112.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(3)
في م: "الشمال". وهو لفظ رواية البغوي.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 356 عن معمر عن قتادة، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 22، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 بنحوه، إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ بنحوِه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} . قال: الغُدُوِّ والآصالِ، إذا فاءَت الظِّلالُ - ظلالُ كلِّ شيءٍ - بالغدوِّ سجَدَت للهِ، وإذا فاءَت بالعَشِيِّ سَجَدَت للهِ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} . يعنى: بالغدوِّ والآصالِ، تَسْجُدُ الظِّلالُ اللهِ عُدْوةً، إلى أن يَفِئَ الظلُّ، ثم تَسْجُدُ للهِ إلى الليلِ. يعنى ظلَّ كلِّ شيءٍ.
وكان ابن عباسٍ يقولُ في قولِه: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} ما:
حدَّثنا المثنى، قال: أخبَرنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، قولَه:{يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . يقولُ: تَتَمَيَّلُ
(2)
.
واخْتُلِف في معنى قولِه: {سُجَّدًا لِلَّهِ} . فقال بعضُهم: ظلُّ كلِّ شيءٍ سجودُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . قال: ظلُّ كلِّ شيءٍ سجودُه
(3)
.
(1)
ذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 لكن من قول مجاهدٍ، وعزاه إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
عزاه الشوكاني في فتح القدير 3/ 167 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا إسحاقُ الرازيُّ، عن أبي سِنانٍ، عن ثابتٍ، عن الضحاكِ:{يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . قال: سجد ظلُّ المؤمنِ طَوْعًا، وظَلُّ الكَافِرِ كَرْهًا.
وقال آخرون: بل عنَى بقولِه: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} : كلًّا عن اليمينِ والشَّمائلِ في حالِ سجودِها. قالوا: وسجودُ الأشياءِ غيرُ ظلالِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، وحدَّثنى نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْديُّ، قالا: ثنا حَكَّامٌ، عن أبي سنانٍ، عن ثابتٍ، عن الضحاكِ، في قولِ اللَّهِ:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . قال: إذا فاء الفيءُ توَجَّه كلُّ شيءٍ ساجدًا قِبَلَ القبلِة؛ مِن نَبْتٍ أو شجرٍ. قال: فكانوا يَسْتَحِبُّون الصلاةَ عند ذلك
(1)
.
حدَّثني المثنى، قال: أخبرَنا الِحمَّانيُّ، قال: ثنا يحيى بن يَمانٍ، قال: ثنا شَريكٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . قال: إذا زالت الشمسُ سجَد كلُّ شيءٍ للهِ
(2)
.
وقال آخرون: بل الذي وصَف اللهُ بالسجودِ في هذه الآيةِ، ظلالُ الأُشياءِ، فإنما يَسْجُدُ ظلالُها دونَ التي لها الظِّلالُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قولَه:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . قال: هو
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 498، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 119 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 22، وأبو حيان في البحر المحيط 5/ 498، وابن كثير في تفسيره 4/ 494، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى المصنف.
سجودُ الظِّلالِ؛ ظلالِ
(1)
كلِّ شيءٍ؛ ما في السماواتِ وما في الأرضِ مِن دَابَّةٍ
(2)
؛ سجودُ ظِلالِ الدَّوابِّ، وظلالِ كلِّ شيءٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قولَه:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} . ما خلَق مِن
(4)
شيءٍ، عن يمينِه وشَمائلِه
(5)
- فلفظُ {مَا} : لفظٌ عن اليمينِ والشَّمائلِ - قال: ألم تَرَ أنك إذا صلَّيْتَ الفجرَ، كان ما بيَن مَطْلِع الشمسِ إلى مَغْرِبها ظلًّا، ثم بَعث اللهُ عليه الشمسَ دليلًا
(6)
، وقبَض اللهُ الظلَّ
(7)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن اللَّهَ أَخْبَر في هذه الآيةِ، أن ظلالَ الأشياءِ هي التي تَسْجُدُ. وسجودُها مَيَلانُها ودَوَرانُها مِن جانبٍ إلى جانبٍ، وناحيةٍ إلى ناحيةٍ، كما قال ابن عباسٍ. يقالُ ذلك: سجَدَت النخلةُ. إذا مالت. وسجَد البعيرُ. وأسْجَدَ إِذا مَيَّل
(8)
للركوبِ. وقد بيَّنا معنى السجودِ في غيرِ هذا الموضعِ بما أغْنَى عن إعادتِه.
وقولُه: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} . يعنى: وهم صاغرون. يقال منه: دخَر فلانٌ للهِ
(1)
في ت 1، ت 2:" إلى ظل".
(2)
بعده في م: "قال".
(3)
ذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 بلفظ: "فئُ كل شيءٍ ظلّه، وسجود كل شيء فيه سجود الخيال فيها، وعزاه إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في م: "كل".
(5)
في ت 2: "شماله".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قليلا".
(7)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 497 عن ابن عباس من قوله: إذا صليت ....
(8)
في م: "أميل". وأسْجَدَ البعيرُ: إذا طأطأ رأسه وانحنى ليُركب. كتاب الأفعال للسرقسطى 3/ 504، وتاج العروس (س ج د).
يَدْخَرُ دَخَرًا ودُخُورًا. إذا ذلَّ له وخضَع. ومنه قولُ ذى الرُّمَّةِ
(1)
:
فلم يَبْقَ إِلا داخِرُ في مُخَيَّسٍ
(2)
…
ومُنْجَحِرٌ في غيرِ أَرضِك في جُحْرِ
(3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهُمْ دَاخِرُونَ} . أي: صاغِرون
(5)
.
حدَّثنا ابن عبدٍ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه.
وأما توحيدُ اليمينِ
(6)
في قولِه: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} . فَجَمَعَها؛ فإن ذلك إنما جاء كذلك لأن معنى الكلامِ: أولم يَرَوْا إلى ما خلَق اللهُ مِن شيءٍ، يَتَفَيَّأُ
(1)
ديوان ذي الرمة شرح أبى نصر الباهلى 2/ 979، والبيت في اللسان أيضا (خ ى س).
(2)
المخيَّس: الحَبْس. وخيَّس الرجُلَ والدابةَ تَخْييسًا وخاسَهما: ذللَّهما. والمخيَّس: السجن. المصدران السابقان.
(3)
في ت 2، ف:"حجر". وهو لفظ بعض نسخ ديوان ذى الرمة كما ذكر ذلك محقق الديوان.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 356 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى المصنف وابن المنذر.
(6)
ينظر معاني القرآن 2/ 102.
ظلالُ ما خلَق مِن شيءٍ عن يمينِه - أي: ما خلَق
(1)
- وشمائِله. فلفظُ {مَا} لفظٌ واحدٌ ومعناه معنى الجمعِ، فقال:{عَنِ الْيَمِينِ} . بمعنى: عن يمينِ ما خلَق. ثم رجَع إلى معناه في الشَّمائلِ.
وكان بعضُ أهل العربيةِ يقولُ
(2)
: إنما تَفْعَلُ العربُ ذلك؛ لأن أكثرَ الكلامِ مُواجَهةُ الواحدِ الواحدَ، فيُقالُ للرجلِ: خُذْ عن يمينكِ. قال: فكأنه إذا وحَد ذهَب إلى واحدٍ من القومِ، وإذا جمَع فهو الذي لا مَسْأَلَةَ
(3)
فيه. واسْتُشْهِد لفعلِ
(4)
العربِ ذلك، بقولِ الشاعرِ
(5)
:
بِفي الشامِتينَ الصَّخْرُ إن كان هَدَّنى
(6)
…
رَزِيَّةُ شِبْلَىْ مُخْدِرٍ في الضَّراغِمِ
(7)
فقال: بفِى الشامِتينِ، ولم يَقُلْ: بأفْواهِ.
وقولِ الآخرِ
(8)
:
[الواردون [وتَيْمٌ]
(9)
في ذرا]
(10)
سبأ
…
قد عَضَّ أَعْناقَهم جِلْدُ الجَوامِيسِ
ولم يَقُلْ: جلودُ.
(1)
يعني: عن يمين "ما خلق". فهى توضيح لقوله: "عن يمينه".
(2)
معاني القرآن 2/ 102.
(3)
في م: "مساءلة". والمثبت موافق لما في معاني القرآن.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بفعل".
(5)
هو الفرزدق. والبيت في شرح ديوان الفرزدق ص 764.
(6)
في الديوان: "مسنى".
(7)
شِبْلَىْ: مثنى شِبْل؛ ولد الأسد إذا أدرك الصيد. وخِدْر الأسد: أجَمَتُه. وأسدٌ خادر ومُخدِر: مقيم في عرينه داخل في الخِدر. والضراغم: الأسود؛ جمع. والواحد: ضرغم وضرغامة وضرغام. ينظر لسان العرب (ش ب ل)، (خ د ر)، (ضرغم).
(8)
هو جرير. والبيت في شرح ديوانه ص 325.
(9)
في ت 1، ت 2، ف:"وهم".
(10)
في شرح الديوان: "تدعوك تيم وتيم في قرى".
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وللهِ يَخْضَعُ [ويَخْشَعُ]
(1)
ويَسْتَسْلِمُ لأمرِه ما في السماواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ تَدِبُّ عليها، والملائكةُ التي
(2)
في السماواتِ، وهم لا يَسْتَكْبِرون عن التذلُّلِ له بالطاعةِ، والذين لا يُؤمِنون بالآخرةِ، قلوبُهم مُنْكِرةٌ، وهم مُسْتَكْبِرون، وظِلالُهم تَتَفَيَّأُ عن اليمينِ والشَّمائلِ سُجَّدًا للهِ، وهم داخرون.
وكان بعضُ نحويى أهلِ البصرةِ يقولُ: اجْتُزِئ بذكرِ الواحدِ مِن الدوابِّ عن ذكرِ الجميعِ، وإنما معنى الكلامِ وللهِ يَسْجُدُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ مِن الدوابِّ والملائكةِ، كما يقالُ: ما أتانى مِن رجلٍ. بمعنى: ما أتاني مِن الرجالِ.
وكان بعضُ نحويى الكوفةِ يقولُ
(3)
: إنما قيل: {مِنْ دَابَّةٍ} . لأن "ما" وإن كانت قد
(4)
تكونُ على مذهبِ "الذي" فإنها غيرُ مُؤَقَّتَةٍ، فَإِذَا أُبْهِمَت غَيرَ مؤقتةٍ أشْبَهَت الجزاءَ، والجزاءُ يَدْخُلُ "مِن" فيما جاء مِن اسمٍ بعدَه من النكرةِ، فيقالُ: مَن ضرَبه من رجلٍ فاضْربِوه. ولا تَسْقُطُ "مِن" من هذا الموضعِ؛ كراهيةَ أن تُشْبِهَ أن تكونَ حالًا لـ "مَن" و "ما"، فجعَلوه بـ "مِن" بـ (مِن) ليَدُلُّ على أنه تفسيرٌ لـ "ما" و "من"؛ لأنهما غيرُ مُؤَقَّتَتَينِ
(5)
، فكان دخولُ "مِن" فيما بعدَهما تفسيرًا لمعناها، وكان دخولُ "مِن" أَدَلُّ على ما لم يُوَقَّتْ مِن "مَن" و "ما"، فلذلك لم تُلْقَيا
(6)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
في ت 1: "الذين".
(3)
معاني القرآن 2/ 103.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مؤقتين".
(6)
في ص، ت 2:"بليعنا" وفى ت 1، ف:"يلتقيا"، وفى م:"يلغيا". وينظر معاني القرآن 2/ 103.
القولُ في تأويلِ قولِه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يَخافُ هؤلاء الملائكةُ التي في السماواتِ، وما في الأرضِ من دابَّةٍ، ربَّهم مِن فوقِهم، أن يُعَذِّبَهم إن عَصَوْا أَمرَه، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. يقولُ: ويَفْعَلون ما أمَرَهم اللهُ به، فيُؤَدُّون حقوقَه، ويَجْتَنِبون سَخَطَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال اللهُ لعبادِه: لا تَتَّخِذوا لى شريكًا، أيُّها الناسُ، ولا تَعْبُدوا معبودَيْن؛ فإنكم إذا عبَدْتُم معىَ غيرى، جعَلْتُم لى شريكًا ولا شريكَ لى، إنما هو إله واحد، ومعبودٌ واحدٌ، وأنا ذلك، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}. يقولُ: فإياىَ فاتَّقوا، وخافوا عقابى بمعصيتِكم إياىَ إن عصَيْتُمونى وعبَدْتُم غيرى، أو أشْرَكْتُم في عبادتِكم لي شريكًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وللَّهِ ملكُ ما في السماواتِ والأرضِ مِن شيءٍ، لا شريكَ له في شيءٍ من ذلك، هو الذي خلَقَهم، وهو الذي يَرْزُقُهم، وبيدِه حياتُهم وموتُهم.
وقولُه: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وله الطاعةُ والإخلاصُ دائمًا ثابتًا واجبًا. يقالُ منه: وصَب الدِّينُ يَصِبُ وُصُوبًا ووَصَبًا، كما قال الدِّيليُّ
(1)
.
(1)
نفائس المخطوطات ص 45. الجزء المجموع من أشعار أبى الأسود.
لا أبْتَغِى
(1)
الحمدَ القليلَ بقاؤُه
…
يومًا بذَمِّ الدهرِ أَجْمَعَ واصِبَا
ومنه قولُ اللهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9].
وقولُ حسَّان
(2)
:
غيَّرَتْه الريحُ تَسْفِى به
…
وهَزِيمٌ رَعْدُه واصِبُ
فأما مِن الألم، فإنما يقالُ: وصِب الرجلُ يَوْصَبُ وَصَبًا، وذلك إذا أَعْيَا ومَلَّ، ومنه قولُ الشاعرِ
(3)
:
لا يَغْمِزُ السَّاقَ مِن أَيْنٍ ولا وَصَبٍ
…
ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفِه الصَّفَرُ
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ الواصبِ: فقال بعضُهم: معناه ما قلنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن قيسٍ، عن الأغَرِّ بن الصَّبَّاحِ، عن خليفةَ بن حُصَيْنٍ، عن أبي نَضْرةَ، عن ابن عباسٍ:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . قال: دائمًا
(4)
.
حدَّثني إسماعيلُ بنُ موسى، قال: أخبَرنا شَريكٌ، عن أبي حَصِينٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . قال: دائمًا
(5)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن قيسٍ، عن يَعْلَى بن النُّعمانِ، عن
(1)
في الديوان: "أشترى".
(2)
ديوانه ص 281.
(3)
البيت لأعشى باهلة، وهو في الكامل 4/ 65، وفى جمهرة أشعار العرب 2/ 718، 719 تبادل شطر البيت في بيتين وينظر اللسان (ص ف ر، أرى). ديوان المفضليات ص 520.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 495.
عكرمةَ، قال: دائمًا.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، عن وَرْقاءَ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ جميعًا، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} قال: دائمًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . قال: دائمًا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك: وَلَهُ الدَّينُ وَاصِبا له. قال: دائما.
حدَّثني المثنى، قال: أخبرَنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هُشَيْمٌ، عن جويبرٍ، الضحاكِ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . أي: دائمًا، فإن
(2)
الله تبارك وتعالى لم يَدْعُ شيئًا مِن خلقِه إلا عبَدَه
(3)
، طائعًا أو كارهًا.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَوْرٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَاصِبًا} . قال: دائمًا، ألا تَرَى أنه يقولُ:{عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9].
(1)
تفسير مجاهد ص 422، ومن طريقه ورقاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(3)
في ص، ت 2:"عده".
أي: دائمٌ
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . قال: دائمًا، والواصبُ الدائمُ
(2)
.
وقال آخرون: الواصبُ في هذا الموضعِ الواجبُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن عطيةَ، عن قيسٍ، عن يَعْلَى بن النعمانِ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . قال: واجبًا
(3)
.
وكان مجاهدٌ يقولُ: معنى الدِّينِ في هذا الموضعِ الإخلاصُ. وقد ذكَرْنا معنى الدينِ في غيرِ هذا الموضعِ، بما أغْنَى عن إعادتِه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاءَ جميعًا
(5)
، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . قال: الإخلاصُ
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 357 عن معمر به.
(2)
ينظر التبيان 6/ 390.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى المصنف والفريابى.
(4)
ينظر ما تقدم في 3/ 300، 301، 5/ 280، 281.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(6)
تفسير مجاهد، من طريق ورقاء به، ص 422.
مجاهدٍ، قال: الدينُ الإخلاصُ.
وقولُه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أفغيرَ اللَّهِ أَيُّها الناسُ {تَتَّقُونَ} . أي: تَرْهَبون وتَحْذَرون أن يَسْلُبَكم نعمة اللهِ عليكم، بإخلاصِكم العبادةَ لربِّكم، وإفرادِكم الطاعةَ له، وما لكم نافعٌ سواه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} .
اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ الفاءِ في قولِه: {فَمِنَ اللَّهِ} ؛ فقال بعضُ البَصْرِيين: دخَلَتِ الفاءُ، لأن (ما) بمنزلةِ "مَن" فجعل الخبرَ بالفاءِ.
وقال بعضُ الكُوفيين
(1)
: "ما" في معنى جزاءٍ، ولها فعلٌ مُضْمَرٌ، كأنك قلتَ: ما يَكُنْ بكم مِن نعمةٍ فمن اللهِ؛ لأن الجزاءَ لا بدَّ له مِن فعل مجزومٍ، إن ظهرَ فهو جزمٌ، وإن لم يَظْهَرْ فهو مُضْمَرٌ، كما قال الشاعرُ:
إِنِ العَقْلُ في أموالِنا لا نَضِقُ به
…
ذِراعًا وإن صبرًا فنَعْرِفُ للصبرِ
وقال: أراد إن يَكُنِ العقلُ، فأَضْمَره، قال: وإن جعَلْتَ "ما بكم" في معنى "الذي" جاز، وجعَلْتَ صِلَتَه "بكم" و"ما" في موضع رفعٍ بقولِه:{فَمِنَ اللَّهِ} . وأدْخَل الفاءَ، كما قال:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. وكلُّ اسمٍ وُصِل مثلَ "مَن" و "ما" و "الذي" فقد يَجوزُ دخولُ الفاءِ في خبرِه؛ لأنه مضارعٌ للجزاءِ، والجزاءُ قد يُجابُ بالفاءِ، ولا يَجوزُ: أخوك فهو قائمٌ؛ لأنه اسمٌ غير موصولٍ، وكذلك تقولُ: ما لَك لى. فإن قلت: ما لَك. جاز أن تقولَ: ما لك فهو لى. وإن أَلْقَيْتَ الفاءَ فصوابٌ.
(1)
الفراء في معاني القرآن ص 104، 105 والبيت فيه.
وتأويلُ الكلامِ: ما يكَنْ بكم في أبدانِكم، أيُّها الناسُ، مِن عافيةٍ وصحةٍ وسلامةٍ، وفي أموالِكم مِن نَماءٍ [فمِن اللهِ، هو]
(1)
المُنعِمُ بذلك عليكم لا غيرُه؛ لأن ذلك إليه وبيدِه، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرّ}. يقولُ: إذا أصابكم في أبدانِكم سَقَمٌ ومرضٌ، وعلةٌ عارضةٌ، وشدَّةٌ مِن عيشٍ، {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}. يقولُ: فإلى اللَّهِ تَصْرُخون بالدعاءِ، وتَسْتَغِيثون به؛ ليَكْشِفَ ذلك عنكم. وأصلُه: مِن جُؤَارِ الثورِ، يقال منه: جأَر الثورُ يَجْأَرُ جُؤَارًا. وذلك إذا رفَع صوتًا شديدًا، مِن جُوعٍ أو غيرِه، منه قولُ الأَعْشَى
(2)
:
وما أَيْبُلِيٌّ
(3)
على هَيْكلٍ
(4)
…
بناه وصَلَّب فيه وصارا
يُراوِحُ مِن صَلواتِ المَلِيـ
…
ـكِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا.
يعنى بالجُوَارِ: الصياحَ؛ إما بالدعاءِ، وإما بالقراءةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ]
(5)
، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاءَ جميعًا، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِه:{فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} .
(1)
في م: "فالله"، وفى ت 1، ف:"هو الله"، وفى ت 2:"فهو الله".
(2)
ديوانه ص 53.
(3)
الأيبلى: صاحب الناقوس الذي ينقس النصارى بناقوسه يدعوهم به إلى الصلاة. اللسان (أ ب ل).
(4)
هيكل: بيت للنصارى فيه صنم على خلقة مريم فيما يزعمون. اللسان (هـ ك ل).
(5)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
قال: تَضْرَعون دُعاءً
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، رضي الله عنهما، قال: الضُّرُّ السَّقَمُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ثم إذا وهَب لكم ربُّكم العافيةَ، ورفَع عنكم ما أصابكم مِن المرضِ في أبدانِكم، ومن الشدةِ في معاشِكم، وفرَّج البلاءَ عنكم، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}. يقولُ: إذا جماعةٌ منكم يَجْعَلُون للَّهِ شريكًا في عبادتهِم، فيَعْبُدون الأوثانَ، ويَذْبَحون
(2)
لها الذبائحَ؛ شكرًا لغيرِ من أنعَم عليهم بالفرجِ مما كانوا فيه مِن الضُّرِّ
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} . يقولُ: ليَجْحَدوا الله نعمتَه، فيما آتاهم مِن كشفِ الضرِّ عنهم، {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، وهذا مِن اللَّهِ وعِيدٌ لهؤلاء الذين وصَف صفتَهم في هذه الآياتِ، وتهديدٌ لهم، يقولُ لهم جلَّ ثناؤُه: تمتَّعوا في هذه الحياةِ الدنيا إلى أن تُوافِيَكم آجالُكم، وتَبْلُغوا الميقاتَ الذي وقَّته لحياتِكم
(3)
وتمتُّعِكم فيها، فإنكم مِن ذلك ستَصِيرون إلى ربِّكم، فتَعْلَمون بلقائِه
(1)
تفسير مجاهد ص 422. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"فيذبحون".
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"لكم".
وَبالَ ما كسَبَت أيديكم، وتَعْرِفون سوءَ [مَغَبَّةِ أمرِكم]
(1)
، وتَنْدَمون [حينَ لا يَنْفَعُكم النَّدمُ]
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويَجْعَلُ هؤلاء المشركون مِن عَبَدةِ الأوثانِ، لما لا يَعْلَمون منه ضَرًّا ولا نفعًا، {نَصِيبًا}. يقولُ: حظًّا وجزءًا
(3)
{مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} مِن الأموالِ؛ إشراكًا
(4)
منهم له بالذي يَعْلَمون أنه خلَقَهم، وهو الذي يَنْفَعُهم ويَضُرُّهم دونَ غيرِه، كالذى حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} . قال: يَعْلَمون أن الله خلَقَهم، ويَضُرُّهم ويَنْفَعُهم، ثم يَجْعَلون لما لا يَعْلَمون أنه يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم، نصيبًا مما رزَقْناهم
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} . وهم مُشْرِكو العربِ. جعَلوا لأوثانِهم نصيبًا مما رزَقْناهم
(6)
، وجزءًا مِن أموالِهم يَجْعَلونه لأوثانِهم
(7)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَيَجْعَلُونَ
(1)
في ت 1: "فعلكم".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، وغير واضحة في ف.
(3)
في م، ت 1:"جزاء".
(4)
في ص، ت 1، ف:"اشركا"، وفى ت 1:"شركا".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120 إلى المصنف.
(6)
في ص: "رزقتهم".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 120، 121 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}. قال: جعَلوا لآلهتِهم التي ليس لها نصيبٌ ولا شيءٌ، جعَلوا لها نصيبًا مما قال اللهُ مِن الحرثِ والأنعامِ، يُسَمُّون عليها أسماءَها، ويَذْبَحون لها.
وقولُه: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واللَّهِ أَيُّها المشركون الجاعِلون للآلهةِ والأندادِ نصيبًا مما
(1)
رزَقْناكم، شركًا باللهِ وكفرًا، ليَسْأَلنَّكم اللهُ يومَ القيامةِ عما كنتم في الدنيا {تَفْتَرُونَ}. يعنى: تَخْتَلقون مِن الباطلِ والإفْكِ على اللهِ، بدَعْواكم له شريكًا، وتصْييركِم لأوثانِكم فيما رزَقكم نصيبًا، ثم لَيُعاقِبَنَّكم
(2)
عُقوبةً تكونُ جزاءً لكفرِكم نعمَه، وافترائِكم عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن جَهْلِ هؤلاء المشركين باللهِ
(3)
وخُبْثِ فعلِهم، وقبحِ فرْيتِهم على ربِّهم، أنهم يَجْعَلون لمن خلَقَهم ودبَّرهم وأنْعَم عليهم، فاسْتَوْجَب بنعمِه عليهم الشكرَ، واسْتَحَق عليهم الحمدَ - البناتِ. ولا يَنْبَغِى أن يكونَ للَّهِ ولدٌ ذكرٌ ولا أنثى، {سُبْحَانَهُ} . يُنَزِّهُ
(4)
جل جلاله بذلك نفسَه، عما أضافوا إليه ونسَبوه مِن البناتِ، فلم يَرْضَوْا بجهلِهم إذ أضافوا إليه ما لا يَنْبَغى إضافتُه إليه، ولا يَنْبَغى أن يكونَ له مِن الولدِ، أن يُضِيفوا إليه ما يَشْتَهونه لأنفسِهم، ويُحِبُّونه لها، ولكنهم أضافوا إليه ما يَكْرَهونه لأنفسِهم، ولا يَرْضَوْنه لها من البناتِ، ما يَقْتُلُونها إذا
(1)
في ص، م:"فيما".
(2)
بعده في ص، ت 2، ف:"على".
(3)
ليس في: م.
(4)
في م: "نزه"، وفى ت 1، ت 2:" تنزه" وفى ف: "ننزه".
كانت لهم. وفي "ما" التي في قولِه: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} . وجهان مِن العربيةِ؛ النصبُ عطفًا بها
(1)
على البناتِ، فيكونُ معنى الكلامِ، إذا أريد ذلك
(2)
: ويَجْعَلون للهِ البناتِ، ولهم البنينَ الذين يَشْتَهونهم
(3)
، فتكونُ {مَا} للبنين. والرفعُ، على أن الكلامَ مبتدأٌ من قولِه:{وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ، فيكونُ معنى الكلامِ: يَجْعَلُون للهِ البناتِ، ولهم البنونَ
(4)
.
وقولُه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} . يقولُ: وإذا بُشِّر أحدُ هؤلاء الذين جعَلوا للَّهِ البناتِ، بولادةِ ما يُضِيفُه إليه من ذلك له، ظلَّ وجهُه مسْودًّا، مِن كراهتِه له، {وَهُوَ كَظِيمٌ}. يقولُ: قد كظَم الحزنَ، وامْتَلأ غَمًّا بولادتِه له، فهو لا يُظْهِرُ ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثني عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ، ثم قال:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} إلى آخرِ الآيةِ، يقولُ: يَجْعَلُون للَّهِ البناتِ، تَرْضَوْنهن
(5)
لى، ولا تَرْضَوْنهن
(6)
لأنفسِكم، وذلك أنهم كانوا في الجاهليةِ إذا وُلِد للرجلِ منهم جاريةٌ، أمسَكها على هُونٍ، أو دسَّها في الترابِ، وهى
(1)
في م: "لها".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بذلك".
(3)
في م: "يشتهون".
(4)
ينظر معاني القرآن 2/ 105، 106.
(5)
في ص، ت 1:"ترضونهم"، وفى ت 2:"يرضونهم"، وفى ف:"يرضونهم".
(6)
في ص، ف:"ترضونهم" وفى ت 1، ت 2:"يرضونهم".
حيَّةٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} . وهذا صَنيعُ مشركي العرب، أخبَرهم اللهُ بخُبْثِ صنيعِهم، فأما المؤمنُ فهو حَقيقُ أَن يَرْضَى بما قسَم اللهُ له، وقضاءُ اللهِ خيرٌ مِن قضاءِ المرءِ
(2)
لنفسِه، ولعَمْرِى ما يَدْرِى أنه خيرٌ؛ لرُبَّ جاريةٍ خيرٌ لأهلِها مِن غلامٍ. وإنما أخْبَركم الله بصنيعِهم؛ لتَجْتَنِبوه
(3)
وتَنْتَهوا عنه، وكان أحدُهم يَغْذُو كلبَه، ويَئِدُ ابنتَه
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال: ابن عباسٍ: {وَهُوَ كَظِيمٌ} . قال: حزينٌ
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هُشَيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَهُوَ كَظِيمٌ} . قال: الكَظيمُ الكَمِيدُ
(6)
.
وقد بينَّا ذلك بشواهِده في غيرِ هذا الموضعِ
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {يَتَوَارَى} هذا المُبَشَّرُ بولادةِ الأنثى مِن الولدِ له {مِنَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى المصنف وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"الخير".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لتجتنبوا".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 30 إلى المصنف.
(6)
تقدم تخريجه في 13/ 296.
(7)
بعده في ت 1: "بما أغنى عن إعادته" وينظر ما تقدم في 6/ 57، 58، 13/ 293.
الْقَوْمِ} فَيَغِيبُ عن أبصارِهم، {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} يعنى: مِن مَساءتِه إياه، مُمَيِّلًا
(1)
بين أن يُمْسِكَه {عَلَى هُونٍ} أي: على هَوانٍ. وكذلك ذلك في لُغةِ قريشٍ، فيما ذُكِر لى، يقولون للهَوانِ: الهُونَ. ومنه قولُ الُحطَيْئةِ
(2)
:
فلمَّا خَشِيتُ الهُونَ والعَيْرُ
(3)
مُمْسِكٌ
…
على رَغْمِه ما أَثْبَتَ الحَبْلَ حافِرُهْ
(4)
وبعضُ بنى تَمِيمٍ جعَل الهُونَ مصدرًا للشيءِ الهَيِّنِ؛ ذكَر الكِسائيُّ أنه سمِعهم يقولون: إن كنتَ لَقليلَ هَوْنِ المُؤنةِ منذُ اليومِ. قال: وسمِعْتُ الهَوانَ في مثلِ هذا المعنى، سمِعْتُ منهم قائلًا يقولُ لبعيرٍ له: ما به بأسٌ غيرُ هَوانِه. يعني: خفيفَ الثمنِ. فإذا قالوا: هو يَمْشِى على هَوْنِه. لم يقولوه إلا بفتح الهاءِ، كما قال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}
(5)
[الفرقان: 63].
{أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} . يقولُ: يَدْفِنُه حيَّا في الترابِ، فيَئِدُه، كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} . يقولُ
(6)
: يَئِدُ ابنتَه
(7)
.
وقولُه: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . يقولُ: ألا ساء الحكمُ الذي يَحْكُمُ هؤلاء المشركون، وذلك أن جعَلوا للهِ ما لا يَرْضَوْن لأنفسِهم، وجعَلوا لما لا يَنْفَعُهم ولا يَضُرُّهم شِرْكًا فيما رزَقَهم اللهُ، وعبَدوا غيرَ مَن خَلَقَهم، وأَنْعَم عليهم.
(1)
في ت 1، ت 2، ف "ممتلا". وبدون نقط في ص، ومميِّلا: متردِّدًا. ينظر الوسيط (م ى ل).
(2)
ديوانه ص 183.
(3)
العير: الحمار. تاج العروس (ع ى ر).
(4)
في ت 1 ت 2: "حاجره"، وفى ف:"حاحره".
(5)
ينظر معاني القرآن 2/ 106، 107.
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى المصنف وابن المنذر.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} .
وهذا خبرٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه أن قولَه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} . والآيةَ التي بعدَها مثلٌ ضرَبه
(1)
لهؤلاء المشركين الذين جَعلوا للهِ البناتِ، فبيَّن بقولِه:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أَنه مَثَلٌ، وعَنَى بقولِه جلَّ ثناؤُه:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : للذين لا يصدِّقون بالمَعادِ والثوابِ والعقابِ من المشركين و {مَثَلُ السَّوْءِ} . وهو القبيحُ من المثلِ، وما يسوءُ
(2)
مَن ضُرب له ذلك
(3)
المثلُ، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}. يقولُ: وللهِ المثلُ الأعلى، وهو الأفضلُ والأطيبُ، والأحسنُ والأجملُ، وذلك التوحيدُ والإذعانُ له بأنه لا إلهَ غيرُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . قال: شهادةُ ألا إلهَ إلا اللهُ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} : الإخلاصُ والتوحيدُ.
(1)
بعده في م: "الله".
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"بشر"، وغير منقوطة في ص.
(3)
في ت 1: "هذا".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357 عن معمر به.
وقولُه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والله
(1)
ذو العزةِ التي لا يمتنِعُ عليه معها عقوبةُ هؤلاء المشركين الذين وصَف صفتَهم في هذه الآياتِ، ولا عقوبةُ من أراد عقوبتَه على معصيتِه إيَّاه، ولا يتعذَّرُ عليه شيءٌ أراده وشاءه؛ لأن الخلقَ خلقُه، والأمرَ أمرُه، الحكيمُ في تدبيرِه، فلا يدخُلُ تدبيرَه خَلَلٌ ولا خطأٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)} .
يقول تعالى ذكرُه: ولو يُؤاخِذُ اللهُ عصاةَ بنى آدمَ بمعاصيهم {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} . يعنى: على الأرضِ، {مِنْ دَابَّةٍ} تدِبُّ عليها، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ}. يقولُ: ولكنَّه بحلمِه يؤخِّرُ هؤلاء الظلمةَ، فلا يعاجِلُهم بالعقوبةِ، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. يقولُ: إلى وقتِهم الذي وَقَّت لهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}. يقولُ: فإذا جاء الوقتُ الذي وَقَّت لهلاكِهم، {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن الهلاكِ {سَاعَةً} الله فيُمْهَلون، {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} قبلَه
(2)
حتى يستوفُوا آجالَهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، قال: كاد الجُعَلُ
(3)
أن يُعذِّبَ بذنبِ بنى آدمَ. وقرأ:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لله".
(2)
في م: "له".
(3)
الجعل: حيوان كالخنفساء. النهاية 1/ 277.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ حكيمٍ الخزاعيُّ، قال: ثنا محمدُ بن جابرٍ الحنفيُّ
(2)
، عن يحيى بن أبى كثيرٍ، عن أبي سلَمة، قال: سمِع أبو هريرةَ رجلًا وهو يقولُ: إن الظالمَ لا يضرُّ إلا نفسَه. قال: فالتفتَ إليه فقال: بلى، واللهِ إن الحُبارى
(3)
لتموتُ في وَكْرِها هَزْلًا
(4)
بظلمِ الظالمِ
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا أبو عُبيدة الحدَّادُ، قال: ثنا قُرَّةُ بنُ خالدٍ السَّدُوسيُّ، عن الزُّبيرِ بن عديٍّ، قال: قال ابن مسعودٍ: خطيئةُ ابن آدمَ قتَلت الجُعَلَ
(6)
.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي عُبيدةَ، قال: قال عبدُ اللهِ، كاد الجُعَلُ أن يهلِكَ في جُحْرِه بخطيئةِ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 497 عن سفيان به. وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 300 من طريق سفيان به بزيادة ابن مسعود، وأخرجه الحاكم 2/ 428، والبيهقى في الشعب (7478) من طريق أبي إسحاق به بزيادة ابن مسعود، وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 عن ابن مسعود وعزاه إلى ابن المنذر.
(2)
في النسخ: "الجعفى". والمثبت من الشعب وتفسير ابن كثير، وينظر تهذيب الكمال 24/ 564.
(3)
الحبارى: طائر معروف، وهو على شكل الإوزة، برأسه وبطنه غبرة، ولون ظهره وجناحيه كلون السُّمَانَى غالبا. المصباح المنير (ح ب ر).
وقال ابن الأثير في النهاية: 1/ 328: يعنى أن الله يحبس عنها القطر بعقوبة ذنوبهم، وإنما نصها بالذكر، لأنها أبعد الطير نجعة، فربما تذبح بالبصرة ويوجد في حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.
(4)
في م: "هزالا".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 497 عن المصنف، وأخرجه البيهقى في الشعب (7479) من طريق إسماعيل بن حكيم به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (269) من طريق يحيى ابن أبي كثير به بدون ذكر أبي سلمة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى عبد بن حميد.
(6)
أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (270) من طريق قرة بن خالد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى الإمام أحمد في الزهد.
ابن آدمَ
(1)
.
حدَّثني المُثنى، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، عن معمرٍ، عن الزُّهْريِّ: قال اللهُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} . قال: نرى أنه إذا حضَر أجلُه فلا يُؤخَّرُ ساعةً ولا يقدَّمُ، وما لم يحضُرْ أجله، فإن الله يؤخَّرُ ما شاء، ويقدَّمُ ما شاء
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويجعَلُ هؤلاء المشركون للهِ ما يكرَهونه لأنفسِهم [مِن البناتِ]
(3)
، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ}. يقولُ: وتقولُ ألسنتُهم الكذبَ وتفتريه؛ {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} . و {أَنَّ} في موضعِ نصبٍ؛ لأنها ترجمةٌ عن الكذبِ. وتأويلُ الكلامِ: ويجعَلون للهِ ما يكرهونه لأنفسِهم، ويزعُمون أن لهم الحسنى، الذي يكرهونه لأنفسِهم البناتُ يجعَلونهن للهِ تعالى، وزعَموا أن الملائكةَ بناتُ اللهِ. وأما {الْحُسْنَى} التي جعَلوها لأنفسِهم، فالذكورُ من الأولادِ، وذلك أنهم كانوا يَئِدون الإناثَ من أولادِهم، ويستبْقون الذكورَ منهم، ويقولون: لنا الذكورُ وللهِ البناتُ. وهو نحوُ قولِه
(4)
: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57].
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات (273) من طريق أبي معاوية به.
(2)
تقدم تخريجه في ص 15.
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قولهم".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، وحدَّثنى المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدثنة المثنى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} قال: قولُ قريشٍ: لنا البنونَ، وللهِ البناتُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن [ابن جريجٍ]
(2)
، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: قولُ كفارِ قريشٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} . أي: يتكلَّمون بأن لهم الُحسنى. أي: الغِلْمانَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} . قال: الغِلمانَ
(3)
.
وقولُه: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: حقًّا واجبًا أن لهؤلاء القائلين: للهِ البناتُ. الجاعلين له ما يكرَهونه لأنفسِهم، ولأنفسِهم الحسنى - عندَ اللهِ يومَ القيامةِ النارَ.
وقد بيَّنَّا تأويلَ قولِ اللهِ: {لَا جَرَم} . في غيرِ موضعٍ من كتابِنا هذا
(1)
تفسير مجاهد ص 422. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص: "أبى نجيح".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
بشواهِده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعِ
(1)
.
ورُوى، عن ابن عباس في ذلك ما حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا جَرَم} . يقولُ: بلى
(2)
.
وقولُه: {لَا جَرَم} . كان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: لم تُنصَبْ {جَرَمَ} بـ {لَا} ، كما نُصِبتِ الميمُ من قولِه: لا غلامَ لك. قال: ولكنها نُصِبت لأنها فعلٌ ماضٍ، مثلُ قولِ القائلِ: قعَد فلانٌ وجلَس. والكلامُ: {لَا} [ردٌّ لكلامِهم، أي]
(3)
: ليس الأمرُ هكذا {جَرَمَ} الله: كسَب، مثلُ قولِه:{لَا أُقْسِمُ} [القيامة: 1]. ونحوُ ذلك.
وكان بعضُهم يقولُ: نصبُ {جَرَمَ} بـ {لَا} ، وإنما هو بمعنى: لابدَّ، ولا محالةَ. ولكنها كثُرت في الكلامِ حتى صارت بمنزلِة "حقًّا".
وقولُه: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأنهم مُخَلَّفون متروكون في النارِ، مَنْسِيُّون فيها.
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال أكثرُهم بنحوِ ما قلنا في ذلك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في هذه الآيةِ: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ
(1)
ينظر ما تقدم في 12/ 373.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 2019 من طريق أبى صالح به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بد لكلام".
مُفْرَطُونَ}. قال: مَنسيُّون مُضَيَّعون
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقيُّ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ، قال: أخبرنا سعيدٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حمُيدٍ، قال: ثنا بَهْرُ بنُ أسدٍ، عن شعبةَ، قال: أخبرني أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبير مثلَه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . قال: متْروكون في النارِ، مَنسيُّون فيها.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال حصينٌ: أخبَرنا عن سعيدِ بن جبيرٍ بمثِله.
حدَّثني المثنى، قال: أخبرنا الحجَّاجُ بنُ المنهالِ، قال: ثنا هشيمٌ، عن حُصينٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ بمثلِه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . قال: مَنسيُّون.
حدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(2)
، قال: ثنا ورقاءُ، وحدثنى المثنى، قال: أخبَرنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدثنى المثنى، قال: أخبرَنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الحسين".
(3)
تفسير مجاهد ص 422. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا عَبْدةُ وأبو معاويةَ وأبو خالدٍ، عن جويبرٍ، عن الضحَّاكِ:{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . قال: متروكون
(1)
في النارِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن القاسمِ، عن، عن مجاهدٍ:{مُفْرَطُونَ} . قال: مَنْسِيُّون.
حدَّثني عبدُ الوارثِ بنُ عبدِ الصمدِ، قال: ثنى أبى، عن الحسينِ، عن قتادةَ:{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . يقولُ: مضاعون.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا بَدَلٌ، قال: ثنا عبَّادُ بنُ راشدٍ، قال: سمعتُ داودَ ابنَ أبى هندٍ في قولِ اللهِ: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . قال: منسيُّون في النارِ.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم مُعَجَّلون إلى النارِ، مقدَّمون إليها. وذهَبوا في ذلك إلى قولِ العربِ: أَفْرَطْنَا فلانًا في طلبِ الماءِ. إذا قدَّموه لإصلاحِ الدِّلاءِ والأرْشِيَةِ
(2)
، وتسويةِ ما يحتاجون إليه عندَ ورودِهم عليه، فهو مُفْرَطٌ. فأما المتقدَّمُ نفسُه فهو فارِطٌ، يقالُ: قد فرَط فلانٌ أصحابَه يَفْرُطُهم فَرْطًا وفُروطًا. إذا تقدَّمهم. وجمعُ فارطٍ فُرَّاطٌ، ومنه قولُ القُطَاميِّ
(3)
.
واسْتَعْجَلونا وكانوا مِن صحابتِنا
…
كما تَعَجَّل فُرَّاطٌ لوُرَّادِ
(4)
ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنا فرَطُكم على الحوضِ" - أي: متقدِّمُكم إليه وسابقُكم - "حتى ترِدوه"
(5)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"متركون".
(2)
الأرشية جمع الرشاء، وهو الحبل. اللسان (ر ش ى).
(3)
ديوانه ص 90.
(4)
في ص، ت 1، ف "لوارد"، وفى ت 2:"الوارد"، ورواية الديوان:"لرواد".
(5)
البخارى (6576، 6576، 7049)، ومسلم (39/ 249، 10/ 1822، 25/ 2289، 29/ 2290، 32/ 2297، 2305/ 44،45).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} يقولُ: مُعَجَّلون إلى النارِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . قال: قد أُفرِطوا في النارِ. أي: مُعجِّلون
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: مُبْعَدون في النارِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن أشْعَثَ السَّمَّانِ، عن الربيعِ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدٍ:{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . قال: مُخْسَئون مُبْعَدون
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ القولُ الذي اخترناه؛ وذلك أن الإفراطَ الذي هو بمعنى التقديمِ، إنما يقالُ في من
(3)
قُدِّم مُقَدَّمًا لإصلاحِ ما يُقَدَّمُ إليه، إلى وقتِ ورودِ من قَدَّمه عليه، وليس بمُقَدَّمٍ من قُدِّم إلى النارِ مِن أهلِها، لإصلاحِ شيءٍ فيها، لواردٍ يردُ عليها فيها، فيوافِقَه مُصْلَحًا، وإنما يُقَدَّمَ مَن قُدِّم إليها لعذابٍ يعجَّلُ له. فإذ كان [ذلك معنى]
(4)
الإفراطِ، الذي هو تأويلُ التعجيلِ، ففسَد أن يكونَ له وجهٌ في الصحةِ صحَّ المعنى الآخرُ، وهو الإفراطُ الذي بمعنى التخليفِ والتركِ. وذلك أنه يُحْكَى عن العربِ: ما أفْرَطتُ ورائى أحدًا. أي: ما خلَّفتُه، وما فرَّطتُه. أي: لم أُخَلِّفْه.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 121 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 27، والقرطبى في تفسيره 10/ 121.
(3)
ف ت 2: "ممن".
(4)
في م، ت 1:"معنى ذلك".
واختلفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأةِ الِمصْرين الكوفِة والبصرةِ: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} بتخفيفِ الراءِ وفتحِها، على معنى ما لم يُسَمَّ فاعلُه
(1)
، من: أفْرَط فهو مُفْرَطٌ. وقد بيَّنتُ اختلافَ قرأةِ
(2)
ذلك كذلك في التأويلِ.
وقرَأه أبو جعفرٍ القارئُ: (وأنهم مُفَرِّطون). بكسرِ الراءِ وتشديدِها
(3)
، بتأويلِ: أنهم مفرِّطون في أداءِ الواجبِ كان للهِ عليهم في الدنيا، من طاعتِه
(4)
وحقوقِه، مضيِّعو ذلك، من قولِ اللهِ تعالى:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
وقرأ نافعُ بنُ أبى نُعيمٍ: (وأنهم مُفْرِطون). بكسرِ الراءِ وتخفيفِها
(5)
.
حدَّثني بذلك يونس، عن ورْشٍ، عنه. بتأويلِ: أنهم مُفْرِطون في الذنوبِ والمعاصى، مُسْرِفون على أنفسِهم، مُكْثِرون منها
(6)
. من قولِهم: أفْرَط فلانٌ في القولِ. إذا تجاوَز حدَّه وأسْرَف فيه.
والذي هو أولى القراءاتِ في ذلك بالصوابِ قراءةُ الذي ذكَرنا قراءتَهم من أهلِ العراقِ، لموافقتِها تأويلَ أهلِ التأويلِ الذي ذكَرنا قبلُ، وخروجِ القراءاتِ الأُخَرِ عن تأويلِهم
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ
(1)
هذه قراءة حمزة وعاصم والكسائى وأبى عمرو وابن كثير وابن عامر. ينظر السبعة ص 374.
(2)
في م: "قراءة".
(3)
ينظر النشر 2/ 228.
(4)
في ص، ت 2:"طاعاته".
(5)
السبعة ص 374.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"منه".
(7)
والقراءات الأخر التي ذكرها المصنِّف متواترة.
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}.
يقولُ تعالى ذكرُه مُقْسِمًا بنفسِه عز وجل، لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: والله يا محمدُ، لقد أرْسلنا رسلًا من قبلِك إلى أمِمها، بمثلِ ما أرْسَلناك إلى أمتِك، من الدعاءِ إلى التوحيدِ للهِ، وإخلاصِ العبادةِ له، والإذعانِ له بالطاعةِ، وخلعِ الأندادِ والآلهةِ، {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}. يقولُ: فحسَّن لهم الشيطانُ ما كانوا عليه
(1)
من الكفرِ باللهِ وعبادةِ الأوثانِ، مُقِيمين، حتى كذَّبوا رسلَهم، وردُّوا عليهم ما جاءوهم به من عندِ ربِّهم، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ}. يقولُ: فالشيطانُ ناصرُهم اليومَ في الدنيا، وبئس الناصرُ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرةِ عندَ ورودِهم على ربِّهم، فلا ينفَعُهم حينَئذٍ ولايةُ الشيطانِ، ولا هي نفَعتهم في الدنيا، بل ضرَّتهم فيها، وهى لهم في الآخرةِ أضرُّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وما أَنْزَلنا يا محمدُ عليك كتابَنا، وبعَثناك رسولًا إلى خلقِنا، إلا لتُبيِّنَ لهم ما اخْتَلفوا فيه من دينِ اللَّهِ، فتعرِّفَهم الصوابَ منه، والحقَّ من الباطلِ، وتقيمَ عليهم بالصوابِ منه حجةَ اللَّهِ التي
(1)
بعَثك بها.
وقولُه: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . [يقولُ: {وَهُدًى}]
(2)
، بيانًا من الضلالةِ، يعنى بذلك الكتابَ، ورحمةً لقومٍ يؤمنون به، فيصدِّقون بما فيه،
(1)
في م: "الذي".
(2)
في ص، ت 2، ف:"وقوله و"، وفى ت 1:"يقول و".
ويُقِرُّون بما تضمَّن من أمرِ اللهِ ونهِيه، ويعمَلون به.
وعطَف [بـ "الهدى"]
(1)
على موضعِ {لِتُبَيِّنَ}
(2)
؛ لأن موضعَها نصبٌ. وإنما معنى الكلامِ: وما أَنْزَلنا عليك الكتابَ إلا بيانًا للناسِ فيما اخْتَلفوا فيه، و
(3)
هدًى ورحمةً.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُنبِّهَ خَلْقِه على حُججِه عليهم في توحيدِه، وأنه لا تَنْبِغى الألوهةُ إلا له، ولا تصلُحُ العبادةُ لشيءٍ سواه: أيُّها الناسُ، و
(4)
معبودُكم الذي له العبادةُ دونَ كلِّ شيءٍ، {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. يعنى: مطرًا. يقولُ: فَأَنْبَت بما أَنْزَل من ذلك الماءِ من السماءِ الأرضَ
(5)
الميتةَ التي لا زرعَ بها
(6)
ولا عُشْبَ، ولا تُنبتُ
(7)
، {بَعْدَ مَوْتِهَا}: بعدَما هي ميتةٌ لا شيءَ فيها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}. يقولُ تعالى ذكرُه: إن في إحيائِنا الأرضَ بعدَ موتِها، بما أنزلنا من السماءِ من ماءٍ، لدليلًا واضحًا، وحجةً قاطعةً عُذْرَ من فكَّر فيه، {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. يقولُ: لقومٍ يسمَعون هذا القولَ فيتدبَّرونه ويعقِلونه، ويطيعون الله بما دلّهم عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ
(1)
في ت 2: "الهدى".
(2)
في النسخ: "ليبين"، وليست بقراءة.
(3)
سقط من: م، ف.
(4)
سقط من: م.
(5)
سقط من: ص، ت 2، ف.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لها".
(7)
في م: "نبت"، وفى ت 2:"نبتت".
بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن لكم أيُّها الناسُ لعظةً في الأنعامِ التي نُسْقيكم
(1)
مما في بطونِه.
واختلفتِ القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {نُسْقِيكُمْ} ؛ فقرَأته عامةُ
(2)
أهلِ مكةَ والعراقِ والكوفةِ والبصرةِ - سوى عاصمٍ - ومِن أهلِ المدينةِ أبو جعفرٍ: {نُسْقِيكُمْ} بضمِّ النونِ
(3)
، بمعنى أنه أسقاهم شرابًا دائمًا. وكان الكِسائيُّ يقولُ: العربُ تقولُ: أَسقيناهم نهرًا
(4)
، وأسقيناهم لبنًا. إذا [جعَله له]
(5)
شُرْبًا دائمًا، فإذا أرادوا أنهم أَعْطَوْه شَرْبَةً قالوا: سقيناهم
(6)
، فنحن نَسْقِيهم
(7)
. بغير ألفٍ.
وقرأ ذلك عامةُ قَرَأةِ أهلِ المدينةِ - سوى أبى جعفرٍ - ومِن أهلِ العراقِ عاصمٌ: (نَسقيكم). بفتح النونِ
(8)
، من: سقاه اللهُ، فهو يَسْقِيه. والعربُ قد تُدْخِلُ الأَلفَ فيما كان من السقى غيرَ دائمٍ، وتَنْزِعُها فيما كان دائمًا، وإن كان أشهرُ الكلامَين عندَها ما قال الكِسائيُّ. يَدلُّ على ما قلنا من ذلك قولُ لَبِيدٍ في صفةِ سحابٍ
(9)
:
(1)
في ت 2: "يسقيكم".
(2)
بعده في ت 1: "قراء".
(3)
وهذه قراءة ابن كثير وأبى عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص. السبعة لابن مجاهد ص 374.
(4)
في ت 1، ت 2:"هذا".
(5)
في م: "جعلته".
(6)
في ت 1، ت 2، ف:"سقيناكم".
(7)
في ف: "نسقيكم".
(8)
وهذه قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر، ويعقوب، وأما أبو جعفر فقد قرأ بالتاء مفتوحة. ينظر السبعة ص 374، النشر 2/ 228.
(9)
شرح ديوان لبيد ص 93.
سَقَى قَوْمِى
(1)
بنى مَجْدٍ وأَسْقَى
…
نُميْرًا والقبائلَ من هِلالِ
فجمَع اللغتين كلتيهما في معنًى واحدٍ.
فإذ كان ذلك كذلك، فبأيةِ القراءتين قرأ القارئُ فمصيبٌ، غيَر أن
(2)
أعجبَ القراءتين إليَّ قراءةُ ضمِّ النونِ؛ لِمَا ذكَرْتُ من أن أكثرَ الكلامَين عندَ العربِ فيما كان دائمًا من السقى: أسقى، بالألفِ، فهو يُسْقِى. و [أن ما]
(3)
أسقى اللهُ عبادَه من بطونِ الأنعامِ، فدائمٌ لهم غيرُ منقطِعٍ عنهم.
وأما قولُه: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} . وقد ذكَر الأنعامَ قبلَ ذلك، وهى جمعٌ، والهاءُ في البطونِ مُوحدةٌ، فإن لأهل العربيةِ في ذلك أقوالًا؛ فكان بعضُ نحويِّي الكوفةِ يقولُ
(4)
: النَّعَمُ والأنعامُ شيءٌ واحدٌ؛ لأنهما جميعًا جمعان، فردَّ الكلامَ في قولِه:{مِمَّا فِي [بُطُونِهِ} إلى]
(5)
التذكيرِ، مرادًا به معنى النَّعَم، إذ كان يؤدِّى عن الأنعامِ. ويَستشهِدُ
(6)
لقولِه
(7)
ذلك برجزِ بعضِ الأعرابِ
(8)
:
إذا رأيْتَ أَنْجُمًا مِنَ الأَسَدُ
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"قوم".
(2)
في ص، ت 2:"أنه".
(3)
في م: "ما".
(4)
معاني القرآن للفراء 1/ 129، 2/ 108.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"التي".
(6)
في ت 1 ت:2: "يستشهدون".
(7)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(8)
معاني القرآن للفراء 1/ 129، 2/ 108، وتهذيب اللغة 6/ 65، واللسان (خ ر ت، ك ت د)، والثلاثة الأبيات الأولى منه في تهذيب اللغة 6/ 66، واللسان (ج ب هـ).
جَبْهَتَهُ
(1)
أَوِ الخَرَاتَ
(2)
والكَتَدْ
(3)
بال سُهَيْلٌ فِي الفَضِيخُ
(4)
فَفَسَدْ
وطابَ الْبَانُ اللِّقاحِ فَبَرَدْ
ويقولُ: رجَع بقولِه: فبَرد. إلى معنى اللبنِ؛ لأن اللبنَ والألبانَ يكونُ
(5)
في معنَى واحدٍ.
وفي تذكيرِ النَّعَمِ قولُ الآخرِ
(6)
:
أكُلَّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ
يُلْقحُهُ قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهُ
فذكَّر النَّعَمَ.
وكان غيُره منهم يقولُ
(7)
: إنما قال: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} . لأنه أراد: مما في بطونِ ما ذكَرْنا. ويُنشِدُ في ذلك رَجزًا لبعضِهم
(8)
:
(1)
الجبهة: النجم الذي يقال له: جبهة الأسد. تهذيب اللغة 6/ 65.
(2)
والخرات مفرد، ومثناه: الخراتان: من كواكب الأسد، وهما كوكبان بينهما قدر سوط، وهما كتفا الأسد. تهذيب اللغة 7/ 296.
(3)
الكتد: نجم. ينظر اللسان (ك ت د).
(4)
الفضيخ: عصير العنب، وهو أيضا: شراب يتخذ من البسر المفضوح وحده - وهو المشدوخ - من غير أن تمسه النار، والمعنى: لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب، فكأنه بال فيه. ينظر اللسان (ف ض خ).
(5)
في م، ف:"تكون".
(6)
الكتاب 1/ 129، ومجاز القرآن 1/ 362، ونسبهما في الخزانة 1/ 412 إلى قيس بن حصين بن يزيد الحارثى، ونسبهما ابن الأثير في الكامل 1/ 624 إلى قيس بن عاصم المنقرى.
(7)
هو الكسائى، كما في معاني القرآن للفراء 2/ 109.
(8)
معاني القرآن للفراء 2/ 109، والمحتسب 2/ 153.
مِثْلُ الفِراخِ نتَقَتْ
(1)
حَوَاصِلُهُ
وقولَ الأسودِ بن يَعْفُرَ
(2)
:
إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كلاهِما
…
يُوفى المَخَارِمَ
(3)
يَرْقُبَانِ
(4)
سَوَادِى
فقال: كلاهما. ولم يقلْ: كلتاهما. وقولَ الصَّلَتَانِ العَبْدِيِّ
(5)
:
إِنَّ السَّمَاحَةَ والمُرُوءَةَ ضُمَّنَا
…
قَبْرًا بمَرْوَ على الطَّرِيقِ الوَاضِحِ
وقولَ الآخرِ
(6)
:
وعَفْرَاءُ أَدْنَى
(7)
النَّاسِ مِنِّي مَوَدَّةً
…
وعَفْرَاءُ عَنِّي المُعْرِضُ المُتَوَانِى
ولم يقل: المعرضةُ المتوانيةُ. وقولَ الآخرِ
(8)
:
إذِ
(9)
النَّاسُ ناسٌ والبِلادُ بغِبْطَةٍ
(10)
…
وَإِذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَدِيقٌ مُساعِفُ
(11)
ويقولُ: كلُّ ذلك على معنى: هذا الشئُ، وهذا الشخصُ، والسوادُ. وما
(1)
في م: "نتفت". ونتقت: سمنت. اللسان (ن ت ق).
(2)
البيت في المفضليات ص 216، والأغانى 13/ 16.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"المحارم". والمخارم: الطرق في الجبال وأفواه الفجاج، وهو منقطع أنف الجبل. اللسان (خ ر م).
(4)
في الأغانى: "يرميان".
(5)
البيت في أمالى اليزيدى ص 1، أمالي المرتضى 2/ 199. وهو في الشعر والشعراء 1/ 431، وسمط اللآلى 2/ 921، والأغانى 15/ 381، وأمالى المرتضى 1/ 72 منسوبا لزياد الأعجم.
(6)
البيت لعروة بن حزام، وهو في الأغانى 162/ 24، والنوادر للبكرى ص 158.
(7)
في الأغانى: "أرجى"، وفى النوادر:"أحظى".
(8)
البيت لأوس بن حجر، وهو في ديوانه ص 74.
(9)
في م، ت 1، ت 2، ف:"إذا".
(10)
في الديوان: "بعزة".
(11)
المساعف: المساعد، والقريب المواتى. ينظر اللسان (س ع ف).
أشبه ذلك، ويقولُ: من ذلك قولُ اللهِ تعالى ذكْرُه: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78]. بمعنى: هذا الشيءٌ الطالعُ. وقولُه: {[كَلَّا إِنَّهَا]
(1)
تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11، 12]. ولم يقلْ: ذَكَرها؛ لأن معناه: فمن شاء ذكر هذا الشئَ. وقولُه: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 35،36]، ولم يقلْ: جاءت.
وكان بعضُ البصريين يقولُ: قيل: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} . لأن المعنى: نُسقيكم من أيِّ الأنعامِ كان في بطونِه اللبنُ
(2)
. ويقولُ: "فيه اللبنُ" مضمَرٌ. يعنى: أنه يُسقى من أيِّها كان ذا لبنٍ؛ وذلك لأنه ليس لكُلِّها لبنٌ، وإنما يُسقى من ذواتِ اللبن.
والقولان الأوّلان أصحُّ مخرجًا على كلامِ العربِ من هذا القولِ الثالثِ.
وقولُه: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} . يقولُ: نُسقيكم لبنًا نُخرجُه لكم من بين فَرْثٍ ودمٍ {خَالِصًا} . يقولُ: خلَص من مخالطةِ الدمِ والفَرْثِ فلم يختلِطا به، {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}. يقولُ: يَسوعُ لمن شرِبه، فلا يَغُصُّ به كما يَغَصُّ الغاصُّ ببعضِ ما يأكلُه من الأطعمةِ. وقيل: إنه لم يَغَصَّ أحدٌ باللبنِ قَطُّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولكم أيضًا أيها الناسُ عِبرةٌ فيما نُسقيكم من ثمراتِ النخيلِ والأعنابِ، ما
(3)
تتِخذون منه سَكَرًا ورزقًا حسنًا، مع ما نُسقيكم من بطونِ
(1)
في النسخ: "إن هذه". والمثبت صواب استشهاد المصنف.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ف: "مما".
الأنعامِ من
(1)
اللبنِ الخارجِ من بين الفرثِ والدمِ.
وحُذف من قولِه: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} الاسمُ، والمعنى ما وصفتُ، وهو: ومن ثمراتِ النخيلِ والأعنابِ ما تتخذون منه. لدلالةِ "مِنْ" عليه؛ لأن "مِنْ" تدخلُ في الكلام مُبَعِّضةً، فاستُغنى بدَلالتِها ومعرفةِ السامعين، بما تَقتضى
(2)
من ذكْرِ الاسمِ معها.
وكان بعضُ نحويِّى البصرةِ يقولُ
(3)
: معنى الكلامِ: ومن ثمراتِ النخيلِ والأعنابِ شيءٌ تتخذون منه سَكَرًا. ويقولُ: إنما ذُكِّرت الهاءُ في قولِه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} . لأنه أُريد بها الشئُ.
وهو عندنا عائدٌ على المتروكِ، وهو "ما".
وقولُه: {تَتَّخِذُونَ} . من صِفَة "ما" المتروكةِ.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ؛ فقال بعضهم: عنَى بالسَّكَرِ الخمرَ، وبالرزقِ الحسنِ التمرَ والزبيبَ.
وقال: إنما نزلت هذه الآيةُ قبل تحريمِ الخمرِ، ثم حُرَّمت بعدُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبيدٍ المحاربيُّ، قال: ثنا أيوبُ بن جابرٍ الحنفيُّ
(4)
، عن الأسودِ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ قولَه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا
(1)
بعده في ص، ت 2، ف:"بين".
(2)
في ت 2: "مضى".
(3)
بعده في م، ف:"في".
(4)
في م "السحيمى". وهو أيوب بن جابر بن سيار بن طلق الحنفى السحيمى. ينظر تهذيب الكمال 3/ 464.
حَسَنًا}. قال: السَّكَرُ ما حُرَّم من شرابِه، والرزقُ الحسنُ ما أُحِلَّ من ثمرتِه
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ وسعيدُ
(2)
بنُ الربيعِ الرازيُّ، قالا: ثنا ابن عُيينةَ، عن الأسودِ بن قيسٍ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ، قال: الرزقُ الحسنُ ما أُحلّ من ثمرتِها، والسَّكَرُ ما حُرِّم من ثمرتِها.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن الأسودِ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن الأسودِ بن قيسٍ، عن عمرِو بن سفيان، عن ابن عباسٍ بنحوِه
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيمٍ الفضلُ بنُ دُكينٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأسود بن قيسٍ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ بنحوِه.
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الأسودِ بن قيسٍ، قال: سِمعت رجلًا يحدِّثُ عن ابن عباسٍ في هذه الآيةِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} قال: السَّكَرُ ما حُرَّم من ثمرتَيهما، والرزقُ الحسنُ ما أُحلّ من ثمرتيهما.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا الحسنُ بنُ صالحٍ، عن
(1)
ذكره البخارى معلقا 6/ 103 في تفسير سورة النحل، من كتاب التفسير.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"سعد".
(3)
في ت 1: "بنحوه". تفسير الثورى ص 165، ومن طريقه أبو عبيد في ناسخه ص 366، 367، والحاكم 2/ 355، والبيهقى 8/ 297، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى سعيد بن منصور والفريابى وأبى داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357، ومن طريقه أخرجه النحاس في ناسخه ص 452.
الأسودِ بن قيسٍ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ بنحوِه.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو غسانَ، قال: ثنا زهيرُ
(1)
بنُ معاويةَ، قال: ثنا الأسودُ بن قيسٍ، قال: ثني عمرُو بنُ سفيانَ، قال: سمِعت ابنَ عباسٍ يقولُ - وذُكِرتْ عنده هذه الآيةُ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} - قال: السَّكَرُ ما حُرِّم منهما، والرزقُ الحسنُ ما أُحل منهما.
حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا سفيانُ، عن الأسودِ بن قيسٍ، عن عمرِو بن سفيانَ البصريِّ، قال: قال ابن عباسٍ في قولِه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: فأما الرزقُ الحسنُ فما أُحِلَّ من ثمرتِهما
(2)
، وأما السَّكَرُ فما حُرِّم من ثمرتِهما
(2)
.
حدَّثني المثنى، قال: أخبرنا الحمَّانيُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن الأسودِ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: السَّكَرُ حَرامُه، والرزقُ الحسنُ حَلَالُه.
حدَّثني المثنَّى، قال: أخبرنا العباسُ بنُ أبى
(3)
طالبٍ، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسودِ، عن عمرِو بن سفيانَ، عن ابن عباسٍ، قال: السَّكَرُ ما حرُم من ثمرتِهما، والرزقُ الحسنُ ما حلَّ [من ثمرتِهما]
(4)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي حُصينٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: الرزقُ الحسنُ الحلال، والسَّكَرُ
(1)
في ت 2: "عن".
(2)
في ت 2: "ثمرتها".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(4)
في ت 1: "منهما".
الحرامُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حُصينٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: ما حُرِّم من ثمرتَيْهما، وما أُحِلَّ من ثمرتَيْهما.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حصينٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: السَّكَرُ خمرٌ، والرزقُ الحسنُ الحلالُ
(1)
.
حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن مِسْعَرٍ وسفيانَ، عن أبي حُصينٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: الرزقُ الحسنُ الحلالُ، والسَّكَرُ الحرامُ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حُصينٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ بنحوِه
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في هذه الآيةِ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} .
قال: السَّكر الحرامُ، والرزقُ الحسنُ الحلالُ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن أبي رَزِينٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: نزَل هذا وهم يشربَون الحمرَ، فكان هذا قبل أن ينزلَ تحريمُ الخمرِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا شعبةُ، عن
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى (6790، 6792)، والبغوى في الجعديات (2212) عن سعيد مقتصرا على أوله.
(2)
تفسير سفيان ص 165، ومن طريقه أبو عبيد في ناسخه ص 366، والنسائي في الكبرى (6789).
المغيرةِ، عن إبراهيمَ والشعبِّى وأبى رزينٍ، قالوا: هي منسوخةٌ. في هذه الآيةِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ عَرَفةَ، قال: ثنا أبو قَطَنٍ، عن سعيدٍ، عن الُمغيرةِ، عن إبراهيمَ والشعبيِّ وأبي رزينٍ بمثلِه.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبرَنا هشيمٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: هي منسوخةٌ، نسخَهَا تحريُم الخمرِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا هَوْدَةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: ذكَر اللهُ نعمتَه في السَّكَرِ قبل تحريمِ الخمرِ.
حدَّثني المثنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبَرنا هشيمٌ، عن منصورٍ وعوفٍ، عن الحسنِ، قال: السَّكَرُ ما حرَّم اللهُ منه، والرزقُ الحسنُ
(3)
ما أحَلَّ الله منه
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ، عن الحسنِ، قال: الرزقُ الحسنُ الحلالُ، والسَّكَرُ الحرامُ.
(1)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 364 من طريق عبد الرحمن بن مهدى به، وأخرجه البيهقى 8/ 297 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى ابن الأنبارى.
(2)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 360 من طريق هشيم به.
(3)
سقط من: ص، م، ت 2.
(4)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 366 من طريق هشيم عن منصور - وحده - به. وعزاه السيوطي في الدر 4/ 122 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سلَمةَ، عن الضحاكِ، قال: الرزقُ الحسنُ الحلالُ، والسَّكَرُ الحرامُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن أبي كُدينةً يحيى بن المهلَّبِ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: السَّكَرُ الخمرُ، والرزقُ الحسنُ الرُّطَبُ
(1)
والأعنابُ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} . قال: هي الحمرُ قبل أن تُحرَّمَ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثنى المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} . قال: الخمرَ قبلَ تحريِمها، {وَرِزْقًا حَسَنًا}. قال: طعامًا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} : أما السَّكَرُ فخمورُ هذه الأعاجمِ، وأما الرزقُ الحسنُ فما تنتبِذون وما تُخَلِّلون وما تأكُلُون، ونزَلت هذه الآيةُ و [لم تُحرَّمِ]
(3)
الخمرُ يومَئِذٍ، وإنما جاء تحريُمها بعد ذلك في سورةِ "المائدةِ".
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عَبدةُ بن سليمانَ، قال: قرأتُ على ابن أبي
(1)
في ص: "الزبيب".
(2)
تفسير مجاهد ص 423، ومن طريقه البيهقى 8/ 297.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لن يحرم".
عروبةَ
(1)
، قال: هكذا سمِعتُ قتادةَ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . ثم ذكَر نحوَ حديثِ بشرٍ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{سَكَرًا} . قال: هي خمورُ الأعاجم، ونُسخت في سورةِ "المائدة"، والرزقُ الحسنُ؛ قال
(2)
: ما تَنتبِذون وتُخلِّلون وتأكُلُون
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} : وذلك أن الناسَ كانوا يُسمُّون الخمرَ سَكَرًا، وكانوا يشربونها. قال ابن عباسٍ: مرَّ رجالٌ بوادى السكرانِ الذي كانت قريشٌ تجتمعُ
(4)
فيه [إِذا تَلَقَّوْا مسافريهم]
(5)
، إذا جاءوا من الشامِ، وانطلَقوا معهم يُشيِّعونهم حتى يبلُغوا وادىَ السكرانِ ثم يرجِعوا منه - ثم سمّاها الله بعد ذلك الخمرَ حين حرِّمت. وقد كان ابن عباسٍ يزعُمُ أنها الخمرُ، وكان يزعمُ أن الحبشةَ يُسمُّون الخلَّ السَّكَرَ. قولُه:{وَرِزْقًا حَسَنًا} : يعنى بذلك الحلالَ؛ التمرَ والزبيبَ، وما كان حلالًا لا يُسْكِرُ
(6)
.
وقال آخرون: السَّكَر بمنزلةِ الخمرِ في التحريمِ، وليس بخمرٍ. وقالوا: هو نَقيعُ
(7)
التمرِ والزبيبِ إذا اشتدَّ وصار يُسكِرُ شاربَه.
(1)
في ص، ت 2:"عروة"، وفى م:"عذرة"، وفى ت 1، ف:"عريره". والمثبت هو الصواب، وينظر تهذيب الكمال 11/ 5.
(2)
في ت 1: "له".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357 عن معمر به.
(4)
في ص، ت 1، ف:"يجتمعون"، وفى ت 2:"مجمعون".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 للمصنف وابن مردويه مختصرا.
(7)
في ص، ت 1، ف:"نقع"، وفى ت 2:"بقع".
ذكرُ من قال ذلك
حدثَّنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا عمرٌو في قولِه: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال ابن عَباسٍ: كان هذا قبل أن ينزِلَ تحريمُ الحمرِ، والسَّكَرُ حرامٌ مثلُ الخمرِ، وأما الحلالُ منه، فالزبيبُ والتمرُ والخلُّ ونحوُه.
حدَّثني المثنَّى وعليُّ بن داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} : فحرَّم اللهُ بعد ذلك - لا يعنى: بعدَ ما أنزَل في سورةِ "البقرةِ" من ذكْرِ الخمرِ والميسرِ والأنصابِ والأزلامِ - السَّكَرَ مع تحريمِ
(1)
الخمرِ؛ لأنه منه، قال:"وَرِزْقًا حَسَنًا". فهو الحلالُ من الخلِّ والنبيذِ وأشباهِ ذلك، فأقرَّه اللهُ وجعَله حلالًا للمسلمين
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن موسى، قال: سألت مُرَّةَ عن السَّكَرِ فقال: قال عبدُ اللَّهِ: هو خمرٌ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي فروةَ، عن
(4)
عبد الرحمنِ بن أبى ليلى، قال: السَّكرُ خمرٌ
(5)
.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الهيثمِ، عن
(1)
في ص، ف:"التحريم".
(2)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 365، 366، والبيهقى 8/ 297 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى المصنف والفريابى وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(4)
بعده في م: "أبى".
(5)
أخرجه البغوي في الجعديات (2213) من طريق أبى فروة به.
إبراهيم، قال: السَّكَر خمرٌ.
حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا حسنُ بنُ صالحٍ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ وأبى رزينٍ، قالا: الشُّكَرُ خمرٌ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} : يعنى ما أسكَر من العنبِ والتمرِ، {وَرِزْقًا حَسَنًا}: يعنى ثمرتَها.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: الحلالُ ما كان على وجهِ الحلالِ، حتى غيَّروها فجعَلوا منها سَكَرًا.
وقال آخرون: السَّكَرُ هو كلُّ
(2)
ما كان حلالًا شربه؛ كالنبيذِ الحلالِ، والخلِّ، والرُّبِّ
(3)
، والرزقُ الحسنُ التمرُ والزبيبُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني داودُ الواسطيُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: أبو رَوْقٍ ثنى قال: قلتُ للشعبيِّ: أرأيتَ
(4)
قولَه تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} . أهو هذا السُّكَرُ الذي الله تصنعُه النَّبَطُ؟ قال: لا، هذا خمرٌ، إنما السَّكَرُ الذي قال اللهُ تعالى ذِكرُه؛ النبيذُ والخلُّ، والرزقُ الحسنُ التمرُ والزبيبُ.
(1)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 367 من طريق هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي وأبي رزين، وأخرجه النسائي في الكبرى (6791) من طريق شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي.
(2)
بعده في ف: "شيء".
(3)
في م: "الرطب"، وبعده في ص، ت 2، ف:"والخل". والرب: ما يطبخ من التمر. التاج (رب ب).
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
حدَّثني يحيى بنُ داودَ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: وذكَر مجالدٌ، عن عامرٍ نحوَه.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا مَندلٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال: ما كانوا يتخِذون من النخلِ؛ النَّبيذُ، والرزقُ الحسنُ ما كانوا يصنَعون من الزبيبِ والتمرِ.
حدَّثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا مَنْدَلٌ، عن أبي رَوْقٍ، عن الشعبيِّ، قال: قلتُ له: ما تتخِذون منه سَكَرًا؟ قال: كانوا يصنَعون من النبيذِ والخلِّ. قلت: والرزقُ الحسنُ؟ قال: كانوا يصنَعون من التمرِ والزبيبِ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ وأحمدُ بنُ بشيرٍ، عن مجالدٍ، عن الشعبيِّ، قال: السَّكَرُ النبيذُ، والرزقُ الحسنُ التمرُ الذي كان يؤكَلُ.
وعلى هذا التأويلِ، الآية غيرُ منسوخةٍ، بل حكمُها ثابتٌ.
وهذا التأويلُ عندى هو أولى الأقوالِ بتأويلِ هذه الآيةِ، وذلك أن السَّكَرَ في كلامِ العربِ على أحدِ أوجهٍ أربعةٍ؛ أحدها: ما أسكَر من الشرابِ. والثاني: ما طُعِم
(1)
من الطعام. كما قال الشاعرُ
(2)
:
جَعَلْتَ غَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرًا
أي طعمًا.
والثالثُ: السُّكُونُ، من قولِ الشاعرِ
(3)
:
وجَعَلَتْ عينُ الحَرُورِ تَسْكُرُ
(1)
في ت 2: "نهم".
(2)
مجاز القرآن 1/ 363 منسوبا إلى جندل.
(3)
تقدم في ص 29.
وقد بيَّنا ذلك فيما مضَى
(1)
.
والرابعُ: المصدرُ من قولِهم: سكر فلان يسكرُ سُكْرًا وسَكْرًا وسَكَرًا.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان ما يُشْكِرُ من الشرابِ حرامًا، بما قد دلَّلْنا عليه في كتابِنا المسمى:"لطيفُ القول في أحكامِ شرائعِ الإسلامِ"، وكان غيرَ جائزٍ لنا أن نقولَ: هو منسوخٌ؛ إذ كان المنسوخُ هو ما نفَى حكمه الناسخُ، وما لا يجوزُ اجتماعُ الحكمِ به وناسخهِ، ولم يكنْ في حكمِ اللهِ تعالى ذكرُه بتحريمِ الخمرِ دليلٌ على أن السَّكَرَ الذي هو غيرُ الخمر وغيرُ ما يُسكِرُ من الشرابِ - حرامٌ، إذ كان السَّكَرُ أحدُ معانيه عندَ العربِ ومن نزل بلسانِه القرآنُ، هو كلُّ ما طُعم، ولم يكنْ مع ذلك، إذ لم يكنْ في نفسِ التنزيلِ دليلٌ على أنه منسوخٌ، أو
(2)
ورد بأنه منسوخٌ خبرٌ من الرسولِ، ولا أجمعت عليه الأمةُ، فوجَب
(3)
القولُ بما قلنا، من أن معنى السَّكَرِ
(4)
في هذا الموضع هو كلُّ ما حلَّ شربه، مما يُتَّخذُ من ثمرِ النخلِ والكَرْمِ، إذ
(5)
فسد أن يكون معناه الخمرُ أو ما يُسكرُ من الشرابِ، وخرَج من أن يكونَ معناه السَّكَرُ نفسه - إذ كان السَّكَرُ ليس مما يُتخذُ من النَّخْلِ والكَرْمِ
(6)
- ومن أن يكونَ بمعنى السُّكونِ.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . يقولُ: [إن فيما]
(7)
وصفْنا لكم من
(1)
تقدم في ص 29، 30.
(2)
سقط من ص.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ووجب".
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"ولا".
(5)
في م: "و"، وفى ت 1، ت 2، ف:"إذا".
(6)
في ت 1، ت 2، ف:"الكروم".
(7)
في م: "فيما إن".
نَعَمِنا التي أتيناكم أيها الناسُ من الأنعامِ والنخلِ والكرمِ، لدلالةً واضحةً وآيةً بيِّنةً لقومٍ يعقِلون عن اللهِ تعالى حُججَه، ويفهمون عنه مواعظَه، فيتعظون بها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} .
يقول تعالى ذكْرُه: وألهَم ربُّك يا محمدُ النحل إيحاءً إليها؛ {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} ، يعنى: مما يَبْنُون من السقوفِ فرفَعوها بالبناءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا مروانُ، عن إسحاقَ التميميِّ، وهو ابن أبى الصباحِ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} . قال: ألهَمها إلهامًا
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، قال: بلَغنى في قولِه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} . قال: قذَف في أنفسِها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن أصحابِه قولَه:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} . قال: قذف في أَنفُسِها، {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية. قال: أمَرها أن تأكلَ من الثمراتِ، وأمَرها أن تتبعَ سبلَ ربِّها ذُلُلًا
(1)
.
وقد بيَّنا معنى الإيحاءِ، واختلافِ المختلفين فيه، فيما مضَى بشواهدِه، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ، وكذلك معنى قولِه:{يَعْرِشُونَ}
(2)
.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في معنى {يَعْرِشُونَ} . ما حدَّثني به
(3)
يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَعْرِشُونَ} . قال: الكَرْمُ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {ثُمَّ كُلِي} أيتُها النحلُ {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} . يقولُ: فاسلُكى طُرُقَ رَبِّك {ذُلُلًا} . يقولُ: مُذَلَّلةً لكِ. والذُّلُلُ: جمعُ ذَلُولٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر ما تقدم في 4/ 585، 5/ 401 وما بعدها.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت، ف.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 29.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنَّى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، عن ورقاءَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} . قال: لا يَتوعَّرُ عليها مكانٌ سَلكَتْه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ:{فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} . قال: طُرُقًا ذُلُلًا. قال: لا يتوعَّرُ عليها مكانٌ سلكتْه.
وعلى هذا التأويلِ الذي تأوَّله مجاهدٌ، "الذُّلُلُ" من نعتِ "السُّبل".
فالتأويلُ على قولِه: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} : الذُّلُلَ لكِ، لا يتوعَّرُ عليكِ سبيلٌ سلَكتِه. ثم أُسقِطت الألفُ واللامُ، فنُصِب
(2)
على الحالِ.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} . أي: مطيعةً.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{ذُلُلًا} . قال: مطيعةً
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} . قال: الذُّلولُ الذي يُقادُ ويُذهَبُ به حيث أراد صاحبُه. قال: فهم يَخرُجون بالنحلِ يَنتجِعون بها ويذهبون، وهى تَتبعُهم. وقرأ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
(1)
تفسير مجاهد ص 423، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"نصبت".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 357 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى ابن المنذر.
خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُم}
(1)
الآية [يس:71، 72].
فعلى هذا القولِ، الذُّلُل من نعتِ "النحل". وكلا القولين غيرُ بعيدٍ من الصوابِ في الصحةِ وجهان مُخرَّجان، غيرَ أنّا اخترنا أن يكونَ نعتًا
(2)
لـ "السُّبُل"؛ لأنها إليها أقربُ.
وقولُه: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يخرُجُ من بطونِ النحلِ شرابٌ، وهو العسلُ، مختلفٌ ألوانه؛ لأن فيه أبيضَ وأحمرَ وأسحرَ
(3)
، وغير ذلك من الألوانِ.
قال أبو جعفرٍ: أسحرُ: ألوانٌ مختلفةٌ، مثل: أبيضُ يَضرِبُ إلى الحمرةِ.
وقولُه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} . اختلَف أهلُ التأويلِ فيما عادت عليه الهاءُ التي في قولِه: {فِيهِ} ؛ فقال بعضهم: عادت على القرآنِ، وهو المرادُ بها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عبدِ الرحمن، قال: ثنا المحاربيُّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} . قال: في القرآنِ شفاءٌ
(4)
.
وقال آخرون: بل أُريد بها العسلُ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 2:"نعتها".
(3)
في ت 1: أشجر".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 486 عن المحاربي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى ابن أبي حاتم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} : ففيه شفاءٌ - كما قال اللهُ تعالى - من الأدواءِ، وقد كان يُنَهى عن تغْريقِ
(1)
النحلِ وعن قتلِها.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكَر أن أخاه اشتكَى بطنه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبْ فَاسْقِ أَخَاكَ عَسَلًا". ثم جاءه فقال: ما زاده إلا شدةً. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبْ فَاسْقِ أَخَاكَ عَسَلًا، فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ". فسقاه، فكأنّما نَشِط من عقالٍ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} . قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فذكر نحوَه
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللهِ، قال: شفاءان؛ العسلُ شفاءٌ من كلِّ داءٍ، والقرآنُ شفاءٌ لما في الصدورِ
(4)
.
(1)
في م: "تفريق"
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 85، وعبد بن حميد (938)، وأحمد (11146)، والبخارى (5684، 5716)، ومسلم (2217/ 91)، والترمذى (2082)، والنسائى في الكبرى (6705، 7560، 7561)، وأبو يعلى (1261) من طرق عن قتادةَ، عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدرى. وأخرجه أحمد (11147)، والنسائى في الكبرى (6706) من طريق قتادة، عن أبي الصديق، عن أبي سعيد.
(3)
جامع معمر (20173)، وعنه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 357، 358 وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 10/ 485 عن وكيع به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 122 إلى المصنف.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} : يعنى العسلَ.
وهذا القولُ - أعنى قول قتادة - أولى بتأويل الآيِة؛ لأن قولَه: {فِيهِ} . في سياقِ الخبرِ عن العسلِ، فأن تكونَ الهاءُ من ذكرِ العسلِ، إذ كانت في سياقِ الخبرِ عنه، أولى من غيرِه.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن في إخراجِ اللهِ من بطونِ هذه النحلِ الشرابَ المختلفَ، الذي هو شفاءٌ للناسِ لدلالةً وحجةً واضحةً على مَن سخَّر النحلَ، وهداها لأكلِ الثمراتِ التي تأكُلُ، واتخاذِها البيوتَ التي تُنْحتُ من الجبالِ والشجرِ والعروشِ، وأخرَج من بطونِها ما أخرَج من الشفاءِ للناسِ، أنه الواحدُ الذي ليس كمثلِه شيءٌ، وأنه لا ينبغي أن يكونَ له شريكٌ، ولا تَصِحُّ الألوهةُ إِلَّا له.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واللهُ خلَقكم أيها الناسُ وأوجَدكم ولم تكونوا شيئًا، لا الآلهةُ التي تعبُدون من دونه، فاعبدوا الذي خلَقكم دونَ غيره، {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}. يقولُ: ثم يقبضُكم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}. يقولُ: ومنكم مَن يَهْرَمُ، فيصيرُ إلى أرذل العمرِ. وهو أردوه، يقالُ منه: رَذُل الرجلُ وفَسُل، يرذُلُ رَذَالةً ورُذُولةً
(1)
، ورَذَلْتُه أنا. وقيل: إنه يصيرُ كذلك في خمسٍ وسبعين سنةً.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"رذولا".
حدَّثني محمدُ بنُ إسماعيلَ الضِّراريُّ
(1)
، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ سَوَّارٍ، قال: ثنا أسدُ بنُ عمرانَ
(2)
، عن سعد بن طريف، عن الأصبغِ بن
(3)
نُباتةَ، عن عليٍّ في قولِه:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} . قال: خمسٌ وسبعون سنةً
(4)
.
وقولُه {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} يقولُ: إنما نردُّه إلى أرذلِ العمرِ ليعودَ جاهلًا
(5)
كما كان في حالِ طفولتِه وصباه، {بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}. يقولُ: لئلا يَعلَم شيئًا بعدَ علمٍ كان يعلَمُه في شبابِه، فذهَب ذلك بالكبرِ ونَسِي، فلا يَعلَمُ منه شيئًا، وانسلَخ مِن عقلِه، فصار من بعدِ عقلٍ كان له، لا يعقِلُ شيئًا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. يقولُ: إن الله الذي
(6)
لا ينسى، ولا يتغيرُ علمُه، عليم بكلِّ ما كان ويكونَ، قديرٌ على ما شاء، لا يجهَلُ شيئًا، ولا يُعجزه شيءٌ أراده.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واللهُ أيها الناسُ فضَّل بعضَكم على بعضٍ في الرزقِ الذي رزَقكم في الدنيا، فما الذين فضَّلهم اللهُ على غيرِهم بما رزَقهم {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى
(1)
في النسخ: "الفزارى"، والمثبت هو الصواب، وينظر تهذيب الكمال 24/ 482.
(2)
في ص، ت 1، ت 2: حمران". وسيأتي هذا الإسناد نفسه وتفسير الآية 36 من سورة فاطر"، وفيه: أسد بن حميد.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عن". وينظر تهذيب الكمال 3/ 308.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 123 إلى المصنف.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"جاهله".
(6)
سقط من: م.
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}. يقولُ: بمشركى مماليكهم فيما رزقهم من المالِ
(1)
.
والأزواج، {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}. يقولُ: حتى يستووا
(2)
هم في ذلك وعبيدُهم. يقولُ تعالى ذكرُه: فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكُهم فيما رزَقتُهم سواءً، وقد جعَلوا عبيدى شركائى في مُلكى وسلطاني.
وهذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ تعالى ذكرُه للمشركين باللهِ. وقيل: إنما عنَى بذلك الذين قالوا: إن المسيحَ ابن اللهِ. من النصارى.
وقولُه: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أفبنِعْمةِ اللهِ التي أنعَمها على هؤلاء المشركين من الرزقِ الذي رزَقهم في الدنيا، يَجْحَدون بإشراكِهم غيرَ اللَّهِ مِن خلقِه في سلطانِه ومُلْكِه؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . يقولُ: لم يكونوا يُشْرِكون عبيدَهم في أموالِهم ونسائهم، فكيف يُشرِكون عبيدى معى في سلطاني؟ فذلك قوله:{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
(3)
.
(1)
في م: "الأموال".
(2)
في ص، ف:"تسووا"، وفي ت 1:"يسووهم".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 505 عن العوفي، عن ابن عباسٍ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى ابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: هذه الآيةِ في شأنِ عيسى ابن مريمَ. يعنى بذلك نفسَه، إنما عيسى عبدٌ، فيقولُ الله: والله ما تُشركون عبيدَكم
(1)
في الذي لكم، فتكونوا أنتم وهم سواءً، فكيف تَرضَون لى ما
(2)
لا تَرضَون لأنفسكم؟
(3)
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ
(4)
، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . قال: مثَلُ آلهةِ الباطلِ مع اللهِ تعالى ذكرُه
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُون} : وهذا مثلٌ ضرَبه اللهُ، فهل مِنكم من أحدٍ شارَك مملوكه في زوجتِه وفى فراشِه، فتَعدِلون
(6)
باللَّهِ خَلْقَه وعباده؟ فإن لم ترضَ لنفسِك هذا، فاللَّهُ أحقُّ أن يُنزَّهَ منه من نفسك، ولا تَعدِلَ
(6)
باللَّهِ أحدًا مِن عبادِه وخلقِه
(7)
.
(1)
في ت 1: "عبدكم"، وفي ت 2:"عندكم".
(2)
في م: "بما".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 505 مختصرا.
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف: عن ابن أبي نجيح عن مجاهد".
(5)
تفسير مجاهد ص 423، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في ت 1: "يعدل".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . قال: هذا الذي فُضِّل [في المالِ]
(1)
والولدِ، لا يُشْرِكُ عبدَه في مالِه وزوجتِه، يقولُ: قد رضيتُ بذلك للهِ. ولم ترضَ
(2)
به لنفسِك، فجعَلْتَ اللَّهِ شريكًا في مُلْكِه وخلقِه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}
يقولُ تعالى ذكرُه: واللهُ الذي جعَل لكم أيها الناسُ من أنفسِكم أزواجا. يعنى أنه خلَق مِن آدمَ زوجتَه
(4)
حواءَ، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} .
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} . أي: واللهُ خلق آدمَ، ثم خلَق زوجته منه، ثم جعَل لكم بنينَ وحفَدةً
(5)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ
(6)
بالحفَدَةِ؛ فقال بعضُهم: هم الأَحْتانُ، أَحْتانُ الرجلِ على بناتِه.
(1)
في ت 1: "بالمال".
(2)
في ف: "ترضه".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 358 عن معمر به.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وزوجته".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في م: "المعينين".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا أبو معاويةَ
(1)
، قال: ثنا أبانُ بنُ تَغلِبَ، عن المنهالِ بن عمرٍو، عن ابن حُبيشٍ، عن عبدِ اللَّهِ:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: الأَختانُ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ
(3)
، عن عاصمٍ، عن [زِرٍّ، قال]
(4)
: سألتُ عبد الله: ما تقولُ في الحفَدَةِ؟ هم حَشَمُ الرجلِ يا أبا عبد الرحمنِ؟ قال: لا، ولكنهم الأَختانُ
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشار، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، وحدثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قالا جميعًا: ثنا سفيان، عن عاصمِ بن بَهْدَلَةَ، عن زِرِّ بن حُبَيشٍ، عن عبدِ اللهِ، قال: الحَفَدةُ الأَخْتانُ
(6)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ بإسنادِه، عن عبدِ اللَّهِ مثلَه.
حدَّثنا ابن بشارٍ وأحمدُ بنُ الوليدِ القرشُّي وابنُ وكيعٍ وسَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ العنبريُّ ومحمدُ بنُ خالدِ
(7)
بن خِداشٍ
(8)
والحسنُ بن خلفٍ الواسطيُّ، قالوا: ثنا يحيى بنُ
(1)
في ص، ت 1 ت 2 ف:"معمر". وينظر تهذيب الكمال 25/ 123.
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 355، والطبراني (9088) من طريق أبى معاوية به، وأخرجه البخاري في التاريخ 6/ 154 من طريق مسروق عن عبد الله، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
في ت 2: "وكيع". وينظر تهذيب الكمال 33/ 129.
(4)
في النسخ: "ورقاء". والمثبت موافق لما في مصدر التخريج، وسيأتي على الصواب في الصفحة التالية.
(5)
أخرجه الطبراني (9090) من طريق أبي بكر بن عياش به
(6)
أخرجه الفريابي - كما في الدر المنثور 4/ 124 - ومن طريقه الطبراني (9093) عن سفيان به، وأخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 3/ 374 عن عبد الرحمن بن مهدي به.
(7)
في النسخ: "خلف". وتقدم في 2/ 54، 3/ 178، 5/ 236.
(8)
في ص، م، ت 2:"خراش"، وفى ت 1 ف:"حراش".
سعيدٍ القطانُ
(1)
، عن الأعمشِ، عن أبي الضحى، قال: الحفَدةُ الأَختانُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا هشيمٌ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال: الحَفَدَةُ الأَخْتانُ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن حُبيرٍ:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: الحَفَدَةُ الأَخْتانُ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: الحَفَدَةُ الخَتَنُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: الأَختانُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حفصٌ، عن أشعثَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: الأَختانُ
(2)
.
وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولِه:{وَحَفَدَةً} . قال: الأصهارُ
(3)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حمادٌ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن ابن
(4)
مسعودٍ، قال: الحفَدةُ الأَختانُ
(5)
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"العطار".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506 عن عكرمة، عن ابن عباس.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506 عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أبي".
(5)
أخرجه الطبراني (9092) من طريق حماد به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عيينةَ، عن عاصمٍ بن أبى النَّجُودِ، عن زِرِّ بن حُبيشٍ، قال: قال لى عبدُ اللهِ بن مسعودٍ: ما الحفَدةُ يا زِرُّ؟ قال: قلتُ: هم حُفّادُ
(1)
الرجلِ، من ولدِه وولدِ ولدِه. قال: لا، هم الأصهارُ
(2)
.
وقال آخرون: هم أعوانُ الرجل وخَدَمُه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمد بن خالد بن خِدَاشٍ، قال: ثنى سَلْم بن قتيبة، عن وهبِ بن حبيبٍ الأَسَديِّ، عن أبي حمزةَ، عن ابن عباسٍ، سُئل عن قولِه:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: من أعانك فقد حَفَدك، أما سمِعتَ قول الشاعرِ:
حَفَدَ الوَلائِدُ [حَوْلَهُنَّ وَأُسْلِمَتْ]
(3)
…
بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الأَجْمَالِ
(4)
حدَّثنا هَنَّادٌ
(5)
، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: الحَفَدةَ الخُدّامُ
(6)
.
(1)
في م: "أحفاد".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 358، وأخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 4/ 124 - ومن طريقه الطبراني (9091) عن ابن عيينة به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف "حولها واستسلمت".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف، وينظر مسائل نافع بن الأزرق ص 39، والطبراني (10597) وفيهما أن البيت لأمية بن أبى الصلت، ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 364 إلى جميل، ونسبه أبو عبيد في غريب الحديث 3/ 374 إلى الأخطل، ونسبه ابن دريد في الجمهرة 2/ 123 إلى الفرزدق، ونسبه القرطبي في تفسيره 10/ 144 إلى كُثير، وليس في ديوان أيٍّ منهم، والأصح أنه لأمية ففي الطبراني: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مختار".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ خالدِ بن خِداشٍ، قال: ثنى سَلْمُ بنُ قُتيبةَ، عن حازمِ بن إبراهيمّ البَجَليِّ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، قال: قال: الحَفَدَةُ الخُدّام.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عمرانُ بنُ عيينةَ، عن حُصينٍ، عن عكرمةَ، قال: الذين يُعينون الرجلَ من ولدِه وخدَمِه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحكمِ بن أبانٍ، عن عكرمةَ:{وَحَفَدَةً} . قال: الحَفدةُ من خدَمك من ولدِك.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن سلَّامِ بن سليمٍ وقيسٍ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ، قال: هم الخدمُ.
حدَّثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سلَّامٌ أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ مثله.
حدَّثني محمدُ بنُ خالدٍ، قال: ثنى سَلْمٌ
(1)
، عن أبي هلالٍ، عن الحسنِ في قولِه:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: البنينَ وبنى
(2)
البنين؛ مَن أعانك من أهلٍ أو
(3)
خادمٍ فقد حفَدك
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبَرنا هشيمٌ، عن منصورٍ، عن الحسنِ، قال: هم الخَدَمُ.
حدَّثني محمدُ بنُ خالدٍ وابنُ وكيعٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالوا: ثنا إسماعيلُ بن عُلَيةَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الحَفَدَةُ الخَدَمُ.
(1)
في النسخ: "سلمة".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بنو".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ف:"و".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف.
حدَّثنا أحمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو أحمدَ، وحدثنا ابن وكيعٍ، قال: قال: ثنا أبي، وحدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، جميعا عن سفيانَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: ابنُه وخادمُه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ: قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: أنصارًا وأعوانًا وخدمًا
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا زَمْعةُ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، قال: الحفدةُ الخَدَمُ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ مرةً أُخرى، قال: ابنُه و
(4)
خادمه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} : مَهَنَةً يَمهَنونك ويخدُمونك من ولدِك، كرامةً أكرَمكم اللهُ بها.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عُبيدُ
(5)
اللهِ، عن إسرائيل، عن السُّديِّ، عن أبي مالكٍ: الحفَدةُ، قال: الأعوانُ
(6)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506.
(2)
في م: "خداما". والأثر في تفسير مجاهد ص 423.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(5)
في م: "عبد".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن حُصينٍ، عن عكرمةَ، قال: الذين يُعينونه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الحكَمِ بن أبانٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: الحفدةُ من خدَمك من ولدِك وولدِ ولدِك
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن التيميِّ، عن أبيه، عن الحسنِ، قال: الحَفَدَةُ الخَدَمُ
(1)
.
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو نعيمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُصينٍ، عن عكرمةَ:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: ولدُه الذين يُعِينونه.
وقال آخرون: هم ولدُ الرجلِ وولدُ ولدِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَحَفَدَةً} . قال: هم الولدُ وولدُ الولدِ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن مجاهدٍ وسعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في هذه الآيةِ:{بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: الحَفدَةُ البنون
(3)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 358.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 505 عن شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 31 عن مجاهد وسعيد بن جبير بلفظ: ولد الولد.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ، عن شعبةَ، عن أبي بشرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ مثله.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: بنوك حين يَحفِدونك ويَرفِدونك ويُعِينونك ويَخدُمونك، قال جميلٌ
(1)
:
حفَد الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأُسْلِمَتْ
…
بِأَكُفِّهِنَّ أُزِمَّةُ الأَجْمَالِ
(2)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال: الحفَدةُ
(3)
الخدمُ من ولدِ الرجلِ، هم ولدُه، وهم يخدُمونه، قال: وليس يَكونُ العبيدُ من الأزواجِ، كيف يكونُ من زوجِى عبدٌ؟ إنما الحفدةُ ولدِ الرجلِ وخَدَمُه.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفَرَجِ، قال: سِمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} : يعنى ولدَ الرجلِ يحفِدونه ويخدُمُونه، وكانت العربُ إنما تخدُمُهم أولادُهم الذكورُ
(4)
.
وقال آخرون: هم بنو امرأةِ الرجلِ من غيرِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} . يقولُ:
(1)
في م: "حميد".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506 عن الحسين بن داود - سنيد - به. وينظر ما تقدم في ص 298.
(3)
في ص: "الحَفَد".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506.
بنو امرأةِ الرجل ليسوا منه وقال
(1)
: الحفدَةُ الرجلُ
(2)
يعمَلُ بينَ يديِ الرجلِ، يقولُ
(3)
: فلانٌ يحفِدُ لنا. ويزعُمُ رجالٌ أن الحفَدةَ أَخْتانُ الرجلِ
(4)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أخبَر عبادَه مُعرَّفَهم نِعمَه عليهم فيما جعَل لهم من الأزواجِ والبنين، فقال تعالى ذكرُه:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} ، فأعلَمهم أنه جعَل لهم من أزواجِهم بنيَن وحفدةً، والحفَدةُ في كلامِ العربِ جمعُ حافدٍ، كما الكَذَبَةُ جمعُ كاذبٍ، والفَسَقةُ جمعُ فاسقٍ. والحافدُ في كلامِهم
(5)
هو المتخفِّفُ في الخدمةِ والعملِ. والحَفْدُ خفةُ الرجلِ
(6)
العملَ. يقالُ: مرَّ البعيرُ يَحفِدُ حَفَدَانًا. إذا مرَّ يُسرِعُ في سَيْرِه، ومنه قولُهم: إليك نسعى ونحفِدُ
(7)
. أي: نُسرِعُ إلى العملِ بطاعتِك. يقالُ منه: حَفَد له يَحفِدُ حَفْدًا وحُفودًا وحَفَدَانًا. ومنه قول الراعى
(8)
:
كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً
…
إذا الحُدَاةُ على أَكْسَائِها
(9)
حَفَدُوا
وإذ كان معني الحفَدةِ ما ذكرنا، من أنهم المسرِعون في خدمةِ الرجلِ،
(1)
في م: "يقال".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"للرجل".
(3)
في تفسير ابن كثير: يقال".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 506 عن العوفي، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 124 إلى المصنف وابن أبي حاتم مقتصرا على قوله: بنو امرأة الرجل ليسوا منه.
(5)
في ت 1: "كلام العرب".
(6)
سقط من: م.
(7)
ينظر ما أخرجه عبد الرزاق (4968، 4969، 4970، 4978، 4982، 4989، 4997)، وابن أبي شيبة، 2/ 301، وابن سعد 6/ 241، وأبو داود في المراسيل (88)، وابن خزيمة 2/ 155، والطحاوى في شرح معاني الآثار 1/ 249، والبيهقى 2/ 211.
(8)
ديوانه ص 84.
(9)
في ص: "أكسابها". والأكساء جمع كُسْى، وهو مؤخر العجز. وقيل: مؤخر كل شيء. اللسان (ك س ى).
المتخفِّفون فيها، وكان اللهُ تعالى ذكرُه أخبَرنا أن مما أنعَم به علينا أن جعَل لنا حَفَدَةً تحفِدُ لنا، وكان أولادنا وأزواجُنا الذين يَصلُحون للخدمةِ منا ومن غيرِنا، وأختانُنا الذين هم أزواجُ بناتِنا من أزواجِنا، وخَدَمُنا من مَماليكِنا، إذا كانوا يُحفِدوننا، فيَستحِقُّون اسم حَفَدَةٍ، ولم يكنِ اللهُ تعالى ذكرُه دلَّ بظاهرِ تنزيلِه، ولا على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا بحُجِة عقلٍ، على أنه عنَى بذلك نوعًا من الحفَدةِ
(1)
دونَ نوعٍ منهم، وكان قد أنعم بكلِّ ذلك علينا، لم يكنْ لنا أن نوجِّهَ ذلك إلى خاصٍّ من الحفَدةِ دون عامٍّ، إلا ما أجمَعتِ
(2)
الأمةُ عليه أنه غيرُ داخلٍ فيهم.
وإذا كان ذلك كذلك، فلكلِّ الأقوالِ التي ذكرْنا عمَّن ذكرْنا وجهٌ في الصحةِ، ومخرجٌ [في التأويلِ]
(3)
. وإن كان
(4)
أولى بالصوابِ من القولِ ما اخترنا؛ لما بيَّنا من الدليلِ.
وقولُه: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} . يقولُ: ورزَقكم من حلالِ المعاشِ والأرزاقِ والأقواتِ. {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: يُحرِّم عليهم أولياءُ الشيطانِ، من البحائرِ والسوائبِ والوصائلِ، فيُصَدِّقُ
(5)
هؤلاء المشركون باللهِ، {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. يقولُ: وبما أحلَّ اللهُ لهم من ذلك، وأنعَم عليهم بإحلالِه {يَكْفُرُونَ}. يقولُ: يُنكرون تحليلَه، ويَجحَدون أن يكونَ اللهُ أحلَّه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
(1)
في ص: "الخدم".
(2)
في م، ص، ت 2، ف:"اجتمعت".
(3)
في ف: "بالتأويل".
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"هو".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يصدق".
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: ويعبُدُ هؤلاء المشركون باللهِ من دونه أوثانًا لا تملكُ لهم رزقًا من السماواتِ؛ لأنها لا تَقدِرُ على إنزالِ قَطْرٍ منها لإحياءِ مَوَتَانِ الأَرَضِينَ، {وَالْأَرْضِ}. يقولُ: ولا تملكُ لهم أيضًا رزقًا من الأرضِ؛ لأنها لا تَقْدِرُ على إخراجِ شيءٍ من نباتِها وثمارِها لهم، ولا شيئًا مما عدَّد تعالى ذكرُه في هذه الآيةِ أنه أنعَم بها عليهم، {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. يقولُ: ولا تملكُ أوثانهم شيئًا من السماواتِ والأرضِ، بل هي وجميعُ ما في السماواتِ والأَرضِ اللَّهِ مِلْكُ، {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. يقولُ: ولا تقدرُ على شيءٍ.
وقولُه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . يقولُ: فلا تُمثِّلوا للَّهِ الأمثالَ، ولا تُشَبِّهوا له الأشباهَ، فإنه لا مِثْلَ له ولا شِبْهَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: الأمثالُ الأشباهُ
(1)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} : يعنى اتخاذَهم الأصنامَ، يقولُ: لا تجعَلوا معى إلهًا غيرِى، فإنه لا إلهَ غيرِى
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ
(1)
تقدم تخريجه في 13/ 717.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. قال: هذه الأوثانُ التي تُعبَدُ من دونِ اللهِ، لا تملكُ لمن يعبدُها رزقًا، ولا ضرًّا ولا نفعًا، ولا حياةً ولا نشورًا. وقولَه:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . فإنه أَحَدٌ صَمَدٌ، لم يَلِدْ، ولم يُولَدْ، ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ، {إِنَّ
(1)
اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
.
[وقولُه: {[إِنَّ اللَّهَ]
(3)
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}]
(4)
. يقولُ: واللَّهُ أيها الناسُ يعلمُ خطأَ ما تمثِّلون وتضرِبون من الأمثالِ، وصوابَه، وغيرَ ذلك من سائرِ الأشياءِ، وأنتم لا تعلَمون صوابَ ذلك من خطئِه.
واختلَف أهلُ العربيةِ في الناصِبِ قولَه: {شَيْئًا} ؛ فقال بعضُ البصريين: هو منصوبٌ على البدلِ من "الرزقِ"، وهو في معنى: لا يملِكون رزقًا قليلًا ولا كثيرًا.
وقال بعضُ الكوفيين
(5)
: نصَب {شَيْئًا} بوقوعِ "الرزق" عليه، كما قال تعالى ذكرُه:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26]. أي: تَكْفِتُ
(6)
الأحياءَ والأمواتَ. ومثلُه قولُه تعالى ذكرُه: {أَوْ إِطْعَامٌ
(7)
فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14 - 16]. قال: ولو كان الرزقُ مع الشيءِ لجاز خفضُه: لا يملكُ لهم
(8)
رزقَ شيءٍ من السماواتِ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"و".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1، ت:2 "والله". والمثبت صواب التلاوة.
(4)
سقط من: م، ف.
(5)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 110.
(6)
كفت: ضم وقبض. اللسان (ك ف ت).
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"أطعم". وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، والقراءة الأخرى قراءة ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 686.
(8)
في م: "لكم".
ومثلُه: (فجزاءُ مثل
(1)
ما قتل من النَّعَمِ) [المائدة: 95].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وشَبَّه لكم
(2)
شبهًا أيُّها الناسُ؛ للكافرِ من عبيدِه، والمؤمنِ به منهم. فأمّا مثَلُ الكافِرِ، فإنه لا يَعمَلُ بطاعةِ اللهِ، ولا يأتى خيرًا، ولا يُنفِقُ في شيءٍ من سبيلِ اللَّهِ ماله، لغلبةِ خِذلانِ اللَّهِ عليه، كالعبدِ المملوكِ الذي لا يقدِرُ على شيءٍ فيُنفقه. وأما المؤمنُ باللَّهِ، فإنه يعملُ بطاعتِه
(3)
، وينفقُ في سبيلِه ماله، كالحرِّ الذي آتاه الله مالًا، {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}. يقولُ: بِعِلْمٍ من الناسِ وغيرِ علمٍ، {هَلْ يَسْتَوُونَ}. يقولُ: هل يستوى العبدُ الذي لا يملكُ شيئًا ولا يقدرُ عليه، وهذا الحرُّ الذي قد رزَقه الله رزقًا حسنًا، فهو يُنفقُ كما وصف؟ فكذلك لا يستوى الكافرُ العاملُ بمعاصى اللَّهِ، المخالفُ أمرَه، والمؤمنُ العاملُ بطاعتِه
وبنحوِ ما
(4)
قلنا في ذلك [كان بعضُ أهلِ العلمِ يقولُ]
(5)
.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
(1)
كذا بإضافة: "الجزاء" إلى "المثل"، وهى قراءة كما تقدم في 8/ 681.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الله لهم".
(3)
في م: "بطاعة الله.
(4)
في ف: "الذي".
(5)
في ت 1: "قال أهل العلم"، وفى ت 2:"قال أهل التأويل، وفى ف: "كان بعض أهل التأويل يقول".
عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}: هذا مثلٌ ضربه اللهُ للكافِرِ، رزَقه اللهُ
(1)
مالًا، فلم يقدِّم فيه خيرًا، ولم يعملْ فيه بطاعةِ اللهِ، قال اللهُ تعالى ذكْرُه:{وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} . فهذا المؤمنُ، أعطاه اللهُ، مالًا، فعمِل
(2)
فيه بطاعةِ اللهِ، وأَخَذ بالشكرِ، ومعرفةِ حقِّ
(3)
اللهِ، فأثابه اللهُ على ما رزَقه الرزقَ المقيمَ الدائمَ لأهلِه في
(4)
الجنةِ، قال الله تعالى ذكرُه:{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود: 24]؟ واللهِ ما يستويان، {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
(5)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} . قال: هو الكافرُ
(6)
لا يعملُ بطاعةِ اللهِ، ولا يُنفقُ خيرًا، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}. قال: المؤمنُ يطيعُ الله في نفسِه وماِله
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} : يعنى الكافرَ، أنه لا يستطيعُ أن يُنفقَ نفقةً في سبيلِ اللَّهِ، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}: يعنى المؤمنَ، وهذا المثلُ في النفقةِ
(8)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"يعمل".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
في ص، ت 2:"وفي".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(6)
في ص، ت 1:"للكافر".
(7)
تفسير عبد الرزاق 1/ 359 عن معمر به.
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وقولُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . يقولُ: الحمدُ الكاملُ للهِ خالصًا، دون ما تَدْعُون أيها القومُ من دونِه من الأوثانِ، فإياه فاحْمَدُوا دونها.
وقولُه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ: ما الأمرُ كما تفعلون، ولا القولُ كما تقولون، ما للأوثانِ عندهم من يد ولا معروفٍ فتُحمَدَ عليه، إنما الحمدُ للهِ، ولكنَّ أكثرَ هؤلاء الكفرة الذين يعبدونها، لا يعلَمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلِهم بما يأتون ويَذَرون، يجعَلونها للهِ شركاءَ في العبادةِ والحمدِ.
وكان مجاهدٌ يقولُ: ضرب اللهُ هذا المثلَ، والمثلَ الآخرَ الذي
(1)
بعدَه لنفسِه وللآلهةِ التي تُعبدُ من دونِه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} .
وهذا مثلٌ ضرَبه اللهُ تعالى ذكرُه لنفسِه وللآلهةِ التي تُعبدُ من دونِه، فقال تعالى ذكرُه:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} . يعنى بذلك الصنمَ، أنه لا يسمعُ شيئًا، ولا ينطق، لأنه إما خشبٌ منحوتٌ، وإما نُحاسٌ مصنوعٌ، لا يقدرُ على نفعٍ لمن خدَمه، ولا دفع ضُرٍّ عنه، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}. يقولُ: وهو عِيالٌ على ابن عمِّه وحُلفائِه وأهلِ ولايتِه، فكذلك الصنمُ كُلٌّ على من يعبدُه، يحتاجُ أن يحملَه، ويضعهَ، ويخدُمه، كالأبكمِ من الناسِ الذي لا يقدرُ على شيءٍ، فهو كُلٌّ على أوليائه من بنى أعمامِه
(1)
سقط من: م.
(2)
سيأتي تخريجه في ص 311.
وغيرِهم، {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}. يقولُ: حيثما يوجِّهُه لا يأتِ بخير؛ لأنه لا يفهمُ ما يُقال له، ولا يقدرُ أن يُعبِّرُ عن نفسِه ما يريدُ، فهو لا يَفهمُ، ولا يُفْهَمُ عنه، فكذلك الصنمُ، لا يعقِلُ ما يقالُ له، فيأتمرَ لأمرِ مَن أمرَه، ولا ينطِقُ فيأمرَ
(1)
وينهي.
يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} . يعنى: هل يستوى هذا الأبكمُ الكَلُّ على مولاه، الذي لا يأتي بخيرٍ حيث تَوجَّه، ومن هو ناطقٌ متكلمٌ، يأمرُ بالحقِّ ويدعو إليه، وهو اللهُ الواحدُ القهارُ، الذي يدعو عبادَه إلى توحيدِه وطاعته؟ يقولُ: لا يستوى هو تعالى ذكرُه والصنمُ الذي صفتُه ما وصَف.
وقولُه: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . يقولُ: وهو مع أمرِه بالعدلِ، على طريقٍ من الحقِّ في دعائه إلى العدلِ وأمرِه به مستقيمٍ، لا يَعْوَجُّ
(2)
عن الحقِّ ولا يزولُ عنه.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في المضروبِ له هذا المثلُ؛ فقال بعضُهم في ذلك بنحوِ الذي قلنا فيه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} . قال: هو الوثَنُ، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}. قال: اللهُ يأمرُ بالعدلِ {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(3)
.
(1)
في ف: "فيما يأمر".
(2)
في ف: "يعرج".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 359 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى ابن المنذر.
وكذلك كان مجاهدٌ يقولُ، إلا أنه كان يقولُ: المثلُ الأوّلُ أيضًا ضرَبه اللهُ لنفسه وللوثَنِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ. قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} ، و {رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} ، و {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قال: كلُّ هذا مَثَلُ إله الحقِّ، وما يُدعَى من دونِه من الباطلِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} . قال: إنما هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ.
وقال آخرون: بل كلا المَثَلين للمؤمنِ والكافرِ. وذلك قولٌ يُروى عن ابن عباسٍ، وقد ذكرْنا الروايةَ عنه في المثلِ الأوّلِ في موضعِه.
وأما في المثلِ الآخرِ، فحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} إلى آخرِ الآيةِ: يعني بالأبكمِ الذي هو كَلٌّ على مولاه: الكافرَ، وبقولِه: {وَمَنْ يَأْمُرُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
بِالْعَدْلِ}: المؤمن. وهذا المثلُ في الأعمالِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ الصَبّاحِ البزارُ، قال: ثنا يحيى بنُ إسحاقَ السَّيْلَحِينى، قال: ثنا حمادٌ، عن عبدِ اللَّهِ بن عثمانَ بن خُثَيْمٍ
(2)
، عن إبراهيمَ بن
(3)
عكرمةَ بن
(4)
يَعْلى
(5)
بن أميةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} . قال: نزَلت في رجلٍ من قريشٍ وعبدِه. وفي قولِه: {مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} . إلى قوله: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . قال: هو عثمانُ بنُ عفانَ. قال: والأبكمُ الذي أينما يُوَجَّهُ
(6)
لا يأْتِ بخيرٍ، ذاك مولى عثمانَ بن عفَّانَ، كان عثمانُ ينفقُ عليه ويكفُلُه، ويَكفِيه المئونةَ
(7)
، وكان الآخَرُ يكرهُ الإسلامَ ويأباه، وينهاه عن الصدقةِ والمعروفِ، فنزَلت فيهما
(8)
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ص: "حيثم".
(3)
في ص، م:"عن". وينظر التاريخ الكبير 1/ 306.
(4)
في ص، م:"عن".
(5)
في ت 1، ت 2، ف:"يحيى".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يوجهه".
(7)
في ف: "المؤنة".
(8)
ذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 508 عن المصنف، وأخرجه ابن سعد 3/ 60 وفيهما: إبراهيم، عن عكرمة، والبخارى في التاريخ الكبير 1/ 306، وابن عساكر في تاريخه 46/ 210، 211 (طبعة مجمع اللغة بدمشق) من طرق عن حماد بن سلمة به.
وأخرجه ابن عساكر 46/ 212 من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم به ببعضه. ووقع في سند ابن عساكر: "إبراهيم عن عكرمة". وقد جاء على الصواب في المخطوط 11/ 258. وأخرجه البخارى 1/ 307، ومن طريقه ابن عساكر 46/ 211 من طريق عبد الله بن خثيم عن إبراهيم بن عكرمة، عن عكرمة، عن ابن عباس ببعضه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125 إلى ابن المنذر وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن مردويه، والضياء في المختارة - عن ابن عباس مفرقا.
وإنما اختَرنا القولَ الذي اخترناه في المَثَلِ الأوّلِ؛ لأنه تعالى ذكرُه مثَّل مثَلَ الكافر بالعبدِ الذي وصف صفته، ومَثَّل مَثَلَ المؤمن بالذي
(1)
رزقه رزقا حسنًا، فهو يُنفقُ مما رزَقه سرًّا وجهرًا، فلم يجز أن يكونَ ذلك
(2)
لله مثلًا، إذ كان اللهُ إنما مثَّل الكافرَ الذي [حرَمَه التوفيقَ فخذله عن طاعتِه، بالعبدِ الذي]
(3)
لا يقدرُ على شيءٍ، بأنه لم يرزقْه رزقًا ينفقُ منه سرًّا، ومثَّل المؤمنَ الذي وفَّقهُ
(4)
لطاعتِه فهداه لرشدِه، فهو يعملُ بما يرضاه اللهُ، كالحرِّ الذي بسَط له في الرزقِ، فهو ينفقُ منه سرًّا وجهرًا، واللَّهُ تعالى ذكْرُه هو الرازقُ غيرُ المرزوقِ، فغيرُ جائزٍ أن يُمَثَّلَ إفضالُه وجُودُه، بإنفاقِ المرزوقِ الرزقَ الحسنَ.
وأما المثَلُ الثاني، فإنه تمثيلٌ منه تعالى ذكرُه مَنْ مثَلُه الأبكَمُ الذي لا يقدرُ على شيءٍ، والكفارُ لا شكَّ أن منهم من له الأموالُ الكثيرةُ، ومن يضُرُّ أحيانًا الضرَّ العظيمَ بفسادِه
(5)
، فغيرُ كائنٍ ما لا يقدرُ على شيءٍ، كما قال تعالى ذكْرُه، مثلًا لَمن يقدرُ على أشياءَ كثيرةٍ. فإذ كان ذلك كذلك كان أولى المعانى به تمثيلَ ما لا يقدِرُ على شيءٍ، كما قال تعالى ذكرُه، بمثلِه
(6)
مما
(7)
لا يقدِرُ على شيءٍ، وذلك الوثنُ الذي لا يقدِرُ على شيءٍ، بالأبكمِ الكَلِّ على مولاه الذي لا يقدرُ على شيءٍ، كما قال ووصَف.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الذي".
(2)
في ت 1: "هذا".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(4)
بعده في م، ت 2، ف:"الله".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"ففساده".
(6)
في ت 1: "يمثله".
(7)
في م، ف:"ما"، وفى ت 1، ت 2:"بما".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وللهِ أيها الناسُ مِلْكُ ما غاب عن أبصارِكم في السماواتِ والأرضِ، دونَ آلهتِكم التي تَدْعون من دونِه، ودونَ كلِّ ما سواه، لا يملكُ ذلك أحدٌ سواه، {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ}. يقولُ: وما أمْرُ قيامِ القيامةِ والساعةِ التي يُنشرُ فيها الخلقُ للوقوفِ في موقفِ القيامةِ، إلا كنظرةٍ من البصرِ؛ لأن ذلك إنما هو أن يقالَ له كنْ فيكونُ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} : والساعةُ كلمحِ البصرِ أو أقربُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} . قال: هو أن يقولَ: كُنْ. فهو كلمحِ البصرِ، فأمرُ الساعةِ كلمحِ البصرِ أو أقربُ
(1)
.
و [يعنى بقولِه]
(2)
: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} : [أو هو أقرب]
(3)
مِن لمحِ البصرِ.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يقولُ: إن الله على إقامةِ الساعةِ في أقربَ من لمحِ البصرِ قادرٌ، و
(4)
على ما يَشَاءُ مِن الأَشياء كلِّها، لا يَمتَنِعُ عليه شيءٌ أراده.
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 359، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 125، 126 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(2)
في م، ت 1 ت 2 ف:"يعنى يقول".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، وفى ف:"أو أقرب".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واللهُ أعْلَمَكم ما لم تكونوا تَعْلَمُون مِن بعدِ ما أَخْرَجَكُم مِن بطونِ أمهاتِكم لا تَعْقِلون شيئًا ولا تَعْلَمون، فرزَقَكم عقولًا تَفْقَهون بها، وتُمَيِّزُون بها الخيرَ من الشرِّ، وبصَّركم [بها ما]
(1)
لم تكونوا تُبْصِرون
(2)
، وجعَل لكم السمعَ الذي تَسْمَعون به الأصواتَ، فيَفْقَهُ بعضُكم عن بعضٍ ما تَتَحاوَرون به بينَكم، والأبْصارَ التي تُبْصِرون بها الأشخاصَ، فتَتَعارَفون بها، وتُمَيِّزون بها بعضًا من بعضٍ {وَالْأَفْئِدَةَ}. يقولُ: والقلوبَ التي تَعْرِفون بها الأشياءَ فتَحْفَظونها، وتُفَكِّرون فتَفْقَهون بها، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. يقولُ: فعَلْنا ذلك بكم، فاشْكُرُوا اللَّهَ على ما أنعم به عليكم من ذلك، دونَ الآلهة والأنداد، فجَعَلْتُم له شُركاء
(3)
في الشكرِ، ولم يَكُنْ له فيما أنْعَم به عليكم مِن نعمةٍ شريكٌ.
وقولُه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} . كلامٌ مُتَناهٍ، ثم ابْتُدِئ
(4)
الخبرُ، فقيل: وجعَل اللهُ لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ. وإنما قلنا: ذلك كذلك؛ لأن الله تعالى ذكرُه جعَل لعبادِه
(5)
السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قبلَ أن يُخْرِجَهم مِن بطونِ أمهاتِهم، وإنما أعطاهم العلمَ والعقلَ بعدَ ما أخْرَجَهم مِن بطونِ أمهاتِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي
(1)
في ت 1: "بما"، وفى ت 2:"بها".
(2)
بعده في ص: "بها".
(3)
في ت 2: "شريكا".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ابتدأ".
(5)
في م: "العبادة و".
جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء المشركين: ألم تَرَوْا
(1)
أَيُّها المشركون باللَّهِ {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} . يعنى: في هَواءِ السماءِ، بينَها وبينَ الأرضِ. كما قال إبراهيمُ بنُ عِمْرانَ الأنصاريُّ
(2)
:
وَيْلُمِّها
(3)
مِن هَواءِ الجَوِّ طالِبَةً
…
ولا كهذا الذي في الأرضِ مَطْلوبُ
يعني: في هَواء السماءِ.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} . يقولُ: ما طَيَرانُها في الجوِّ إلا باللهِ، وبتسخيره إياها لذلك
(4)
، ولو سلَبها ما أعطاها مِن الطيرانِ، لم تَقْدِرْ على النهوضِ ارتفاعًا.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: إن في تسخيرِ اللهِ الطيرَ، وتَمْكِينهِ لها الطيرانَ في جوِّ السماءِ، لَعلاماتٍ ودَلالاتٍ، على أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنْ
(5)
لا حظَّ للأصنامِ والأوثانِ في الألوهةِ، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يعنى: لقومٍ يُقِرُّون بِوجْدانِ ما تُعايِنُه أبصارُهم، وتُحِسُّه حَواسُّهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {مُسَخَّرَاتٍ فِي
(1)
في ص، ت 2، ف:"يروا".
(2)
مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 365 منسوب في نسخة منه كما هنا، وفى نسخة بلا نسبة، ونسبه سيبويه في الكتاب 2/ 294 إلى امرئ القيس وهو في ديوانه ص 27 - والقصيدة ضمن زيادات نسخة الطوسي من الصحيح القديم المنحول - ونسبه في 4/ 147 إلى النعمان بن بشير الأنصاري.
(3)
ويلمها: هذا في صورة الدعاء على الشيء، والمراد به التعجب. الخزانة 4/ 90.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ف:"بذلك".
(5)
في م، ف:"أنه".
جَوِّ السَّمَاءِ}. أي: في كَبِدِ السماءِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} أيُّها الناسُ، {مِنْ بُيُوتِكُمْ} التي هي مِن الحَجَرِ والمَدَرِ، {سَكَنًا} تَسْكُنون أيامَ مُقامِكم في دُورِكم وبلادِكم، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} وهى البيوتُ مِن الأنْطاعِ
(2)
، والفَساطِيطِ
(3)
من الشَّعَرِ والصوفِ والوَبَرِ، {تَسْتَخِفُّونَهَا}. يقولُ: تَسْتَخِفُّون حمْلَها ونقْلَها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} من بلادِكم وأمصارِكم [لأسفارِكم، {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} في بلادِكم وأمصارِكم]
(4)
، {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} .
وبنحوِ الذي قلنا في معنى السكنِ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاءَ جميعًا، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} . قال: تَسْكُنون فيه
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
الأنطاع واحدها نطع - بالكسر والفتح وبالتحريك - وهو البساط من الأديم. القاموس المحيط (ن ط ع).
(3)
الفساطيط جمع فسطاط، وهو ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق. تاج العروس (ف س ط).
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
تفسير مجاهد ص 423، من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وأما الأشعارُ فجمعُ شَعَرٍ، تُثَقَّلُ عينُه وتُخَفَّفُ، وواحدُ الشَّعَرِ شَعَرَةٌ.
وأما الأثاثُ فإنه متاعُ البيتِ، لم يُسْمَعْ له بواحدٍ، وهو في أنه لا واحدَ له مثلُ المتاعِ. وقد حُكِى عن بعضِ النحويِّين أنه كان يقولُ: واحدُ الأثاثِ أثاثةٌ. ولم أَرَ أهلَ العلمِ بكلامِ العربِ يَعْرِفون ذلك، ومِن الدليلِ على أن الأثاثَ هو المتاعُ قولُ الشاعرِ
(1)
:
أهاجَتْك
(2)
الظَّعائنُ
(3)
يومَ بانُوا
…
بذِى الرِّئْيِ
(4)
الجميلِ مِن الأثاثِ
ويُرْوَى: بذى الزِّيِّ، وأنا أَرَى أن
(5)
أصلَ الأثاثِ اجتماعُ
(6)
بعضِ المتاعِ إلى بعضٍ، حتى يَكْثُرَ، كالشَّعَرِ الأثِيثِ، وهو الكثيرُ المُلْتَفُّ، يقالُ منه: أَثَّ شَعَرُ فلانٍ يَئِثُّ أثًّا. إذا كثُر والْتَفَّ واجْتَمع.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
هو محمد بن نمير الثقفى. والبيت في مجاز القرآن 1/ 365، واللسان (رأى)، والكامل 2/ 239.
(2)
في الكامل، واللسان:"أشاقتك".
(3)
في ص: "الصغائن"، وفى ت 1، ت 2، ف:"الضعائن".
(4)
في ف، والكامل:"الزى". وهو ما سيشير إليه المصنف عقب البيت.
(5)
سقط من: م، ت 1.
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"إجماع".
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَثَاثًا} . قال
(1)
: يعنى بالأثاثِ المالَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: أخبَرنا إسحاقُ قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاءَ جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{أَثَاثًا} . قال: متاعًا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن
(4)
ثَوْرٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَثَاثًا} . قال: هو المالُ
(5)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ حربٍ الرازيُّ، قال: أخبرَنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن حميدِ بن عبدِ الرحمنِ في قولِه:{أَثَاثًا} . قال: الثيابُ.
وقولُه: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} ، فإنه يعنى: أنه جعَل ذلك لهم بلاغًا، يَتَبَلَّغون
(6)
ويَكْتَفُون به إلى حينِ آجالِهم للموتِ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} ، فإنه يعنى: زينةً، يقولُ: يَنْتَفِعون به إلى حينٍ
(7)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 423 من طريق ورقاء به.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أبو". وينظر تهذيب الكمال 28/ 303.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 359 عن معمر به.
(6)
في ت 2: "يبلغون".
(7)
عزا السيوطي شطره الأخير في الدر المنثور 4/ 126 إلى ابن أبي حاتم.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} . قال: إلى الموتِ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن
(2)
ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} : إلى أجَلٍ وبُلْغةٍ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن نعمةِ اللهِ عليكم، أيُّها الناسُ، أن جعَل لكم مما خلَق مِن الأشجارِ وغيرِها ظِلالًا، تَسْتَظِلُّون بها مِن شدةِ الحرِّ، وهى جمعُ ظِلٍّ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا عمرٌو، عن قتادةَ في قولِه:{مِمَّا خَلَقَ} . قال: الشجرُ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} إِى واللهِ، مِن الشجرِ ومِن غيرِها
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 578، بمعناه.
(2)
في ت 1: "أبو". وهو خطأ.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 359 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} . يقولُ: وجعَل لكم مِن الجبالِ مواضعَ تَسْكُنون
(1)
فيها، وهي جمعُ كِنٍّ
(2)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} . يقولُ: غِيرانًا
(3)
مِن الجبالِ يُسْكَنُ فيها. [وقولُه]
(4)
: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} . يعني: ثيابَ القطنِ والكَتَّانِ والصوفِ وقُمُصَها
(5)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} مِن القطنِ والكَتَّانِ والصوفِ
(5)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن
(6)
ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} . قال: القطنُ والكَتَّانُ
(7)
.
وقولُه: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . يقولُ: ودُروعًا تَقِيكم بأسَكم، والبأسُ هو الحربُ، والمعنى: تَقِيكم في بأسِكم السلاحَ أن يَصِلَ إليكم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} مِن هذا الحديدِ
(8)
.
(1)
في ص، ف:"تستكنون".
(2)
الكن: وقاء كل شيء وستره. لسان العرب (ك ن ن)
(3)
الغيران، جمع الغار وهو مثل البيت المنقور في الجبل. الوسيط (غ و ر).
(4)
سقط من: م.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في ص، ت، ت 2، ف:"أبو".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 359 عن معمر به.
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . قال: هي سرابيلُ مِن حديدٍ
(1)
.
وقولُه: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: كما أعْطاكم ربُّكم هذه الأشياءَ التي وصَفَها في هذه الآياتِ؛ نعمةً منه بذلك عليكم، فكذا يُتِمُّ نعمتَه عليكم، {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. يقولُ: لتَخْضَعوا للهِ بالطاعةِ، وتَذِلَّ منكم بتوحيدِه النفوسُ، وتُخْلِصوا له العبادةَ.
وقد رُوى عن ابن عباسٍ أنه كان يَقْرَأُ: (لَعَلَّكُم تَسْلَمون) بفتحِ التاءِ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبى حمادٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن حَنْظلةَ، عن شهرِ بن حَوْشَبٍ، قال: كان ابن عباس يقولُ: (لَعَلَّكُم تَسْلَمون). قال: يعنى: مِن الجراحِ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ يوسُفَ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سَلَّامٍ، قال: ثنا عَبَّادُ بنُ العَوَّامِ، عن حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيُّ، عن شهرِ بن حَوْشَبٍ، عن ابن عباسٍ، أنه قرَأَها:(لَعَلَّكُمْ تَسلَمون). قال
(2)
: مِن الجِراحاتِ
(3)
. قال أحمدُ بنُ يُوسُفَ: قال أبو
(4)
عبيدٍ: يعنى بفتحِ التاءِ واللامِ.
فتأويلُ الكلامِ على قراءةِ ابن عباسٍ هذه: كذلك يُتِمُّ نعمتَه عليكم، بما جعَل لكم من السَّرابيلِ التي تَقِيكم بأسَكم؛ لِتَسْلَموا مِن السلاحِ في حروبِكم.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 359 عن معمر به.
(2)
سقط من: م، ف.
(3)
أخرجه أبو عبيد - كما في تفسير ابن كثير 4/ 510، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"بن". وهو خطأ.
والقراءةُ التي لا أَسْتَجِيزُ القراءةَ بخلافِها بضمِّ التاءِ مِن قولِه: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . وكسرِ اللامِ مِن أَسْلَمْت تُسْلِمُ يا هذا؛ لإجماعِ الحُجةِ مِن قرَأةِ الأمصارِ عليها.
فإنْ قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} فخصَّ بالذكرِ الحرَّ دونَ البردِ، وهى تَقِى الحرَّ والبردَ؟ أم كيف قيل:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} ، وترَك ذكرَ ما جعَل لهم مِن السهلِ؟
قيل له: قد اخْتُلِف في السببِ الذي مِن أجلِه جاء التنزيلُ كذلك، وسنَذْكُرُ ما قيل في ذلك، ثم نَدُلُّ على أولَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ.
فرُوِى عن عطاءٍ الخُراسانيِّ في ذلك ما حدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ، عن عثمانَ بن عطاءٍ، عن أبيه قال: إنما نزل القرآنُ على قدرِ معرفتِهم، ألا تَرَى إلى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} ، وما جعَل لهم مِن السهولِ أعظمُ وأكثرُ، ولكنهم كانوا أصحابَ جبالٍ، ألا تَرَى إلى قولِه:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 81]، وما جعَل لهم مِن غيرِ ذلك أعظمُ منه وأكثرُ، ولكنهم كانوا أصحابَ وَبَرٍ وشَعَرٍ، ألا تَرَى إلى قولِه:{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43]؛ يُعَجِّبُهم مِن ذلك، وما أنزل من الثلج أعظمُ وأكثرُ، ولكنهم كانوا لا يَعرِفون به، ألا تَرَى إِلى قولِه:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ، وما تَقِى من البردِ أكثرُ وأعظمُ، ولكنهم كانوا أصحابَ حرٍّ
(1)
.
فالسببُ الذي مِن أجلِه خصَّ اللهُ تعالى ذكرُه السرابيلَ بأنها تَقِى الحرَّ دونَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى المصنف وابن المنذر.
البردِ - على هذا القولِ - هو أن المخاطَبِين بذلك كانوا أصحابَ حرٍّ، [فذكر اللهُ]
(1)
تعالى ذكرُه بذلك
(2)
نعمتَه عليهم، بما يَقِيهم مكروهَ ما به عرَفوا مكروهَه، دونَ ما لم يَعْرِفوا مبلغَ مَكْروهِه، وكذلك ذلك في سائرِ الأحرفِ الأُخَرِ.
وقال آخرون: ذكَر ذلك خاصةً اكتفاءً بذكرِ أحدِهما مِن ذكرِ الآخرِ؛ إذ كان معلومًا عندَ المخاطبينِ به معناه، وأن السرابيلَ التي تَقِى الحرَّ تَقِى أيضًا البردَ. وقالوا: ذلك موجودٌ في كلامِ العربِ مستعملٌ، واسْتَشْهَدوا لقولِهم بقولِ الشاعرِ
(3)
:
وما أَدْرِى إِذا يَمَّمْتُ وَجْهًا
…
أُرِيدُ الخيرَ أيُّهما يَلِيني
فقال: أيُّهما يَلِينى. يُرِيدُ الخيرَ [أو الشرَّ، وإنما ذكَر الخيرَ؛ لأنه إذا أراد الخيرَ]
(4)
، فهو يَتَّقِى الشرَّ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: إن القومَ خُوطِبوا على قدرِ معرفتهم، وإن كان في ذكر بعض ذلك
(5)
دَلالةٌ على ما تُرِك ذكرُه، لمن عرَف المذكورَ والمتروكَ، وذلك أن الله تعالى ذكرُه إنما عدَّد نعمَه التي أَنْعَمها على الذين قُصِدوا بالذكرِ في هذه السورةِ دونَ غيرِهم، فذكَر أياديَه عندَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فإن أدْبَر هؤلاء المشركون يا محمدُ عما
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"فذكرهم".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(3)
وهو المثقب العبدى والبيت في ديوانه ص 212.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
أَرْسَلْتُك به إليهم مِن الحقِّ، فلم يَسْتَجيبوا لك، وأعْرَضوا عنه، فما عليك مِن لَومٍ ولا عَذَلٍ؛ لأنك قد أدَّيْتَ ما عليك في ذلك، إنه ليس عليك إلا بلاغُهم ما أُرْسِلْتَ به.
ويعنى بقولِه: {الْمُبِينُ} . الذي يُبَيِّنُ لمن سمِعه حتى يَفْهَمَه.
وأما قولُه: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ، فإن أهلَ التأويلِ اخْتَلَفُوا في المَعْنيِّ بالنعمةِ التي أخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه عن هؤلاء المشركين أنهم يُنْكِرونها مع معرفتِهم بها؛ فقال بعضُهم: هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، عرَفوا نبوتَه، ثم جحَدوها وكذَّبوه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} . قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن السديِّ مثلَه.
وقال آخرون: بل معني ذلك: أنهم يَعْرِفون أن ما عدَّد اللهُ تعالى ذكرُه في هذه السورةِ من النعمِ مِن عندِ اللهِ، وأن الله هو المُنْعِمُ بذلك عليهم، ولكنهم يُنْكِرون ذلك، فيَزْعُمون أنهم وَرِثوه عن آبائِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنا المثنى، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شِبلٌ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللِه، عن وَرْقاءَ جميعًا، عن
(1)
تفسير سفيان ص 166، وأخرجه أحمد في علله 1/ 409 (2665)، من طريق سفيان به، ومن طريقه أخرجه الخلال في السنة (212) من طريق وكيع عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} . قال: هي المساكنُ والأنعامُ، وما يُرْزَقون منها، والسرابيلُ مِن الحديدِ والثيابِ، تَعْرفُ هذا كفارُ قريشٍ، ثم تُنْكِرُه، بأن تقولَ: هذا كان لآبائِنا، [فروِّحونا إياه]
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، إلا أنه قال: فورَّثونا إياها.
وزاد في الحديثِ عن ابن جريجٍ، قال ابن جريجٍ: قال عبدُ الله بن كثير: يَعْلَمون أن الله خلقهم، وأعطاهم ما أعطاهم، فهو معرفتهم نعمته، ثم إنكارُهم إيَّاها كفرُهم بعدُ
(2)
.
وقال آخرون في ذلك، ما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عمرٍو، عن أبي إسحاقَ الفَزَارِيِّ، عن ليثٍ، عن عونِ بن عبدِ اللهِ بن عتبةَ:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ، قال: إنكارُهم إياها، أن يقول الرجلُ: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلانُ ما أَصَبْتُ كذا وكذا
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفارَ إذا قيل لهم: مَن رزَقَكم؟ أقَرُّوا بأن الله هو الذي رزَقَهم، ثم يُنْكرون ذلك بقولهم: رُزِقْنا ذلك بشفاعةِ آلهتِنا.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ، وأشْبهُها بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: عُنِى بالنعمةِ التي ذكَرها اللهُ في قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} . النعمةُ عليهم بإرسالِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليهم، داعيًا إلى ما بعَثَه بدعائِهم إليه، وذلك أن هذه الآيةَ بينَ آيتين،
(1)
في ت 1: "فزوجونا إياه" وفى ف: "قد وحدنا إياها"، والأثر في تفسير مجاهد ص 424، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 126 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كلتاهما خبرٌ عن رسولِ اللهِ، وعما بُعِث به، فأولى ما بينَهما أن يكونَ في معنى ما قبلَه وما بعدَه، إذ لم يكنْ معنًى يَدُلُّ على انصرافِه عما قبلَه وعما بعدَه، فالذى قبلَ هذه الآيةِ قولُه:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ، وما بعدَه {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ، وهو رسولُها. فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآيةِ: يَعْرِفُ هؤلاء المشركون باللهِ نعمةَ اللهِ عليهم يا محمدُ بك، ثم يُنكِرونك، ويَجْحَدون نبوّتك، {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}. يقولُ: وأكثرُ قومِك الجاحِدون نبوّتَك، لا
(1)
المُقِرُّون بها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يَعْرِفون نعمةَ اللهِ ثم يُنْكِرونها اليومَ، ويَسْتنكِرون {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ، وهو الشاهدُ عليها بما أجابَت داعيَ اللهِ، وهو رسولُهم الذي أُرْسِل إليهم، {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}. يقولُ: ثم لا يُؤْذَنُ للذين كفَروا في الاعتذارِ، فيَعْتَذِروا مما كانوا باللهِ وبرسولِه يَكفُرون، {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} فيُترَكوا [والرجوعَ]
(2)
إلى الدنيا، فيُنِيبوا ويَتُوبوا، وذلك كما قال تعالى ذكرُه:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36].
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ، وشاهدُها نبيُّها، على أنه قد بلَّغ رسالاتِ ربِّه، قال اللهُ تعالى:
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ف:"الرجوع".
{وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}
(1)
[النحل: 89]
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا عايَن الذين كذَّبوك يا محمدُ، وجحَدوا نُبوَّتَك، والأممُ الذين كانوا على منهاجِ مُشْركي قومِك - عذابَ اللهِ، فلا يُنْجِيهم مِن عذابِ اللهِ شيءٌ؛ لأنهم لا يُؤْذَنُ لهم فيَعْتَذِرون، فيُخَفَّفُ
(2)
عنهم العذابُ، بالعذرِ الذي يَدَّعُونه، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. يقولُ: ولا يُرْجَئون للعقابِ
(3)
؛ لأن وقتَ التوبةِ والإنابةِ قد فات، فليس ذلك وقتًا لهما، وإنما هو وقتٌ للجزاءِ على الأعمالِ، فلا يُنْظُرُ بالعِتابِ ليُعْتَبَ بالتوبةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا رأى المشركون باللهِ يومَ القيامةِ ما كانوا يَعْبُدون مِن دونِ اللهِ؛ من الآلهةِ والأوثانِ وغيرِ ذلك، قالوا: ربَّنا هؤلاء شركاؤُنا في الكفرِ بك، والشركاءُ الذين كنا نَدْعُوهم آلهةً مِن دونِك، قال اللهُ تعالى ذكرُه:{فَأَلْقَوْا} . يعنى شركاءَهم الذين كانوا يَعْبُدونهم مِن دونِ اللهِ {الْقَوْلَ} يقولُ: قالوا لهم: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيُّها المشركون، ما كنا نَدْعوكم إلى عبادتِنا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 2:"فيخف".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"بالعقاب".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} . قال: حدَّثوهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ
(2)
، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وألْقَى المشركون إلى اللهِ يومَئذٍ {السَّلَمَ} . يقولُ: اسْتَسْلَموا يومَئذٍ، وذلُّوا لحُكْمِه فيهم، ولم تُغْنِ عنهم آلهتُهم - التي كانوا يَدْعُون في الدنيا مِن دونِ اللهِ، وتبَرَّأت منهم - ولا
(3)
قومُهم، ولا عَشائرُهم الذين كانوا في الدنيا يُدافِعون عنهم. والعربُ تقولُ: أَلْقَيْتُ إليه كذا. تعنى بذلك: قلتُ له.
وقولُه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . يقولُ: وأَخْطَأَهُم مِن آلِهتِهم ما كانوا يَأْمُلُون مِن الشفاعةِ عندَ اللهِ بالنجاةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 424، من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"الحسن". وينظر تهذيب الكمال 12/ 161.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} . يقولُ: ذَلُّوا واسْتَسْلَموا يومَئِذٍ، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: الذين جحَدوا يا محمدُ نبوَّتَك، وكذَّبوك فيما جئتَهم به مِن عندِ ربِّك، وصَدُّوا عن الإيمانِ باللهِ وبرسولِه من
(2)
أراده - زِدْناهم عذابًا يومَ القيامةِ في جَهَنَّمَ، فوقَ العذابِ الذي هم فيه قبلَ أن يُزادُوه. وقيل: تلك الزيادةُ التي وعَدَهم اللهُ أن يَزِيدَهموها عَقاربُ وحَيَّاتٌ. [وقد قال مثلَ ذلك أهلُ التأويلِ]
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن عبدِ اللهِ بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ:{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} . قال: عقاربَ لها أنيابٌ كالنَّخْلِ
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن عبدِ اللهِ بن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في م، ت 1 ف:"ومن".
(3)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
(4)
تفسير سفيان ص 166، بلفظ:"عقارب كأمثال النخل الطوال". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 127 إلى الفريابي وسعيد بن منصور، وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مُرَّةَ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ وابنُ عيينةَ، عن الأعمشِ، عن عبدِ اللهِ بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ:{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} . قال: زيدوا عقاربَ لها أنيابٌ كالنخلِ الطِّوالِ
(2)
.
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوزْجانيُّ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: أخبرنا الأعمشُ، عن عبدِ اللهِ بن مرةَ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن سعيدٍ، عن سليمانَ، عن عبدِ اللهِ بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ نحوَه.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن السديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ قال:{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} . قال: أَفَاعِىَ
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن السديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبد اللهِ قال: أفاعِيَ في النارِ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ مثلَة
(5)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى والفضلُ بنُ الصَّبَّاحِ، قالا: ثنا جعفرُ بنُ عَونٍ، قال:
(1)
أخرجه هناد في الزهد (260) عن وكيع به.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 362، والطبراني في الكبير (9105)، والحاكم 2/ 355، 356 عن ابن عيينة به. وابن أبي شيبة 13/ 158، وهناد في الزهد (260) عن أبي معاوية به.
(3)
أخرجه أبو يعلى (2659)، وابن أبي الدنيا في صفة النار (93)، والطبراني في الكبير (9104)، والحاكم 4/ 593، 594، والبيهقي في البعث (615) من طرق عن الأعمش به.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (94) من طريق السدى به.
(5)
أخرجه هناد في الزهد (261) عن وكيع به.
أخبَرنا الأعمشُ، عن مجاهدٍ، عن عبيدِ بنِ عُميرٍ، قال: إن لجهنمَ [جِبابًا فيها]
(1)
حيَّاتٌ أمثالُ البُخْتِ
(2)
، وعقاربُ أمثالُ البِغالِ الدُّهْمِ
(3)
، يَسْتَغِيثُ أهلُ النارِ [إلى تلك الجِبابِ أو]
(4)
الساحلِ، فتَثِبُ إليهم: فتَأْخُذُ بشِفاهِهم
(5)
وشِفارِهم إلى أقدامِهم، فيَسْتَغِيثون منها إلى النارِ، فيقولون
(6)
: النارَ النارَ. فتَتْبَعُهم حتى تَجِدَ
(7)
حرَّها فتَرْجِعُ. قال: وهى فى أسرابٍ
(8)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني حُيَىُّ بنُ عبدِ اللهِ، عن أبي عبد الرحمنِ الحُبُلىِّ
(9)
، عن عبدِ الله بنِ عمرٍو، قال: إن لجهنمَ سواحلَ فيها حياتٌ وعَقارِبُ، أعناقُها كأعناقِ البُخْتِ
(10)
.
وقولُه: {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} . يقولُ: زِدْناهم ذلك العذابَ على ما بهم مِن العذابِ، بما كانوا يُفْسِدون، بما كانوا في الدنيا يَعْصُون اللهَ، ويَأْمُرون عبادَه بمعصيتِه، فذلك كان إفسادَهم، [اللهم إنا نَسْأَلُك
(11)
العافية، يا مالكَ الدنيا والآخرةِ الباقيةِ]
(12)
.
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"جنابا فيه". والجباب جمع الجب، وهو البئر الواسعة. الوسيط (ج ب ب).
(2)
البخت: الإبل الخراسانية. القاموس المحيط (ب خ ت).
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لم".
(4)
فى ت 2، ف:"إلى ذلك الجناب"، وفى الدر المنثور:"من تلك الجباب إلى".
(5)
فى ت 2: "شفاههم".
(6)
في ص: "فيقول"، وفى ت 1، ت 2، ف:"فتقول".
(7)
في ت 1: "يجدوا".
(8)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 127 إلى ابن أبي حاتم.
(9)
فى ت 1: "الجيلى"، وفى ف:"الجبلى". وينظر تهذيب الكمال 15/ 357.
(10)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 127 إلى المصنف.
(11)
بعده فى ت 1، ت 2، ف:"العفو و".
(12)
سقط من: ص.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِنْ أَنفُسِهِمْ} . يقولُ: نَسْأَلُ نبيَّهم الذي بَعثْناه إليهم، للدعاءِ إلى طاعتِنا، وقال:{مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ؛ لأنه تعالى ذكرُه، كان يَبْعَثُ إلى الأُممِ
(1)
أنبياءَها منها، ماذا أجابوكم، وما ردُّوا عليكم؟ {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}. يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وجِئْنا بك يا محمدُ شاهدًا على قومِك وأمتِك الذين أرْسَلْتُك إليهم، بِمَ أجابوك؟ وماذا عمِلوا فيما أَرْسَلْتُك به إليهم؟
وقولُه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: نُزِّل عليك يا محمدُ هذا القرآنُ بيانًا لكلِّ ما بالناسِ إليه الحاجةُ، مِن معرفةِ الحلالِ والحرامِ، والثوابِ والعقابِ، {وَهُدًى} مِن الضلالةِ، {وَرَحْمَةً} لمن صدَّق به، وعمِل بما فيه مِن حدودِ اللهِ، وأمرِه ونهيِه، فأحلَّ حلالَه، وحرَّم حرامَه.
{وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . يقولُ: وبشارةً لمن أطاع اللهَ، وخضَع له بالتوحيدِ. وأذْعَن له بالطاعةِ، يُبَشِّرُه بجِزيلِ ثوابِه في الآخرةِ، وعظيمِ كرامتِه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ، عن ابنِ عُيَيْنَةَ، قال: ثنا أبانُ بنُ تَغْلِبَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال: مما
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أمم".
أحَلَّ وحرَّم.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ عُيَينةَ، عن أبانِ بنِ تَغْلِبَ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} : مما أحَلَّ لهم، وحرَّم عليهم
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال: ما أمَر به، وما نهَى عنه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ في قولِه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال: ما أُمِروا به، ونُهُوا عنه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيْلٍ، عن أشعثَ، عن رجلٍ، قال: قال ابنُ مسعودٍ: أُنْزِل في هذا القرآنِ كلُّ علمٍ، وكلُّ شيءٍ قد بُيِّن لنا في القرآنِ، ثم تلا هذه الآيةَ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله يأْمُرُ فى هذا الكتابِ الذي أنزَله إليك يا محمدُ {بِالْعَدْلِ} ، وهو الإنصافُ، ومن الإنصافِ الإقرارُ بمَن أنْعم علينا بنعمتِه، والشكرُ له على أفضالِه، ونُولِى الحمدَ أهلَه. وإذا كان ذلك هو العدلَ، [ولم]
(4)
يَكُنْ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 362.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 128 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 127 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في ت 1، ت 2:"لم".
للأوثانِ والأصنامِ عندنا يدٌ
(1)
تَسْتَحِقُّ الحمدَ عليها - كان جهلًا بنا حمدُها وعبادتُها، وهى لا تُنْعِمُ فتُشْكَرَ، ولا تَنْفَعُ فتُعْبَدَ، فلزِمَنا أن نَشْهَدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولذلك قال مَن قال: العدلُ في هذا الموضعِ شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى وعلىُّ بنُ داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} . قال: شهادةُ أن لا إلهَ إلا الله
(2)
.
وقولُه: {وَالْإِحْسَانِ} . فإن الإحسانَ الذى أمَر به تعالى ذكرُه -مع العدلِ الذى وصَفْنا صفتَه- الصبرُ للهِ على طاعتِه فيما أمَر ونهَى، في الشدةِ والرخاءِ، والمَكْرَه والمَنْشَطِ، وذلك هو أداءُ فرائضِه.
كما حدَّثني المثنى وعلىُّ بنُ داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالْإِحْسَانِ} . يقولُ: أداءِ الفرائضِ
(3)
.
وقولُه: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} . يقولُ: وإعطاءِ ذى القربى الحقَّ الذي أوْجَبه اللهُ عليك، بسببِ القرابةِ والرحمِ.
كما حدَّثني المثنى وعلىٌّ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} . يقولُ: الأرحامِ
(3)
.
(1)
فى ت 1: "ما"، وفى ت 2، ف:"بل".
(2)
أخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات 1/ 272 (206) من طريق عبد اللهِ بن صالح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 128 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1583) من طريق عبد الله بن صالح به.
وقولُه: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} : الفحشاءُ
(1)
في هذا الموضعِ الزنى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى وعلىُّ بنُ داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} . يقولُ: الزنى
(2)
.
وقد بيَّنا معنى الفحشاءِ بشواهدِه فيما مضَى قبلُ
(3)
.
وقولُه: {وَالْبَغْيِ} قيل: عُنِى بالبَغْيِ في هذا الموضعِ الكِبْرُ والظلمُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى وعلىُّ بنُ داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالْبَغْيِ} . يقولُ: الكِبْرِ والظلمِ (2).
وأصلُ البغيِ التَّعَدِّى، ومجاوزةُ القَدْرِ والحدِّ مِن كلِّ شيءٍ. وقد بيَّنا ذلك فيما مضَى قبلُ
(4)
.
وقولُه: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . يقولُ: يُذَكِّرُكم، أَيُّهَا الناسُ، ربُّكم؛ لتَذَّكَّروا فتُنِيبوا إلى أمرِه ونهِيه، وتَعْرِفوا الحقَّ لأهلِه.
كما حدَّثني المثنى وعلىُّ بنُ داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ: عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{يَعِظُكُمْ} . يقولُ: يُوصِيكم. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2).
وقد ذُكِر عن ابنِ عُيينةَ أنه كان يقولُ في تأويلِ ذلك: إن معنى العدلِ في هذا الموضعِ استواءُ السَّريرةِ والعَلانيةِ، من كلِّ عاملٍ للهِ عملًا، وإن معنى الإحسانِ أن
(1)
سقط من ت 2، وفى ص، م:"قال الفحشاء"، وفى ت 1:"والفحشاء".
(2)
تقدم تخريجه فى الصفحة السابقة حاشية (2).
(3)
ينظر ما تقدم في 3/ 40.
(4)
ينظر ما تقدم في 10/ 163.
تكونَ سريرتُه أحسنَ مِن علانيتِه، وإن الفحشاءَ والمنكرَ أن تكونَ علانيتُه أحسنَ مِن سريرتِه.
وذُكِر عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، أنه كان يقولُ في هذه الآيةِ، ما حدَّثني المثنى، قال: ثنا الحجاجُ، قال: ثنا مُعتَمِرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ منصورَ بنَ المُعتمرِ
(1)
، عن عامرٍ، عن شُتَيْرِ بنِ شَكَلٍ، قال: سَمِعْتُ عبدَ اللهِ يقولُ: إن أجمعَ آيةٍ في القرآنِ في سورةِ النحلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إِلى آخرِ الآيةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الشعبيِّ، عن شُتَيْرِ بنِ شَكَلٍ، قال: سمِعْتُ عبدَ اللهِ يقولُ: إن أجمعَ آيةٍ في القرآنِ لخيرٍ أو لشرٍّ آيةٌ في سورةِ النحلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: هو {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} الآية، إنه
(3)
ليس مِن خُلُقٍ حسنٍ كان أهلُ الجاهليةِ يعملون به [ويَسْتَحْسِنونه]
(4)
، إلا أمَر اللهُ به، وليس مِن خُلُقٍ سيِّءٍ كانوا يَتَعايَرونه بينهم، إلا نهَى اللهُ عنه، وقدَّم فيه، وإنما نهَى عن سَفاسِفِ
(5)
الأخلاقِ
(1)
في النسخ: "النعمان". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 28/ 546، 556.
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (8658) من طريق الحجاج بن المنهال به، والحاكم 2/ 356، والبيهقي في الشعب (2440) من طريق معتمر بن سليمان به، كما أخرجه الطبرانى فى الكبير (8659، 8660) من طرق عن عامر الشعبى به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 128 إلى سعيد بن منصور ومحمد بن نصر في الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وإنه".
(4)
في مصدر التخريج: "ويعظمونه ويخشونه".
(5)
في ص، ت 1:"سفاسفة"، وفي ت 2:"سفه".
ومَذامِّها
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأَوْفُوا بميثاقِ اللهِ إذا واثَقْتُموه، وعقدِه إذا عاقَدْتُموه، فَأَوْجَبْتُم به على أنفسِكم حقًّا لمن عاقَدْتُموه به، وواثقْتُموه
(2)
عليه، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}. يقولُ: ولا تُخالِفوا الأمرَ الذي تَعاقَدْتُم فيه الأيمانَ، يعنى بعدَ ما شدَدْتُم الأيمانَ على أنفسِكم، فتَحْنَثُوا في أيمانِكم، وتَكْذِبوا فيها، وتَنْقُضوها بعدَ إبرامِها، يقالُ منه: وكَّد فلانٌ يمينَه يُوَكِّدُها توكيدًا. إذا شدَّدها، وهى لغةُ أهلِ الحجازِ، وأما أهلُ نجدٍ، فإنهم يقولون: أكَّدْتُها أُؤَكِّدُها تأكيدًا.
وقولُه: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} . يقولُ: وقد جَعَلْتُم اللهَ بالوفاءِ بما تعاقَدْتُم عليه على أنفسِكم راعيًا، يَرْعَى المُوَفِّيَ منكم بعهدِ اللهِ الذي عاهَد على الوفاءِ به والناقضَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ على اختلافٍ بينَهم فيمَن عُنِى بهذه الآيةِ، وفيما أُنْزِلَت؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها الذين بايَعوا
(3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلامِ، وفيهم أُنْزِلَت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارة الأسَدىُّ، قال: ثنا عبيدُ
(4)
اللهِ بنُ موسى، قال:
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 128، 129 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أوثقتموه".
(3)
فى ت 2: "تابعوا".
(4)
في النسخ: "عبد". وهو خطأ، والمثبت من مصادر ترجمته وقد تقدم مرارا. وينظر تهذيب الكمال 19/ 164.
أخبَرنا [ابنُ أبي ليلى، عن مَزِيدةَ]
(1)
قولَه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال: أُنْزِلَت هذه الآيةُ في بيعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كان مَن أَسْلَم بايَع على الإسلامِ، فقال
(2)
: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} هذه البيعةِ التي بايعْتُم على الإسلامِ، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} البيعةَ، فلا يَحْمِلُكم قلةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، وكثرةُ المشركين أن تَنْقُضوا البيعةَ التى بايعْتُم على الإسلامِ، وإن كان فيهم قلةٌ، والمشركين فيهم كثرةٌ
(3)
.
وقال آخرون: نزَلت فى الحِلْفِ الذى كان أهلُ الشركِ تحالَفوا في الجاهليةِ، فأَمَرَهم اللهُ عز وجل فى الإسلامِ أن يُوفُوا به، ولا يَنْقُضوه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ جميعًا، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . قال: تغليظِها في الحِلْفِ
(4)
.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاء جميعًا، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثلَه.
(1)
في النسخ: "أبو ليلى، عن بريدة". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 27/ 421.
(2)
فى م: "فقالوا".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 517 نقلا عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 424، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . يقولُ: بعد تشديدِها وتغليظِها
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: هؤلاء قومٌ كانوا حُلفاءَ لقومٍ
(2)
تَحالَفوا، وأعْطَى بعضُهم العهدَ، فجاءهم قومٌ فقالوا: نحن أكثرُ وأعزُّ وأَمْنعُ، فانْقُضوا عهدَ هؤلاء وارْجِعوا إلينا، ففعَلوا، فذلك قولُ اللهِ تعالى:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} - {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92]. هى أربَى: أكثرُ، مِن أجلِ أن كان هؤلاء أكثرَ مِن أولئك، نقَضْتُم العهدَ فيما بينَكم وبينَ هؤلاء، فكان هذا في هذا.
حدَّثنى ابنُ البَرْقىِّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: أخبَرَنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: سألْتُ يحيى بنَ سعيدٍ، عن قولِ اللهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . قال: العهودَ.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذكْرُه أمَر في هذه الآيةِ عبادَه بالوفاءِ بعهودِه، التى يَجْعَلونها على أنفسِهم، ونهاهم عن نقضِ الأيمانِ بعدَ توكيدِها على أنفسِهم لآخرين، بعقودٍ تكونُ بينَهم بحقٍّ، مما لا يَكْرَهُه اللهُ.
وجائزٌ أن تكونَ نزَلَت فى الذين بايَعوا
(3)
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنهيِهم عن نقضِ بَيْعتِهم؛ حذرًا مِن قلةِ عددِ المسلمين، وكثرةِ عددِ المشركين، وأن تكونَ نزَلَت في الذين أرادوا الانتقالَ بحِلْفِهم عن حلفائِهم؛ لقلةِ عددِهم، في آخرين لكثرةِ عددِهم.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في ص: "قد".
(3)
في ت 2: "تابعوا".
وجائزٌ أن تكونَ في غيرِ ذلك، ولا خبرَ تَثْبُتُ به الحجةُ أنها نزَلَت في شيءٍ، ولا دَلالة في كتابٍ، ولا حجةَ عقْل، أىُّ ذلك عُنِى بها، ولا قولَ في ذلك أولى بالحقِّ مما
(1)
قلنا؛ لدلالةِ ظاهرِه عليه، وأن الآيةَ كانت قد تَنْزِلُ
(2)
لسببٍ مِن الأسبابِ، ويكونُ الحكمُ بها عامًّا فى كلِّ ما كان بمعنى السبب الذي نزلَت فيه.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} . قال: وكيلًا
(3)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللهَ، أيُّها الناسُ، يَعْلَمُ ما تَفْعَلون فى العهودِ التي تُعاهِدون اللهَ مِن الوفاءِ بها، والأحلافِ والأيمانِ التي تُؤَكِّدونها على أنفسِكم؛ أتَبرُّون فيها
(4)
أم تَنْقُضونها، وغيرَ ذلك مِن أفعالِكم، مُحْصٍ ذلك كلَّه عليكم، وهو مُسائِلُكم عنها وعما عمِلْتُم فيها، يقولُ
(5)
: فاحْذَروا اللهَ أن تَلْقَوه، وقد خَالَفْتُم فيها أمرَه ونهيَه، فتَسْتَوْجِبوا بذلك منه ما لا قِبَلَ لكم به من أليمِ عقابِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)} .
يقولُ تعالى ذكرُه - ناهيًا عبادَه عن نقضِ الأيمانِ بعدَ توكيدِها، وآمِرًا بوفاءِ
(1)
في ص: "كما".
(2)
فى م، ف:"نزلت".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
سقط من: ت 1.
العهودِ، ومُمثِّلًا ناقضَ ذلك بناقضةِ غَزْلِها مِن بعدِ إبرامِه، وناكِثتِه مِن بعدِ إحكامِه -:{وَلَا تَكُونُوا} أيُّها الناسُ في نقضِكم أيمانَكَم بعدَ توكيدِها، وإِعطائِكم اللهَ بالوفاءِ بذلك العهودَ والمواثيقَ، {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} ، يعنى: مِن بعدِ إبرامٍ.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: القوةُ ما غُزِل على طاقةٍ واحدةٍ ولم يُثَنَّ.
وقيل: إن التي كانت تَفْعَلُ ذلك امرأةٌ حمقاءُ معروفةٌ بمكةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبرنى عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} ، قال: خَرْقاءُ كانت بمكةَ، تَنْقُضُه بعد ما تُبْرِمُه
(1)
.
حدَّثنا المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الله بن الزبيرِ، عن ابنِ عُيَيْنَةَ، عن صَدَقةَ، عن السدىِّ:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} . قال: هي خَرْقاءُ بمكةَ، كانت إذا أبْرَمَت غزلَها نقَضَته
(2)
.
وقال آخرون: إنما هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لمن نقَض العهدَ، فشبَّهه بامرأةٍ تَفْعَلُ هذا الفعلَ، وقالوا: فى معنى: {نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} ، نحوًا مما قلنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ. قولَه: {وَلَا تَكُونُوا
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 129 إلى المصنف وابن أبي حاتم. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 237 - عن سفيان بن عيينة به.
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}: فلو سمِعْتُم بامرأةٍ نقَضَت غزلَها مِن بعدِ إبرامِه لَقَلْتُم: ما أحْمقَ هذه! وهذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لمن نكَث عهدَه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} ، قال: غزلُها: حبلُها، تَنْقُضُه بعد إبرامِها إياه، ولا تَنْتَفِعُ به بعدُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} . قال: نقَضَت حبلَها مِن بعدِ إبرامِ قوةٍ.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاءَ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} . قال: هذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ لمن نقَض العهد الذي يُعْطِيه، ضرَب اللهُ هذا له مثلًا بمثلِ التي عَزَلَت ثم نقَضَت غزلَها، فقد أعطاهم، ثم رجَع، فنكَث العهدَ الذى أعطاهم
(3)
.
وقولُه: {أَنْكَاثًا} . يعنى: أنْقاضًا، وكلُّ شيءٍ نُقِض بعدَ الفتلِ فهو أنْكاثٌ، واحدُها نِكْثٌ، حبلًا كان ذلك أو غزلًا، يقال منه: نَكَثَ فلانٌ هذا الحبلَ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 424 وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 29 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 518.
فهو يَنْكُثُه نَكْثًا، والحبلُ مُنْتَكِثٌ إذا انْتَقَضَت قُواه. وإنما عُنِى به في هذا الموضع نَكْثُ العهدِ والعقدِ.
وقولُه: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تَجْعَلون أيمانَكم التي تَحْلِفون بها على أنكم مُوفُون بالعهدِ لمن عاقَدْتُموه؛ {دَخَلًا بَيْنَكُمْ} . يقولُ: خَديعةً وغُرورًا؛ ليَطْمَئِنُّوا إليكم، وأنتم مُضْمِرون لهم الغدرَ، وتركَ الوفاءِ بالعهدِ، والنُّقْلة عنهم إلى غيرِهم مِن أجلِ أن غيرَهم أكثرُ عددًا منهم.
والدَّخَلُ فى كلامِ العربِ كلُّ أمرٍ لم يَكُنْ صحيحًا، يقالُ منه: أنا أعلمُ دَخَلَ فلانٍ ودُخْلُلَه ودُخْلَلَه، وداخلةَ أمرِه ودَخْلَتَه ودَخِيلتَه
(1)
.
وأما قولُه: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . فإن قولَه: {أَرْبَى} . أفْعَلُ مِن الرِّبا، يقال: هذا أرْبَى من هذا، وأرْبَأُ
(2)
منه، إذا كان أكثرَ منه، ومنه قولُ الشاعرِ
(3)
:
وأَسْمَرَ خَطَّيٍّ
(4)
كأَنَّ كُعوبَه
…
نَوَى القَسْبِ
(5)
قد أَرْبَى
(6)
ذِراعًا على العَشْرِ
وإنما قيل
(7)
: أرْبَى فلانٌ مِن هذا. وذلك للزيادةِ التي يَزِيدُها على غريمِه، على
(1)
فى ت 1، ت 2، ف:"دخلته".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أربى".
(3)
البيت لحاتم الطائي، وهو في ديوانه ص 253، ونسبه ابن منظور في اللسان (ر د ى) إلى أوس بن حجر، وليس في ديوانه. وينظر اللسان (ق س ب). والوساطة ص 241، 242.
(4)
كذا في النسخ، ورواية المصادر:"خطيا".
(5)
القسب: التمر اليابس يتفتت فى الفم. ينظر اللسان (ق س ب).
(6)
فى الديوان: "أرمى"، وفى اللسان (ر د ى):"أردى". وكلها بمعنى.
(7)
في م: "يقال".
رأسِ مالِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى وعليُّ بن داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . يقولُ: أكثرَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . يقولُ: نَاسٌ أكثرُ من ناسٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . قال: كانوا يُحالِفون الحُلفاءَ، فيَجِدون أكثرَ وأعزَّ، فيَنْقُضون حِلْفَ هؤلاء، ويُحالِفون هؤلاء الذين هم أعزُّ منهم، فنُهُوا عن ذلك
(3)
.
حدَّثنا المثنى
(4)
، قال: أخبرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن وَرْقاءَ، عن ابنِ
(1)
تفسير ابن كثير 4/ 519.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 424، 425، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
فى م: "ابن المثنى".
أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ.
وحدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} . يقولُ: خيانةً وغدرًا بينكم. {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} : أن يكونَ قومٌ أعزَّ وأكثرَ مِن قومٍ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا أبو ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{دَخَلًا بَيْنَكُمْ} . قال: خيانةً بينكم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} : يَغُرُّ
(3)
بها؛ يُعْطِيه العهدَ يُؤَمِّنُه، ويُنْزِلُه مِن مَأْمَنِه، فتَزِلُّ قدمُه، وهو فى مَأْمَنٍ، ثم يَغرُّه
(4)
يُرِيدُ الغدرَ. قال: فأولُ بُدُوِّ هذا قومٌ كانوا حُلفاء لقومٍ قد تحالَفوا، وأعْطَى بعضُهم بعضًا العهدَ، فجاءهم قومٌ قالوا: نحن أكثرُ وأعزُّ وأَمْنَعُ، فانْقُضوا عهد هؤلاء، وارجعوا إلينا، ففعلوا، وذلك قولُ اللهِ تعالى ذكْرُه:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} - {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} : هي أربى: أكثرُ من أجلِ أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقَضتم العهد فيما بينَكم وبينَ هؤلاء، فكان هذا
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى المصنف مطولًا، وينظر تفسير ابن كثير 4/ 519.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 359، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 129 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "يعود".
(4)
فى ص: "يعره"، وفى ت 1:"تغره"، وفى ت 2:"بعده"، وفى ف:"يعزه".
في هذا، وكان الأمرُ الآخر في الذي يُعاهِدُه، فيُنْزِلُه مِن حصنِه، ثم يَنْكُثُ عليه. الآيةُ الأولى في هؤلاء القومِ، وهي مبدؤُه، والأخرى في هذا.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . يقولُ: أكثرَ. يقولُ: فعليكم بوفاءِ العهدِ
(1)
.
وقولُه: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنما يَخْتَبِرُكم اللهُ بأمرِه إياكم بالوفاءِ بعهدِ اللهِ إذا عاهَدْتُم؛ ليتبيَّنَ المُطِيعَ منكم المُنْتَهِىَ إلى أمرِه ونهيِه، من العاصى له
(2)
المخالفِ أمرَه ونهيَه، {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وليُبَيِّنَنَّ لكم، أيُّها الناسُ، ربُّكم يومَ القيامةِ إذا ورَدْتُم عليه، بمُجازاةِ كلِّ فريقٍ منكم على عملِه في الدنيا؛ المحسنِ منكم بإحسانِه، والمسيءِ بإساءتِه، {مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ، والذي كانوا فيه يَخْتَلِفون في الدنيا أن المؤمنَ باللهِ كان يُقِرُّ بوحدانيةِ الله ونبوةِ نبيِّه، ويُصَدِّقُ بما ابْتَعَث به أنبياءَه، وكان يُكَذِّبُ بذلك كلِّه الكافرُ، فذلك كان اختلافَهم في الدنيا الذي وعد اللهُ تعالى ذكرُه عبادَه أن يُبَيِّنَه لهم عندَ ورودِهم عليه، بما وصَفْنا من البيانِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولو شاء ربُّكم، أيُّها الناسُ، للَطَف بكم بتوفيقٍ مِن عندِه، فصِرْتُم جميعًا جماعةً واحدةً، وأهلَ ملةٍ واحدةٍ، لا تَخْتَلِفون ولا تَفْتَرِقون، ولكنه
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 519.
(2)
سقط من: م.
تعالى ذكرُه خالَف بينَكم، فجعَلَكم أهلَ مللٍ شتَّى، بأن وفَّق هؤلاء للإيمانِ به، والعملِ بطاعتِه، فكانوا مؤمنين، وخذَل هؤلاء، فحرَمَهم توفيقَه، فكانوا كافرين، وليَسْأَلَنَّكم اللهُ يوم القيامةِ جميعًا عما كنتم تَعْمَلون في الدنيا، فيما أمَرَكم ونهاكم، ثم لَيُجازِينَّكم جزاءَكم؛ المطيعَ منكم بطاعتِه، والعاصيَ له بمعصيتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تَتَّخِذوا أيمانَكم بينَكم دَخَلًا وخديعةً بينَكم، تَغُرُّون بها الناسَ، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}. يقولُ: فتَهْلِكوا بعد أن كنتم مِن الهلاكِ آمنين، وإنما هذَا مَثَلٌ لكلِّ مُبْتَلًى بعد عافيةٍ، أو ساقطٍ في وَرْطةٍ بعد سلامةٍ، وما أشْبَهَ ذلك، زلَّت قدمُه، كما قال الشاعرُ
(1)
:
سيُمْنَعُ منك السَّبْقُ إن كنتَ سابقًا
…
وتُلْطَعُ
(2)
إِن زَلَّت بك النَّعْلانِ
وقولُه: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} . يقولُ: وتَذُوقوا أنتم السوءَ، وذلك السوءُ هو عذابُ اللهِ الذى يُعَذِّبُ به أهلَ معاصِيه فى الدنيا، وذلك بعضُ ما عذَّب به أهلَ الكفرِ به، {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. يقولُ: بما فتَنْتُم مَن أراد الإيمانَ باللهِ ورسولِه عن الإيمانِ، {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرةِ، وذلك نارُ جهنمَ.
وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن تأويلَ بُرَيْدَةَ الذى ذكَرْنا عنه في قولِه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} والآياتِ التي بعدَها، أنه عُنِى بذلك الذين بايَعوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الإسلامِ، عن مفارقةِ الإسلامِ لقلةِ أهلِه، وكثرةِ أهلِ الشركِ -هو
(1)
البيت في تفسير القرطبي 10/ 171.
(2)
اللطع: أن تضرب مؤخر الإنسان برجلك. اللسان (ل ط ع).
الصوابُ، دونَ الذى قال مجاهدٌ أنهم عُنُوا به؛ لأنه ليس في انتقالِ قومٍ بحِلْفٍ
(1)
عن حلفائِهم إلى آخرين غيرِهم، صدٌّ عن سبيلِ اللهِ، ولا ضلالٌ عن الهدى، وقد وصَف تعالى ذكرُه في هذه الآيةِ فاعِلِى ذلك، أنهم باتخاذِهم الأيمانَ دَخَلًا بينَهم، ونقضِهم الأيمانَ بعدَ توكيدِها، صادُّون عن سبيلِ اللهِ، وأنهم أهلُ ضلالٍ فى التي قبلَها، وهذه صفةُ أهلِ الكفرِ باللهِ، لا صفةُ أهلِ النُّقْلةِ بالحِلْفِ عن قومٍ إلى قومٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ
(2)
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تَنْقُضوا عهودَكم، أيُّها الناسُ، وعقودَكم التي عاقدْتُموها مَن عاقَدْتُم، مُؤَكِّديها بأيْمانِكم، تَطْلُبون بنقضِكم ذلك عَرَضًا مِن الدنيا قليلًا، ولكن أوْفُوا بعهدِ الله الذى أمَرَكم بالوفاءِ به، يُثِبْكم اللهُ على الوفاءِ به، فإن ما عندَ اللهِ مِن الثوابِ لكم على الوفاءِ بذلك، هو خيرٌ لكم إن كنتم تَعْلَمون فضْلَ ما بينَ العِوَضَين اللذين أحدُهما الثمنُ القليلُ الذي تَشْتَرون بنقضِ عهدِ اللهِ في الدنيا، والآخَرُ الثوابُ الجزيلُ في الآخرةِ على الوفاءِ به.
ثم بيَّن تعالى ذكرُه فرْقَ ما بينَ العِوَضَيْن، وفضْلَ ما بينَ الثوابين، فقال: ما عندَكم، أيُّها الناسُ، مما تتَمَلَّكونه في الدنيا، وإن كثُر، فنافدٌ فانٍ، وما عندَ اللهِ لمن أوْفَى بعهدِه وأطاعه من الخيراتِ باقٍ غيرُ فانٍ، فلِمَا عندَه فاعْمَلُوا، وعلى الباقي الذي لا يَفْنَى فاحْرِصوا.
(1)
في م: "تحالفوا".
(2)
في ص، ف:"ليجزين" بالياء، وهى قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 375.
وقولُه: {وَلَنَجْزِيَنَّ
(1)
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
يقولُ تعالى ذكرُه: ولَيُثِيبَنَّ اللهُ الذين صبَروا على طاعتِهم إيَّاه في السراءِ والضراءِ، ثوابَهم يومَ القيامةِ على صبرِهم عليها، ومسارعتِهم في رضاه، بأحسنِ ما كانوا يعملُون من الأعمالِ دونَ أسوئِها، وليغفِرنَّ
(2)
اللهُ لهم سيِّئَها بفضلِه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه: مَن عمِل بطاعةِ اللهِ، وأوفى بعهودِ اللهِ إذا عاهد، {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} من بني آدمَ، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. يقولُ: وهو مصدِّقٌ بثوابِ اللهِ الذى وعَد أهلَ طاعتِه على الطاعةِ، وبوعيدِ أهلِ معصيتِه على المعصيةِ، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} .
واختلَف أهلُ التأويلِ فى الذى عنَى اللهُ بالحياةِ الطيبةِ التي وعَد هؤلاء القومَ أن يُحْيِيَهُموها؛ فقال بعضهم: عنَى أنه يُحْيِيهم فى الدنيا ما عاشوا فيها بالرزقِ الحلالِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن إسماعيلَ بنِ سُمَيعٍ، عن أبى مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الحياةُ الطيبةُ الرزقُ الحلالُ في الدنيا.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن إسماعيلَ بن سُمَيعٍ، عن أبي مالكٍ
(1)
فى ت 1، ف:"ليجزين".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2:"ليعفون".
(3)
بعده فى ص: "يتلوه القول في تأويل قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} والحمد لله وحده وصلى الله على محمد النبى وعلى آله وسلم كذا، رب يسر وأعن".
وأبي الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ بنحوِه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بن سُمَيعٍ، عن أبي الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الرزقُ الحسنُ في الدنيا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن إسماعيلَ بنِ سُمَيعٍ، عن أبى الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الرزقُ الطيبُ في الدنيا.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا الفضلُ بنُ دُكينٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بنِ سُمَيعٍ، عن أبي الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الرزقُ الطيبُ في الدنيا.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} : يعني في الدنيا.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا ابنُ عيينةَ، عن مُطَرِّفٍ، عن الضحاكِ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الرزقُ الطيبُ الحلالُ
(2)
.
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا عونُ بنُ سلامٍ القرشيُّ، قال: أخبرَنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ فى قولِه: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
(1)
تفسير سفيان ص 166، وعنه عبد الرزاق فى تفسيره 1/ 360، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 1/ 130 إلى الفريابي وسعيد وابن المنذر وابن أبي حاتم، مطولًا.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى المصنف.
طَيِّبَةً}. قال: يأكلُ حلالًا، ويلبَسُ حلالًا
(1)
.
وقال آخرون: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ، بأن نَرْزُقَه القناعةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن المنهالِ بنِ خليفةَ، عن أبي خُزَيمةَ سليمانَ التمَّارِ، عمَّن ذكَره، عن عليٍّ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: القنُوعُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو عصامٍ، عن أبي سعيدٍ، عن الحسنِ البصريِّ، قال: الحياةُ الطيبةُ القناعةُ
(3)
.
وقال آخرون: بل يعنى بالحياة الطيبةِ الحياةَ مؤمنًا باللهِ، عاملًا بطاعتِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . يقولُ: من عمِل عملًا صالحًا وهو مؤمنٌ، في فاقةٍ أو ميسرةٍ، فحياتُه طيبةٌ، ومَن أعرَض عن ذكرِ اللهِ فلم يُؤمنْ ولم يَعمَلْ صالحًا، فعيشتُه ضَنْكٌ
(4)
لا خيرَ فيها
(5)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 521.
(3)
ينظر تفسير البغوى 5/ 42.
(4)
في النسخ: "ضنكة". والصواب ما أثبت.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 174.
وقال آخرون: الحياةُ الطيبةُ السعادةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى وعليُّ بن داودَ، قالا: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: السعادةُ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الحياةُ في الجنةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا هَوْذةُ، عن عوفٍ، عن الحسنِ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: لا تَطِيبُ لأحدٍ حياةٌ دونَ الجنةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن عوفٍ، عن الحسنِ:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: ما تَطِيبُ الحياةُ لأحدٍ إلا في الجنةِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ، فإن اللهَ لا يشاءُ عملًا إلا في إخلاصٍ، ويُوجِبُ لمن
(3)
عمِل ذلك في إيمانٍ، قال اللهُ تعالى ذكْرُه:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ، وهى الجنةُ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 521.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في النسخ: "من". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(4)
ينظر تفسير القرطبي 10/ 174.
مجاهدٍ: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الآخرةُ، يُحْيِيهم حياةً طيبةً في الآخرةِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . قال: الحياةُ الطيبةُ الآخرةُ فى الجنةِ، تلك الحياةُ الطيبةُ. قال:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال: ألا تراه يقولُ: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]. قال: هذه آخرتُه. وقرأ أيضًا: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]. قال: الآخرةُ دارُ حياةٍ لأهلِ النارِ وأهلِ الجنةِ، ليس فيها موتٌ لأحدٍ من الفريقين.
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا ابنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . قال: الإيمانُ الإخلاصُ للهِ وحدَه، فبيَّنَ أَنه لا يَقْبَلُ عملًا إلا بالإخلاصِ له
(1)
.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: تأويلُ ذلك: فَلَنُحْيِيَنَّه
(2)
حياةً طيبةً بالقناعةِ؛ وذلك أن من قَنَّعه اللهُ بما قَسَم له من رزقٍ، لم يَكْثُرْ [في الدنيا]
(3)
تعبُه، ولم يَعْظُمْ فيها نَصَبُه، ولم يتكدَّرْ فيها عيشُه، بإتباعِه نفسَه
(4)
ما فاته منها، وحرصِه على ما لعلَّه لا يُدْرِكُه فيها.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلاتِ فى ذلك بالآية؛ لأن اللهَ تعالَى ذكرُه
(1)
ينظر تفسير القرطبي 10/ 174.
(2)
بعده في ص: "في الدنيا".
(3)
في ص، م، ت 2، ف:"للدنيا".
(4)
في م: "بغية".
أوعَد قومًا قبلَها على معصيتِهم إياه إن عَصَوْه أذاقهم السوءَ في الدنيا، والعذابَ العظيمَ في الآخرةِ، فقال تعالَى ذكرُه:{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، فهذا لهم في الدنيا، {وَلَكُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فهذا لهم في الآخرةِ. ثم أتْبَع ذلك ما لمَنْ أوفى بعهدِ اللهِ وأطاعه، فقال تعالَى:{مَا عِنْدَكُمْ} فى الدنيا {يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} ، فالذي بيَّن
(1)
هذه السيئةَ بحكمتِه، أراد
(2)
أن يُعْقِبَ ذلك الوعدَ لأهلِ طاعتِه بالإحسانِ
(3)
فى الدنيا والغفرانِ في الآخرةِ، وكذلك فعَلَ تعالَى ذكرُه.
وأما القولُ الذى رُوِى عن ابنِ عباسٍ أنه الرزقُ الحلالُ، فإنه محتَمِلٌ أن يكونَ معناه الذي قلنا في ذلك، من أنه تعالى ذكْرُه يُقَنِّعُه في الدنيا بالذي يَرْزُقُه من الحلالِ -وإن قلَّ- فلا تَدْعُوه نفسُه إلى الكثيرِ منه من غيرِ حِلِّه، لا أنه يَرْزُقُه الكثيرَ منه من الحلالِ، وذلك أن أكثرَ العاملين للهِ تعالَى ذكْرُه بما يَرضاه من الأعمالِ، لم نرهم رُزِقوا الرزقَ الكثيرَ من الحلالِ فى الدنيا، ووجَدْنا ضيقَ العيشِ عليهم أغلبَ من السَّعةِ.
وقولُه: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، فذلك لا شَكَّ أنه في الآخرةِ، وكذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن إسماعيلَ بن سُمَيعٍ، عن أبى
(1)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
(2)
زيادة يستقيم بها السياق.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الإحسان".
مالكٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال: إذا صاروا إلى اللهِ جزاهم أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعمَلون
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن إسماعيلَ بنِ سُمَيعٍ، عن أبي مالكٍ، وأبي الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن إسماعيلَ بنِ سُمَيعٍ، عن أبي الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} . قال: في الآخرةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بن سُمَيعٍ، عن أبي الربيعِ، عن ابنِ عباسٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . يقولُ: يَجْزِيهم أجرَهم فى الآخرةِ بأحسنِ ما كانوا يعمَلون.
وقيل: إن هذه الآيةَ نزلت بسببِ قومٍ من أهلِ مِلَلٍ شَتَّى تفاخَروا، فقال أهلُ كلِّ مِلَّةٍ منها: نحن أفضلُ. فبيَّنَ اللهُ لهم أفضلَ أهلِ المللِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يعلى بنُ عُبيدٍ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ، قال: جلَس ناسٌ من أهلِ الأوثانِ وأهلِ التوراةِ وأهلِ الإنجيلِ، فقال هؤلاء: نحن أفضلُ. وقال هؤلاء: نحن أفضلُ. فأنزَل اللهُ تعالَى ذكْرُه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
(1)
تقدم تخريجه في ص 350.
(2)
تفسير سفيان ص 166، 167، وينظر ما تقدم في ص 350.
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإذا كنتَ يا محمدُ قارِئًا القرآنَ. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يزعُمُ أنه من المؤخَّرِ الذى معناه التقديمُ. وكأنَّ معنى الكلام عندَه: وإذا استعذتَ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، فاقرَأَ القرآنَ. ولا وجهَ لِمَا قال من ذلك؛ لأنَّ ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذَ مستعيذٌ من الشيطانِ الرجيمِ، لزمَه أن يقرَأَ القرآنَ، ولكن معناه ما وصَفنا.
وليس قولُه: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} بالأمرِ اللازمِ، وإنما هو إعلامٌ وندبٌ، وذلك أنه لا خلافَ بين الجميعِ أن مَن قرَأ القرآنَ ولم يستعذْ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ قبلَ قراءتِه أو بعدَها، أنه لم يُضَيِّعْ فرضًا واجبًا. وكان ابنُ زيدٍ يقولُ فى ذلك نحوَ الذي قلنا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . قال: فهذا دليلٌ من اللهِ تعالَى ذكرُه دَلَّ عبادَه عليه
(1)
.
وأما قولُه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . فإنه يعنى بذلك: إن الشيطانَ ليستْ له حجةٌ على الذين آمنوا باللهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 130 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
ورسولِه، وعمِلوا بما أمَر اللهُ به، وانتَهَوْا
(1)
عما نهاهم اللهُ عنه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. يقولُ: وعلى ربِّهم يتوكلون، فيما نابهم من مُهماتِ أمورِهم، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}. يقولُ: إنما حجتُه على الذين يعبُدونه، {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}. يقولُ: والذين هم باللهِ مشركون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكر من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(2)
، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} . قال: حجَّتُه
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} . قال: يُطيعونه
(4)
.
واختلَف أهلَ التأويلِ فى المعنى الذى من أجله لم يُسَلَّطْ فيه الشيطانُ على المؤمنِ؛ فقال بعضهم بما حُدِّثتُ عن زافِرِ
(5)
بنِ سليمانَ، عن سفيانَ في قولِه:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . قال: ليس له سلطانٌ
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"فانتهوا".
(2)
في النسخ: "الحسين". والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر.
(3)
تفسير مجاهد ص 425، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 4/ 522.
(5)
فى النسخ: "واقد". والمثبت من مصدر التخريج، وهو زافر بن سليمان الإيادي. تنظر ترجمته في تهذيب الكمال 9/ 267.
على أن يحمِلَهم على ذنبٍ لا يُغْفَرُ
(1)
.
وقال آخرون: هو الاستعاذةُ، فإنه إذا استعاذ باللهِ مُنِع منه، ولم يُسَلَّطْ عليه. واستشهَدوا لصحةِ قولهم ذلك بقولِ اللهِ تعالى ذكْرُه:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. وقد ذكَرنا الروايةَ بذلك في سورةِ "الحِجْرِ"
(2)
.
وقال آخرون في ذلك، بما حدَّثني به المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ الله بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ في قولِه:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إلى قولِه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . قال: إن عدوَّ اللهِ إبليسَ قال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83] فهؤلاء الذين لم يُجعَلْ للشيطانِ عليهم سبيلٌ، وإنما سلطانُه على قومٍ اتخذوه وليًّا، وأشرَكوه في أعمالِهم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . يقولُ: السلطانُ على من تولَّى الشيطانَ وعمِل بمعصيةِ اللهِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} . يقولُ: الذين يُطيعونه ويعبُدونه.
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: إنه ليس له سلطانٌ على
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل (25) من طريق زافر بن سليمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 130 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
تقدم في ص 71، 72.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
الذين آمنوا، فاستعاذوا باللهِ منه؛ بما ندَب اللهُ تعالى ذكرُه من الاستعاذةِ، وعلى ربِّهم يتوكلون على ما عرَض لهم من خَطَراتِه
(1)
ووساوسِه.
وإنما قلنا: ذلك أولى التأويلاتِ بالآيةِ؛ لأن اللهَ تعالَى ذكرُه أتْبَع هذا القولَ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . وقال في موضعٍ آخر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. فكان بيِّنًا بذلك أنه إنما ندَب عبادَه إلى الاستعاذةِ منه في هذه الأحوالِ، ليُعيذَهم من سلطانِه.
وأما قولُه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فإن أهلَ التأويلِ اختلَفوا في تأويلِه؛ فقال بعضُهم فيه بما قلنا: إن معناه: والذين هم باللهِ مشركون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن ورقاءَ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . قال: يعدلِون بربِّ العالمين
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . قال: يعدِلون باللهِ.
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"خطواته".
(2)
تفسير مجاهد ص 425، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 130 إلى ابن أبي شيبة والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . قال: عدَلوا إبليسَ بربِّهم، فإنهم باللهِ مشركون
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركو الشيطانِ في أعمالِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المثنى، قال: ثنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيعِ:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} : أشركوه فى أعمالِهم
(2)
.
والقولُ الأولُ -أعنى قولَ مجاهدٍ- أولى القولين في ذلك بالصوابِ، وذلك أن الذين يتولَّون الشيطانَ إنما يُشرِكونه باللهِ فى عبادتِهم وذبائِحهم ومطاعمِهم ومشارِبهم، لا أنهم يُشرِكون بالشيطانِ. ولو كان معنى الكلامِ ما قاله الربيعُ، لكان التنزيلُ: الذين هم مشركوه. ولم يَكُنْ فى الكلامِ "به"، فكان يَكونُ لو كان التنزيلُ كذلك: والذين هم مشركوه في أعمالِهم. إلا أن يُوجِّهَ موجِّهٌ معنى الكلامِ إلى أن القومَ كانوا يَدِينون بأُلوهةِ الشيطانِ ويُشرِكون اللهَ
(3)
به في عبادتِهم إياه، فيصحَّ حينئذٍ معنى الكلامِ، ويخرجَ عما جاء التنزيلُ به في سائرِ القرآنِ؛ وذلك أن اللهَ تعالَى ذكْرُه وصَف المشركين في سائرِ سُورِ القرآنِ أنهم أشرَكوا باللهِ ما لم ينزِّلْ به عليهم سلطانًا، وقال في كلِّ موضعٍ تقدَّم إليهم بالزجرِ عن ذلك: لا تُشركوا بالله شيئًا. ولم نجدْ في شيءٍ من التنزيلِ: لا تُشرِكوا اللهَ بشيءٍ. ولا في شيءٍ من القرآنِ
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 6/ 425.
(2)
تقدم تخريجه في ص 359.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بالله".
خبرًا من اللهِ عنهم أنهم أشرَكوا اللهَ
(1)
بشيءٍ، فيجوزَ لنا توجيهُ معنى قولِه:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} إلى: والذين هم بالشيطانِ مشركو اللهِ. فبيِّنٌ إذنْ إذ كان ذلك كذلك، أن الهاءَ فى قولِه:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ} عائدةٌ على الربِّ في قولِه: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه: وإذا نَسَخْنا حكمَ آيةٍ، فَأَبْدَلْنَا مَكانَه حكمَ أُخْرَى، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}. يقولُ: واللهُ أعلمُ بالذى هو أصْلَحُ لخَلْقِه فيما يبدِّلُ ويغيِّرُ من أحكامِه، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}. يقولُ: قال المشركون باللهِ المكذِّبو رسولِه، لرسولِه:{إِنَّمَا أَنْتَ} يا محمدُ {مُفْتَرٍ} ، أَي: مُكْذَبٌ، تَتَخَرَّصُ بِتَقَوُّلِ الباطلِ على اللهِ. يقولُ اللهُ تعالَى ذِكْرُه: بل أكثرُ هؤلاء القائلين لك يا محمدُ: إنما أنتَ مفترٍ. جُهَّالٌ بأن الذى تأتِيهم به من عندِ اللهِ، ناسخِه ومنسوخِه، لا يعلَمون حقيقةَ صحتِه.
وبنحوِ الذي قلنا فى تأويلِ قولِه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} ، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبَرنا إسحاقٌ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بالله".
ورقاءَ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : رفَعناها فأنزَلنا غيرَها
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} . قال: نسَخناها؛ بدَّلناها: رَفَعْناها، وأَثْبَتْنا غيرَها.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : هو كقولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
(2)
}. [البقرة: 106]
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} . قالوا: إنما أنت مُفترٍ، تأتى بشيءٍ وتَنْقُضُه، فتأتى بغيرِه. قال: وهذا التبديلُ
(3)
ناسخٌ، ولا تُبَدَّلُ آيةٌ مكانَ آيةٍ إلا بنسخٍ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ للقائلين لك: إنما أنتَ مفترٍ. فيما تَتْلو عليهم مِن آيِ كتابِنا: {نَزَّلَهُ
(4)
رُوحُ الْقُدُسِ}. يقولُ: قُلْ جاء به جبريلُ مِن عندِ ربي بالحقِّ. وقد بيَّنتُ فى غيرِ هذا الموضعِ معنى "رُوحِ القُدُسِ" بما أغنَى عن إعادتِه
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 425، من طريق ورقاء به. وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 522.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"ننساها". وهي قراءة، ينظر ما تقدم في 2/ 394.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"التأويل".
(4)
فى م، ت 1، ت 2، ف:"أنزله".
(5)
تقدم في 2/ 221 وما بعدها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عَوْنٍ العَمْرِيُّ، عن موسى بنِ عُبيدةَ الرَّبَذيِّ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، قال:{رُوحُ الْقُدُسِ} : جبريلُ.
وقولُه: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: قلْ نزَّل هذا القرآنَ -ناسخَه ومنسوخَه- رُوحُ القدسِ عليَّ مِن ربى؛ تثبيتًا للمؤمنين، وتقويةً لإيمانِهم؛ ليَزْدادوا بتصديقِهم لناسخِه ومنسوخِه إيمانًا إلى إيمانِهم، وهدًى لهم من الضلالِة، وبُشْرَى للمسلمين الذين استسلَموا لأمرِ اللهِ، وانقادوا لأمرِه ونهيِه، وما أنْزَله فى آيِ كتابِه، فأقرُّوا بكلِّ ذلك، وصدَّقوا به قولًا وعملًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد نعلَمُ أن هؤلاء المشركين يقولون، جهلًا منهم: إنما يُعلِّمُ محمدًا هذا الذى يتْلوه بشرٌ مِن بنى آدمَ، وما هو من عندِ اللهِ. يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه مكذِّبَهم فى قيلِهم ذلك: أَلَا تَعْلَمون كذِبَ ما تقولون. إن لسانَ الذى تُلْحِدون إليه. يقولُ: تميلون إليه بأنه يُعَلِّمُ محمدًا، أَعْجَمِيٌّ. وذلك أنهم، فيما ذُكِر، كانوا يزعُمون أن الذى يُعلِّمُ محمدًا هذا القرآن عبدٌ روميٌّ؛ فلذلك قال تعالَى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . يقولُ: وهذا القرآنُ لسانٌ عربيٌّ مبينٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ، على اختلافٍ منهم في اسمِ الذي كان المشركون يزعُمون أنه يُعَلِّمُ محمدًا هذا القرآنَ من البشرِ؛ فقال بعضُهم: كان اسمَه بَلْعامُ، وكان قَيْنًا
(1)
بمكةَ نصرانيًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطَّوسِيُّ، قال: ثنا أبو عامرٍ
(2)
، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ، عن مسلمِ بن عبدِ اللهِ المُلائيِّ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ قَيْنًا بمكةَ، وكان أعجميَّ اللسانِ، وكان اسمَه بَلْعامُ، فكان المشركون يروْن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ يدخُلُ عليه، وحينَ يَخرُجُ مِن عندِه، فقالوا: إنما يُعَلِّمُه بَلْعامُ. فأنْزَل اللهُ تعالى ذكرُه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(3)
.
وقال آخرون: اسمُه يعيشُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن حَبيبٍ، عن عكرمةَ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُ غلامًا لبنى المُغيرةِ أعجميًّا. قال سفيانُ: أُراه يُقالُ له: يَعيشُ. قال: فذلك قولُه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
(1)
القَيْن: العَبْد، والحَدَّاد. القاموس المحيط (ق ى ن).
(2)
في النسخ: "عاصم". والمثبت من تفسير ابن كثير. وينظر الجرح والتعديل 2/ 107، وتهذيب الكمال 2/ 108.
(3)
ذكره البغوى فى تفسيره 5/ 44، ونقله ابن كثير عن المصنف في تفسيره 4/ 523، كما عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 131 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} . وقد قالت قريشٌ: إنما يُعلِّمُه بشرٌ؛ عبدٌ لبنى الحَضْرميِّ يقالُ له: يعيشُ. قال اللهُ تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . وكان يعيشُ يقرَأُ الكُتُبَ
(2)
وقال آخرون: بل كان اسمَه جَبْرٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فيما بَلَغَنى- كثيرًا ما يجلِسُ عندَ المَرْوَةِ إلى
(3)
غلامٍ نَصْرانِيٍّ يُقالُ له: جَبْرٌ. عبدٌ [لبعضِ بني الحَضْرميِّ]
(4)
، فكانوا يقولون: واللهِ ما يُعلِّمُ محمدًا كثيرًا مما يأتى به إلا جبرٌ النصرانيُّ غلامُ
(5)
الحضْرميِّ. فأنزَل اللهُ تعالى فى قولِهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(6)
.
(1)
تفسير الثورى ص 167 عن حبيب به، وعنده:"غلام لبنى عامر بن لؤى أظنه يقال له: يعيش. أو من أهل الكتاب"، وأخرجه المستغفرى فى الصحابة -كما في الإصابة 6/ 689 - من طريق وكيع به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 131 إلى المصنف، وعنده "مقيس".
(2)
عزاه السيوطى 4/ 131 إلى ابن أبي حاتم، وعنده "مقيس".
(3)
بعده في مصدرى التخريج: "مبيعة".
(4)
في النسخ: "عبد لبنى بياضة الحضرمي"، وفي سيرة ابن هشام:"بني الحضرمي". والمثبت من تفسير ابن كثير.
(5)
بعده في السيرة: "بني".
(6)
سيرة ابن هشام 1/ 393، كما ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 523.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ: كانوا يقولون: إنما يُعلِّمُه نصرانيٌّ على المَرْوةِ، ويُعَلِّمُ محمدًا رُوميٌّ، يقولون: اسمُه جَبْرٌ. وكان صاحبَ كُتُبٍ، عبدٌ لابنِ الحضرميِّ. قال اللهُ تعالى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} . قال: وهذا قولُ قريشٍ: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} . قال اللهُ تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(1)
.
وقال آخرون: بل كانا غلامين؛ اسمُ أحدِهما يسارٌ، والآخرِ جَبْرٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: أخبَرنا هُشيمٌ، عن حُصَينٍ، عن عبدِ اللهِ
(2)
بنِ مسلمٍ الحَضْرَميِّ، أنه كان لهم عَبْدان مِن أهلِ [عينِ التَّمْرِ]
(3)
، وكانا صَيْقَلَيْنِ
(4)
، وكان يُقالُ لأحدِهما: يسارٌ. والآخرِ: جبرٌ. فكانا يَقْرآن التوراةَ، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ربما جلَس إليهما، فقال كفارُ قريشٍ: إنما يجلِسُ إليهما يتعلَّمُ منهما. فأنزَل اللهُ تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(5)
.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 4/ 523.
(2)
في تفسير مجاهد: "عبيد"، وفى الشعب:"عبيد الله". وقد اختلف فى اسمه، وينظر الجرح والتعديل 5/ 332، وتهذيب الكمال 19/ 157.
(3)
في النسخ: "عير اليمن". وهو تحريف. والمثبت من تفسير مجاهد، والشعب. وعين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربى الكوفة. معجم البلدان 3/ 759.
(4)
فى م: "طفلين"، وفي تفسير مجاهد:"صقليين"، وفى الإصابة:"صيقليين". والصَّيْقَل: شحَّاذ السيوف وجَلَّاؤها. اللسان (ص ق ل).
(5)
تفسير مجاهد ص 425، 426 - ومن طريقه البيهقى فى الشعب (138) - من طريق ورقاء عن =
حدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا مُعَلَّى
(1)
بنُ أسدٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللهِ، عن حُصينٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسلمٍ الحضرميِّ نحوَه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا ابنُ فُضيلٍ، عن حُصينٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسلمٍ، قال: كان لنا غلامان وكانا يَقْرآن كتابًا لهما بلسانِهما، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ عليهما، فيقومُ يَسْتَمِعُ منهما، فقال المشركون: يتعلَّمُ منهما. فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه ما كذَّبهم به، فقال:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(3)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك سَلْمَانَ الفارسيَّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} . كانوا يقولون: إنما يُعَلِّمُه سَلْمانُ الفارسيُّ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: ثنا أبو حُذيفةَ، قال: ثنا شبلٌ، وحدَّثني المُثَنَّى، قال: أخبَرنا إسحاقُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، عن
= حصين به. كما أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم فى تفسيره، كما في الإصابة 1/ 453 من طريق حصين به.
(1)
فى م، ف:"معن". وينظر تهذيب الكمال 28/ 282.
(2)
أخرجه بحشل فى تاريخ واسط ص 55، 56، 109، 110 من طريق خالد به.
(3)
أخرجه البغوى في "الصحابة" -كما في الإصابة 4/ 419 - من طريق ابن فضيل به، وعنده "عبيد الله ابن مسلم".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 524 وضعف القول لأن الآية مكية وسلمان إنما أسلم بالمدينة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 131 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ورقاءَ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} . قال: قولُ كفارِ قريشٍ: إنما يُعَلِّمُ محمدًا عبدُ ابنِ الحَضْرَميِّ، وهو صاحبُ كتابٍ. يقولُ اللهُ:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
(1)
.
وقيل: إن الذى قال ذلك: رجلٌ كاتِبٌ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ارْتَدَّ عن الإسلامِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرنى يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، قال: أخبرني سعيدُ بنُ المسيبِ أن الذى ذكَر اللهُ: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} إنما افْتَتَن
(2)
؛ أنه كان يَكْتُبُ الوَحْيَ، فكان يُمْلِى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سميعٌ عليمٌ" أو "عزيزٌ حكيمٌ"، وغيرَ ذلك مِن خواتِمِ الآيِ، ثم يَشْتَغِلُ عنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو على الوَحْيِ، فيَسْتَفْهِمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيقولُ:"عزيزٌ حكيمٌ" أو "سميعٌ عليمٌ" أو "عزيزٌ عليمٌ"؟ فيقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أيَّ ذلك كَتَبْتَ فهو كذلك". ففَتَنَه ذلك، فقال: إن محمدًا يَكِلُ ذلك إليَّ، فأكْتُبُ ما شئتُ. وهو الذي ذكَر لي سعيدُ ابنُ المسيبِ مِن الحروفِ السبعةِ
(3)
.
واخْتَلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} ؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} بضمِ الياءِ
(4)
، من: أَلْحَد يُلْحِدُ
(1)
تفسير مجاهد ص 426 من طريق ورقاء به، وأخرجه البيهقى فى شعب الإيمان 1/ 159 (136) من طريق ورقاء به.
(2)
قال ابن شميل: يقال: افْتَتَنَ الرجلُ وافْتُتِنَ، لغتان. وهذا صحيح. تهذيب اللغة (ف ت ن).
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 131 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر. السبعة في القراءات ص 375.
إلْحادًا. بمعنى: يَعْتَرِضون، ويَعدِلون إليه، ويُعَرِّجون إليه، مِن قولِ الشاعرِ
(1)
:
قَدْنِيَ
(2)
مِن نصرِ الخُبَيْبَيْنِ
(3)
قَدِى
ليس أَميرى بالشَّحِيحِ المُلْحِدِ
وقرأ ذلك عامَّةُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ: (لسانُ الذي يَلْحَدُونَ إليه) بفتحِ الياءِ
(4)
، يعنى: يَميلون إليه، من لحَد فلانٌ إلى هذا الأمرِ، يَلْحَد لحدًا ولُحُودًا. وهما عندى لغتان بمعنًى واحدٍ، فبأَيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ فيهما الصوابَ.
وقيل: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . يعنى القرآنَ، كما تقولُ العربُ لقصيدةٍ من الشعرِ [لسِن فيها]
(5)
الشاعرُ: هذا لسانُ فلانٍ. تُرِيدُ قصيدتَه، كما قال الشاعرُ
(6)
:
لِسانُ السُّوءِ تُهْديها إلينا
…
[وحِنْتَ وما حَسِبْتُك أن تَحِينا]
(7)
يعني باللسانِ: القصيدةَ والكلمةَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ
(1)
كتاب سيبويه 2/ 371 غير منسوبين، وشرح المفصل 3/ 124 منسوبين فيه لأبي بحدلة، وخزانة الأدب 5/ 382 منسوبين لحميد الأرقط، وكذا نسبهما في اللسان (ق د د)، (خ ب ب)، أما في (ل د ن) فلم ينسبهما، وفى (ل ح د) نسبهما لحميد بن ثور ولم نجدهما في ديوانه.
(2)
قدني وقدى: حَسْبِي.
(3)
أراد بالخبيبين عبد الله بن الزبير وأخاه مصعبًا، وقيل: الخبيبان عبد الله بن الزبير وابنه. اللسان (خ ب ب)، (ق د د).
(4)
هي قراءة حمزة والكسائي. السبعة فى القراءات ص 375.
(5)
فى م: "يعرضها"، وفى ت 1، ت 2، ف:"ليس فيها".
(6)
مغنى اللبيب 1/ 156، الدرر اللوامع 1/ 51، 138، غير منسوب فيهما.
(7)
في ت 1، والدرر اللوامع:"وجئت وما حسبتك أن تجينا". والمثبت موافق لما فى مغني اللبيب. وكل شيء لم يُوَفَّق للرشاد فقد حان. يقال: حان يَحِين حَيْنًا. اللسان (ح ى ن).
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بحُجَجِ اللهِ وأدلتِه، فيصدِّقون بما دلَّت عليه، {لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}. يقولُ: لا يُوَفِّقُهم الله لإصابةِ الحقِّ، ولا يُسَدِّدُهم
(1)
لسبيلِ الرُّشدِ في الدنيا، ولهم في الآخرةِ وعيدُ
(2)
اللهِ إِذا ورَدوا عليه يومَ القيامةِ عذابٌ مؤلمٌ موجعٌ.
ثم أخبَر تعالى ذكرُه المشركين الذين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مُفْتَرٍ. أنهم هم أهلُ الفِرْيةِ والكَذِبِ، لا نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به، وبرَّأَ من ذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، فقال: إنما يَتَخَرَّصُ الكَذِبَ، ويَتقوَّلُ الباطلَ الذين لا يُصدِّقون بحُجَجِ اللهِ وإعلامِه؛ لأنهم لا يَرْجُون على الصدقِ ثوابًا، ولا يخافون على الكذبِ عقابًا، فهم أهلُ الإفْكِ وافتراءِ الكذبِ، لا مَن كان راجيًا مِن اللهِ على الصدقِ الثوابَ الجزيلَ، وخائفًا على الكذبِ العقابَ الأليمَ.
وقولُه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . يقولُ: والذين لا يؤمنون بآياتِ اللهِ هم أهلُ الكذبِ، لا المؤمنون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} .
اخْتَلَف أهلُ العربيةِ فى العاملِ فى "مَنْ" مِن قولِه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} ، ومِن قولِه:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} ؛ فقال بعضُ نَحْوِيِّى البصرةِ: صار
(1)
فى م، ت 1، ت 2، ف:"يهديهم".
(2)
في م: "عند".
قولُه: {فَعَلَيْهِمْ} خبرًا لقولِه: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} وقولِه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ، فأخبَرهم
(1)
بخبرٍ واحدٍ، وكان ذلك يدُلُّ على المعنى.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: إنما هذان جَزاءانِ اجْتَمَعا، أحدُهما منعَقِدٌ بالآخرِ، فجوابُهما واحدٌ، كقولِ القائلِ: مَن يَأْتِنَا، فَمَنْ يُحْسِنْ نُكْرِمْه. بمعنى: مَن يُحْسِنْ مِمَّنْ يَأْتِنا نُكْرِمْه. قال: وكذلك كلُّ جَزَاءَيْن اجْتَمَعا، الثاني مُنْعَقِدٌ بالأوَّلِ، فالجوابُ لهما واحدٌ.
وقال آخرُ مِن أهلِ البصرةِ: بل
(2)
قولُه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} مرفوعٌ بالرَّدِّ
(3)
على "الَّذِين"
(4)
فى قولِه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} . ومعنى الكلامِ عندَه: إنما يَفْتَرِى الكذبَ مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بعدِ إِيمَانِهِ، إِلا مَن أُكرِه مِن هؤلاء وقلبُه مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ. وهذا قولٌ لا وجهَ له؛ وذلك أن معنى الكلامِ لو كان كما قال قائلُ هذا القولِ، لكان اللهُ تعالى ذكرُه قد أخرَج مِمَّن
(5)
افترَى الكذبَ في هذه الآيةِ، الذين وُلِدوا على الكفرِ وأقاموا عليه، ولم يؤمنوا قَطُّ، وخصَّ به الذين قد كانوا آمنوا فى حالٍ، ثم راجَعوا الكفرَ بعد الإيمانِ. والتنزيلُ يدُلُّ على أنه لم يُخَصِّصْ بذلك هؤلاء دونَ سائرِ المشركين الذين كانوا على الشركِ مُقيمين؛ وذلك أنه تعالى ذكرُه أخبر خبرَ قومٍ منهم أضافوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم افتراءَ الكذبِ، فقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا
(1)
في م: "فأخبر لهم".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
(3)
في ص، ت 2، ف:"بالدال"، وفى ت 1:"للدال".
(4)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"الذى".
(5)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، وكذَّب جميعَ المشركين بافترائِهم على اللهِ، وأخبَر أنهم أحقُّ بهذه الصفةِ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . ولو كان الذين عُنُوا بهذه الآيةِ هم الذين كفَروا باللهِ من بعدِ إيمانِهم، وجَب أن يكونَ القائلون لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مُفترٍ. حينَ بدَّل
(1)
اللهُ آيةً مكانَ آيةٍ، كانوا هم الذين كفروا باللهِ بعد الإيمانِ خاصةً، دونَ غيرِهم من سائرِ المشركين؛ لأن هذه في سياقِ الخبرِ عنهم، وذلك قولٌ إن قاله قائلٌ، فبيِّنٌ فسادُه، مع خروجِه عن
(2)
تأويلِ جميعِ أهلِ العلمِ بالتأويلِ.
والصوابُ من القولِ فى ذلك عندى: أن الرافعَ
(3)
لـ "مَن" الأولى والثانيةِ، قولُه:{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} ، والعربُ تفْعَلُ ذلك في حروفِ الجزاءِ، إذا اسْتَأْنَفَتْ أحدَهما على الآخرِ.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت في عمارِ بنِ ياسرٍ، وقومٍ كانوا أسلَموا، ففَتَنَهم المشركون عن دينِهم، فثبت على الإسلامِ بعضُهم، وافْتَتَنَ بعضٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} إلى آخرِ الآيةِ، وذلك أن المشركين أصابوا عمارَ بنَ ياسرٍ
(1)
فى ت 1، ت 2، ف:"نزل".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"الرفع".
فعذَّبوه، ثم ترَكُوه فرجَع إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحدَّثه بالذى لَقِى مِن قريشٍ والذى قال، فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه عُذْرَه:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قولِه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . قال: ذُكِر لنا أنَّها نزَلت في عمارِ بنِ ياسرٍ، أخَذه بنو المغيرةِ، فغَطُّوه في بئرِ ميمونٍ
(2)
، وقالوا: اكفُرْ بمحمدٍ. فتابَعَهم على ذلك وقلبُه كارهٌ، فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه:{إِلَّا} ؛ أي: مَن أتَى الكفرَ على اختيارٍ واسْتِحبابٍ، {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن [عبدِ الكريمِ]
(4)
الجَزَرِيِّ، عن أبى عُبيدةَ بنِ محمدِ بنِ
(5)
عمارِ بنِ ياسرٍ، قال: أخَذ المشركون عمارَ بنَ ياسرٍ، فعذَّبوه حتى باراهم
(6)
في بعضِ ما أرادوا، فشكَا ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كيف تجِدُ قلبَك؟ ". قال: مطمئنًّا بالإيمانِ. قال النبيُّ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 525، والحافظ في الفتح 12/ 312.
(2)
بئر ميمون: بئر بمكة. ينظر معجم البلدان 4/ 719.
(3)
ذكره البغوى فى تفسيره 5/ 46 مطولا، وينظر تفسير ابن كثير 4/ 525، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 132 إلى ابن عساكر.
(4)
في ف: "عبد الله". وعبد الكريم هو ابن مالك الجزرى أبو سعيد الحراني مولى عثمان بن عفان. ينظر تهذيب الكمال 18/ 252.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عن". وهو خطأ وينظر مصادر التخريج الآتية.
(6)
في ص: "باريهم"، وفى ت 1:"بارهم"، وفى ت 2:"باربهم"، وفى ف:"باريهم"، وفى تفسير عبد الرزاق وتفسير ابن كثير وفتح البارى:"قاربهم"، وعند إسحاق بن راهويه -كما في المطالب العالية-:"قاربوه"، وهما يتباريان: إذا صنع كلُّ واحدٍ مثل ما صنع صاحبه. اللسان (ب ر ى).
صلى الله عليه وسلم: "فإن عادوا فعُدْ"
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن حُصينٍ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . قال: نزَلَتْ في عمارِ بنِ ياسرٍ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن الشَّعْبِيِّ، قال: لما عُذِّب الأعْبُدُ أعْطَوْهم ما سأَلُوا إلا خَبَّابَ بنَ الأَرَتِّ، كانوا يُضْجِعونه على الرَّضْفِ
(3)
، فلم يَسْتَقِلُّوا
(4)
منه شيئًا
(5)
.
فتأويلُ الكلامِ إذن: مَن كفَر باللهِ مِن بعدِ إيمانِه، إلا مَن أُكْرِه على الكفرِ فنطَق بكلمةِ الكفرِ بلسانهِ وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمانِ، موقِنٌ بحقيقتِه، صحيحٌ عليه عزمُه، غيرُ مَفْسوحِ الصدرِ بالكفرِ، لكنْ مَن شرَح بالكفرِ صدرًا فاخْتاره وآثرَه على الإيمانِ، وباح به طائعًا، فعليهم غضبٌ مِن اللهِ، ولهم عذابٌ عظيمٌ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 1/ 360، وعنه إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (3189) -وعبد بن حميد- كما في الفتح 12/ 312 - عن معمر به. وأخرجه ابن سعد 3/ 249، والحاكم 2/ 357، وأبو نعيم في الحلية 1/ 140 من طريق عبد الكريم به وقال الحافظ في الفتح: مرسل، رجاله ثقات. وأخرجه البيهقى 8/ 208، 209 من طريق عبد الكريم عن أبي عبيدة عن أبيه. قال الحافظ: وهو مرسل أيضًا.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 132 إلى المصنف وابن أبى شيبة وابن المنذر. وينظر تفسير ابن كثير 4/ 525.
(3)
الرضف: الحجارة التي حَمِيَتْ بالشمس أو النار، واحدتُها رَضْفَة. اللسان (ر ض ف).
(4)
في حلية الأولياء: "يسبعنوا" كذا بغير نقط. ولم يستقلوا: أى لم يبلغوا منه أقلَّ شيء من مرادهم. ينظر اللسان (ق ل ل).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 49 عن جرير به نحوه، وأخرجه الطبراني في الكبير (3694)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 144 من طريق مغيرة به.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك وَرَد الخبرُ عن ابنِ عباسٍ.
حدَّثنى عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . فَأَخبَر اللهُ سبحانه أنه مَن كفَر من بعدِ إيمانِه، فعليه غضبٌ مِن اللهِ، وله عذابٌ عظيمٌ، فأما مَن أُكْرِه فتكلَّمَ به بلسانِه
(1)
، وخالَفَه قلبُه بالإيمانِ؛ لينجوَ بذلك مِن عدوِّه، فلا حرجَ عليه؛ لأن اللهَ سبحانه إنما يأخُذُ العبادَ بما عَقَدتْ عليه قلوبُهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: حَلَّ بهؤلاء المشركين غضبُ اللهِ، ووجَبَ لهم العذابُ العظيمُ؛ مِن أجلِ أنهم اخْتاروا زينةَ الحياةِ الدنيا على نعيمِ الآخرةِ؛ ولأن اللهَ لا يُوَفِّقُ القومَ الذين يَجْحَدون آياته مع إصرارِهم على جحودِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء المشركون الذين وصفتُ لكم صِفتَهم في هذه الآياتِ، أيها الناسُ، هم القومُ الذين طبَع اللهُ على قلوبِهم، فختَم عليها بطابَعِه، فلا يؤمنون ولا يَهْتدون، وأصَمَّ أسماعَهم، فلا يَسْمعون داعيَ اللهِ إلى الهُدَى،
(1)
فى م، ت 1، ت 2، ف:"لسانه".
(2)
أخرجه البيهقى 8/ 209 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 132 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأعْمَى أبصارَهم، فلا يُبْصِرون بها حُججَ اللهِ إبصارَ مُعْتَبِرٍ ومُتَّعِظٍ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. يقولُ: وهؤلاء الذين جعَل اللهُ فيهم هذه الأفعالَ هم الساهون عما أعدَّ اللهُ لأمثالِهم من أهل الكفرِ، وعما يُرادُ بهم.
وقولُه: [{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: الهالكون]
(1)
، الذين غَبَنُوا أنفسهم حُظُوظَها من كرامةِ اللهِ تعالى ذكرُه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ثم إن ربَّك يا محمدُ للذين هاجَروا مِن
(2)
ديارِهم ومساكنِهم وعشائرِهم من المشركين وانْتَقَلوا عنهم إلى ديارِ أهلِ الإسلامِ ومساكنِهم وأهلِ وَلايتِهم، مِن بعدِ ما فَتَنَهم المشركون الذين كانوا بينَ أظْهُرِهم -قبلَ هجرتِهم- عن دينِهم، ثم جاهدوا المشركين بعدَ ذلك بأيديهم بالسيفِ، وبألسنتِهم بالبراءةِ منهم، ومما يَعْبُدون مِن دونِ اللهِ، وصبَروا على جهادِهم. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. يقولُ: إن ربَّكَ مِن بعدِ فِعْلَتِهم هذه لهم {لَغَفُورٌ} . يقولُ: لذو سَتْرٍ على ما كان منهم مِن إعطاءِ المشركين ما أرادوا منهم؛ مِن كلمةِ الكفرِ بألسنتِهم، وهم لغيرِها مُضْمِرون، وللإيمانِ مُعْتَقِدون. {رَحِيمٌ} بهم أن يُعاقِبهم عليها مع إنابتِهم إلى اللهِ وتوبتِهم.
وذُكِر عن بعضِ أهلِ التأويلِ أن هذه الآيةَ نزَلتْ في قومٍ مِن أصحابِ
(1)
فى ص: "لا جرم لابد أنهم فى الآخرة هم الهالكون".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كانوا تَخَلَّفُوا
(1)
بمكةَ بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاشْتَدَّ المشركون عليهم، حتى فتَنوهم عن دينِهم، فأَيِسوا مِن التوبةِ، فأنزَل اللهُ فيهم هذه الآية، فهاجَروا ولَحِقوا برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. قال: ناسٌ مِن أهلِ مكةَ آمنوا، فكتَب إليهم بعضُ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ: أن هاجِروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا. فخرَجوا يريدون المدينةَ، فأدرَكَتْهم قريشٌ بالطريقِ ففتَنوهم، وكفَروا مُكْرَهين، ففيهم نزَلت هذه الآيةُ
(2)
.
حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
قال ابنُ جريجٍ: قال اللهُ تعالى ذكرُه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ، ثم نسَخ واسْتَثْنَى فقال:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"خلفوا".
(2)
تفسير مجاهد ص 426 من طريق ورقاء به، وذكره البغوى في تفسيره 5/ 46، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 132 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . ذُكِر لنا أنه لما أَنْزَل اللهُ أن أهلَ مكةَ لا يُقبَلُ منهم إسلامٌ حتى يُهاجروا، كتَب بها أهلُ المدينةِ إلى أصحابِهم مِن أهلِ مكةَ، فلما جاءَهم ذلك تبايعوا بينَهم على أن يَخْرُجوا، فإن لَحِق بهم المشركون مِن أهلِ مكةَ، قاتَلوهم حتى يَنْجُوا أو يَلْحَقوا باللهِ، فخرَجوا فأدرَكهم المشركون، فقاتَلوهم؛ فمنهم مَن قُتِل، ومنهم مَن نَجا، فأَنْزَل اللهُ تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الآية
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ منصورٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ شريكٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان قومٌ مِن أهلِ مكةَ أسلَموا، وكانوا يَسْتَخْفُون بالإسلامِ، فأَخْرَجهم المشركون يومَ بدرٍ معهم، فأُصيب بعضُهم، وقُتِل بعضٌ، فقال المسلمون: كان أصحابُنا هؤلاء مسلمين، وأُكرِهوا، فاسْتَغْفِروا لهم. فنزَلت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآيةِ [النساء: 97]. قال: وكُتِب إلى مَن بَقِى بمكةَ من المسلمين هذه الآيةُ؛ لا عذرَ لهم. قال: فخرَجوا فلَحِقَهم المشركون، فأعْطَوْهم الفتنةَ، فنزَلت هذه الآيةُ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخر الآية [العنكبوت: 10]. فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرَجوا وأَيِسوا مِن كلِّ خيرٍ، ثم نزَلت فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . فكتَبوا إليهم بذلك: إن اللهَ قد جعَل لكم مَخْرَجًا. فخرَجوا،
(1)
ذكره الواحدى فى أسباب النزول ص 213، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 133 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
فأدرَكهم المشركون فقاتَلوهم، حتى
(1)
نَجا من نَجا، وقُتِل مَن قُتِل
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: نزَلت هذه الآيةُ في عمَّار بنِ ياسرٍ، وعَيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ، [والوليدِ بن أبي رَبيعةَ]
(3)
، والوليدِ بنِ الوليدِ:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا}
(4)
.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيةُ في شأنِ ابنِ أبى سَرْحٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسينِ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ والحسنِ البصريِّ، قالا في سورةِ النحلِ:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، ثم نسَخ واسْتَثْنَى مِن ذلك فقال:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} : وهو عبدُ اللهِ [بنُ سعدِ]
(5)
بن أبي سَرْحٍ، الذى كان يكتُبُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأزَلَّه
(6)
الشيطانُ، فلَحِق بالكفارِ،
(1)
فى م: "ثم".
(2)
تقدم تخريجه في 7/ 381، 382.
(3)
سقط من: ص، م.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 540، دون ذكر الوليد بن أبي ربيعة، وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 133، وعزاه إلى المصنف، وتحرف عنده "ابن إسحاق" إلى "أبي إسحاق".
(5)
ليس فى: م، ت 1، ت 2، ف. وينظر أسد الغابة 3/ 259، والإصابة 4/ 109.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فزله". وأزله: حمله على الزلل. ينظر اللسان (ز ل ل).
فأمَر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُقتَلَ يومَ فتحِ مكةَ، فاستجار له أبو عَمرٍو
(1)
، فأجاره النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} تُخاصِمُ عن نفسِها وتَحْتَجُّ عنها، بما أَسْلَفَتْ في الدُّنيا مِن خيرٍ أو شرٍّ، أو إيمانٍ أو كفرٍ، {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} في الدنيا مِن طاعةٍ ومعصيةٍ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. يقولُ: وهم لا يُفْعَلُ بهم إلا ما يَسْتَحِقُونه ويَسْتَوْجِبونه، بما قَدَّموه من خيرٍ أو شرٍّ، فلا يُجزَى المحسنُ إلا بالإحسانِ، ولا المسئُ إلا بالذى أسْلَف مِن الإساءةِ، لا يُعاقَبُ محسنٌ، ولا يُبخَسُ جزاءَ إحسانِه، ولا يُثابُ مسيءٌ إلا ثوابَ عملِه.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ فى السببِ الذى من أجلِه قيل: {تُجَادِلُ} ، فَأَنَّث الكُلَّ.
فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: قيل ذلك لأن معني {كُلُّ نَفْسٍ} : كلُّ
(1)
هو عثمان بن عفان، كما في ترجمته فى الاستيعاب 3/ 1037، وأسد الغابة 3/ 584.
(2)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 132، 133 إلى المصنف، ووقع في مطبوعة الدر:"فاستجار له أبو بكر وعمر وعثمان بن عفان" وقد جاء على الصواب فى مخطوطة مكتبة المحمودية بالمملكة العربية السعودية. وهو تحريف من "أبو عمرو عثمان بن عفان" إلى ما ذكرناه، وجاء ذلك في الأثر الذى رواه أبو داود (2683، 4359)، والنسائى (4078) وغيرهما، من طريق مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، في قصة من أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم يوم فتح مكة، وأيضا فيما رواه أبو داود (4358)، والنسائي (4080) من طريق يزيد النحوى عن عكرمة عن ابن عباس بنحو أثر المصنف هنا، وما ذكره ابن حجر في ترجمة ابن أبي سرح في الإصابة 4/ 109، 110.
إنسانٍ. وأنَّث لأن النفسَ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، يُقالُ: ما جاءَنى نفسٌ واحدٌ وواحدةٌ. وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يرَى هذا القولَ من قائلِه غلطًا، ويقولُ:"كلُّ" إذا أُضِيفَتْ إلى نكرةٍ واحدةٍ خرَج الفعلُ على قَدْرِ النكرة؛ كلُّ امرأةٍ قائمةٌ، وكلُّ رجلٍ قائمٌ، وكلُّ امرأتَيْن قائمتانِ، وكلُّ رجلَيْن قائمان، وكلُّ نساءٍ قائماتٌ، وكلُّ رجالٍ قائمون. فيَخْرُجُ على عددِ النكرةِ وتأنيثِها وتذكيرِها، ولا حاجةَ به إلى تأنيثِ النَّفْسِ وتذكيرِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} .
يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه: ومثَّل اللهُ مثَلًا لمكةَ التي سُكَّانُها أهلُ الشركِ باللهِ، هى القريةُ التى كانت آمنةً مطمئنةً، وكان أمْنُها أن العربَ كانت تَتَعادَى، ويَقْتُلُ بعضُها بعضًا، ويَسْبِى بعضُها بعضًا، وأهلُ مكةَ لا يُغَارُ عليهم، ولا يُحارَبون في بلدِهم، فذلك كان أمْنُها. وقولُه:{مُطْمَئِنَّةً} . يَعْنى قارَّةً بأهلِها، لا يَحْتاجُ أهلُها إلى النُّجَعِ
(1)
، كما كان سكانُ البوادِى يَحتاجون إليها، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا}. يقولُ: تأتى أهلَها معايشُهم واسعةً كثيرةً. وقولُه: {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} . يعنى: من كلِّ فَجٍّ من فِجاجِ هذه القريةِ، ومن كلِّ ناحيةٍ فيها.
وبنحوِ الذي قلنا في أن القريةَ التي ذُكِرت في هذا الموضعِ، أُرِيد بها مكةُ، قال أهلُ التأويلِ.
(1)
النُّجَع: جمع النُّجعة. والنجعة عند العرب: المَذْهب في طلب الكلأ في موضعه. ينظر اللسان وتاج العروس (ن ج ع).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} : يعنى مكةَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عنِ ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجاهدٍ:{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} . قال: مكةَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} . قال: ذُكِر لنا أنها مكةُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} . قال: هي مكةُ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} إلى آخرِ الآيةِ، قال: هذه مكةُ
(4)
.
وقال آخرون: بل القريةُ التي ذكَر اللهُ فى هذا الموضعِ: مدينةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 133 إلى المصنف.
(2)
تفسير مجاهد ص 426 من طريق ورقاء به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 133 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق 1/ 360 عن معمر به.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 542، وابن كثير في تفسيره 4/ 528.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني [ابنُ عبدِ الرحيمِ]
(1)
البَرْقيُّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: أخبرَنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ شُرَيْحٍ، أن عبدَ الكريمِ بنَ الحارثِ الحَضْرَميَّ، حدَّثه
(2)
أنه سمِع مِشْرَحَ بن هاعانَ
(3)
يقولُ: سمعتُ [سُلَيْمَ بنَ عِتْرٍ]
(4)
يَقولُ: صَدَرْنا من الحجِّ مع حفصةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعثمانُ محصورٌ بالمدينةِ، فكانت تسألُ عنه: ما فعَل؟ حتى رأتْ راكِبَيْن، فأرسَلَتْ إليهما تسأَلُهما، فقالا: قُتِل. فقالت حفصةُ: والذي نفسي بيدِه إنها القريةُ -تعنى المدينةَ- التى قال اللهُ تعالى ذكرُه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} . قرَأها، قال أبو شُريحٍ
(5)
: [وأخبرَني]
(6)
[عُبيدُ اللهِ]
(7)
بنُ
(1)
في ص، ت 2، ف:"أبو عبد الرحيم"، وفى ت 1:"أبو عبد الرحمن". وهو محمد بن عبد الله ابن عبد الرحيم المصرى أبو عبد الله ابن البرقى. ينظر تهذيب الكمال 25/ 503، 26/ 8.
(2)
في م، ت 1، ف:"حدث"، وفى ت 2:"حدثنا". والمثبت من ص موافق لما في تفسير ابن كثير.
(3)
في م: "عاهان". وهو مشرح بن هاعان المَعَافرى أبو المُصْعَب المصرى. ترجمته في تهذيب الكمال 28/ 7.
(4)
فى م: "سليم بن نمير"، وهو تحريف وفى ص، ت 1، ت 2، ف:"سليمان بن عتر" وهو خطأ. والمثبت من تفسير ابن كثير، وينظر تهذيب الكمال 28/ 7، وتبصير المنتبه 3/ 975.
(5)
أبو شريح هو عبد الرحمن بن شريح الراوى عن عبد الكريم الحارث. ينظر تهذيب الكمال 17/ 167.
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(7)
فى النسخ: "عبد الله". والمثبت من تفسير ابن كثير، وهو الصواب، كما في تهذيب الكمال 17/ 168، 19/ 161. وقال الحافظ المزى ضِمْن ترجمة عبيد الله هذا وبعد أن ساق بإسناده حديثا من طريق "عبيد الله". ولكن وقع فيه "عبد الله": كذا وقع في هذه الرواية، عن عبد الله بن المغيرة، والمحفوظ: عن عبيد الله بن المغيرة. انتهى. تهذيب الكمال 19/ 162، 163.
المغيرةِ عمن حدَّثه، أنه كان يقولُ: إنها المدينةُ
(1)
.
وقولُه: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} . يقولُ: فكفَر أهلُ هذه القريةِ بأنْعُمِ اللهِ التي أنْعَم عليها.
واختلَف أهلُ العربيةِ في واحدِ "الأَنْعُمِ". فقال بعضُ نَحويِّى البصرةِ: جمعُ النِّعْمَةِ على أَنْعُمٍ، كما قال اللهُ:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15]. فزعَم أنه جمعُ الشِّدَّةِ. وقال آخرُ منهم: الواحدُ نُعْمٌ. وقال: يقالُ: أيامُ طُعْمٍ ونُعْمٍ. أى: نعيمٍ. قال: فيجوزُ أن يكونَ معناها: فكفَرَتْ بنعيمِ اللهِ لها
(2)
. واستشهَد على ذلك بقولِ الشاعرِ
(3)
:
وعندى قُرُوضُ
(4)
الخيرِ والشَّرِّ كلِّه
…
فبُؤْسٌ [بذى بُؤْسٍ]
(5)
ونُعْمٌ
(6)
بِأَنْعُمِ
وكان بعضُ أهلِ الكوفةِ يقولُ: "أَنْعُم" جمعُ نَعْماءَ، مثلُ بَأْسَاءَ وأَبْؤُسٍ، وضَرَّاءَ وأَضُرٍّ. فأما الأشُدُّ فإنه زعَم أنه جمعُ شَدٍّ.
وقولُه: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأذاق اللهُ أهلَ هذه القريةِ لباسَ الجوعِ، وذلك جوعٌ خالَط أذاه أجسامَهم، فجعَل اللهُ تعالى ذكرُه ذلك لمخالطتِه أجسامَهم بمنزلةِ اللباسِ لها؛ وذلك أنهم سُلِّط عليهم
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 5/ 542 مختصرا بلفظ: "وعن حفصة أنها المدينة"، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 528 نقلا عن المصنف، وذكره السيوطى فى الدر المنثور 4/ 133، 134 بنحوه وعزاه إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر مجاز القرآن 1/ 369، والتبيان 6/ 432، 433.
(3)
البيت في التبيان 6/ 433 غير منسوب.
(4)
فى ت 1، ت 2، ف:"فروض".
(5)
فى م: "لذى بؤس"، وفى ت 2:"لدى بؤس"، وفى التبيان:"لدى بؤسى".
(6)
في التبيان: "نعمي".
الجوعُ سنينَ متواليةً، بدعاءِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حتى أكلَوا العِلْهِزَ والجيَفَ.
قال أبو جعفرٍ: والعِلْهِزُ: الوَبَرُ يُعْجَنُ بالدمِ والقُرادِ يَأْكُلونه. وأما الخوفُ فإن ذلك كان
(1)
خوفَهم مِن سَرايا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التى كانت تُطِيفُ
(2)
بهم.
وقولُه: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} . يقولُ: بما كانوا يَصْنَعون من الكفرِ بأَنعُمِ اللهِ، ويَجْحَدون آياتِه، ويُكَذِّبون رسولَه. وقال:{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، وقد جرَى الكلامُ مِن ابتداءِ الآيةِ إلى هذا الموضعِ على
(3)
وجهِ الخبرِ عن القرية؛ لأن الخبرَ وإن كان جرَى في الكلامِ عن القريةِ اسْتِغْناءً بذكرِها عن ذكرِ أهلِها؛ لمعرفةِ السامعين بالمرادِ منها، فإن المرادَ أهلُها، فلذلك قيل:{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} . فردَّ الخبرَ إلى أهلِ القريةِ، وذلك نظيرُ قولِه:{فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]. ولم يَقُلْ: "قائلة". وقد قال قبلَه: {فَإِذَا هُوَ} ؛ لأنه رجَع بالخبرِ إلى الإخبارِ عن أهلِ القريةِ. ونظائرُ ذلك في القرآنِ كثيرةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد جاء أهلَ هذه القريةِ التي وصَف اللهُ صِفتَها في هذه الآيةِ التي قبلَ هذه الآيةِ، {رَسُولٌ مِنْهُمْ}. يقولُ: رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. يقولُ: مِن أَنْفُسِهم يَعْرِفونه، ويعرِفون نسبَه وصدْقَ لَهْجَتِه، يدعُوهم إلى الحقِّ، وإلى طريقِ مستقيمٍ، {فَكَذَّبُوهُ} ولم يَقْبَلوا منه ما جاءَهم به مِن عندِ اللهِ {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} . وذلك لباسُ الجوعِ والخوفِ، مكانَ الأمنِ والطُّمَأْنِينةِ والرزقِ الواسعِ
(1)
ليست في: ت 1، ت 2، ف.
(2)
أطاف فلان بالأمر: إذا أحاط به وعليه. اللسان (ط و ف).
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
الذي كان قبلَ ذلك يُرْزَقُونه، وقتلٌ بالسيفِ، {وَهُمْ ظَالِمُونَ}. يقولُ: وهم مشركون. وذلك أنه قُتِل عظماؤُهم يومَ بدرٍ بالسيفِ على الشركِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ} : إى واللهِ، يَعرِفون نسبَه وأمرَه، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} . فَأَخَذهم اللهُ بالجوعِ والخوفِ والقتلِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {فَكُلُوا} أيها الناسُ {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ؛ مِن بهائمِ الأنعامِ التى أحلَّها لكم {حَلَالًا طَيِّبًا} مُذكَّاةً غيرَ محرَّمةٍ عليكم. {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} . يقولُ: واشكُروا اللهَ على نعَمِه التي أنعَم بها عليكم في تحليلِه ما أحلَّ لكم من ذلك، وعلى غيرِ ذلك من نعمِه، {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. يقولُ: إن كنتم تَعْبُدون اللهَ، فتُطيعونه فيما يأمُرُكم وينهاكم.
وكان بعضُهم يقولُ: إنما عَنَى بقولِه: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} : طعامًا كان بعَث به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المشركين مِن قومِه في سِنِي الجَدْبِ والقَحْطِ رِقَّةً عليهم، فقال اللهُ تعالى للمشركين:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} : من هذا الذى بعَث به إليكم، {حَلَالًا طَيِّبًا} . وذلك تأويلٌ بعيدٌ مما يدُلُّ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 133 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
عليه ظاهرُ التنزيلِ؛ وذلك أن اللهَ تعالى ذكرُه: قد أَتْبَعَ ذلك بقولِه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية والتى بعدَها، فبيَّن بذلك أن قولَه:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} . إعلامٌ مِن اللهِ عبادَه أن ما كان المشركون يُحرِّمونه من البَحَائِرِ والسَّوَائِبِ والوَصائِلِ وغيرِ ذلك -مما قد بيَّنا قبلُ فيما مضَى- لا معنى له؛ إذ كان ذلك مِن خُطُواتِ الشيطانِ، فإن كلَّ ذلك حلالٌ، لم يُحَرِّم اللهُ منه شيئًا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مكذِّبًا المشركين الذين كانوا يُحَرِّمون [ما ذَكَرْنا]
(2)
مِن البَحَائِرِ وغيرِ ذلك: ما حرَّم اللهُ عليكم، أيها الناسُ، إلا الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزيرِ. وما ذُبِح للأَنْصابِ فسُمِّيَ عليه غيرُ اللهِ؛ لأن ذلك مِن ذبائحِ مَن لا يَحِلُّ أَكْلُ ذبيحتِه، فمن اضْطُرَّ إلى ذلك أو إلى شيءٍ منه، لمجاعةٍ حلَّت، فأكَله {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. يقولُ: ذو سَتْرٍ عليه أن يُؤاخِذَه بأكْلِه ذلك في حالِ الضرورةِ، رحيمٌ به أن يُعاقبَه عليه.
وقد بيَّنَّا اختلافَ المُخْتَلِفِين في قولِه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} . والصوابَ عندَنا مِن القولِ فى ذلك، بشواهدِه فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {إِنَّمَا حَرَّمَ
(1)
تقدم في 9/ 31 - 39.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(3)
تقدم فى 3/ 58 - 63.
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية. قال
(1)
: وإن الإسلامَ دينٌ مُطَهِّرُهُ اللهُ مِن كلِّ سُوءٍ، وجعَل لك فيه يا بنَ آدمَ سَعَةً إِذا اضْطُرِرْتَ إلى شيءٍ من ذلك. قولُه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} : غيرَ باغٍ فى أكلِه، ولا عادٍ أن يَتَعَدَّى حلالًا إلى حرامٍ، وهو يجِدُ عنه مَنْدُوحَةً
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} .
اختلفت القرأةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامَّةُ قرأةِ الحجازِ والعراقِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} . فيكونُ "تصفُ الكذبَ" بمعنى: ولا تقولوا لوصْفِ ألسنتِكم الكَذِبَ. فيكونُ "ما" بمعنى المصدرِ.
وذُكِر عن الحسنِ البصريِّ أنه قرَأ: (ولَا تقولُوا لما تصِفُ ألْسِنَتُكم الكَذِبِ هذا). بخفضِ "الكذبِ"
(3)
، بمعنى: ولا تقولوا للكذبِ الذى تَصِفُه ألسنتُكم: هَذَا حَلالٌ وهذَا حَرَامٌ. فيجعَلُ "الكذبَ" ترجمةً عن "ما" التي في {لِمَا} فيَخْفِضُه بما يَخْفِضُ به "ما".
وقد حُكِى عن بعضِهم: (لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكُذُبُ). برفعِ "الكُذُبِ"
(4)
، فيجعَلُ "الكُذُبَ" من صفةِ الألسنةِ، ويُخَرَّجُ
(5)
على "فُعُلٍ"،
(1)
زيادة من: م والدر المنثور.
(2)
تقدم تخريج قوله: {فمن اضطر. . .} فى 3/ 61. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
وهي قراءة الأعرج وابن يعمر وابن أبي إسحاق وعمرو ونعيم بن ميسرة. المحتسب 2/ 12.
(4)
وهي قراءة مسلمة بن محارب. المصدر السابق.
(5)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"يخرجوا".
على أنه جمعٌ؛ كَذُوبٌ وكُذُبٌ، مثلُ شَكُورٍ وشُكُرٍ.
والصوابُ عندى من القراءةِ فى ذلك نصبُ "الكَذِبِ"؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من القرأةِ عليه. فتأويلُ الكلامِ إذ كان ذلك كذلك لما ذكَرنا: ولا تقولوا لوصْفِ ألسنتِكم الكذبَ فيما رزَقَ اللهُ عبادَه من المطاعمِ: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؛ كى تفتَروا على اللهِ بقيلِكم ذلك الكذبَ، فإن اللهَ لم يُحَرِّمْ من ذلك ما تُحَرِّمون، ولا أَحَلَّ كثيرًا مما تُحِلُّون.
ثم تقدَّم إليهم بالوعيدِ على كذبِهم عليه، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} . يقولُ: إن الذين يَتخرَّصون على اللهِ الكذبَ ويَخْتَلِقُونه، لا يُخَلَّدون فى الدنيا، ولا يَبقَون فيها، إنما يَتَمَتَّعون فيها قليلًا.
وقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} . فرفَع؛ لأن المعنَى: الذي هم فيه من هذه الدنيا متاعٌ قليلٌ: أو: لهم متاعٌ قليلٌ في الدنيا.
وقولُه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يقولُ: ثم إلينا مرجعُهم ومعادُهم، ولهم على كذبِهم وافترائِهم على اللهِ بما كانوا يفتَرون، عذابٌ عندَ مصيرِهم إليه، أليمٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} : في
البَحيرةِ والسائبةِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: البحائرُ السُّيَّبُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وحرَّمنا من قبلك يا محمدُ على اليهودِ ما أَنْبَأْناك به من قبلُ في سورةِ "الأنعامِ"؛ وذاك {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}
(3)
[الأنعام: 146].
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتحريمِنا ذلك عليهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . فجزَيناهم ذلك ببغيِهم على ربِّهم، وظلمِهم أنفسَهم بمعصيتِهم
(4)
اللهَ، فأورَثهم ذلك عقوبةَ اللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، عن أبى رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:
(1)
تفسير مجاهد ص 426، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
فى م: "السوائب".
(3)
تقدم في 9/ 638.
(4)
فى م: "بمعصية".
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} . قال: فى سورةِ "الأنعامِ"
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن أيوبَ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} . قال: في سورةِ "الأنعامِ".
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} . قال: ما قصَّ اللهُ تعالى في سورةِ "الأنعامِ" حيثُ يقولُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّك [يا محمدُ]
(2)
للذين عَصُوا اللهَ، فجهِلوا بركوبِهم ما ركِبوا من معصيةِ اللهِ، وسَفِهوا بذلك، ثم راجَعوا طاعةَ اللهِ والندمَ عليها، والاستغفارَ والتوبةَ منها، من بعدِ ما سلف منهم ما سلَف من ركوبِ المعصيةِ، وأصلَح فعمِل بما يحبُّ اللهُ ويرضاه، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}. يقولُ: إن ربَّك يا محمدُ من بعدِ توبتِهم لهم
(3)
{لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن إبراهيمَ خليلَ اللهِ كان مُعَلِّمَ خَيْرٍ، يأتمُّ به أهلُ الهُدَى، {قَانِتًا}. يقولُ: مُطيعًا للهِ، {حَنِيفًا}. يقول: مستقيمًا على دينِ الإسلامِ،
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في م: "له".
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . يقولُ: [ولم يكنْ يُشْرِكُ]
(1)
بِاللهِ شيئًا فيكونَ من أولياءِ أهلِ الشركِ به.
وهذا إعلامٌ من اللهِ تعالى أهلَ الشركِ به من قريشٍ أن إبراهيمَ منهم برئٌ، وأنهم منه بُرآءُ.
{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} . يقولُ: كان يُخْلِصُ الشكرَ للهِ فيما أنعَم عليه، ولا يَجْعَلُ معه في شكرِه فى نعمِه عليه شريكًا من الآلهةِ والأندادِ وغير ذلك، كما يَفْعَلُ مشركو قريشٍ، {اجْتَبَاهُ}. يقولُ: اصطَفاه واختَاره لخُلَّتِه، {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. يقولُ: وأرشَده إلى الطريقِ المستقيمِ، وذلك دينُ
(1)
الإسلامِ، لا اليهوديةُ ولا النصرانيةُ.
وينحوِ الذي قلنا في معنى {أُمَّةً قَانِتًا} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني زكريا بنُ يحيى، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن الأعمشِ، عن الحكمِ، عن يحيى بنِ الجزَّارِ، عن أبى العُبَيْدَيْنِ، أنه جاء إلى عبدِ اللهِ، فقال: من نسأَلُ إذا لم نَسْأَلُكَ؟ فكأَنَّ ابن مسعودٍ رقَّ له، فقال: أخبِرْني عن الأُمَّةِ. قال: الذي يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ
(2)
.
(3)
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن سلَمةَ بنِ كُهَيلٍ، عن مسلمٍ البَطينِ، عن أبى العُبَيدينِ، أنه سأل عبدَ اللهِ بنَ
(1)
فى م: "ولم يك يشرك"، وفى ف:"وما أشرك".
(2)
فى ت 2: "خير"، وفي ص:"حبر".
(3)
أخرجه الطبراني (9007)، والحاكم 4/ 361 من طريق الأعمش به مطولًا - وسقط من الطبراني: يحيى بن الجزار.
مسعودٍ عن الأُمَّةِ القانتِ. قال: الأمَّةُ مُعلِّمُ الخيْرِ، والقانتُ المطيعُ للهِ ورسولِه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن منصورٍ -يعني ابن عبدِ الرحمنِ- عن الشَّعْبِيِّ، قال: ثنى فَرْوةُ بنُ نَوْفلٍ الأشجعيُّ، قال: قال ابنُ مسعودٍ: إن مُعاذًا كان أُمَّةٌ قانتًا للهِ حنيفًا. فقلتُ في نفسي: غلِط أبو عبدِ الرحمنِ، إنما قال اللهُ تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
(1)
}. فقال: تدرى ما الأُمَّةُ، وما القانتُ؟ قلتُ: اللهُ أَعلمُ. قال: الأُمَّةُ الذي يُعلِّمُ الخيرَ، والقانتُ المطيعُ للهِ ولرسولِه، وكذلك كان معاذُ بنُ جَبَلٍ، كان
(2)
يُعلِّمُ الخيرَ، وكان مطيعًا للهِ ولرسولِه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ فِراسًا يُحدِّثُ عن الشَّعْبيِّ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ أنه قال: إن معاذًا كان أُمَّةً قانتًا للهِ. قال: فقال رجلٌ من أشجعَ يُقالُ له: فَرْوةُ بنُ نوفلٍ: نَسِيَ، إنما ذاك إبراهيمُ. قال: فقال عبدُ اللهِ: مَن نَسِيَ؟ إنما كنا نُشَبِّهُه بإبراهيمَ. قال: وسُئِل عبدُ اللهِ عن الأمَّةِ، فقال: معلِّمُ الخيرِ، والقانتُ المطيعُ للهِ ورسولِه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن فِراسٍ، عن الشَّعْبيِّ، عن مسروقٍ، قال: قرأتُ عند عبدِ اللهِ هذه الآيةَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} . فقال: كان معاذٌ أُمَّةً قانتًا. قال: هل تدْرِى ما الأمةُ؟ الأُمةُ الذى يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ، والقانتُ الذى يُطيعُ اللهَ ورسولَه
(5)
.
(1)
بعده فى م: "كان أمة قانتا لله".
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
أخرجه الطبراني (9947)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 230 من طريق ابن علية به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 134 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
أخرجه الطبراني (9944) من طريق شعبة به، وأخرجه أيضًا (9946) من طريق شعبة، عن مجالد وبيان أو أحدهما، عن الشعبي به.
(5)
أخرجه الطبراني (9943) من طريق الثورى به.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا ابنُ فُضَيلٍ، قال: ثنا بَيَانُ بنُ بِشْرٍ البَجَليُّ، الشَّعْبيِّ، قال: قال عبدُ اللهِ: إن معاذًا كان أمةً قانتًا للهِ حنيفًا ولم يكُ من المشركين. فقال له رجلٌ: نسيتَ؟ قال: لا، ولكنَّه شبيهُ
(1)
إبراهيمَ
(2)
. والأُمَّةُ معلِّمُ الخيرِ، والقانتُ المطيعُ.
حدَّثني عليُّ بنُ سعيدٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن ابنِ عونٍ، عن الشعبيِّ في قولِه:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} . قال: مطيعًا.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: إن معاذًا كان أمةً قانتًا معلِّمَ الخيرِ
(3)
. وذكِر فى الأمَّةِ أشياءُ مختلَفٌ فيها، قال:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]. يعني: بعد حينٍ. {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن سعيدِ بنِ سابقٍ، عن ليثٍ، عن شَهْرِ ابن حَوْشَبٍ، قال: لم تَبْقَ الأرضُ إلا وفيها أربعةَ عشَرَ يَدْفَعُ اللهُ بهم عن أهلِ الأرضِ، وتُخْرِجُ بركتَها، إلا زمنَ إبراهيمَ، فإنه كان وحدَه
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: أخبَرنا هُشَيمٌ، قال: أَخبَرنا سَيَّارٌ، عن الشعبيِّ، قال: وأخبَرنا زكريا ومُجالِدٌ، عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، عن ابنِ مسعودٍ نحوَ حديثِ يعقوبَ، عن ابنِ عُلَيةَ، وزاد فيه: الأُمَّةُ الذي يُعلِّمُ الخيرَ، ويُؤْتَمُّ به،
(1)
في ت 2: "تشبيه".
(2)
في ت 1: "بإبراهيم".
(3)
أخرجه الطبراني (9950) من طريق أبى بكر بن عياش وحماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود به.
(4)
عزاء السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف.
ويُقْتَدَى به، والقانتُ المطيعُ للهِ وللرسولِ. قال له أبو فَرْوةَ الكنديُّ: إنك أَوْهَمْتَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} : [على حِدَةٍ]
(2)
، {قَانِتًا لِلَّهِ}. قال: مُطيعًا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: مُطيعًا للهِ في الدنيا.
قال ابنُ جريجٍ: وأخبَرنى ابنُ
(4)
عُوَيْمرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ أنه قال:{قَانِتًا} مُطِيعًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} . قال: كان إمامَ هُدًى مُطِيعًا لله، تُتَّبَعُ سنتُه وملتُه
(5)
.
حدَّثنا ابنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، أن ابنَ مسعودٍ قال: إن معاذًا كان أمةً قانتًا. قال غيرُ قتادةَ: قال ابنُ مسعودٍ: هل تَدْرُون ما الأُمَّةُ؟ الذي يُعَلِّمُ الخيرَ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن
(1)
في م: "وهمت". والأثر أخرجه الطبراني (9945، 9949)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 230 من طريق هشيم، عن سيار به.
(2)
في ت 1: "وحده".
(3)
تفسير مجاهد ص 426.
(4)
سقط من: م، وتقدم هذا الإسناد فى 5/ 309، وينظر الثقات 7/ 627.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
فراسٍ: عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، قال: قُرِئَتْ
(1)
عندَ عبدِ اللهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} . فقال: إن مُعاذًا كان أمةً قانتًا. قال: فأعادوا، فأعاد عليهم، ثم قال: أَتَدْرُون ما الأُمَّةُ؟ الذى يُعَلِّمُ الناسَ الخيرَ، والقانتُ الذي يُطِيعُ اللهَ
(2)
.
وقد بيَّنا معنى الأمةِ
(3)
ووجوهَها
(4)
، ومعنى القانتِ، باختلافِ المختلِفين فيه، فى غيرِ هذا الموضعِ مِن كتابِنا بشواهدِه، فأغْنَى بذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وآتيْنا إبرهيمَ -على قنوتِه للهِ، وشكرِه له على نعمِه، وإخلاصِه العبادةَ له- فى هذه الدنيا ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلًا باقيًا على الأيامِ، {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. يقولُ: وإنه فى الدارِ الآخرةِ يومَ القيامةِ لَممَّن صلَح أمرُه وشأنُه عندَ اللهِ، وحسُنَت منه
(5)
منزلتُه وكرامتُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
في م: "قرأت".
(2)
تفسير عبد الرزاق، 1/ 360، 361، ومن طريقه الحاكم 2/ 358.
(3)
في ص، ت 2، ف:"الآية".
(4)
تقدم في 1/ 224، 2/ 588.
(5)
فى م: "فيها".
{وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} . قال: لسانَ صدقٍ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} : فليس مِن أهلِ دينٍ إلا يَتَوَلَّاه ويَرْضاه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ثم أوْحَيْنا إليك يا محمدُ، وقلْنا لك: اتَّبِعْ ملةَ إبراهيمَ الحنيفيةَ المسلمةَ، {حَنِيفًا}. يقولُ: مسلمًا على الدينِ الذي كان عليه إبراهيمُ، بريئًا من الأوثانِ والأندادِ التي يَعْبُدُها قومُك، كما كان إبراهيمُ تبرَّأ منها.
وقولُه: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما فرَض اللهُ أيُّها الناسُ تعظيمَ يومِ السبتِ إلا على الذين اخْتَلَفوا فيه؛ فقال بعضُهم: هو أعظمُ الأيامِ؛ لأن اللهَ تعالى فرَغ مِن خلقِ الأشياءِ يومَ الجمعةِ، ثم سبَت يومَ السبتِ. وقال آخرون: بل أعظمُ الأيامِ يومُ الأحدِ؛ لأنه اليومُ الذى ابْتَدَأ اللهُ فيه فى
(3)
(1)
تفسير مجاهد ص 427، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م.
خلقِ الأشياءِ. [فاخْتارُوا تعظيمَه وترَكوا]
(1)
تعظيمَ يومِ الجُمُعةِ الذى فرَض اللهُ عليهم تعظيمَه، واسْتَحَلُّوه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} : اتَّبَعوه وترَكوا الجُمُعةَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} . قال: أرادوا الجُمعة فأخْطَئوا، فأخَذُوا السبتَ مكانَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} : اسْتَحَلَّه بعضُهم، وحرَّمه بعضُهم.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ وسعيدِ بنِ جبيرٍ:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} . قال: باستحلالِهم يومَ السبتِ
(3)
.
(1)
فى ص، ت 2، ف:"فاختاروه"، وفى م:"فاختاروه وتركوا".
(2)
تفسير مجاهد ص 427، وهو في تفسير عبد الرزاق 1/ 362، عن معمر، عمن سمع مجاهدًا، عن مجاهد بنحوه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 134 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} . قال: كانوا يَطْلُبون يومَ الجمعةِ فأَخْطَئوه، وأخَذوا يومَ السبتِ، فجعَله عليهم.
وقولُه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّك يا محمدُ لَيَحْكُمُ بين هؤلاء المختلِفِين بينَهم في استحلالِ السبتِ وتحريمِه، عندَ مصيرِهم إليه يومَ القيامةِ، فيَقْضِي بينَهم في ذلك وفى غيرِه مما كانوا فيه يَخْتَلِفون فى الدنيا بالحقِّ، ويَفْصِلُ بالعدلِ، بمُجازاةِ المُصيبِ فيه جزاءَه، والمُخطئِ فيه منهم ما هو أهلُه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ يا محمدُ من أرْسَلك إليه ربُّك بالدعاءِ إلى طاعتِه، {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}. يقولُ: إلى شريعةِ ربِّك التي شرَعَها لخلقِه، وهو الإسلامُ، {بِالْحِكْمَةِ}. يقولُ: بوحيِ اللهِ الذى يُوحِيه إليك، وكتابِه الذي يُنْزِلُه عليك، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. يقولُ: وبالعِبَرِ الجميلةِ التي جعَلها اللهُ حُجَّةً عليهم في كتابِه، وذكَّرهم بها في تنزيلِه، كالتي عدَّد عليهم في هذه السورةِ مِن حُجَجِه، وذكَّرهم فيها ما ذكَّرهم مِن آلائِه، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. يقولُ: وخاصِمْهم بالخصومةِ التي هي أحسنُ من غيرِها؛ أن تَصْفَحَ عما نالوا به عِرْضَك من الأذى، ولا تَعْصِه في القيامِ بالواجبِ عليك مِن تبليغِهم رسالةَ ربِّك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثني عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : أَعْرِضْ عن أذاهم إياك
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقولُه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك يا محمدُ هو أعلمُ بمَن جار
(2)
عن قصد السبيلِ مِن المختلِفين في السبتِ وغيرِه من خلقِه، وحادَّ
(3)
اللهَ، وهو أعلمُ بمن كان منهم سالكًا قصدَ السبيل، ومحَجَّةَ الحقِّ، وهو مُجازٍ جميعَهم جزاءَهم عندَ ورودِهم عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} .
يقول تعالى ذكرُه للمؤمنين: وإن عاقَبْتُم أيُّها المؤمنون مَن ظَلَمَكم واعْتَدَى عليكم، فعاقِبوه بمثلِ الذى نالَكم به ظالمُكم من العقوبةِ، ولئن صبَرْتُم عن عقوبتِه، واحْتَسَبْتُم عندَ اللهِ ما نالكم به مِن الظلمِ، ووكَلْتُم أمرَه إليه، حتى يكونَ هو المتولِّىَ عقوبتَه، {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}. يقولُ: لَلصَّبرُ عن عقوبتِه، لذلك
(4)
خيرٌ لأهلِ
(1)
تفسير مجاهد ص 427، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 135 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
فى ت 1، ت 2:"حاد".
(3)
في ص، ت 2، ف:"عاد".
(4)
في م: "بذلك"، وفى ت 1، ت 2، ف:"كذلك".
الصبرِ احتسابًا وابتغاءَ ثوابِ اللهِ؛ لأن اللهَ يُعَوِّضُه مِن الذى أراد أن يَنالَه، بانتقامِه من ظالمِه على ظلمِه إياه، من لذةِ الانتصارِ.
و"هو" مِن قولِه: {لَهُوَ} كنايةٌ عن الصبر، وحسُن ذلك، وإن لم يَكُنْ ذكَر قبلَ ذلك الصبرَ؛ لدَلالةِ قولِه:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} . عليه.
وقد اخْتلَف أهلُ التأويلِ فى السببِ الذي مِن أجلِه نزَلَت هذه الآيةُ. وقيل: هي منسوخةٌ أو مُحْكَمةٌ؛ فقال بعضُهم: نزلَت من أجلِ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه أَقْسَموا حينَ فعَل المشركون يومَ أُحُدٍ ما فعَلوا بقَتْلَى المسلمين، من التمثيلِ بهم، أن يُجاوِزوا فعلَهم فى المُثْلةِ بهم، إن رُزِقوا الظَّفَرَ عليهم يومًا، فنهاهم اللهُ عن ذلك بهذه الآية، وأمَرَهم أن يَقْتَصِروا في التمثيلِ بهم، إن هم ظفِروا
(1)
، على مثلِ الذى كان منهم، ثم أمرَهم بعدَ ذلك بتركِ التمثيلِ، وإيثارِ الصبرِ عنه بقولِه:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} . فنسَخ بذلك عندَهم ما كان أذِن لهم فيه مِن المُثْلَةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمِعْتُ داودَ، عن
(2)
عامرٍ، أن المسلمين قالوا لمَّا مثَّل
(3)
المشركون بقَتْلاهم يومَ أُحُدٍ: لَئِن ظَهَرْنا عليهم لنَفْعَلَنَّ ولَنَفْعَلَنَّ. فأنْزَل اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . قالوا: بل نَصْبِرُ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ،
(1)
بعده في ت 1: "بهم".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ابن".
(3)
فى م: "فعل"، وفى ت 1، ت 2، ف:"قتل".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 389 من طريق داود به.
قال: لمَّا رأَى المسلمون ما فعَل المشركون بقَتْلاهم يومَ أُحُدٍ، مِن تَبْقيرِ البُطونِ، وقطعِ المذَاكيرِ، والمُثْلَةِ السيئةِ، قالوا: لئِن أظْفَرَنا اللهُ بهم، لَنَفْعَلَنَّ ولَنَفْعَلَنَّ. فأنْزَل اللهُ فيهم:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن بعضِ أصحابِه، عن عطاءِ بنِ يَسارٍ، قال: نزَلَت سورةُ "النحلِ" كلُّها بمكةَ، وهى مكيةٌ، إلا ثلاثَ آياتٍ فى آخرِها نزَلَت بالمدينةِ
(1)
بعدَ أُحُدٍ، حيثُ قُتِل حمزةُ ومُثِّل به، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لئن ظهَرْنا عليهم، لنُمَتِّلَنَّ بثلاثين رجلًا منهم". فلمَّا سمِع المسلمون بذلك، قالوا: واللهِ لئن ظهَرْنا عليهم لنَمُثِّلَنَّ بهم مُثْلةً لم يُمَثِّلْها أحدٌ مِن العربِ بأحدٍ قطُّ. فأنزَل اللهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} إلى آخر السورةِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . قال: [مُثِّلَ بالمسلمينَ]
(3)
يومَ أحدٍ، فقال:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . إلى قولِه: {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . ثم قال بعدُ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: لما أُصِيب فى أهلِ أحدٍ المَثْلُ، فقال المسلمون: لئن أصَبْناهم لنُمثِّلَنَّ بهم. فقال اللهُ:
(1)
فى م: "في المدينة".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 135 إلى المصنف وابن إسحاق.
(3)
فى ص، ت 2، ف:"المسلمين"، وفى م:"المسلمون". والمثبت من تفسير عبد الرزاق.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 361 عن معمر به.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} ، [فلم تُعاقِبوا]
(1)
، {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . ثم عزَم وأخبرَ فلا يُمثَّلُ
(2)
، فنهَى عن المَثْلِ. قال: مثَّل الكفارُ بقتلَى أُحدٍ، إلا حنظلةَ بنَ الراهبِ، كان الراهبُ أبو عامرٍ مع أبي سفيانَ، فترَكوا حنظلةَ لذلك.
وقال آخرون: نُسِخ ذلك بقولِه فى "براءةَ": {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. قالوا: وإنما قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . [حينَ أمَر المؤمنين]
(3)
ألّا يبتدِئوهم
(4)
بقتالٍ حتى يبتدِئوهم
(4)
به، فقال:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . قال: هذا [حين أمَر]
(5)
اللهُ نبيَّه أن يُقاتلَ مَن قاتَله. قال: ثم نزَلت "براءةُ" وانسلاخُ الأشهرِ الحُرُمِ. قال: فهذا مِن المنسوخِ
(6)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
فى ت 1: "تمثل"، وفى ت 2:"تمثيل".
(3)
في ص، ت 1، ف:"خبرا من المؤمنين"، وفي ت 2:"خيرا من المؤمنين"، وفى م:"خبر من الله للمؤمنين". وينظر ما سيأتي.
(4)
في م: "يبدءوهم".
(5)
في ص، ف:"خبرا من"، وفى م، ت 1:"خبر من"، وفي ت 2:"خيرا من". والمثبت كما في الدر المنثور.
(6)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 135 إلى المصنف وابن مردويه.
وقال آخرون: بل عنَى اللهُ تعالى ذكرُه بقولِه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} . نبيَّ اللهِ خاصّةً، دون سائرِ أصحابِه، فكان الأمرُ بالصبرِ له عزيمةً من اللهِ دونَهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . قال: أمَرَهم اللهُ أن يَعفُوا عن المشركين، فأسلَم رجالٌ لهم مَنَعةٌ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو أذِن اللهُ لنا لانتصَرنا مِن هؤلاء الكلابِ. فنزل القرآنُ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . واصبِرْ أنتَ يا محمدُ، ولا تكنْ
(1)
ممَّن ينتصِرُ، وما صبرُك إلا باللهِ. قال: ثم نسَخ هذا، وأمَره بجهادِهم، فهذا كلُّه منسوخٌ
(2)
.
وقال آخرون: لم يُعْنَ بهاتين الآيتين شيءٌ مما ذكَر هؤلاءِ، وإنما عُنِى بهما أنّ من ظُلِم بظُلامةٍ، فلا يحِلُّ له أن ينالَ [ممن ظلَمه]
(3)
أكثرَ ممّا نال الظالمُ منه. وقالوا: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن خالدٍ، عن ابنِ سيرينَ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . يقولُ:
(1)
بعده في م: "في ضيق".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 135 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
فى ص، ت 2، ف:"من ظلمه"، وفي ت 1:"من ظالمه".
إن أخَذ منك رجلٌ شيئًا، فخُذْ منه مثلَه
(1)
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: إن أخَذ منك شيئًا فخُذْ منه مثلَه. قال الحسنُ: قال عبدُ الرزاقِ: قال سفيانُ: ويقولون: إن أخذ منك دينارًا، فلا تأخُذْ منه إلا دينارًا، وإن أخَذ منك شيئًا، فلا تأخُذْ منه إلا مثلَ ذلك الشيءِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} : لا تعتَدُوا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذِكرُه أمَر من عُوقِب مِن المؤمنين بعقوبةٍ، أن يعاقِبَ مَن عاقَبه بمثلِ الذى عُوقِب به، إن اختار عقوبتَه، وأعلَمه أن الصبرَ على تركِ عقوبتِه، على ما كان منه إليه، خيرٌ، وعزَم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم أن يصبرَ، وذلك أن ذلك هو ظاهرُ التنزيلِ، والتأويلاتُ التي ذكَرناها عمّن ذكَروها عنه، محتمِلتُها الآيةُ كلَّها. فإذ كان ذلك كذلك، ولم يكنْ في الآيةِ دلالةٌ على أيِّ
(4)
ذلك عُنِى بها من خبرٍ ولا عقلٍ، كان الواجبُ علينا الحكمَ بها، إلى
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 361، وأخرجه ابن أبى شيبة 7/ 225 من طريق خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 135 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 361.
(3)
تفسير مجاهد ص 427، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 135 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أن".
باطنٍ
(1)
لا دَلالةَ عليه، وأن يقالَ: هي آيةٌ محكمةٌ، أمَر اللهُ تعالى ذِكرُه عبادَه أَلَّا يتجاوَزُوا فيما وجَب لهم قبلَ غيرهم من حقٍّ، من مالٍ أو نفسٍ -الحقَّ الذي جعَله اللهُ لهم
(2)
إلى غيره. وأنها غيرُ منسوخةٍ، إذ كان لا دَلالةَ على نسخِها، وأن للقولِ
(3)
بأنها محكمةٌ، وجهًا صحيحًا مفهومًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واصبِرْ يا محمدُ على ما أصابَك مِن أذًى فى اللهِ، {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}. يقولُ: وما صبرُك إن صبَرتَ إلا بمعونةِ اللهِ وتوفيقِه إياك لذلك، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. يقولُ: ولا تحزَنْ على هؤلاءِ المشركين الذين يُكذِّبونك، ويُنكِرون ما جئتَهم به في آنِ ولَّوا عنك وأعرَضوا عمّا أتيتَهم به من النصيحةِ، {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}. يقولُ: ولا يَضِيقُ
(4)
صدُرك بما يقولون من الجهلِ، ونسبتِهم ما جئتَهم به إلى أنه سحرٌ أو شِعرٌ أو كهانةٌ، {مِمَّا يَمْكُرُونَ}: مما يحتالون بالخدعِ في الصدِّ عن سبيلِ اللهِ مَن أراد الإيمانَ بك، والتصديقَ بما أنزَل اللهُ إليك.
واختلَفت القرأَةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ العراقِ: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ} . بفتحِ الضَّادِ من
(5)
"الضَّيقِ"، على المعنى الذى وصفتُ من
(1)
فى م: "ناطق". ولعل صواب السياق: كان الواجب علينا الحكم بها، لا أن نحيل الحكم بها إلى باطن لا دلالة عليه. أو نحو هذا.
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"له".
(3)
فى ت 1، ت 2، ف:"القول".
(4)
فى م: "يضق".
(5)
في م: "في".
تأويلِه.
وقرَأه بعضُ قرأةِ أهلِ المدينةِ: (ولا تكُ فى ضِيقٍ)، بكسرِ الضادِ
(1)
.
وأولى القراءتين بالصوابِ فى ذلك عندَنا قراءةُ مَن قرَأه: {فِي ضَيْقٍ} . بفتحِ الضادِ؛ لأنَّ الله تعالى إنما نهَى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَضيقَ صدرُه مما يَلقَى مِن أذى المشركين، على تبليغِه إياهم وحيَ اللهِ وتنزيلَه، فقال له:{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2]. وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]. وإذ كان ذلك هو الذى نهاه تعالى ذِكرُه، ففَتْحُ الضادِ هو الكلامُ المعروفُ من كلامِ العربِ فى ذلك المعنى، تقولُ العربُ: فى صدرى مِن
(2)
هذا الأمرِ ضَيقٌ. وإنما تُكسرُ الضادُ في الشيءِ الذى يتَّسِعُ أحيانًا ويضيقُ؛ من قلَّةِ المعاشِ، وضيقِ المسكنِ، ونحوِ ذلك، فإن وقَع الضَّيقُ، بفتحِ الضادِ، فى موقعِ
(3)
الضِّيقِ بالكسرِ، كان على أحدِ وجهين؛ إما على جميعِ
(4)
الضِّيقةِ
(5)
، كما قال أعشى بنى ثعلبةَ
(6)
:
فَلَئنْ رَبُّكَ مِن رحمتِه
…
كشَف الضِّيقةَ عنّا وفسَحْ
والآخرُ على تخفيفِ الشيءِ الضَّيِّقِ، كما يخفَّفْ الهيِّنُ الليِّنُ، فيقالُ: هو
(1)
بفتح الضاد قرأ نافع وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وبكسر الضاد قرأ ابن كثير، ينظر حجة القراءات ص 395، والقراءتان متواترتان، لا تفاضل بينهما.
(2)
في ص، ف:"عن".
(3)
فى م: "موضع".
(4)
فى م: "جمع".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الصفة".
(6)
ديوانه ص 237.
هَيْنٌ لَيْنٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: و
(1)
إن الله يا محمدُ {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} اللهَ في محارمِه فاجتنَبوها، وخافوا عقابَه عليها، فأحجَموا عن التقدُّمِ عليها، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. يقولُ: وهو مع الذين يُحسِنون رعايةَ فرائضِه، والقيامَ بحقوقِه، ولزومَ طاعتِه فيما أمَرهم به ونهاهم عنه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكّامٌ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن الحسنِ:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . قال: اتَّقَوُا اللهَ فيما حرَّم عليهم، وأحسَنوا فيما افترَض عليهم.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ
(2)
، عن رجلٍ، عمر الحسنِ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكر لنا أن هَرِمَ ابنَ حَيَّانَ العَبْديَّ لما حضَره الموتُ، قيل له: أوصِ. قال: ما أدرى ما أُوصِى، ولكنْ
(1)
سقط من: م.
(2)
كذا فى النسخ، وفى تفسير عبد الرزاق:"الثورى".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 364 عن الثورى، عن رجل، عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 135 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
بِيعُوا دِرْعِي، فاقْضُوا عَنِّى دَيْنِي، فإن لم يَفِ
(1)
، فبيعوا فَرَسى، فإن لم تَفِ
(2)
فبيعوا غُلامِي، وأُوصيكم بخواتيمِ سورةِ "النحلِ":{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . ذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمّا نزَلت هذه الآيةُ قال: "بَلْ نَصْبِرُ"
(3)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "النحلِ"
(1)
في م: "تف".
(2)
فى م: "يف".
(3)
أخرجه ابن سعد 7/ 132 من طريق سعيد بن أبي عروبة به، وأخرجه أحمد في الزهد ص 231، وأبو نعيم في الحلية 2/ 121 من طريق شيبان عن قتادة به، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 562، 563، وهناد في الزهد 1/ 292 (512)، وأحمد في الزهد ص 233 من طرق عن هرم بن حيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 135، 136 إلى سعيد بن منصور وأبن المنذر وابن أبي حاتم.
تفسيرُ سورةِ بنى إسرائيلَ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
(1)}.
قال أبو جعفرٍ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ: يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} : تنزيهًا للذى أسرَى بعبدِه وتَبْرئةً له مما يقولُ فيه المشركون مِن أنَّ له مِن خلقِه شريكًا، وأن له صاحبةً، وولدًا، وعلوًّا له وتعظيمًا عما أضافوه إليه، ونسَبوه من جهالاتِهم وخطأِ أقوالِهم.
وقد بيَّنتُ فيما مضَى قبلُ أن قولَه: {سُبْحَانَ} . اسمٌ وُضِع موضعَ المصدرِ، فنُصِب لوُقوعِه موقعَه، بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وقد كان بعضُهم يقولُ: نُصِب لأنه غيرُ موصوفٍ.
وللعربِ في التسبيحِ أماكنُ تَسْتَعْمِلُه فيها؛ فمنها الصلاةُ، كان كثيرٌ من أهلِ التأويلِ يتأوَّلُون قولَ اللهِ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]: فلولا أنه كان مِن المصلِّين.
ومنها الاستثناءُ، كان بعضُهم يتأَوَّلُ قولَ اللهِ تعالى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا
(1)
تقدم في 1/ 528.
تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28]: لولا تَسْتَثْنون. ويَزْعُمُ أن ذلك لغةٌ لبعضِ أهلِ اليمنِ، ويَسْتَشْهِدُ لصحةِ تأويلِه ذلك بقولِه:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17، 18]. قال: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} فذكَّرهم تركَهم الاستثناءَ.
ومنها النورُ، وكان بعضُهم يتأوّلُ في الخبرِ الذي رُوِى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لولا ذلك لأحْرَقَت سُبُحاتُ وجهِه ما أدرَكَت مِن شيءٍ"
(1)
. أنه عنَى بقولِه: "سُبُحاتُ وجهِه": نورُ وجهِه.
وبنحو الذي قلنا في تأويلِ قولِه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا الثوريُّ، عن عثمانَ بنِ مَوْهَبٍ، عن موسى بن طلحةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه سُئِلَ عن التسبيحِ أن يقولَ الإنسانُ: سبحانَ اللهِ. قال: "إنزاهُ
(2)
اللهِ عن السُّوءِ"
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عبدةُ بنُ سليمانَ، عن الحسنِ بنِ صالحٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه: سبحان اللهِ. قال: إنكافُ اللهِ
(4)
.
(1)
أخرجه الطيالسي (493)، وأحمد 4/ 395، 401، 405 - الميمنية، ومسلم (179). وينظر تخريجه في مسند الطيالسي.
(2)
في ص، ت 2:"ابراه"، وفى ت 1:"ابراء".
(3)
تقدم تخريجه في 12/ 127.
(4)
إنكاف الله: أى تنزيهه وتقديسه. النهاية 5/ 116.
والأثر أخرجه الطبرانى فى الدعاء (1763) من طريق الحسن بن صالح به.
وقد ذكَرنا من الآثارِ في ذلك ما فيه الكفايةُ فيما مضَى من كتابِنا هذا قبلُ
(1)
.
والإسراءُ والسُّرَى: سيرُ الليلِ. فمن قال: أسرَى. قال: يُسْرى إسراءً. ومن قال: سَرَى. قال: يَسْرِى سُرًى. كما قال الشاعرُ
(2)
:
وليلةٍ ذاتِ دُجًى سرَيتُ
ولم يَلِتْني عن سُراها لَيْتُ
ويُروى: ذاتِ ندًى سرَيتُ.
ويَعْنى بقولِه: {لَيْلًا} : من الليلِ. وكذلك كان حُذيفةُ بنُ اليمانِ يَقْرَؤُها.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: سمِعتُ أبا بكرِ بنَ عياشٍ، ورجلٌ يُحدِّثُ عندَه
(3)
بحديثِ حينَ أُسرى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تَجِيءُ بمثلِ عاصمٍ ولا زِرٍّ، قال: قرَأ حذيفةُ: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِن اللَّيْلِ مِن المسجِدِ الْحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأقْصَى). وكذا قرَأ عبدُ اللهِ
(4)
.
وأمَّا قولُه: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . فإنه اختُلِف فيه وفي معناه؛ فقال بعضُهم: يَعْنى مِن الحَرَمِ. وقال: الحرمُ كلُّه مسجدٌ. وقد بَيَّنَّا ذلك في غيرِ موضعٍ من كتابِنا هذا
(5)
. وقال: ذُكِر
(6)
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ليلةَ أُسْرِى به إلى المسجدِ الأقصَى كان نائمًا فى بيتِ أمِّ هانئٍ ابنةِ أبي طالبٍ.
(1)
تقدم في 12/ 127، 128.
(2)
البيتان في اللسان (ل ي ت)، (ح ن ن) منسوبين في الموضع الثاني لأبي محمد الفقعسى.
(3)
في ص، ت 2، ف:"عنه".
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 136 إلى المصنف، ولم يذكر قراءة ابن مسعود، وقراءة ابن مسعود في البحر المحيط 6/ 5. وسيأتى مطولا في ص 444، 445.
(5)
تقدم في 3/ 438 - 442.
(6)
فى م: "وقد ذكر لنا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةَ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثني محمدُ بنُ السائبِ، عن أبي صالحٍ باذانَ
(1)
، عن أمِّ هانئٍ بنتِ أبي طالبٍ، في مَسْرَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقولُ: ما أُسرِى برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائمٌ عندى تلك الليلةَ، فصلى العشاءَ الآخرةَ، ثم نام ونِمنا، فلما كان قُبَيلُ الفجرِ، أهبَّنا
(2)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما صلَّى الصبحَ وصلَّينا معه قال:"يا أمَّ هانئٍ، لقد صلَّيتُ معكم العشاءَ الآخرةَ كما رأيتِ بِهذا الوادى، ثم جئتُ بيتَ المقدسِ فصلَّيتُ فيه، ثم صلَّيتُ صلاةَ الغداةِ معكم الآنَ كما تَرَيْن"
(3)
.
وقال آخرون: بل أُسرى به من المسجدِ، وفيه كان حينَ أُسرِى به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ [وابنُ أبى]
(4)
عديٍّ، عن سعيدِ ابنِ أبي عروبةَ، عن قتادةَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن [مالكِ بنِ]
(5)
صَعْصَعةَ
(6)
رجلٍ مِن
(1)
فى م: "بن باذام".
(2)
أهبنا: أيقظنا. ينظر اللسان (هـ ب ب).
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 402 قال ابن إسحاق: وكان فيما بلغنى عن أم هانئ. وعزاه الحافظ في الإصابة 8/ 138 إلى أبي موسى فى الذيل من طريق الكلبى به. وأخرجه أبو يعلى -كما في تفسير ابن كثير 5/ 39 - من طريق يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني، عن أبي صالح، عن أم هانئ، بأبسط من هذا السياق.
وقال الحافظ: وهذا أصح من رواية الكلبي؛ فإن في روايته من المنكر، أنه صلى العشاء الآخرة والصبح معهم وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج، وكذا نومه الليلة فى بيت أم هانئ، وإنما نام فى المسجد.
(4)
في م: "بن".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(6)
بعده في م: "وهو".
قومِه، قال: قال نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بينا
(1)
أنا عندَ البيتِ بينَ النائمِ واليقظانِ، إذ سمِعتُ قائلًا يقولُ: أحدُ الثلاثةِ. فأُتيتُ بطَستٍ مِن ذهَبٍ فيها من ماءِ زمزمَ، فشرَح صدرى إلى كذا وكذا". قال قتادةُ: قلتُ: ما يعني به؟ قال: إلى أسفلِ بطنِه. قال: "فاستُخرِج قلبي، فغُسِل بماءِ زمزمَ، ثم أُعيد مكانَه، ثم
(2)
حُشِى إيمانًا وحكمةً، ثم أُتيتُ بدابةٍ أبيضَ
(3)
يُقالُ له: البراقُ. فوقَ الحمارِ ودونَ البغلِ، يَقَعُ خَطْوُه أقصى
(4)
طرْفِه، فحُمِلتُ عليه، ثم انطلَقنا حتى أتَيْنا
(5)
السماءَ الدنيا"، ثم ذكَر الحديثَ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، [عن مالكٍ، يعنى]
(7)
ابن صعصعةَ، رجلٍ مِن قومِه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا ابنُ أبى عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن مالكِ بنِ صعصعةَ، رجلٍ من قومِه، قال: قال نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثم ذكَر نحوَه
(8)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: ثني عمرُو
(9)
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
فى ت 1، ت 2، ف:"حتى".
(3)
بعده فى م: "وفى رواية أخرى: بدابة بيضاء".
(4)
في م: "منتهى".
(5)
بعده فى م: "إلى بيت المقدس فصليت فيه بالنبيين والمرسلين إماما، ثم عرج بي إلى".
(6)
أخرجه الترمذى (3346)، وابن خزيمة (301) من طريق محمد بن بشار به، وأخرجه أحمد 29/ 381 (17837)، والبخارى (3207)، والنسائى فى الكبرى (313) من طريق سعيد به. وأخرجه أحمد 29/ 370، 373 (17833، 17834)، والبخارى (3887)، ومسلم (164/ 265) من طريق قتادة به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 40 إلى ابن مردويه.
(7)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(8)
أخرجه مسلم (264)، وأبو عوانة 1/ 120 من طريق ابن المثنى به.
(9)
في ف: "محمد".
ابنُ عبيدٍ
(1)
، عن الحسنِ بنِ أبي الحسنِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائمٌ في الحِجْرِ جاءَنى جبريلُ، فهمَزنى بقدَمِه
(2)
، فجلَستُ فلم أرَ شيئًا، فَعُدْتُ لمَضْجَعي، فجاءَني الثانيةَ، فهمَزنى بقدمِه، فجلَستُ فلم أرَ شيئًا، فَعُدْتُ لمَضْجَعي، فجاءَنِي الثالثةَ
(3)
، فهمَزنى بقدَمِه، فجلَستُ، فَأَخَذَ بعَضُدى فقُمْتُ معه، فخرَج بي
(3)
إلى بابِ المسجدِ، فإذا دابةٌ أبيضُ
(4)
بينَ الحمارِ والبغلِ، له في فَخِذَيه جناحان يَحْفِرُ
(5)
بهما رجلَيه، يَضَعُ يدَه في منتهى طرْفِه، فحمَلني عليه ثم خرَج معى (3) لا يفوتُنى ولا أفوتُه"
(6)
.
حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، عن سليمانَ
(7)
بنِ بلالٍ، عن شَريكِ بنِ أبى نمرٍ، قال: سمِعتُ أنسًا يُحَدِّثُنا عن ليلةِ المَسْرَى برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من مسجدِ الكعبةِ، أنه جاءه ثلاثةُ نفرٍ قبلَ أن يُوحَى إليه، وهو نائمٌ في المسجدِ الحرامِ، فقال أوّلُهم: أيُّهم هو؟ قال أوسطُهم: هو خيرُهم. فقال أحدُهم: خُذُوا خيرَهم. فكانت تلك الليلةَ، فلم يَرَهم حتى جاءوا ليلةً أخرى فيما يرَى قلبُه
(8)
، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم تنامُ عيناه ولا ينامُ قلبُه، وكذلك الأنبياءُ تنامُ أعينُهم ولا تنامُ قلوبُهم. فلم يُكَلِّموه حتى احتَمَلوه فوضَعوه عند بئرِ زمزمَ، فتولاه منهم جبريلُ عليه
(1)
في ص، ت 2، ف:"عبد"، وفى م:"عبد الرحمن"، وبعده في ت 2، ف: بياض.
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"برجله".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
فى م: "بيضاء".
(5)
يحفز: يدفع. اللسان (ح ف ز).
(6)
سيرة ابن هشام 1/ 397 عن ابن إسحاق قال: حدثت عن الحسن. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 157 إلى ابن المنذر.
(7)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"سلمان". وينظر تهذيب الكمال 11/ 372.
(8)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"ثلاثة".
السلامُ، فشقَّ ما بينَ نحرِه إلى لَبَّتِهِ، حتى فرَغ من صدرِه وجوفِه، فغسَله مِن ماءِ زمزمَ حتى أنقَى جوفَه، ثم أتى بطَستٍ مِن ذهبٍ فيه تَوْرٌ
(1)
محشوًّا
(2)
إيمانًا وحكمةً، فحشا به جوفَه وصدرَه ولغادِيدَه
(3)
، ثم أطبَقه
(4)
ثم عرَج به إلى السماءِ الدنيا، فضرَب بابًا مِن أبوابِها، فناداه أهلُ السماءِ: مَن هذا؟ قال: هذا جبريلُ. قيل: مَن معك؟ قال: محمدٌ. قال
(5)
: أو قد بُعِث إليه؟ قال: نعم. قالوا
(6)
: فمرحبًا به وأهلًا. فيَسْتَبشِرُ به أهلُ السماءِ، لا يَعْلَمُ أهلُ السماءِ بما يريدُ اللهُ في
(7)
الأرضِ حتى يُعْلِمَهم، فوجَد في السماءِ الدنيا آدمَ، فقال له جبريلُ: هذا أبوك. فسلَّم عليه، فردَّ عليه، فقال: مرحبًا بك وأهلًا بابنى، فنعم الابنُ أنت. [ثم مضَى به إلى السماءِ الثانيةِ، فإذا هو فى السماءِ الثانيةِ]
(8)
بنهرَين يَطَّرِدان
(9)
، فقال: ما هذان النهران يا جبريلُ؟ قال: هذا النيلُ والفراتُ عنصرُهما
(10)
. ثم مضى
(11)
به إلى السماءِ الثالثةِ
(12)
، فإذا هو
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف. والتور: إناء.
(2)
قال الحافظ في الفتح 13/ 481: "كذا وقع بالنصب، وأعرب بأنه حال من الضمير الجار والمجرور، والتقدير: بطست كائن من ذهب. فنقل الضمير من اسم الفاعل إلى الجار والمجرور".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وعاديده". واللغاديد: عروق الحلق، كما في رواية البخارى.
(4)
بعده فى م: "ثم ركب البراق فسار حتى أتى به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنبيين والمرسلين إمامًا".
(5)
في م: "قيل".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(7)
في م: "بأهل".
(8)
في م: "ثم مضى به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرئيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ فقال: جبرئيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم قد أرسل إليه، فقيل مرحبا به وأهلا، ففتح لهما، فلما صعد فيها، فإذا هو".
(9)
في م: "يجريان".
(10)
العنصر، بضم العين وفتح الصاد: الأصل، وقد تضم الصاد. النهاية 3/ 309.
(11)
فى م: "عرج".
(12)
بعده في م: فاستفتح جبرئيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ قال: جبرئيل، قيل: ومن معك؟ =
بنهرٍ [آخرَ عليه قصرٌ]
(1)
من لؤلؤٍ وزَبَرْجدٍ
(2)
، [فذهَب يشُمُّ ترابَه]
(3)
، فإذا هو مسكٌ
(4)
، فقال: يا جبريلُ، ما هذا النهرُ؟ قال: هذا الكوثرُ الذي خبَأ لك ربُّك
(5)
. [ثم عرَج به إلى السماءِ الثالثةِ، فقالت له الملائكةُ مثل ما قالت له فى الأولى [من هذا معك، محمدٌ؟ قال: نعم. قالوا: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه]
(6)
. قالوا: فمرحبًا به وأهلًا. ثم عرَج به إلى الرابعةِ، فقالوا له مثلَ ذلك، ثم عرَج به إلى الخامسةِ، فقالوا له مثلَ ذلك، ثم عرَج به إلى السادسةِ، فقالوا له مثلَ ذلك، ثم عرَج به إلى السابعةِ، فقالوا له مثلَ ذلك، وكلُّ سماءٍ فيها أنبياءُ قد سماهم أنسٌ، فوعَيت منهم إدريسَ في الثانيةِ، وهارونَ في الرابعةِ، وآخرَ فى الخامسةِ لم أحفظِ اسمَه، وإبراهيمَ في السادسةِ، وموسى في السابعةِ بتفضيلِ كلامِه اللهَ
(7)
، فقال موسى: ربِّ
(8)
، لم أظنَّ أَن يُرْفَعَ عليَّ أحدٌ. ثم علا به [فوق ذلك]
(9)
بما لا يَعْلَمُه إلا اللهُ، حتى جاء سدرةَ المنتهى، ودنا
(10)
الجبَّارُ ربُّ العزّةِ، فتَدَلَّى، فكان قابَ قوسَين أو أدنى، فأوحى [إلى عبدِه]
(11)
= قال: محمد، قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم قد بعث إليه، قيل: مرحبا به وأهلا، ففتح له".
(1)
فى م: "عليه قباب وقصور".
(2)
بعده فى م: "وياقوت، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله".
(3)
في صحيح البخاري: "فضرب يده".
(4)
بعده فى م، ونسخ من البخارى:"أذفر".
(5)
في م: "في الآخرة".
(6)
في صحيح البخاري: "قال جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. وقد بعث إليه؟ قال: نعم".
(7)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(8)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(9)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(10)
بعده فى م: "باب".
(11)
في ت 2، ف:"إليه".
ما شاء، وأوحى اللهُ إليه
(1)
فيما أوحى خمسين صلاةً على أمتِه كلَّ يومٍ وليلةٍ، ثم هبَط حتى بلَغ موسى فاحتبسَه، فقال: يا محمدُ، ماذا عهِد إليك ربُّك؟ قال:"عهِد إليَّ خمسين صلاةً على أمتى كلَّ يومٍ وليلةٍ" قال: إن أمتَك لا تَسْتطيعُ ذلك
(2)
، فارْجِعْ فليُخَفِّفْ عنك وعنهم. فالتفتَ إلى جبريلَ كأنه يَسْتَشِيرُه في ذلك، فأشار إليه أن نعَم، فعاد به جبريلُ حتى أتى
(3)
الجبَّارَ عز وجل وهو مكانَه، فقال:"يا ربِّ خفِّفْ عنا، فإن أُمتى لا تستطيعُ هذا". فوضَع عنه عشرَ صلواتٍ، ثم رجَع إلى موسى عليه السلام، فاحتَبسه، فلم يَزَلْ يردِّدُه موسى إلى ربِّه حتى صارَت إلى خمسِ صلواتٍ، ثم احتبَسه عند الخمسِ، فقال: يا محمدُ قد واللهِ راودتُ بني إسرائيلَ على أدنى مِن هذه الخمسِ، فضعُفوا
(4)
وترَكوه، فأمتُّك أضعفُ أجسادًا وقلوبًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجعْ فليخفِّفْ عنك ربُّك. كلَّ ذلك يلتفتُ إلى جبريلَ ليُشيرَ عليه، ولا يكرهُ ذلك جبريلُ، فرفَعه عند الخمسِ، فقال: "يا ربِّ، إن أمَّتى ضعافٌ أجسادُهم وقلوبُهم، وأسماعُهم
(5)
، فخفِّفْ عنا". قال الجبَّارُ جل جلاله
(6)
: يا محمدُ. قال
(7)
: "لبَّيكَ وسعدَيكَ"، فقال: إنى لا يُبدَّلُ القولُ لديَّ
(8)
، كما كتَبتُ عليك في أمِّ الكتابِ، ولك بكلِّ حسنةٍ عشرُ أمثالِها، وهى خمسون فى أمِّ الكتابِ، وهي خمسٌ عليك. فرجَع إلى موسى، فقال: كيف فعلتَ؟ فقال: "خفَّف؛ أعطانا بكلِّ حسنةٍ عشرَ أمثالِها". قال: قد واللهِ راودتُ بنى إسرائيلَ على أدنى من هذا فترَكوه، فارجعْ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
بعده فى ص، ت 1، ت 2، ف:"إلى".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فضيعوه".
(5)
بعده في م: "وأبصارهم".
(6)
بعده فى ص، ت 1، ت 2، ف:"إن كان قاله".
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فقال".
(8)
بعده فى ص، ت 1، ت 2، ف:"هى".
فليخفِّفْ عنك أيضًا، قال: "يا موسى قد واللهِ استحيَيْتُ مِن ربِّي مما اختَلَفْتُ
(1)
إليه". قال: فاهبِطْ باسمِ اللهِ. فاستيقَظ وهو في المسجدِ الحرامِ
(2)
.
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ أن يُقالَ: إن اللهَ عز وجل أخبَر أنه أَسْرى بعبدِه من المسجد الحرامِ، والمسجدُ الحرامُ هو الذى يتعارَفُه الناسُ بينهم إذا ذكَروه.
وقولُه: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} يعنى: إلى مسجدِ
(3)
بيتِ المقدسِ. وقِيل له: الأقْصَى؛ لأنه أبعدُ المساجدِ التي تُزارُ، ويُبتَغى فى زيارتِه الفضلُ بعد
(4)
المسجدِ الحرامِ.
فتأويلُ الكلامِ: تنزيهًا للهِ، وتبرئةً له مما نحَله المشركونَ من الأشراكِ والأولادِ
(5)
والصاحبةِ، وما يجلُّ عنه جل جلاله، الذي سار بعبدِه ليلًا من بيتِه الحرامِ إلى بيتِه الأَقْصى.
ثم اختلَف أهلُ العلمِ فى صفةِ إسراءِ اللهِ تبارك وتعالى بنبِيِّه صلى الله عليه وسلم من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقْصى؛ فقال بعضُهم: أَسْرى اللهُ بجسدِه، فسار به ليلًا على البُراقِ من بيتِه الحرامِ إلى بيتِه الأَقْصى حتى أَتَاهُ، فَأَراهُ ما شاء أن يُرِيَه من عجائبِ أمرِه وعبرِه وعظيمِ سُلطانِه، فجُمعِتْ له به الأنبياءُ، فصلَّى بهم هُنالِكَ،
(1)
في ص، م، ت 1 ت 2، ونسخة من البخاري:"اختلف".
(2)
أخرجه أبو عوانة 1/ 125، 135 عن الربيع به، وأخرجه مسلم (262) من طريق ابن وهب به، وأخرجه البخارى (7517) من طريق سليمان به. وقال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" -كما في فتح البارى 13/ 484 - : زاد فيه -يعنى شريكا- زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ.
(3)
سقط من: م.
(4)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"عن".
(5)
في م: "الأنداد".
وعُرج به إلى السماءِ حتى صُعِد به فوق السَّماواتِ السبعِ، وأَوْحى إليه هنالِك ما شاء أن يُوحِيَ، ثم رَجَع إلى المسجدِ الحرامِ من ليلتِهِ، فصلَّى به صلاةَ الصبحِ.
ذكرُ مَن قال ذلك، وذكرُ بعضِ الرواياتِ التي رُوِيَتْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتصحيحِه
حدَّثَنَا يونُسُ بنُ عبدِ الأَعْلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني يونُسُ بنُ يزيدَ، عن ابنِ شهابٍ، قال: أخبرَنى ابنُ المسيَّبِ وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُسرى به على البُراقِ، وهى دابَّةُ إبراهيمَ التي كان يَزورُ عليها البيتَ الحرامَ، يَقَعُ حافرُها مَوضِعَ طرْفِها، قال: فمرّتْ بعِيرٍ من عيراتِ قريشٍ بوادٍ من تلك الأوديةِ، فنفَرتِ العِيرُ، وفيها بَعيرٌ عليه غرارَتانِ؛ سوداءُ، وزرقاءُ، حتى أتى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إيلياءَ، فأُتى بقدحين؛ قدحِ خمرٍ، وقدحِ لبنٍ، فأخذَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدحَ اللبنِ، فقال له جبريلُ: هُديتَ إلى الفطرةِ، لو أخذتَ قدحَ الخَمرِ غَوَتْ أمتُك؟ قال ابنُ شهابٍ: فأخبرنى ابنُ المسيَّبِ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ هناك إبراهيمَ وموسى وعيسى، فنعَتَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: "فأمَّا مُوسى فَضَرْبٌ رَجِلُ الرأسِ كأنه مِن رجالِ شَنُوءَةَ، وأما عيسى فرجلٌ أحمرُ كأنَّما خرَج مِن ديماسٍ
(1)
، فأشبهُ مَن رأيتُ به عروةُ بنُ مسعودٍ الثقفيُّ، وأما إبراهيمُ فأنا أشبَهُ ولدِه بهِ". فلما رجَع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حدَّث قريشًا أنه أُسرى به، قال عبدُ اللهِ: فارتدَّ ناسٌ كثيرٌ بعد ما أسلَموا
(2)
.
(1)
الديماس، بفتح الدال وكسرها، والمراد به هنا الحمام. النهاية 2/ 133.
(2)
أخرجه البخارى (4709، 5603)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 357 من طريق يونس بن يزيد عن الزهرى، عن ابن المسيب، عن أبى هريرة. وأخرجه البخاري (3394، 3437، 5576)، ومسلم (272)، والترمذى (3130)، وأبو عوانة، 1/ 129، 130 من طريق الزهرى عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. دون وصف البراق وقصة البعير.
قال أبو سلمةَ: فأُتى أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، فقيل له: هل لك في صاحبِك، يزعُمُ أنه أُسرى به إلى بيتِ المقدسِ، ثم رجَع في ليلةٍ واحدةٍ! قال أبو بكرٍ: أَوَ قال ذلك؟ قالوا
(1)
: نعم. قال: فأَشهدُ إن كان قال ذلك لقد صدَق. قالوا: أفتشهدُ أنه جاء الشامَ في ليلةٍ واحدةٍ؟ قال: إني أُصدِّقُه بأبعدَ من ذلك، أُصدِّقُه بخبرِ السماءِ
(2)
.
قال أبو سلمةَ: سمِعتُ جابرَ بن عبدِ اللهِ يقولُ: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يقولُ: "لما كذَّبتْني قريشٌ قُمتُ، فمثَّل اللهُ لى بيتَ المقدسِ، فَطَفِقتُ أُخبِرُهم عن آياتِه وأنا أنظرُ إليه"
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثني يعقوبُ بنُ عبدِ الرحمنِ الزهريُّ، عن أبيهِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ هاشمِ بنِ عتبةَ بن أبي وقاصٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: لما جاء جبريلُ عليه السلام بالبراقِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكأنها [صرَّت أذنيها]
(5)
، فقال لها جبريلُ: مهْ يا براقُ، فواللهِ
(6)
إن ركِبكِ مثلُه. فسار
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(2)
أخرجه البيهقى فى الدلائل 2/ 360 من طريق الزهرى به.
(3)
أخرجه أبو عوانة 1/ 125، والطحاوى فى المشكل (4852) عن يونس بن عبد الأعلى به، وأخرجه البخارى (4710)، وابن حبان (55) من طريق ابن وهب به، وأخرجه أحمد 23/ 281 (15034، 15035)، والبخارى (3886)، ومسلم (276)، والترمذى (3133)، والنسائي (11282)، والطحاوى فى المشكل (4853)، وابن منده فى الإيمان (739)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 359 من طريق الزهرى به.
(4)
بعده فى ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(5)
فى م: "ضربت بذنبها"، وفى تاريخ دمشق:"ضربت أذنيها"، وفي الدلائل، وتفسير ابن كثير:"أمرت ذنبها". وفى مختصر تاريخ دمشق 2/ 117 كالمثبت، وصرت أذنيها: سوَّتْها ونصبتها للاستماع. ينظر اللسان (ص ر ر).
(6)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"والله".
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوزٍ تانئٍ
(1)
على جنبِ الطريقِ -قال أبو جعفرٍ: ينبغى أن [تكونَ: تانئةٍ]
(2)
. ولكن أُسقِطَ منها التأنيثُ - فقال: "ما هذه يا جبريلُ؟ " قال: سِرْ يا محمدُ. قال
(3)
: فسار ما شاء اللهُ أن يسيرَ، فإذا شيءٌ يدعوه، [مُتَنحيًّا عن الطريقِ يقولُ]
(4)
: هلُمَّ يا محمدُ. قال جبريلُ: سرْ يا محمدُ. فسار ما شاء اللهُ أن يسيرَ، قال: ثم لقيَه خلقٌ مِن الخلقِ
(5)
، فقال أحدُهم: السلامُ عليك يا أوَّلُ، والسلامُ عليك يا آخرُ، والسلامُ عليك يا حاشرُ. فقال له جبريلُ: ارْدُدِ السلامَ يا محمدُ. قال: فردّ السلامَ، ثم لقيَه الثانى، فقال له مثلَ مقالةِ [الأولِ، ثم لقيه الثالثُ فقال له مثلَ مقالةِ]
(6)
الأوَّلين، حتى انتهى إلى بيتِ المقدسِ، فعرَض عليه الماءَ واللبنَ والخمرَ، فتناول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اللبنَ، فقال له جبريلُ: أصبتَ يا محمدُ الفطرةَ، ولو شرِبتَ الماءَ لغَرِقتَ وغَرِقتْ أمتُك، ولو شرِبتَ الخمرَ لغوَيتَ وغَوَتْ أمتُك. ثم بُعِث له آدمُ فمَن دونه مِن الأنبياء، فأمَّهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلكَ الليلةَ، ثم قال له جبريلُ: أما العجوزُ التي رأيتَ
(7)
على جانبِ الطريقِ، فلم يبقَ من الدنيا إلا
(8)
ما بقىَ مِن
(9)
تلك العجوزِ، وأما الذى أراد أن تميلَ إليه، فذاك عدوُّ اللهِ إبليسُ، أراد أن تميلَ إليه وأما الذين سلَّموا عليك، فذاك إبراهيمُ ومُوسى وعِيسى
(10)
.
(1)
فى م: "ناء عن الطريق: أى". وتنأ بالمكان: أقام وقطن، فهو تانئ. ينظر اللسان (ت ن أ).
(2)
فى م: "تكون نائية".
(3)
سقط من: م.
(4)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"فتنحى عن الطريق".
(5)
فى م: "الخلائق".
(6)
سقط من النسخ، والمثبت من تاريخ دمشق، ونحوه فى بقية المصادر.
(7)
بعده فى ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
(8)
بعده في م: "بقدر".
(9)
بعده في م: "عمر".
(10)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 3/ 501، وأبو عبد الله المقدسى فى المختارة 6/ 258 من طريق يونس =
حدَّثنى عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: أخبَرنا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ الرِّيَاحِيِّ، عن أبي هريرةَ أو غيرِه -شكَّ أبو جعفرٍ- فى قولِ اللهِ عز وجل:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قال: جاء جبريلُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيلُ، فقال جبريلُ لميكائيلَ: ائتني بطَستٍ مِن ماءِ زمزمَ كيما أطهرَ قلبَه، وأشرحَ له صدرَه. قال: فشقّ عنه
(1)
بطنَه، فغسَله ثلاثَ مرّاتٍ، واختلَف إليه ميكائيلُ بثلاثِ طِساسٍ
(2)
من ماءِ زمزمَ، فشرَح صدرَه، ونزَع ما كان فيه من غلٍّ، ومَلأه حلمًا
(3)
وعلمًا وإيمانًا ويقينًا وإسلامًا، وختَم بين كتفَيه بخاتمِ النبوةِ، ثم أتاه بفرسٍ فحُمِل عليه، كلُّ خطوةٍ منه منتهى بصرِه
(4)
، أو
(5)
أقصى بصرِه. قال: فسار وسار معه جبريلُ عليه السلام، فأتى على قومٍ يزرَعون في يومٍ ويحصُدون في يومٍ، كلما حصَدوا عاد كما كان، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا جبريلُ ما هذا؟ " قال: هؤلاء المجاهدون في سبيلِ اللهِ، تُضاعَفُ لهم الحسنةُ بسبعِمائةِ ضعفٍ، وما أنفَقوا من شيءٍ فهو يُخلِفُه، وهو خيرُ الرازقينَ.
ثم أتى على قومٍ تُرضَخُ رءوسُهم بالصخرِ، كلما رُضِخَتْ عادتْ كما كانت، ولا يُفتَّرُ عنهم من ذلكَ شيءٌ، فقال: "ما هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قال:
= به. وأخرجه البيهقى فى الدلائل 2/ 361، 362 من طريق ابن وهب به. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 139 إلى ابن مردويه. وأورده ابن كثير في تفسيره 5/ 9، عن المصنف، وقال: وهكذا رواه الحافظ البيهقى فى دلائل النبوة" من حديث ابن وهب، وفى بعض ألفاظه نكارة وغرابة.
(1)
في م: "عن".
(2)
في م: "طسات".
(3)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"حكما".
(4)
فى م: "طرفه".
(5)
فى م، ت 1، ت 2، ف:"و".
هؤلاء الذين تتثاقلُ رءوسُهم عن الصلاةِ المكتوبةِ.
ثم أتى على قومٍ على أقبالِهم رِقاعٌ، وعلى أدبارِهم رِقاعٌ، يَسرَحونَ كما تسرحُ الإبلُ والغنمُ، ويأكلون الضريعَ والزقُّومَ ورَضْفَ جهنمَ وحجارتَها، قال:"ما هؤلاء يا جبرِيلُ؟ " قال: هؤلاء الذين لا يؤدُّون صدقاتِ أموالِهم، وما ظلَمهم اللهُ شيئًا، وما اللهُ بظلامٍ للعبيدِ.
ثم أتى على قومٍ بينَ أيديهم لحمٌ نضيجٌ [في قدورٍ، و]
(1)
لحمٌ آخرُ [نِيءٌ قذرٌ]
(2)
خبيثٌ، فجعَلوا يأكلونَ من النِّيءِ
(3)
الخبيثِ
(4)
ويدَعونَ النضيجَ الطَّيبَ، فقال:"ما هؤلاءِ يا جبريلُ؟ " قال: هذا الرجلُ مِن أمَّتِك، تكونُ عندَه المرأةُ الحلالُ الطَّيبُ، فيأتى امرأةً خبيثةً فيبيتُ عندَها حتى يُصبحَ، والمرأةُ تقومُ من عندِ زوجِها حلالًا طيبًا، فتأتى رجلًا خبيثًا فتبيتُ معه حتى تُصبحَ.
قال: ثم أتى على خشبةٍ على
(5)
الطريقِ لا يمرُّ بها ثوبٌ إلا شقَّتْه، ولا شيءٌ إلا خرَقتْه، قال:"ما هَذَا يا جبريلُ؟ " قال: هذا مثَلُ أقوامٍ مِن أُمَّتِك يقعُدونَ على الطريقِ فيقطَعونه. ثم تلا
(6)
: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86].
ثم أتى على رجلٍ قد جمَع حُزْمةً
(7)
عظيمةً لا يستطيعُ حمْلَها، وهو يزيدُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وفي قدور".
(2)
في ص، ت 2، ف:"في قدر".
(3)
في ت 1: "القذر".
(4)
سقط من: م، ت 2، ف.
(5)
فى م: "في".
(6)
في م: "قرأ".
(7)
بعده في م: "حطب".
عليها، فقال:"ما هذا يا جبريلُ؟ " قال: هذا الرجلُ من أُمَّتِك تكونُ عليه
(1)
أماناتُ الناسِ لا يقدِرُ على أدائِها، وهو
(2)
يريدُ أن [يحملَ عليها]
(3)
.
ثم أتى على قومٍ تُقْرَضُ ألسنتُهم وشفاهُهم بمقاريضَ مِن حديدٍ، كلما قُرِضتْ عادتْ كما كانتْ، لا يُفَتَّرُ عنهم مِن ذلك شيءٌ، قال:"ما هؤلاء يا جبريلُ؟ " قال: هؤلاء
(4)
خطباءُ الفتنةِ
(5)
.
ثم أتى على جُحْرٍ صغيرٍ يخرُجُ منه ثورٌ عظيمٌ، فجعَل الثورُ يريدُ أن يَرجِعَ مِن حيثُ خرَج فلا يستطيعُ، فقال:"ما هَذَا يا جبريلُ؟ " قال: هذا الرجلُ يتكلَّمُ بالكلمةِ العظيمةِ، ثم يَنْدَمُ عليها، فلا يَسْتطيعُ أَن يَرُدَّها.
ثم أتى على وادٍ، فوجد ريحًا طيبةً باردةً، و
(6)
ريحَ المسكِ، وسمِع صوتًا، فقال: "يا جبريلُ، ما هذه الريحُ الطيبةُ الباردةُ ريحُ
(7)
المسكِ؟ وما هذا الصوتُ؟ " قال: هذا صوتُ الجنةِ تقولُ: يا ربِّ، آتِنى ما وعدْتَني، فقد كَثُرَتْ غُرَفى، وإستبرقى وحَريرى، وسُندسى وعَبقريِّى، ولُؤلؤى ومَرجَاني، وفِضَّتي وذهبي، وأكوابِي وصِحافي وأَباريقى، وفَواكهى ونَخلى ورُمّاني، ولَبنى وخَمرى، فآتِني ما وعدْتَنى. فقال: لكِ كلُّ مسلمٍ ومسلمةٍ، ومؤمنٍ ومؤمنةٍ، ومَن آمَن بي وبرسلي، وعمِل صالحًا ولم يُشركْ بي، ولم يتخذْ من دونى أندادًا، ومَن خشيَنى فهو آمنٌ،
(1)
في م: "عنده".
(2)
بعده فى م: "يزيد عليها و".
(3)
فى م: "يحملها فلا يستطيع ذلك".
(4)
بعده فى م: "خطباء أمتك".
(5)
بعده فى م: "يقولون ما لا يفعلون".
(6)
بعده في م: "فيه".
(7)
فى م: "وهذه الرائحة التي كريح".
ومَن سأَلني أعطيتُه، ومَن أقرَضنى جزَيْتُه، ومَن توكَّل عليَّ كفيتُه، إنى أنا اللهُ لا إلهَ إلا أنا، لا أُخلفُ الميعادَ، وقد أفلَح المؤمنونَ، وتبارَك اللهُ أحسنُ الخالقينَ. قالتْ: قد رضيتُ.
ثم أتى على وادٍ فسمِع صوتًا منكَرًا، ووجَد ريحًا منتنةً، فقال:"ما هذه الريحُ يا جبريلُ؟ وما هذا الصوتُ؟ " قال: هذا صوتُ جهنمَ، تقولُ: يا ربِّ، آتنِى ما وعدْتَني، فقد كثُرتْ سلاسلي وأغْلالى، وسَعيرى وجَحِيمي، وضَريعي وغَسَّاقي، وعذابي وعِقابي، وقد بَعُدَ قَعْرى، واشتدَّ حرِّى، فآتِني ما وعدتنى. قال: لكِ كلُّ مشركٍ ومشركةٍ، وكافرٍ وكافرةٍ، وكلُّ خبيثٍ وخبيثةٍ، وكلُّ جَبَّارٍ لا يؤمنُ بيومِ الحسابِ. قالت: قد رضِيتُ.
قال: ثم سَار حتى أتى بيتَ المقدسِ، فنزل فربَط فرسَه إلى صخرةٍ، ثم دخَل فصلَّى مع الملائكةِ، فلما قُضِيَتِ الصلاةُ، قالوا: يا جبريلُ، مَن هذا معكَ؟ قال: محمدٌ. فقالوا: أَوَ قد أُرْسِل محمدٌ
(1)
؟ قال: نعم. قالوا: حيَّاه اللهُ مِن أخٍ ومِن خليفةٍ، فنعم الأخُ، ونعم الخليفةُ، ونعم المَجِيءُ جاء. قال: ثم لَقِيَ أرواحَ الأنبياءِ فأثنَوا على ربِّهم، فقال إبراهيمُ: الحمدُ للهِ الذى اتخذني خليلًا، وأعطاني مُلكًا عظيمًا، وجعلنى أمَّةً قانتًا للهِ يُؤتمُّ بى، وأنقَذنى من النارِ، وجعلَها عليَّ بردًا وسلامًا. ثم إن مُوسى أثنى على ربِّه، فقال: الحمدُ للهِ الذى كلَّمني تكليمًا، وجعَل هلاكَ آلِ فرعونَ ونجاةَ بني إسرائيلَ على يديَّ، وجعَل من أمَّتِى قومًا يَهدُون بالحقِّ
(2)
وبه يعدِلون
(3)
. ثم إن داودَ عليه السلام أثنى على ربِّه، فقال: الحمدُ للهِ الذي جعَل لى
(1)
فى م: "إليه".
(2)
في ص، ت 1، ف:"للحق".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يعملون".
ملكًا عظيمًا، وعلَّمنى الزّبورَ، وألان لىَ الحديدَ، وسخَّر ليَ الجبالَ يسبِّحنَ والطيرَ، وأعطانى الحكمةَ وفَصْلَ الخطابِ. ثم إن سليمانَ أثنى على ربِّه، فقال: الحمدُ للهِ الذي سخَّر ليَ الرياحَ، وسخَّر لى الشياطينَ يعملونَ
(1)
ما شئتُ مِن محاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ وقدورٍ راسياتٍ، وعلَّمنى منطقَ الطيرِ، وأتاني مِن كلِّ شيءٍ فضلًا، وسخَّر لى جنودَ الشياطينِ والإنسَ والطيرَ، وفضَّلني على كثيرٍ مِن عبادِه المؤمنينَ، وآتاني ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدى، وجعَل ملكى ملكًا طيبًا ليس عليَّ فيهِ حسابٌ. ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربِّه، فقال: الحمدُ للهِ الذى جعَلني كلمتَه، وجعَل مَثَلِى مَثَلَ آدمَ خَلَقه مِن ترابٍ، ثم قال له: كنْ. فيكونُ، وعلَّمنى الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والإنجيلَ، وجعَلنى أخلُقُ مِن الطينِ كهيئةِ الطيرِ فأنفُخُ فيه فيكونُ طيرًا بإذنِ اللهِ، وجعَلنى أبرئُ الأكمهَ والأبرصَ وأُحيى الموتى بإذنِ اللهِ، ورفَعنى وطهَّرنى، وأعاذَنى وأُمِّى مِن الشيطانِ الرجيمِ، فلم يكنْ للشيطانِ علينا سبيلٌ. قال: ثم إن محمدًا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربِّه، فقال: "كلُّكم
(2)
أَثْنَى على ربِّه، وأنا مُثنٍ علَى ربِّي". فقال: "الحمدُ للهِ الذى أرسلَنى رحمةً للعالمينَ، وكافةً للناسِ بشيرًا ونَذيرًا، وأنزَل عليَّ الفرقانَ فيه تبيانُ كُلِّ
(3)
شَيءٍ، وجعَل أمَّتى خيرَ أمةٍ أُخرِجتْ للناسِ، وجعَل أمَّتى أمةً
(4)
وسطًا، وجعلَ أمَّتى همُ الأولين وهم الآخرين، وشرَح لي صدرِي، ووضَع عنى وِزْرِى، ورفَع لى ذكرِى، وجعَلنى فاتحًا خاتِمًا". قال إبراهيمُ: بهذا فضَلكم محمدٌ. قال أبو جعفرٍ، وهو الرازيُّ: خاتمُ النبوّةِ، وفاتحٌ بالشفاعةِ يومَ القيامةِ.
(1)
بعده في م: "لى".
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"كل".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لكل".
(4)
سقط من: م.
ثم أُتى
(1)
بآنيةٍ ثلاثةٍ مغطاةٍ أفواهُها، فأُتى بإناءٍ منها فيه ماءٌ، فقيل: اشرَبْ. فشرِب منه يسيرًا، ثم دُفِع إليه إناءٌ آخرُ فيه لبنٌ، فقيل له: اشرَبْ. فشرِب منه حتى رَوِيَ، ثم دُفع إليه إناءٌ آخرُ فيه خمرٌ، فقِيل له: اشربْ. فقال: "لا أريدُه، قد رَوِيتُ". فقال له جبريلُ صلى الله عليه وسلم: أما إنها ستُحرَّم على أُمَّتِك، ولو شرِبتَ منها لم يتبعْكَ مِن أُمَّتِكَ إِلَّا قليلٌ
(2)
.
ثم صعِد
(3)
به إلى السماءِ
(4)
، فاستفتَح
(5)
، فقِيل: مَن هذا [يا جبريلُ]
(6)
؟ فقال: محمدٌ. قالوا: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نَعَمْ. قالوا: حيَّاه اللهُ مِن أخٍ ومِن خليفةٍ، فنِعْمَ الأخُ، ونِعْمَ الخليفةُ، ونِعْمَ المَجيءُ جاء. فدخَل فإذا هو برجلٍ تامِّ الخَلْقِ لم يَنقُصْ مِن خَلْقِه شيءٌ، كما يَنْقُصُ مِن خلقِ الناسِ، على يَمينِه بابٌ يَخْرُجُ منه ريحٌ طيِّبةٌ، وعن شمالِه بابٌ يَخرُجُ منه ريحٌ خبيثةٌ، إذا نظَر إلى البابِ الذي عن يمينِه ضحِك واستبشَر، وإذا نظَر إلى البابِ الذى عن شمالِه بكَى وحزِن، فقلتُ:"يا جبريلُ، مَن هذا الشيخُ التامُّ الخلقِ الذى لم يَنقُصْ مِن خلقِه شيءٌ، وما هذانِ البابانِ؟ " قال: هذا أبوكَ آدمُ، وهذا البابُ الذى عن يمينِه بابُ الجنةِ، إذا نظَر إلى مَن يَدخُلُه مِن ذُرِّيَّتِه ضحِك واستبشَر، والبابُ الذى عن شِمالِه بَابُ جَهَنَّمَ، إِذا نظَر إلى من يدخُلُه مِن ذرِّيَّتِه بكَى وحزِن.
ثم صعِد به جبريلُ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماءِ الثَّانيةِ، فاستفتَح، فقِيل: مَن هذا
(7)
(1)
بعده في م: "إليه".
(2)
فى م: "القليل".
(3)
في م: "عرج".
(4)
فى م: "سماء الدنيا".
(5)
بعده فى م: "جبرئيل بابا من أبوابها".
(6)
فى م: "قال جبرئيل، قيل: ومن معك؟ ".
(7)
بعده فى م: "قال: جبرئيل، قيل: ومن".
معَك؟ قال: محمدٌ رسولُ اللهِ. فقالوا: وقد أُرسِل محمدٌ
(1)
؟ قال: نعم. قالوا: حيَّاه اللهُ مِن أخٍ ومِن خليفةٍ، فنِعْمَ الأخُ، ونِعْمَ الخليفةُ، ونِعمَ المَجيءُ جاء. قال: فإذا هو بشابَّينِ، فقال:"يا جبريلُ، مَن هذان الشابَّانِ؟ " قال: هذا عيسى ابنُ مريمَ، ويحيى بنُ زكريا، ابنا الخالةِ.
قال: فصَعِد به إلى السَّماءِ الثَّالثة، فاستفتَح، فقالوا: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قالوا: ومَن معَك؟ قال: محمدٌ. قالوا: أَوَ
(2)
قد أُرسِل
(3)
؟ قال: نَعَمْ. قالوا: حيَّاه اللهُ من أخٍ ومِن خليفةٍ، فنعم الأخُ، ونعم الخليفةُ، ونعم المَجيءُ جاء. قال: فدخَل فإذا هو برجلٍ قد فُضِّل على الناسِ كلِّهم في الحُسْنِ، كما فُضِّل القمرُ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، قال:"مَن هذا يا جبريلُ الذي فُضِّل على النَّاسِ في الحُسْنِ؟ " قال: هذا أخوكَ يوسُفُ.
ثم صعِد به إلى السماءِ الرابعةِ، فاستفتَح، فقِيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قالوا: ومَن معك؟ قال: محمدٌ. قالوا: أوَ
(2)
قد أُرسِل
(3)
؟ قال: نَعَمْ. قالوا: حيَّاه اللهُ مِن أخٍ ومِن خليفةٍ، فنِعْمَ الأخُ، ونِعْمَ الخليفةُ، ونِعْمَ المَجيءُ جاء. قال: فدخَل فإذا هو برجلٍ، قال:"مَن هذا يا جبريلُ"؟ قال: هذا إدريسُ رفَعه اللهُ مكانًا عليًّا.
ثم صعِد به إلى السَّماءِ الخامسةِ، فاستفتَح
(4)
، فقالوا: مَن هذا؟ فقال: جبريلُ. قالوا: [ومَن]
(5)
معَكَ؟ قال: محمدٌ. قالوا: أوَ
(2)
قد أُرسِل
(3)
؟ قال: نعم.
(1)
فى م: "إليه"، وفى ت 1:"إلى محمد".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"و".
(3)
بعده فى م، ت 1:"إليه".
(4)
بعده فى م: "جبرئيل".
(5)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
قالوا: حيَّاه اللهُ مِن أخٍ ومِن خليفةٍ، فنِعْمَ الأخُ، ونِعمَ الخليفةُ، ونِعْمَ المَجيءُ جاء. ثم دخَل، فإذا هو برجلٍ جالسٍ، وحوله قومٌ يقُصُّ عليهم، قال:"مَن هذا يا جبريلُ، ومَن هؤلاءِ الذين حولَه؟ " قال: هذا هارونُ المُحبَّبُ في قومِه، وهؤلاءِ بنو إسرائيلَ.
ثم صَعِد به إلى السماءِ السادسةِ، فاستفتَح
(1)
، فقِيل له: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قالوا: ومَن معك؟ قال: محمدٌ. قالوا: أوَ
(2)
قد أُرسِل
(3)
؟ قال: نعم. قالوا: حيَّاه اللهُ من أخٍ ومِن خليفةٍ، فنِعْمَ الأخُ، ونِعْمَ الخليفةُ، ونعم المَجيءُ جاء. فإذا هو برجلٍ جالسٍ، فجاوَزه، فبكَى الرجلُ، فقال:"يا جبريلُ مَن هذا؟ " قال: موسى. قال: " [فما بالُه]
(4)
يبكي؟ " قال: تَزَعُمُ بنو إسرائيلَ أنى أَكْرَمُ بني آدمَ على اللهِ، وهذا رجلٌ مِن بني آدمَ قد خلَفني في دنيا، وأنا في أُخرَى، فلو أنه بنفسِه لم أبالِ، ولكن مع كلِّ نبيٍّ أُمَّتُه.
قال: ثم صَعِد به إلى السماءِ السابعةِ، فاستفتَح
(5)
، فقِيل له
(6)
: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قيل
(7)
: ومَن معك؟ قال: محمدٌ. قالوا: أو (2) قد أُرسل (3)؟ قال: نعم. قالوا: حيَّاه اللهُ من أخٍ ومِن خليفةٍ، فنِعْمَ الأخُ، ونِعْمَ الخليفةُ، ونِعْمَ المَجئُ جاء. قال: فدخَل فإذا هو برجلٍ أشمطَ
(8)
جالسٍ عند بابِ الجنةِ على كرسيٍّ،
(1)
بعده في م: "جبرئيل".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"و".
(3)
بعده في م، ت 1:"إليه".
(4)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"فماله".
(5)
بعده فى م: "جبرئيل".
(6)
سقط من: م.
(7)
فى م: "قالوا".
(8)
الشَّمَطُ فى الشعر: اختلافُه بلونين من سواد وبياض. اللسان (ش م ط).
وعندَه قومٌ جلوسٌ بيضُ الوجوهِ، أمثالُ القراطيسِ، وقومٌ في ألوانِهم شيءٌ، فقام هؤلاء الذين في ألوانِهم شيءٌ، فدخَلُوا نهرًا فاغتسَلوا فيه، فخرَجُوا وقد خلَص مِن ألوانِهم شيءٌ، ثُم دخَلوا نهرًا آخرَ، فاغتسَلوا فيه، فخرَجوا وقد خلَص من ألوانِهم شيءٌ، ثم دخلوا نهرًا آخرَ فاغتسَلوا فيه، فخرَجوا وقد خلَص مِن ألوانِهم
(1)
، فصارتْ مثلَ ألوانِ أصحابِهم، فجاءوا فجلَسوا إلى أصحابِهم، فقال:"يا جبريلُ، من هذا الأشطُ؟ ثم من هؤلاءِ البيضُ وجوهُهم؟ ومَن هؤلاءِ الذين في ألوانهم شيءٌ؟ وما هذه الأنهارُ التي دخَلوا فجَاءوا وقد صفَتْ ألوانُهم؟ " قال: هذا أبوكَ إبراهيمُ، أوَّلُ مَن شَمِط على الأرضِ، وأما هؤلاءِ البيضُ الوجوهِ فقومٌ لم يَلْبِسُوا إيمانَهم بظلمٍ، وأما هؤلاءِ الذين في ألوانِهم شيءٌ، فقومٌ خلَطوا عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا فتابوا، فتاب اللهُ عليهم، وأما الأنهارُ فأوَّلُها رحمةُ اللهِ، وثانيها نعمةُ اللهِ، والثالثُ: سقاهم ربُّهم شرابًا طهورًا.
قال: ثم انتهَى إلى السِّدرةِ، فقِيل له: هذه السدرةُ يَنتهِى إليها كلُّ أحدٍ خلا مِن أُمَّتِك على سُنَّتِك. فإذا هي شجرةٌ يَخرُجُ مِن أصلِها أنهارٌ من ماءٍ غيرِ آسنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغيَّرْ طعمُه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مُصفًّى. وهى شجرةٌ يسيرُ الراكبُ في ظلِّها سبعينَ عامًا لا يقطَعُها، والورقةُ منها مُغَطِّيةٌ للأمةِ
(2)
كلِّها. قال: فغشِيها نورُ الخَلاقِ عز وجل، وغشِيتْها الملائكةُ أمثالُ الغربانِ حينَ يقعنَ على الشجرِ
(3)
. قال: فكلَّمه عندَ ذلك، فقال له: سلْ. فقال: "اتخذتَ إبراهيمَ خليلًا، وأعطيتَه مُلكًا عظيمًا، وكلَّمتَ موسى تكليمًا، وأعطَيتَ
(1)
بعده في م: "شيء".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الأمة".
(3)
في م: "الشجرة".
داودَ مُلكًا عظيمًا، وألنت له الحديدَ، وسخَّرت له الجبالَ، وأعطَيتَ سليمان مُلكًا عظيمًا، وسخَّرت له الجنَّ والإنسَ والشياطينَ، وسخَّرتَ له الرياحَ، وأعطَيتَه ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وعلَّمتَ عيسى التَّوراة والإنجيلَ، وجعلته يُبرِئُ الأكمة والأبرصَ ويُحيى الموتى بإذن الله، وأعذْتَه وأمَّه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيلٌ". فقال له ربُّه: قد اتخذتُك
(1)
خليلًا - وهو مكتوبٌ
(2)
في التوراة: حبيبُ الرحمن
(3)
- وأرسلتُك إلى الناس كافَّةً بشيرًا ونذيرًا، وشرَحتُ لك صدرَك، ووضَعتُ عنك وزرَك، ورفعتُ لك ذكرك، فلا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معى، وجعلتُ أمَّتَك أمةً وَسَطًا، وجعلتُ أمَّتَك هم الأوّلين وهم الآخرين، وجعلتُ أمَّتَك لا تجوزُ لهم خُطبةٌ، حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجَعَلْتُ مِن أُمَّتِك أقوامًا قلوبُهم أناجيلُهم، وجعلتُك أوَّلَ النَّبيينَ خَلْقًا، وآخرهم بَعْثًا، وأَوَّلَهم
(4)
يُقْضَى له، وأعطَيتُك سبعًا من المثاني لم يُعطَها نبيٌّ قبلك، وأعطيتُك الكوثر، وأعطيتُك ثمانيةَ أسهمٍ؛ الإسلامَ، والهجرة والجهاد، والصدقةَ، والصلاةَ، وصومَ رمضانَ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجعلتُك فاتحًا وخاتمًا. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فَضَّلَنِي رَبِّي بسِتٍّ؛ أَعْطَانِى فَوَاتحَ الكَلِم وَخَواتِيمَه، وَجَوامِعَ الحَدِيثِ، وَأَرْسَلَنِي إلى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا ونَذِيرًا، وقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوِّي الرُّعْبَ مِن مَسِيرِةِ شَهْرٍ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائمُ ولَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ كُلُّها طَهُورًا ومَسْجِدًا".
(1)
بعده في م: "حبيبا و".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مكتوبك".
(3)
في م: "الله".
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
قال: "وفَرَضَ عَلَيَّ
(1)
خَمْسِينَ صَلاةً". فلما رجع إلى موسى، قال: بِمَ أُمِرْتَ يا محمد؟ قال: "بخمسين صلاةً". قال: ارجعْ إلى ربِّك فاسأَله التَّخفيف؛ فإن أمَّتَك أَضْعَفُ الأُمم، فقد لَقِيتُ مِن بَنى إسرائيل شِدَّةً، قال: فرجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه فسأله التَّخفيف، فوضَع عنه عَشْرًا، ثم رجع إلى موسى، فقال: بكم أُمِرتَ؟ قال: "بأربعين". قال: ارجِعْ إلى ربِّك فاسألْه التَّخفيف، فإن أمَّتَك أضعفُ الأمم، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شِدَّةً. قال: فرجع إلى ربِّه، فسأله التَّخفيف، فوضَع عنه عشرًا، فرجَع إلى موسى، فقال: بكم أُمِرتَ؟ قال
(2)
: "أُمِرْتُ بثلاثِينَ". فقال له موسى: ارجعْ إلى ربِّك فاسأَلْه التَّخفيف، فإن أمَّتَك أضعفُ الأمم، وقد لَقِيتُ مِن بني إسرائيلَ شِدَّةً. قال: فرجع إلى ربِّه فسَأَله التَّخفيف؛ فوضَع عنه عشرًا، فرجع إلى موسى فقال: بكم أُمرت؟ قال: "أُمِرتُ
(3)
بعشرينَ". قال: ارجع إلى ربِّك فاسأَلْه التَّخفيفَ، فإن أمَّتَك أضعفُ الأمم، وقد لَقِيتُ من بني إسرائيل شِدَّة. قال: فرجع إلى ربِّهِ فسأَله التَّخفيفَ فوضَع عنه عشرًا. فرجع إلى موسى، فقال: بكم أمرتَ؟ قال: "بعشرٍ". قال ارجعْ إلى ربِّك فاسألْه التَّخْفِيفَ؛ فإن أمَّتَك أضعفُ الأمم، وقد لَقِيتُ مِن بنى إسرائيلَ شِدَّةً. قال: فرجَع على حياء إلى ربِّه فسأله التخفيف، فوضع عنه خمسًا، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أُمِرتَ؟ قال: "بخمس". قال: ارجعْ إلى ربِّك فاسألْه التَّخفيفَ، فإن أمَّتَك أضعفُ الأمم، وقد لَقِيتُ من بني إسرائيل شِدَّةً. قال: قد رجعتُ إلى ربَّي حتى استَحْيَيْتُ فما أنا راجعٌ إليه. فقيل له: أمَّا إِنك كما صبَرتَ نفسَك على خَمْسِ
(1)
في تفسير ابن كثير: "عليه".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
سقط من: م.
صَلَواتِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْزِينَ عنكَ خمسين صلاةً، فإن كلَّ حسنةٍ بعشرِ أمثالها. قال: فرضِي محمدٌ صلى الله عليه وسلم كُلَّ الرِّضا. قال
(1)
: فكان موسى أشدَّهم عليه حين مرّ به، وخيرَهم له حِينَ رجَع إليه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبيد الله، قال: أخبرنا أبو النَّضْرِ هاشمُ بنُ القاسم، قال: ثنا أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي العالية أو غيره - شكٍّ أبو جعفرٍ -، - عن أبي هريرة في قوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}. إلى قوله:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قال: جاء جبريلُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديثِ عليّ بن سَهْلٍ، عن حجَّاجٍ، إلا أنه قال: جاء جبريلُ
(3)
معه ميكائيلُ، وقال
(4)
: كما تروحُ
(5)
الأنعام [إلى الضَّرِيعِ]
(6)
، وقال في كلِّ موضعٍ: قال عليٌّ: "ما هؤلاء": "من هؤلاءِ
(7)
"، وقال في موضع: تُقرَضُ ألسنتُهم: تُقَصُّ ألسنتُهم. وقال أيضًا في موضعٍ قال عليٌّ فيه: ونِعْمَ الخليفةُ: [ونعم الخليفةُ]
(8)
. وقال في ذكرِ الخمرِ، فقال:
(1)
سقط من: م.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 31 عن المصنف، وأخرجه البيهقى في الدلائل 2/ 396، 397 من طريق على بن سهل به. وأخرجه البزار (55 - كشف)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 5/ 36، والبيهقي في الدلائل 2/ 397 من طريق أبي جعفر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 144 إلى أبي يعلى، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، وابن مردويه. وقال ابن كثير في تفسيره: وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخارى، ويشبه أن يكون مجموعا من أحاديث شتى، أو منام وقصة أخرى غير الإسراء.
(3)
بعده في م: "و".
(4)
بعده في م: "فيه: وإذا بقوم يسرحون".
(5)
في م: "تسرح".
(6)
في م: "يأكلون الضريع والزقوم".
(7)
بعده في م: "يا جبرئيل".
(8)
سقط من: م.
"لا أُرِيدُه، قد رَويتُ". قال: جبريلُ: [قد أصبتَ الفطرة يا محمدُ، إنها ستُحَرَّمُ]
(1)
على أُمَّتِك. وقال في سدرة
(2)
المُنتهى أيضًا: هذه السَّدْرَةُ المنتهى، إليها يَنتَهى كلُّ أحدٍ خلا على سبيلك مِن أُمَّتِك. وقال أيضًا في الورقة منها تُظِلُّ الخلقَ كلَّهم: تَغْشَاها الملائكةُ مثل الغِرْبانِ حينَ يَقَعْنَ على الشجرة، من حُبِّ اللهِ. وسائرُ الحديثِ نحوُ
(3)
حديث عليٍّ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن أبي هارونَ العَبْدِيِّ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، وحدَّثنى الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: ثنا مَعْمَرٌ، قال: أخبَرنا أبو هارونَ العَبْدِيُّ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - واللَّفْظُ لحديث الحسنِ بن يَحيى - في قوله:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . قال: ثنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسرى به، فقال نبيُّ الله: "أُتِيتُ بدايَّةٍ هي أشبهُ الدوابِّ بالبغل، له أُذنان مضْطَربتانِ، وهو البُراقُ، وهو الذي كان تركبُه الأنبياءُ قَبْلِي، فركبتُه، فانطلق بي يَضَعُ يدَه عندَ مُنتَهى بَصَرِه، فسمِعتُ نِداء عن يَمينى:[يا محمدُ]
(5)
، علَى رِسْلِك أسألْك. فمضَيْتُ ولم أُعرِّجْ عليه، ثم سمعتُ نداءً عن شمالي: يا محمدُ، على رسْلِك أسألْك. فمضَيتُ ولم أَعرِّجْ عليه، ثم استقبلت امرأةً
(6)
عليها من كلِّ زينة
(7)
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أصبت، أما أنه سيحرم".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"السدرة".
(3)
في م: "مثل".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 36 عن المصنف ولم يذكر لفظه.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(6)
بعده في م: "في الطريق فرأيت".
(7)
بعده في م: "من زينة".
الدُّنيا رافعةً يدها، تقولُ
(1)
: على رسْلِك أسألْك. فمضَيتُ ولَمْ أَعَرِّجْ عَلَيْها، ثُمَّ أَتيتُ بيتَ المقدس - أو قال: المسجدَ الأقْصَى - فنزَلتُ عن الدَّابَّةِ فأوثَقتُها بالحلقة التي كانت الأنبياءُ تُوثِقُ بها، ثم دخَلتُ المسجدَ فصلَّيتُ فيه، فقال لي جبريلُ: ماذا رأيت في وجهك. فقُلتُ: سمِعتُ نِداءً عن يَمينى، أن يا محمدُ، على رِسْلِك أسألكَ. فمضَيتُ ولم أُعرِّج عليه". قال: ذاك داعِى اليهودِ، أَمَا إِنك لو وقَفتَ عليهِ تهوَّدَتْ أُمَّتُكَ. قال: ثم سمِعتُ نداءً عن يسارى، أنْ يا محمدُ، على رِسْلِك أسألك، فمَضَيتُ ولم أُعرِّجْ عليه. قال: ذاك داعى النَّصارى، أما إنك لو وقَفتَ عليه لتَنصَّرتْ أمَّتُك. قلتُ: ثم استقْبَلَتنى امرأةٌ عليها من كلِّ زينة
(2)
الدُّنيا رافعةً يدَها، تقولُ: على رسْلك أسألْك. فمضَيتْ ولم أُعرِّجْ عليها. قال: تلك الدُّنيا تزيَّنَتْ لكَ، أَمَا إِنَّك لو وقفت عليها [لاختارت أمَّتُك]
(3)
الدُّنيا على الآخرة. ثم أُتِيتُ بإناءين أحدُهما فيه لبنٌ، والآخرُ فيه خمرٌ، فقيل لي: اشرَبْ أيَّهُما شئت. فأخذتُ اللبن فشربتُه. قال: أصبتَ الفِطرة - أو قال: أخَذْتَ الفِطرة - ".
قال معمرٌ: وأخبرني الزُّهريُّ، عن ابن المسيَّبِ، أنه قيل له: أمَّا إِنَّك لو أخَذتَ الخمرَ غُوتْ أُمَّتُك.
قال أبو هارون في حديث أبي سعيد: "ثم جيء بالمعراج الذي تَعرُجُ فيه أرواحُ بنى آدمَ، فإذا أحسَنُ ما رأيتُ، ألم تر إلى المَيِّتِ كيف يَحُدُّ بصره إليه! فعُرج بنا فيه حتى انتَهَينا إلى باب السماءِ الدُّنيا، فاستفتح جبريلُ، فقيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قيل
(4)
: ومَن معك؟ قال: محمدٌ. قيل: أو قد أُرسل إليه؟ قال: نعم.
(1)
بعده في م: "يا محمد".
(2)
بعده في م: "من زينة".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"اخترت".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
ففتحوا وسلَّموا عليَّ، وإذا ملَكٌ مُوَكَّلٌ يَحرُسُ السماءَ يقالُ له: إسماعيلُ. معه سبعُون ألف ملكٍ، معَ كلِّ ملَكٍ منهم مائةُ ألفٍ، ثم قرأ:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، وإذا أنا برجل كهيئتِهِ يومَ خلقه الله لم يَتَغيَّرُ منهُ شيءٌ، فإذا هو تُعرَضُ عليه أرواحُ ذُرِّيَّته، فإذا كان رُوحَ مُؤمنٍ قال: رُوحٌ طيِّبٌ، وريحٌ طيِّبةٌ، اجعَلوا كتابَه في علِّيِّينَ. وإذا كان رُوحَ كافرٍ قال: روحٌ خبيثةٌ، ورِيحٌ خبيثةٌ، اجعَلوا كتابه في سِجِّينٍ
(1)
. فقلتُ: يا جبريلُ من هذا؟ قال: أبوك آدمُ. فسلَّم عليَّ ورحَّب بى
(2)
، وقال: مرحبًا بالنبيِّ الصَّالح [والولد الصَّالح]
(3)
. ثُمَّ نظَرتُ فإذا أنا بقوم لهم مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الإبل، وقد وُكِّل بهم مَن يَأْخُذُ بمَشَافِرِهم، ثم يَجْعَلُ فِي أَفواههم صَخْرًا مِن نارٍ يَخرُجُ مِن أسافِلِهم، قلتُ: يا جبريلُ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكُلون أموال اليَتامَى ظُلْمًا. ثم نظَرتُ فإذا أنا بقوم يُحذَى
(4)
مِن جُلُودِهم ويُرَدُّ في أفواههم، ثم يُقالُ: كُلُوا كما أكَلْتُم. فإذا أكرَهُ ما خلق الله لهم ذلك. قلتُ: مَن هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء الهمَّازُونَ اللمَّازونَ الذين يأكُلُونَ
(5)
لحومَ النَّاسِ
(6)
. ثم نَظَرتُ فإذا أنا بقومٍ على مائدةٍ عليها لحمٌ مشويٌّ كأحسن ما رأيتَ مِن اللَّحم، وإذا حولهم جيفٌ، فجعَلُوا يَميلُونَ على الجيف يأكُلونَ مِنها ويَدَعُونَ ذلكَ اللَّحمَ. قلتُ: من هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قال: هؤلاءِ الزُّناةُ عَمَدوا إلى مَا حَرَّم الله عليهم، وتركوا ما أحلَّ الله لهم. ثُمَّ نظَرتُ فإذا أنا بقومٍ لهم بُطونٌ كأنها البُيوتُ وهى على
(1)
في مصادر التخريج: "سجين". وسجيل في معنى سجين. اللسان (س ج ل).
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف. وبعده في م:"ودعا لى بخير".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
يحذى: يقطع. ينظر النهاية 1/ 357.
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
(6)
بعده في م: "ويقعون في أعراضهم بالسب".
سابِلة آل فرعونَ، فإذا مرَّ بهم آلُ فرعونَ ثارُوا
(1)
، فيَمِيلُ بأحدهم بطنُه فيَقَعُ، فيَتَوطَّؤُهم آلُ فرعون بأرجُلِهم، وهم يُعرضونَ على النَّارِ غُدوًّا وعَشِيًّا. قلتُ: مَن هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء أكلَةُ الرِّبَا، ربًا في بُطُونِهم، فمثلُهُم كمثل الذي يَتَخبَّطُه الشَّيطانُ من المسِّ. ثُمَّ نظَرتُ فإذا أنا بنساءٍ مُعلَّقاتٍ بثُدِيِّهِنَّ، ونساءٍ مُنَكَّساتٍ بأَرْجُلِهِنَّ. قلتُ: مَن هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هنَّ اللاتى يَزْنِينَ ويَقتُلنَ أولادَهنَ".
قال: "ثُمَّ صعدنا إلى السَّماءِ الثَّانية، فإذا أنا بيوسفَ وحوله تَبَعٌ مِن أُمَّتِه، ووجهُه كالقمر ليلة البدر، فسلَّم عليَّ ورحَّب بي، ثُمَّ مضَينا إلى السَّماءِ الثَّالثة، فإذا أنا بابنى الخالَةِ؛ يَحيى وعِيسى، يُشْبِهُ أحدُهما صاحبَه؛ ثِيابَهما وشَعَرَهما، فسلَّما عليَّ ورحَّبَا بي. ثُمَّ مضَينا إلى السَّماءِ الرَّابعةِ، فإذا أنا بإدريسَ، فسلَّم عليَّ ورحَّب، وقد قال الله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]. ثم مضينا إلى السماءِ الخامسة، فإذا أنا بهارونَ المحبَّبِ في قومه، و
(2)
حولَه تَبَعٌ كثيرٌ مِن أُمَّتِه - فوصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم - طويلُ اللِّحيةِ، تَكَادُ لحيَتُه تَمَسُّ سُرَّتَه، فسلَّم عليَّ ورحَّب، ثم مضَينا إلى السَّماءِ السَّادسة، فإذا أنا بموسى بن عِمْرانَ - فوصَفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: كثيرُ الشَّعَرِ، لو كان عليه قَمِيصانِ خرَج شَعَرُه منهما. قال موسى: تَزِعُمُ النَّاسُ أَنى أكرمُ الخَلْقِ على الله، فهذا أكرمُ على الله منِّى، ولو كان وحدَه لم أكُنْ أُبَالى، ولكنْ كلُّ نبيٍّ ومن تبعه مِن أُمَّتِه. ثم مضينا إلى السَّماءِ السَّابعة، فإذا أنا بإبراهيم وهو جالسٌ مُسنِدٌ ظهرَه إِلى البيت المعمور، فسلَّم عليَّ وقال: مرحبًا بالنبيِّ الصَّالحِ [والولد الصَّالحِ]
(3)
. فقيل: هذا مكانُكَ ومكانُ أُمَّتِك، ثُمَّ تَلا: {إنَّ
(1)
في ص، ت،1 ف:"باوا". وبعده في ت 2: "ياووا".
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. ثم دخلتُ البيتَ المعمورَ فصلَّيتُ فيه، وإذا هو يدخلُه كلَّ يومٍ سبْعُونَ أَلفَ ملَكِ، لا يَعودُون إلى يوم القيامةِ، ثم نظَرتُ فإذا أنا بشجرةٍ، إن كانت الورقةُ منها لمُغَطِّيةً هذه الأُمَّةَ، فإذا في أصلها عينٌ تَجرِى فانشعبتْ شُعْبَتين. فقلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: أمَّا هذا فهو نَهرُ الرَّحمةِ، وأمَّا هذا فهو الكَوثَرُ الذي أعطَاكَهُ الله. فاعْتَسَلتُ في نهر الرَّحمةِ فغُفِر لى ما تقدَّم من ذنبي وما تأخَّر، ثم أخَذتُ على الكوثر حتى دخلتُ الجنَّةَ؛ فإذا فيها مَا لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطَر على قلب بشرٍ، وإذا فيها رُمَّانٌ كأنه جلودُ الإبل المُقَتَّبة، وإذا فيها طيرٌ كأنها البُخْتُ". فقال أبو بكرٍ: إن تلك الطير لناعمةٌ. قال: "آكِلُها
(1)
أَنعَمُ مِنها يا أبا بكر، وإني لأرجو أن تأكل منها، ورأيتُ فيها جاريةً، فسألتُها: لمن أنتِ؟ فقالت: لزيد بن حارثةَ". فبشَّر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيدًا. قال: "ثم إن الله أمَرنى بأمرِه، وفرَض عليَّ خمسين صلاةً. فمَررتُ عَلَى موسى، فقال: بمَ أمَرك ربُّك؟ قلتُ: فرض عليَّ خمسين صَلاةً. قال: ارجعْ إلى ربِّك فاسْأَله التخفيفَ؛ فإن أمتك لن يَقُوموا بهذا. فرجعتُ إلى ربى فسأَلْتُه
(2)
فوضَع عنى عشرًا، ثم رجعتُ إلى موسى، فلم أزَلْ أرجعُ إلى ربى إذا مررتُ بموسى حتى فرَض عليَّ خمسَ صلواتٍ، فقال موسى: ارْجِعْ إلى ربِّك فاسألْه التخفيف. فقلتُ: قد رجَعتُ إلى ربى حتى استحييْتُ - أو قال: قلتُ: ما أنا براجعٍ - فقيل لى: إن لك بهذه الخمس صلواتٍ خمسين صلاةً، الحسنةُ
(3)
بعشر أمثالها، ومَن همَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها كُتِبت
(4)
(1)
في م: "أكلتها".
(2)
بعده في ت 1: "التخفيف".
(3)
في تفسير عبد الرزاق: "الخمسة".
(4)
بعده في م: "له".
حسنةً، ومَن عملها كُتبت
(1)
عشرًا، ومَن هَمَّ بسيئةٍ فلم يَعْمَلُها لم تُكْتَبْ شيئًا، فإن عملها كُتبت واحدةً"
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمد بن إسحاق، قال: ثنى رَوْحُ بنُ القاسم، عن أبي هارون عُمارة بن جُوين العبديِّ، عن أبي سعيد الخدريِّ، وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: وثنى أبو جعفرٍ، عن أبي هارونَ، عن أبي سعيدٍ، قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لما فرَغتُ مما كان في بيت المقدس، أتى بالمعراج، ولم أرَ شيئًا قطُّ أحسنَ منه، وهو الذي يَمُدُّ إليه ميِّتُكم عينيه إذا حضَر، فأصعَدني صاحبي فيه، حتى انتهى إلى بابٍ مِن الأبواب يقالُ له: بابُ الحَفَظةِ، عليه ملَكٌ يقالُ له: إسماعيلُ. تحتَ يديه اثنا عشر ألفَ ملَكٍ، تحتَ يدَى كلِّ ملَكٍ منهم اثنا عشَرَ ألْفَ ملَكٍ". فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين حدَّث هذا الحديث: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]. ثم ذكر نحوَ حديثِ معمرٍ، عن أبي هارون، إلا أنه قال في حديثه: قال: "ثم دخَل بي الجنةَ فرأيتُ فيها جاريةً لعساء
(3)
، فسألتُها لمن أنتِ؟ وقد أعجَبَتنى حين رأيتُها، فقالت: لزيد بن حارثة". فبشَّر بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زيدَ بنَ حارثةَ. ثم انتهى حديثُ ابن حميدٍ، عن سلمة إلى ههنا
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن
(1)
بعده في م: "له".
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 365. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 5/ 23 - والبيهقي في الدلائل 2/ 390، وابن عساكر في تاريخه 3/ 509، والقزوينى في التدوين 1/ 436 من طريق أبي هارون به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 142 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف. وجارية لعساء: إذا كان في لونها أدنى سواد فيه شربة حمرة ليست بالناصعة. تهذيب اللغة 2/ 97.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 403.
الزهريِّ، عن ابن المسيِّبِ، عن أبي هريرة، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه ليلةَ أُسرى به إبراهيمَ وموسى وعيسى، فقال: "أما إبراهيمُ فلم أرَ رجلًا أشبه بصاحبكم منه، وأما موسى فرجلٌ آدمُ طُوَالٌ جعدٌ أَقْنى
(1)
؛ كأنه من رجالٍ شَنُوءَةَ، وأما عيسى فرجلٌ أحمرُ بين القصير والطويل، سَبْطُ الشَّعَرِ، كثيرُ خيلان
(2)
الوجه، كأنه خرج من ديماسٍ، كأن رأسَه يَقْطرُ ماءً، وما به ماءٌ، أشبَهُ مَن رأيتُ به عروةُ بنُ مسعودٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدٍ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يقل: عن أبي هريرة
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قَتادةَ، عن أنسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتى بالبُراقِ ليلةَ أُسرِى به مُسرَجًا ملجمًا ليركبَه، فاستصعَب عليه، فقال له جبريلُ: ما يَحمِلُك على هذا، فوالله ما ركبك أحدٌ قطُّ أكرمُ على اللهِ مِنه. فقال: فارفَضَّ عرقًا
(5)
.
(1)
القنا في الأنف: طوله ورِقَّة أرنبته مع حَدَب في وسطه. النهاية 4/ 116.
(2)
الخيلان، جمع خال: وهو الشامة. ينظر النهاية 2/ 94.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 371، وهو في مصنفه 5/ 329 (9719)، ومن طريقه أحمد 13/ 199، 200 (7789)، والبخارى (3437)، ومسلم (272)، والترمذى (3130)، وأبو عوانة 1/ 129، 5/ 324، وابن حبان (51)، وابن منده في الإيمان (728)، والبيهقى في الدلائل 2/ 387.
وأخرجه البخارى (3394، 3437) من طريق هشام بن يوسف، عن معمر به. وأخرجه البخاري (4709، 5576، 5603)، ومسلم (168/ 92 - كتاب الأشربة)، والنسائي (5673)، وأبو عوانة 5/ 323 - 325، وابن حبان (52)، والبيهقى 8/ 286، وفى الدلائل 2/ 357 من طريق الزهرى به.
(4)
أخرجه أبو عوانة 5/ 325، والبيهقي في الدلائل 2/ 359، 360 من طريق الزهرى به.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 372 ومن طريقه أحمد 20/ 107 (12672)، وعبد بن حميد (1183)، والترمذى (3131)، وأبو يعلى (3184)، وابن حبان (46)، والآجرى في الشريعة ص 488، وأبو نعيم في الحلية 9/ 228، والبيهقي في الدلائل 2/ 362، والخطيب في تاريخ بغداد 11/ 258، والضياء المقدسي في المختارة (2404، 2405)، وفى فضائل بيت المقدس (49). =
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ في قوله:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} : أُسْرِى بنبيِّ اللهِ عشاءً مِن مكة إلى بيت المقدس، فصلَّى نبيُّ اللهِ فيه، وأَرَاه اللهُ مِن آياته وأمَره ما شاء ليلةَ أُسرِى به، ثم أصبح بمكة. ذكر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "حُملتُ على دابَّةٍ يُقال لها: البُراقُ. فوقَ الحمار ودون البغل، [يَقَعُ خَطوُه عندَ أَقصَى طَرْفِه]
(1)
". فحدَّث نبيُّ اللهِ بذلك أهل مكة، فكذَّب به المشركونَ وأنكَروه، وقالوا: يا محمدُ تُخبِرُنا أنك أتَيتَ بيتَ المقدس، وأقبَلتَ من ليلتك، ثم أصبَحتَ عندنا بمكة، فما كنتَ تجيئُنا [وتأتى به قبل]
(2)
اليوم مع هذا! فصدَّقه أبو بكرٍ، فسُمِّى أبو بكر الصديق من أجل ذلك.
حدَّثنا ابن أبي الشَّوارب، قال: ثنا عبدُ الواحد بنُ زيادٍ، قال: ثنا سليمانُ الشَّيبانيُّ، عن عبدِ اللهِ بن شَدَّادٍ، قال: لما كان ليلةُ أُسرِى برسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بدابَّةٍ يُقالُ لها: البُراقُ. دونَ البغل وفوق الحمار، تَضَعُ حافرها عند منتهى طرفها
(3)
، فلما أتَى بيت المقدس أتى بإناءين؛ إناءٍ من لبنٍ، وإناءٍ مِن خمرٍ. قال
(4)
: فشَرِب اللبن، قال: فقال له جبريلُ: هُدِيتَ وهُدِيتْ أَمَّتُك
(5)
.
وقال آخرون ممن قال: أسرى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بنفسه وجسمه:
= وأخرجه أبو بكر البغدادى في جزء الألف دينار (296)، والضياء المقدسى في المختارة (2406) من طريق قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن مردويه.
(1)
في م: "يضع حافره عند منتهى".
(2)
في م: "به وتأتى به قبل هذا".
(3)
في م: "ظفرها".
(4)
سقط من: م.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 8/ 197، 198، 11/ 461، 14/ 308 من طريق سليمان الشيباني به.
أُسرِى به عليه السلام، غير أنه لم يدخُلْ بيت المقدس، ولم يُصَلِّ فيه، ولم يَنزِلْ عن البُراقِ حتى رجع إلى مكةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ القطَّانُ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنى عاصمُ بنُ بَهْدَلةَ، عن زِرَّ بن حُبيشٍ، عن حذيفة بن اليمان، أنه قال في هذه الآية:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . قال: لم يُصَلِّ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولو صلَّى فيه لكُتِب عليكم الصلاةُ فيه كما كُتب عليكم الصلاةُ عند الكعبة
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: سمعتُ أبا بكر بنَ عَيَّاشٍ، ورجلٌ يُحدِّثُ عندَه بحديث حينَ أُسرى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تَجيءُ بمثل عاصمٍ ولا زِرٍّ. قال: قال حذيفةُ لزرِّ بن حُبيشٍ - قال: وكان زِرٌّ رجلًا شريفًا مِن أشرافِ العرب - قال: قرأ حذيفةُ: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [مِنَ اللَّيْلِ]
(2)
مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) - وكذا قرأ عبدُ اللهِ - قال: وهذا كما يقولون: إنه دخل المسجد فصلَّى فيه، ثم دخل فربَط دابتَه. قال: قلتُ: والله قد دخَله. قال: من أنت؟ فإنى أعرِفُ وجهَك ولا أدرى ما اسمُك. قال: قلتُ: زِرُ بنُ حُبيشٍ. قال: ما [علمُك بهذا]
(3)
؟ قال: قلتُ: مِن قِبَلِ القرآن. قال: من أخذ بالقرآن أفلَح. قال: فقلتُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى (11280) عن محمد بن بشار به. وأخرجه أحمد 5/ 390 (الميمنية) من طريق سفيان به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ليلًا". وينظر ما تقدم في ص 413.
(3)
في م: "عملك هذا".
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}. قال: فنظر إلى، فقال: يا أصلعُ
(1)
، هل تُرى دَخَلَه؟ قال: قلتُ: لا والله. قال حذيفةُ: أجَلْ، والله الذي لا إله إلا هو ما دخله، ولو دخَله لوجَبتْ عليكم صلاةٌ فيه، لا والله ما نزل عن البُراق حتى رأى الجنة والنار، وما أعدَّ الله في الآخرةِ أجمع. وقال: تدرى ما البُراق؟ قال: دابةٌ دونَ البغل وفوقَ الحمار، خطوُه مدُّ البصر
(2)
.
وقال آخرون: بل أُسرِى برُوحِه ولم يُسْرَ بجسدِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني يعقوبُ بن عُتبةَ بن المغيرة بن الأخنسِ، أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سُئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رُؤيا مِن اللهِ صادقةً
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدٍ، قال: ثنى بعضُ آل أبي بكرٍ، أن عائشةَ كانت تقولُ: ما فُقد جسدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ الله أسرى برُوحه
(4)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"صلع".
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 359 من طريق أبي بكر بن عياش به. وأخرجه الطيالسي (411)، وعبد الرزاق في تفسيره 1/ 372، والحميدى (844)، وابن أبي شيبة 14/ 306، وأحمد 5/ 387، 392، 394 (الميمنية)، والترمذى (3147)، والبزار (2915)، وابن حبان (45)، والبيهقى في الدلائل 5/ 364 من طرق عن عاصم به. وقال ابن كثير في تفسيره 5/ 20: وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه نفى، وما أثبته غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة، ومن الصلاة بالبيت المقدس
…
مقدم على قوله، والله أعلم بالصواب.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 400.
(4)
سيرة ابن إسحاق ص 275 (462)، وهو في سيرة ابن هشام 1/ 399.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال ابن إسحاق: فلم يُنكرْ ذلك [من قولهما؛ لقول]
(1)
الحسن: إن هذه الآية نزلت [في ذلك]
(2)
: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. ولقولِ اللهِ في الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنِه: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]. ثم مضَى على ذلك، فعرَفتُ أن الوحى يأتى الأنبياء مِن اللهِ أيقاظًا ونيامًا. وكان
(3)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "تنامُ عَيني وقلبى يقظانُ". فاللَّهُ أعلمُ أيُّ ذلك كان قد جاءه، وعايَن فيه مِن أمرِ اللهِ ما عايَن، على أيِّ حالاتِه كان، نائمًا أو يقظانَ، كلُّ ذلك حقٌّ وصدقٌ
(4)
.
والصوابُ مِن القول في ذلك عندنا أن يُقالَ: إن الله أسرَى بعبده محمدٍ صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرتْ به الأخبارُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلَّى هنالك بمَن صلَّى من الأنبياء والرُّسل، فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقولِ مَن قال: أُسرِى برُوحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن في ذلك ما يُوجِبُ أن يكونَ ذلك كان
(5)
دليلًا على نُبُوَّتِه، ولا حُجَّةً له على رسالته، ولا كان الذين أنكَروا حقيقةً ذلك من أهل الشرك، كانوا يَدْفَعون به عن صدقِه فيه، إذ لم يكن مُنكَرًا عندهم، ولا عند أحدٍ من ذوى الفطرة الصحيحة من بني آدم،
(1)
في النسخ: "قولها". والمثبت من سيرة ابن هشام 1/ 399.
(2)
سقط من النسخ. والمثبت من سيرة ابن هشام.
(3)
هذا من قول ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 400. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تنام عيني وقلبى يقظان". أخرجه البخاري (3569)، ومسلم (738) من حديث عائشة.
(5)
سقط من: م.
أن يرى الرائِي منهم في المنام ما على مسيرة سنةٍ، فكيف ما هو على مسيرة شهرٍ أو أقلَّ؟
وبعدُ، فإن الله إنما أخبرَ في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبِرْنا أنه أسرى برُوحِ عبدِه، وليس جائزًا لأحدٍ أن يتعدَّى ما قال الله إلى غيره.
فإن ظنَّ ظانٌّ أن ذلك جائزٌ، إذ كانت العربُ تَفْعَلُ ذلك في كلامها، كما قال قائِلُهم
(1)
:
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتي عَناقًا
…
وما هي وَيْبَ غيرك بالعَناقِ
يعني: حسبتَ بُغَامَ راحلَتى صوتَ عَنَاقٍ. فحذَف "الصوت" واكتفى منه بـ "العَناقِ"، فإن العرب تَفْعَلُ ذلك فيما كان مفهومًا مرادُ المتكلِّم منهم به من الكلام، فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره، ولا يُوصَلُ إلى معرفة مرادِ المتكلِّم إلا ببيانِه، فإنها لا تَحذِفُ ذلك، ولا دَلالَةَ تَدلُّ على أن مراد الله من قوله:{أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ، أسرَى برُوح عبده. بل الأدلةُ الواضحةُ والأخبارُ المتتابعةُ عن نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرَى به على دابَّةٍ يُقالُ لها: البراقُ. ولو كان الإسراءُ برُوحِه لم تكن الرُّوحُ محمولةً على البراقِ، إذ كانت الدوابُّ لا تحملُ إلا الأجسام، إلا أن يقول قائل: إنَّما معنى قولنا: أُسرِى برُوحه: رأى في المنام أنه أُسرى بجسده على البراق، فيُكذِّبَ حينئذٍ بمعنى الأخبار التي رُويتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل حمله على البراق؛ لأن ذلك إذا كان منامًا على قولِ قائلِ هذا القولِ، ولم تكنِ الروحُ عندَه مما تَركَبُ الدَّوابَّ، ولم يُحمل على البراق جسمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يَكُن النبيُّ صلى الله عليه وسلم، على قوله، حُمل على البراق؛ لا جسمُه ولا شيءٌ منه، وصار الأمرُ عندَه كبعض أحلام
(1)
تقدم في 2/ 265.
النائمين، وذلك دفعٌ لظاهرِ التنزيل، وما تتابَعت به الأخبارُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثارُ
(1)
عن الأئمةِ من الصحابةِ والتابعين.
وقولُه: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: الذي جعَلنا حولَه البركةَ لسكانِه في معايشِهم وأقواتِهم وحروثِهم وغروسِهم.
وقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: كي نُرِيَ عبدنا محمدًا {مِنْ آيَاتِنَا} . يقولُ: مِن عِبَرنا وأدِلَّتِنا وحُجَجنا. وذلك هو ما قد ذكرتُ في الأخبار التي رؤيتُها أنفًا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُريَه في طريقه إلى بيت المقدس، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} : ما أَراه الله من الآيات والعبر في طريق بيت المقدس.
وقولُه: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذي أسرى بعبدِه هو السميعُ لما يقولُ هؤلاء المشركون من أهل مكةَ في مسرى محمدٍ صلى الله عليه وسلم من مكةَ إلى بيت المقدسِ، ولغير ذلك من قولِهم وقولِ غيرِهم، البصيرُ بما يَعْمَلون من الأعمالِ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ من ذلك، ولا يَعزُبُ عنه علمُ شيءٍ منه، بل هو محيطٌ بجميعه علمًا، ومُحصِيه عددًا، وهو لهم بالمرصاد، ليَجزِى جميعهم بما هم أهلُه.
وكان بعضُ البَصريين يقولُ: كُسِرت {إنَّهُ} من قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ؛ لأن معنى الكلام: قلْ يا محمدُ: سُبْحانَ الذي أسرَى بعبدِه، وقل: إنه هو السَّميعُ البصيرُ.
(1)
في ت 1، ت 2، ص، ف:"الأخبار".
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا
(1)
مِنْ دُونِي وَكِيلًا
(2)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: سبحانَ الذي أسرَى بعبده ليلًا وآتى موسى الكتابَ. ورَدَّ الكلام إلى: {وَآتَيْنَا} . وقد ابتدَأه بقوله: {أَسْرَى} . لما قد ذكرنا قبلُ فيما مضَى مِن فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه
(2)
.
وعنَى بالكتاب الذي أُوتى موسى، التوراة. {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. يقولُ: وجعلنا الكتاب - الذي هو التوراةُ - بيانًا للحقِّ، ودليلًا لهم على محجَّةِ الصواب فيما افترَض الله عليهم، وأمرَهم به، ونهاهم عنه.
وقولُه: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} . اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينة والكوفة: {أَلَّا تَتَّخِذُوا} بالتاء
(3)
بمعنى: وآتينا موسى الكتاب بألا [تَتَّخِذوا يابني]
(4)
إسرائيل. من دوني وكيلًا.
وقرأ ذلك بعضُ قرأةِ البصرة: (أَلَّا يَتَّخِذُوا) بالياء
(5)
، على الخبر عن بني إسرائيل، بمعنى: وجعَلْناه هدًى لبنى إسرائيل، ألا يتخذ بنو إسرائيل من دوني وكيلًا.
وهما قراءتان صحيحَتا المعنى، متَّفقَتانِ غيرُ مختلفتين، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"يتخذوا". وهما قراءتان كما سيأتي.
(2)
تقدم في 1/ 155.
(3)
وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير وابن عامر. التيسير ص 113.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يتخذ بنو".
(5)
وهى قراءة أبي عمرو. المصدر السابق.
فمصيبٌ
(1)
، غير أنِّى أُوثِرُ القراءة بالتاء
(2)
؛ لأنَّها أشهرُ في القراءة وأشدُّ استفاضةً فيهم من القراءة بالياء. ومعنى الكلام: وآتيْنا موسى الكتاب
(3)
هدى لبنى إسرائيل ألَّا تَتَّخذوا حفيظًا لكم سواى.
وقد بيَّنا معنى "الوكيل" فيما مضَى
(4)
.
وكان مجاهدٌ يقولُ: معناه في هذا الموضع: الشريكُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} . قال: شريكًا
(5)
.
وكأنَّ مجاهدًا جعَل إقامة من أقامَ شيئًا سوى الله مقامَه شريكًا منه له، ووكيلًا للذي أقامَه مُقامَ اللهِ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الآية قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} : جعَله الله لهم هدًى، يُخرجُهم من الظلمات إلى النور، وجعَله رحمةً لهم
(6)
.
(1)
بعده في م: "الصواب".
(2)
في ت 1، ت 2 ف:"بالياء".
(3)
بعده في م: "وجعلناه".
(4)
تقدم في 7/ 250.
(5)
تفسير مجاهد ص 428. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 162 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 162 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا
(2)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: سبحانَ الذي أسرَى بعبدِه ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وآتى
(1)
موسى الكتاب
(2)
هدًى لبنى إسرائيل، يا
(3)
ذرية من حمَلنا مع نوحٍ.
وعنَى بالذريةِ جميعَ مَن احتَجَّ عليه جلَّ ثناؤُه بهذا القرآنِ مِن أجناسِ الأممِ، عربِهم وعجمِهم، من بنى إسرائيلَ وغيرهم، وذلك أَنَّ كلَّ مَن على الأَرضِ مِن بنى آدمَ، فهم من ذرية من حمَله الله مع نوحٍ في السفينة.
وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} : والناسُ كلُّهم ذريةُ من أنجى الله في تلك السفينة. ذُكر لنا أنَّه ما نَجا فيها يومئذٍ غيرُ نوحٍ وثلاثةِ بنينَ له، وامرأته وثلاثِ نسوةٍ؛ وبنوه
(4)
سامٌ، وحامٌ، ويافثُ؛ فأما سامٌ فأبو العرب، وأما حامٌ فأبو الحبَش، وأما يافثُ فأبو الروم.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} . قال: بنوه ثلاثةٌ ونساؤُهم، ونوحٌ وامرأتُه
(5)
.
(1)
في م: "آتينا".
(2)
بعده في م: "وجعلناه".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "هم"، وفي ت 1، ف:"هو".
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 373 عن معمر به.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال مجاهدٌ: بنوه ونساؤُهم ونوحٌ، ولم تكنْ معهم
(1)
امرأتُه
(2)
.
وقد بيَّنا هذا
(3)
في غير هذا الموضع فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه
(4)
.
وقولُه: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} . يعنى بقوله تعالى ذكرُه: {إِنَّهُ} : إنَّ نوحًا - والهاءُ من ذكر نوحٍ - كان عبدًا شكورًا لله على نعمه.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي سمَّاه اللهُ مِن أجله شكورًا؛ فقال بعضُهم: سمَّاه الله بذلك لأنَّه كان يَحمَدُ الله على طعامِه إِذا طَعِمَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، قالا: ثنا سفيانُ، عن التيميِّ، عن أبي عثمان، عن سلمانَ، قال: كان نوحٌ إذا لبس ثوبًا أو أكل طعامًا حمد الله، فسُمِّى عبدًا شكورًا
(5)
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمن، قالا: ثنا سفيانُ، عن أبي حصينٍ، عن عبدِ اللهِ بن سنانٍ، عن سعدِ
(6)
بن مسعودٍ بمثله
(7)
.
(1)
سقط من النسخ، وانظر مصدر التخريج.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 373 عن معمر، عن يونس بن حيان، عن مجاهدٍ.
(3)
سقط من: م.
(4)
تقدم في 12/ 425، 433.
(5)
تفسير سفيان ص 168. ومن طريقه الحاكم 2/ 360، والبيهقى في شعب الإيمان (4471)، وابن عساكر في تاريخه 17/ 667 (مخطوط). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 162 إلى الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(6)
في م، ت 1، ت 2، ف:"سعيد". وينظر التاريخ الكبير 4/ 5.
(7)
تفسير سفيان ص 168. ومن طريقه البخارى في التاريخ الكبير 4/ 50، والطبراني (5420)، =
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، عن أبي حَصِينٍ، عن عبدِ اللهِ بن سنانٍ، عن سعد بن مسعودٍ، قال: ما ليس نوحٌ جديدًا قطُّ، ولا أكَل طعامًا قطُّ، إلا حمد الله، فلذلك قال الله:{عَبْدًا شَكُورًا}
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المُعتمرُ بنُ سليمان، قال: ثني سفيانُ الثوريُّ، قال: ثنى أبوك
(2)
، عن أبي عثمانَ النهديِّ، عن سلمانَ، قال: إنما سُمِّى نوحٌ عبدًا شكورًا، أنَّه كان إذا لبس ثوبًا حمد الله، وإذا أكل طعامًا حمد الله
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} : من بني إسرائيلَ وغيرهم، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}. قال: إنَّه لم يُجَدِّدُ ثوبًا قطُّ إِلَّا حمد الله، ولم يُبْلِ ثوبًا قطُّ إلَّا حمد الله، وإذا شرِب شَرْبةً حمد الله، قال: الحمدُ لله الذي سقانيها على شهوةٍ ولذةٍ وصحةٍ. وليس في تفسيرها، وإذا شرب شَرْبةً قال هذا، ولكنْ بلغني ذا.
حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو فَضَالةَ، عن النضر بن شُفَيٍّ، عن عِمْرانَ بن سُلَيمٍ، قال: إِنَّما سُمِّى نوحٌ عبدًا شكورًا؛ أنَّه كان إذا أكل الطعام قال: الحمد لله الذي أطعَمنى، ولو شاءَ أجاعنى. وإذا شرب قال: الحمدُ لله الذي سقاني، ولو شاء أَظمَأَنى. وإذا لبس ثوبًا قال: الحمدُ لله الذي كساني، ولو شاء أَعْرَاني. وإذا لبس نعلًا قال: الحمدُ لله الذي حذَاني، ولو شاءَ أَحْفَاني. وإذا قضَى
= وفي الدعاء (397، 902). وينظر علل ابن أبي حاتم (2030). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 162 إلى ابن أبي حاتم.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 17/ 667 (مخطوط) من طريق أبي بكر به.
(2)
في النسخ: "أيوب". والمثبت من مصدر التخريج.
(3)
أخرجه المحاملي في أماليه (68) من طريق المعتمر به.
حاجةً قال: الحمدُ لله الذي أخرَج عنى أَذَاه، ولو شاءَ حبَسه
(1)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: ثنى عبدُ الجبار بنُ عمرَ، أَنَّ ابن أبي مريم حدثه، قال: إِنَّما سَمَّى اللهُ نوحًا عبدًا شكورًا؛ أنه كان إذا خرَج البَرازُ منه قال: الحمدُ للهِ الذي سوَّغَنيك طيِّبًا، وأخرَج عنى أذاك، وأبْقَى منفعَتَكَ.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة: قال الله لنوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} : ذُكِرَ لنا أنَّه لم يَسْتَجِدَّ ثوبًا قطُّ إلا حمد الله، وكان يَأْمرُ
(2)
إذا استجَدَّ الرجلُ ثوبًا أن يقولَ: الحمدُ لله الذي كسانى ما أتجمَّلُ به، وأوارى به عورتي.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} . قال: كان إذا لبس ثوبًا قال: الحمدُ للهِ. وإذا أخلقه قال: الحمدُ للهِ
(3)
.
وقد بيَّنا فيما مضَى قبلُ أنَّ معنى القضاء الفراغُ مِن الشيء، ثم يُستعمَلُ في كلِّ
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 17/ 668 (مخطوط) من طريق معاوية بن صالح، عن عمران بن سليم.
(2)
في ص، ت 2، ف:"يؤمر".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 373، 374 عن معمر به. ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 17/ 667، 668 (مخطوط).
مفروغٍ منه
(1)
.
فتأويلُ الكلام في هذا الموضع: وفرَغ ربُّك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلواتُ الله عليه، بإعلامه إياهم وإخباره لهم، {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}. يقولُ: لَتَعْصُنَّ الله يا معشر بنى إسرائيل، ولتخالفُنَّ أمره في بلاده مرتين، {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}. يقولُ: ولَتستَكبِرُنَّ على الله باجترائكم عليه استكبارًا شديدًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: أعلَمناهم.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، في قوله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}. يَقُولُ: أعلَمناهم
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: وقضَينا على بني إسرائيل في أمِّ الكتاب، وسابقِ علمِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: هو قضاءٌ قضى
(1)
تقدم في 2/ 466، 467.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 163 إلى المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
عليهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} : قضاءٌ قضَاه على القوم كما تسمَعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخبَرْنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} . قال: أخبَرْنا بني إسرائيل.
وكلُّ هذه الأقوالِ
(2)
تعُودُ معانيها إلى ما قلتُ في معنى قوله: {وَقَضَيْنَا} . وإن كان الذي اختَرنا من التأويل فيه أشبهَ بالصواب؛ لإجماع القرأة على قراءة قوله: {لَتُفْسِدُنَّ} . بالتاء دون الياء، ولو كان معنى الكلام: وقضَينا عليهم في الكتاب. لكانت القراءةُ بالياء أولى منها بالتاء، ولكن معناه لما كان: أعلمناهم وأخبَرْناهم، وقلنا لهم، كانت التاءُ أشبهَ وأولى للمخاطبة.
وكان إفسادُ بني إسرائيلَ في الأرضِ المرَّةَ الأولى ما حدَّثني به [موسى بنُ]
(3)
هارون، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي صالحٍ، وعن أبي مالكٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مرّةَ، عن عبدِ اللهِ، أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة لتُفْسِدُنَّ في الأرض مرتين؛ فكان أول الفسادين قتلُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 163 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الأحوال".
(3)
سقط من النسخ. وهو إسناد دائر.
زكريا، فبعث الله عليهم ملِكَ النَّبطِ
(1)
يُدعى صنحابين
(2)
، فبعَث الجنودَ، وكانت أساورتُه
(3)
من أهل فارسَ، فهم أولو بأسٍ شديدٍ، فتحصَّنت بنو إسرائيل، وخرَج فيهم بختُنَصَّرَ يتيمًا مِسكينًا، إنما خرج يستَطْعِمُ، وتَلَطَّف حتى دخل المدينة فأتى مجالسَهم، فسمِعهم يقولون: لو يَعلمُ عدوُّنا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا. فخرَج بختُنَصَّرَ حين سمع ذلك منهم، واشتد القيامُ على الجيش، فرجَعوا، وذلك قولُ اللهِ:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} . ثم إن بني إسرائيلَ تَجَهَّزُوا، فغزَوُا النبطَ، فأصابوا منهم واستنقَذوا ما في أيديهم، فذلك قولُ اللهِ:{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]. يقولُ: عددًا
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: كان إفسادُهم الذي يُفْسِدُون في الأرض مرتين - قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلَّط الله عليهم سابور ذا الأكتافِ ملكًا مِن ملوك فارس؛ من قِبَلِ
(5)
زكريا، وسلط عليهم بُخْتَنَصَّرَ؛ من قِبَلِ يحيى
(6)
.
حدَّثني عصامُ بن روَّادِ بن الجراحِ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ
(1)
بعده في م: "وكان".
(2)
في م، ت 1، ف:"صحايين" وفى نسخة من تاريخ المصنف: "صيحائين"، وفى نسخة منه:"صنحابي"، والمثبت موافق لنسخة من تاريخ المصنف، ينظر تاريخ المصنف 1/ 547، 588، 589.
(3)
الأسوار والإسوار: قائد الفرس. اللسان (س و ر).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 163 إلى المصنف من قول ابن مسعود.
(5)
في م: "قتل".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف.
الثوريُّ، قال: ثنا منصورُ بنُ المعتمر، عن ربعيِّ بن حراشٍ، قال: سمعتُ حذيفة بنَ اليمان يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل لما اعتدوا [في السبتِ]
(1)
وعلوا، وقتلوا الأنبياء، بعث الله عليهم ملِك فارسَ بختَنَصَّرَ، وكان الله ملَّكه سبعَمائة سنةٍ، فسار إليهم حتى [دخل بيت]
(2)
المقدس فحاصَرها وفتحها، وقتل على دم زكريا سبعينَ ألفًا، ثم سبَى أهلَها [وبني الأنبياء]
(3)
، وسلب حُليَّ بيتِ المقدس، واستخرَج منها سبعينَ ألفًا ومِائة ألفِ عجَلةٍ مِن حُليٍّ حتى أورده بابل". قال حذيفةُ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لقد كان بيتُ المقدس عظيمًا عند اللهِ؟ قال: "أجل، بناه سليمانُ بنُ داودَ من ذهبٍ ودرٍّ وياقوتٍ وزبرجدٍ، وكان بَلاطَةً ذهبًا وبَلاطةً فضةً، وعُمُدُه ذهبًا، أعطاه الله ذلك، وسخَّر له الشَّياطين يأتُونه بهذه الأشياء في طرفة عينٍ، فسار بختُنَصَّرَ بهذه الأشياء حتى نزل بها بابلَ، فأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنةٍ تُعذِّبُهم المجوسُ وأبناءُ المجوس، فيهم الأنبياءُ وأبناءُ الأنبياء، ثم إن الله رحمهم، فأوحى إلى ملِكِ مِن ملوكِ فارس، يُقالُ له: كورس. وكان مؤمنًا، أن سر إلى بقايا بني إسرائيلَ حتى تستَنقِذَهم. فسار كورس ببني إسرائيل وحُلِيِّ بيت المقدس حتى ردَّه إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنةٍ، ثم إنهم عادوا في المعاصى، فسلَّط الله عليهم إبطنانحوسَ
(4)
، فغزَا بأبناءِ مَن غزا مع بختِنصَّرَ، فغزَا بنى إسرائيلَ، حتى أتاهم بيت المقدس، فسبَى أهلها، وأحرَق بيتَ المقدسِ، وقال لهم: يابني إسرائيل إن عدتُم في المعاصى عُدْنا عليكم بالسِّباءِ. فعادُوا في المعاصى، فسيَّر الله عليهم السِّباءَ الثالث ملِك روميَّةً، يُقال له: قاقسُ بنُ
(1)
سقط من: ص، م.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"حل ببيت".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"والأبناء".
(4)
في م: "أبطيانوس".
إسبايوس
(1)
. فغزاهم في البرِّ والبحر، فسباهم، وسيَّر
(2)
حُلِيَّ بيت المقدس، وأحرق بيتَ المقدس بالنيران، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من صفة حُلِيِّ بيت المقدس، ويَردُّه المهديُّ إلى بيت المقدس، وهو ألفُ سفينةٍ وسبعُمائة سفينةٍ، يُرسَى بها على يافا حتى تُنقَلَ إلى بيت المقدس، وبها يَجْمَعُ الله
(3)
الأولين والآخرين"
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابن إسحاق، قال: كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وفي إحداثهم ما هم فاعلون
(5)
بعده، فقال:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} . إلى قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} : فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداثُ والذنوبُ، وكان الله في ذلك مُتجاوزًا عنهم، مُتعطِّفًا عليهم، محسنًا إليهم، فكان مما أَنزَل بهم في ذنوبهم ما كان قدَّم إليهم في الخبر على لسانِ، موسى، مما أنزَل بهم في ذُنوبهم فكان أول ما أَنزَل بهم من تلك الوقائع، أن ملكًا منهم كان يُدعى صديقة، وكان الله إذا ملَّك الملك عليهم، بعث
(6)
نبيًّا يُسدَّدُه ويُرشدُه، ويكونُ فيما بينه وبين الله، ويُحدِثُ إليه في أمرِهم، لا يُنزِلُ عليهم الكتب، إنما يُؤمرون باتِّباع التوراة والأحكام التي فيها، ويَنهونَهم عن المعصية،
(1)
في ص: "اسيناتوس"، وفى ت 1:"اسيتانوس".
(2)
في م: "سبى".
(3)
في ص، ت 1، ت 2 ف:"إليه".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف. وقال ابن كثير في تفسيره 5/ 44: وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب، كيف راج عليه - أي على المصنف - مع إمامته وجلالة قدره، وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزى، رحمه الله، بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فاعلين".
(6)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"بعثا".
ويدعُونَهم إلى ما تركوا من الطاعة. فلما ملَك ذلك الملكُ، بعث الله معه شعيا بنَ أمصيا، وذلك قبلَ مبعثِ زكريا ويحيى وعيسى، وشعيا الذي بشَّر بعيسى ومحمدٍ، فملَك ذلك الملكُ بنى إسرائيلَ وبيتَ المقدسِ زمانًا، فلما انقضَى ملكُه عظُمت فيهم الأحداثُ وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريبَ ملك بابلَ، ومعه ستُّمائةِ ألفِ رايةٍ، فأقبلَ سائرًا حتى نزل نحو بيت المقدس - والملكُ مريضٌ؛ في ساقه قُرْحةٌ - فجاء النبيُّ شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملِكَ بابل، قد نزَل بك هو وجنودُه
(1)
ستُّمائةِ ألفِ رايةٍ، وقد هابَهم الناسُ وفرقوا منهم. فكبُر ذلك على الملِكِ، فقال: يا نبيَّ الله، هل أتاك وحىٌ مِن الله فيما حدَث فتُخبِرَنا به كيف يَفعَلُ اللهُ بنا وبسنحاريبَ وجنودِه؟ فقال له النبيُّ عليه السلام: لم يَأتِنى وحىٌ أحدث
(2)
إلى في شأنك. فبينا هم على ذلك، أوحى الله إلى شعيا النبيِّ، أن ائتِ ملك بني إسرائيل، فمرْه أن يُوصى وصيَّتَه، ويَستَخلِفَ على مُلكِه مَن شَاء مِن أهل بيته. فأتى النبيُّ شعيا ملك بني إسرائيلَ صديقة، فقال له: إن ربَّك قد أوحَى إلى أن أمرَك أن تُوصِيَ وصيتَك، وتَستَخلِفَ مَن شئتَ على مُلكك من أهل بيتِك، فإنك ميِّتٌ. فلما قال ذلك شعيا لصديقة، أقبل على القبلة، فصلَّى وسبَّح ودعَا وبكَى، فقال وهو يَبْكى ويتضرَّعُ إلى الله بقلبٍ مخلصٍ، وتوكلٍ وصبرٍ
(3)
، وظنٍّ صادقٍ: اللهمَّ ربَّ الأرباب، وإله الآلهة، قدُّوسَ المتقدِّسين، يا رحمنُ يا رحيمُ، المترحمُ الرَّءوفُ، الذي لا تأخذُه سنةٌ ولا نومٌ، اذكُرْنى بعملى وفعلى وحُسنِ قضائي على بنى إسرائيل، وذلك كلُّه كان منك، فأنت أعلمُ به من نفسي، سرِّى وعلانيتي لك. وإن الرحمن استَجَاب له، وكان عبدًا صالحًا، فأوحَى الله إلى شعيا أن يُخبِرَ
(1)
بعده في تاريخ المصنف: "في".
(2)
في ت 1: "حدث".
(3)
بعده في م: "وصدق".
صديقة الملك أن ربَّه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءَه، وقد أخَّر أجلَه خمسَ عشرة سنة، وأنجاه من عدوِّه سنحاريبَ ملك بابلَ وجنوده، فأتى شعيا النبيُّ [إلى ذلك الملك]
(1)
فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهَب عنه الوجعُ، وانقطع عنه الشرُّ والحُزنُ، وخرَّ ساجدًا وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجَدتُ وسبَّحتُ، وكرَّمتُ وعظَّمتُ، أنت الذي تُعْطى المُلْكَ مَن تَشَاءُ، وتَنزِعُه من تَشاءُ، [وتُعِزُّ مَن تشاءُ]
(2)
، وتُذِلُّ مَن تَشاءُ، عالمُ الغيب والشَّهادة، أنت الأولُ والآخرُ، والظاهرُ والباطنُ، وأنت تَرْحَمُ وتستَجِيبُ دعوة المضْطَرين، أنت الذي أجبْتَ دَعوَتى ورحِمتَ تضرُّعى. فلما رفَع رأسَه، أوحى الله إلى شعيا أن قُلْ للمَلِكِ صديقة فيأمرَ عبدًا من عبيده بالتينة، فيأتيَه بماء التين فيَجْعَلَه على قُرحَتِه فيُشْفَى، ويُصبح وقد بَرِئَ. ففعل ذلك فشُفى. وقال الملكُ لشعيا النبيِّ: سلْ ربَّك أن يجعَلَ لنا علمًا بما هو صانعٌ بعدوِّنا هذا. قال: فقال الله لشعيا النبيِّ: قلْ له: إني قد كفَيتُك عدوَّك، وأنجيتُك منه، وإنهم سيُصبحون موتى كلُّهم إلا سنحاريب وخمسةً من كُتَّابه. فلما أصبَحوا جاءهم صارخُ يُنَبِّئُهم، فصرَخ على باب المدينة: يا ملك بنى إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوَّك فاخرُج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلَكوا. فلما خرَج الملكُ التمَس سنحاريبَ فلم يُوجَدْ في الموتى، فبعث الملِكُ في طلبه، فأدركه الطَّلبُ في مغارةٍ وخمسةٌ مِن كُتَّابه، أحدُهم بختُنصَّرَ، فجعلوهم في الجوامع
(3)
، ثم أتوا بهم ملك بنى إسرائيلَ، فلما رآهم خرَّ ساجدًا من حين طلعتِ الشمسُ حتى [كانت العصر]
(4)
، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فِعْلَ رَبِّنا بكم؟ ألم يَقْتُلُكم
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
الجوامع جمع الجامعة: وهى الغل؛ لأنها تجمع اليدين إلى العنق. الصحاح (ج م ع).
(4)
في ت 1: "كان وقت".
بحوله وقوَّتِه، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريبُ له: قد أتاني خبرُ ربِّكم، ونصرُه إيَّاكم، ورحمتُه التي رحِمكم بها قبل أن أَخرُجَ مِن بلادى، فلم أُطِعْ مُرشِدًا، ولم يُلْقِنى في الشِّقوة إلا قلَّةُ عقلى
(1)
، ولو سمعتُ أو عقَلتُ ما غزَوتُكم، ولكن الشِّقوة غلبَتْ عليّ وعلى من معى. فقال ملِكُ بني إسرائيل: الحمدُ للهِ ربِّ العزَّةِ الذي كفَانَاكم بما شاء، إن ربَّنا لم يُبقِك ومن معك لكرامةٍ بك عليه، ولكنه إنما أبقَاك ومَن معك لما هو شرٌّ لك، لتَزدَادوا شِقوةً في الدنيا، وعذابًا في الآخرة، ولتُخبروا من وراءكم بما لقيتُم مِن فعل ربِّنا، ولتُنذروا من بعدَكم، ولولا ذلك ما أبقَاكم، فلَدمُك ودمُ مَن معك أهونُ على اللهِ مِن دم قُرادٍ
(2)
لو قتَلتُه. ثم إن ملِكَ بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامعَ، وطاف بهم سبعين يومًا حولَ بيت المقدس إيليا، وكان يرْزُقُهم في كلِّ يومٍ خُبْزَتين من شعيرٍ لكلِّ رجلٍ منهم، فقال سنحاريبُ لملك بني إسرائيل: القتلُ خيرٌ مما تَفْعَلُ بنا، فافعلْ ما أُمِرت. فأمَر
(3)
بهم الملكُ إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبيِّ أن قُلْ لملكِ بني إسرائيل يُرْسِلْ سنحاريبَ ومَن معه ليُنْذروا من وراءَهم، وليُكْرمْهم ويَحْمِلُهم حتى يَبْلُغوا بلادهم. فبلَّغ النبيُّ شعيا الملك ذلك، ففعَل، فخرَج سنحاريبُ ومَن معه حتى قدِموا بابلَ، فلما قَدِموا جمع الناسَ فأخبَرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهَّانُه وسَحَرتُه: يا ملكَ بابلَ، قد كنا نَقُصُّ عليك خبرَ ربِّهم وخبر نبيِّهم، ووَحْيَ اللهِ إلى نبيِّهم، فلم تُطِعْنا، وهى أمَّةٌ لا يَسْتَطيعُها أحدٌ من
(4)
ربِّهم. فكان أمرُ سنحاريبَ مما خُوِّفوا، ثم
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"غفلتي".
(2)
القراد: دويبة متطفلة من المفصليات، ذات أربعة أزواج من الأرجل، تعيش على الدواب والطيور وتمتص دمها، ومنها أجناس، الواحدة قرادة. الوسيط (ق ر د).
(3)
في ص، ت 2، ف:"ففعل"، وفى م:"فنقل"، وفى ت 1:"قال: فأمر". والمثبت من تاريخ المصنف.
(4)
في م: "مع".
كفاهم الله إياه
(1)
؛ تذكرةً وعبرةً، ثم لبِث سنحاريبُ بعد ذلك سبعَ سنين، ثم مات
(2)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما مات سنحاريبُ اسْتُخْلِف بختُنصَّرَ ابن ابنه على ما كان عليه جدُّه يَعْمَلُ بِعَمَلِه، ويَقْضِى بقضائه، فلبث سبعَ عشرةَ سنةً، ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة، فمرَج أمرُ بنى إسرائيل وتنافَسوا المُلك، حتى قتَل بعضُهم بعضًا عليه، ونبيُّهم شعيا معهم لا يُذْعِنون
(3)
إليه، ولا يَقْبَلون منه. فلما فعلوا ذلك، قال الله - فيما بلَغنا - لشعيا: قُمْ في قومك أُوحِ على لسانك. فلما قام النبيُّ أنطق الله لسانَه بالوحي، فقال: يا سماءُ اسْتَمِعى، ويا أرضُ أنْصِتى، فإن الله يُرِيدُ أن يَقُصَّ شأنَ بني إسرائيل الذين ربّاهم بنعمتِه، واصْطَفاهم لنفسه، وخصَّهم بكرامته، وفضَّلهم على عباده، وفضَّلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعى لها، فآوَى شاردَتَها، وجمَع ضالتَها، وجبر كسِيرتَها، وداوَى مريضَتَها، وأسمَن مهزولتَها، وحفِظ سمينتَها، فلما فعَل ذلك بطِرت، فتناطَحت كِباشُها فقتل بعضُها بعضًا، حتى لم يَبْقَ منها عَظْمٌ صحيحٌ يُجْبَرُ إليه آخرُ كسيرٌ، فويلٌ لهذه الأمة الخاطئة، وويلٌ لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يَدْرُون أَنَّى
(4)
جاءهم الحَيَّنُ، إن البعير مما
(5)
يذكُرُ وطنَه فينتابُه، وإن الحمار مما
(5)
يذكُرُ الآريَّ
(6)
الذي شبع عليه فيراجعُه، وإن الثور مما (5) يذكُرُ المَرْجَ
(7)
الذي سمن
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 532 - 535.
(3)
في ص، ت 2، ف:"يدعون"، وفى تاريخ المصنف:"يرجعون".
(4)
في م: "أين".
(5)
في م: "ربما".
(6)
الآرى: مكان الدابة الذي تحبس فيه. ينظر اللسان (أرى).
(7)
المرج: أرض واسعة فيها نبت كثير تمرج فيها الدواب. تهذيب اللغة 11/ 71.
فيه فينتابُه، وإن هؤلاء القومَ لا يَدْرون مِن حيثُ جاءهم الحيْنُ، وهم أولو الألباب والعقول، ليسوا ببقرٍ ولا حميرٍ، وإنى ضاربٌ لهم مثلًا فلْيَسْمعوه: قل لهم: كيف تَرَون في أرضٍ كانت خواءً زمانًا، خَرِبةً مواتًا لا عُمران فيها، وكان لها ربٌّ حكيمٌ قويٌّ، فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تَخْرَبَ أرضُه وهو قويٌّ، أو يُقالَ: ضيَّع وهو حكيمٌ. فأحاط عليها جدارًا، وشيَّدَ فيها قصرًا، وأنْبَط فيها نهرًا، وصفَّ فيها غراسًا من الزيتون والرُّمان والنخيل والأعناب، وألوان الثمار كلِّها، ووَلَّى ذلك واسْتَحْفَظه قيِّمًا ذا رأي وهمّةٍ، حفيظًا قويًا أمينًا، وتأنّى طَلْعَها وانْتَظَرها، فلما أطلعت جاء طَلْعُها خَرُوبًا
(1)
، قالوا: بئْست الأرضُ هذه، نرى أن يُهْدَمَ جدرانُها وقصرُها، ويُدْفَنَ نهرُها، ويُقْبَضَ قيِّمُها، ويُحَرَّقَ غراسُها، حتى تصير كما كانت أوّلَ مرَّةٍ، خَرِبةً مواتًا لا عُمران فيها. قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي، وإن القصر شريعتي، وإن النهرَ كتابي، وإن القَيَّمَ نبيِّى، وإن الغراسَ هم، وإن الخَرُّوبَ الذي أطْلَع الغراسُ أعمالُهم الخبيثةُ، وإني قد قضَيتُ عليهم قضاءَهم على أنفسهم، وإنه مَثَلٌ ضربه الله لهم، يتَقَرَّبون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالُنى اللحمُ ولا أكُلُه، ويَدَعُون أن يَتَقَرَّبوا بالتقوى والكفِّ عن ذبح الأنفس التي حرَّمتُها، فأيديهم مخضوبةٌ منها، وثيابُهم مُتَزمِّلةٌ بدمائها، يُشَيِّدون لى البُيوتَ مساجدَ ويُطَهِّرون أجوافَها، ويُنَجِّسُون قلوبَهم وأجسامَهم ويُدَنِّسونها، ويُزَوِّقون لى البيوت والمساجد ويُزَيِّنونها، ويُخْرِبون عُقولهم وأحلامَهم ويُفْسِدونها، فأيُّ حاجةٍ لى إلى تشييدِ البيوتِ ولستُ
(2)
أسكنُها! وأيُّ حاجةٍ إلى تزويق المساجد ولَسْتُ أَدْخُلُها! إنما
(1)
الخروب: نبت معروف، بري وشامي، البرى منه شَوِكٌ وبشع، لا يؤكل إلا في الجهد. ينظر التاج (خ ر ب).
(2)
في ص، ف:"ليست".
أَمَرتُ برَفْعِها لأُذْكَرَ فيها وأُسبِّحَ فيها، ولتَكُونَ مَعْلَمًا لمن أراد أن يُصَلِّيَ فيها، يَقُولون: لو كان اللهُ يَقْدِرُ على أن يَجْمَعَ الفَتَنا لجمعها، ولو كان اللهُ يَقْدِرُ على أن يُفَقِّهَ قلوبَنا لأفْقَهَها. فاعمد إلى عودَين يابِسَين، ثم ائتِ بهما ناديهم
(1)
في أجمَعِ ما يَكُونون، فقُلْ للعودين: إن الله يَأْمُرُ كما أن تَكُونا عودًا واحدًا. فلما قال لهما ذلك، اختَلَطا فصارا واحدًا، فقال الله: قل لهم: إني قدَرتُ على أُلْفَةِ العيدانِ اليابسة وعلى أن أُولِّفَ بينها، فكيف لا أقْدرُ على أن أجمَعَ أُلْفَتَهم إن شئْتُ، أم كيف لا أقْدِرُ على أن أُفَقِّهَ قلوبَهم وأنا الذي صوَّرتُها! يقولون: صُمْنا فلم يُرْفَعْ صيامُنا، وصلَّينا فلم تُنَوَّرْ صلاتُنا، وتَصَدَّقنا فلم تَزْكُ صدقاتُنا، ودعَونا بمثل حَنينِ الحمام، وبَكَينا بمثل عُواء الذئب، في كلِّ ذلك لا نُسْمَعُ ولا يُسْتجابُ لنا. قال الله: فسَلْهُم ما الذي يَمْنَعُنى أن أستجيبَ لهم؟ ألستُ أسْمَعَ السامعين، وأبْصَرَ الناظرين، وأقْرَبَ المجيبين، وأرْحَمَ الراحمين! ألأنَّ ذاتَ يدى قلَّت! فكيف ويداى مبسوطَتان بالخير أُنْفِقُ كيف أشاءُ، ومفاتيحُ الخزائن عندى لا يَفْتَحُها ولا يُغْلِقُها غيرى، ألا وإن رحمتي وسعت كلَّ شيءٍ، إنما يَتَراحَمُ المتراحمون بفضلها، أو لأَنَّ البخلَ يَعْتَرِينَى، أو لستُ أكْرَمَ الأكرمين والفتاحَ بالخيراتِ، أَجْوَدَ مَن أَعطَى، وأَكْرَمَ مَن سُئل! لَو أَنَّ هؤلاء القومَ نظَروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرتُ في قلوبهم فنبَذوها، واشتروا بها الدنيا، إذَنْ لأبْصَروا من حيثُ أُتُوا، وإذن لأيْقَنوا أنَّ أنفسهم هي أعدَى العُداةِ لهم، فكيف أرْفَعُ صيامَهم وهم يُلبسونه بقولِ الزُّورِ، ويَتَقَوَّون عليه بطُعْمَةِ الحرام، وكيف أنوِّرُ صلاتهم وقلوبُهم صاغيةٌ إلى من يحاربُنى
(2)
ويُحادُّنى ويَنْتَهِكُ محارمى! أم كيف تَزْكُو عندى صَدَقاتُهم وهم يتَصَدَّقون بأموال غيرهم، إنما أجُرُ
(3)
عليها أهلها
(1)
في م: "ناديهما".
(2)
في ص، ت 2، ف:"حاربني"، وفي ت 1:"محاربتي".
(3)
في م: "أوجر".
المغصوبين! أم كيف أستجيبُ لهم دعاءَهم، إنما هو قولٌ بألسنتهم والفعلُ من ذلك بعيدٌ وإنما أستجيبُ للوادع
(1)
اللَّينِ، وإنما أَسْمَعُ مِن قول [المُستعفُّ المُستكين]
(2)
، وإِنَّ من علامة رضاى رضا المساكين، فلو رحموا المساكينَ، وقرَّبوا الضُّعفاءَ، وأنصَفوا المظلومَ، ونصَروا المغصوبَ، وعدَلوا للغائب، وأدَّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين، وكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ثم
(3)
كان يَنبَغِي أن أُكَلِّمَ
(4)
البشَّرَ إِذَنْ لكلَّمتُهم، وإذن لكنتُ نورَ أبصارهم، وسَمْعَ آذانِهم، ومعقولَ قلوبهم، وإذن لدعمتُ أركانهم، فكنتُ قوّةَ أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبَّتُ ألسنتَهم وعُقولَهم، يقولون لما سمعوا كلامي، وبلَغتهم رسالاتي، بأنها أقاويلُ منقولةٌ، وأحاديثُ متوارثةٌ، وتأليفُ مما تُؤَلِّفُ السحرةُ والكهنةُ، وزعَموا أنهم لو شاءوا أن يأتُوا بحديث مثلِه فعَلوا، وأن يَطَّلعوا على الغيبِ بما تُوحِى إليهم الشياطينُ اطلعوا، وكلُّهم يَستخفى بالذي يقولُ ويُسِرُّ، وهم يَعْلَمُون أنى أعْلَمُ غيبَ السماوات والأرض، وأعلمُ ما يُبدون وما يَكْتُمون، وإني قد قضَيتُ يوم خلقتُ السماواتِ والأرضَ قضاءً أثبتُّه على نفسى، وجعَلتُ دونَه أجلًا مؤجَّلًا، لابد أنه واقعٌ، فإن صدَقوا بما يَنتَحِلون من علمِ الغيبِ، فليُخبرُوك متى أُنفِذُه، أو في أيِّ زمانٍ يكونُ، وإن كانوا يَقدرون على أن يأتوا بما يشَاءون، فليأتوا بمثل القدرة التي بها أُمْضى
(5)
، فإني مُظْهِرُه على الدين كلِّه ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشَاءون فليُؤَلِّفوا مِثلَ الحكمة التي أُدبِّرُ بها أمرَ ذلك القضاء إن كانوا صادقين، فإنى قد قضَيتُ يومَ خَلَقتُ السماواتِ
(1)
في م: "للداعي".
(2)
في م: "المستضعف المستكين"، وفى تفسير البغوي:"المستعفف المسكين".
(3)
بعده في م: "لو".
(4)
في ص، ت 2:"أكل"، وفى ف:"أكمل".
(5)
في م: "أمضيت".
والأرضَ أن أجعل النبوَّةَ في الأُجَراءِ، وأن أُحوِّلَ المُلكَ فِي الرِّعاءِ، والعزَّ فِي الأَذِلَّاءِ، والقوَّةَ في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والثروة في الأقلَّاء، والمدائنَ في الفَلَواتِ، والآجامَ في المفاوز، والبَرْدِيَّ
(1)
في الغِيطانِ، والعلمَ في الجهلَة، والحُكم في الأميين، فسلْهم متى هذا؟ ومَن القائمُ بهذا؟ وعلى يَدَىْ مَن أَسبِّبُه
(2)
؟ ومَن أعوانُ هذا الأمر وأنصارُه إن كانوا يعلمون؟ فإنى باعثٌ لذلك نبيًّا أُمَّيًّا
(3)
، أعمى مِن عُمْيانٍ
(4)
، ضالًا من ضالِّين
(5)
، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا بصخَّابٍ في الأسواق، ولا مُتَزيِّنٍ
(6)
بالفُحشِ، ولا قوالٍ للحنا، أُسدِّدُه لكلِّ جميلٍ، أَهَبُ له كلَّ خُلقٍ كريمٍ، أَجعَلُ السكينة لباسَه، والبرَّ شِعارَه، والتَّقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدقَ والوفاءَ طبيعتَه، والعفوَ والعِرْفَ
(7)
خُلُقه، والعدل والمعروف سيرتَه، والحقَّ شريعتَه، والهدى، إمامَه، والإسلامَ ملَّتَه، وأحمدَ اسمَه، أَهدِى به بعد الضَّلالة، وأُعَلِّمُ به بعد الجهالة، وأرفعُ به بعدَ الحمالة، وأُشْهِرُ به بعد النُّكرة، وأكثِرُ به بعد القِلَّةِ، وأُغنى به بعد العيلَةِ، وأَجمعُ به بعدَ الفُرقة، وأُؤَلِّفُ به قلوبًا مختلِفةً، وأهواءً مشتَّتةً، وأممًا متفرِّقةً، وأجْعَلُ أمَّته خيرَ أُمَّةٍ أخرجت للنَّاسِ، تأمُرُ بالمعروفِ، وتَنْهَى عن المنكرِ، توحيدًا لى، وإيمانًا وإخلاصًا بي، يُصَلُّون لى قيامًا
(1)
البردى: نبات مائى من الفصيلة السعدية، تسمو ساقه الهوائية إلى متر أو أكثر، ينمو بكثرة في منطقة المستنقعات بأعالى النيل، وصنع منه المصريون القدماء ورق البردى المعروف. الوسيط (ب ر د).
(2)
في م: "أسنه"، وفى ت 1:"أنشئه".
(3)
بعده في م: "ليس".
(4)
بعده في م: "ولا".
(5)
وهذا المعنى كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]. قال ابن كثير في تفسيره 8/ 448: كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. وينظر البحر المحيط 8/ 486.
(6)
في ف: "متدين"، وغير منقوطة في ص.
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المعروف". والعرف: الصبر. التاج (ع ر ف).
وقعودًا، وركَّعًا وسجودًا، يُقاتلون في سبيلى صفوفًا وزحوفًا، ويَخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاءَ رضوانى، أُلهمُهم التكبير والتوحيدَ، والتسبيحَ والحمدَ والمِدْحَةَ، والتمجيد
(1)
لى في مساجدهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومُتَقَلَّبهم ومثوَاهم، يُكبِّرون ويهلِّلون، ويقدِّسون على رءوس الأسواق، ويُطهِّرون لى الوجوةَ والأطرافَ، ويعقِدُون الثيابَ في الأنصاف، قربانُهم دماؤُهم، وأناجيلُهم صدورُهم، رهبانٌ بالليل، لُيُوثٌ بالنهار، ذلك فضلى أُوتِيه مَن أَشاءُ، وأنا ذو الفضل العظيم. فلما فرَغ نبيُّهم شعيا إليهم من مقالته، عدوا عليه - فيما بلَغَني - ليقتُلُوه، فهرب منهم، فلقيَتْه شجرةٌ، فانفلَقتْ فدخَل فيها، وأدركه الشيطانُ فأَخَذ بهُدْبَةٍ مِن ثوبه فأرَاهم إياها، فوضَعوا المنشارَ في وسَطها فنشَرُوها حتى قطعُوها، وقطَعوه في وسَطِها
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: فعلى القول الذي ذكَرنا عن ابن عباسٍ من رواية السُّديِّ، وقول ابن زيدٍ، كان إفسادُ بني إسرائيل في الأرضِ المرةَ الأولى قَتْلَهم زكريا نبيَّ الله، مع ما كان سلَف مِنهم قبلَ ذلك وبعدَه، إلى أن بَعث الله عليهم من أحلَّ على يده بهم نقمتَه من معاصى الله، وعتوِّهم على ربِّهم. وأما على قول ابن إسحاق الذي روَينا عنه، فكان إفسادُهم المرّة الأولى ما وُصف مع
(3)
قتلهم شعيا بنَ أمصيا نبيَّ الله.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"التحميد".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 536، 537 مختصرًا، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 69 وما بعدها بأطول مما هنا، وقال ابن كثير في تفسيره 5/ 44 عن هذه الآثار وغيرها: وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية
…
منها ما هو موضوع، من وضع زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم.
(3)
في م، ت 2، ف:"من".
وذكر ابن
(1)
إسحاقَ أن بعضَ أهل العلم أخبَره أن زكريا مات موتًا ولم يُقتلْ، وأن المقتولَ إنما هو شعيا، وأن بختَنصرَ هو الذي سُلِّط على بني إسرائيلَ في المرّةِ الأولى بعد قتلهم شعيا.
حدَّثنا بذلك ابن حميدٍ، عن سلمة عنه
(2)
.
وأما إفسادُهم في الأرضِ المرة الآخرة، فلا اختلافَ بينَ أهل العلم أنه كان قتلَهم يحيى بنَ زكريا.
وقد اختلَفوا في الذي سلَّطه الله عليهم مُنتقمًا به منهم عند ذلك، وأنا ذاكرٌ اختلافَهم في ذلك إن شاء الله.
وأما قولُه: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} . فقد ذكرنا قول من قال: يعنى به استكبارَهم على الله بالجراءة عليه، وخلافِهم أمرَه.
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} . قال: ولَتَعلُنَّ
(3)
الناسَ علوًّا كبيرًا.
حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
وأما قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} . يعنى: فإذا جاء وعدُ أُولى المرَّتين اللتين
(1)
ليس في: ص، ت 1، ت 2، ف: وينظر ما سيأتي في التخريج.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 216، وأبو حيان في البحر المحيط 6/ 9 عن ابن إسحاق. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 19/ 56 من طريق إسحاق بن بشر، عن إدريس، عن وهب.
(3)
في ص: "لتضلن".
يُفسدُون بهما في الأرض.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} . قال: إذا جَاء وعدُ أُولى تينك المرَّتين اللتين
(1)
، قضَينا إلى بنى إسرائيل:{لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} .
وقولُه: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} . يعني تعالى ذكرُه بقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
(2)
}: وجَّهنا إليكم، وأرسلنا عليكم، {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}. يقولُ: ذوى بطشٍ في الحروب شديدٍ.
وقولُه: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} . يقولُ: فتردَّدُوا بين الدُّور والمساكن، وذهَبوا وجاءوا. يُقالُ فيه: جَاس القومُ بين الديار وحاسُوا - بمعنًى واحدٍ - وجُسْتُ أنا أَجُوسُ جَوْسًا وَجَوَسَانًا.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك رُوى الخبرُ عن ابن عباسٍ.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} . قال: مشَوا
(3)
.
وكان بعضُ أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقولُ: معنى {فَجَاسُوا} : قتلوا. ويُستَشهدُ لقوله ذلك ببيتِ حسان
(4)
:
(1)
في ص، ت 2، ف:"التي".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"إليكم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 370. والبيت ليس فيه.
ومنا الذي لاقى بسيف محمدٍ
…
فجَاس به الأعداءُ عُرضَ العساكر
وجائزٌ أن يكونَ معناه: فجاسوا خلال الديار فقتَلوهم ذاهبين وجائين. فيَصِحَّ التأويلان
(1)
جميعًا.
ويعنى: بقوله: {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} : وكان جَوْسُ القومِ الذين نَبعَثُ عليهم خلال ديارهم، وعدًا من الله لهم مفعولًا ذلك لا محالة؛ لأنه لا يُخلِفُ الميعادَ.
ثم اختلَف أهلُ التأويل في الذين عنى الله بقوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وفيما كان من فعلهم في المرّة الأولى في بني إسرائيل حين بُعثوا عليهم، ومَن الذين بَعَث عليهم في المرّة الآخرة، وما كان من صنيعهم بهم؛ فقال بعضُهم: كان الذي بعَث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت، وهو من أهل الجزيرة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} . قال: بعث الله عليهم جالوتَ، فجَاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخَراجَ والذُّلَّ، فسألوا الله أن يبعثَ لهم ملكًا يُقاتلون في سبيل الله، فبعث الله طالوت، فقَاتَلوا جالوتَ، فنصَر الله بني إسرائيل، وقُتِل جالوتُ بيدَى داودَ، ورجع الله إلى بني إسرائيل مُلكهم
(2)
.
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"التلاوتان" وغير منقوطة في: ص.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 163 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} : قضاءً قضَى الله على القوم كما تَسمَعون، فبعَث عليهم في الأُولى جالوتَ الجزريَّ، فسبَى وقتل، وجاسُوا خلالَ الديار كما قال الله، ثم رجَع القومُ على دَخَنِ فيهم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ، قال: أما المرةُ الأُولى فسلَّط الله عليهم جالوتَ، حتى بعَث طالوتَ ومعه داودَ، فقتَله داودُ
(1)
.
وقال آخرون: بل بعَث عليهم في المرّة الأولى سنحاريب. وقد ذكرنا بعض قائلى ذلك فيما مضَى، ونَذكُرُ ما حضَرَنا ذكرُه ممَّن لم نذكرْه قبلُ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي المعلَّى، قال: سمعتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ يقولُ في قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرّة الأولى سنحاريبَ مِن أهل أَثُورَ ونِينَوى. فسألتُ سعيدًا عنها، فزَعَم أنها الموصلُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: ثنى يعلى بنُ مسلمٍ، عن
(3)
سعيد بن جبيرٍ أنه سمِعه يقولُ: كان رجلٌ من بني إسرائيلَ يقرأُ حتى إذا بلغ: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . بكى وفاضَتْ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 273 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 44.
(3)
في م: "بن".
عيناه، و
(1)
طبَّق المصحفَ، فقال
(2)
: ذلك ما شاء الله من الزمان. ثم قال: أي ربِّ، أرنى هذا الرجل الذي جعلتَ هلاكَ بني إسرائيلَ على يدَيه. فأُرى في المنام مسكينًا ببابلَ، يُقالُ له: بختُنصَّرَ. فانطلق بمالٍ وأعْبُدٍ له - وكان رجلًا مُوسِرًا - فقيل له: أين تُريدُ؟ قال: أُريدُ التِّجارةَ. حتى نزَل دارًا ببابلَ، فاستكراهَا ليس فيها أحدٌ غيرُه، فجعَل يَدْعُو المساكين ويَلْطُفُ بهم حتى [لا يَأْتيه]
(3)
أحدٌ
(4)
، فقال: هل بقى مسكينٌ غيرُكم؟ قالوا: نعم. مسكينٌ بفجِّ آل فلانٍ مريضٌ، يُقالُ له: بختُنصر. فقال لغِلْميه: انطَلِقوا
(5)
. حتى أتاه، فقال: ما اسمُك؟ قال: بختُنصرَ. فقال لغلْمَتِه: احتمِلُوه. فنقَله إليه ومرَّضه حتى بَرَأ، فكَساه وأعطَاه نفقةً. ثم أَذَّن الإسرائيليُّ بالرحيل، فبكَى بختُنصرَ، فقال الإسرائيليُّ: ما يُبكيك؟ قال: أبكي أنك فعَلتَ بي ما فعَلتَ، ولا أجدُ شيئًا أجزِيكَ. قال: بلى، شيئًا يسيرًا، إن ملكت أطعتَنى. فجعَل الآخرُ يَتْبَعُه، ويقولُ: تَستَهزِئُ بى! ولا يَمنَعُه أَن يُعطيه ما سأله إلا أنه يَرَى أنه يستهزئُ به، فبكى الإسرائيليُّ، وقال: لقد علمت ما يمنعُك أن تُعطيَني ما سألتُك إلا أن الله يُريدُ أن يُنْفِذَ ما قد قضاه - وكتب في كتابه. [وضرَب الدهرُ من ضَرْبه]
(6)
، فقال [يومًا صيحونُ]
(7)
وهو ملكُ فارسَ ببابلَ: لو أنا بعثنا طليعةً إلى الشام؟
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بما"، وفى تاريخ المصنف:"ثم".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يقال".
(3)
سقط من: ت 2، وفى م:"لم يبق"، وفى ت 1:"لم يبقى"، وفى ف:"لم" وبعدها بياض بمقدار كلمة.
(4)
بعده في تاريخ المصنف: "إلا أعطاه". والمثبت بدونها مستقيم أيضًا
(5)
بعده في تاريخ المصنف: "بنا. فانطلق"، وفى نسخة منه:"بنا. فانطلقوا".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ضرب الدهر ضربة". قال ابن الأثير في النهاية 3/ 80: فضرب الدهر من ضَرَبانه. ويروى: من ضَرْبه. أي: مرّ من مروره وذهب بعضه.
(7)
في ص، ت 2، ف:"صحور"، وكذا ورد اسمه في نسخة من تاريخ المصنف.
قالوا: وما ضرَّك لو فعلت؟ قال: فمن تَرَون؟ قالوا: فلانٌ. فبعَث رجلًا وأعطَاه مائةَ ألفٍ، وخرَج بختُنصَّرَ في مَطبَخه، لا يَخْرُجُ إلا ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشامَ رأى صاحبُ الطليعة أكثر أرض الله فرسًا ورجلًا جلدًا، فكسر ذلك في ذرعه
(1)
، فلم يسألْ. قال: فجعَل بختُنصَّرَ يَجلِسُ مجالس أهل الشام، فيقولُ: ما يمنعُكم أن تَغْرُوا بابلَ، فلو غزَوتُموها ما دونَ بيت مالها شيءٌ؟ قالوا: لا نُحسنُ القتال. [قال: فلو
(2)
غَزَوتُم؟ قالوا: إنا لا نُحسنُ القتال]
(3)
ولا نُقَاتِلُ. حتى أنفذ
(4)
مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبَر الطليعةَ ملِكَهم بما رأى، وجعَل بختُنصرَ يقولُ لفوارس
(5)
الملكِ: لو دعانى الملكُ لأخبَرتُه غيرَ ما أخبرَه فلانٌ. فرُفِع ذلك إليه، فدعَاه فأخبره الخبرَ، وقال: إن فلانًا لما رأى أكثر أرض اللهِ كُراعًا
(6)
ورجلًا جلدًا، [كسر ذلك في ذرعه]
(7)
، ولم يَسْألهم عن شيءٍ، وإنى لم أدَعْ مجلسًا بالشام إلا جالستُ أهلَه، فقلتُ لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا - الذي ذكر سعيدُ بنُ جبيرٍ أنه قال لهم - قال الطليعةُ لبختنصَّرَ: فضَحتَنى، لك مائةُ ألفٍ وتنزِعُ عما قلتَ؟ قال: لو أعطَيتني بيتَ مال بابلَ ما نزعتُ. و
(8)
ضرَب الدهرُ مِن ضَربه، فقال الملكُ: لو بعثنا
(1)
أي: ثبطه عما أراد. ينظر النهاية 2/ 158.
(2)
بعده في م: "أنكم".
(3)
هذه الجملة ليست في تاريخ المصنف.
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"انتقد". وغير منقوطة في ص، وأنفذ القوم: إذا خرقهم ومشى في وسطهم. التاج (ن ف ذ).
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لفارس".
(6)
في م: "فرسا".
(7)
في م: "كبر ذلك في روعه".
(8)
من تاريخ المصنف.
جريدة خيلٍ
(1)
إلى الشام، فإن وجدوا مساغًا ساغوا، وإلا امتشُّوا
(2)
ما قدروا عليه. قالوا: ما ضرَّك لو فعلت؟ قال: فمَن ترونَ؟ قالوا: فلانٌ. قال: بل الرجلُ الذي أخبرني ما أخبرني. فدعا بختُنصرَ وأرسله، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبَوا ما شاء الله، ولم يخرِّبوا ولم يقتلوا، [ورُمى في جنازة]
(3)
صيحونَ
(4)
. قالوا: اسْتَخْلِفوا رجلًا. قالوا: على رسلِكم حتى يأتى أصحابكم فإنهم فرسانكم؛ [أن يُنغِّصوا]
(5)
عليكم شيئًا. فأمهلوا
(6)
جاء بختُنصرَ بالسَّبي وما معه، فقسَّمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدًا أحقَّ بالملكِ مِن هذا. فملَّكوه
(7)
.
حدَّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمانُ بنُ بلالٍ، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقولُ: ظهر بختُنصرَ على الشام، فخرَّب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشقَ، فوجد بها دمًا يغلى على كِبًا
(8)
. فسألهم: ما هذا الدمُ؟ قالوا: أدركنا آباءنا على هذا، وكلَّما ظهر عليه الكِبَا ظهر. قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا مِن المسلمين وغيرهم، فسكن
(9)
.
(1)
خيل جريدة: لا رَجّالة فيها. اللسان (ج ر د).
(2)
في م: "انثنوا". وامتشُّوا: انتزعوا، يقال: امتشى الثوب: انتزعه. ينظر اللسان (م ش ش).
(3)
في م: "ومات". ورمى في جنازته: أي مات. والعرب تقولها إذا أخبرت عن موت إنسان؛ لأن الجنازة تصير مرميًّا فيها. النهاية 1/ 306.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"صحور". وبعده في م: "الملك".
(5)
في م: "لن ينقضوا".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أمهلوا"، وفى م:"أمهلوا فأمهلوا".
(7)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 545، 546.
(8)
بعده في م: "أي كناسة"، ولعله تفسير من الناسخ.
(9)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 44 عن المصنف، وقال: وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور.
وقال آخرون: يعنى بذلك قومًا من أهل فارس. قالوا: ولم يَكُنْ في المرة الأولى قتالٌ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} . قال: من جاءهم من فارس يَتَحَسَّسون
(1)
أخبارهم، ويَسْمَعون حديثَهم، معهم بختُنصَّرَ، فوعى أحاديثَهم من بين أصحابه، ثم رجعت فارسُ ولم يَكنْ قتالٌ، ونُصرت عليهم بنو إسرائيل، فهذا وعد الأولى.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : جندٌ جاءهم من فارس يَتَحَسَّسون
(1)
أخبارهم. ثم ذكر نحوَه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: ذلك، أي من جاءهم من فارس، ثم ذكر نحوه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ثم أدلْناكم يا بني إسرائيل على هؤلاء القوم الذين وصفهم
(1)
في م: "يتجسسون".
(2)
تفسير مجاهد ص 428. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 65 إلى المصنف، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
جلَّ ثناؤُه أنه يَبْعَثُهم عليهم. وكانت تلك الإدالةُ والكرّةُ لهم عليهم، فيما ذكر السديُّ في خبره، أن بني إسرائيل غزَوْهم، وأصابوا منهم، واستَنْقَذوا ما في أيديهم منهم
(1)
. وفى قول آخرين، إطلاقُ الملكِ الذي غزاهم ما في يديه من أسراهم
(2)
. وردُّ ما كان أصاب من أموالهم عليهم من غير قتالٍ. وفي قول ابن عباسٍ الذي رواه عطيةُ عنه، هي إدالهُ الله إياهم من عدوِّهم جالوتَ حتى قتَلوه
(3)
، وقد ذكرنا كلَّ ذلك بأسانيده فيما مضى.
{وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} . يقولُ: وزدنا
(4)
فيما أعطيناكم من الأموال والبنين.
وقولُه: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} . يقولُ: وصيَّرناكم أكثر عدد نافرٍ منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} . أي: عددًا، وذلك في زمن داود
(5)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
(1)
ينظر ما تقدم في ص 456، 457.
(2)
في ص، ت 1، ف:"أشرافهم".
(3)
ينظر ما تقدم في ص 471.
(4)
في ت 1، ف:"ردنا".
(5)
تقدم أوله في ص 28.
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا
(1)
وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لبنى إسرائيل فيما قضَى إليهم في التوراة: إن أحسنتم يابني إسرائيلَ، فأطَعتم الله وأصلَحتم أمرَكم، ولزمتم أمرَه ونهيَه أحسَنتم وفعلتم ما فعَلتم من ذلك لأنفسكم؛ لأنَّكم إنما تنفعون بفعلِكم
(2)
ما تفعَلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله يدفَعُ عنكم من بغَاكم سوءًا، ويُنمِّى لكم أموالَكم، ويَزيدُكم إلى قوَّتِكم قوَّةً، وأما في الآخرة فإن الله تبارك وتعالى يُثيبُكم به جنانه. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ}. يقولُ: وإن عصيتُم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلى أنفسكم تُسيئون؛ لأنكم تُسخِطون بذلك على أنفسكم ربَّكم، فيُسلِّطُ عليكم في الدنيا عدوَّكم، ويُمكِّنُ مِنكم مَن بغاكم سوءًا، ويُخلِّدُكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جل ثناؤُه:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . والمعنى: فإليها. كما قال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 5] والمعنى: أَوْحَى إليها.
وقولُه: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} . يقولُ: فإذا جاء وعدُ المرّة الآخرة من مَرَّتَيْ إفسادِكم يابني إسرائيلَ في الأرض، (لِيَسُوءَ (1) وُجُوهَكُمْ). يقولُ: ليسوء مجئُ ذلك الوعد للمرة الآخرة وجوهَكم فيُقبِّحَها.
وقد اختلَفت القرأةُ في قراءة قوله: (ليَسُوءُ (1) وُجُوهَكُمْ). فقرأ ذلك عامَّةُ قرأة أهل المدينة والبصرة: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} . بمعنى: ليسوءَ العبادُ
(1)
في ص، ت 1، ف:"ليسوء". ويبدو أن هذه القراءة هي اختيار الطبرى كما سيظهر ذلك من تأويله للآية. وهذه القراءة هي قراءة ابن عامر وحمزة وخلف وعاصم في رواية أبي بكر. ينظر السبعة ص 378، والنشر 2/ 229.
(2)
في م: "بفعلتكم".
الأُلو
(1)
البأس الشديد الذين يبعَثُهم الله عليكم وجوهَكم
(2)
. واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} . وقالوا: ذلك خبرٌ عن الجميع، فكذلك الواجبُ أن يكونَ قولُه:{لِيَسُوءُوا} . وقرأ ذلك عامَّةُ قرَأةِ الكوفة: (ليَسُّوءَ وُجُوهَكُمْ). على التوحيد وبالياء، وقد يحتملُ ذلك وجهين من التأويل؛ أحدُهما ما قد ذكَرتُ، والآخرُ منهما: ليسوء الله وجوهكم. فمَن وجَّه تأويل ذلك إلى: ليسوءَ مجئُ الوعدِ وجوهَكم. جعَل جوابَ قوله: {فَإِذَا} محذوفًا، قد استُغْنِىَ
(3)
بما ظهَر عنه، وذلك المحذوفُ:"جاء". فيكونُ الكلامُ تأويلُه: فإذا جاء وعدُ الآخرة ليسوءَ وجوهَكم جاء. ومَن وجَّه تأويلَه إلى: ليسوءَ الله وجوهَكم. كان أيضًا في الكلام محذوفٌ
(4)
، غير أنه
(5)
سوى "جاء"، فيكونُ معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعدُ الآخرة بعَثناهم ليسوء الله وجوهَكم. فيكونُ المُضمَرُ "بعثناهم"، وذلك جوابُ "إذا" حينَئذٍ. وقرَأ ذلك بعضُ أهل العربية من الكوفيين:(لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمُه عن نفسه
(6)
.
وكان مجيءُ وعدِ المرَّة الآخرة عند قتلهم يحيى.
ذِكرُ الرواية بذلك.
والخبرُ عمّا جاءهم من عند الله حينئذٍ كما حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو،
(1)
في م: "أولو".
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحفص عن عاصم. السبعة ص 378.
(3)
في م: "المستغنى".
(4)
بعده في م: "قد استغنى هنا عنه بما قد ظهر منه".
(5)
في م: "أن ذلك المحذوف".
(6)
قرأه الكسائي. ينظر السبعة ص 378 والنشر ص 229.
قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في الحديث الذي ذكَرنا إسناده قبلُ؛ أن رجلًا من بنى إسرائيلَ رأى في النوم أن خرابَ بيت المقدسِ وهلاك بني إسرائيل على يَدَىْ غلامٍ يتيمٍ ابن أرملةٍ من أهل بابل، يُدْعَى بُخْتُنصَّر، وكانوا يَصدُقون فتَصدُقُ رؤياهم، فأقبَل فسأَل عنه حتى نزل على أمِّه وهو يَحتطبُ، فلما جاء وعلى رأسه حزمةٌ من حطبٍ ألقاها، ثم قعَد في جانب البيت، فضمَّه، ثم أعطاه ثلاثةَ دراهمَ، فقال: اشترِ بهذا
(1)
طعامًا وشرابًا. فاشترى بدرهم لحمًا وبدرهمٍ خبزًا وبدرهمٍ خمرًا، فأكلوا وشربوا حتى إذا كان اليومُ الثاني فعَل به ذلك، حتى إذا كان اليومُ الثالثُ فعل ذلك، ثم قال له: إني أُحِبُّ أن تكتبَ لى أمانًا إن أنت ملَكتَ يومًا من الدهرِ. فقال: تسخَرُ بي؟ فقال: إني لا أسخَرُ بك، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندى يدًا! فكلَّمته أمُّه، فقالت: وما عليك إن كان
(2)
، وإلا لم يَنقُصْك شيئًا! فكتب له أمانًا، فقال
(3)
: أرأيتَ إن جئتُ والناسُ حولَك قد حالوا بينى وبينك، فاجعَلْ لى آيةً تعرِفُنى بها. قال: ترفَعُ صحيفتَك على قَصَبةٍ فأعرِفُك بها. فكسَاه وأَعْطَاه، ثم إن ملك بني إسرائيلَ كان يُكرِمُ يحيى بن زكريا، ويُدْنِى مجلسَه، ويستشيرُه في أمرِه، ولا يقطَعُ أمرًا دونَه، وإنه هوىَ أن يتزوَّجَ ابنة امرأةٍ له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحِها، وقال: لستُ أَرْضاها لك، فبلَغ ذلك أمَّها فحقَدت على يحيى حينَ نهاه أن يتزوَّجَ ابنتَها، فعمَدت أمُّ الجارية حينَ جلَس الملكُ على شرابه، فألبَستْها ثيابًا رقاقًا حُمْرًا، وطيَّبْتها وألبَسْتها من الحَلْي، و
(4)
ألبَستها فوق ذلك كساءً أسودَ، وأرسَلتْها
(1)
في م: "لنا بها". وفى تاريخ المصنف - كما سيأتي تخريجه -: "بهذه".
(2)
بعده في م: "ذلك".
(3)
بعده في م: "له".
(4)
بعده في م: "قيل: إنها". وينظر مصدر التخريج.
إلى الملكِ، وأمرتْها أن تَسقِيَه، وأن تَعرِضَ
(1)
له
(2)
، فإن أرادها على نفسِها أبَت عليه حتى يُعطيَها ما سأَلتْه، فإذا أعطاها ذلك سألتْه أن يأتيَ برأس يحيى بن زكريا في طَسْتٍ، ففعَلتْ، فجعَلتْ تَسقِيه وتَعرِضُ
(1)
له
(2)
، فلما أخَذ فيه الشرابُ أرادها على نفسِها، فقالت: لا أفعَلُ حتى تُعطِينَى ما أسألُك. قال: ما
(3)
تَسْأَليني؟ قالت: أسألُك أن تبعَثَ إلى يحيى بن زكريا، فأُوتَى
(4)
برأسه في هذا الطَّسْتِ. فقال: ويحَك سَلِينى غيرَ هذا. فقالت له: ما أريدُ أن أسألك إلا هذا. قال: فلما أبَتْ
(5)
عليه بعَث إليه، فأُتى برأسه، والرأسُ يتكلَّمُ حتى وُضِع بين يديه وهو يقولُ: لا يَحِلُّ لك
(6)
. فلما أصبَح إذا دمُه يَغلى، فأمَر بترابٍ فأُلقى عليه، فرقى الدمُ فوق الترابِ يغلى، فأُلقى عليه الترابُ
(7)
أيضًا، فارتفع الدمُ فوقه، فلم يزَلْ يُلقَى عليه الترابُ حتى بلَغ سورَ المدينة وهو [في ذلك]
(8)
يغلى وبلَغ صَيْحائينَ
(9)
، فثار في الناس، وأراد أن يبعَثَ عليهم جيشًا، ويُؤمِّرَ عليهم رجلًا، فأتاه بختُنصَّرَ وكلَّمه وقال: إن الذي كنتَ أرسَلتَ تلك المرَّةَ ضعيفٌ، وإنى قد دخلتُ المدينة وسمعتُ كلام أهلها، فابعَثْني. فبعَثه، فسار بختُنصَّرَ حتى إذا بلغوا ذلك المكانَ تَحصَّنوا منه في مدائنهم،
(1)
في ت 1: "تتعرض".
(2)
بعده في م: "نفسها".
(3)
بعده في م: "الذي".
(4)
في ت 1: "فتأتي".
(5)
في م: "ألحت". وفي ت 1، ف:"أنفت".
(6)
بعده في م: "ذلك".
(7)
سقط من ص، ت 1، ت 2، ف. وينظر مصدر التخريج.
(8)
سقط من: م، ت 1. وفى ت 2، ف: "في".
(9)
في ص، ت 1، ف:"صحابين". وفى م: "صيحابين". وفي ت 2: "صحابين". وأثبتناه كما في: تاريخ المصنف.
فلم يُطِقهم
(1)
، فلما اشتدَّ عليهم المُقامُ وجاع أصحابُه، أرادوا الرجوعَ، فخرَجت إليهم عجوزٌ من عجائز بنى إسرائيلَ، فقالت: أين أميرُ الجندِ؟ فأُتى بها إليه، فقالت له: إنه بلَغنى أنك تريدُ أن تَرجِعَ بجندِك قبل أن تَفتحَ هذه المدينةَ. قال: نعم، قد طال مُقامي، وجاع أصحابي، فلستُ أستطيعُ المقامَ فوقَ الذي كان منى. فقالت: أرأيتَك إن فتحتُ لك المدينةَ أتُعطينى ما أسألُك، فتقتلُ مَن أمَرتُك بقتله، وتَكُفُ إذا أَمَرتُكَ أَن تَكُفَّ؟ قال: نعم. قالت: إذا أصبَحت فاقسِمْ جندَك أربعة أرباعٍ، ثم أَقِمْ على كلِّ زاويةٍ ربعًا، ثم ارفَعوا بأيديكم إلى السماء فنادُوا: إِنا نستفتِحُك يا الله بدمِ يحيى بن زكريا. فإنها سوف تسَّاقَطُ. ففعَلوا، فتساقَطت المدينةُ، ودخَلوا مِن جوانبها، فقالت له:[كُفَّ يدَك]
(2)
، اقتُلْ على هذا الدم حتى يَسكُن. وانطلَقتْ به إلى دم يحيى، وهو على ترابٍ كثيرٍ، فقتَل عليه، حتى سكن، سبعين ألفًا وامرأةً، فلما سكَن الدمُ قالت له: كُفَّ يدك، فإن الله تبارك وتعالى إذا قُتِل نبيٌّ لم يرضَ، حتى يُقتَلَ مَن قتَله، ومَن رضِي قتلَه. وأتاه صاحبُ الصحيفة بصحيفته، فكفَّ عنه وعن أهل بيته، وخرَّب بيتَ المقدس، وأمَر به أن تُطرَحَ فيه الجيَفُ، وقال: مَن طرح فيه جيفةً فله جزيتُه تلك السنة، وأعانه على خرابِه الرومُ من أجل أنَّ بني إسرائيل قتلوا يحيى، فلما خرَّبه بختُنصَّرَ ذهَب معه بوجوه بنى إسرائيل وسراتِهم
(3)
، وذهب بدانيالَ وعَلْيا وعَزَرْيَا
(4)
وميشائيلَ، هؤلاء كلُّهم من أولاد الأنبياء وذهَب معه برأس الجالوت
(5)
، فلما قدِم أرضَ بابلَ وجَد صَيْحائينَ قد مات، فملَك مكانَه، وكان
(1)
في ت 2: "يطلعهم". وفي ف: "يطلقهم".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "أشرافهم".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"عزوريا". وفي م: "عزاريا". ينظر التاريخ.
(5)
في م: "جالوت".
أكرم الناس عليه دانيالُ وأصحابُه، فحسَدهم المجوسُ
(1)
، فوشَوا بهم إليه، وقالوا: إن دانيالَ وأصحابَه لا يعبُدون إلهَك، ولا يأكُلون من ذبيحتِك، فدعاهم فسَألهم، فقالوا: أَجَلْ، إن لنا ربًّا نعبُدُه، ولسنا نأكُلُ مِن ذبيحتكم. فأمر بخدٍّ فخُدَّ لهم، فأُلقوا فيه، وهم ستةٌ، وأُلقى معهم [سَبُعٌ ضارٍ]
(2)
ليأكُلَهم، فقال: انطلقوا فلنأكُلْ ولْنشرَبْ. فذهَبوا فأكَلوا وشربوا، ثم راحوا فوجَدوهم جلوسًا والسَّبُعُ مفترشٌ ذراعيه بينَهم، ولم يَخدِشْ منهم أحدًا، ولم يَنْكَأه
(3)
شيئًا، ووجَدوا معهم رجلًا، فعدُّوهم فوجَدوهم سبعةً، فقالوا: ما بالُ هذا السابع؟ إنما كانوا ستةً! فخرج إليهم السابعُ. وكان مَلَكًا من الملائكة، فلطمه لطمةً فصار في الوحش، فكان فيهم سبعَ سنينَ، لا يراه وحشيٌّ إلا أتاه حتى يَنكِحَه، يقتصُّ منه ما كان يصنَعُ بالرجال، ثم إنه رجَع ورَدَّ الله عليه مُلكَه، فكانوا أكرم خلق الله عليه، ثم إن المجوس وشَوا
(4)
به ثانيةً، فألقوا له أسدًا في بئرٍ قد ضَرِى، فكانوا يُلقُون له الصخرة فيلتقِمُها
(5)
، فألقوا له دانيالَ، فقام الأسدُ في جانبٍ، ودانيالُ في جانبٍ لا يمَسُّه، فأخرَجوه، وقد كان قبل ذلك خَدَّ لهم خَدًا، فأوقَد فيه نارًا، حتى إذا أَجَّجها قذَفهم فيها، فأَطفَأَهَا اللهُ عليهم ولم يَنكَأُهم
(6)
منها شيءٌ، ثم إن بختُنصرَ رأى بعد ذلك في منامه صنمًا رأسُه من ذهبٍ، وعنقُه مِن شَبَهٍ
(7)
، وصدرُه من حديدٍ، وبطنُه أخلاطُ ذهبٍ وفضةٍ وقواريرَ، ورجلاه من فخَّارٍ، فبينا هو قائم ينظُرُ، إذ جاءت صخرةٌ من السماء من قبل
(1)
بعده في ص، ت 2، ف:"ذلك". وفي م: "على ذلك".
(2)
في م: "سبعًا ضاريًا".
(3)
أي: لم يصبه ولم يجرحه. ونكأ القرحة: قشرها. ينظر التاج (ن ك أ).
(4)
في ص، ت 2:"نووا".
(5)
في ص، ت 2، ف:"فيأخذها".
(6)
في م: "ينلهم".
(7)
الشبه: النحاس الأصفر. وقيل: هو النحاس يلقى عليه دواء فيصفر. التاج (ش ب هـ).
القبلة، فكسَرت الصنمَ فجعَلتْه هشيمًا، فاستيقظ فزِعًا وأُنسيها، فدعا السحرةَ والكهنةَ، فسأَلهم، فقال: أخبرونى ما رأيتُ. قالوا: لا، بل أنتَ أخبرْنا ما رأيت فتعبُرَه لك. قال: لا أدرى. قالوا: فهؤلاء الفتيةُ الذين تُكرِّمُهم، فادعُهم فاسأَلْهم، فإن هم لم يُخْبروك بما رأيتَ فاقتُلْهم
(1)
. فأرسل إلى دانيالَ وأصحابه، فدعاهم، فقال: أخبروني ماذا رأيتُ؟ فقال له دانيالُ: أخبرْنا ما رأيتَ فنَعبُرَه لك. قال: [لا أدرى]
(2)
قد نَسيتُها. فقال له دانيالُ: كيف نعلَمُ رؤيا لم تُخبرْنا بها؟ فأمر البواب أن يقتُلَهم، فقال دانيالُ للبوَّاب: إن الملك إنما أمر بقتلنا من أجل رؤياه: فأخِّرْنا ثلاثةَ أيامٍ، فإن نحن أخبَرْنا الملكَ برؤياه وإلا فاضرِبْ أعناقَنا. فأجَّلهم فدعَوُا الله، فلمّا كان اليومُ الثالثُ أبصَر كلُّ رجلٍ مِنهم رؤيا بختُنصرَ على حدةٍ، فأتوا البوَّابَ فأخبَروه، فدخل على الملك فأخبَره، فقال: أدخِلْهم عليَّ. وكان بختُنصرَ لا يعرِفُ من رؤياه شيئًا، إلا شيئًا يذكُرونه، فقالوا له: رأيتَ كذا وكذا. فقَصُّوها عليه، فقال: صدَقتم. قالوا: نحن نَعبُرُها لك. أما الصنمُ الذي رأيتَ رأسَه مِن ذهبٍ، فإنه مُلكُك
(3)
، حسنٌ مثلَ الذهب - وكان قد ملك الأرض كلَّها - وأما العنقُ مِن الشَّبَه، فهو مُلْكُ ابنك بعدَك
(4)
، يملكُ فيكونُ مُلكُه حسنًا، ولا يكونُ مثل الذهبِ. وأما صدرُه
(5)
من حديدٍ فهو مُلْكُ أهل فارسَ، يملكون بعد
(6)
ابنك، فيكونُ مُلكُهم شديدًا مثل الحديد، وأما بطنُه الأخلاطُ، فإنه يذهَبُ
(1)
في ص، ت 2، ف:"فما تصنع بهم؟ فاقتلهم". وفى م: "فما تصنع بهم؟ قال أقتلهم".
(2)
في ت 1: "ما أدرى ما رأيت".
(3)
في م: "ملك".
(4)
في م: "بعد".
(5)
بعده في م: "الذي".
(6)
في م: "بعدك".
ملكُ أهل فارسَ، ويتنازعُ الناسُ الملُك في كلِّ قريةٍ، حتى يكون الملِكُ يملكُ اليوم واليومين، والشهرَ والشهرين، [ثم يُقتَلُ]
(1)
، فلا يكونُ للناسِ قوامٌ على ذلك، كما لم يكن للصنم قوامٌ على رجلين من فخّارِ؛ فبينما هم كذلك، إذ بعث الله تعالى نبيًّا من أرض العرب، فأظهَره على بقية مُلكِ أهل فارس، وبقية مُلكِ ابنك ومُلكك، فدمَّره وأهلكه
(2)
حتى لا يَبقَى منه شيءٌ، كما جاءت الصخرةُ فهدَمت الصنمَ. فعطَف عليهم بختُنصرَ فأحَبَّهم، ثم إن المجوس وشوا
(3)
بدانيالَ، فقالوا: إن دانيالَ إذا شرب الخمرَ لم يَمْلِكُ نفسَه أن يبولَ. وكان ذلك فيهم عارًا، فجعل لهم بختُنصّرَ طعامًا، فأكَلوا وشربوا، وقال للبوّاب: انظر أوّلَ مَن يخرُجُ عليك يبولُ، فاضربه بالطَّبَرْزِينِ
(4)
، وإن قال: أنا بختُنصّرَ. فقل: كذَبتَ، بختُنصرَ أَمَرنى. فحبَس اللهُ عن دانيال البولَ، وكان أوّلَ مَن قام من القوم يريدُ البول بختُنصّرَ، فقام مُدلًّا، وكان ذلك ليلًا، يسحَبُ ثيابَه، فلما رآه البوّابُ شدَّ عليه، فقال: أنا بختُنصرَ. فقال: كذبتَ، بختُنصرَ أمرنى أن أقتُلَ أوّلَ مَن يخرُجُ. فضربه فقتله.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي المُعَلَّى، قال: سمعتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ، قال: بعث الله عليهم في المرّة الأولى سنحاريب. قال: فردَّ اللهُ لهم الكرَّةَ عليهم، كما قال. قال: ثم عصَوا ربَّهم وعادوا لما نُهوا عنه، فبعَث عليهم في المرّة الآخرةِ بحُتَنصَّرَ، فقتل المُقاتِلةَ، وسبَى الذُّرِّيَّةَ، وأَخَذ ما وجد مِن الأموال، ودخَلوا بيتَ المقدسِ، كما قال الله عز وجل: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ
(1)
سقط من ت 2.
(2)
في ت 2: "أهله".
(3)
في ص، ت 2، ف:"يروا".
(4)
في ت 1: "بالطربزين". والطبرزين فارسي، وتفسيره: فأس السَّرْج. لأن فرسان العجم تحمله معها يقاتلون به. قال: وقد تكلمت به العرب. المعرب ص 276.
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}. دخلوه فتبَّروه وخرَّبوه، وألقَوا فيه ما استطاعوا مِن العَذِرَةِ والحيض والجيَفِ والقَذَرِ، فقال الله:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} . فرجمهم فردَّ إليهم مُلْكَهم، وخلَّص من كان في أيديهم مِن ذُرِّيَّةِ بنى إسرائيل، وقال لهم:{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} . قال أبو المُعلَّى: ولا أعلَمُ ذلك إلا من هذا الحديثِ، ولم يَعِدْهم الرجعةَ إلى مُلكِهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} . قال: بعث
(2)
مَلكُ فارس ببابلَ جيشًا، وأمَّر عليهم بختُنصّرَ، فأتوا بنى إسرائيلَ، فدمَّروهم، فكانت هذه الآخرة ووعدَها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: ثنى يَعْلَى بْنُ مُسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: لما ضرَب لبُختِنصَرَ المُلْكُ بجرانِه
(4)
، قال: ثلاثةً، فمَن استأخّر منكم بعدَها فلْيَمش إلى خشبته
(5)
. فغزا الشام، فذلك حينَ
(1)
تقدم في ص 472. وينظر التبيان 6/ 448.
(2)
بعده في م: "الله".
(3)
تفسير مجاهد ص 428، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4)
ضرَب الشيءُ بجرانه: ثبت واستقر. وهو من المجاز المنقول من الكناية، من قولهم: ضرب البعيرُ بجرانه، وألقى جرانه. إذا برك. أساس البلاغة (ج ر ن).
(5)
في ص: "حسه". وفي ت 1: "حبسه". وفي ت 2: "حسنه". وقوله: فليمش إلى خشبته. كناية عن أنه سيميته. كما مر قريبًا.
قتَّل وأخرَب
(1)
بيتَ المقدسِ، ونزَع حِلْيتَه، فجعَلها آنيةً ليشرب فيها الخمورَ، وخُونًا
(2)
يأكُلُ عليها
(3)
الخنازير، وحمل التوراة
(4)
معه، ثم ألقاها في النار، وقدم فيما قدم به بمائة وصيفٍ منهم دانيالُ وعَزَرْيا وحَنَنْيا ومشائيلُ، فقال
(5)
: أصلحْ لى أجسامَ هؤلاء لعلِّى أختارُ منهم أربعةً يخدُموننى. فقال دانيالُ لأصحابه: إنما نُصروا عليكم بما غيَّرتم من دين آبائكم، لا تأكُلوا لحمَ الخنزير، ولا تشرَبوا الخمرَ. فقالوا للذى يُصْلِحُ أجسامَهم: هل لك أن تُطعِمَنا طعامًا، هو أهونُ عليك في المئونة مما تُطعِمُ أصحابنا؟ فإن لم نَسمَنْ قبلَهم رأيتَ رأيك! قال: ماذا؟ قال: خبزُ الشعيرِ والكُرَّاثُ. ففعل فسمِنوا قبلَ أصحابهم، فأَخَذهم بُخْتُنصَّرَ يَخدُمونه، [بَيْنا ذلك، رأى]
(6)
بختُنصرَ رؤيا، فجلس فنسيها، فعاد فرقَد فرآها، فقام فنسيها، ثم عاد فرقَد فرآها، فخرَج إلى الحجرة فنسيها، فلما أصبَح دعا العلماء والكهَّانَ، فقال: أخبروني بما رأيتُ البارحة، وأوِّلوا لي رؤياى، وإلا فلْيَمش كلُّ رجلٍ منكم إلى خشبته، موعدُكم ثالثةٌ. فقالوا: هذا لو أخبَرنا برؤياه. وذكر كلامًا لم أحفَظْه، قال: وجعَل دانيالُ كلَّما مرَّ به أحدٌ من قرابته يقولُ: لو دعانى الملكُ لأخبَرْتُه برؤياه، ولأوَّلتُها له. قال: فجعَلوا يقولون: ما أحمقَ هذا الغلامَ الإسرائيليَّ. إلى أن مرَّ به كهلٌ. فقال له ذلك، فرجَع إليه فأخبرَه، فدعاه فقال: ماذا رأيتُ؟ قال: رأيتَ تمثالًا. قال: إيه. قال: ورأسُه من ذهبٍ. قال: إيه. قال: وعنقُه من فضةٍ. قال: إيه. قال: وصدرُه من حديدٍ. قال: إيه. قال:
(1)
في م: "أخرج".
(2)
في م: "خوانا". والخون جماع الخوان.
(3)
في م: "عليه".
(4)
في ت 1: "السراة". وفى ت 2، ف:"الشراة".
(5)
بعده في م: "لإنسان".
(6)
في م: "فبينما هم كذلك إذ رأى".
وبطنُه من صُفْرٍ
(1)
. قال: إيه. قال: ورجلاه من آنُكٍ
(2)
. قال: إيه. قال: وقدماه من فخارٍ. قال: هذا الذي رأيتَ؟ قال: إيه. قال: فجاءت حصاةٌ فوقَعت في رأسه، ثم في عنقِه، ثم في صدرِه، ثم في بطنِه، ثم في رجليه، ثم في قدميه. قال: فأهلَكتْه. قال: فما هذا؟ قال: أما الذهبُ فمُلْكُك، وأما الفضةُ فمُلكُ ابنك من بعدك، ثم مُلكُ ابن ابنك. قال: وأما الفخّارُ فملُكُ النساء. فكساه جبةً [من حرير]
(3)
، وسوَّره وطاف به في القرية، وأجاز خاتَمه، فلما رأت ذلك فارسُ، قالوا: ما الأمرُ إلا أمر هذا الإسرائيليِّ. فقالوا: ائتوه من نحو الفتية
(4)
، ولا تذكُروا له دانيالَ، فإنه لا يصدِّقُكم عليه. فأتَوه. فقالوا: إن هؤلاء الفتيةَ الثلاثة ليسوا على دينك، وآية ذلك أنك إن قرَّبتَ إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكُلوا ولم يَشرَبوا. فأمر بحطبٍ كثيرٍ فوُضع، ثم [أَرْقَاهم عليه]
(5)
، ثم أوقَد فيه نارًا، ثم خرَج من آخر الليل يبولُ، فإذا هم يتحدَّثون، وإذا معهم رابعٌ يُروِّحُ عنهم
(6)
يُصلِّى، قال: من هذا يا دانيالُ؟ قال: هذا جبريلُ، إنك ظلَمتَهم. قال: ظلمتُهم
(7)
! فأمر بهم فأُنزلوا، قال: ومسَخ اللهُ تعالى بختَنصَّرَ مِن الدوابِّ كلِّها، فجُعِل من كلِّ صِنفٍ من الدوابِّ؛ رأسًا
(8)
من السباع الأسد، ومن الطير النَّسْرِ، وملك ابنُه فرأى كفًّا خرَجتْ بين لَوْحَين، ثم كتَبتْ سطرين، فدعا الكهانَ والعلماء فلم [يجد فيه]
(9)
علمًا، فقالت له أمُّه: إنك لو أعدتَ إلى دانيالَ مَنزِلته
(1)
الصفر من النحاس: الجيد. وقيل: هو ضرب من النحاس. وقيل: هو ما صفر منه. التاج (ص ف ر).
(2)
الآنك: الأُسْرُبُّ، وهو الرَّصاص القَلْعِيُّ. وقيل: هو الرصاص الأبيض. وقيل: الأسود. وقيل: الخالص منه. اللسان (أ ن ك).
(3)
في ص، ت 2، ف:"نوب"، وفى م:"ترثون".
(4)
بعده في م: "الثلاثة".
(5)
سقط من: ت 1، وفى ص، ت 2، ف:"أرما عليه".
(6)
في م، ت 2:"عليهم".
(7)
بعده في م: "مر بهم ينزلوا".
(8)
في م: "رأسه رأس سبع".
(9)
في م: "يجدوا لهم في ذلك".
التي كانت له مِن أبيك أخبَركَ. وكان قد جفاه، فدعاه، فقال: إني معيدٌ إليك منزلتَك من أبي، فأخبرْني ما هذان السطران؟ قال: أما أن تُعيد إليَّ منزلتي من أبيك، فلا حاجةَ لى بذاك، وأما هذان السطران فإنك تُقتَلُ الليلةَ. فأخرج من في القصرِ أجمعين، وأمر بقفله، فأُقفِلت الأبوابُ عليه، وأدخَل معَه أمنَ أهل القرية في نفسه معه سيفٌ، فقال: من جاءك من خلق الله فاقتُلْه، وإن قال: أنا فلانٌ. وبعَث الله عليه البطنَ فجعَل يمشِى حتى كان شطرُ الليل، فرقَد ورقَد صاحبُه، ثم نبَّهه البطنُ، فذهَب يمشى والآخرُ نائمٌ، فرجَع فاستيقَظ به، فقال له: أنا فلانٌ. فضرَبه بالسيف فقتله
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} ، آخر العقوبتين، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، كما دخله عدوُّهم قبل ذلك، {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} ، فبعث الله عليهم في الآخرة بُختَنصرَ البابليَّ المجوسيَّ، أبغضَ خلقِ اللهِ إِليه، فسبَى وقتل وحَرَّب بيت المقدسِ، وسامهم سوءَ العذاب.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ، قال: ثم
(2)
جاء وعدُ الآخرة من المرتين، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}. قال: ليُقبِّحوا وجوهَكم. {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} . قال: يُدمِّروا ما علَوا تدميرًا. قال: هو بختُنصرَ، بعَثه الله عليهم في المرّة الآخرة
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 164 إلى المصنف.
(2)
في م: "فإذا".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 373 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى ابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: فلما أفسَدوا بعَث الله عليهم في المرّة الآخرة بختَنصرَ، فخرَّب المساجد وتبَّر ما علوا تتبيرًا
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابن إسحاق، قال: فيما بلغني؛ استخلَف الله على بني إسرائيلَ بعد ذلك - يعنى بعدَ قتلِهم شعياءَ - رجلًا منهم يقالُ له: [ياشيةُ بنُ آموص]
(2)
. فبعث اللهُ الخَضِرَ نبيًّا - كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنى، يقولُ:"إنَّما سُمِّيَ الخَضِرُ خَضِرًا؛ لأنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَقَامَ عَنْهَا وَهِيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ" - قال: واسمُ الخضرِ، فيما كان وهبُ بنُ منبهٍ يزعم عن بني إسرائيل: إِرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا، وكان مِن سبطِ هارونَ بن عمران
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سهلِ بن عسكرٍ، ومحمدُ بنُ عبد الملك بن زنجُويه، قالا: ثنا إسماعيلُ بنُ عبد الكريم، قال: ثنا عبدُ الصمد بنُ معقلٍ، عن وهبِ بن منبهٍ، وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عمّن لا يُتَّهمُ، عن وهب بن منبهٍ اليمانيِّ، واللفظُ لحديث ابن حميدٍ، أنه كان يقولُ: قال الله تبارك وتعالى لإرْمِيَا حين بعَثه نبيًّا إلى بنى إسرائيلَ: يا إرميا، من قبل أن أخلُقَكَ اخترتُكَ، ومن قبل أن أُصوِّرَك في بطن أمِّك قدَّستُك، ومن قبل أن أُخْرِجَك من بطن أمِّك
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 163 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ص: "ناشبة بن اموص". وفى م: "ناشة بن أموص". وفى ت 2: "ناشبة بن موص".
وفي ت 2: "ياشبه بن مرض". وفى ف: "ناشية بن موص". وأثبتناه كما في التاريخ، وسيأتي تخريجه.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 547 دون قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى يقول: "
…
خضراء".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمى الخضر
…
" صح مرفوعًا من حديث أبي هريرة عند البخاري (3402).
طهَّرتُك، ومن قبل أن تبلُغَ السعى نبَّيتُك
(1)
، ومن قبل أن تبلُغَ الأشدَّ اختبَرتُك
(2)
، ولأمر عظيم اجتبيتُك
(3)
. فبعث الله إرميا إلى ذلك الملكِ من بني إسرائيل يسدِّدُه ويُرْشِدُه، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله. قال: ثم عظُمت الأحداثُ في بني إسرائيلَ، وركبوا المعاصيَ، واستحلُّوا المحارم، ونَسُوا ما كان الله تعالى صنَع بهم، وما نجاهم من عدوِّهم سنحاريبَ وجنوده. فأوحَى الله إلى إرمياءَ أن ائتِ قومَك من بنى إسرائيل، واقصُصْ عليهم ما أمرُك به، وذكِّرْهم نعمتى عليهم، وعرِّفْهم أحداثَهم. فقال إرمياءُ: إني ضعيفٌ إن لم تُقوِّنى، عاجزٌ إن لم تُبلِّغْني، مخطئ إن لم تُسدِّدْني، مخذولٌ إن لم تَنصُرْني، ذليلٌ إن لم تُعِزَّنى. قال الله تبارك وتعالى: أوَلم تعلَمْ أن الأمورَ كلَّها تصدُرُ عن مَشيئتى، وأن القلوب كلَّها والألسنةَ بيدى، أُقلِّبُها كيف شئتُ، فتُطيعُني، وإنى أنا الله الذي لا شيء مثلى، قامت السماوات والأرضُ وما فيهنَّ بكلمتى، وأنا كلَّمتُ البحار، ففهمت قولى، وأمَرتُها فعقلتُ أمرى، وحدَّدتُ عليها بالبطحاء فلا تعدَّى حدِّى، تأتى بأمواج [أمثال الجبال]
(4)
، حتى إذا بلَغت حدِّى ألبستُها مذلَّةَ طاعتى خوفًا واعترافًا لأمرى، إنِّي معك، ولن يصل إليك شيءٌ معي، وإني بعثتُك إلى خَلْقٍ عظيمٍ مِن خَلقِى؛ لتُبلِّغَهم رسالاتي ولتستحقَّ بذلك مثل أجرِ مَن اتّبَعك منهم لا يَنْقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا، وإن تُقصِّرْ عنها [تستحقَّ بذلك]
(5)
مثل وزرِ مَن ترَكتَ
(6)
في عماه لا ينقصُ ذلك من أوزارهم شيئًا، انطلِقْ إلى
(1)
في م: "نبأتك".
(2)
في م: "اخترتك".
(3)
في م: "اختبأتك".
(4)
في م والتاريخ: "كالجبال".
(5)
في م: "فلك".
(6)
في ص: "بركب". وفى م: "تركب". وفى ت 1، ت 2، ف:"يركب". وأثبتناه كما في التاريخ.
قومك فقل: إن الله ذكر بكم
(1)
صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يَسْتَتيبَكم يا معشرَ الأبناء. وسَلْهم كيف وجد آباؤهم مغبَّةً طاعتى، وكيف وجَدوا هم مغبَّةَ معصيتى، وهل علموا أن أحدًا قبلَهم أطاعنى فشَقِى بطاعتى، أو عصاني فسعد بمعصيتى، فإن الدوابَّ مما تذكُرُ أوطانَها الصالحةَ، فتنتابُها، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهَلكة؛ أما أحبارُهم ورهبانُهم فاتخَذوا عبادى حَوَلًا ليعبدوهم دونى وتحكَّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهَلوهم أمرى، وأنسَوْهم ذكرى، وغرُّوهم منى؛ أما أمراؤهم وقادتُهم فبطروا نعمتى، وأمنوا مكرى، ونَبَذُوا كتابي، ونسُوا عهدى، وغيَّروا سنَّتى، فادّان لهم عبادى بالطاعة التي لا تنبغى إلا لى، فهم يُطيعونهم في معصيتى، ويُتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جرأةً عليَّ وغِرّةً، وفِرْيَةً عليَّ وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلوِّ مكاني، وعظمة
(2)
شأني، فهل يَنبِغى لبشرٍ أن يُطاعَ في معصيتى، وهل ينبغى لى أن أخلُقَ عبادًا
(3)
أَجعَلُهم أربابًا من دوني؟! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبَّدون في المساجد، ويتزيَّنون بعمارتها لغيرى؛ لطلب الدنيا بالدين، ويتفقَّهون فيها لغير العلم، ويتعلَّمون فيها لغير العمل؛ وأما أولادُ الأنبياء، فمَكْثُورون
(4)
مقهورون مُغيِّرون
(5)
، يخوضون مع الخائضين، ويتمنَّون عليَّ مثلَ نُصرة آبائهم والكرامة التي أكرَمتُهم بها، ويزعُمون أن لا أحد أولي بذلك منهم منى، بغيرِ صدقٍ ولا تفكُّرٍ ولا تدبُّرٍ، ولا يذكرون كيف كان نصرُ
(6)
آبائهم لى، وكيف كان جدُّهم في أمرى حينَ غيَّر المُغيِّرون، وكيف بذَلوا أنفسَهم ودماءَهم،
(1)
في م: "لكم".
(2)
في م: "عظم".
(3)
في ت 1: "عبادًا".
(4)
في م: "فمكثروه". والمكثور: المغلوب. وهو الذي تكاثر عليه الناس فقهروه. التاج (ك ث ر).
(5)
في ص، ت 2، ف:"معبرون". وفى م، ت 1:"مغيرون". وأثبتناه كما في التاريخ.
(6)
في م: "صبر".
فصبَروا وصدَقوا حتى عزَّ أمرى، وظهَر دينى، فتأنَّيتُ بهؤلاء القومِ لعلَّهم يستجيبون فأطْوَلتُ لهم، وصفَحتُ عنهم، لعلَّهم يَرجِعون، فأكثَرتُ ومدَدتُ لهم في العمرِ لعلّهم يتذكَّرون، فأعذرتُ في كلِّ ذلك، أُمطِرُ عليهم السماءَ، وأُنبِتُ لهم الأرضَ، وأُلبِسُهم العافيةَ، وأظهِرُهم على العدوِّ، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبُعدًا منى، فحتى متى هذا؟! أبى يتمرَّسون؟ أم إيَّاىَ يُخادعون؟ وإنى أحلِفُ بعزَّتى لأُقيِّضنَّ لهم فتنةً يتحيّرُ فيها الحليمُ، ويَضِلُّ فيها رأىُ ذى الرأى، وحكمةُ الحكيمِ، ثم لأُسلِّطنَّ عليهم جبّارًا قاسيًا عاتيًا، أُلبِسُه الهيبةَ، وأنتزِعُ مِن صدرِه الرأفةَ والرحمةَ واللِّيانَ
(1)
، يتبَعُه عددٌ وسوادٌ مثلُ سوادِ الليلِ المظلمِ، له عساكرُ مثلُ قِطَعِ السحابِ، ومراكبُ أمثالُ العَجَاجِ، كأن حفيفَ
(2)
راياتِه طيرانُ النسورِ، وإن حَمْلةَ فُرسانِه كريرُ
(3)
العِقبانِ.
ثم أوحَى اللَّهُ إلى إرميا: إنى مُهلكٌ بني إسرائيلَ بيافثَ - ويافثُ أهلُ بابلَ، وهم من ولدِ يافثِ بن نوحٍ - فلمّا سمع إرميا وحىَ ربَّه صاح وبكَى وشقَّ ثيابَه، ونبَذ الرمادَ على رأسِه فقال: ملعونٌ يومٌ وُلدتُ فيه، ويومُ لُقِّيتُ التوراةَ، ومن شرِّ أيامى يومٌ ولدتُ فيه، فما أُبقيتُ آخرَ الأنبياءِ إلا لما هو شرٌّ عليَّ، لو أراد بى خيرًا ما جعَلنى آخرَ الأنبياءِ من بنى إسرائيلَ، فمِن أجلى تُصيبُهم الشِّقوةُ والهلاكُ، فلما سمِع اللَّهُ تضرُّعَ الخَضِرِ وبكاءَه، وكيف يقولُ، ناداه: يا إرميا، أشَقَّ عليك ما أوحيتُ لك؟ قال: نعمْ، يا ربِّ أهلِكْنى قبلَ أن أرى في بنى إسرائيلَ ما لا أُسَرُّ به. فقال اللَّهُ: وعزَّتى العزيزةِ، لا أُهلِكُ بيتَ المقدسِ وبنى إسرائيلَ حتى يكونَ الأمرُ مِن قِبَلِكَ في ذلك. ففرِح عندَ ذلك إرميا لِمَا قال له ربُّه، وطابت نفسُه، وقال: لا، والذي بعَث
(1)
في النسخ: "البيان". والمثبت كما في التاريخ. والليان: الملاينة. اللسان (ل ى ن)
(2)
في ص، ت 2، ف:"حفيق". وفى م، ت،1، وفى التاريخ:"خفيق". وينظر البداية والنهاية 2/ 366.
(3)
في: "كوبر". والكرير: صوت في الصدر مثل الحشرجة وليس بها، وكذلك هو من الخيل في صدورها، وقيل: هو صوت كصوت المختنق أو المجهود. التاج (ك ر ر).
موسى وأنبياءه بالحقِّ لا أمُرُ ربى بهلاكِ بني إسرائيلَ أبدًا. ثم أتى مَلِكَ بنى إسرائيلَ فأخبَره ما أوحى اللَّهُ إليه، فاستبشَر وفرِح، وقال: إن يعذِّبْنا ربُّنا فبذنوبٍ كثيرةٍ قدَّمناها لأنفسِنا، وإن عفا عنا فبقُدرتِه.
ثم إنهم لبِثوا بعدَ هذا الوحى ثلاثَ سنيَن لم يزدادوا إلا معصيةً وتماديًا في الشرِّ، وذلك حيَن اقترَب هلاكُهم، فقلَّ الوحيُ حيَن لم يكونوا يتذكّرون الآخرةَ، وأمسَك عنهم حيَن أَلْهتهم الدنيا وشأنُها، فقال لهم ملكُهم: يا بنى إسرائيلَ، انتهُوا عما أنتم عليه قبلَ أن يَمَسَّكم بأسُ اللَّهِ، وقبلَ أن يُبْعَثَ عليكم قومٌ لا رحمةَ لهم بكم، وإن ربَّكم قريبُ التوبةِ، مبسوطُ اليدين بالخيرِ، رحيمٌ بمن تاب إليه. فأبَوا عليه أن يَنزِعوا عن شيءٍ مما هم عليه، وإن اللَّهَ ألقى في قلبِ بختنصَّرَ بن نَبُوزَرادانَ
(1)
بن سنحاريبَ بن دارْياسَ بن نُمرودَ بن فالَخِ بن عابَرِ بن نُمرودَ صاحبِ إبراهيمَ الذي حاجَّه في ربِّه، أن يسيرَ إلى بيتِ المقدسِ، ثم يفعلَ فيه ما كان جدُّه سنحاريبُ أراد أن يفعَلَ، فخرَج في ستِّمائةِ ألفِ رايةٍ يريدُ أهلَ بيتِ المقدسِ، فلمّا فصَل سائرًا أتى ملكَ بنى إسرائيلَ الخبرُ أن بختَنصّرَ قد أقبَل هو وجنودُه يُريدُكم، فأرسَل الملكُ إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعَمتَ لنا أن ربَّك أوحَى إليك أن لا يُهلكَ أهلَ بيتِ المقدسِ، حتى يكونَ منك الأمرُ في ذلك؟! فقال إرميا للملك: إن ربى لا يُخلِفُ الميعادَ وأنا به واثِقٌ.
فلما اقترَب الأجلُ ودنا انقطاعُ مُلكِهم وعزَم اللَّهُ على هلاكِهم، بعَث اللَّهُ مَلَكًا مِن عندِه، فقال له: اذهَبْ إلى إرميا فاستفتِه. وأمَره بالذي يَستفتِى فيه، فأقبَل المَلَكُ إلى إرمياءَ، وقد تمثَّل له رجلًا مِن بنى إسرائيلَ، فقال له إرميا: مَن أنت؟
(1)
في م: "نجورزاذان". ينظر ما تقدم في 4/ 589.
قال: أنا
(1)
رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ أستفتيك في بعضِ أمرى. فأذِن له، فقال له المَلَكُ: يا نبيَّ اللَّهِ، أتيتُك أستفتيك في أهلِ رَحِمى، وصَلتُ أرحامَهم بما أمَرنى اللَّهُ به، لم آتِ إليهم إلا حسنًا، ولم آلُهم كرامةً، فلا تَزيدُهم كرامتى إيّاهم إلا إسخاطًا لى، فأفتِنِى فيهم يا نبيَّ اللَّهَ. فقال له: أحسِنُ فيما بينَك وبيَن اللَّهِ، وصِل ما أمَرك اللَّهُ أن تَصِلَ، وأبشِرْ بخيرٍ. وانصرَف عنه، فمكَث أيامًا، ثم أقبَل إليه في صورةِ ذلك الرجلِ
(1)
الذي كان
(1)
جاءه، فقعَد بيَن يديه، فقال له إرميا: مَن أنت؟ قال: أنا الرجلُ الذي أتيتُك أستفتيك في شأنِ أهلى. فقال له نبيُّ اللَّهِ: أَوَ ما طهُرت
(2)
لك أخلاقُهم بعدُ، ولم ترَ منهم الذي تُحِبُّ؟ فقال: يا نبيَّ اللَّهِ، والذي بعثَك بالحقِّ ما أعلَمُ كرامةً يأتيها أحدٌ مِن الناسِ لأهلِ رحِمِه إلا قد أتيتُها إليهم وأفضلَ مِن ذلك. فقال النبيُّ: ارجِعْ إلى أهلِك فأحسِنْ إليهم. أسألُ
(3)
اللَّهَ الذي يُصلِحُ عبادَه الصالحين أن يُصلحَ ذاتَ بينِكم، وأن يجمعَكم على مرضاتِه، ويُجنِّبَكم سُخْطَه. فقام المَلَكُ مِن عندِه، فلبِث أيامًا وقد نزَل بختُنصّرَ وجنودُه حولَ بيتِ المقدسِ، بأكثرَ من
(4)
الجرادِ، ففزِع مِنهم بنو إسرائيلَ فزعًا شديدًا، وشقّ ذلك على مَلِكِ بنى إسرائيلَ، فدعا إرميا، فقال: يا نبيَّ اللَّهِ، أين ما وعَدك اللَّهُ؟ فقال: إنى بربى واثقٌ. ثم إن الملَكَ أقبَل إلى إرميا وهو قاعدٌ على جدارِ بيتِ المقدسِ يضحكُ ويستبشِرُ بنصرِ ربِّه الذي وعَده، فقعَد بيَن يديه، فقال له إرميا: مَن أنت؟ قال: أنا الذي كنتُ أتيتُك في شأنِ أهلى مرَّتين. فقال له النبيُّ: أوَ لم يأنِ
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "ظهرت".
(3)
في التاريخ: "واسأل". وينظر ما تقدم في 4/ 590.
(4)
في م: "ومعه خلائق من قومه كأمثال".
لهم أن [يُفيقوا مِن الذي]
(1)
هم فيه
(2)
؟ فقال له الملَكُ: يا نبيَّ اللَّهِ، كلُّ شيءٍ كان يصيبُنى مِنهم قبلَ اليومِ كنتُ أصبِرُ عليه، وأعلَمُ [أن ما بِهم]
(3)
في ذلك سُخْطِى؛ فلما أتيتُهم اليومَ رأيتُهم في عملٍ لا يُرضِى اللَّهَ ولا يُحِبُّه اللَّهُ. فقال له نبيُّ اللَّهِ: على أيِّ عملٍ رأيتَهم؟ قال: يا نبيَّ اللَّهِ، رأيتُهم على عملٍ عظيمٍ من سُخطِ اللَّهِ، فلو كانوا على مثلِ ما كانوا عليه قبلَ اليومِ لم يشتدَّ عليهم غضبى، وصبَرتُ لهم ورجَوتُهم، ولكن غضِبتُ اليومَ للَّهِ ولك، فأتيتُك لأخبِرَكَ خبرَهم، وإنى أسألُك باللَّهِ الذي بعَثك بالحقِّ إلَّا ما دعوتَ عليهم ربَّك أن يُهلِكَهم. فقال إرميا: يا مَلِكَ السماواتِ والأرضِ، إن كانوا على حقٍّ وصوابٍ فأَبقِهم، وإن كانوا على سُخْطِك وعملٍ لا ترضاه فأَهلِكْهم. فلمّا
(4)
خرَجت الكلمةُ من فِي إرميا
(5)
أرسَل اللَّهُ صاعقةً مِن السماءِ في بيتِ المقدسِ، فالتهَب مكانُ القربانِ، وخُسِف بسبعةِ أبوابٍ مِن أبوابِها، فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقَّ ثيابَه، ونبَذ الرمادَ على رأسِه، فقال: يا ملكَ السماء، ويا
(6)
أرحم الراحمين، أين ميعادُك الذي وعَدتَنِى؟ فنودى: إرميا، إنهم لم يُصِبْهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيتَ بها رسولَنا. فاستيقَن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنها فُتياه التي أفتَى بها ثلاثَ مرَّاتٍ، وأنه رسولُ ربِّه، وطار إرميا حتى خالَط الوحشَ، ودخَل بختُنصرَ وجنودُه بيتَ المقدسِ، فوطِئ الشامَ، وقتَل بنى إسرائيلَ حتى أفناهم، وخرَّب بيتَ المقدسِ، ثم أمَر جنودَه أن يملأَ كلُّ رجلٍ منهم تُرسَه ترابًا
(1)
في م: "يمتنعوا من الذي". وفى ت 1: "يرجعوا عن ما". وفى ت 2، ف: "
…
(بياض) .. من الذي". والمثبت من ص موافق لما في التاريخ.
(2)
بعده في م: "مقيمون عليه".
(3)
في م: "أن مأربهم". وفى ت 1، ف:"إيمانهم". وفى ت: "أنماهم". وينظر ما تقدم في 4/ 590.
(4)
في م: "فما".
(5)
بعده في م: "حتى".
(6)
في م: "السماوات والأرض، بيدك ملكوت كل شيء وأنت".
ثم يقذِفَه في بيتِ المقدسِ، فقذَفوا فيه الترابَ حتى ملَئوه، ثم انصرَف راجعًا إلى أرضِ بابلَ، واحتمَل معه سبايا بنى إسرائيلَ، وأمَرهم أن يجمَعوا مَن كان في بيتِ المقدسِ كلَّهم، فاجتمَع عندَه كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ من بني إسرائيلَ، فاختار منهم سبعيَن ألفَ صبيٍّ، فلما خرَجت غنائمُ جندِه، وأراد أن يَقسِمَهم
(1)
فيهم، قالت له الملوكُ الذين كانوا معه: أيُّها الملكُ، لك غنائمُنا كلُّها، واقسِمْ بينَنا هؤلاء الصبيانَ الذين اخترتَهم من بنى إسرائيلَ. ففعَل، وأصاب كلُّ رجلٍ منهم أربعةَ غِلْمَةٍ، وكان مِن أولئك الغلمانِ دانيالُ وحَنَانْيَا وعَزَارْيَا وميشائيلُ وسبعةُ آلافٍ من أهلِ بيتِ داودَ، وأحدَ عَشَرَ ألفًا مِن سبطِ يوسفَ بن يعقوبَ، وأخيه بنياميَن، وثمانيةُ آلافٍ من سبطِ أشرِ بن يعقوبَ، وأربعةَ عشرَ ألفًا من سبطِ زبالونَ بن يعقوبَ ونَفْثَالى بن يعقوبَ، وأربعةُ آلافٍ من سبطِ يهوذا بن يعقوبَ، وأربعةُ آلافٍ من سبطِ روبيلَ ولاوِى ابنى يعقوبَ، ومَن بقِى مِن بنى إسرائيلَ، وجعَلهم بختُنصرَ ثلاثَ فرقٍ؛ فثلثًا أقرَّ بالشامِ، وثلثًا سبَى، وثلثًا قتَل، وذهَب بآنيةِ بيتِ المقدسِ حتى أقدَمها بابلَ، وذهَب بالصبيانِ السبعين الألفِ حتى أقدَمهم بابلَ، فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي أنزَل اللَّهُ ببنى إسرائيلَ بإحداثِهم وظُلْمِهم، فلما ولَّى بختُنصرَ عنهم راجعًا إلى بابلَ بمن معه مِن سبايا بني إسرائيلَ، أقبَل إرميا على حمارٍ له معه عصيرٌ. ثم ذكَر قصتَه حيَن أماته اللَّهُ مائةَ عامٍ، ثم بعَثه، ثم خبرَ رؤيا بختِنصرَ وأمرَ دانيالَ، وهلاكَ بُختِنصرَ، ورجوعَ مَن بقى مِن بنى إسرائيلَ في أيدى أصحابِ بختنصرَ بعدَ هلاكِه إلى الشامِ، وعمارةَ بيتِ المقدسِ، وأمرَ عُزيرٍ وكيف ردَّ اللَّهُ عليه التوراةَ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثم عمَدتْ بنو
(1)
في م: "يقسمها".
(2)
تقدم في 4/ 587 - 593.
إسرائيلَ بعدَ ذلك يُحدِثون الأحداثَ، يعنى بعدَ مَهلِكِ عُزيرٍ، ويعودُ اللَّهُ عليهم، ويبعَثُ فيهم الرسلَ، ففريقًا يكذِّبون، وفريقًا يقتُلون، حتى كان آخرُ مَن بعَث اللَّهُ فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى بنَ زكريا وعيسى ابنَ مريم، وكانوا من بيتِ آلِ داودَ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عمرَ بن عبدِ اللَّهِ بن عروةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن الزبيرِ أنه قال، وهو يحدِّثُ عن قتلِ يحيى بن زكريا، قال:[ما قُتل يحيى بنُ زكريا إلا [بامرأةٍ تبغِى مِن بغايا]
(2)
بنى إسرائيلَ؛ كان فيهم مَلِكٌ، وكان]
(3)
يحيى بنُ زكريا تحتَ يَدَىْ ذلك الملكِ، فهمَّت ابنةُ ذلك الملكِ بأبيها، فقالت: لو أنى تزوَّجتُ بأبى فاجتمَع لى سلطانُه دونَ النساءِ! فقالت له: يا أبتِ، تزوَّجْنى. فدعَته إلى نفسِها، فقال لها: يا بنيةُ، إن يحيى بنَ زكريا لا يُحِلُّ لنا هذا. فقالت: من لى بيحيى بن زكريا! ضيَّق عليَّ، وحال بينى وبيَن أن أتزوَّج بأبى، فأغلِبَ على مُلكِه ودنياه دونَ النساءِ. قال: فأمَرت اللعّابين ومَحَلَتْ
(4)
بذلك لقتلِ
(5)
يحيى بن زكريا، فقالت: ادخُلوا عليه فألعِبوه
(6)
، حتى إذا فرَغتم فإنه سيُحَكِّمُكم، فقولوا: دمَ يحيى بن زكريا. فلا تقبَلوا غيرَه. وكان اسمُ الملكِ روادَ
(7)
، واسمُ ابنتِه البغيَّ، وكان الملكُ فيهم إذا حدَّث فكذَب، أو وعَد فأخلَف، خُلع فاستُبدِل به غيرُه، فلما ألعَبوه وكثُر عجبُه منهم، قال: سلُونى أُعطِكم. قالوا: دمَ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 590 عن ابن حميد به.
(2)
في م: "بسبب امرأة بغى من بغايا"، وفى ت 1:"بأمرها تبقى من بقايا"، وفى ت 2:"يأمره ببقا من بقايا"، وفى ف:"مرأة تبقى من بقايا".
(3)
في مصدر التخريج: "فأقبل يحيى بن زكريا إلى من بقى من بقايا بني إسرائيل فكان".
(4)
المَحْلُ: المكر والكيد. ومحل به - مثلثة الحاء - كاده بسعاية إلى السلطان. ينظر اللسان (م ح ل).
(5)
في م: "لأجل قتل".
(6)
في م، ومصدر التخريج:"فالعبوا".
(7)
في ت 2: "داود".
يحيى بن زكريا، أَعطِناه. قال: ويحَكم سلُونى غيرَ هذا، فقالوا: لا نسألُك غيرَه. فخاف على مُلكِه إن هو أخلَفهم أن يُستحَلَّ بذلك خَلْعُه، فبعَث إلى يحيى بن زكريا وهو جالسُ في محرابِهِ يُصلِّى، فذبَحوه في طَسْتٍ ثم حزُّوا رأسَه، فاحتمَله رجلٌ في يدَيه والدمُ يُحمَلُ في الطَّسْتِ معه، قال: فطلَع برأسِه يحمِلُه حتى وقَف به على الملكِ ورأسُه يقولُ في يَدَي الذي يحمِلُه: لا يَحِلُّ لك
(1)
. فقال رجلٌ مِن بنى إسرائيلَ: أيُّها الملكُ، لو أنك وهَبتَ لى هذا الدمَ؟ فقال: وما تصنَعُ به؟ قال: أُطهِّرُ منه الأرضَ، فإنه قد كان ضيَّقها علينا. فقال: أعطُوه إياه. فأخَذه فجعَله في قُلّةٍ، ثم عمّد به إلى بيتٍ في المذبحِ، فوضَع القُلةَ فيه، ثم أغلَق عليه، ففار في القُلَّةِ حتى خرَج منها مِن تحتِ البابِ مِن البيتِ الذي هو فيه، فلما رأَى ذلك الرجلُ، فظِع
(2)
به، فأخرَجه فجعَله في فلاةٍ من الأرضِ، فجعَل يفورُ، وعظُمت فيهم الأحداثُ، ومنهم مَن يقولُ: أَقرَّ مكانَه [في القربانِ]
(3)
ولم يُحوَّلْ
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابن إسحاقَ: فلما رفَع اللَّهُ عيسى من بين أظهرِهم وقتَلوا يحيى بنَ زكريا - وبعضُ الناسِ يقولُ: وقتَلوا زكريا - ابتعَث اللَّهُ عليهم مَلِكًا من ملوكِ بابلَ يقالُ له: خردوسُ. فسار إليهم بأهلِ بابلَ حتى دخَل عليهم الشامَ، فلما ظهَر عليهم أمَر رأسًا مِن رءوسِ جنودِه
(5)
يُدعَى نَبُوزَرادانَ صاحبَ القتلِ. فقال له: إنى قد كنتُ حلَفتُ بإلهى لئن أنا ظهَرْتُ
(6)
على أهلِ بيتِ
(1)
بعده في م: "ذلك".
(2)
فظِع بالأمر يفظَع: إذا هاله وغلبه فلم يثق بأن يطيقه. ينظر اللسان (ف ظ ع).
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 18/ 103، 104 - مخطوط - من طريق ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن الزبير.
(5)
في م: "جنده".
(6)
في م: "أظهرنا".
المقدسِ لأقتُلنَّهم حتى تسيلَ دماؤهم في وسطِ عسكرى، إلّا أن لا أجدَ أحدًا أقتُلُه. فأمَر أن يقتُلَهم حتى يبلُغَ ذلك مِنهم نَبُوزُرادانَ، فدخَل بيتَ المقدسِ، فقام في البقعةِ التي كانوا يُقرِّبون فيها قربانَهم، فوجَد فيها دمًا يغلى، فسأَلهم فقال: يا بنى إسرائيلَ، ما شأنُ هذا الدمِ الذي يَغلِى، أخبِرونى خبرَه، ولا تكتُمونى شيئًا من أمره. فقالوا: هذا دمُ قربانٍ كان لنا كنّا قرَّبناه فلم يُتَقَبَّلْ منا، فلذلك
(1)
هو يَغلِى كما تراه، ولقد قرَّبنا منذُ ثمانِمائةِ سنةٍ القربانَ فتُقبِّلَ منا إلا هذا القربانُ. قال: ما صدَقتُمُونى الخبرَ. قالوا له: لو كان كأوَّلِ زمانِنا لقُبل مِنّا، ولكنه قد انقطَع منا المُلكُ والنُّبوَّةُ والوحيُ، فلذلك لم يُقبَلْ منا. فذبَح منهم نَبُوزُرادانَ على ذلك الدمِ سبعَمائةٍ وسبعين روحًا مِن رءوسِهم فلم يهدَأْ، فأمَر بسبعِمائةِ غلامٍ مِن غِلمانِهم فذُبحوا على الدمِ فلم يهدَأْ، فأمَر بسبعةِ آلافٍ مِن شِيَعهم وأزواجِهم، فذبَحهم على الدمِ فلم يَبرُدْ ولم يهدَأْ، فلما رأَى نبوزُرادان أن الدمَ لا يهدَأُ قال لهم: ويْلَكم يا بنى إسرائيلَ، اصدُقونى واصبِروا على أمرِ ربِّكم، فقد طال ما مُلِّكتم في الأرضِ، تفعَلون فيها ما شِئتم، قبلَ أن لا أتركَ مِنكم نافخَ نارٍ؛ أنثى ولا ذكرًا إلا قتَلتُه. فلما رأَوُا الجهدَ وشدَّةَ القتلِ صدَقوه الخبرَ، فقالوا له: إن هذا دمُ نبيٍّ مِنّا كان ينهانا عن أمورٍ كثيرةٍ مِن سُخْطِ اللَّهِ، فلو أطَعناه فيها لكان أرشدَ لنا، وكان يُخبِرُنا بأمرِكم، فلم نُصدِّقْه، فقتَلناه، فهذا دمُه. فقال لهم نَبُوزُرادانَ: ما كان اسمُه؟ قالوا: يحيى بنَ زكريا. فقال: الآنَ صدَقتمونى، بمثلِ هذا ينتقِمُ ربُّكم مِنكم. فلما رأى نَبُوزُرادانَ أنهم صدَقوه خرَّ ساجدًا وقال لمن حولَه: غلِّقوا أبوابَ المدينةِ، وأخرِجوا مَن كان ههنا من جيشِ خردوسَ. وخلا في بنى إسرائيلَ، ثم قال: يا يحيى بنَ زكريا، قد علم ربي وربُّك ما قد أصاب قومَك مِن أجْلِك، وما قُتل مِنهم مِن أجلِك، فاهدأْ بإذنِ اللَّهِ قبلَ أن لا أُبقىَ من قومِك أحدًا. فهدَأ دمُ يحيى بن زكريا بإذنِ اللَّهِ، ورفَع نَبُوزُرادانَ عنهم القتلَ، وقال: آمَنتُ بما آمَنَت به بنو إسرائيلَ، وصدَّقتُ وأيقَنتُ
(1)
في ت 2: "فكذلك".
أنه لا ربَّ غيرُه، ولو كان معَه آخرُ لم يصلُحْ، ولو كان له شريكٌ لم تَستمسِكِ السماواتُ والأرضُ، ولو كان له ولدٌ لم يصلُحْ، فتبارَك وتقدَّس، وتسبَّح وتكبَّر وتعظَّم، ملكُ الملوكِ الذي [يَملِكُ السماواتِ السبعَ، بعلمٍ وحكمٍ وجبروتٍ وعزَّةٍ]
(1)
، الذي بسَط الأرضَ وألقَى فيها رواسىَ ألَّا
(2)
تزولَ، فكذلك يَنبغِى لربى أن يكونَ ويكونَ مُلكُه. فأُوحِى
(3)
إلى رأسٍ مِن رءوسِ بقيةِ الأنبياءِ أن نَبُوزَرادانَ حَبُورٌ صدوقٌ - والحبورُ بالعِبرانيةِ: حديثُ الإيمانِ - وإن نبوزَرادانَ قال لبني إسرائيلَ: إن عدوَّ اللَّهِ خردوسَ أمَرنى أن أقتلَ منكم حتى تسيلَ دماؤكم وسطَ عسكرِه، وإنى لستُ أستطيعُ أن أعصيَه. قالوا له: افعلْ ما أُمِرتَ به. فأمَرهم فحفَروا خندقًا وأمَر بأموالِهم من الخيلِ والبغالِ والحميرِ والبقرِ والغنمِ والإبلِ، فذبَحها حتى سال الدمُ في العسكرِ، وأمَر بالقتلى الذين كانوا قبلَ ذلك، فطُرِحوا على ما قُتِل مِن مواشيهم حتى كانوا فوقَهم، فلم يظُنَّ خردوسُ إلا أنَّ ما كان في الخندقِ مِن بنى إسرائيلَ، فلما بلَغ الدمُ عسكرَه، أرسَل إلى نبوزَرادانَ أن ارفَعْ عنهم، فقد بلَغتنى دماؤهم، وقد انتقَمتُ منهم بما فعَلوا. ثم انصرَف عنهم إلى أرضِ بابلَ، وقد أفنَى بنى إسرائيلَ أو كاد، وهى الوقعةُ الآخرةُ التي أنزَل اللَّهُ ببنى إسرائيلَ، يقولُ اللَّهُ عزَّ ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} إلى قولِه: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} [الإسراء: 4، 8] و "عسى" من اللَّهِ حقٌّ، فكانت الوقعةُ الأولى بختنصّرَ وجنودَه، ثم ردَّ اللَّهُ لكم الكرَّةَ عليهم، وكانت الوقعةُ الآخرةُ خردوسَ وجنودَه، وهي كانت أعظمَ الوقعتين، فيها كان خرابُ بلادِهم، وقتلُ رجالِهم،
(1)
في م: "له ملك السماوات السبع والأرض وما فيهن وما بينهما وهو على كل شيء قدير، فله الحلم والعلم والعزة والجبروت، وهو".
(2)
في م: "لئلا". وفي التاريخ: "لا".
(3)
بعده في م: "الله".
وسبىُ ذَراريِّهم ونسائهم، يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى:{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} . ثم عاد اللَّهُ عليهم، فأكثَر عددَهم، ونشَرهم في بلادِهم، ثم بَدَّلوا وأحدَثوا الأحداثَ، واستبدَلوا بكتابِهم غيرَه، وركِبوا المعاصىَ، واستحَلُّوا المحارمَ، وضيَّعوا الحدودَ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن أبي عَتَّابٍ - رجلٌ مِن تَغلِبَ كان نصرانيًّا عُمرًا مِن دهرِه، ثم أسلَم بعدُ، فقرَأ القرآنَ، وفَقِه في الدينِ، وكان، فيما ذكِر له
(2)
، نصرانيًا أربعين سنةً، ثم عُمِّر في الإسلامِ أربعين سنةً - قال: كان آخرُ أنبياءِ بنى إسرائيلَ نبيًّا بعَثه اللَّهُ إليهم، فقال لهم: يا بنى إسرائيلَ، إن اللَّهَ يقولُ لكم: إنى قد سبَبتُ
(3)
أصواتَكم، وأبغَضتُكم بكثرةِ أحداثِكم. فهَمُّوا به
(4)
، فقال اللَّهُ تبارك وتعالى له: ائتِهم واضرِبْ لى ولهم مثلًا، فقل لهم: إن اللَّهَ تبارك وتعالى يقولُ لكم: اقضُوا بينى وبيَن كَرْمِى، ألم أخترْ له البلادَ، وطيَّبتُ له المَدَرَةَ، وحظَرتُه بالسياجِ، وعرَّشتُه السويقَ والشوكَ والسياجَ والعَوْسَجَ
(5)
، وأحطتُه برِدائي، ومنَعْتُه مِن العالمِ وفضَّلتُه؟ فلقِينى بالشوكِ والجذوعِ، وكلِّ شجرةٍ لا تُؤكَلُ، ما لهذا اخترتُ البلدةَ، ولا طيَّبتُ المَدَرَةَ، ولا حظَرتُه بالسِّياجِ، ولا عرَّشتُه السويقَ، ولا حُطْتُه برِدائى، ولا منَعتُه مِن العالمِ، فضَّلتُكم وأتمَمتُ عليكم نعمتى، ثم استقبَلتمونى بكلٍّ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 591 - 593 سندًا ومتنًا.
(2)
في م: "أنه كان".
(3)
في م: "سلبت". وفى ت:1 "شيت". ولست أدرى وجه الصواب في كل ذلك، فقد يكون من السبِّ، وهو اللعن، كما أثبتناه من بقية النسخ، وقد يكون من الشين (شينت)، وهو العيب، ويراد به هنا التبغيض. واللَّه أعلم.
(4)
بعده في م: "ليقتلوه".
(5)
العوسج: شجر من شجر الشوك، وله ثمر أحمر مدوّر كأنه خرز العقيق وهو شجر كثير الشوك. التاج (ع س ج).
ما أكرَهُ من معصيتى وخلافِ أمرى، لِمَهْ؟! إن الحمارَ ليعرِفُ مِزودَه، لَمِهُ؟! إن البقرةَ لتعرِفُ سيدَها
(1)
. حلَفتُ بعزَّتى العزيزةِ، وبذراعِيَ الشديدِ، لآخُذَنَّ ردائى، ولأمرُجَنَّ
(2)
الحائطَ، ولأجعَلنّكم تحتَ أرجلِ العالمِ. قال: فوثَبوا على نبيِّهم فقتَلوه، فضرَب اللَّهُ عليهم الذلَّ، ونزَع منهم المُلكَ، فليسوا في أمةٍ مِن الأممِ إلا وعليهم ذلٌّ وصغارٌ وجِزيةٌ يُؤدُّونها، والملكُ في غيرِهم من الناسِ، فلن يزالوا كذلك أبدًا، ما كانوا على ما هم عليه.
قال
(3)
: قال: فهذا ما انتهَى إلينا
(4)
من جماعِ أحاديثِ بني إسرائيلَ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} . قال
(3)
: كانت الآخرةُ أشدَّ مِن الأولى بكثيرٍ، فإن الأولى كانت هزيمةً فقط، والآخرةَ كان التدميرُ، وأحرَق بختُنصرَ التوراةَ حتى لم يترُك فيها حرفًا
(5)
، وخرَّب المسجدَ
(6)
.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن المنهال، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: بعَث عيسى ابن مريم يحيى بنَ زكريا في اثنى عشَرَ مِن الحواريِّين يعلِّمون الناسَ. قال: فكان فيما نهاهم عنه، نكاحُ ابنةِ الأخِ. قال: وكانت لملكِهم ابنةُ أخٍ تُعجِبُه يريدُ أن يتزوَّجَها، وكانت لها كلَّ يومٍ حاجةٌ يَقضيها،
(1)
بعده في م: "وقد".
(2)
مرَج أمره يَمُرجه: ضيَّعه. التاج (م ر ج).
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
في م: "لم يبق منها حرف واحد".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف.
فلما بلَغ ذلك أمَّها، قالت لها: إذا دخَلتِ على الملكِ فسأَلكِ حاجتَك، فقوله: حاجتى أن تذبحَ لى يحيى بنَ زكريا. فلما دخَلت عليه سأَلها حاجتَها، فقالت: حاجتي أن تذبحَ يحيى بنَ زكريا. فقال: سلى غيرَ هذا. فقالت: ما أسألُكَ إلا هذا. قال: فلما أبَت عليه دعا يحيى ودعا بطَستٍ فذبَحه، فبدَرت قطرةٌ من دمِه على الأرضِ، فلم تزَلْ تَغلِى حتى بعَث اللَّهُ بختنصرَ عليهم، فجاءته عجوزٌ مِن بنى إسرائيلَ، فدلَّته على ذلك الدمِ. قال: فألقى اللَّهُ في نفسِه أن يقتلَ على ذلك الدمِ منهم حتى يَسكُنَ، فقتل سبعين ألفًا مِنهم مِن سنٍّ واحدٍ، فسكَن
(1)
.
وقولُه: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . يقولُ: ولِيَدخُلَ عدوُّكم الذي أبعَثُه عليكم مسجدَ بيتِ المقدسِ قهرًا منهم لكم وغلبةً، كما دخَلوه أوَّلَ مرَّةٍ حينَ أفسَدتم الفسادَ الأوَّلَ في الأرضِ.
وأما قولُه: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} . فإنه يقولُ: وليُدمِّروا ما غلَبوا عليه من بلادِكم تدميرًا. يقالُ منه: دمَّرتُ البلدَ: إذا خرَّبتَه وأَهَلَكتَه
(2)
. وتبِر تَبْرًا وتَبَارًا، وتَبَّرتُه أتبِّرُه تتبيرًا. ومنه قولُ اللَّهِ تعالى ذكرُه:{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]. يعني: هلاكًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 586 سندًا ومتنًا. وأخرجه ابن عساكر 18/ 101 - مخطوط - من طريق أبى معاوية به، وفيه أنها كانت ابنة أخته، وأنهم نهوا عن نكاح ابنة الأخت.
قال ابن كثير في تفسيره 5/ 45: وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها. ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه، لجاز كتابته وروايته، والله أعلم.
(2)
في م: "أهلكت أهله".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباس: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} . قال: تدميرًا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} . قال: يُدَمِّروا ما علوا تدميرًا
(2)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: لعلّ ربَّكم يا بني إسرائيلَ أن يرحَمَكم بعدَ انتقامه منكم بالقومِ الذين يبعَثُهم اللَّهُ عليكم، ليسوءَ مبعثُه عليكم وجوهَكم، وليدخُلوا المسجدَ كما دخَلوه أوّلَ مرّةٍ، فيستنقِذَكم من أيديهم، وينتشِلَكم من الذلِّ الذي يُحِلُّه بكم، ويرفَعَكم من الخمولةِ التي تصيرون إليها، فيُعِزَّكم بعدَ ذلك. و "عسى" من اللَّهِ واجبٌ، وفعَل اللَّهُ ذلك بهم، فكثَّر عددَهم بعدَ ذلك، ورفَع خسَاستَهم، وجعل منهم الملوكَ والأنبياءَ، فقال جلّ ثناؤُه لهم: وإن عُدْتم يا معشرَ بني إسرائيلَ لمعصيتى وخلافِ أمرى، وقتلِ رسلى، عُدْنا عليكم بالقتلِ والسِّباءِ، وإحلالِ الذلِّ والصَّغارِ بكم. فعادوا، فعاد اللَّهُ عليهم بعقابِه وإحلالِ سُخطِه بهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن عطيةَ، عن عُمَر بن ثابتٍ، عن أبيه، عن سعيدِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف.
(2)
تقدم في ص 489.
ابن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} . قال: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد
(1)
،. قال: فسلَّط اللَّهُ عليهم ثلاثةَ ملوكٍ من ملوكِ فارسَ؛ سندَبادانَ، وشهرَبادانَ، وآخرَ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: قال اللَّهُ تبارك وتعالى بعدَ الأولى والآخرةِ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} . قال: فعادوا فسلَّط اللَّهُ عليهم المؤمنين
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} ، فعاد اللَّهُ عليهم بعائدتِه
(3)
ورحمتِه، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}. قال: عاد القومُ بشرِّ ما يحضُرُهم، فبعَث اللَّهُ عليهم ما شاء أن يبعَثَ من نقمتِه وعقوبتِه، ثم كان ختامَ ذلك أن بعَث اللَّهُ عليهم هذا الحيَّ مِن العربِ، فهم في عذابٍ منهم إلى يومِ القيامةِ؛ قال اللَّهُ عز وجل في آيةٍ أخرى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 167]. الآية، فبعَث اللَّهُ عليهم هذا الحيَّ مِن العربِ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ قال:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} ، فعادوا، فبعَث اللَّهُ عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهم يُعطُون الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون
(5)
.
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 163 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
العائدة: المعروف والصلة والعطف والمنفعة أو هي اسم لما عاد به عليك المُفِضلُ من صلة أو فضل. التاج (ع و ر).
(4)
تقدم طرف منه بهذا السند في 10/ 531. وينظر ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في 10/ 532.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 373، وفي مصنفه (9882)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللَّهِ تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} . قال: بعدَ هذا. {وَإِنْ عُدْتُمْ} لما صنَعتم، لمثلِ هذا لقتلِ
(1)
الأنبياءِ {عُدْنَا} لكم
(2)
بمثلِ هذا.
وقولُه: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: وجعَلنا جهنمَ للكافرين سِجنًا يُسجَنون فيها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن أبي عمرانَ:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . قال: سِجنًا
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . يقولُ: جعَل اللَّهُ مأواهم فيها
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . قال: مَحْبِسًا حَصُورًا
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ
(1)
في م: "من قتل يحيى وغيره من".
(2)
في م: "إليكم".
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (43)، وأبو نعيم في الحلية 2/ 311، 6/ 290 من طريق جعفر بن سليمان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165، 166 إلى ابن النجار في تاريخه.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 66 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 374 عن معمر عن قتادة.
لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}. يقولُ: سِجنًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(2)
، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ تعالى:{حَصِيرًا} . قال: يُحصَرون فيها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . قال: يُحصَرون فيها.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} : سِجنًا يُسجَنون فيها؛ حُصِروا فيها (1).
حدَّثنا عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . يقولُ: سِجنًا
(4)
.
وقال آخرون: معناه: وجعَلنا جهنَّمَ للكافرين فراشًا ومِهادًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ: الحصيرُ: فِراشٌ ومهادٌ
(5)
.
(1)
ينظر التبيان 6/ 452.
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"الحسين".
(3)
تفسير مجاهد ص 429، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 166 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الفتح 8/ 393 - من طريق على بن أبى طلحة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 165 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 374 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 166 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذهَب الحسنُ بقولِه هذا إلى أن الحصيرَ في هذا الموضعِ عُنِى به الحصيرُ الذي يُبْسَطُ ويُفتَرَشُ؛ وذلك أن العربَ تسمى البساطَ الصغيرَ حصيرًا، فوجَّه الحسنُ معنى الكلامِ إلى أن اللَّهَ تعالى جعَل جهنمَ للكافرين به بساطًا ومِهادًا، كما قال:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]. وفوجَّه الحسنُ وتأويلٌ صحيحٌ، وأما الآخرون، فوجَّهوه إلى أنه فَعِيلٌ مِن الحَصْرِ الذي هو الحبسُ. وقد بيَّنتُ ذلك بشواهدِه في سورةِ البقرةِ
(1)
، وقد تسمِّى العربُ الَمِلكَ حصيرًا بمعنى أنه محصورٌ، أي: محجوبٌ عن الناسِ. كما قال لبيدٌ
(2)
:
وَمَقامَةٍ
(3)
غُلْبِ
(4)
الرِّقابِ كَأَنَّهُمْ
…
جِنٌّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ
يعنى بالحصيرِ: المَلِكَ. ويقالُ للبخيلِ: حصورٌ وحَصِرٌ؛ لمنعِه ما لديه مِن المالِ عن أهلِ الحاجةِ، وحبسِه إياه عن النفقةِ، كما قال الأخطلُ
(5)
:
وَشَارِبٍ مُربحٍ بالكأْسِ نَادَمَنِى
…
لا بالحَصُورِ وَلا فيها بِسَوَّارِ
ويُروى: بسّآرِ. ومنه الحَصِرُ في المنطقِ؛ لامتناعِ ذلك عليه، واحتباسِه إذا أراده، ومنه أيضًا الحَصورُ عن النساءِ؛ لتعذُّرِ ذلك عليه، وامتناعِه من الجماعِ. وكذلك الحَصَرُ في الغائطِ: احتباسُه عن الخروجِ. وأصلُ ذلك كلِّه واحدٌ وإن اختلَفت ألفاظُه. فأما الحَصِيران: فالجَنْبان، كما قال الطَّرِمَّاحُ
(6)
:
(1)
تقدم في 3/ 342 وما بعدها.
(2)
ديوانه ص 290، والرواية فيه: لدى طرف الحصير. والبيت في مجاز القرآن 1/ 371، واللسان (ق و م). والرواية فيهما كما عند المصنف.
(3)
المقامة: المجلس، ويقال للجماعة يجتمعون في مجلس: مقامة. اللسان (ق و م).
(4)
جمع أغلب وهو الغليظ الرقبة. التاج (غ ل ب).
(5)
تقدم في 5/ 376، 377.
(6)
ديوانه ص 480.
قَلِيلًا تُتَلِّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ
…
عَلى كُلِّ مَعْرُوشِ
(1)
الْحَصِيرَيْنِ بِادِنِ
يعنى بالحَصِيرَين: الجَنْبَين.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يقالَ: معنى ذلك: وجعَلنا جَهَنَّمَ للكافرين فراشًا ومهادًا لا يُزايِلُه. من الحصيرِ الذي هو بمعنى البساطِ؛ لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامِعًا معنى الحبسِ والامتهادِ، مع أن الحصيرَ بمعنى البساطِ في كلامِ العربِ أشهرُ منه بمعنى الحبسِ، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئًا بمعنى حبسِ شيءٍ، فإنما تقولُ: هو له حاصرٌ أو مُحْصِرٌ. فأما الحصيرُ فغيرُ موجودٍ في كلامِهم، إلا إذا وصَفَته بأنه مفعولٌ به، فيكونُ في لفظِ فعيلٍ ومعناه مفعولٌ به، ألا ترَى بيتَ لبيدٍ:"لدى بابِ الحصيرِ". فقال: لدى بابِ الحصيرِ. لأنه أراد: لدى بابِ المحصورِ، فصرَف مفعولًا إلى فعيلٍ، فأما فعيلٌ في الحصرِ بمعنى وصفِه بأنه الحاصرُ، فذلك ما لا نجِدُه في كلامِ العربِ؛ فلذلك قلتُ: قولُ الحسنِ أولى بالصوابِ في ذلك. وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ أن ذلك جائزٌ، ولا أعلمُ لما قال وجهًا يصِحُّ إلا بعيدًا، وهو أن يُقالَ: جاء حصيرٌ. بمعنى: حاصرٌ، كما قيل: عليمٌ. بمعنى: عالمٌ، و: شهيدٌ. بمعنى: شاهدٌ. ولم يُسمَعْ ذلك مستعملًا في الحاصرِ كما سمِعنا في عالمٍ وشاهدٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن هذا القرآنَ الذي أنزَلناه على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم يرشِدُ ويسدِّدُ من اهتدَى به {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . يقولُ: للسبيلِ التي هي أقومُ مِن غيرِها
(1)
في م: "مفروش".
مِن السُّبلِ، وذلك دينُ اللَّهِ الذي بعَث بهِ أنبياءَه وهو الإسلامُ، يقولُ جلَّ ثناؤُه: فهذا القرآنُ يهدِى عبادَ اللَّهِ المهتدِين بهِ إلى قصدِ السبيلِ التي ضلَّ عنها سائرُ أهلِ الملِلِ المكذِّبيَن به.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . قال: للتى هي أصوبُ: هو الصوابُ وهو الحقُّ. قال: والمخالفُ هو الباطلُ. وقرَأ قولَ اللَّهِ تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3]. قال: فيها الحقُّ ليس فيها عِوَجٌ. وقرَأ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2]. قالَ: قيِّمًا: مستقيمًا
(1)
.
وقولُه: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: ويُبشِّرُ أيضًا مع هدايتِه مَن اهتدَى بهِ للسبيلِ الأقصدِ، الذين يؤمنون باللَّهِ ورسولِه، ويعمَلون في دنياهم بما أمَرهم اللَّهُ بهِ، وينتهون عمَّا نهاهُم عنه، بأنَّ {لَهُمْ أَجْرًا} مِنِ اللَّهِ على إيمانِهم وعملِهِمِ
(2)
الصالحاتِ، {كَبِيرًا}. يعنى: ثوابًا عظيمًا، وجزاءً جزيلًا، وذلك هو الجنةُ التي أعدَّها اللَّهُ لمن رضِى عملَه.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ:{أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} . قال: الجنةُ، وكلُّ شيءٍ في القرآنِ:"أجرٌ كبيرٌ"، "أجرٌ كريمٌ"، و"رزقٌ كريمٌ" فهو الجنةُ
(3)
.
و "أنَّ" في قولِه: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} نصبٌ بوقوعِ البشارةِ عليها، و "أنَّ" الثانيةَ معطوفةٌ عليها.
(1)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 166 إلى المصنف.
(2)
في ت 1: "أعمالهم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 166 إلى المصنف وابن المنذر.
وقولُه: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: وأنَّ الذين لا يُصدِّقون بالمعادِ إلى اللَّهِ، ولا يُقرُّون بالثوابِ والعقابِ في الدنيا - فهم لذلك لا يتحاشُون من ركوبِ معاصى اللَّهِ - {أَعْتَدْنَا لَهُمْ}. يقولُ: أعدَدْنا لهم، لقدومِهم
(1)
على ربِّهم يومَ القيامةِ: {عَذَابًا أَلِيمًا} . يعنى: موجِعًا. وذلك عذابُ جهنمَ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه مذكِّرًا عبادَه أياديَهُ عندَهم: ويدعو الإنسانُ على نفسِه أو
(2)
ولدِه ومالِه بالشرِّ، فيقولُ: اللهمَّ أهلِكْه والْعنْهُ. عندَ ضجَرِه و
(3)
غضبِه، كدعائِه بالخيرِ. يقولُ: كدعائِه ربَّه بأن يهَبَ له العافيةَ، ويرزُقَه السلامةَ في نفسِه ومالِه وولِده. يقولُ: فلو استُجيبَ له في دعائِه على نفسِه ومالِه وولدِه بالشرِّ كما يُستجابُ له في الخيرِ هلَك، ولكنَّ اللَّهَ بفضِله لا يستجيبُ له في ذلك.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . يعنى قولَ الإنسانِ: اللهمَّ الْعنْهُ واغضَبْ عليه. فلو يُعَجَّلُ له ذلك كما يُعجَّلُ له الخيرُ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"لتقدمهم"، وفى ف:"تتقدمهم".
(2)
في م: "و".
(3)
في ت 1، ت 2:"أو".
لهلَك. قال: ويُقالُ: هو {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] أن يُكشَفَ ما به من ضُرٍّ. يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: لو أنَّه ذكَرنى وأطاعنى، واتَّبَع أمرِى عندَ الخيرِ، كما يدعُونى عندَ البلاءِ، كان خيرًا له
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} : يدعو على مالِه، فيلعَنُ مالَه وولدَه، ولو استجابَ اللَّهُ له
(2)
لأهلَكَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} . قال: يدعو على نفسِه بما لو استُجِيب له هَلَك، وعلى خادمِه، أو على مالِه
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . قال: ذلك دعاءُ الإنسانِ بالشَّرَّ على ولدِه وعلى امرأتِه، يَعجَلُ
(4)
فيدعو عليه، ولا يُحبُّ أن يُصيبَه
(5)
.
واختُلِف في تأويلِ قولِه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} ؛ فقال مجاهدٌ ومن ذكَرْتُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 166 إلى المصنف، وينظر التبيان 6/ 453.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 374 عن معمر به، وينظر ما تقدم في 12/ 131.
(4)
في م: "فيعجل".
(5)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 166 إلى المصنف، وينظر ما تقدم في 12/ 131.
قولَه: معناهُ: وكان الإنسانُ عَجِلًا
(1)
بالدعاء على ما يَكْرهُ أن يُستجابَ له فيهِ.
وقال آخرون: عنَى بذلك آدمَ؛ أنَّه عجِل حينَ نُفِخ فيه الروحُ قبلَ أن تجرىَ في جميعِ جسدِه، فرَام النهوضَ، فوصَف ولدَه بالاستعجالِ؛ لِما كان من استعجالِ أبيهم آدمَ القيامَ، قبلَ أن يَتمَّ خلقُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن إبراهيمَ، أنَّ سلمانَ الفارسيَّ، قال: أَوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ من آدمَ رأسُه، فجعَل ينظُرُ وهو يُخلَقُ. قال: وبقِيتْ رجلاه، فلمَّا كان بعدَ العصرِ قال: ياربِّ عَجِّلْ قبلَ الليلِ. فذلك قولُه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: لما نفَخ اللَّهُ في آدمَ من روحِه أتتْ النفخةُ من قِبلِ رأسِه، فجعَل لا يجرِى شيءٌ منها في جسدَه، إلا صارَ لحمًا ودمًا، فلما انتهَتْ النفخةُ إِلى سُرَّتِه، نظَر إلى جسدِه، فأعجَبه ما رأى من جسدِه فذهَب لينهَضَ فلم يقدِرُ، فهو قولُ اللَّهِ تبارك وتعالى:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . قال: ضَجِرًا لا صبر له على سرَّاءَ، ولا ضرَّاءَ
(3)
.
القول في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
(1)
في م: "عجولا".
(2)
أخرجه ابن عساكر 7/ 384 من طريق محمد بن المثنى به، وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 110، 111 عن محمد بن جعفر (غندر) به، وعزاه السيوطي في الدر 4/ 166 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 95، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 166 إلى المصنف مختصرًا.
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: ومِن نعمِه
(1)
عليكم أيُّها الناسُ، مخالفتُه بيَن علامةِ الليلِ وعلامةِ النهارِ، بإظلامِه علامةَ الليلِ
(2)
، وإضاءتِه علامةَ النهارِ؛ لتسكُنوا في هذا، وتتصرَّفوا في ابتغاءِ رزقِ اللَّهِ الذي قدَّره لكم بفضلِه في هذا، ولتعلموا باختلافِهما عددَ السنيَن وانقضاءَها، وابتداءَ دخولِها، وحسابَ ساعاتِ النهارِ والليلِ وأوقاتَها. {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}. يقولُ: وكلَّ شيءٍ بيَّناه بيانًا شافيًا لكم أيُّها الناسُ؛ لتشكروا اللَّهَ على ما أنعَم به عليكم من نعمِه، وتُخلِصوا له العبادةَ دونَ الآلهةِ والأوثانِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ العزيزِ بن رُفيعٍ، عن أبي الطُفيلِ قال: قال ابن الكَوَّاءِ لعليٍّ: يا أميرَ المؤمنين، ما هذه اللَّطْخةُ التي في القمرِ؟ فقال: ويْحَك! أما تقرأُ القرآن؟ {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} ، فهذه محوُه
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا طلْقٌ، عن زائدةَ، عن عاصمٍ، عن عليّ بن ربيعةَ، قال: سأل ابن الكوّاءِ عليًّا فقال: ما هذا السوادُ في القمرِ؟ فقال عليٌّ: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} هو المحوُ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ،
(1)
في م: "نعمته".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 75.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 76.
عن عبيدِ بن عُميرٍ
(1)
، قال: كنتُ عندَ عليٍّ، فسأله ابن الكَوّاءِ عن السوادِ الذي في القمرِ، فقال: ذاك آيةُ الليلِ مُحِيتْ
(2)
.
حدَّثنا ابن أبى الشواربِ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا عمرانُ بنُ حُديرٍ، عن رُفيعٍ أبى كثيرةَ
(3)
، قال: قال عليٌّ بنُ أبى طالبٍ، رضوانُ اللَّهِ عليه: سَلُوا عما شِئتم. فقام ابن الكوّاءِ فقال: ما السوادُ الذي في القمرِ؟ فقال: قاتلكَ اللَّهُ، هلا سألتَ عن أمرِ دينِك وآخرتِك؟ قال: ذلك مَحْوُ الليلِ
(4)
.
حدَّثني زكريَّا بنُ يحيى بنُ أبانٍ المصريُّ، قال: ثنا ابن عُفَيرٍ، قال: ثنا ابن لَهيعةَ، عن حُيَيِّ بن عبدِ اللَّهِ، عن أبي عبدِ الرحمنِ الحُبليِّ
(5)
، عن عبدِ اللَّهِ بن عمروِ بن العاصِ، أن رجلًا قال لعليٍّ: ما السوادُ الذي في القمرِ؟ قال: إِنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} . قال: هو السوادُ بالليلِ
(7)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال
(1)
في م: عبد الله بن عمر، وفى ص، ت 1، ت 2، ف:"عبد بن عمرو "وهو خطأ صوابه: "عبيد ابن عمير" كما في تاريخ المصنف وينظر تهذيب الكمال 19/ 224.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 76.
(3)
وقع في النسخ: "رفيع بن أبى كثير". والصواب ما أثبتنا. ينظر الجرح 3/ 510، والتاريخ 3/ 327.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 76.
(5)
في ت 1: "الجيلى".
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 76.
(7)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 76، عزاه السيوطي في الدر 4/ 166 إلى المصنف.
ابن عباسٍ: كان القمرُ يضئُ كما تُضئُ الشمسُ، والقمرُ آيةُ الليلِ، والشمسُ آيةُ النهارِ، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}: السوادُ الذي في القمرِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن أبى زائدةَ، قال: ذكَر ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} . قال: الشمسُ آيةُ النهارِ، والقمرُ آيةُ الليلِ، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}. قال: السوادُ الذي في القمرِ، وكذلك خلَقه اللَّهُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} . قال: ليلًا ونهارًا، كذلك خلَقَهما اللَّهُ. قال ابن جريجٍ: وأخبَرنا عبدُ اللَّهِ بنُ كثيرٍ، قال:{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} . قال: ظلمةُ الليلِ وسَدْفَةُ
(3)
النهارِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} . أي منيرةً، وخلَق الشمسَ أنورَ من القمرِ وأعظمَ (2).
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [قال: ثنا عيسى]
(5)
، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 77، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 166 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 77.
(3)
السدفة، بالفتح، ويضم الظلمة. وهي أيضا: الضوء. قيل: ضدٌّ. وقيل: بل لغتان؛ الأولى تميمية، والثانية قيسية. والسَّدَف: الصبح. التاج (س د ف).
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 77، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 167 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: م، وينظر مصدر التخريج.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} . قال: ليلًا ونهارًا، كذلك جعَلهما اللَّهُ
(1)
.
واختلَف أهلُ العربيةِ في معنى قولِه: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} . فقال: بعضُ نحْويِّى الكوفةِ معناها: مضيئةً، وكذلك قولُه: لو {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]. معناه: مضيئًا. كأنه ذهَبَ إلى أنَّه قيل: مُبصِرًا. لإضاءتِه للناسِ البصرَ.
وقال آخرون: بل هو مِن: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} . إذا صارَ الناسُ يُبصِرونَ فيه، فهو مبصرٌ، كقولِهم: رجلٌ مُجبِنٌ. إذا كان أهلُه وأصحابُه جبناءَ، و: رجلٌ مضعِفٌ. إذا كانت رُواتُه ضعفاءَ، فكذلك {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} إذا كان أهلُه بصراءَ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} . قال: جعَل لكم سبحًا طويلًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} : أي بيَّناه تبيينًا.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: وكلَّ إنسانٍ ألزمناه ما قُضِى له أنَّه عامِلُه وما
(2)
هو صائرٌ إليه، من شقاءٍ أو سعادةٍ بعملِه في عُنقِه لا يفارقُه. وإنما قولُه: في {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} . مَثَلٌ لما كانتِ العربُ تتفاءلُ به أو تتشاءمُ من سوانحِ الطيرِ
(3)
وبوارِحِها
(4)
، فأعلَمهم
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 77.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الطوائر".
(4)
السوانح: جمع، سانح، وهو ما ولاك ميامنه. والبوارح: جمع بارح، وهو ما ولاك مياسره. والسانح يتبرك به، والبارح يتشاءم به. التاج (ب ر ح، س ن ح).
جلَّ ثناؤه أن كلَّ إنسانٍ منهم قد ألزمَه ربُّه طائرَه في عُنُقِه، نحسًا كان ذلك الذي ألزَمه من الطائرِ، وشقاءً يُورِدُه سعيرًا، أو كان سعْدًا يُورِدُه جناتِ عَدْنٍ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنى أبى، عن قتادةَ، عن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"لا عَدوَى ولا طيرةَ، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} "
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . قال: الطائرُ: عملُه. قال: والطائرُ في أشياءَ كثيرةٍ، فمنه التشاؤمُ الذي يَتشاءمُ به الناسُ بعضُهم من بعضٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: أخبرني عطاءٌ الخراسانيُّ عن ابن عباسٍ قولَه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . قال: عملُه وما قُدِّر عليه، فهو ملازِمُه أينَما كان، [وزائلٌ]
(3)
معَه أينما زالَ، قال ابن جريجٍ: وقال: طائرُه: عملُه. قال ابن جريجٍ: وأخبرنى عبدُ اللَّهِ بنُ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 48 عن قتادة به، وعزاه إلى المصنف.
وأخرجه أحمد 23/ 43، 86، 161 (14691، 14765، 14878)، وعبد بن حميد (1053 - منتخب) من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 167 إلى المصنف ابن أبي حاتم. وينظر التبيان 6/ 455.
(3)
في م: "فزائل".
كثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال: عملُه وما كتَب اللَّهُ له
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: طائرُه: عملُه
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، جميعًا عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . قال: عملَه
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني واصلُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن فضيلٍ، عن الحسنِ بن عمرٍو الفُقيمِيِّ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . قال: ما من مولودٍ يولدُ إلا و
(4)
في عُنُقِه ورقةٌ مكتوبٌ فيها شقيُّ أو سعيدٌ. قال: وسمعتُه يقولُ: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37]، قال: هو ما سبَق
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قولَه:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} : إى واللَّهِ بسعادتِه وشقائِه بعملِه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:
(1)
أخرجه البغوي في تفسيره 5/ 82 بسنده عن ابن عباس.
(2)
تفسير مجاهد ص 429.
(3)
تفسير سفيان الثوري 169، تفسير مجاهد 429، وأخرجه البيهقى في الشعب (2161) من طريق عبد الرحمن بن مهدى به.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، وينظر مصدر التخريج.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 167 إلى أبى داود في كتاب القدر والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
{طَائِرَهُ} : عملَه
(1)
.
فإن قال قائلٌ: وكيفَ قال: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . إن كان الأمرُ على ما وصفْتَ، ولم يقُلْ: الزمناه في يديهِ ورجليهِ أو غيرِ ذلك من أعضاءِ الجسدِ؟ قيل: لأنَّ العُنُقَ هو موضعُ السِّماتِ، وموضعُ القلائدِ والأطوِقَةِ، وغيرِ ذلك مما يَزينُ أو يَشينُ، فجرى كلامُ العربِ بنسبةِ الأشياءِ اللازمةِ بنى آدمَ وغيرَهم من ذلك إلى أعناقِهم وكثُر استعمالُهم ذلك حتى أضافُوا الأشياءَ اللازمةَ سائرَ الأبدانِ إلى الأعناقِ، كما أضافوا جناياتِ أعضاءِ الأبدانِ إلى اليدِ، فقالُوا: ذلك بما كسبتْ يداه. وإن كان الذي جرَّ عليه لسانُه أو فرجُه، فكذلك قولُه:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} .
واختلفتْ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} ؛ فقرَأه بعضُ أهلِ المدينةِ ومكةَ، وهو نافعٌ وابنُ كثيرٍ وعامةُ قرأةِ العراقِ
(2)
: {وَنُخْرِجُ} بالنونِ {لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} بفتحِ الياءِ من {يَلْقَاهُ} وتخفيفِ القافِ منه، بمعنى: ونُخرِجُ له نحنُ يومَ القيامةِ. ردًّا على قولِه: {أَلْزَمْنَاهُ} : ونحنُ نُخرِجُ له يومَ القيامةِ كتابَ عملِه منشورًا. وكان بعضُ قرَأَةِ أهلِ الشامِ
(3)
يوافقُ هؤلاءِ على قراءةِ قولِه: {وَنُخْرِجُ} . ويخالِفُهم في قولِه: {يَلْقَاهُ} . فيقرؤه (يُلَقَّاهُ) بضَمِّ الياءِ وتشديدِ القافِ، بمعنى: ونُخرج له نحنُ يومَ القيامة كتابًا يلقاهُ. ثم بردِّه إلى ما لمْ يُسمَّ فاعلُه، فيقولُ: يلقى الإنسانُ ذلك الكتابَ منشورًا.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 374 عن معمر به.
(2)
ينظر السبعة 378، والكشف 2/ 43.
(3)
هو ابن عامر وحده. ينظر المصادر السابقة.
وذُكِر عن مجاهدٍ ما حدَّثنا أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا يزيدُ، عن جريرِ بن حازمٍ، عن حُميدٍ، عن مجاهدٍ أنَّه قرأها:(ويَخرُجُ لهُ يومَ القيامةِ كتابًا). قال يزيدُ: يعنى: يخرجُ الطائرُ كتابًا
(1)
.
هكذا أحسَبُه قرَأها بفتحِ الياءِ، وهى قراءةُ الحسنِ البصريِّ وابنِ مُحيصنٍ
(2)
؛ وكأنَّ من قرَأ هذه القراءةَ وجَّه تأويلَ الكلامِ إلى: ويَخرُجُ له الطائرُ الذي ألزمناه عُنُقَ الإنسانِ يومَ القيامةِ، فيصيرُ كتابًا يقرؤه منشورًا. وقرأ ذلك بعضُ أهلِ المدينةِ
(3)
: (ويُخرَجُ لَهُ). بضمِّ الياءِ على مذهبِ ما لم يُسمَّ فاعلُه، وكأنَّه وجَّه معنى الكلام إلى: ويُخرَجُ له الطائرُ يومَ القيامةِ كتابًا. يريدُ: ويُخرِجُ اللَّهُ له ذلك الطائرَ قد صيَّره كتابًا، غير أنَّه قال:(يُخرجُ)
(4)
. لأنَّه
(5)
نحَّاه نحوَ ما لم يُسمَّ فاعلُه.
وأولى القراءاتِ في ذلك بالصوابِ، قراءةُ من قرأَه:{وَنُخْرِجُ} . بالنونِ وضمِّها، {لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} ، بفتحِ الياءِ وتخفيفِ القافِ؛ لأنَّ الخبرَ جرَى قبلَ ذلك عن اللَّهِ تعالى ذِكرُه أنَّه الذي ألزَم خلقَه ما ألزَم من ذلك؛ فالصوابُ أن يكونَ الذي يليه خبرًا عنه أنَّه هو الذي يُخرِجُه لهم يومَ القيامةِ، و
(6)
أن يكونَ بالنونِ كما كان الخبرُ الذي قبلَه بالنونِ. وأما قولُه: {يَلْقَاه} . فإنَّ في إجماعِ الحجةِ من القرأةِ على تصويبِ ما اخترنا من القراءةِ في ذلك، وشذوذِ ما خالفه، الحجةَ الكافيةَ لنا على تقاربِ معنى القراءتين، أعنى ضمَّ الياءِ وفتحَها في
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 168 إلى المصنف.
(2)
وهى أيضًا قراءة يعقوب. ينظر الإتحاف 171.
(3)
هي قراءة أبى جعفر. ينظر الإتحاف 171.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
في م: "إلا أنه".
(6)
سقط من: م.
ذلك، وتشديدَ القافِ وتخفيفَها فيه؛ فإذا كان الصوابُ في القراءةِ هو ما اخترنا بالذي عليه دَلَّلْنا، فتأويلُ الكلام: وكلَّ إنسانٍ منكم يا معشرَ بني آدمَ، ألزمناه نحسَه وسعدَه، وشقاءَه وسعادتَه، بما سبَق له في علمِنا أنه صائرٌ إليه، وعاملٌ من الخيرِ والشرِّ - في عُنُقِه، فلا يجاوِزُ في شيءٍ من أعمالِه ما قضَينا عليه أنه عاملُه، وما كتَبنا له أنَّه صائرٌ إليه، ونحنُ نُخرجُ له إذا وافانا كتابًا يُصادِفُه منشورًا بأعمالِه التي عملَها في الدنيا، وبطائرِه الذي كتَبنا له، وألزَمناه إيَّاه في عُنُقِه، قد أحصَى عليه ربُّه فيه كلَّ ما سلَف في الدنيا.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} . قال: هو عملُه الذي عمِل، أُحصىَ عليه، فأُخرج له يومَ القيامةِ ما كُتب
(1)
عليه من العملِ يقرؤه
(2)
منشورًا
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} له. أي: عملُه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . قال: عمله. {وَنُخْرِجُ لَهُ} . قال: يَخرُجُ ذلك
(1)
في ت 1: "أحصى".
(2)
في م: "يلقاه".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 167 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
العملُ {كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} . قال معمرٌ: وتلا الحسنُ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]. يا ابن آدمَ بُسِطَتْ لك صحيفتُك، ووكِّل بك ملَكانِ كريمانِ؛ أحدُهما عن يمينِك، والآخرُ عن يسارِك. فأمَّا الذي عن يمينِك فيحفَظُ حسناتِك وأما الذي عن شِمالكِ فيحفظُ سيِّئاتِك، فأمْلِلْ
(1)
ما شئتَ، أَقْلِلْ أو أَكثِرْ، حتى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتُك، فجُعلت في عنقِك معك في قبرِك
(2)
، حتى تخرُجَ يومَ القيامةِ كتابًا تلقاه منشورًا، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} ، قد عدل واللَّهِ عليك مَن جعَلك حسيبَ نفسِك
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{طَائِرَهُ} : عمله، [ويَخرُج له ذلك]
(4)
العملُ كتابًا يلقاه منشورًا.
وقد كان بعضُ أهل العربية يتأوَّلُ قولَه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} : حظَّه
(5)
. من قولهم: طارَ سَهَمُ فلانٍ بكذا. إذا خرَج سهمُه على نصيبٍ من الأنصِباءِ، وذلك وإن كان قولًا له وجهٌ، فإنَّ تأويلَ أهلِ التأويلِ على ما قد بيَّنتُ، وغير جائزٍ أن يُتجاوزَ في تأويلِ القرآنِ ما قالوه إلى غيرِه، على
(6)
أنَّ ما قاله هذا القائلُ، إن كان عنَى بقولِه حظَّه من العملِ والشقاءِ والسعادةِ فلم يُبعِدْ، فمعنى
(7)
قولِه من معنى قولِهم.
(1)
في م: "فاعمل".
(2)
في ف: "حجرك".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 374 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 168 إلى المصنف.
(4)
في م: "ونخرج له بذلك".
(5)
يعنى أبا عبيدة، ينظر المجاز 1/ 372.
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"غير".
(7)
في م: "معني".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} .
يقولُ تعالى ذِكره: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فنقولُ
(1)
له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} فترَك ذكرَ قولِه: فنقولُ له. اكتفاءً بدلالةِ الكلامِ عليه. وعنَى بقولِه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ} : اقرأ كتابَ عملِك الذي عمِلْتَه في الدنيا، الذي كان كاتبانا
(2)
يكتُبانِه، ونُحصيه عليكم، {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}. يقولُ: حسبُك اليومَ بنفسِك عليك حاسبًا يحسِبُ عليك أعمالَك، فيُحصيها عليك، لا نبتغى عليك شاهدًا غيرَها، ولا نطلبُ عليك محصيًا سواها.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} : سيقرأُ يومئذٍ من لم يكن قارئًا في الدنيا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: من استقامَ على طريقِ الحقِّ فاتَّبَعَه، وذلك دينُ اللَّهِ الذي ابتعَث بهِ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}. يقولُ: فليس ينفَعُ بلزومِه الاستقامةَ، وإيمانِه باللَّهِ ورسولِه غيرَ نفسِه، {وَمَنْ ضَلَّ}. يقولُ: ومن جار عن قصدِ السبيلِ، فأخَذ على غيرِ هدًى، وكفَر باللَّهِ وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاءَ بهِ من عندِ اللَّهِ منَ الحقِّ - فليس يضُرُّ بضلالِه وجَوْره عن الهُدَى غير نفسِه؛ لأنَّه يُوجِبُ لها بذلك غضَب اللَّهِ وأليمَ عذابِه. وإنما عنَى بقولِه: هو {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} : فإنَّما
(1)
في م: "فيقال".
(2)
في ص، ت 1، ت،2 ف:"كتابنا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 168 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
يكسِبُ إثمَ ضلالِه عليها لا على غيرِها. وقولُه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . يعنى تعالى ذِكرُه: ولا تحمِلُ حاملةٌ حِملَ أخرى غيرِها من الآثامِ. وقال: {وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . لأنَّ معناه: ولا تزِرُ نفسٌ وازرةٌ وزِرَ نفسٍ أُخرى. يُقالُ منه: وزِرْتُ كذا أَزِرُه وِزْرًا. والوِزرُ هو الإثمُ، يُجمعُ أوزارًا، كما قال تعالى ذِكرُه:{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} [طه: 87]. وكأنَّ معنى الكلامِ: ولا تأثَمُ آثمةٌ إثمَ أخرى، ولكن على كلِّ نفسٍ إثمُها دونَ إثمِ غيرِها مِن الأنفسِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : واللَّهِ ما يحمِلُ اللَّهُ على عبدٍ ذنبَ غيرِه، ولا يُؤاخَذُ إلا بعملِه
(1)
.
وقولُه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . يقولُ تعالى ذِكرُه: وما كنا مُهلِكى قومٍ إلا بعدَ الإعذارِ إليهم بالرسلِ، وإقامةِ الحجةِ عليهم
(2)
بالآياتِ التي تقطَعُ عُذرَهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} : إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى ليس يُعذِّبُ أحدًا حتى يسبِقَ إليه من اللَّهِ خبرٌ
(3)
، أو يأتيَه من اللَّهِ بيِّنةٌ، وليس معذِّبًا أحدًا إلا بذنبِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، [عن قتادةَ]
(4)
، عن أبي هريرةَ، قال: إذا كان يومُ القيامةِ، جمَع اللَّهُ تبارك وتعالى النسَمَ
(5)
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 67 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
في م: "خبرا".
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
في م: "نسم".
الذين ماتُوا في الفَتْرةِ والمعتوهَ والأصمَّ والأبكمَ، والشيوخَ الذين جاء الإسلامُ وقد خرِفوا، ثم أرسَل رسولًا أن ادخُلوا النارَ، فيقولون: كيف ولم يأتِنا رسولٌ! وايمُ اللَّهِ لو دخلُوها لكانتْ عليهم بردًا وسلامًا، ثم يُرسلُ
(1)
إليهم، فيُطيعُه من كان يريدُ أن يُطيعَه قبلُ. قال أبو هريرةَ: اقرءوا إن شئتم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن همامٍ، عن أبي هريرةَ نحوَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} .
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} . فقرأَت ذلك عامةُ قرأةِ الحجازِ والعراقِ: {أَمَرْنَا} . بقصرِ الألفِ غيرِ
(3)
مدِّها وتخفيفِ الميمِ وفتحِها. وإذا قُرئ ذلك كذلك، فإنَّ الأغلبَ من تأويلِه: أمَرْنا مُترفيها بالطاعةِ، ففسقوا فيها بمعصيتِهم اللَّهَ، وخلافِهم أمرَه. كذلك تأوَّله كثيرٌ ممن قرَأه كذلك.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} . قال: بطاعةِ اللَّهِ، فعصَوا
(4)
.
(1)
بعده في ت 2: "الله".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 374 عن معمر عن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد 26/ 230 (16302) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مرفوعًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 168 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م، ف:"وغير".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 169 إلى المصنف.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنا شَريكٌ، عن سلَمةَ أو غيرِه، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: أَمَرْنا بالطاعةِ فعصَوا
(1)
.
وقد يَحتمِلُ أيضًا إذا قُرئ كذلك أن يكونَ معناه: جعلناهم أمراءَ ففسقوا فيها؛ لأنَّ العربَ تقولُ: هو أميرٌ غيرُ مأمورٍ.
وقد كان بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ من أهلِ البصرةِ
(2)
يقولُ: قد يتوجَّه معناه إذا قُرئ كذلك إلى معنى أكثرْنا مُترفيها، ويحتجُّ لتصحيحِ قولِه ذلك بالخبرِ الذي رُوى عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ
(3)
"
(4)
. ويقولُ: معنى قولِه: مأمورةٌ: كثيرةُ النسلِ. وكان بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ من الكوفيينِ
(5)
يُنكرُ ذلك من قِيلِه، ولا يُجيزُ (أَمِرْنا)
(6)
، بمعنى أكثَرْنا إلا بمَدِّ الألفِ من (آمَرْنا). ويقولُ في قولِه:"مُهرةٌ مأمورةٌ": إنما قيلَ ذلك على الإتباعِ لمجيء "مأبورةٍ" بعدها، كما قيل:"ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غيرَ مَأْجُورَاتٍ"
(7)
. فهَمَزَ مأزوراتٍ لهمزِ مأجوراتٍ، وهى من وَزَرْتُ إتباعًا لبعضِ الكلامِ بعضًا.
وقرَأ ذلك أبو عثمانَ
(8)
: (أمَّرْنا)، بتشديدِ الميمِ، بمعنى: الإمارةِ. حدَّثنا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 169 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
هو قول أبى عبيدة في مجاز القرآن 1/ 372، 373.
(3)
السِّكة: الطريقة المصطفّة من النخل. والمأبورة: الملقحة. النهاية 2/ 384.
(4)
أخرجه أحمد 25/ 173 (15845) من حديث سويد بن هبيرة رضي الله عنه وإسناده ضعيف.
(5)
يعنى الفراء، معاني القرآن 2/ 119.
(6)
قرأ بها الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة (أمرنا) بكسر الميم. البحر المحيط 6/ 20.
(7)
أخرجه ابن ماجه (1578) من حديث على رضي الله عنه.
(8)
ينظر البحر المحيط 6/ 60.
أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن عوفٍ، عن أبي عثمانَ النهديِّ، أنه قرَأ:(أَمَّرْنَا)، مشددةً من الإمارةِ
(1)
.
وقد تأوَّل هذا الكلامَ على هذا التأويلِ جماعةٌ من أهلِ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:(أَمَّرْنا مُتَرَفِيها). يقولُ: سلَّطنا أشرارَها فعصَوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتُهم بالعذابِ، وهو قولُه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا}
(2)
[الأنعام: 123].
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا القاسمُ، قال: سمعتُ الكسائيَّ يُحدِّث عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، أنَّه قَرَأها:(أَمَّرْنا). وقال: سلَّطنا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ
(4)
، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ، قال:(أَمَّرْنا) مُثقَّلةً: جعَلنا عليها و {مُتْرَفِيهَا} : مستكبرِيها
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنى عيسى؛ وحدَّثنى الحارثُ قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في
(1)
تفسير البحر المحيط 6/ 20.
(2)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (323) من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 169 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير ابن كثير 5/ 58.
(4)
في النسخ: "حفص"، والمثبت هو الصواب، وهو إسناد دائر.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 169 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 58.
قولِ اللَّهِ تبارك وتعالى: (أمَّرْنا مُترَفيها) قال: بعَثْنا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وذُكِر عن الحسنِ البصريِّ أنه قرَأ ذلك: (آمَرْنا)
(2)
بمَدِّ الألفِ من "أمرنا"، بمعنى: أكثرنا فَسَقَتَها. وقد وجَّه تأويلَ هذا الحرفِ إلى هذا التأويلِ جماعةٌ من أهلِ التأويلِ، إلا أنَّ الذين حدَّثونا لم يميِّزوا لنا اختلافَ القراءاتِ في ذلك، وكيف قَرَأ ذلك المتأوِّلون، إلا القليلُ منهم.
ذكرُ مَن تأوَّل ذلك كذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:(وإذا أَرَدنا أن نُّهْلِكَ قَريةً آمَرنا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فيها). يقولُ: أكثَرنا عددَهم
(3)
.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ قولَه:(آمَرنا مُتْرفيهَا). قال: أكثَرناهم
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:(آمَرنا مُتْرفِيهَا). قال: أكثَرناهم
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد 430.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 58، والبحر المحيط 6/ 20.
(3)
تفسير ابن كثير 5/ 58 عن العوفي عن ابن عباس.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 169، 170 إلى سعيد بن منصور والمصنف وابن المنذر، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 58.
(5)
تفسير ابن كثير 5/ 58.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، يقولُ: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: (آمَرنا مُتَرفِيهَا). يقولُ: أكثَرنا مترفيها؛ أي: كبراءَها
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:(وإذا أَرَدنَا أن نُّهلِكَ قَريةً آمَرنا مُترفِيهَا فَفَسَقُوا فيها فَحَقَّ عَلَيْها القَولُ). يقولُ: أكثَرنا مترفيها؛ أي: جبابرتَها، ففسَقُوا فيها وعمِلوا بمعصيةِ اللَّهِ، {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. وكان يُقالُ: إذا أراد اللَّهُ بقومٍ صلاحًا بعَث عليهم مُصْلِحًا، وإذا أراد بهم فسادًا بعَث عليهم مُفْسِدًا، وإذا أراد أن يُهلِكَها أكثَر مترفيها
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:(آمَرْنا مُتْرَفِيها). قال: أكثَرناهم
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، قال: دخَل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومًا على زينبَ وهو يقولُ: "لا إلهَ إلا اللَّهُ! ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترَب. فُتِح اليومَ
(3)
من رَدْمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذا". وحلَّق بيَن إبهامِه والتي تليها، قالت: يا رسولَ اللَّهِ أَنهِلكُ وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثُر الخَبَثُ"
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: (وإذا أَرَدنا أن نُّهْلِكَ قَريةً آمَرنا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فيها). قال: ذكَر بعضُ أهلِ العلمِ أن "آمرنا":
(1)
تفسير ابن كثير 5/ 58.
(2)
ينظر تفسير عبد الرزاق 1/ 375، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 58.
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"الله".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 375 موصولًا عن معمر عن الزهرى عن عروة عن زينب بنت أبى سلمة عن زينب بنت جحش.
أكثَرنا. قال: والعربُ تقولُ للشئِ الكثيرِ: أَمِرَ؛ لكثرتِه. فأما إذا وُصِف القومُ بأنهم كثُروا، فإنه يُقالُ: أَمِرَ بنو فلانٍ، وأَمِرَ القومُ يَأْمَرُون أَمْرًا، وذلك إذا كَثرُوا وعظُم أمرُهم، كما قال لبيدٌ
(1)
:
إِنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمِرُوا
…
يَوْما يَصِيرُوا للقُلِّ والنَّفَدِ
والأَمْرُ المصدرُ، والاسمُ الإمرُ، كما قال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)} [الكهف: 71]. قال: عظيمًا، وحُكى في مَثَلٍ: شرٌّ إمْرٌ، أي: كثيرٌ.
وأولَى القراءاتِ في ذلك عندِى بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه: هو {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بقصرِ الألفِ من {أَمَرْنَا} . وتخفيفِ الميمِ منها؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ على تصويبِها دونَ غيرِها.
وإذا كان ذلك هو الأولى بالصوابِ بالقراءةِ، فأولى التأويلاتِ به تأويلُ مَن تأوَّله: أَمَرْنا أهلَها بالطاعةِ فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، فحقَّ عليهم القولُ؛ لأن الأغلبَ من معنى {أَمَرْنَا}: الأَمْرُ، الذي هو خلافُ النهى دونَ غيرِه. وتوجيهُ معاني كلامِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه إلى الأشهرِ الأعرفِ من معانيه أولى، ما وُجِد إليه سبيلٌ من غيرِه.
ومعنى قولِه: {فَفَسَقُوا فِيهَا} : فخالفوا أمرَ اللَّهِ فيها، وخرَجُوا عن طاعتِه. {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}: يقولُ: فوجَب عليها بمعصيتِهم اللَّهَ وفسوقِهم فيها، وعيدُ اللَّهِ الذي أوعَد مَن كفَر به وخالَف رسلَه، من الهلاكِ بعدَ الإعذارِ والإنذارِ بالرسلِ والحُججِ. {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}: يقولُ: فخرَّبناها عندَ ذلك تخريبًا، وأهلَكنا مَن
(2)
(1)
شرح ديوان لبيد 160.
(2)
بعده في ف، م:"كان".
فيها من أهلِها إهلاكًا، كما قال الفرزدقُ
(1)
:
وكانَ لَهُمْ كِبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا
…
رَغَا ظُهْرًا فَدمَّرَهُمْ دَمارا
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} .
وهذا وعيدٌ من اللَّهِ تعالى ذكرُه مكذِّبي رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم من مشركى قريشٍ، وتهديدٌ لهم بالعقابِ، وإعلامٌ منه لهم أنهم إن لم يَنتَهُوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبِهم رسولَه عليه الصلاة والسلام أنه مُحِلٌّ بهم سُخْطَه، ومنزِّلٌ بهم من عقابِه ما أنزَل بمَن قبلَهم من الأممِ الذين سلَكوا في الكفرِ باللَّهِ، وتكذيبِ رُسلِه سبيلَهم. يقولُ اللَّهُ تعالى ذكرُه: وقد أهلَكنا أيها القومُ من قبلِكم من بعدِ نوحٍ إلى زمانِكم قرونًا كثيرةً كانوا من جحودِ آياتِ اللَّهِ والكفرِ به وتكذيبِ رسلِه، على مثلِ الذي أنتم عليه؛ ولستمُ بأكرمَ على اللَّهِ تعالى منهم؛ لأنه لا مناسبةَ بيَن أحدٍ وبينَ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه، فيُعذِّبُ قومًا بما لا يُعذِّبُ به آخرين، أو يَعفُو عن ذنوبِ ناسٍ فيعاقبُ عليها آخرين. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فأَنِيبُوا إلى طاعةِ اللَّهِ ربَّكم، فقد بعَثنا إليكم رسولًا يُنَبِّهُكم على حُجَجِنا عليكم ويُوقِظُكم من غفلتِكم، ولم نَكُنْ لنعذِّبَ قومًا حتى نبعَثَ إليهم رسولًا مُنَبِّهًا لهم على حججِ اللَّهِ، وأنتم على فُسُوقِكم مقيمون. {وَكَفَى بِرَبِّكَ} يا محمدُ {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}. يقولُ: وحَسْبُك يا محمدُ باللَّهِ خابرًا بذنوبِ خلقِه عالمًا، فإنه لا يَخْفَى عليه شيءٌ من أفعالِ مشركى قومِك هؤلاء ولا أفعالِ غيرِهم من خلقِه، هو بجميعِ ذلك عالمٌ خابرٌ. {بَصِيرًا}. يقولُ: يُبصِرُ ذلك كلَّه فلا يَغِيبُ عنه منه شيءٌ، ولا يَعْزُبُ عنه مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ.
(1)
شرح ديوان الفرزدق ص 443.
وقد اختُلِف في مبلغِ مدةِ القَرْنِ، فحدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرَنا: حمادُ بنُ سلمةَ، عن أبي محمدٍ عن
(1)
[زرارةَ بن أوفى]
(2)
، قال: القَرْنُ عشرون ومائة سنةٍ، فبُعِث رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أولِ قرنٍ كان، وآخرُهم يزيدُ بنُ معاويةَ
(3)
.
وقال آخرون: بل هو مائةُ سنةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا حسانُ بنُ محمدِ بن عبدِ الرحمنِ الحِمْصِيُّ أبو الصَّلْتِ الطائيُّ، قال: ثنا سلامةُ بنُ جَوَّاسٍ
(4)
، عن محمدِ بن القاسمِ، عن عبدِ اللَّهِ بن بُسْرِ المازنيِّ، قال: وضَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدَه على رأسِه وقال: "سيعيشُ هذا الغلامُ قَرْنًا". قلتُ: كم القرنُ؟ قال: "مائةُ سنةٍ"
(5)
.
حدَّثنا حسانُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا سلامةُ بنُ جَوَّاسٍ، عن محمدِ بن القاسمِ، قال: ما زِلْنا نَعُدُّ له حتى، تمَّت مائةُ سنةٍ ثم مات. قال أبو الصلتِ: أخبرَني سلامةُ
(1)
في م: "بن".
(2)
في النسخ: "عبد الله بن أبى أوفى "وهو خطأ. والمثبت من مصادر التخريج، وينظر الاستيعاب 1/ 12 فقد أخرجه أيضًا ابن عبد البر من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد عن زرارة بن أوفى.
(3)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 191 وابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2696 (15178) من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد عن زرارة بن أوفى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 71 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زرارة بن أوفى.
(4)
في م، ص، ت 2، ف:"حواس"، وفى ت 1:"خواس". والمثبت من الجرح والتعديل 4/ 302.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2695 (15177) من طريق سلامة به، وأخرجه البزار في مسنده (3502)، والحاكم 4/ 500 من طرق عن محمد بن القاسم عنه به، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 236، والحاكم 2/ 549، 4/ 500، والحارث بن أبى أسامة في مسنده (1036 - بغية) من طرق عن عبد الله بن بسر.
أنَّ محمدَ بنَ القاسمِ هذا كان ختَنَ عبدِ اللَّهِ بن بُسرٍ
(1)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا إسماعيلُ بنُ موسى الفَزَارِيُّ، قال: أخبرَنا عمرُ بن شاكرٍ، عن ابن سيرينَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "القرنُ أربعونَ سنَةً"
(2)
.
وقولُه: {وَكَفَى بِرَبِّكَ} . أُدْخِلت الباءُ في قولِه: {بِرَبِّكَ} . وهو في محلِّ رفعٍ؛ لأن معنى الكلامِ: وكفاك ربُّك، وحَسْبُك ربُّك، بذنوبِ عبادِه خبيرًا. دَلالةً على المدحِ، وكذلك تَفْعَلُ العربُ في كلِّ كلامٍ كان بمعنى المدحِ أو الذمِّ، تُدْخِلُ في الاسمِ الباءَ، والاسمُ المُدْخَلَةُ عليه الباءُ في موضعِ رفعٍ، لتَدلَّ بدخولِها على المدحِ أو الذمِّ، كقولِهم: أكرِمْ به رجلًا، وناهيك به، رجلًا، وجاد بثوبِك ثوبًا، وطاب بطعامِكم طعامًا. وما أشبَه ذلك من الكلامِ، ولو أُسْقِطَت الباءُ مما دخَلَت فيه من هذه الأسماءِ رُفِعَتْ؛ لأنها في محلِّ رفعٍ، كما قال الشاعرُ
(3)
:
ويُخْبرُنِى عَن غائبِ المَرْءِ هَدْيُهُ
…
كَفَى الهَدَىُ عَمَّا غَيَّبَ المَرَّءُ مُخْبِرًا فأما إذا لم يَكُنْ في الكلامِ مدحٌ أو ذمٌّ فلا يُدْخِلُون في الاسمِ الباءَ، لا يجوزُ أن يُقالَ: قام بأخيك. وأنت تُرِيدُ: قام أخوك. إلا أن تُرِيدَ: قام رجلٌ آخرُ به. وذلك معنًى غيرُ المعنى الأوّل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: مَن كان طلُبه الدنيا العاجلةَ، ولها يَعمَلُ ويَسْعَى، وإِيَّاها
(1)
في ت 1، ف:"بشير"، وفي ت 2:"بشر".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 82 إلى المصنف.
(3)
معاني القرآن للفراء 1/ 119، واللسان (غ ى ب)، ونسبه في اللسان (هـ د ى) إلى زيادة بن زياد العدوى.
يَبْتَغِى، لا يُوقِنُ بمعادٍ، ولا يَرْجُو ثوابًا ولا عقابًا من ربِّه على عملِه، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}. يقولُ: يُعَجِّلُ اللَّهُ له في الدنيا ما يشاءُ؛ من بسطِ الدنيا عليه أو تقتيرِها لمن أراد اللَّهُ أن يَفْعَلَ ذلك به، أو إهلاكِه بما يشاءُ من عقوباتِه، {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا}. يقولُ: ثم أصلَيْناه عندَ مَقْدِمِه علينا في الآخرةِ جهَنَّمَ، {مَذْمُومًا} على قلةِ شكرِه إيانا، و
(1)
سوءِ صنيعِه فيما سلَف من أيادينا عندَه في الدنيا، {مَدْحُورًا}. يقولُ: مُبْعَدًا مُقْصًى في النارِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} . يقولُ: مَن كانتِ الدنيا همَّه وسَدَمَه
(2)
طَلِبتَه ونيَّتَه، عجَّل اللَّهُ له فيها ما يشاءُ، ثم اضْطَرَّه إلى جهنمَ، قال:{ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} : مذمومًا في نعمةِ اللَّهِ، مدحورًا في نقمةِ
(3)
اللَّهِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى أبو طَيبةَ، شيخٌ من أهلِ المِصِّيصَةِ، أنه سمِع أبا إسحاقَ الفَزَاريَّ يقولُ:{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} . قال: لمَن نُرِيدُ هلَكتَه.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَذْمُومًا} . يقولُ: ملومًا.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
السدم: اللهج والولوع بالشيء. النهاية 2/ 355.
(3)
في ص: "نعمة".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 170 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} . قال: العاجلةُ الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: مَن أراد الآخرةَ، وإيَّاها طلَب، ولها عمِلَ عملَها، الذي هو طاعةُ اللَّهِ وما يُرْضِيه عنه. وأضاف "السعىَ" إلى الهاءِ والألفِ، وهى كنايةٌ عن "الآخرةِ"، فقال: وسعَى للآخرةِ سعىَ الآخرةِ. ومعناه: وعمِل لها عملَها؛ لمعرفةِ السامعين بمعنى ذلك، وأن معناه: وسعَى لها سعيَه لها. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . يقولُ: هو مؤمنٌ مُصَدِّقٌ بثوابِ اللَّهِ وعظيمِ جزائِه على سعيِه لها، غيرُ مكذِّبٍ به تكذيبَ مَن أراد العاجلةَ. يقولُ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه:{فَأُولَئِكَ} . يعنى: فمَن فعَل ذلك، {كَانَ سَعْيُهُمْ}. يعنى: عملُهم بطاعةِ اللَّهِ، {مَشْكُورًا} . وشكرُ اللَّهِ إيَّاهم على سعيِهم ذلك حُسْنُ جزائِه لهم على أعمالِهم الصالحةِ، وتجاوزُه لهم عن سيئِها برحمتِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} : شَكَرَ اللَّهُ لهم حسناتِهم، وتجاوَز عن سيئاتِهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يُمدُّ يا محمدُ ربُّك كلا الفريقين من مُريدِ [العاجلةِ، ومريدِ]
(2)
(1)
تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(2)
في م، ف:"مريدى".
الآخرةِ الساعى لها سعيَها وهو مؤمنٌ، في هذه الدنيا من عطائِه، فيرزُقُهما جميعًا من رزقِه إلى بلوغِهما الأَمَدَ، واستيفائِهما الأجلَ ما كتَب لهما، ثم تختلِفُ بهما الأحوالُ بعدَ المماتِ، وتَفترِقُ بهما بعدَ الوُرودِ المصادرُ، ففريقُ مريدى العاجلةِ إلى جهَنَّمَ مَصْدَرُهم، وفريقُ مريدى الآخرةِ إلى الجنةِ مآبُهم، {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}. يقولُ: وما كان عطاءُ ربِّك الذي يُؤْتِيه مَن يشاءُ من خلقِه في الدنيا ممنوعًا عمَّن بسَطه عليه، لا يَقْدِرُ أَحدٌ من خلقِه منعَه
(1)
ذلك وقد آتاه اللَّهُ إياه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} . أي: منقوصًا، وإن اللَّهَ تباركَ اسمُه قَسَم الدنيا بينَ البَرِّ والفاجرِ، والآخرةُ خصوصًا عندَ ربِّك للمتقين
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} . قال: منقوصًا
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُخَرِّميُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ، قال: ثنا سهلُ بنُ أبي الصلتِ السَّرَّاجُ، قال: سمِعتُ الحسنَ يقولُ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} . قال: [كُلًّا نُعطِى]
(4)
من الدنيا البَرَّ والفاجرَ
(5)
.
(1)
بعده في م: "من".
(2)
تمام الأثر المتقدم في ص 536.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 376 عن معمر به.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"كلٌّ يعطى".
(5)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/ 32 من طريق عبد الرحمن بن مهدى به، وعزاه السيوطي في الدر =
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} الآية، {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ}
(1)
. ثم قال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} . قال ابن عباسٍ: فيَرْزُقُ مَن أراد الدنيا، ويَرْزُقُ مَن أراد الآخرة. قال ابن جريجٍ:{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} . قال: ممنوعًا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} : أهلَ الدنيا وأهلَ الآخرةِ، {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}. قال: ممنوعًا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} أهلَ الدنيا وأهلَ الآخرةِ
(4)
من بَرٍّ و
(5)
فاجرٍ. قال: والمحظورُ الممنوعُ. وقرَأ: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {انْظُرْ} يا محمدُ بعينِ قلبِك إلى هذين
= المنثور 4/ 170 إلى ابن أبي حاتم.
(1)
في ص، ت 1، ت،2 ف:"من أراد الآخرة ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء الآية".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 170 إلى المصنف وابن المنذر دون قول ابن جريج.
(3)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 170 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في م: "من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا".
(5)
بعده في م: "لا".
الفريقَين اللذَين همُّ أحدِهما الدارُ العاجلةُ، وإياها يَطلُبُ، ولها يَعمَلُ، والآخرِ الذي يُرِيدُ الدارَ الآخرةَ، ولها يَسْعَى، مُوقِنًا بثوابِ اللَّهِ على سعيِه، {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(1)
: كيف فضَّلنا أحدَ الفريقين على الآخرِ، بأنْ بَصَّرنا هذا رُشْدَه، وهَدَيْناه للسبيلِ التي هي أقومُ، وهديناه
(2)
للذى هو أهدَى وأرشدُ، وخذَلْنا هذا الآخرَ، فأَضْلَلناه عن طريقِ الحقِّ، وأَغْشَيْنَا بصرَه عن سبيلِ الرشدِ، {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ}. يقولُ: وفريقُ مريدِى الآخرةِ أكبرُ في الدارِ
(3)
الآخرةِ درجاتٍ، بعضُهم على بعضٍ؛ لتفاوتِ منازِلهم بأعمالِهم في الجنةِ، {وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} بتفضيلِ اللَّهِ بعضَهم على بعضٍ من هؤلاء الفريقِ الآخرين في الدنيا فيما بَسَطنا لهم فيها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . أي: في الدنيا، {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} وإن للمؤمنين في الجنةِ منازلَ، وإن لهم فضائلَ بأعمالِهم، وذكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إن بيَن أعلَى أهلِ الجنِة وأسفلِهم درجةً كالنَّجْمِ يُرَى في مَشارِقِ الأرضِ ومغاربِها"
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "يسرناه".
(3)
بعده في ص، ت 2، ف:"الدنيا"، وفي ت 1:"الدنيا و".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 170 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
مَخْذُولًا (22)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {لَا تَجْعَلْ} يا محمدُ مع اللَّهِ شريكًا في أُلوهيِه وعبادتِه، ولكن أخْلِصْ له العبادةَ، وأَفْرِدْ له الأُلوهةَ، فإنه لا إلهَ غيرُه، فإنك إنْ تَجْعَلْ معه إلهًا غيرَه، وتعبُدْ معه سواه، {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا}. يقولُ: تَصِيرَ ملومًا على ما ضَيَّعْتَ من شكرِ اللَّهِ على ما أنعَم به عليك من نِعَمِه، وتصييرِك الشكرَ لغيرِ مَن أولاك المعروفَ، وفى إشراكِك في الحمدِ مَن لم يَشْرَكْه في النعمةِ عليك غيرُه، {مَخْذُولًا} قد أسلَمك ربُّك لمَن بغاك سوءًا، فإذا أسلَمك ربُّك الذي هو ناصرُ أوليائِه، لم يكن لك من دونِه وليٌّ يَنْصُرُك ويَدْفَعُ عنك.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} . يقولُ: مذمومًا في نعمةِ اللَّهِ
(1)
.
وهذا الكلامُ وإن كان خرَج على وجهِ الخطابِ لنبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
فإنَّه معنيٌّ به جميعُ مَن لَزِمه التكليفُ من عبادِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} .
يعنى بذلك تعالى ذكرُه: حكَم ربُّك يا محمدُ بأمرِه إياكم ألا تعبُدُوا إلا اللَّهَ، فإنه لا يَنْبَغِى أن يُعْبَدَ غيرُه.
وقد اختلَفت ألفاظُ أهلِ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَقَضَى رَبُّكَ} . وإن كان
(1)
تقدم تخريجه في ص 536.
(2)
في م: "فهو".
معنى جميعِهم في ذلك واحدًا.
ذكرُ ما قالوا في ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . يقولُ: أَمَر
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا زكريا بنُ سلّامٍ، قال: جاء رجلٌ إلى الحسنِ، فقال: إنه طلَّق امرأتَه ثلاثًا. فقال: إنك عَصَيْتَ ربَّك، وبانت منك امرأتُك. فقال الرجلُ: قضَى اللَّهُ ذلك عليَّ. فقال الحسنُ - وكان فصيحًا -: ما قضَى اللَّهُ. أي: ما أمَر اللَّهُ. وقرَأ هذه الآيةَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . فقال الناسُ: تكلَّم الحسنُ في القدرِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . أي: أَمَرَ رَبُّك في ألا تَعْبُدُوا إلا إياه، فهذا قضاءُ اللَّهِ العاجلُ. وكان يُقالُ في بعضِ الحكمةِ: مَن أرْضَى والديه أرضَى خالقَه، ومن أسخَط والديه فقد أسخَط ربَّه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . قال: أمَر ألا تعبُدُوا إلا إياه. وفي حرفِ ابن مسعودٍ: (ووَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه)
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، قال: ثنا نُصَيْرُ بنُ أَبى الأَشعَثِ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 238 عن زكريا بن سلام به.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 376 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 170 إلى ابن المنذر.
قال: ثنى ابن حبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن أبيه، قال: أعطانى ابن عباسٍ مصحفًا، فقال: هذا على قراءةِ أُبيِّ بنِ كعبٍ. قال أبو كريبٍ: قال يحيى: رأيتُ المصحفَ عندَ نُصيرٍ فيه: (وَوَصَّى رَبُّكَ). يعني: وقضَى رَبُّكَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} : وأوصَى ربُّك
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . قال: أمَر ألا تعبُدُوا إلا إياه
(3)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن أبي إسحاقَ الكوفيِّ، الضحاكِ بن مُزاحِمٍ أنه قرَأها:(ووَصَّى رَبُّك). وقال: إنهم ألصَقُوا الواوَ بالصادِ فصارت قافًا
(4)
.
وقولُه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . يقولُ: وأمَركم بالوالدين إحسانًا أن تُحْسِنُوا إليهما وتَبَرُّوهما. ومعنى الكلامِ: وأمَركم أن تُحْسِنُوا إلى الوالدين. فلمّا حُذِفت "أن" تعلَّق القضاءُ بالإحسانِ، كما يقالُ في الكلامِ: آمُرُك به خيرًا، وأُوصِيك به خيرًا. بمعنى: آمُرُك أن تَفْعَلَ به خيرًا. ثم تُحْذَفُ "أن" فيتعلَّقُ الأمرُ والوصيةُ بالخيرِ، كما قال الشاعرُ
(5)
:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 170 إلى المصنف.
(2)
تفسير مجاهد ص 430.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 85.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 170، 171 إلى المصنف وأبى عبيد وابن المنذر، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير 5/ 32، وقال: وهذا خلاف ما انعقد عليه الإجماع فلا يلتفت إليه. وأبو إسحاق الكوفى هو عبد الله بن ميسرة، ضعيف، وهشيم. وإن كان ثقة إلا أنه كثير التدليس، وقد عنعن هنا.
(5)
معاني القرآن للفراء 2/ 120.
عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونا
…
ومن أبى دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينا
خَيْرًا بها كأنَّنا جافُونا
فأعمَلَ "يوصِينا" في الخيرِ.
واختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ
(1)
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا}؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ، وبعضُ قرأةِ الكوفيين:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ} على التوحيدِ
(2)
، على توجيهِ ذلك إلى "أحدِهما"؛ لأن "أحدَهما" واحدٌ، فوحَّدُوا {يَبْلُغَنَّ} لتوحيدِه، وجعَلوا قولَه:{أَوْ كِلَاهُمَا} معطوفًا على "الأحدِ".
وقرأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفيين: (إما يَبْلُغَانِّ). على التثنيةِ، وكسرِ النونِ وتشديدِها
(3)
. وقالوا: قد ذُكِر الوالدان قَبْلُ، وقولُه:(يَبْلُغانِّ) خبرٌ عنهما بعد ما قد تقدَّم أسماؤُهما. قالوا: والفعلُ إذا جاء بعدَ الاسمِ كان الكلامُ أن يكونَ فيه دليل على أنه خبرٌ عن اثنين أو جماعةٍ. قالوا: والدليلُ على أنه خبرٌ عن اثنين في الفعلِ المُستقبَلِ الألفُ والنونُ. قالوا: وقولُه: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} . كلامٌ مُستأنَفٌ، كما قيل:{فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]. وكقولِه: ({وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} . ثم ابتدَأ فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3].
(1)
في ص، ت 1، ف:"يبلغان".
(2)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وعاصم وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 379.
(3)
وهى قراءة حمزة والكسائى. المصدر السابق.
وأولى القراءتين بالصوابِ عندى في ذلك قراءةُ مَن قرَأه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} . على التوحيدِ على أنه خبرٌ عن ""أحدهما"؛ لأن الخبرَ عن الأمرِ بالإحسانِ إلى الوالدين قد تناهى عندَ قولِه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . ثم ابتدَأ قولَه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} .
وقولُه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} . يقولُ: فلا تأفَّفُ من شيءٍ
(1)
تراه من أحدِهما أو منهما مما يتأذَّى به الناسُ، ولكنِ اصبِرْ على ذلك منهما، واحتسِبِ الأجرَ في صبرِك عليه منهما، كما صبَرَا عليك في صغَرِك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ مُحَبَّبٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} . قال: إن بلَغا عندَك من الكبرِ ما يَبُولان ويَخْرَأان، فلا تَقُلْ لهما: أُفٍّ؛ تُقَذِّرُهما
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه
(3)
: (إما يَبْلُغَانِّ عِنْدَك الكبرَ): فلا تَقُلْ لهما: أُفٍّ. حيَن تَرَى الْأَذَى، وتُمِيطُ عنهما الأذى
(4)
والبولَ، كما كانا يُمِيطَانِه عنك صغيرًا، ولا تُؤْذِهما
(5)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"شر".
(2)
أخرجه ابن أبى شيبة 8/ 543 من طريق سفيان به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر، وهو في تفسير سفيان ص 171 بنحوه من قوله.
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، م:"الخلاء".
(5)
في ت 1، ت 2، ف:"تؤذيهما".
وقد اختلَف أهلُ المعرفةِ بكلامِ العربِ في معنى {أُفٍّ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: كلُّ ما غلَظ من الكلامِ وقبُح.
وقال آخرون: الأُفُّ وسخُ الأظفارِ، والتَّفُّ كلُّ ما رفَعْتَ بيدِك من الأرضِ من شيءٍ حقيرٍ.
وللعربِ في "أُفٍّ" لغاتٌ ستٌّ؛ رفعُها بالتنوينِ، وغيرِ التنوينِ، وخفضُها كذلك، ونصبُها.
فَمَن حَفَض ذلك بالتنوينِ، وهى قراءةُ عامةِ أهلِ المدينةِ
(1)
، شبَّهها بالأصواتِ التي لا معنى لها، كقولِهم في حكايةِ الصوتِ: غاقٍ غاقٍ. فخفَضوا القافَ ونوَّنُوها، وكان حكمُها السكونَ، فإنه لا شيءَ يُعْرِبُها من أجلِ مجيئِها بعدَ حرفٍ ساكنٍ، وهو الألفُ، فكَرِهوا أن يجمَعوا بيَن ساكنين، فحرَّكوا إلى أقربِ الحركاتِ من السكونِ، وذلك الكسرُ؛ لأن المجزومَ إذا حُرِّك فإنما يُحرَّكُ إلى الكسرِ.
وأما الذين خفَضوا بغيرِ تنوينٍ، وهى قراءةُ عامةِ قرأةِ الكوفيين والبصريين
(2)
، فإنهم قالوا: إنما يُدْخِلُون التنوين فيما جاء من الأصواتِ ناقصًا، كالذى يأتى على حرفين مثلِ:"مهٍ"و "صهٍ" و "بخ"، فيُتَمَّمُ بالنونِ
(3)
لنقصانِه عن أبنيةِ الأسماءِ. قالوا: و "أُفٍّ" تامٌّ لا حاجةَ بنا إلى تتمتِه بغيرِه؛ لأنَّه قد جاء على ثلاثةِ أحرفٍ. قالوا: وإنما كسَرنا الفاءَ الثانيةَ لئلا نَجْمَعَ بيَن ساكنين.
وأما مَن ضَمَّ ونَوَّن، فإنه قال: هو اسمٌ كسائرِ الأسماءِ التي تُعْرَبُ، وليس
(1)
وهى قراءة نافع وعاصم في رواية حفص، السبعة لابن مجاهد ص 379.
(2)
وهى قراءة أبى عمرو، وعاصم في رواية أبى بكر، وحمزة والكسائى. المصدر السابق.
(3)
في م: "بالتنوين". والمراد بالنون التنوين. ينظر ما تقدم في 13/ 142، 143.
بصوتٍ، وعُدِل به عن الأصواتِ.
وأما مَن ضَمَّ ذلك بغيرِ تنوينٍ، فإنه قال: ليس هو باسمٍ متمكنٍ فيُعْرَبَ بإعرابِ الأسماءِ المَتمكِّنةِ. وقالوا: نَضُمُّه كما نَضُمُّ قولَه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. وكما نَضُمُّ الاسمَ في النداءِ المفردِ فنقولُ: يا زيدُ.
ومَن نَصَبه بغيرِ تنوينٍ، وهى قراءةُ بعضِ المكيِّين وأهلِ الشامِ
(1)
، فإنّه شبَّهه بقولِهم: مُدَّ يا هذا ورُدُّ.
ومَن نصَب بالتنوينِ
(2)
، فإنه أعمَل الفعلَ فيه، وجعَله اسمًا صحيحًا، فيقول: ما قلتُ له أفًّا ولا تُفًّا.
و كان بعضُ نحويِّى البصرةِ يقولُ: قُرِئت: (أُفَّ)، و (أفًّا). لغةٌ، فجعَلوها مثلَ نعتِها. وقرَأ بعضُهم
(3)
: (أُفٌّ). وذلك أن بعضَ العرب يقولُ: أُفٍّ لك. على الحكايةِ؛ أي: لا تَقُلْ لهما هذا القولَ. قال: والرفعُ قبيحٌ، لأنه لم يَجِئْ بعدَه بلامٍ. والذين قالوا: أُفِّ. فكسَروا كثيرٌ، وهو أجودُ، وكسَر بعضُهم ونوَّن.
وقال بعضُهم: أُفِّى. كأنه أضَاف هذا القولَ إلى نفسِه، فقال: أُفِّى هذا لكما، والمكسورُ من هذا منوَّنٌ وغيرُ منوَّنٍ على أنه اسمٌ غيرُ متمكِّنٍ، نحوَ "أمس" وما أشبَهه، والمفتوحُ بغيرِ تنوينٍ كذلك.
وقال بعضُ أهلِ العربيةِ: كلُّ هذه الحركاتِ الستِّ تَدْخُلُ في "أف" حكايةً، تُشَبَّهُ بالاسمِ مرةً وبالصوتِ أُخْرَى. قال: وأكثرُ ما تُكْسَرُ الأصواتُ بالتنوينِ إذا
(1)
وهى قراءة ابن كثير وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 379.
(2)
وهى قراءة زيد بن علي. البحر المحيط 6/ 27.
(3)
وهى قراءة محكية عن هارون. المصدر السابق.
كانت على حرفين مثلَ: "صهٍ" و "مهٍ" و "بخٍ"، وإذا كانت على ثلاثةِ أحرفٍ شُبِّهت بالأدواتِ "أفَّ" مثلُ: ليتَ ومَدَّ، و "أُفِّ" مثلُ: مُدَّ، يُشبَّه بالأدواتِ، وإذا قال أُفٍ مثلُ صهٍ. وقالوا سمِعتُ: مِضِّ يا هذا ومِضُّ.
وحُكِى عن الكسائيِّ أنه قال: سمِعتُ. ما علَّمَك أهلُك إلا مِضِّ ومِضُّ.
وهذا كأَفَّ وأفُّ. ومن قال: أُفًّا جعَله مثلَ "سُحْقًا وبُعدًا".
والذي هو أولَى بالصحةِ عندى في قراءةِ ذلك قراءةُ مَن قرَأه: (فلا تَقُلْ لَهُما أُفِّ). بكسرِ الفاءِ بغيرِ تنوينٍ؛ لعلَّتين: إحداهما، أنها أشهرُ اللغاتِ فيها وأفصحُها عندَ العربِ
(1)
. والثانيةُ، أن حظَّ كلِّ ما لم يَكُنْ له معربٌ من الكلامِ السكونُ، فلما كان ذلك كذلك وكانت الفاءُ في "أف" حظُّها الوقوفُ، ثم لم يكنْ إلى ذلك سبيلٌ لاجتماعِ الساكنين فيه، وكان حكمُ الساكنِ إذا حُرِّك أن يحرَّكَ إلى الكسرِ، حُرِّكت إلى الكسرِ، كما قيل: مُدِّ وشُدِّ ورُدِّ البابَ.
وقولُه: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولا تَزْجُرْهما.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ الأَحْمَسِيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبيدٍ، قال: ثنا واصلٌ الرَّقَاشيُّ، عن عطاءِ بن أبى رَباحٍ في قولِه:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} . قال: لا تَنْفُضْ يدَك على والديك
(2)
.
يقالُ منه: نَهَرَه يَنْهَرُه نَهْرًا، وانتَهَرَه ينتهِرُه انتهارًا.
وأما قولُه: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . فإنه يقولُ جلَّ ثناؤُه: وقُلْ لهما قولًا جميلًا حسنًا.
(1)
بعده في ص، ت 1، ت:"فيهما"، وفى ف:"فيها".
(2)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 171 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . قال: أحسنَ ما تَجِدُ مِن القولِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا معتمرُ بنُ سليمانَ، عن عبدِ اللَّهِ بن المختارِ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عمرَ بن الخطابِ:{قَوْلًا كَرِيمًا} . يقولُ: لا تَمْتَنِعْ من شيءٍ يُرِيدانه
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا الحديثُ خطأٌ، أعنى حديثَ هشامِ بن عُروةَ، إنما هو:
(2)
هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه. ليس فيه عمرُ. كذلك
(3)
حُدِّث عن ابن عُليةَ وغيرِه، عن عبدِ اللَّهِ بن المختارِ.
حدَّثنا بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . أي: قولًا ليِّنًا سهلًا
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: ثنى حَرْملةُ بنُ عمرانَ، عن أبي الهَدَّاجِ التُّجِيبيِّ، قال: قلتُ لسعيدِ بن المسيَّبِ: كلُّ ما ذكَر اللَّهُ عز وجل في القرآنِ من برِّ الوالدين، فقد عرَفتُه، فقد عرَفتُه، إلا قولَه:{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . ما هذا القولُ الكريمُ؟ فقال ابن المسيَّبِ: قولُ العبدِ المذنبِ للسيِّد الفظِّ
(5)
.
(1)
أخرجه البخارى في الأدب المفرد (9) من طريق سفيان عن هشام به. وعزاه السيوطي في الدر 4/ 171 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة، وينظر تفسير البغوي 5/ 86.
(2)
بعده في م: "عن".
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 171 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(5)
عزاه السيوطي في الدر 4/ 171 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وكُنْ لهما ذليلًا، رحمةً منك بهما، تُطليعُهما فيما أمَراك به ما
(1)
لم يكنْ للَّهِ معصيةٌ، ولا تُخالفْهما فيما أحبَّا.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه في قولِه:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . قال: لا تمَتنعْ مِن شيءٍ يُحِبَّانه
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا الأشْجَعِيُّ، قال: سمِعتُ هشامَ بنَ عروةَ، عن أبيه في قولِه:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . قال: [هو أن]
(3)
بَليَن لهما حتى لا يَمتَنِعَ مِن شيءٍ أَحبَّاه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحَكَمِ، قال: ثنا أيوبُ بنُ سُوَيدٍ، قال: ثنا الثَّوريُّ، عن هشامِ بن عُروةَ، عن أبيه في قولِه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
(1)
في م: "مما"، وفي ت 2:"فيما".
(2)
تفسير سفيان ص 171، وأخرجه البخارى في الأدب المفرد (9)، وابن المبارك في البر والصلة (12)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (222) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
تفسير مجاهد ص 430، وزوائد الحسين المروزى على البر والصلة (11)، وهناد في الزهد (967) من طريق هشام بن عروة به.
الرَّحْمَةِ}. قال: لا تَمتنعْ مِن شيءٍ أحَبَّاه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن المُختارِ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه في قولِه:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . قال: هو أن لا تَمتنعَ مِن شيءٍ يُريدانِه.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا المُقرئُ أبو عبدِ الرحمنِ، عن حَرملةَ بن عِمرانَ، عن أبي الهدَّاجِ
(1)
، قال: قلتُ لسعيدِ بن المُسيَّبِ: ما قولُه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ؟ قال: ألمْ ترَ إلى قولِ العبدِ المُذنِبِ للسيدِ الفظِّ الغليظِ
(2)
.
والذُّلُّ - بضمِّ الذالِ - والذِّلَّةُ
(3)
مصدران مِن الذليلِ، وذلك أن يَتذلَّلَ
(4)
وليس بذليلٍ في الخِلقةِ، مِن قولِ القائلِ: قد ذَلَلتُ لك
(5)
أَذِلُّ ذِلَّةً وذِلًّا. وذلك نظيرُ القُلِّ والقِلَّةِ، إذا أُسقِطت الهاءُ ضُمت الذالُ من الذُّلِّ، والقافُ من القُلِّ، وإذا أُثْبِتت الهاءُ كُسِرت الذالُ من الذِّلةِ، والقافُ من القِلَّةِ، كما قال الأعشى
(6)
:
* وَمَا كُنْتُ قُلًّا قبلَ ذلكَ أَزْيَبَا*
يريد: القُلَّةَ. وأما الذِّلُّ بكسرِ الذالِ وإسقاطِ الهاءِ فإنه مصدرٌ من الذَّلولِ مِن قولِهم: دابةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، وذلك إذا كانت لينةً غيرَ صعبةٍ
(7)
. ومنه قولُ اللَّهِ جلَّ
(1)
في ص، ت 2:"الهياح"، وفى ت 1، ف:"الهياج". وينظر الإكمال لابن ماكولا 7/ 416.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المذلة".
(4)
في ص: "يتذلل تذلل"، وفى ت،1، ت 2، ف:"تتذلل تذلل".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(6)
ديوانه ص 115، وهو عجز بيت صدره:
*فأرضَوه أن أعطَوه منى ظُلامةً*
(7)
معاني القرآن للفراء 2/ 122.
ثناؤُه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15]. يُجمعُ ذلك ذُلُلًا، كما قال جلَّ ثناؤُه:{فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [النحل: 69]. وكان مجاهدٌ يتأوَّلُ ذلك أنه لا يَتوعَّرُ
(1)
عليها مكانٌ سلَكتْه.
واختَلفت القرَأةُ في قراءةِ ذلك، فقرَأته عامَّةُ قرَأةِ الحجازِ والعراقِ والشامِ:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} بضمِّ الذالِ على أنه مصدرٌ من الذَّليلِ. وقرَأ ذلك سعيدُ بنُ جُبيرٍ وعاصمٌ الجَحْدَرِيُّ: (جَناحَ الذُّلِّ) بكسرِ الذالِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا بَهْزُ بنُ أسدٍ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ أنه قرَأ:(وَاخْفِضْ لَهُما جُناحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). [قال: كُنْ لهما ذَليلًا، ولا تَكنْ لهما ذَلولًا]
(3)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: أخبرَنى عمرُ بنُ شَقِيقٍ
(4)
، قال: سمعتُ عاصمًا الجَحْدَرِيَّ يَقْرَأُ: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). قال: كُنْ لهما ذليلًا، ولا تكنْ لهما ذَلولًا
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ شَقِيقٍ (4)، عن عاصمٍ مثلَه.
قال أبو جعفرٍ: وعلى هذا التأويلِ الذي تأوَّله عاصمٌ كان يَنبغى أن تكونَ قراءتُه بضمِّ الذالِ لا بكسرِها. وبكسرِها حدَّثنا نصرٌ وابنُ بشارٍ.
وحُدِّثتُ عن الفرَّاءِ، قال: ثنى هشيمٌ، عن أبي بِشرٍ جعفرِ بن إياسٍ، عن سعيدِ
(1)
توعَّر المكان: صلُب. الوسيط (و ع ر).
(2)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 122.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى المصنف.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"سفيان". وانظر الجرح والتعديل 6/ 115.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى المصنف.
ابن جبيرٍ أنه قرَأ: (وَاخفِضْ لَهُما جنَاحَ الذِّلِّ). قال الفرَّاءُ: وحدَّثنى
(1)
الحكمُ بنُ ظُهَيْرٍ، عن عاصمِ بن أبى النَّجودِ، أنه قرَأها:(الذِّلِّ) أيضًا، قال
(2)
: فسألتُ أبا بكرٍ فقال: {الذُّلِّ} قرَأها عاصمٌ
(3)
.
وأما قولُه: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . فإنه يقولُ: ادعُ اللَّهَ لوالديك بالرحمةِ، وقل: ربِّ ارحمْهما، وتَعَطَّفْ عليهما بمغفرتِك ورحمتِك، كما تَعَطَّفا عليَّ في صِغَري، فرحِماني وربَّياني صغيرًا، حتى اسْتَقْلَلَتُ بنفسي، واسْتَغْنيتُ عنهما.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} هكذا عُلِّمتُم، وبهذا أُمِرْتُم، خذوا تعليمَ اللهِ وأدبَه، ذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرَج [ذاتَ يومٍ]
(4)
وهو مادٌّ يدَيْه رافعٌ صوتَه يقولُ: "مَن أَدْرَك والدَيْه أو أحدَهما ثمَّ دخَل النَّارَ بعدَ ذلكَ فَأَبْعَده اللهُ وأَسْحَقَه". ولكن كانوا يرَوْن أنه من بَرَّ والديْه، وكان فيه أدنى تُقًى، فإن ذلك مُبْلِغُه جَسيمَ الخيرِ
(5)
.
وقال جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ: إِنَّ قولَ اللَّهِ جلّ ثناؤُه: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . منسوخٌ بقولِه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
(1)
في م: "أخبرني". وينظر معاني القرآن 2/ 122.
(2)
سقط من: م. والقائل أبو زكريا الفراء.
(3)
معاني القرآن 2/ 122.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 344 (19049 - ميمنية) بإسناده عن قتادة يحدث عن زرارة بن أوفى عن أُبى بن مالك.
الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . ثم أنزَل اللهُ تبارك وتعالى بعدَ هذا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يَحيى بنُ واضِحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ [والحسنِ قالا]
(2)
: في سورةِ بني إسرائيلَ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ
(3)
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} إلى قولِه: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ، فنسَختْها الآيةُ التي في براءةَ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، قال: قال ابن جُريجٍ، قال: ابن عباسٍ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} الآية. قال: نسخَتْها الآيةُ التي في براءةَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية
(4)
.
وقد تَحتمِلُ هذه الآيةُ أن تكونَ - وإن كان ظاهرُها عامًّا في كلِّ الآباءِ
(5)
-
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"والحسن قالا قال"، وفى م:"قال".
(3)
في م: "يبلغان". وهى قراءة متواترة كما تقدم في ص 544.
(4)
أخرجه البخارى في الأدب المفرد 1/ 23، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 171 إلى أبي داود والمصنف وابن المنذر.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"الآيات".
غيرَ
(1)
معنى النسخِ، بأن يكونَ تأويلُها على الخُصوصِ، فيكونَ معنى الكلامِ: وقل ربِّ ارحَمْهما [إذا كانا مؤمنَينِ]
(2)
، كما رَبَّياني صغيرًا، فيكونَ مرادًا بها الخُصوصُ على ما قلنا غيرُ منسوخٍ منها شيءٌ.
وعَنَى بقولِه: {رَبَّيَانِي} نَمَّياني
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {رَبُّكُمْ} أيها الناسُ {أَعْلَمُ} منكم {بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} مِن تعظيمِكم أمرَ آبائِكم وأمهاتِكم، وتَكرِمَتِهم، والبرِّ بهم، وما فيها من اعتقادِ الاستخفافِ بحقوقِهم، والعقوقِ لهم، وغيرِ ذلك مِن ضمائرِ صدورِكم، لا يخفى عليه شيءٌ مِن ذلك، وهو مُجازيكم على حَسَنِ ذلك وسيِّئِه، فاحذروا أن تُضمِروا لهم سوءًا، [وتعقِدوا]
(4)
لهم عقوقًا.
وقولُه: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} . يقولُ: إن أنتم أصلحْتُم نيَّاتِكم فيهم، وأطعْتُم الله فيما أمَركم من البرِّ بهم، والقيامِ بحقوقِهم عليكم، بعد هفوةٍ كانت منكم، أو [زَلَّةٍ في]
(5)
واجبٍ لهم عليكم مع القيامِ بما ألزَمكم في غيرِ ذلك مِن فرائضِه، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ} بعدَ الزَّلةِ، والتائبين بعدَ الهَفْوةِ غفورًا لهم.
(1)
في م: "بغير".
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ت 1، ت 2:"سيأتي"، وفى ف:"ستاني".
(4)
سقط من: ف، وفى ص، ت 2:"وأن تعتقدوا".
(5)
سقط من: ص، ت 2، ف.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ
(1)
ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ أبي وعمِّى، عن حبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} . قال: البادِرَةُ تكونُ مِن الرجلِ إلى أبويْه لا يريدُ بذلك إلا الخيرَ، فقال:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}
(2)
.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: أخبرَني أبي، عن حبيبِ بن أبي ثابت، عن سعيدِ بن جبيرٍ بمثلِه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحَكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا عمرٌو، عن حبيبِ بن أبي ثابتٍ في قولِه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: هو الرجلُ تكونُ منه البادرةُ إلى أبَويه وفي نيتِه وقلبِه أنه لا يؤاخَذُ به.
واختلف أهل التأويلِ في تأويل قولِه: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} ، فقال بعضُهم: هم المُسبِّحون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصَّلْتِ، قال
(3)
: ثنا أبو
(1)
سقط من: ص، ت 2، ف.
(2)
أخرجه الحسين المروزى في الزوائد على البر والصلة (25) من طريق داود بن يزيد - عم ابن إدريس - عن حبيب بن أبي ثابت به بنحوه، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 88، وابن كثير في تفسيره 5/ 64، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 172 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 2، ف:"قالا".
كُدَيْنَةَ، وحدَّثنى ابن سِنان القَزَّازُ، قال: ثنا الحسينُ بنُ الحسنِ الأشقرُ، قال: ثنا أبو كُدَيْنَةً، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: المُسَبِّحين
(1)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا أبو خَيْثَمَةَ زهيرٌ، قال: ثنا أبو إسحاقَ، عن أبي ميسرةَ، عن عمرِو بن شُرحْبيلَ، قال: الأَوَّابُ: المسبِّحُ
(2)
.
وقال آخرون: هم المُطيعون المحسنون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني على بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . يقولُ: للمُطِيعين المُحسنين
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: هم المُطيعون وأهلُ الصلاةِ
(4)
:
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: للمُطِيعين المُصلين
(5)
.
وقال آخرون: بل هم الذين يُصلُّون بين المغرب والعشاءِ.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 64.
(2)
ينظر روح المعاني 23/ 173.
(3)
ذكره ابن الجوزى في زاد المسير 5/ 26، وابن كثير في تفسيره 5/ 64، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 172 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره ابن الجوزى في زاد المسير 5/ 26، وابن كثير في تفسيره 5/ 64.
(5)
تفسير عبد الرزاق 2/ 376 عن معمر به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهْبٍ، عن أبي صَخْرٍ حميدِ بن زيادٍ، عن ابن المُنكدرِ، يرفعُه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: "الصلاةُ بينَ المغربِ والعشاء"
(1)
.
وقال آخرون: هم الذين يُصلُّون الضُّحَى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرو بنُ عليٍّ، قال: ثنا رباح أبو سليمانَ الرَّقاءُ، قال: سمِعتُ عَونًا العُقيْليَّ يقولُ في هذه الآيةِ: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الذين يُصلون صلاةَ الضُّحَى
(2)
.
وقال آخرون: بل هو الراجِعُ من ذنبِه، التائبُ منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمد بن الوليدِ القُرَشِيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ
(3)
، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدِ بن المُسَيَّبِ، أنه قال في هذه الآيةِ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الذي يُصيبُ الذنْبَ ثم يتوبُ، ثم يُصِيبُ الذنبَ ثم يَتوبُ
(4)
.
(1)
ذكره ابن الجوزى في زاد المسير 5/ 26 قولا لابن المنكدر.
(2)
أخرجه الأصبهانى في الترغيب كما في نيل الأوطار 3/ 76، وذكره القرطبي في تفسيره 10/ 247، وابن الجوزي في زاد المسير 5/ 27.
(3)
في ص، ت، ت،2، ف:"سعيد". وينظر تهذيب الكمال 12/ 479.
(4)
أخرجه الحسين المروزى في الزوائد على البر والصلة لابن المبارك (26) من طريق يحيى بن سعيد به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 4.
حدَّثنا ابن المثَّنى، قال: ثنا سليمانُ بنُ داودَ، عن شعبةَ، عن يحيى بن سعيدٍ، [عن سعيدِ]
(1)
بن المُسَيَّبِ، قال: هو الذي يُذنِبُ ثم يتوبُ، ثم يُذنبُ ثم يتوبُ، في هذه الآيةِ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} .
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ سعيدٍ، أنه سمِع سعيدَ بنَ المسيَّبِ يُسألُ عن هذه الآيةِ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: هو الذي يُذنبُ ثم يتوبُ، ثم يُذنِبُ ثم يتوبُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: ثني جريرُ بنُ حازمٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدِ بن المسيبِ بنحوِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن سعيد بن المُسيَّبِ بنحوِه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: ثني مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدِ بن المُسيَّبِ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: هو العبدُ يُذنِبُ ثم يَتوبُ، ثم يُذنبُ ثم يَتوبُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني الليثُ بنُ سعدٍ، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعْتُ سعيدَ بنَ المُسيَّبِ يَقولُ، فذكَرَ مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزَّاقِ، قال: أخبَرنا الثَّوريُّ ومَعمرٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدِ بن المُسيَّبِ، قال: الأَوَّابُ: الذي يُذنِبُ ثم يَتوبُ، ثم يُذنِبُ ثم يَتوبُ، ثم يُذنِبُ ثم يتوبُ
(3)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
أخرجه الخطيب البغدادى في تاريخه 6/ 285، من طريق مالك به.
(3)
تفسير سفيان ص 171، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 376 عن سفيان به، وأخرجه ابن الأعرابي =
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبير في هذه الآيةِ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الراجعين إلى الخيرِ
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ وأبو داودَ وهشامٌ، عن شعبةَ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ بنحوِه.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، وحدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عمرٍو، جميعًا عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبيدِ بن عُمَير:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الذي يَذكُرُ ذنوبه في الخلاء، فيستغفرُ الله منها
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، عن
(3)
. الثوريِّ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: الأوَّابُ: الذي يَذكرُ ذنوبَه في الخلاءِ فيستغفرُ اللَّهَ منها
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المُثَنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبيدِ بن عُمَيرٍ، أنه قال في هذه الآيةِ:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الذي يذكرُ ذنبَه ثم يتوبُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
= في معجمه (1943، 1944)، والبيهقى 7/ 154 من طريق سفيان به.
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (7190) من طريق شعبة به، وزوائد الحسين المروزي على الزهد (1093)، وزوائده على البر والصلة (27) عن أبي بشر به.
(2)
تفسير سفيان ص 171، وابن المبارك في الزهد (1540) عن سفيان به، وأبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 268 من طريق عبيد بن عمير به.
(3)
في م: "قال: أخبرنا".
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 376.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه جلَّ ثناؤُه:{لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الأوَّابون: الراجِعون التَّائبون
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال ابن جريج، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدِ بن المسيبِ: الرجلُ يذنِبُ ثم يتوبُ ثلاثًا
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عُبيدِ بن عُمَيرٍ قولَه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: الذي
(3)
يتذكر ذنوبَه، فيستغفرُ الله لها
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرني حَيْوَةُ
(5)
بنُ شُريحٍ، عن عقبةَ بن مسلمٍ، عن عطاءِ بن يسارٍ، أنه قال في قولِه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} : يُذنبُ العبدُ ثم يتوبُ، فيتوبُ اللهُ عليه، ثم يُذنبُ فيتوبُ، فيتوبُ اللهُ عليه، ثم يُذنبُ الثالثةَ، فإن تاب تاب اللهُ عليه توبةً لا تُمْحَى
(6)
.
وقد رُوى عن عُبيدِ بن عُمَيرٍ غيرُ القولِ الذي ذكَرنا عن مجاهدٍ
(7)
، وهو ما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاق، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ مُسلمٍ،
(1)
تفسير مجاهد 435، من طريق ورقاء به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 64.
(2)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7095)، من طريق يحيى بن سعيد به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الرجل".
(4)
أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (7195) معلقًا عن منصور به.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2. وينظر تهذيب الكمال 7/ 478.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 64.
(7)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"عنه".
عن عمرِو بن دينارٍ، عن عُبيدِ بن عُمَيرٍ في قولِه:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال: كنا نَعُدُّ الأَوَّابَ الحفيظَ، أن يقولَ: اللهمَّ اغفرْ لي ما أَصَبْتُ في مجلِسى هذا
(1)
.
وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: الأَوَّابُ هو التائبُ مِن الذَّنْبِ، الراجِعُ مِن مَعصية اللهِ إلى طاعتِه، ومما يكرَهُه إلى ما يرضاه؛ لأنَّ الأوّابَ إنما هو فعَّالٌ، من قولِ القائلِ: آبَ فلانٌ مِن كذا. إِمَّا مِن سَفَرِه إلى منزلِه، أو مِن حالٍ إلى حالٍ، كما قال عَبيدُ بنُ الأبرصِ
(2)
:
وكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ
…
وغائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ
فهو يئوبُ أوْبًا، وهو رجلٌ آئِبٌ مِن سَفرِه، وأَوَّابٌ مِن ذنوبِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} .
اختلف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بقولِه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ؛ فقال بعضُهم: عنَى به قرابةَ المُؤمنِ
(3)
قِبَلَ أبيه وأمِّه، أمَر الله جلَّ ثناؤُه عبادَه بصلتِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عِمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارِثِ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا حَبيبٌ المُعلِّمُ، قال: سأَل رجلٌ الحسنَ، قال: أُعْطِي قَرَابتي زكاةَ مالي؟ قال: إنَّ لهم
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 376.
(2)
ديوانه ص 13.
(3)
في م: "الميت من".
في [مالِك حقًّا]
(1)
سوى الزكاةِ. ثم تلا هذه الآيةَ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} .
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حَجّاجٌ، عن ابن جُريْجٍ، عن عكرمةَ قولَه:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} . قال: صلتَه التي تريدُ أن تَصِلَه بها، ما كنتَ تريد أن تَفعلَ إليه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} . قال: هو أن تَصِلَ ذا القرابةِ والمسكينَ وتُحسِنَ إلى ابن السبيلِ.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك
(2)
قرابةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبانٍ، قال: ثنا الصبَّاحُ بنُ يَحيى المُزَنيُّ
(3)
، عن السديِّ، عن أبي الديلمِ، قال: قال عليُّ بنُ الحسينِ لرجلٍ مِن أهلِ الشامِ: أقَرأتَ القرآنَ؟ قال: نعم. قال: أفما قرَأت في "بني إسرائيلَ": {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ؟ قال: وإنكم للقَرَابَةُ الذي
(4)
أمَر اللهُ أن يُؤتَى حقَّه؟ قال: نعم
(5)
.
وأولى التأويلَين عندى بالصوابِ تأويلُ مَن تأوَّل ذلك أنه
(6)
بمعنى وصيةِ اللهِ
(1)
في م: "ذلك لحقا".
(2)
في م: "به".
(3)
في ت 1، ت 2:"المرى"، وفى ف:"المزى". وينظر الجرح والتعديل 4/ 442.
(4)
في م: "التي".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 176 إلى المصنف.
(6)
في م: "أنها".
عبادَه بصلةِ قراباتِ أنفسِهم وأرحامِهم من قِبَلِ آبائِهم وأمهاتِهم؛ وذلك أن اللَّهَ عز وجل عَقَّب ذلك عَقيبَ حَضَّه عبادَه على بِرِّ الآباءِ والأمَّهات، فالواجبُ أن يكونَ ذلك حَضًّا على صلةِ أنسابِهم دونَ أنسابِ غيرهم التي لم يجرِ لها ذِكرٌ.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: وأعطِ يا محمدُ ذا قرابتِك حقَّه من صلتِك إياه، وبرِّك به، والعطفِ عليه.
وخرَج ذلك مخرج الخطابِ لنبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمراد بحُكمِه جميعُ مَن لزِمَتْه فرائضُ اللهِ، يدلُ على ذلك ابتداؤُه الوصيةَ بقولِه جلَّ ثناؤُه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا} . فوجَّه
(1)
الخطابَ بقولِه: {وَقَضَى رَبُّكَ} . إلى نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم قال:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . فرجَع بالخطابِ
(2)
به إلى الجميعِ، ثم صرَف الخطابَ بقولِه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ
(3)
عِنْدَكَ الْكِبَرَ}. إلى إفرادِه به، والمعنى بكلِّ ذلك جميعُ مَن لزِمَتْه فرائضُ الله عز وجل؛ أفرِد بالخطابِ رسولَ اللهِ وحدَه، أو عُمَّ به هو وجميعُ أمتِه.
وقولُه: {وَالْمِسْكِينَ} . وهو ذو
(4)
الذلَّةِ مِن أهلِ الحاجةِ - وقد دَلَّلنا فيما مضَى على معنى "المسكينِ" بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضِعِ
(5)
- {وَابْنَ السَّبِيلِ} : يعنى المسافرَ المُنقطَعَ به. يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه: وصِلْ قرابتَك، وأعطِه حقَّه من صلتِك إياه، [والمسكينَ]
(6)
ذا الحاجةِ، والمجتازَ بك المُنقَطَعَ به، فأَعِنْه، وقوِّه
(1)
في ص، ت 2:"فوحد"، وفى ف:"فوخذ".
(2)
في ص، ت 2، ف:"الخطاب".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يبلغان"، وهى قراءة متواترة كما تقدم في ص 544.
(4)
سقط من: م.
(5)
بعده في م: "وقوله". وينظر ما تقدم في 2/ 193.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فالمسكين".
على قَطْعِ سفرِه.
وقيل: إنما عنَى بالأمرِ بإيتاءِ
(1)
ابن
(2)
السبيل حقَّه أن يُضافَ ثلاثةَ أيامٍ.
والقولُ الأوَّل عندى أولَى بالصوابِ؛ لأنَّ الله تعالى لم يَخْصُصْ من حقوقِه شيئًا دونَ شيءٍ في كتابِه، ولا على لسانِ رسولِه، فذلك عامٌّ في كلِّ حقٍّ له أن يُعطاه؛ من [ضيافتِه أو حملِه أو معونتِه]
(3)
على سَفرِه.
وقولُه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} . يقولُ: ولا تفرِّقْ يا محمدُ ما أعطاك اللهُ مِن مالٍ في معصيتِه تفريقًا.
وأصلُ التبذيرِ التفريقُ في السَّرَفِ. ومنه قولُ الشاعرِ
(4)
:
أُناسٌ أجارُونا فَكانَ جِوَارُهُمْ
…
أعاصِيرَ مِنْ فَسْوِ
(5)
العِرَاقِ المُبَذَّرِ
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عُبيدٍ المحاربي، قال: ثنا أبو الأخوص، عن أبي إسحاقَ، عن أبي العُبَيْدَينِ، قال: قال عبدُ اللهِ في قولِه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} . قال: التبذيرُ في غيرِ الحقِّ، وهو الإسرافُ
(6)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سَلَمةَ، عن
(1)
في م: "بإتيان".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في م: "ضيافة أو حمولة أو معونة".
(4)
هو يزيد بن مفرغ الحميرى. وتقدم البيت في 4/ 690.
(5)
في النسخ: "فسق". والمثبت مما تقدم.
(6)
أخرجه الطبراني (9009)، والبيهقى 6/ 63 من طريق أبي إسحاق به بنحوه.
مسلمٍ البَطِينِ، عن أبي العُبَيْدَينِ، قال: سُئل عبدُ اللهِ عن [المُبذرين، فقال]
(1)
: الإنفاقُ في غيرِ حقٍّ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، قال: سمِعتُ يحيى بنَ الجزارِ، يحدِّثُ عن أبي العُبَيْدَينِ - ضريرِ البَصَرِ - أنه سأَل عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ عن هذه الآيةِ:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} . قال: إنفاقُ المالِ في غيرِ حقِّه
(3)
.
حدَّثني زكريا بنُ يَحيى بن أبي زائِدةَ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن الأعمشِ، عن الحكمِ، عن يَحيى بن الجزَّارِ، عن أبي العُبَيْدَينِ، عن عبدِ اللَّهِ مثلَه
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا شعبةُ، عن الحكمِ بن عُتَيْبَةَ، عن يَحيى بن الجزَّارِ، أنّ أبا العُبَيْدَينِ - كان ضريرَ البصرِ - سأَل ابنَ مسعودٍ قال: ما التبذيرُ؟ فقال: إنفاقُ المالِ في غيرِ حقِّه.
[حدَّثنا ابن المُثَنَّى، قال: حدَّثنا أبو الوليدِ، قال: حدَّثنا شعبةُ، قال: أنبأنا الحكَمُ، عن يَحيى بن الجَزَّارِ، عن أبي العُبَيْدَين، عن عبدِ اللَّهِ مثلَه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: حدَّثنا المُحاربيُّ، عن المسعوديِّ، عن سلمةَ بن كُهَيْلٍ، عن أبي العُبَيْدَينِ، أنه سأَل ابنَ مسعودٍ، فقال: ما التبذيرُ؟ قال: إنفاقُ المالِ في غيرِ حقِّه
(5)
]
(6)
.
(1)
في م: "المبذر فقال".
(2)
تفسير سفيان ص 172، ومن طريقه البخارى في الأدب المفرد (444)، والطبراني (9008).
(3)
تقدم تخريجه في 12/ 35.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 95 من طريق ابن إدريس به، وتقدم تخريجه عند الطبراني والحاكم في ص 393.
(5)
تفسير مجاهد ص 435 من طريق المسعودى به، ومن طريقه البيهقى في الشعب (6546).
(6)
سقط من: م.
حدَّثنا خلَّادُ بنُ أسلَمَ، قال: أخبَرنا النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ، قال: أخبَرنا المسعوديُّ، قال: أخبَرنا سلمةُ بن كُهَيْلٍ، عن أبي العُبَيْدَينِ - وكانت به زَمَانةٌ، وكان عبدُ اللَّهِ يعرِفُ له ذلك - فقال: يا أبا عبد الرحمنِ، ما التبذيرُ؟ فذكَر مثلَه.
حدَّثنا أحمدُ بنُ منصورٍ الرَّماديُّ، قال: ثنا أبو الحَوْأبِ، عن عمارِ بن زُرَيقٍ، عن أبي إسحاقَ، عن حارثةَ بن مُضَرِّبٍ، عن أبي العُبَيْدَينِ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال: كنا أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما نتحدَّثُ أن التَّبذيرَ النفقةُ في غيرِ حقِّه
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ كثيرٍ العَنْبرِيُّ، قال: ثنا شعبةُ، قال: كنتُ أمشى مع أبي إسحاقَ في طريقِ الكوفةِ، فأتَى على دارٍ تُبْنَى بجِصٍّ وآجُرٍّ، فقال: هذا التبذيرُ في قولِ عبدِ اللَّهِ؛ إنفاقُ المالِ في غيرِ حقِّه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} . قال: المبذِّرُ المُنْفِقُ في غيرِ حقٍّ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عبَّادٌ، عن حُصَيْنٍ، عن عكرمةً، عن ابن عباسٍ، قال: المبذِّرُ المنفقُ في غيرِ حقِّه
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ، قال: لا تُنْفِقْ في الباطلِ، فإِنَّ المُبَذِّرَ هو المسرفُ في غيرِ حقٍّ
(5)
. قال ابن جُريجٍ: قال مجاهدٌ: لو أنفَق إنسانٌ مالَه كلَّه فِي الحَقِّ ما كان تبذيرًا،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 177 إلى المصنف. وينظر فتح الباري 8/ 394.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 89 عن شعبة به.
(3)
في م: "حقه".
(4)
أخرجه البخارى في الأدب المفرد (445)، والبيهقي في الشعب (6547) من طريق حصين به.
(5)
ذكره البخارى عقب الحديث (4710) معلقا، وذكره الحافظ في تعليق التعليق 4/ 241، عن المصنف.
ولو أنفَق مُدًّا في باطلٍ كان تَبذيرًا
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} : و
(2)
التبذيرُ النفقةُ في معصيةِ اللهِ، وفى غيرِ الحقِّ، وفي الفسادِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} . قال: بدَأ بالوالدين قبلَ هذا، فلما فرَغ من الوالدين وحقِّهما، ذكر هؤلاء، وقال:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} : لا تُعطِ في معاصى اللهِ.
وأما قولُه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} . فإنه يعنى: إِنَّ المفرِّقين أموالَهم في معاصى اللهِ، المُنفقيها في غيرِ طاعتِه، أولياءُ الشياطين. وكذلك تقولُ العربُ لكلِّ مُلازمٍ سنةَ قومٍ وتابعٍ أمْرَهم
(5)
: هو أخوهم.
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} . يقولُ: وكان الشيطانُ لنعمةِ ربِّه التي أنعمها عليه جَحُودًا لا يشكرُه عليها، [ولكنه]
(6)
يكفرُها بتَرْكِه طاعةَ اللَّهِ، وركوبِه معصيتَه، وكذلك إخوانُه من بنى آدم المبذِّرون
(7)
أموالَهم في معاصِى اللهِ، لا يشكُرون الله على نِعَمِه عليهم، ولكنهم يُخالفون أمره ويعصُونه، ويستَنَّون فيما أنعم اللهُ عليهم به مِن الأموالِ التي خوَّلَهموها - سنةَ مَن تَرَكَ الشكرَ عليها
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 89 وأبو حيان في البحر المحيط 6/ 30، وابن كثير في تفسيره 5/ 66.
(2)
في م: "قال".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 66.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أمرهم".
(5)
في م: "أثرهم".
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المبذرين".
وتلقّاها بالكُفران.
كالذى حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قولِه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} : إن المُنْفقِين في معاصى اللهِ {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن تُعرِضْ يا محمدُ عن هؤلاء الذين أمَرْتُك أن تُؤتيَهم حقوقَهم إذا وجَدْتَ إليها السبيلَ، بوجهِكَ عندَ مسألتِهم إياك ما لا تجدُ إليه سبيلًا: حياءً منهم ورحمةً لهم
(1)
، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}. يقولُ: انتظارَ رزقٍ
(2)
تنتظِرُه من عندِ ربِّك، وترجو تَيسيرَ اللَّهِ إياه لك، فلا تُؤَيِّسْهم، ولكن {قُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. يقولُ: ولكن عِدْهم وَعْدًا جميلًا، بأن تقولَ: سيرزُقُ اللهُ فأُعطِيكم
(3)
. وما أشبهَ ذلك مِن القولِ الليِّنِ غيرِ الغليظِ، كما قال جل ثناؤُه:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10].
وبنحوِ ما قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} . قال: انتظارَ
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"منك".
(3)
في ص، ت 1، ف:"فأعطكم" وفي ت 2: "فأعطاكم".
الرزقِ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. قال: ليِّنًا، تَعِدُهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ:{ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} . قال: رزقٍ، {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
(2)
[الزخرف: 32].
حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا عُمارةُ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} . قال: انتظارَ رزقٍ من اللَّهِ يأتِيك.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن عكرمةَ قولَه:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} . قال: إن سَأَلوك فلم يَجِدُوا عندك ما تُعطيهم، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ}. قال: رزقٍ تَنْتَظِرُه، تَرْجُوه، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}. قال: عِدهم عِدَةً حسنةً: إذا كان ذلك، إذا جاءنا ذلك فعَلنا، أعطَيْناكم. فهو القولُ الميسورُ
(3)
. قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: إن سألوك فلم يكنْ عندَك ما تُعطِيهم، فأعرَضتَ عنهم {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ}. قال: رزقٍ تَنتَظِرُهُ
(4)
، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} .
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
أخرجه ابن المبارك في البر والصلة (288) عن سفيان به دون آخره.
(2)
وذكره البخاري في صحيحه عقب حديث (4710) معلقا، وذكره الحافظ في تعليق التعليق 4/ 241 عن المصنف.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 66.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
في قولِ اللَّهِ عز وجل: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} . قال: انتظارَ رزق الله
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن عبيدة في قوله:{ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} . قال: ابتغاءَ الرزقِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال
(2)
: رزقٍ تَنتَظِرُه، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} . قال
(3)
: معروفًا.
حدَّثنا محمدُ بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} . قال: عِدْهم خيرًا. وقال الحسنُ: قُل لهم قولًا
(4)
ليِّنًا سهلًا
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبيدُ بنُ سليمان، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} . يقولُ: لا تَجِدُ شيئًا تُعْطِيهم، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ}. يقولُ: انتظارَ الرزقِ من ربِّك. نزَلتْ في مَن كان يَسأَلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من المساكينِ
(6)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى حَرَمِيُّ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثني عُمارةُ، عن عكرمةَ في قولِ اللهِ:{فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} . قال: الرفقُ.
(1)
تفسير مجاهد ص 436، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 178 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في م، ف:"أي".
(3)
في م: "أي".
(4)
سقط من: ص، ت 2، ف.
(5)
تفسير عبد الرزاق 1/ 377 عن معمر به.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 178 إلى المصنف.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} : عن هؤلاء الذين أَوْصَيْنَاك بهم، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا}: إذا خشِيتَ إن أعطَيتَهم أن يَتَقوَّوا بها على معاصى اللهِ، ويَسْتَعِينوا بها عليها، فرأيتَ أن تَمْنَعَهم خيرًا، فإذا سألوك {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}: قولًا جميلًا: رزَقك اللهُ، بارَك اللهُ فيك
(1)
.
وهذا القولُ الذي ذكَرنا عن ابن زيدٍ - مع خِلافِه أقوالَ أهلِ التأويلِ في تأويلِ هذه الآيةِ - بعيدٌ بالمعنى
(2)
مما يدُلُّ عليه ظاهرُها؛ وذلك أن الله تعالى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} . أمَره أن يقولَ إذا كان إعراضُه عن القومِ الذين ذكَرهم انتظارَ رحمةٍ منه يَرجُوها من ربِّه {قَوْلًا مَيْسُورًا} . وذلك الإعراضُ ابتغاءَ الرحمةِ لن يَخْلُوَ من أحدِ أمرين: إما أن يكونَ إعراضًا منه ابتغاءَ رحمةٍ من اللهِ يَرجُوها لنفسِه، فيكونَ معنى الكلامِ كما قلناه، وقاله أهلُ التأويلِ الذين ذكَرنا قولَهم وخلافَ قولِه. أو
(3)
يكونَ إعراضًا منه ابتغاءَ رحمةٍ من اللهِ يرجُوها للسائلين الذين أُمِر نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بزعمِه أن يَمنَعَهم ما سألوه خشيةً عليهم من أن يُنْفِقوه في معاصى اللهِ، فمعلومٌ أن سَخَطَ اللَّهِ على مَن كان غيرَ مأمونٍ منه
(4)
صَرْفُ ما أُعْطِى من نفقةٍ ليتقوَّى
(5)
بها على طاعةِ اللهِ في معاصيه، أخوفُ من رجاءِ رحمتِه له، وذلك أن رحمةَ اللهِ إنما تُرْجَى لأهلِ طاعتِه، لا لأهلِ معاصيه، إلا أن
(1)
ذكره الطوسي في تفسيره 6/ 470 مختصرًا، وبآخره عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 178 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "المعنى".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أن".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فيه".
(5)
في ص: "لينفقوا"، وفى ت 1:"ليتقووا". وفى ف: "لينفق".
يكونَ أراد توجيهَ ذلك إلى أن نبيَّ اللهِ ما أُمر بمنعِهم ما سألوه، ليُنِيبُوا من معاصى الله، ويتوبوا بمنعه إياهم ما سألوه، فيكون ذلك وجها يَحْتَمِلُه (6) تأويلُ الآيةِ، وإن كان لقولِ أهلِ التأويلِ مُخالِفًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} .
وهذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ تعالى للمُمتنعِ من الإنفاقِ في الحقوقِ التي أوجَبها اللهُ في أموالِ ذوى الأموالِ، فجعَله [كالمَشدودةِ يدُه]
(1)
إلى عنقِه، الذي لا يَقْدِرُ على الأخذِ بها والإعطاءِ.
وإنما معنى الكلامِ: ولا تُمْسِك يا محمدُ يدَك بُخْلًا عن النفقةِ في حقوقِ اللَّهِ، فلا تُنْفِقُ فيها شيئًا إمساكَ المغلولةِ يدُه إلى عنقِه الذي لا يَستطِيعُ بسطَها، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}. يقولُ: ولا تَبْسُطْها بالعطيةِ كلَّ البسطِ، فتَبقَى لا شيءَ عندَك، ولا تَجِدُ، إذا سُئلت، شيئًا تُعْطِيه سائلَك، {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}. يقولُ: فتَقْعُدَ يلومُك
(2)
سائلوك إذا لم تُعْطِهم حينَ سأَلوك، وتلومُك نفسُك على الإسراعِ في مالكِ وذَهابِه، {مَحْسُورًا}. يقولُ: مُعْيًى
(3)
، قد انقُطِع بك، لا شيءَ عندَك لنفقةٍ.
وأصلُه - يُرى
(4)
- من قولهم للدابةِ التي قد سِير عليها حتى انقَطَع سيرُها وكلَّتْ ورَزَحتْ من السيرِ -: دابةٌ
(5)
حَسيرٌ. يقالُ منه: حسَرْتُ الدابةَ، فأنا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"كالمشدود".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ملومًا".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"معينا"، وفى، م، ف:"معيبا"، وأثبتنا ما يستقيم مع السياق بعده.
(4)
سقط من: م.
(5)
في م: "بأنه".
أَحْسِرُها [وأَحْسُرُها]
(1)
حَسْرًا. وذلك إذا أَنْضَيْتَه
(2)
بالسيرِ. وحَسَرْتُه بالمسألةِ؛ إذا سألتَه فألحفتَ. وحَسَرَ البصرُ فهو يَحْسِرُ، وذلك إذا بلَغ أقصى المَنظرِ فكَلَّ. ومنه [قولُه عز وجل] (1):{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]. وكذلك ذلك في كلِّ شيءٍ كَلَّ وأَزْحَف
(3)
حتى يُنْقَى
(4)
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا هوذةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} . قال: لا تجعَلْها مغلولةً عن النفقةِ، {وَلَا تَبْسُطْهَا}: تُبَذِّرُ، تُسْرِفْ
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يوسفُ بنُ بَهْزٍ، قال: ثنا حَوشبٌ، قال: كان الحسنُ إذا تلا هذه الآيةُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} . يقولُ: لا تُطَفِّف
(6)
برزقي عن غيرِ رِضاى، ولا تضعْه في سُخْطى فأسلُبَك ما في يديك، فتكونَ حسيرًا ليس في يديك منه شيءٌ.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
في ص، ت 1:"أنصبته".
(3)
أزحف: أعيا. ينظر اللسان (ز ح ف).
(4)
في م: "يضنى"، وفي ت 2:"بيعا"، وغير منقوطة في ت 1، ومنه حديث الأضحية:"الكسير التي لا تنقى". أي التي لا مخ لها، لضعفها وهزالها. النهاية 5/ 111.
(5)
في م: "بسرف".
(6)
في ت 1: "تضيف"، وفي ت 2، ف:"نظيف"، وكذا في ص ولكن من غير نقط.
الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}. يقولُ: هذا في النفقةِ، يقولُ:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} . يقولُ: لا تبسُطْها بخيرٍ
(1)
، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}: يعنى التبذيرَ، {فَتَقْعُدَ مَلُومًا}. يقولُ: يلومُ نفسَه على ما فات من مالِه، {مَحْسُورًا}. يعني: ذهَب مالُه كلُّه فهو محسورٌ
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} : يعنى بذلك البخلَ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} . أي: لا تُمْسِكْها عن طاعةِ اللهِ، ولا عن حقِّه، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}. يقولُ: لا تُنْفِقْها في معصيةِ اللهِ، و
(4)
فيما لا
(5)
يَصْلُحُ
(6)
، ولا يَنْبَغِى لك، وهو الإسرافُ. قولَه:{فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} . قال: ملومًا
(7)
في عبادِ اللهِ، محسورًا على ما سلَف من دهرِه وفرَط.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثَورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} . قال: في النفقةِ. يقولُ: لا تُمْسِكْ عن النفقةِ
(8)
، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}. يقولُ: لا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، {فَتَقْعُدَ مَلُومًا}
(1)
في م: "بالخير".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 178 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 178 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في م: "لا".
(5)
سقط من: م.
(6)
بعده في م، ف:"لك".
(7)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(8)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
في عبادِ اللهِ {مَحْسُورًا} . يقولُ: نادِمًا على ما فرَط منك
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: لا تُمْسِكْ عن النفقةِ فيما أمرتُك به من الحقِّ، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فيما نهيتُك، {فَتَقْعُدَ مَلُومًا}. قال: مُذنِبًا
(2)
، {مَحْسُورًا}. قال: مُنْقَطَعًا بك.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} . قال: مغلولةً لا تَبْسُطُها بخيرٍ ولا بعطيةٍ
(3)
، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}: في الحقِّ والباطلِ، فينفَدَ ما
(4)
في يديك، فيأتيك مَن يُرِيدُ أن تُعْطِيَه كما أعْطَيْتَ هؤلاء، فلا تجد ما تُعْطيه، فيَحْسِرُك
(5)
، فيلومُك حينَ أعطيتَ هؤلاء ولم تُعْطِهم.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)}
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك يا محمدُ يَبْسُطُ رزقَهُ لَمَن يَشَاءُ من عبادِه، فيُوسِّعُ عليه، ويقدرُ على من يشاءُ. يقولُ: ويُقَتِّرُ على مَن يَشَاءُ منهم، فيُضَيِّقُ عليه، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا}. يقولُ: إن ربَّك ذو خبرةٍ بعبادِه، ومَن الذي تُصْلِحُه السَّعَةُ في الرزقِ وتُفْسِدُه، ومَن الذي يُصْلِحُه الإقتارُ والضَّيقُ ويُهْلِكُه، {بَصِيرًا}. يقولُ: هو ذو بَصَرٍ بتدبيرِهم وسياستِهم. يقولُ: فانتهِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 377 عن معمر به.
(2)
في ت 1 ف: "مدينا"، وغير منقوطة في ص، ت 2.
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"تعطيه".
(4)
بعده في م: "ما معك و".
(5)
في م: "فيحسر بك".
يا محمدُ إلى أمرِنا فيما أمَرناك ونهيناك، من بسطِ يدِك فيما تَبْسُطُها فيه، وفي مَن تَبْسُطُها له، وفى
(1)
كفِّها عمَّن تَكُفُّها عنه، وتَكُفُّها فيه، فنحن أعلمُ بمصالح العبادِ منك ومن جميعِ الخلقِ، وأبصرُ بتدبيرِهم.
كالذي حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: ثم أخبَرنا تبارك وتعالى كيفَ يصْنَعُ، فقال:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} . قال: يَقْدِرْ: يُقلُّ، وكلُّ شيءٍ في القرآنِ "يَقْدِرُ" كذلك. قال: ثم أخبرَ عبادَه أنه لا يرزَؤُه ولا يئُوده أن لو بَسَط عليهم، ولكن نظرًا لهم منه، فقال:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]. قال: والعربُ إذا كان الخِصْبُ وبُسِط عليهم أَشِروا
(2)
، وقتَل بعضُهم بعضًا، وجاء الفسادُ، فإذا كان السَّنَةُ
(3)
شُغِلوا عن ذلك
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقَضَى ربُّك يا محمدُ ألَّا تعبُدوا إلا إياه، وبالوالِدَين إحسانًا، فموضعُ {تَقْتُلُوا} نَصْبٌ
(5)
عطفًا على {أَلَّا تَعْبُدُوا} .
ويعنى بقولِه: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} : خوفَ [افتِقارٍ ونقْصٍ]
(6)
.
(1)
في م: "من".
(2)
الأشر: النشاط للنعمة والفرح بها، ومقابلة النعمة بالتكبر والخيلاء، والفخر بها، وكفرانها بعدم شكرها. التاج (أ ش ر).
(3)
السنة: الجدب والقحط. التاج (س ن هـ).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 179 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"نصبًا".
(6)
في م: "إقتار وفقر".
وقد بيَّنا ذلك بشواهدِه فيما مضَى، وذكَرنا الروايةَ فيه
(1)
.
وإنما قال جلَّ ثناؤُه ذلك للعربِ؛ لأنهم كانوا يقتُلون الإناثُ من أولادِهم خوفَ العَيْلةِ على أنفسِهم بالإنفاقِ عليهن.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} . أي: خشيةَ الفاقةِ، و
(2)
كان أهلُ الجاهليةِ يقتُلون أولادَهم خشيةَ الفاقةِ، فوعَظهم اللهُ في ذلك، وأخبَرهم أن رزقَهم ورزقَ أولادِهم على اللهِ، فقال:{نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}
(3)
.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} . قال: كانوا يقتُلون البناتِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} . قال: الفاقةُ والفقرُ
(5)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} . يقولُ: الفقرُ
(6)
.
وأما قولُه: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} . فإن القَرأةَ اختلَفت في قراءتِه؛ فقرَأتْه عامةُ قَرَأَةِ أهلِ المدينةِ والعراقِ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}
(1)
تقدم في 9/ 658، 659.
(2)
بعده في م: "قد".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 179 إلى المصنف ابن أبي حاتم، وينظر ما تقدم في 9/ 658.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 377 عن معمر به.
(5)
تفسير مجاهد ص 436.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 179 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
بكسر الخاءِ من الخَطْأِ وسكونِ الطاءِ
(1)
. وإذا قُرِئ ذلك كذلك، كان له وجهان من التأويلِ؛ أحدُهما: أن يكونَ اسمًا من قول القائلِ: خَطِئتُ فأنا فأنا أَخْطَأُ خَطْأً
(2)
، بمعنى: أذنبتُ وأثِمْتُ، ويُحكى عن العرب: خَطِئتُ: إذا أذنبتَ عمدًا، وأخطأتُ: إذا وقَع منك الذنب
(3)
على غيرِ عمدٍ منك له. والثاني: أن يكونَ بمعنى "خَطَأ" بفتحِ الخاءِ والطاءِ، ثم كُسِرت الخاء وسُكِّنت الطاءُ، كما قيل: قِتْبٌ وقَتَبٌ، وحِذْرٌ وحَذَرٌ، ونِجْسٌ ونَجَسٌ
(4)
. والخِطْءُ بالكسرِ اسمٌ، والخَطَأُ بفتح الخاءِ والطاءِ مصدرٌ من قولِهم: خَطِئ الرجلُ. وقد يكونُ اسمًا من قولِهم: أَخْطَأَ. فأما المصدرُ منه فالإخطاءُ. وقد قيل: خَطِئ. بمعنى أخطَأ، كما قال الشاعرُ
(5)
:
يا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كاهِلا
(6)
بمعنى: أخطَأنَ.
وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ أهل المدينة: (إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَأً) بفتح الحَاءِ والطاءِ مقصورًا
(7)
على توجيهِه إلى أنه اسمٌ، من قولِهم: أخطَأ فلانٌ خَطَأً.
وقرَأه بعضُ قرأةِ أهلِ مكةَ: (إنَّ قَتَلَهُمْ كان خَطَاءً) بفتحِ الخاءِ والطاءِ ومدِّ الخَطَاءِ، بنحوِ معنى مَن قرَأه خَطَأً بفتحِ الخاءِ والطاءِ، غيرَ أنه يُخالِفُه في مدِّ
(1)
وهى قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة ص 380، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 45.
(2)
في ص، ت 1، ف:"أخطئ خطأ"، وفي ت 2:"خطئ خطأ".
(3)
بعده في م: "خطأ".
(4)
ينظر معاني القرآن 2/ 123.
(5)
هو امرؤ القيس، والرجز في ديوانه ص 134.
(6)
في ص، ت 1، ت:2 "وايلا"، وفى ف:"وابلا".
(7)
وهى قراءة أبي جعفر وابن عامر في رواية ابن ذكوان. النشر 2/ 230، والإتحاف ص 172.
الحرفِ
(1)
.
وكان عامةُ
(2)
أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ من أهلِ الكوفة وبعضِ البصريين منهم يرَوْن أن الخِطْءَ والخَطَأَ بمعنًى واحدٍ، إلا أن بعضَهم زعَم أن الخِطْءَ بكسرِ الخاءِ وسكونِ الطاءِ في القراءةِ أكثرُ، وأن الخَطَأَ بفتحِ الخاءِ والطاءِ في كلامِ الناسِ أفشَى
(3)
، وأنه لم يُسْمَعِ الخِطْءُ بكسرِ الخاءِ وسكونِ الطاءِ في شيءٍ من كلامِهم وأشعارِهم، إلا في بيتٍ أنشَده لبعضِ الشعراءِ
(4)
:
الخطْءُ فاحِشَةٌ والبِرُّ نافِلَةٌ
(5)
…
كعَجْوَةٍ غُرِسَتْ فِي الْأَرْضِ تُؤْتَبَرُ
(6)
وقد ذكَرتُ الفرقَ بيَن الخِطْءِ بكسرِ الخاءِ وسكون الطاءِ وفتحِهما.
وأولى القراءاتِ في ذلك عندَنا بالصوابِ القراءةُ التي عليها قرَأةُ أهل العراقِ وعامةُ أهلِ الحجازِ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرَأةِ عليها، وشذوذِ ما عداها
(7)
. وإن معنى ذلك: كان إثمًا وخطيئةً، لا خَطَأً من الفعلِ؛ لأنهم إنما كانوا يقتلونهم عمدًا لا خطَأً، وعلى عمدِهم ذلك عاتَبهم ربُّهم، وتقدَّم إليهم بالنهى عنه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
(1)
وكذا بالنسخ هي قراءة الحسن، وانظر المحتسب 2/ 19، 20، والبحر المحيط 6/ 32، فلعله خطأ تتابعت عليه النسخ، فقراءة أهل مكة بكسر الخاء وفتح الطاء والملد، وهى قراءة ابن كثير، وانظر النشر 2/ 230، والسبعة ص 380، والكشف عن وجوه القراءات، 2/ 45، والإتحاف ص 172.
(2)
بعده في ص، ت 1، ف:"قرأة".
(3)
ينظر الكشف عن وجوه القراءات 2/ 45، 46.
(4)
البيت غير منسوب إلى قائل وانظره في التبيان للطوسي 6/ 473.
(5)
في التبيان: "فاضلة".
(6)
أبَرَ النخل والزرع يأبُره ويأبِره أصلحه. تاج العروس (أ ب ر).
(7)
ما عداها مما ذكره المصنف هو قراءة متواترة سوى قراءة الحسن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{خِطْئًا كَبِيرًا} . قال
(1)
: خطيئةً
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} . قال: خطيئةً.
قال ابن جريجٍ: وقال ابن عباسٍ: {خِطْئًا} : خطيئةً
(3)
.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقضَى أيضًا ألَّا تَقْرَبُوا أيها الناسُ الزنى {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} . [يقولُ: إن الزِّنى كان فاحشةً]
(4)
، {وَسَاءَ سَبِيلًا}. يقولُ: وساءَ طريقُ الزِّنى طريقًا؛ لأنه طريق أهلِ معصيةِ اللهِ، [والمخالفينِ]
(5)
أمرَه، فأَسْوِئ به طريقًا يُورِدُ صاحبَه نارَ جَهَنَّمَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} .
(1)
بعده في م: "أي".
(2)
تفسير مجاهد ص 436، من طريقه ورقاء به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 179 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"المخالفين".
يقولُ جلَّ ثناؤُه: وقضَى أيضًا ألَّا تقتُلوا، أيُّها الناسُ، النفسَ التي حرَّم اللهُ قتلَها إلا بالحقِّ. وحقُّها أن لا تُقتَلَ إلا بكفرٍ بعد إسلامٍ، أو زنًى بعد إحصانٍ، أو قودٍ بنفس؛ وإن كانت كافرةً لم يتقدَّمْ كفرَها إسلامٌ، فأن لا يكونَ تقدَّم قَتْلَها لها عهدٌ وأمانٌ.
كما حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} : وإنا والله ما نعلَمُ يَحِلُّ
(1)
دمُ امرِئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ؛ إلا رجلًا قتل متعمِّدًا فعليه القَوَدُ، أو زَنَى بعد إحصانِه فعليه الرجمُ، أو كفَر بعد إسلامِه فعليه القتلُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، عن الزهريِّ، عن عروةَ - [أو غيره]
(2)
قال: قيل لأبي بكرٍ: أتَقتُلُ مَن يرَى ألَّا يُؤَدَّيَ الزكاةَ؟! قال: لو منَعونى شيئًا مما أَقَرُّوا به لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لقاتَلْتُم. فقيل لأبي بكرٍ: أليس قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرتُ أن أُقاتِل الناسَ حتى يَقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ. فإذا قالوها عصَموا منى دماءَهم [وأموالهم]
(3)
إلا بحقِّها، وحسابُهم على اللَّهِ"؟ فقال أبو بكرٍ: هذا من حقِّها
(4)
.
حدَّثني موسى بنُ سهلٍ، قال: ثنا عمرُو بن هاشمٍ، قال: ثنا سليمانُ بنُ حيانَ عن حميدٍ الطويلِ، عن أنسِ بن مالكٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أُقاتِل الناسَ حتى يَقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ. فإذا قالوها عصَموا منى دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحسابُهم على اللهِ". قيل: وما حقُّها؟ قال: "زنًى بعد إحصانٍ، وكفْرٌ
(1)
في م: "بحل".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
أخرجه العدنى في الإيمان 1/ 87 (21) من طريق سفيان عن الزهرى قيل لأبي بكر - الحديث، وينظر السلسلة الصحيحة (407).
بعدَ إيمانٍ، وقتْلُ نفس فيُقْتَلُ بها"
(1)
.
وقولُه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} . يقولُ: ومَن قُتِل بغيرِ المعاني التي ذكَرنا أنه إذا قُتِل بها كان قَتْلًا بحقٍّ، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}. يقولُ: فقد جعَلنا لوليِّ المقتولِ ظُلْمًا سلطانًا على قاتلِ وليِّه، فإن شاء استَقاد منه فقَتَله بوليِّه، وإن شاء عفَا عنه، وإن شاء أخَذ الدِّيَةَ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى السلطانِ الذي جُعِل لوليِّ المقتولِ؛ فقال بعضُهم في ذلك نحوَ الذي قُلْنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . قال: بيِّنةً من اللهِ عز وجل أَنزَلها، يَطْلُبُها وليُّ المقتولِ؛ العَقْلَ
(2)
أو القَوَدَ، وذلك السلطانُ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ بن مُزاحِمٍ في قولِه:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . قال: إن شاء عفَا، وإن شاء أخَذ الدِّية
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط (3221) من طريق عمرو بن هاشم به، وقال الطبراني: لم يرو هذا اللفظ الذي في آخر الحديث عن حميد إلا أبو خالد الأحمر، تفرد به عمرو بن هاشم. وأصل الحديث عند البخارى وأبى داود والنسائى والترمذى وأحمد. انظر المسند الجامع 1/ 190، 191.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بالقتل".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 181 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 91، والقرطبي في تفسيره 10/ 255.
وقال آخرون: بل ذلك السلطانُ هو القتلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} : وهو القَوَدُ الذي جعَله اللهُ تعالى
(1)
.
وأولى التأويلين بالصوابِ في ذلك تأويلُ مَن تأوَّل ذلك: أن السلطانَ الذي ذكَر اللهُ تعالى في هذا الموضعِ ما قاله ابن عباسٍ، من أن لوليِّ القتيلِ القتلَ إن شاء، وإن شاء أخَذ الديةَ، وإن شاء العفوَ؛ لصحةِ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال يومَ فتحِ مكةَ:"ألا ومَن قُتِل له قتيلٌ فهو بخيرِ النَّظَرَيْن؛ بين أن يَقتُلَ أو يَأخُذَ الدية"
(2)
. وقد بيَّنا الحكمَ في ذلك في كتابِنا "كتابِ الجِراحِ".
وقولُه: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} . اختلَفتِ القرَأَةُ في قراءةِ ذلك، فقرَأتْه عامةُ قرأةِ الكوفةِ:(فَلا تُسْرِفْ) بمعنى الخطابِ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
، والمرادُ به هو والأئمةُ مِن بعدِه. يقولُ: فلا تَقْتُلْ بالمقتولِ ظُلْمًا غيرَ قاتلِه، وذلك أن أهلَ الجاهليةِ كانوا يفعَلون ذلك؛ إذا قتَل رجلٌ رجلًا عمَد وليُّ القتيلِ إلى الشَّريفِ من قبيلةِ القاتلِ فقتَله بوليِّه وترَك القاتلِ، فنهَى اللهُ عز وجل عن ذلك عبادَه، وقال لرسولِه عليه الصلاة والسلام: قتلُ غيرِ القاتلِ بالمقتولِ معصيةٌ وسَرَفٌ، فلا تَقْتُلْ به غيرَ قاتلِه، وإن قتَلتَ القاتلَ بالمقتولِ فلا تُمَثِّلْ به. وقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ: {فَلَا
(1)
ذكره الثعالبي في تفسيره 2/ 340.
(2)
أخرجه البخارى (2434، 6880)، ومسلم (1355/ 447، 448)، والترمذى (1405)، والنسائي (4799، 4800) من حديث أبي هريرة.
(3)
وهى قراءة حمزة والكسائي. الكشف عن وجوه القراءات 2/ 46، والحجة ص 402، والتيسير في القراءات ص 114.
يُسْرِفْ} بالياءِ
(1)
، بمعنى: فلا يُسْرِفْ وليُّ المقتولِ فيَقْتُلَ غيرَ قاتلِ وليِّه. وقد كم قيل: عنَى به: فلا يُسْرِفِ القاتلُ الأولُ، لا وليُّ المقتولِ.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أن يقالَ: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى؛ وذلك أن خطابَ اللهِ تبارك وتعالى نبيِّه صلى الله عليه وسلم بأمرٍ أو نهيٍ في أحكامِ الدينِ، قضاءٌ منه بذلك على جميعِ عبادِه، وكذلك أمرُه ونهيُه بعضَهم أمرٌ منه ونهيُ جميعِهم، إلا فيما دلَّ فيه على أنه مخصوصٌ به بعضٌ دونَ بعضٍ، فإذا كان ذلك كذلك بما قد بيَّنا في كتابِنا كتابِ "البيانِ عن أصولِ الأحكامِ"، فمعلومٌ أن خطابَه تعالى بقولِه: (فَلا تُسْرِف
(2)
في القَتْلِ) نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وإن كان موجَّهًا إليه أنه معنيٌّ به جميعُ عبادِه، فكذلك نهيُه وليَّ المقتولِ أو القاتلَ عن الإسرافِ في القتلِ والتعدِّى فيه، نهىٌ لجميعِهم. فبأيِّ ذلك قرَأ القارئُ فمصيبٌ صوابَ القراءةِ في ذلك.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِهم ذلك نحوَ اختلافِ القرَأةِ في قراءتِهم إيَّاه.
ذكرُ مَن تأوَّل
(3)
ذلك بمعنى الخطابِ لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم
-
حدَّثنا ابن بشار
(4)
، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن طَلْقٍ بن حَبيبٍ في قولِه: {فَلَا يُسْرِفْ
(5)
فِي الْقَتْلِ}. قال: لا تَقْتلْ
(6)
غيرَ قاتلِهِ، ولا
(1)
وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. وينظر المصادر السابقة.
(2)
في ص، ت 1، ت، 2، ف:"يسرف".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(4)
في ص، ت 1 ت:"بشر".
(5)
في م: "تسرف".
(6)
في ت 1، وت 2:"يقتل".
تُمثِّلْ
(1)
به
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن طَلْقٍ بن حَبيبٍ بنحوِه.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن حُصَيْفٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} . قال: لا تَقْتلِ اثنيْن بواحدٍ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} قال
(4)
: كان هذا بمكةَ ونبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو أولُ شيءٍ نزَل من القرآنِ في شأنِ القتلِ. كان المشركون [من أهلِ مكةِ]
(5)
يَغتالون أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال اللهُ تبارك وتعالى: مَن قتَلكم من المشركين، فلا يَحْمِلنَّكم قَتْلُه إياكم على أن تَقْتُلوا له أبًا أو أخًا أو أحدًا من عشيرتِه وإن كانوا مشركين، فلا تَقْتُلوا إلا قاتِلكم. وهذا قبلَ أن تَنزِل "براءةُ"، وقبلَ أن يُؤمَروا بقتالِ المشركين، فذلك قولُه:{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} . يقولُ: لا تَقتُلْ غير قاتلِك، وهى اليومَ على ذلك الموضعِ من المسلمين، لا يَحِلُّ لهم أن يَقتُلوا إلا قاتلَهم
(6)
.
(1)
في ت 1، ت 2:"يمثل".
(2)
تفسير سفيان ص 173، وأخرجه البيهقى 8/ 25 من طريق عبد الرحمن بن مهدى به، وابن أبي شيبة 9/ 423 من طريق منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 181 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 377 بنحوه، وتفسير الثورى ص 173 وأخرجه ابن أبي شيبة 9/ 423، والبيهقى 8/ 25 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 181 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: م.
(5)
سقط من: م.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 180، 181 إلى المصنف وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال: عُنى به وليُّ المقتولِ
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: ثنا أبو رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . قال: كان الرجلُ يُقتل فيقولُ وليُّه: لا أرضَى حتى أقتُلَ به فلانًا وفلانًا من أشرافِ قبيلتِه
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} . قال: لا تَقتُلْ غيرَ قاتلِك، ولا تُمثِّلْ به
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} . [قال: لا]
(3)
يَقتُلْ غيرَ قاتلِه؛ مَن قَتَل بحديدةٍ قُتل بحديدةٍ، ومَن قَتَل بخَشَبةٍ قُتِل بخشبةٍ، ومن قتَل بحَجَرٍ قُتِل بحجرٍ. ذُكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "إن من أعتَى الناسِ على اللهِ جلَّ ثناؤُه ثلاثةً؛ رجلٌ قتَل غيرَ قاتلِه، أو قتَل بذَحْلِ
(4)
الجاهليةِ، أو قتَل في حرمِ الله"
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال
(6)
: سمِعتُه - يعنى ابنَ زيدٍ - يقولُ في قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . قال: إن
(1)
ذكره ابن الجوزى في زاد المسير 5/ 33.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 377 عن معمر به
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فلا".
(4)
في م: "بدخن". والذحل: الثأر، أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أتيت إليك، أو هو العداوة والحقد. القاموس المحيط (ذ ح ل).
(5)
عزا قول قتادة السيوطي في الدر المنثور 4/ 181 إلى المصنف وابن أبي حاتم، والجزء المرفوع أخرجه أحمد (6681) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بنحوه، كما أخرجه في (16376، 16378) والبيهقى في 8/ 26، من حديث أبي شريح الخزاعي بنحوه.
(6)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
العربَ كانت إذا قُتِل منهم قتيلٌ، لم يَرْضَوْا أن يَقتُلوا قاتلَ صاحبِهم حتى يَقتُلوا أشرفَ مِن الذي قتَله، فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . يَنصُرُه ويَنْتَصِفُ مِن حقِّه، {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}: يَقْتُلْ بريئًا
(1)
.
ذكرُ مَن قال: عُنِي به القاتل
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عبدِ اللهِ [بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ]
(2)
: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} . قال: لا يُسْرِفِ القاتلُ في القتلِ
(3)
.
وقد ذكَرنا الصوابَ من القراءةِ في ذلك عندَنا، وإنْ
(4)
كان كِلَا وَجْهى القراءةِ عندَنا صوابًا، فكذلك جميعُ أوجهِ تأويلِه التي ذكَرناها غيرُ خارجٍ وجهٌ منها من الصوابِ؛ لاحتمالِ الكلامِ ذلك، وإِنَّ في نهيِ اللهِ جلَّ ثناؤُه بعضَ خلقِه عن الإسرافِ في القتلِ، نهيًا منه جميعَهم عنه.
وأما قولُه: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} . فإن أهلَ التأويلِ اختلَفوا في مَن عُنى بالهاءِ التي في قولِه: {إِنَّهُ} . وعلامَ هي عائدةٌ، فقال بعضُهم: هي عائدةٌ على وليِّ المقتولِ، وهو المعنيُّ بها، وهو المنصورُ على القاتلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: {إِنَّهُ
(1)
أخرجه البيهقى 8/ 25 بنحوه.
(2)
سقط من ص، ت 1، ت 2، ف. وانظر تهذيب الكمال 15/ 468.
(3)
تفسير سفيان ص 172 بمعناه، وذكره القرطبي في تفسيره 10/ 255، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 181 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"إذ"، وفى م:"وإذا".
كَانَ مَنْصُورًا}. قال: هو دفعُ الإمامِ إليه - يعنى إلى الوليِّ - فإن شاء قتَل، وإن شاء عفا.
وقال آخرون: بل عُنى بها المقتولُ. فعلى هذا القولِ هي عائدةٌ على "مَن" في قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عبدِ اللهِ بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} : إن المقتولَ كان منصورًا
(1)
.
وقال آخرون: عُنى بها دمُ المقتولِ. وقالوا: معنى الكلامِ: إن دمَ القتيلِ كان منصورًا على القاتل.
وأشبهُ ذلك بالصوابِ عندى قولُ مَن قال: عُنِى بها
(2)
الوليُّ وعليه عادَتْ؛ لأنه هو المظلومُ ووليُّه المقتولِ، وهى إلى ذكرِه أقربُ
(3)
من ذكرِ المقتولِ، وهو المنصورُ أيضًا؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه قضَى في كتابه المنَزَّلِ، أن سلَّطه على قاتلِ وليِّه، وحكَّمَه فيه؛ بأن جعَل إليه قتلَه إن شاء، واستبقاءَه على الديةِ إن أحبَّ، والعفوَ عنه إن رأَى، وكفَى بذلك نُصرةً [له من اللهِ]
(4)
، فلذلك قلنا: هو المعنيُّ بالهاءِ التي في قولِه: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} .
(1)
تقدم تخريجه الصفحة السابقة.
(2)
في ص، ت 1 ت 2، ف:"به".
(3)
في ص، ت 2، ت 2، ف:"أصوب".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"لدين الله".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقضَى أيضًا أن لا تقرَبُوا مالَ اليتيمِ بأكلٍ، إسرافًا وبدَارًا أن يَكْبَروا، ولكن اقرَبُوه بالفَعْلةِ التي هي أحسنُ، والخَلَّةِ التي هي أجملُ، وذلك أن تَتَصَرَّفوا فيه له بالتثميرِ والإصلاحِ والحَيْطةِ.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : لمَّا نزَلت هذه الآيةُ، اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يُخالِطُونهم في طعامٍ أو أكلٍ ولا غيرِه، فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. فكانت هذه لهم فيها رُخصةً
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: كانوا لا يُخالِطُونهم في مالٍ ولا مأكلٍ ولا مَرْكَبٍ، حتى نزَلت:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
(2)
.
وقال ابن زيدٍ في ذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: الأكلُ بالمعروفِ، أن تأكُلَ معه إذا احْتَجتَ إليه. كان أَبيٌّ يقولُ ذلك.
وقولُه: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . يقولُ: حتى يَبْلُغَ وقت اشتدادِه في العقلِ، وتدبيرِ مالِه، وصلاحِ حالِه في دينِه. {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}. يقولُ: وأَوْفُوا بالعَقدِ
(1)
تقدم تخريجه في 3/ 700، كما عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 181 إلى المصنف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 89، 377، 378 عن معمر به.
الذي تُعاقِدُون الناسَ في الصلحِ بينَ أهلِ الحربِ والإسلامِ، وفيما بينَكم أيضًا، والبيوعِ والأشربةِ والإجاراتِ، وغيرِ ذلك العقودِ؛ {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} يقولُ: إن الله سائلٌ ناقضَ العهدِ عن نقضِه إيَّاه. يقولُ: فلا تَنْقُضُوا العهودَ الجائزةَ بينَكم وبينَ من عاهَدْتُموه أيها الناسُ فَتَخْفِرُوه، وتَغْدِرُوا بَمَن أعطيتُموه ذلك. وإنما عنَى بذلك أن العهدَ كان مطلوبًا؛ يقال في الكلامِ: ليُسْتَلَنَّ فلانٌ عهدَ فلانٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقضَى أن أوفوا الكيلَ للناسِ إذا كلتم لهم حقوقَهم قِبَلَكم، ولا تبخَشُوهم، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [يقولُ: وقضَى أَن زِنُوا أيضًا إذا وزَنتُم لهم بالميزانِ المستقيمِ]
(1)
؛ وهو العدلُ الذي لا اعوجاجَ فيه، ولا دَغَلَ
(2)
، ولا خديعةَ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى القسطاسِ؛ فقال بعضُهم: هو القَبَّانُ
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا صفوانُ بنُ عيسى، قال: ثنا الحسنُ بنُ ذكوانَ، عن الحسنِ:{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} . قال: القَبَّانُ
(4)
.
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(2)
الدخل: دَخَلٌ في الأمر مفسد. تاج العروس (د غ ل).
(3)
القبّان: الميزان ذو الذراع الطويلة المقسَّمة أقسامًا، ينقل عليها جسم ثقيل يسمى الرُّمانة لتعيِّن وزنَ ما يوزن. الوسيط (ق ب ن).
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 92، والثعالبي في تفسيره 2/ 341.
وقال آخرون: هو العدلُ بالروميةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: القِسطاسُ: العدلُ بالروميةِ
(1)
.
وقال آخرون: هو الميزانُ صَغُر أو كَبُر.
وفيه لغتان: القِسطاسُ بكسر القافِ، والقُسطاسُ بضمِّها، مثل القِرطاسِ والقُرطاسِ. وبالكسرِ يقرَأُ عامةُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ، وبالضمِّ يقرأُ عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ، وقد قرَأ به أيضًا بعضُ قرأةِ الكوفيين
(2)
، وبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ؛ لأنهما لغتان مشهورتان، وقراءتان مستفيضتان في قرَأةِ الأمصارِ.
وقولُه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} . يقولُ: إيفاؤُكم أيها الناسُ مَن تكِيلون له الكيلَ، ووزنُكم بالعدلِ لمَن تُوفون
(3)
له خيرٌ لكم من بَخْسِكم إيَّاهم ذلك، وظُلمِكموهم فيه.
وقولُه: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . يقولُ: وأحسنُ مَرْدُودًا عليكم، وأولى إليه فيه فِعْلُكم ذلك؛ لأن اللهُ تبارك وتعالى يَرْضَى بذلك عليكم، فيُحْسِنُ لكم عليه الجزاءَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 436، وتفسير سفيان ص 173، عن جابر عن مجاهدٍ، ومن طريق سفيان أخرجه ابن أبي شيبة في 10/ 471، 472، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى الفريابي وعبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وينظر تغليق التعليق 5/ 382، 383.
(2)
القراءة بكسر القاف هي قراءة عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي، والقراءة بضم القاف هي قراءة، نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر شعبة. السبعة ص 380، والتيسير ص 114.
(3)
في ت 1: " توزنون"، وفي ت 2:"توتون".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قوله:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: خيرٌ ثوابًا وعاقبةٌ. وأُخْبِرْنَا أن
(1)
ابن عباسٍ كان يقولُ: يا معشرَ الموالى، إنكم وَلِيتُم أمرين
(2)
بهما هلَك الناسُ قبلكم؛ هذا المكيالَ، وهذا الميزانَ. قال: وذكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "لا يَقدِرُ رجلٌ على حرامٍ ثم يَدَعُه، ليس به إلا مخافةُ اللهِ، إلا أبدَله اللهُ في عاجلِ الدنيا قبلَ الآخرةِ ما هو خيرٌ له من ذلك"
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . قال: عاقبةً وثوابًا
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: ولا تَقُلْ ما ليس لك به علمٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ بن داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . يقولُ: لا تَقُلْ
(5)
.
(1)
سقط من: ت 2، ف.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"قبلكم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 378 عن معمر به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم، كما في تعليق التعليق 4/ 242، من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في =
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} : لا تَقُلْ: رأيتُ
(1)
ولم تَرَ
(2)
، و: سمِعتُ ولم تَسمَعْ؛ فإن الله سائلُك عن ذلك كلِّه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . قال: لا تَقُلْ: رأيتُ ولم تَرَ، و: سمِعتُ ولم تَسمعْ، و: علمتُ ولم تَعْلَمْ
(4)
.
حُدِّثتُ عن محمدِ بن ربيعةَ، عن إسماعيلَ الأزرقِ، عن أبي عمرِ البزَّارِ، عن ابن الحَنَفِيَّةِ، قال: شهادةُ الزورِ
(5)
.
وقال آخرون: بل معناه: ولا تَرْمِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . يقولُ: لا تَرْمِ أحدًا بما ليس لك به علمٌ
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثنى
= الدر المنثور 4/ 182 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"رأيته".
(2)
في ص، ت 1 ت 2، ف:"تره".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 387 عن معمر به، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 92.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 258 من طريق إسماعيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى المصنف.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَقْفُ} : ولا تَرْمِ
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وهذان التأويلان متقاربا المعنى؛ لأن القولَ بما لا يَعلَمُه القائلُ يدخُلُ فيه شهادةُ الزورِ، ورمىُ الناسِ بالباطلِ، وادعاءُ سماعِ ما لم يَسْمَعْه ورؤيةِ ما لم يَرَهُ. وأَصلُ القَفْوِ: العَضَهُ والبَهْتُ. ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "نحن بنو النضرِ بن كنانةَ لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا نَنْتَفى من أَبِينا"
(2)
. وكان بعضُ البصريين يُنْشِدُ في ذلك بيتًا
(3)
.
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ العَرَانِينِ
(4)
ساكنٌ
…
بهِنَّ الحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا
يعنى بالتقافي: التقاذفُ.
ويُزعم أن معنى قولِه: {وَلَا تَقْفُ} : لا تَتَّبعْ ما لا تعلَمُ ولا يَعْنِيك. وكان بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ الكوفةِ يَزْعُمُ أن أصلَه القيافةُ، وهى اتِّباعُ الأثرِ
(5)
، وإذ
(6)
كان كما ذكَروا وجَب أن تكونَ القراءةُ: (وَلا تَقُفْ)
(7)
بضمِّ القافِ وسكونِ
(1)
تفسير مجاهد ص 436.
(2)
أخرجه أحمد 5/ 211، 212 (ميمنية)، وابن ماجه (2612) من حديث الأشعث بن قيس.
(3)
هو النابغة الجعدى. والبيت في ديوانه (المجموع) ص 180.
(4)
العرانين: جمع عِرنين؛ وهو أول الأنف حيث يكون فيه الشمم. ويقال: هم شم العرنين: أعزة أباة.
لسان العرب والوسيط (ع ر ن).
(5)
معاني القرآن 2/ 124.
(6)
في ص، ت،1، ت 2 ف:"إذا".
(7)
هي قراءة معاذ القارئ البحر المحيط 6/ 36.
الفاءِ، مثل: ولا تَقُلْ. قال: والعربُ تقولُ: قفوتُ أَثَرَه، وقُفْتُ
(1)
أَثَرَه. فتُقَدِّمُ أحيانًا الواوَ على الفاءِ
(2)
، وتُؤَخِّرُها أحيانًا بعدَها، كما قيل: قاعَ الجملُ الناقةَ - إذا ركبها - وقَعَا. وعاث وعَثى. وأنشَد سماعًا من العربِ
(3)
:
ولَوْ أنى [رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍ]
(4)
…
لعاقَكَ مِنْ دُعاءِ الذِّئْبِ
(5)
عاقِى
(6)
يعني: عائقٌ. ونظائرُ هذا كثيرةٌ في كلامِ العربِ.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: لا تَقُلْ للناسِ وفيهم ما لا علمَ لك به، فتَرْمِيهم بالباطلِ، وتَشْهَدَ عليهم بغيرِ الحقِّ، فذلك هو القَفْوُ. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوالِ فيه بالصوابِ؛ لأن ذلك هو الغالبُ من استعمالِ العربِ القفوَ فيه.
وأما قولُه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . فإن معناه: إن اللَّهَ سائلٌ هذه الأعضاءَ عما قال صاحبُها؛ من أنه سمِع أو أبصَر أو علِم، تَشْهَدُ عليه جوارحُه عند ذلك بالحقِّ.
وقال: {أُولَئِكَ} . ولم يَقُلْ
(7)
: "تلك". كما قال الشاعرُ
(8)
:
ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى
…
والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأَيَّامِ
(9)
(1)
في ص، ت 1، ف:"قفيت"، وفي ت 2:"قفوت".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"القاف".
(3)
البيت في معاني القرآن 2/ 124، ولسان العرب (و ى ب، ع ن ق، ع و ق، ع ق ا).
(4)
في معاني القرآن: "رأيتك من بعيد".
(5)
في معاني القرآن: "النيب".
(6)
في النسخ: "عاق". والمثبت من معاني القرآن ليستقيم الاستشهاد بالبيت.
(7)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"كل".
(8)
هو جرير، والبيت في شرح ديوانه ص 551.
(9)
في شرح الديوان: "الأقوام". وهو ما يشعر بعكس مراد المصنف في الاستشهاد بالبيت، وقد جاء البيت على الصواب في المقتضب 1/ 185، وشرح شواهد شرح الشافية للبغدادي 4/ 167. يقول: قال العيني: =
وإنما قيل: أولئك؛ لأن "أولئك" و "هؤلاء" للجمعِ القليلِ الذي يَقعُ للتذكيرِ والتأنيثِ، و "هذه" و "تلك" للجمع الكثير، فالتذكير للقليل [من [بابِ إن]
(1)
]
(2)
كان
(3)
التذكيرُ في الأسماءِ قبلَ التأنيثِ
(4)
[لك التذكيرُ للجمع الأوَّلِ]
(5)
، والتأنيتُ للجمعِ الثاني، وهو الجمعُ الكثيرُ؛ لأن العربَ تجعَلُ الجمع على مثالِ الأسماءِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تمشِ في الأرضَ مُخْتَالًا مُسْتَكْبِرًا، {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. يقولُ: إنك لن تَقطَعَ الأرضَ باخْتيالِك، كما قال رُؤْبة
(6)
:
* وقاتِمِ
(7)
الأعماقِ خاوِى المُخْتَرَقْ *
يعنى بالمُخْتَرَقِ: المُقَطَّعُ.
{وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . [يقولُ: ولن تساوىَ الجبالَ طُولًا]
(8)
بفخرِك
= ويروى "الأقوام" بدل "الأيام"، وحينئذ لا شاهد فيه، وزعم ابن عطية أن هذه الرواية هي الصواب وأن الطبري غلط إذ أنشد "الأيام"، وأن الزجاج تبعه في هذا الغلط.
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
بياض في: ت 2، وطمس بقدر سبع كلمات في: ف.
(3)
في ت 1: "و".
(4)
بعده في ف جملة غير واضحة حتى قوله: "لك التذكير
…
".
(5)
سقط من: ت 1 ف. وفي ص، ت 2:"والتأنيث".
(6)
هو صدر بيت عجزه:
* مُشتبه الأعلامِ لمّاع الخَفَقْ *
وهو في ديوانه في مجموعة أشعار العرب ص 104، وينظر الشعر والشعراء 1/ 61.
(7)
في ت 1، ف:"قائم"، وفي ت:"قام".
(8)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
وكِبْرِك. وإنما هذا نهيٌ من اللَّهِ عبادَه عن الكِبْرِ والفخرِ والخُيَلاءِ، وتَقدَّم منه إليهم فيه معرِّفُهم بذلك أنهم لا يَنالُون بكبرِهم وفِخَارِهم شيئًا يَقْصُرُ عنه غيرُهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . يعنى: بكِبْرِك ومرَحِك.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . قال: لا تَمْشِ في الأرضِ فَخْرًا وَكِبْرًا، فإِن ذلك لا يَبْلُغُ بك الجبالَ، ولا تَخْرِقِ الأَرضَ بكِبْرِك وفَخْرِك
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . قال: لا تَفْخَرُ.
وقيل: ولا تمش مرحًا. ولم يقل: مَرِحًا؛ لأنه لم يُرِدْ بالكلام: لا تَكُنْ مرِحًا. فيَجعَلَه من نعتِ الماشِي، وإنما أُرِيدَ: لا تَمْرَحْ فِي الأَرضِ مَرَحًا، ففسَّر بالمَرَحِ
(2)
المعنى المرادَ من قولِه: {وَلَا تَمْشِ} ، كما قال الراجزُ
(3)
:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 378 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(3)
هو رؤبة بن العجاج وهو من الزيادات على ديوانه. مجموعة أشعار العرب ص 172.
يُعْجِبُهُ السَّخُونُ
(1)
والعَصِيدُ
(2)
…
والتَّمْرُ حُبًّا ما لَهُ مَزيدُ
فقال: حُبًّا؛ لأن في قولِه: يُعْجِبُه. معنى يُحِبُّ. فأخرج قوله: حُبًّا. من معناه دونَ لفظِه.
وقولُه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . فإن القرأةَ اختلَفت فيه، فقرَأه بعضُ قرَأةِ المدينةِ وعامةُ قرأةِ الكوفةِ:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} على الإضافةِ
(3)
بمعنى: كلُّ هذا الذي ذكَرنا من هذه الأمورِ التي عدَّدْنَا من مُبْتدأِ قولِنا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . إلى قولنا: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . {كَانَ سَيِّئُهُ} . يقولُ: سيئُ ما عدَّدْنا عليك عندَ ربِّك مكروهًا. وقال قارئو هذه القراءةِ: إنما قيل: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} بالإضافة؛ لأن فيما عدَّدْنا من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . أمورًا، هي أمرٌ بالجميل، كقوله:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . وقولُه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} . وما أشبَه ذلك. قالوا: فليس كلُّ ما فيه نهيًا عن سيئةٍ، بل فيه نهىٌ عن سيئةٍ، وأمرٌ بحسناتٍ، فلذلك قرَأنا:{سَيِّئُهُ} .
وقرأ عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ: (كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً)
(4)
. وقالوا: إنما عَنى بذلك: كلُّ ما عدَّدْنا من قولِنا: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} . ولم يَدخُل فيه ما قبلَ ذلك. قالوا: وكلُّ ما عدَّدْنا من ذلك الموضعِ
(1)
السَّخُون من المرق: ما يُسخن. لسان العرب (س خ ن).
(2)
العصيدة: دقيق يلت بالسمن و يطبخ. لسان العرب (ع ص د).
(3)
هي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة ص 380، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 46، 47، والتيسير ص 114.
(4)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. وانظر المصادر السابقة.
إلى هذا الموضع سيئةٌ لا حسنةَ فيه، فالصوابُ قراءتُه بالتنوينِ. ومن قرَأ هذه القراءةَ، فإنه يَنبغِي أن يكونَ من نيتِه أن يكونَ المكروهُ مقدَّمًا على السيئةِ، وأن يكونَ معنى الكلامِ عندَه: كلُّ ذلك كان مكروهًا سيئةً؛ لأنه إن جعل قوله: "مكروهًا" بعدَ
(1)
السيئةِ من نعتِ السيئةِ، لزِمه أن تكونَ القراءةُ:(كلُّ ذلك كان سيئةً عندَ ربِّك مكروهةً)، وذلك خلافُ ما في مصاحفِ المسلمين.
وأولى القراءتين عندى في ذلك بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} . على إضافةِ السيئ إلى الهاءِ، بمعنى: كلُّ ذلك الذي عدَّدْنَا من {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}
…
{كَانَ سَيِّئُهُ} ؛ لأن في ذلك أمورًا منهيًّا عنها، وأمورًا مأمورًا بها، وابتداءُ الوصيةِ والعهدِ من ذلك الموضعِ دونَ قولِه:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} . إنما هو عطفٌ على ما تقدَّم من قولِه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} فإذ
(2)
كان ذلك كذلك فقراءتُه بإضافةِ السيئِ إلى الهاء أولى وأحقُّ من قراءتِه (سيئةً) بالتنوينِ، بمعنى السيئةِ الواحدةِ.
فتأويلُ الكلام إذنْ: كلُّ هذا الذي ذكَرنا لك من الأمورِ التي عدَّدناها عليك كان سيئُه
(3)
مكروهًا عندَ ربِّك يا محمدُ، يكْرَهُه ويَنْهَى عنه ولا يَرْضَاه، فاتَّقِ مواقعتَه والعَمَلَ به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} .
(1)
في ص، م:"نعد".
(2)
في م: "فإذا".
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"سيئة".
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي بيَّنا لك يا محمدُ من الأخلاقِ
(1)
التي أمَرناك بجميلِها، ونهيناك عن قبيحها، {مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}. يقولُ: من الحكمةِ التي أوحَيْناها إليك في كتابِنا هذا.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} . قال: القرآنُ.
وقد بيَّنا معنى الحكمةِ فيما مضَى من كتابِنا هذا، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} . يقولُ: ولا تجعَلْ مع اللَّهِ شريكًا في عبادتِك، {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا}: تَلُومُك نفسُك وعارفوك من الناسِ، {مَدْحُورًا}. يقولُ: مُبْعَدًا مَقْصِيًّا في النار، ولكن أَخْلِص العبادةَ للَّهِ الواحدِ القهارِ، فتنجوَ من عذابِه.
وبنحوِ الذي قلنا في قولِه: {مَلُومًا مَدْحُورًا} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ بن داود، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{مَلُومًا مَدْحُورًا} . يقولُ: مطرودًا
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ف:"الجميلة".
(2)
تقدم في 2/ 575 - 577.
(3)
أخرجه البخارى عقب حديث (3267) معلقًا، وذكره الحافظ في التغليق 3/ 511 عن المصنف، وينظر فتح الباري 6/ 340.
{مَلُومًا مَدْحُورًا} . قال: ملومًا في عبادةِ اللَّهِ، مدحورًا في النارِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)} .
يقولُ تعالى ذكرُه للذين قالوا من مُشركي العربِ: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ: {أَفَأَصْفَاكُمْ} أيها الناسُ {رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} . يقولُ: أَفَخَصَّكم ربُّكم بالذكورِ من الأولادِ، {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} وأنتم لا تَرْضَوْنَهُنَّ لأنفسِكم، بل تَئِدُونهن، وتَقتُلونهن، فجعَلتُم للَّهِ ما لا تَرْضَوْنه لأنفسِكم، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا}. يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء المشركين الذين قالوا من الفِرْيَةِ على اللَّهِ ما ذكَرنا: إنكم أيها الناسُ لتقولون بقيلِكم: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ، قولًا عظيمًا، وتفترون على اللَّهِ فِريةٌ منكم.
وكان قتادة يقولُ في ذلك، ما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} . قال: قالت اليهودُ: الملائكةُ بناتُ الجنِّ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} لهؤلاء المشركين المفترِين على اللَّهِ {فِي هَذَا الْقُرْآنِ} العِبَرَ والآياتِ والحججَ، وضرَبنا لهم فيه الأمثالَ، وحذَّرناهم
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 378 عن معمرٍ به.
(2)
في م: "الله"، وفي ص، ت 1، ف:"الخير"، وفي ت 2:"الخبر". والمثبت من مصدر التخريج.
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 378 عن معمر به.
فيه وأنذرناهم {لِيَذَّكَّرُوا} . يقولُ: ليتذكَّروا تلك الحججَ عليهم، فيعقِلوا خطأَ ما هم عليه مُقيمونَ، ويَعْتبروا بالعِبَرِ، فيتَّعظُوا بها، ويُنبيوا من جهالتِهم فما يَعتَبرون بها، ولا يتذكَّرون بما يرِدُ عليهم من الآياتِ والنُّذُرِ، وما يزَيدُهم تذكيرُنا إيَّاهم {إِلَّا نُفُورًا}. يقولُ: إِلا ذَهَابًا عن الحقِّ، وبُعدًا مِنه وهَرَبًا.
والنُّفورُ في هذا الموضعِ مصدرٌ من قولِهم: نفَر فلانٌ من هذا الأمرِ ينفِرُ منه نفْرًا ونُفُورًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُل يا محمدُ لهؤلاء المشركينَ الذين جعَلوا مع اللَّهِ إلهًا آخرَ: لو كان الأمرُ كما تقولون، من أنَّ معه آلهةً، وليس ذلك كما تقولون، إذنْ لابتغتْ تلك الآلهةُ القرْبةَ من اللَّهِ ذى العرشِ العظيمِ، والتمسَت الزُّلْفَةَ إليه، والمرتبةَ منه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} . يقولُ: لو كان معه آلهةٌ إذنْ لعرَفُوا له فضلَه ومرتبتَه ومنزلتَه عليهم، فابتغَوا ما يقرِّبُهم إليهِ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} . قال: لابتغَوا القُربَ إليه، مع أنَّه ليس كما يقولون
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 182 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 378 عن معمر به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} .
وهذا تنزيهٌ منَ اللَّهِ تعالى ذكرُه نفسَه عما وصَفه به المشركون، الجاعِلون معه آلهةً غيرَه، المُضيفون إليه البناتِ، فقال: تنزيهًا للَّهِ وعلوًّا له عما تقولون
(1)
، أيُّها القومُ، عليه من الفِريةِ والكذِبِ، فإنَّ ما تُضيفون إليه من هذه الأمورِ ليس من صفتِه، ولا ينبغى أن يكونَ له صفةً.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} : يُسبِّحُ نفسه إذ قيلَ عليه البهتانُ:
وقال تعالى: {عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا} . ولم يقُلْ: تعاليًا، كما قال:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. كما قال الشاعرُ
(2)
:
أنْتَ الفِداءُ لكَعْبةٍ هَدَّمْتَها
…
ونَقَرْتَها بِيَدَيْكَ كُلَّ مُنَقَّرِ
مُنِعَ الحَمامُ مَقيلَهُ مِن سَقفِها
…
ومِن الحَطيم فَطارَ كُلَّ مُطَيَّرِ
وقولُه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} . يقولُ: تُنزِّهُ اللَّهَ أَيُّها المشركون عمَّا وصَفْتُموه به إعظامًا له وإجلالًا - السمواتُ السبعُ والأرضُ ومَن فيهنَّ؛ من المؤمنين به من الملائكةِ والإنس والجنِّ، وأنتم مع إنعامِه عليكم وجميلِ أياديه عندَكم تَفتَرون عليه بما تفترون.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"يقولون".
(2)
ذكرهما ابن جنى في المحتسب بدون نسبة؛ الأول في 1/ 81، 194، 301، وذكر من الثاني عبارة: فطار كل مطير في 1/ 82، 2/ 6.
وقولُه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: وما مِن شيءٍ مِن خلقِه إلا يُسبحُ بحمدِه.
كما حدَّثني به نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدِيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ يعلَى، عن موسى بن عُبيدةَ، عن زيدِ بن أسلمَ، عن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخبِرُكُم بشيءٍ أمَر به نُوحٌ ابنه؟ إِنَّ نُوحًا قال لابنِه: يا بُنَيَّ آمُرُكَ أَنْ تَقَولَ: سُبْحانَ اللَّهِ وبحمدِه؛ فإنَّها صلاةُ الخلْقِ، وتَسبيحُ الخلْقِ، وبها يُرزَقُ الخلْقُ، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} "
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عيسى بنُ عبيدٍ
(2)
، قال: سمِعتُ عكرمةَ، يقولُ: لا يَعِيبنَّ أحدُكم دابَّتَه ولا ثوبَه؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيءٍ يُسبِّحُ بحمدِه
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . قال: الشجرةُ تُسبِّح، والأُسْطوانةُ
(4)
تُسبِّحُ
(5)
.
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1237) من طريق محمد بن يعلى به، وأخرجه عبد بن حميد (1149)، وابن حبان في المجروحين 2/ 235، وابن عساكر في تاريخه 17/ 672 (مخطوط) من طريق موسى بن عبيدة به ضمن حديث مطول، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 183 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"حميد". وينظر تهذيب الكمال 22/ 634.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهواتف (145) من طريق أبي تميلة يحيى بن واضح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 184 إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم.
(4)
الأسطوانة: السارية.
(5)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهواتف (145) من طريق يحيى بن واضح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 184 إلى ابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ وزيدُ بنُ حبابٍ، قالا: ثنا حُديرٌ
(1)
أبو الخطابِ، قال: كنا مع يزيدَ الرَّقاشيِّ ومعه الحسنُ في طعامٍ، فقدّموا الخِوانَ، فقال يزيدُ الرَّقاشيُّ: يا أبا سعيدٍ، يُسبِّحُ هذا الخوانُ؟ فقال: كان يُسبِّحُ مرَّةً
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ قال: أخبَرنا جُويبرٌ، عن الضحاكِ، ويونسُ، عن الحسنِ أنَّهما قالا في قولِه:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . قالا: كلُّ شيءٍ فيه الروحُ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الكبيرِ بنُ عبدِ المجيدِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: الطعامُ يُسبِّحُ
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . قال: كلُّ شيءٍ فيه الروحُ يُسَبِّحُ؛ من شجرةٍ
(5)
أو شيءٍ فيه الروحُ
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، قتادةَ، عن عبد عبدِ اللَّهِ بن بابي
(7)
، عن عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو: أن الرجلَ إذا قال: لا إلهَ إلا اللَّهُ. فهي كلمةُ الإخلاصِ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف ومصدرى التخريج:"جرير". وينظر المقتني في سرد الكنى 1/ 217.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهواتف (143) من طريق أبي تميلة يحيى بن واضح وحده به، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 78.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1229) من طريق هشيم به، وليس فيه ذكر الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 185 إلى أبى الشيخ عن الحسنِ وحده، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 78.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهواتف (137) من طريق عبد الكبير بن عبد المجيد به، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1207) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 184 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
في م: "شجر".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 عن معمرٍ به.
(7)
في م، ص، ت 1، ف:"أبى"، وفي ت 2:"أبى عدى". وهو تحريف. والمثبت من تهذيب الكمال 14/ 320.
التي لا يَقْبَلُ اللَّهُ من أحدٍ عملًا حتى يقولَها، فإذا قال: الحمدُ للَّهِ. فهي كلمةُ الشكرِ، التي لم يَشْكُرِ اللَّهَ عبدٌ قطُّ حتى يقولَها، فإذا قال: اللَّهُ أكبرُ. فهى تملأُ ما بينَ السماءِ والأرضِ، فإذا قال: سبحانَ اللَّهِ. فهى صلاةُ الخلائقِ التي لم يَدْعُ اللَّهُ أحدًا من خلقِه إلا قرَّره
(1)
بالصلاةِ والتسبيحِ، فإذا قال: لا حولَ ولا قوةَ إلا باللَّه. قال: أسلَم عبدى واستسلَم
(2)
.
وقولُه: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولكن لا تفقَهون تسبيحَ ما عدا تسبيحَ مَن كان يُسبَّحُ بمثلِ ألسنتِكم. {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} يقولُ: إن اللَّهَ كان حليمًا، لا يَعْجَلُ على خلقِه الذين يخالفون أمرَه ويكفُرون به، ولولا ذلك لعاجَل هؤلاء المشركين الذين يدْعُون معه الآلهةَ والأندادَ بالعقوبةِ. {غَفُورًا} يقولُ: ساترًا عليهم ذنوبَهم، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} : عن خلقِه، فلا يَعْجَلُ كعجلةِ بعضِهم على بعضٍ، {غَفُورًا} لهم إذا تابوا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا قرأتَ يا محمدُ القرآنَ على هؤلاء المشركين الذين لا
(1)
في م: "نوره"، وفي ت 1:"أمره". وقرره بالصلاة والتسبيح: جعله يُقِرّ بهما ويعترف.
(2)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1602)، والخطيب في الموضح 1/ 302 من طريق سعيد به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 9/ 17 من طريق قتادة به، وأخرجه معمر في جامعه (20579) عن قتادة أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال
…
فذكره، كما ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 76.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 185 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
يُصَدِّقون بالبعثِ، ولا يُقرِّون بالثوابِ والعقابِ، جعَلنا بينَك وبينَهم حجابًا، يَحجُبُ قلوبهم عن أن يَفْهَموا ما تقرؤُه عليهم؛ فينتفِعوا به، عقوبةً منا لهم على كفرِهم. والحجابُ ههنا هو الساترُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} : الحجابُ المستورُ أكنَّةٌ على قلوبِهم أن يَفْقَهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطانَ فاستحوَذ عليهم
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{حِجَابًا مَسْتُورًا} . قال: هي الأكنَّةُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} . قال: قال أبي: لا يَفقَهونه، وقرأ:[{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ]
(3)
وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}. فهم لا يَخْلُصُ ذلك إليهم.
وكان بعضُ نحوييِّ أهل البصرة يقولُ: معنى قولِه: {حِجَابًا مَسْتُورًا} : حِجابًا ساترًا، ولكنه أُخرِج وهو فاعلٌ في لفظِ المفعولِ، كما يقالُ: إنك مشئومٌ علينا وميمونٌ. وإنما هو شائمٌ ويامنٌ؛ لأنه مِن شأَمهم ويَمَنَهم. قال: والحجابُ ههنا هو الساترُ. وقال: {مَسْتُورًا} .
وكان غيرُه من أهلِ العربيةِ يقولُ: معنى ذلك: حجابًا مستورًا عن العبادِ فلا يرونه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 186 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 عن معمر به.
(3)
في النسخ: "قلوبهم في أكنة". والصواب ما أثبتناه.
وهذا القولُ الثاني أظهرُ بمعنى الكلامِ، أن يكونَ المستورُ هو الحجابَ، فيكونُ معناه: أنَّ اللَّهَ ستَره عن أبصارِ الناس فلا تُدْرِكُه أبصارُهم. وإن كان للقولِ الأوّلِ وجهٌ مفهومٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرةِ عند قراءتِك عليهم القرآنَ أكنَّةً. وهى جمعُ كَنانٍ، وذلك ما يتغشَّاها من خِذْلانِ اللَّهِ إيَّاها
(1)
عن فَهمِ ما يُتْلَى عليهم، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} يقولُ: وجَعَلنا في آذانِهم وقرًا عن سماعِه، وصممًا، والوَقرُ بالفتحِ، في الأذنِ: الثِّقَلُ، والوِقرُ بالكسرِ من الحِمْلِ.
وقولُه: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} . يقولُ: وإذا قلتَ: لا إلهَ إلا اللَّهُ في القرآنِ وأنت تتلوه، {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}. يقولُ: انفضُّوا، فذهَبوا عنك نفورًا من قولِك ذلك، استكبارًا له واستعظامًا من أن تُوحِّدَ اللَّهَ تعالى ذكرُه.
وبما قلنا في ذلك قال بعضُ أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا} . وإن المسلمين لما قالوا: لا إلهَ إلا اللَّهُ. أنكَر ذلك المشركون وكبُرت عليهم، فضاقَها إبليسُ وجنودُه، فأبَى اللَّهُ إلا أن يُمضِيَها ويَنْصُرَها ويُفْلِجَها
(1)
في م: "إياهم".
ويُظْهِرَها على من ناوَأَها، إنها كلمةٌ من خاصَم بها فَلَج، ومن قاتَل بها نُصِر، إنما يَعرِفُها أهلُ هذه الجزيرةِ من المسلمين، التي يَقْطَعُها الراكبُ في ليالٍ قلائلَ، ويسيرُ الدهرَ في فِئام من الناسِ لا يَعرِفُونها ولا يُقِرُّون بها
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} . قال: بغضًا لما تكلَّم به، لئلا يسمَعوه، كما كان قومُ نوحٍ يجعَلون أصابعَهم في آذانِهم لئلا يسمَعوا ما يأمرُهم به من الاستغفارِ والتوبةِ، ويَسْتغشُون ثيابَهم. قال: يَلْتَفُّون بثيابِهم، ويجعَلون أصابعَهم في آذانِهم لئلا يسمَعوا ولا يُنظر إليهم
(2)
.
وقال آخرون: إنما عُنِى بقوله: {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} . الشياطينُ، وإنها تَهرُبُ من قراءةِ القرآنِ وذكرِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحسينُ بنُ محمدٍ الذَّارعُ، قال: ثنا روحُ بنُ المسيبِ أبو رجاءٍ الكُليبيُّ
(3)
، قال: ثنا عمرُو بنُ مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} : هم الشياطينُ
(4)
.
والقولُ الذي قلنا في ذلك أشبهُ بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ، وذلك أن اللَّهَ تعالى
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 80 عن قتادة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في النسخ: "الكلبي". وهو تصحيف. والمثبت من التاريخ الكبير 3/ 309، والجرح والتعديل 3/ 496، والأنساب 5/ 91.
(4)
أخرجه الطبراني (12802) من طريق روح بن المسيب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه، نقله ابن كثيرٍ في تفسيره 5/ 80 عن المصنف.
ذكرُه أتْبَع ذلك قولَه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} . فأن يكونَ ذلك خبرًا عنهم أولى، إذ كان بخبرِهم متصلًا، من أن يكونَ خبرًا عمن لم يَجرِ له ذكرٌ.
وأما النفورُ، فإنها جمعُ نافرٍ، كما القُعودُ جمعُ قاعدٍ، والجُلُوسُ جمعُ جالسٍ، وجائزٌ أن يكونَ مصدرًا أُخرِج من غيرِ لفظِه؛ إذ كان قولُه:{وَلَّوْا} . بمعنى: نفَروا، فيكونَ معنى الكلامِ: نفَروا نُفورًا، كما قال امرؤُ القيسِ
(1)
:
* وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أَيَّ إِذْلالِ *
إذ كان "رُضْتُ" بمعنى: أذللْتُ، فَأُخْرِج الإذلالُ من معناه، لا من لفظِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: نحن أعلمُ يا محمدُ بما يستمِعُ به هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرةِ من مشركي قومِك، إذ يستمعون إليك وأنتَ تقرَأُ كتابَ اللَّهِ، {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} .
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ يقولُ: النجوَى فِعْلُهم، فجعَلهم هم النجوى، كما يقولُ: هم قومٌ رضًا، وإنما رضًا فِعْلُهم.
وقولُه: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} . يقولُ: حينَ يقولُ المشركون باللَّهِ: ما تَتَّبِعون إلا رجلًا مسحورًا.
وعُنِى، فيما ذكَر، بالنجوى الذين تَشاوَروا في أمرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في دارِ النَّدوةِ
(1)
ديوانه ص 32، وهو عجز بيت صدره: وصِرْنا إلى الحسنى ورقَّ كلامُنا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} . قال: هي مِثْلُ قيلِ الوليدِ بن المُغيرةِ ومَن معه في دارِ الندوةِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} الآية: ونجواهم أن زعَمُوا أنه مجنونٌ، وأنه ساحرٌ، وقالوا: أساطيرُ الأوَّلين
(2)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ
(3)
يذهبُ بقولِه: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} له إلى معنى: ما تَتَّبِعُون إلا رجلًا له سَحْرٌ؛ أي له رِئَةٌ، والعربُ تُسَمِّي الرئةَ سَحْرًا، والسَّحْرُ من قولِهم للرجل إذا جبُن: قد انتفَخ سَحْرُه. وكذلك يقالُ: لكلِّ ما أكَل أو شرِب من آدميٍّ وغيره: مسحورٌ، ومُسَحَّرٌ. كما قال لبيدٌ
(4)
:
فإن تَسْأَلِينا فِيمَ نَحْنُ فإنَّنا
…
عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأَنامِ المُسَحَّرِ
(1)
تفسير مجاهد ص 436، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى ابن أبي شيبة و ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 272 عن قتادة.
(3)
هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1/ 381.
(4)
ديوانه ص 56.
وقال
(1)
:
* ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرابِ *
أي: نغَذَّى بهما، فكأن معناه عنده كان: إن تَتَّبِعون إلا رجلًا له رِئَةٌ، يأكلُ الطعامَ، ويشرَبُ الشَّراب، لا مَلَكا لا حاجةَ به إلى الطعامِ والشرابِ. والذي قال من ذلك غيرُ بعيدٍ من الصوابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: انظُر يا محمدُ بعينِ قلبِك فاعتبِرْ كيفَ مثَّلوا لك الأمثالَ، وشبَّهوا لك الأشباهَ، بقولِهم: هو مسحورٌ، وهو شاعرٌ، وهو مجنونٌ. {فَضَلُّوا}. يقولُ: فجاروا عن قصدِ السبيلِ بقيلِهم ما قالوا، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}. يقولُ: فلا يَهْتَدون لطريقِ الحقِّ لضلالِهم عنه وبُعدِهم منه، وأن الله قد خذَلهم عن إصابتِه، فهم لا يَقْدِرون على المَخْرَجِ مما هم فيه من كفرهم بربِّهم
(2)
إلى الإيمانِ به.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} . قال: مخرجًا، الوليدُ بنُ المغيرةِ وأصحابُه أيضًا
(3)
.
(1)
في النسخ: "وقال آخرون"، والمثبت من مجاز القرآن. وهو عجز بيت لامرئ القيس في ديوانه ص 97 وصدره: أرانا موضعين لأمرِ غَيبٍ.
(2)
في ص، ت 2، ف:"موفهم"، وفى م:"بتوفقهم"، وفى ت 1:"وتوفيقهم". وكل هذا تحريف والمثبت هو الصواب.
(3)
تفسير مجاهد (437)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} : مخرجًا، الوليدُ بنُ المغيرةِ وأصحابُه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرةِ من مشركي قريشٍ، وقالوا بعنَتِهم
(1)
: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا} لم نَتَحَطَّمْ ولم نَتَكَسَّرُ بعدَ مماتنِا وبِلانا، {وَرُفَاتًا} . يعنى ترابًا في قُبورِنا.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: يقولُ اللهُ: {وَرُفَاتًا} . قال: ترابًا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني عليٌّ
(3)
، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} . يقولُ: غبارًا
(4)
.
(1)
العنت هنا: الجور. وينظر التاج "ع ن ت".
(2)
تفسير مجاهد 437، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
بياض في ص، ت 1، ف، وفى ت 1:"أبو صالح". وفى م: "المثنى"، والمثبت هو الصواب، وقد رجحنا أنه على بن داود وذلك أن إسناد المثنى وإن كان أكثر دورانا فيما سبق فإنه قد انقطع وصار ابن جرير يروي آثار عبد الله بن صالح عن علي لا المثنى، والله أعلم بالصواب.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 82.
ولا واحد للرُّفاتِ، وهو بمنزلةِ الدُّقاقِ والحُطَامِ. يقال منه: رُفِتَ يُرْفَتُ رَفْتًا فهو مرفوتٌ؛ إذا صُيِّر كالحُطامِ والرُّضَاضِ.
وقولُه: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} . قالوا إنكارًا منهم للبعثِ بعدَ الموتِ: إنَّا لمبعوثون بعدَ مصيرِنا في القبورِ عظامًا غيرَ مُنحَطِمَةٍ ورفاتًا مُنْحَطِمَةً، وقد بَلينا فصِرْنا فيها ترابًا - خلقًا مُنْشَأً، كما كُنَّا قبلَ المماتِ، جديدًا؛ نُعادُ كما بُدِئْنَا؟ فأَجَابَهم جل جلاله مُعرِّفَهم قُدرتَه على بعثه إياهم بعدَ مماتِهم، وإنشائِه لهم كما كانوا قبلَ بِلاهم خلقًا جديدًا، على أيِّ حالٍ كانوا من الأحوال، عظامًا أو رفاتًا أو حجارةً أو حديدًا، أو غيرَ ذلك مما يَعْظُمُ عندهم أن يُحْدِثَ مِثْلَه خَلْقًا أمثالَهم أحياءً. {قُلْ} يا محمدُ:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ للمكذّبين بالبعثِ بعدَ المماتِ من قومِك القائلين: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} : كونوا - إن عجِبتُم من إنشاءِ اللهِ إياكم، وإعادتِه أجسامَكم، خلقًا جديدًا بعد بِلاكم في الترابِ، ومصيركم رفاتًا، وأنكَرتُم ذلك من قُدرتِه - {حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} إن قدرتُم على ذلك، فإني أُحْيِيكم وأبعَثُكم خلقًا جديدًا بعد مصيرِكم كذلك كما بدأتُكم أولَ مرةٍ.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بقوله: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به الموتُ، وأُرِيد به: أو كونوا الموتَ، فإنكم إن
كُنْتُموه أَمَتُّكم ثم بَعَثْتُكم بعد ذلك يومَ البعثِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن أبيه، عن عطيةَ، عن ابن عمرَ:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . قال: الموتُ، قال: لو كنتمُ موتَى لأحْيَيْتُكم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . يعنى الموتَ. يقولُ: إن كنتُم الموتَ أَحْيَيْتُكم
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبيدٍ المحاربِيُّ، قال: ثنا أبو مالكٍ الجَنْبيُّ، قال: ثنا ابن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . قال: الموتُ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا سليمانُ أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . قال: الموتُ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 326 عن ابن إدريس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى عبد الله ابن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 362 من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وهو في سيرة ابن هشام 1/ 317، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 82 عن أبي صالح.
(4)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (461) من طريق آخر عن الحسن.
سعيدُ بنُ جبيرٍ في قوله: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} : كونوا الموتَ إن استَطَعْتُم؛ فإن الموتَ سيموتُ. قال: وليس شيءٌ أكبرَ في نفسِ ابن آدمَ من الموتِ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: بلَغنى عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: هو الموتُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ بن عمر، أنه كان يقولُ: يُجاءُ بالموتِ يوم القيامةِ كأنه كبشٌ أملحُ حتى يُجعَلَ بينَ الجنةِ والنارِ، فيُنادى منادى
(3)
يُسْمِعُ أهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ، فيقولُ: هذا الموتُ قد جِئْنا به ونحن مهلكوه، فأيْقِنُوا يا أهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ أن الموتَ قد هلَك
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بن سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قولِه: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} : يعنى الموتَ، يقولُ: لو كنتُم الموتَ لأمتُّكم
(5)
.
وكان عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بن العاصِ يقولُ: إن الله يَجِيءُ بالموتِ يومَ القيامةِ، وقد صار أهلُ الجنةِ وأهلُ النارِ إلى منازلِهم، كأنه كبشٌ أملحُ، فيقفُ بينَ الجنةِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى المصنف وعبد الله بن أحمد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 عن معمر قال بلغني عن سعيد بن جبير، وليس فيه ذكر قتادة، وأخرجه البغوي في الجعديات (2230) من طريق سالم عن سعيد بن جبير.
(3)
في م، ومصادر التخريج:"مناد". والمثبت وجه.
(4)
أخرجه أحمد 10/ 198 (5993)، والبخارى (6548)، ومسلم (2850/ 43) وغيرهم من طريق عمر بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 82 عن الضحاك.
والنارِ، فيُنادَى أهلُ الجنةِ وأهلُ النارِ: هذا الموتُ، ونحن ذابحوه، فأَيْقِنُوا بالخلودِ.
وقال آخرون: عُنى بذلك السماءُ والأرضُ والجبالُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . قال: السماءُ والأرضُ والجبالُ
(1)
.
وقال آخرون: بل أُرِيد بذلك: كونوا ما شِئْتُم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . قال: ما شئتُم فكونوا، فَسَيُعِيدُكم اللهُ كما كنتُم
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . قال: مِن خَلْقِ اللهِ، فإن الله يُميتُكم ثم يَبْعَثُكم يومَ القيامةِ خَلْقًا جديدًا
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 عن معمر عن مجاهد، وذكره القرطبي في تفسيره 10/ 274، وابن كثير في تفسيره 5/ 82.
(2)
تفسير مجاهد 437، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 274 عن قتادة.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يُقال: إن الله تعالى ذكرُه قال: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . وجائزٌ أن يكونَ عَنى به الموتَ؛ لأنه عظيمٌ في صدورِ بني آدمَ، وجائزٌ أن يكونَ أراد به السماءَ والأرضَ، وجائزٌ أن يكونَ أراد به غيرَ ذلك، ولا بيانَ في ذلك أبينُ مما بَيَّنَ جلَّ ثناؤُه، وهو كلُّ ما كَبُر في صدورِ بنى آدمَ مِن خَلْقِه؛ لأنه لم يَخْصُصْ منه شيئًا دونَ شيءٍ.
وأما قولُه: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} . فإنه يقولُ: فسيقولُ لك يا محمدُ هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرةِ: {مَنْ يُعِيدُنَا} خلقًا جديدًا، إن كُنَّا حجارةً أو حديدًا أو خلقًا مما يَكْبُرُ في صدورِنا؟! فقل لهم: يُعِيدُكم {الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . يقولُ: يُعيدُكم كما كنتُم قبلَ أن تَصِيروا حجارةً أو حديدًا إنسًا أحياءً، الذي خلَقكم إنسًا من غيرِ شيءٍ أولَ مرةٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . أي: خَلَقَكُم
(1)
.
وقولُه:
(2)
{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} . يقولُ: فإنك إذا قلتَ لهم ذلك، فسيَهزُّون إليك رءوسَهم برفعٍ وخفضٍ.
وكذلك النَّغْضُ في كلامِ العربِ، إنما هو حركةٌ بارتفاعٍ ثم انخفاضٍ، أو انخفاضٍ ثم ارتفاعٍ، ولذلك سُمِّيَ الظليمُ نَغْضًا؛ لأنه إذا عَجَّل المشيَ ارتفَع وانخفَض وحرَّك رأسَه، كما قال الشاعرُ
(3)
:
(1)
تقدم تخريجه في 12/ 443.
(2)
سقط من: م.
(3)
هو العجاج بن رؤبة، ديوانه ص 350.
أسكَّ
(1)
نَغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا
(2)
ويقال: نَغَضَتْ سِنُّه: إذا تحرَّكتْ وارتفَعتْ من أصلِها، ومنه قولُ الراجزِ
(3)
:
ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أَسْنانُها
وقولُ الآخرِ
(3)
:
لما رأتْنِي أنْغَضَتْ لىَ الرأسا
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} : أي: يُحرِّكون رءوسَهم تكذيبًا واستهزاءً.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} . قال: يُحرِّكون رءوسَهم
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} . يقولُ: سيُحرِّكونها إليك استهزاءً
(5)
.
(1)
في الديوان: "أصك".
(2)
مستهدجا: مستعجلًا.
(3)
مجاز القرآن 1/ 382. وتفسير القرطبي 10/ 275.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 عن معمر به.
(5)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 388 إلى المصنف، كما عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 187 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} . قال: يُحرِّكون رءوسَهم يَستهزِءُون ويقولون: متى هو؟!
(1)
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} . يقولُ: يَهزُّون
(2)
.
وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ويقولون: متى البعثٌ، وفى أيِّ حالٍ ووقتٍ يُعيدُنا خلقًا جديدًا، كما كنا أوَّلَ مرةٍ؟! قال اللهُ تعالى لنبيِّه: قلْ لهم يا محمدُ إذا قالوا لك: متى هو؟! متى هذا البعثُ الذي تَعِدُنا؟ {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} . وإنما معناه: هو قريبٌ؛ لأنَّ "عسى" من اللهِ واجبٌ، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةَ كَهاتين". وأشارَ بالسَّبابة والوسطى
(3)
. لأنَّ الله كان قد أعلمه أنَّه قريبٌ
(4)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قُل عسى أن يكونَ بعثُكم أيُّها المشركونَ قريبًا، ذلك يومَ يدعوكم ربُّكم بالخروجِ من قبورِكم إلى موقف القيامةِ، فتستجيبون بحمدِه
(1)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 388 إلى المصنف.
(2)
في م: "يهزءون"، والأثر أخرجه ابن أبي حاتم كما في تغليق التعليق 4/ 238 من طريق عبد الله صالح به.
(3)
أخرجه البخارى (6504)، ومسلم (2951) من حديث أنس بن مالك.
(4)
بعده في النسخ: "مجيب". وهو سبق قلم من الناسخ.
واختلفَ أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: فتستجيبون بأمرِه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنى عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . يقولُ: بأمرِه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . قال: بأمرِه
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فتستجيبون بمعرفتِه وطاعتِه.
ذكرُ من قال ذلك
وقال آخرون: معنى ذلك: فتستجيبون بمعرفتِه وطاعتِه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} : أي: بمعرفتِه وطاعتِه
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقال: معناه: فتستجيبون للهِ من قبورِكم بقدرتِه، ودعائِه إيَّاكم، وللهِ الحمدُ في كلِّ حالٍ، كما يقولُ القائلُ: فعلتُ ذلك
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 188 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 83 عن ابن جريج.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 188 إلى المصنف وابن أبي حاتم مطولا وستأتي بقيته في الصفحة القادمة.
الفعلَ بحمدِ اللهِ. يعنى: وللهِ الحمدُ على كلِّ [ما فعلتُه]
(1)
، وكما قال الشاعرُ
(2)
:
فإنِّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فَاجِرٍ
…
لَبِسْتُ وَلا مِن غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
بمعنى: فإنِّي والحمدُ للهِ لا ثوبَ فاجرٍ لبِستُ.
وقولُه: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} . يقولُ: وتحسبون عندَ مُوافاتِكم القيامةَ من هَوْلِ ما تُعاينون فيها، ما لبِثتُم في الأرضِ إِلَّا قليلًا، كما قال جلَّ ثناؤُه:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 112، 113].
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} : أي: في الدنيا، تحاقَرَت الدنيا
(3)
في أنفسِهم وقلَّت حين عاينوا يومَ القيامة
(4)
.
وقولُه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وقُلْ يا محمد لعبادِى يَقُلْ بعضُهم لبعضٍ التي هي أحْسنُ من المحاورةِ والمخاطبةِ.
كما حدَّثنا خلَّادُ بن أسلم، قال: ثنا النضرُ، قال: أخبَرنا المباركُ، عن الحسنِ
(1)
في ص: "فعليه"، وفى ت 1، ت 2، ف:"فعلته".
(2)
نسب في اللسان (ط هـ ر) لغيلان مبهمًا، وليس في ديوان ذى الرمة، غيلان بن عقبة.
(3)
في مصدر التخريج: "الأعمار".
(4)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(5)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
في هذه الآية: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: التي هي أحسنُ، لا يقولُ له مثلَ قولِه، بل يقولُ له: يرحَمُك اللهُ، يغفرُ اللهُ لك
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} . يقولُ: إِنَّ الشيطانَ يُسوِّءُ محاورةَ بعضهم بعضًا {يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} . يقولُ: يُفْسِدُ بينَهم، ويُهيِّجُ بينَهم الشرَّ. {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}. يقول: إنَّ الشيطانَ كان لآدمَ وذريَّتِهِ عدوًّا مبينًا؛ قد أبانَ لهم عداوَتَه بما أظهَرَ لآدم من الحسَدِ، وغرورهِ إيَّاه حتى أخرَجَه من الجنةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاءِ المشركين من قريشٍ الذين قالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} : {رَبُّكُمْ} أيُّها القومُ {أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} فيتوبُ عليكم برحمتِه، حتى تُنيبوا عمَّا أنتم عليه من الكفرِ به وباليومِ الآخرِ {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بأنْ يخذلَكُم عن الإيمانِ، فتموتوا على شرِكِكم، فيعذِّبَكم يومَ القيامةِ بكفرِكم به.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن عبد الملكِ بن جُريجٍ قولَه:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} . قال: فتؤمنوا {أَوْ إِنْ يَشَأْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 188 إلى المصنف.
يُعَذِّبْكُمْ}: فتموتوا على الشركِ كما أنتم
(1)
.
وقولُه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} ، يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناكَ يا محمدُ على من أرسلناكَ إليه لتدعُوَه إلى طاعتِنا، ربًّا ولا رقيبًا، إنَّما أرسلناكَ إليهم لتُبلِغَهم رسالاتِنا، وبأيدينا صَرْفُهم وتدبيرُهم، فإن شئنا رحِمناهم، وإن شِئنا عذَّبْناهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وربُّك يا محمدُ أعلمُ بمن في السماواتِ والأرضِ وما يُصلِحُهم، فإنَّه هو خالقُهم ورازقُهم ومدبِّرُهم، وهو أعلمُ بمن هو أهلٌ للتوبةِ والرحمةِ، ومن هو أهلٌ للعذابِ، أهدِى للحقِّ مَن سبَق له منِّي الرحمةُ والسعادةُ، وأُضَلُّ مَن سبَق له منِّى الشقاءُ والخِذْلانُ. يقولُ: فلا يَكْبُرنَّ ذلك عليك؛ فإنَّ ذلك من فعلى بهم كتفضيلى
(2)
بعضَ النبيين على بعضٍ؛ بإرسالِ بعضِهم إلى بعضِ الخلقِ، وبعضِهم إلى الجميعِ، ورفعِى بعضَهم على بعضٍ درجاتٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} : اتَّخَذَ اللهُ إبراهيمَ خليلًا، وكلَّم موسى تكليمًا، وجَعَل اللهُ عيسى كَمَثَلِ آدم خلَقه من ترابٍ، ثم قال له: كُنْ فكانَ
(3)
، وهو عبدُ اللهِ ورسولُه، من كلمةِ اللهِ ورُوحِه، وآتى سليمانَ مُلكًا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 188 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م، ص، ت 2، ف:"لتفضيلي".
(3)
في النسخ: "فيكون". والمثبت من مصدر التخريج.
لا يَنبغِي لأحدٍ من بعده، وآتى داودَ زبورًا
(1)
- كُنَّا نحدَّثُ أنه
(2)
دعاءٌ عَلَّمه داودَ؛ تحميدٌ وتمجيدٌ، ليس فيه حلالٌ ولا حرامٌ، ولا فرائضُ ولا حدودٌ - وغفر لمحمدٍ ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} . قال: كلَّم اللهُ موسى، وأرسل محمدًا إلى الناسِ كافَّةً
(4)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لمشركي قومِك الذين يَعْبُدون من دونِ اللهِ مِن خلقِه: ادعُوا أيُّها القومُ الذين زعَمتم أنَّهم أربابٌ وآلهةٌ من دونِه، عندَ ضُرٍّ يَنزِلُ بكم، فانظُروا هل يقدِرون على دفعِ ذلك عنكم، أو تحويلِه عنكم إلى غيِركم، فتدعوهم آلهةً، فإنَّهم لا يقدِرون على ذلك، ولا يملِكُونه، وإنَّما يملِكُه ويقدِرُ عليه خالِقُكم وخالِقُهم.
وقيل: إنَّ الذين أُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم هذا القولَ، كانوا يعبُدون الملائكةَ وعُزيرًا والمسيحَ، وبعضُهم كانوا يعبُدون نفرًا من الجنِّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
في ف: "نورا".
(2)
سقط من النسخ. والمثبت من مصدر التخريج.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 188 إلى المصنف وابن أبي حاتم مفرقًا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 188 إلى المصنف وابن المنذر.
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} . قال: كان أهلُ الشركِ يقولون: نعبُدُ الملائكةَ وعُزَيرًا، الذين يَدْعون، يعنى: الملائكةَ والمسيحَ وعُزيرًا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابًا، {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}. يقولُ: يبتغِى المدعوّون أربابًا إلى ربِّهم القُربةَ والزُّلفةَ، لأنهم أهلُ إيمانٍ به، والمشركون باللهِ يعبُدونهم من دونِ اللهِ، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}: أَيُّهم بصالحِ عملِه
(2)
واجتهادِه في عبادتِه أقربُ عندَه زُلفةً. {وَيَرْجُونَ} بأفعالِهم تلك {رَحْمَتَهُ} ، {وَيَخَافُونَ} بخلافهم أَمْرَه {عَذَابَهُ} ، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ} يا محمدُ {كَانَ مَحْذُورًا} مُتَّقًى.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قالُ أهلُ التأويلِ، غير أنهم اختلَفوا في المدعوِّين؛ فقال بعضُهم: هم نفرٌ من الجنِّ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن عبد اللهِ في قولِه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . قال:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 86، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 189 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أعماله".
كان ناسٌ من الإنسِ يعبدون قومًا من الجنِّ، فأسلَم الجنُّ وبقى الإنسُ على كفرِهم، فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . يعني: الجنُّ
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا أبو النعمانِ الحكمُ بنُ عبدِ اللهِ العِجْليُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن سليمانَ، عن إبراهيمَ، عن أبي معمرٍ، قال: قال عبدُ الله في هذه الآيةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . قال: قَبِيلٌ من الجنِّ كانوا يُعبَدون فأسلَموا
(2)
.
حدَّثني عبدُ الوارثِ بن عبد الصمدِ، قال: ثنى أبي، قال: ثني الحسينُ، عن قتادةَ، عن معبدِ بن عبدِ اللهِ الزِّمَّانيِّ
(3)
، عن عبدِ اللهِ بن عتبةَ بن مسعودٍ، عن ابن مسعودٍ في قولِه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . قال: نزَلت في نفرٍ من العربِ كانوا يعبُدون نفرًا من الجنِّ، فأسلَم الجنِّيون، والإنسُ الذين كانوا
(4)
يعبُدونهم لا يَشعُرون بإسلامِهم، فأُنزِلت:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن عبدِ اللهِ بن عتبةَ
(1)
أخرجه الطبراني (9077) من طريق مغيرة عن إبراهيم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخارى والنسائى والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل. وجملة من أخرجوه إنما أخرجوه من طرق عن ابن مسعود غير هذا الطريق التي أوردها المصنف.
(2)
أخرجه البخارى (4715)، ومسلم (3030/ 29) كلاهما من طريق شعبة به.
(3)
في ت 1، والطبراني:"الرماني". وينظر تهذيب الكمال 16/ 168.
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
أخرجه مسلم (3030/ 30) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث به، والطبراني (9798) من طريق قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 189 إلى ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل والبيهقي في الدلائل.
ابن مسعودٍ، عن حديثِ عمِّه عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال: نزَلت هذه الآيةُ في نفرٍ من العربِ كانوا يعبُدون نفرًا من الجنِّ، فأسلَم الجنِّيُّون، والنفرُ من العربِ لا يشعُرون بذلك
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} : قومٌ عبَدوا الجنَّ فأسلَم أولئك الجنُّ، فقال اللهُ تعالى ذكرُه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ إبراهيمَ، عن أبي معمرٍ، عن عبدِ اللهِ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . قال: كان نفرٌ من الإنسِ يعبُدون نفرًا من الجنِّ، فأسلَم النفرُ من الجنِّ، واستمسَك الإنسُ بعبادتِهم، فقال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عيينةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن أبي معمرٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: كان ناسٌ يعبُدون نفرًا من الجنِّ، فأسلَم أولئك الجنِّيُّون، وثبتتِ الإنسُ على عبادتِهم، فقال اللهُ تبارك وتعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
(4)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الدلائل (251) من طريق عبد الله بن عتبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 189 إلى المصنف وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 من طريق معمر به، لكن عن ابن مسعود من قوله.
(3)
أخرجه مسلم (3030/ 29) من طريق عبد الرحمن به، كما أخرجه البخارى (4714) من طريق سفيان به، وفى (4715) من طريق شعبة عن الأعمش به.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 379، 380.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . قال: كان أناسٌ من أهلُ الجاهليةِ يعبُدون نفرًا من الجنِّ، فلمَّا بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا أسلَموا جميعًا، فكانوا يبتغون أيُّهم أقربُ.
وقال آخرون: بل همُ الملائكةُ.
حدَّثني الحسينُ بن علي الصُّدَائيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ السكَنِ، قال: أخبَرنا أبو العوَّامِ، قال: أخبَرنا قتادةُ، عن عبدِ اللهِ بن معبدٍ الزِّمَّانيِّ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال: كان قبائلُ من العربِ يعبُدون صِنفًا من الملائكةِ يقالُ لهم: الجنُّ. ويقولون: هم بناتُ اللهِ، فأنزل اللهُ عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}
(1)
معشرُ العربِ {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . قال: {الَّذِينَ يَدْعُونَ} الملائكةُ، تبتغى إلى ربِّها الوسيلةَ، {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} حتى بلَغ:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قال: وهؤلاء الذين عبَدوا الملائكةَ من المشركين
(3)
.
وقال آخرون: بل هم عزيرٌ وعيسى وأمُّه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يحيى بنُ جعفرٍ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ السكَنِ، قال: أخبَرنا شعبةُ،
(1)
بعده في ت، 2:"الملائكة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 189، 190 إلى المصنف.
(3)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 6/ 51.
عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . قال: عيسى وأمُّه وعُزَيرٌ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو النعمانِ الحكم بنُ عبدِ اللهِ العجليُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن إسماعيلَ السُّدِّيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، قال: عيسى ابن مريمَ
(2)
وعُزيرٌ في هذه الآيةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} .
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . قال: عيسى ابن مريمَ وعُزيرٌ والملائكةُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: كان ابن عباسٍ يقولُ في قولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
(4)
: هو عُزيرٌ والمسيحُ والشمسُ والقمرُ
(5)
.
وأولى الأقوالِ بتأويل هذه الآية قولُ عبدِ اللهِ بن مسعودٍ الذي رُوِّيناه، عن أبي
(1)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 397، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 86.
(2)
بعده في م: "وأمه".
(3)
تفسير مجاهد ص 437، وأخرجه الطحاوى في المشكل 6/ 117 من طريق ابن أبي نجيح به، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 86.
(4)
بعده في م: "قال".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى سعيد بن منصور والمصنف وابن المنذر، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 86.
معمرٍ عنه، وذلك أن الله تعالى ذكرُه أخبَر عن الذين يدعوهم المشرِكون آلهةً أنهم يبتغون إلى ربِّهم الوسيلةَ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعلومٌ أن عُزيرًا لم يكُنْ موجودًا على عهد نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فيبتغِيَ إلى ربِّه الوسيلةَ، وأنَّ عيسى قد كان رُفِع، وإنما يبتغِي إلى ربِّه الوسيلةَ من كان موجودًا حيًّا يعمَلُ بطاعةِ اللهِ، ويتقرَّبُ إليه بالصالحِ من الأعمالِ، فأمَّا من كان لا سبيلَ له إلى العملِ، فبم
(1)
يبتغى إلى ربِّه الوسيلةَ؟! فإذ
(2)
كان لا معنى لهذا القولِ، فلا قولَ في ذلك إلا قولُ مَن قال ما اخترَنا فيه مِن التأويلِ، أو قولُ مَن قال: هم الملائكةُ، وهما قولان يحتمِلُهما ظاهرُ التنزيلِ.
وأما الوسيلةُ فقد بيَّنا أنها القُربةُ والزُّلفةُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: الوسيلةُ القُربةُ
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{الْوَسِيلَةَ} . قال: القربةُ والزلفةُ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"فهم".
(2)
في ت 1، ت 2:"فإذا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 280 إلى عبد بن حميد والفريابي والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر فتح البارى 8/ 397.
(4)
في ص، ت 2، ف:"الزلفا"، وفى م:"الزلفى". والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 379 من طريق معمر به، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 87، والفتح 8/ 398.
الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وما من قريةٍ من القُرى إلا نحن مهلِكو أهلِها بالفناءِ، فمُبيدوهم استئصالًا، {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا} ؛ إما ببلاءٍ من قَتلٍ بالسيفِ، أو غيرِ ذلك من صنوفِ العذابِ، {عَذَابًا شَدِيدًا} .
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا
(1)
عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فمُبيدُوها، {أَوْ مُعَذِّبُوهَا} بالقتلِ والبلاءِ. قال: كلُّ قريةٍ في الأرضِ سيصيبُها بعضُ هذا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه. إلا أنه قال: سيصيبُها هذا أو بعضُه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا} : قضاءٌ من اللهِ كما تسمَعون ليس منه بدٌّ؛ إما أن يُهلِكَها بموتٍ، وإما أن يهلِكَها بعذابٍ مستأصلٍ؛ إذا تَرَكوا أمرَه، وكذَّبوا رسلَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
تفسير مجاهد ص 437، 438، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
قال مُبِيدُوها
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكِ بن حربٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن عبدِ اللهِ، قال: إذا ظهَر الزِّنى والرِّبا في أهلُ قريةٍ، أَذِنَ اللهُ في هلاكِها
(2)
.
وقولُه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . يعني: في الكتابِ الذي كُتِب فيه كلُّ ما هو كائنٌ؛ وذلك اللوحُ المحفوظُ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . قال: في أُمِّ الكتابِ. وقرَأ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68].
ويعنى بقوله: {مَسْطُورًا} : مكتوبًا مُبَيَّنًا، ومنه قولُ العجاجِ
(3)
:
واعلَمْ بأنَّ ذا الجلالِ قد قَدَرْ
في الكُتُبِ الأولى التي كان سَطَرْ
أَمْرَك هذا فاحْتفِظْ فيه النَّتَرْ
(4)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
(1)
تفسير الثورى ص 174.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 101، والسيوطي في صفة الصفوة 1/ 420، والقرطبي في تفسيره 10/ 280 عن ابن مسعود، وينظر علل الأحاديث لابن أبي حاتم 2/ 429.
(3)
ديوانه ص 48.
(4)
في ص، م:"النهر"، وفى ت 1:"الهبر" غير منقوطة، وفى ت 2:"الهز"، وفى ف:"الهتعد". والمثبت من الديوان، والنَّتَر: الفساد والضياع. وينظر اللسان (ن ت ر).
الْأَوَّلُونَ}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وما منَعَنا يا محمدُ أن نرسلَ بالآياتِ التي سألها قومُك، إِلَّا أنَّ مَن كان قبلَهم من الأممِ المكذِّبةِ سألوا ذلك مثلَ سؤالِهم، فلمّا أتاهم ما سألوا منه كذَّبوا رُسُلَهم، فلم يصدِّقوا مع مجيءِ الآياتِ، فعُوجِلوا، فلم نرسِلْ إلى قومِك بالآياتِ؛ لأنَّا لو أرسَلْنا بها إليها، فكذَّبوا بها، [سلَكْنا بهم]
(1)
في تعجيلِ العذابِ لهم مسلَك الأممِ قبلَها.
وبالذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن جعفرِ بن إياسٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: سأَل أهلُ مكة النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يجعَلَ لهم الصَّفا ذهبًا، وأن يُنَحِّيَ عنهم الجبالَ فيزرعوا، فقيل له: إن شئتَ أن تستأنِىَ
(2)
بهم لعلنا نجتني منهم، وإن شئتَ أن نؤتتهم الذي سأَلُوا، فإن كفَرُوا أُهْلِكُوا كما أُهْلِك من قبلَهم. قال: "لا
(3)
، بلْ تَسْتأنِى
(4)
بهم". فأنزل اللهُ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}
(5)
.
(1)
في م: "سلكتا"، وفي ت 2:"سلكناهم".
(2)
في م: "نستأنى".
(3)
سقط من: م.
(4)
في مصادر التخريج: "استأنى".
(5)
أخرجه أحمد 4/ 173 (2333)، والنسائى في الكبرى (11290) من طريق جرير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف والبزار وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة.
حدَّثني إسحاقُ بنُ وهبٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا مَسْتورُ
(1)
بنُ عبادٍ، عن مالكِ بن دينارٍ، عن الحسنِ في قولِ اللهِ تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} . قال: رحمةً لكم أيتُها الأمةُ؛ إنا لو أرسَلْنا بالآياتِ فكذَّبتم بها، أصابَكم ما أصاب مَن قبلَكم
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: قال المشركون لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ إنك تزعُمُ أنه كان قبلَك أنبياءُ، فمِنهم مَن سُخِّرت له الريحُ، ومنهم من كان يُحيى الموتَى، فإن سرَّك أن نؤمنَ بك ونصدِّقَك، فادعُ ربَّك أن يكونَ لنا الصَّفا ذهبًا. فأوحَى اللهُ إليه: إني قد سمِعتُ الذي قالوا، فإن شئتَ أن نفعَلَ الذي قالوا، فإن لم يؤمِنوا نزَل العذابُ، فإنه ليس بعدَ نزولِ الآية مناظرةٌ، وإن شئتَ أن تستأني قومَك استَأْنَيْتَ بهم
(3)
. قال: "يا ربِّ، أَسْتَأْنِي"
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} . قال: قال أهلُ مكةَ لنبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إن كان ما تقولُ حقًّا، ويسُرُّك أن نؤمِنَ، فحوِّلْ لنا الصَّفا ذهبًا. فأتاه جبريلُ عليه السلام، فقال: إن شئتَ كان الذي سأَلك قومك، ولكنه إنْ كان، ثُمَّ لم يؤمِنوا، لم يُنَاظُرُوا، وإن شئتَ استأنيتَ بقومِك. قال:"بل أسْتَأْنِي بقومِي". فأنزَل اللهُ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} . وأنزَل اللهُ عز وجل: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مستورد". وفى م: "مسعود". وهو مستور بن عباد الهنائي. ترجمته في التاريخ الكبير 8/ 63، والإكمال 7/ 250، وتهذيب الكمال 27/ 435، والثقات لابن حبان 7/ 524.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف.
(3)
في م: "بها".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 87.
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}
(1)
[الأنباء: 6].
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، أنهم سأَلوا أن يُحوَّل الصفا ذهبًا، قال اللهُ:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} . قال ابن جريجٍ: لم يأتِ قريةً بآيةٍ فيُكَذِّبوا بها إلا عُذِّبوا، فلو جُعِلتْ لهم الصَّفا ذهبًا ثم لم يؤمنوا عُذِّبوا
(2)
.
و "أن" الأُولى التي مع {مَنَعَنَا} ، في موضعِ نصبٍ بوقوعِ "مَنَعنا" عليها، و "أن" الثانيةُ رفعٌ؛ لأن معنَى الكلامِ: وما منَعَنا إرسالَ الآياتِ إلا تكذيبُ الأوَّلين من الأممِ، فالفعلُ لـ "أن" الثانيةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقد سأَل الآياتِ يا محمدُ مِن قبلِ قومِك ثمودُ، فآتيَناها ما سأَلت، وجعَلنا تلك الآية ناقةً مبصرةً. جعَل الإبصارَ للناقةِ، كما تقولُ للشَّجَّةِ: مُوضِحةٌ
(3)
، و: هذه حجةٌ مبينةٌ. وإنما عنَى بالمبصِرةِ
(4)
: المضيئةَ البيِّنةَ التي مَن يراها كانوا أهلَ بصرٍ بها، أنها للهِ حجةٌ، كما قيل:{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67].
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} . أي: بيِّنةً.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 87.
(2)
ينظر تفسير القرطبي 10/ 281، وابن كثير 87.
(3)
الشجة: واحدة شجاج الرأس، والموضحة: التي تبلغ إلى العظم. اللسان (ش ج ج).
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"بالبصر".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عزَّ ذكرُه:{النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} . قال: آيةً
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقولُه: {فَظَلَمُوا بِهَا} . يقولُ عز وجل: فكان بها ظُلْمُهم؛ وذلك أنهم قتَلُوها وعقرُوها، فكان ظُلْمُهم بعقرِها وقتلِها. وقد قيل: معنَى ذلك: فكَفَرُوا بها. ولا وجْهَ لذلك، إلا أنْ يكونَ
(2)
قائلُه أراد: فَكَفَرُوا باللهِ بقتلِها. فيكونَ ذلك وجهًا.
وأما قولُه: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} . فإنه يقولُ: وما نرسِلُ بالعِبَرِ والذِّكر إلا تخويفًا للعبادِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} : وإِنَّ اللهَ يخوِّفُ الناسَ بما شاء من آياتِه
(3)
لعلَّهم يُعتِبون
(4)
، أو يذَّكَّرون، أو يرجِعون. ذُكِر لنا أن الكوفةَ رَجِفَتْ على عهدِ ابن مسعودٍ، فقال: يأيها الناسُ، إنَّ رَبَّكم يستعتِبُكم فأعتِبوه
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا نوحُ بنُ قيسٍ، عن أبي رجاءٍ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 438، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م: "يقول".
(3)
في م: "آية ".
(4)
في م: "يعتبرون"، وفى ت 2:"يعينون"، وفى ف:"يعنون". والعتبى: الرجوع عن الذنب والإساءة. النهاية 3/ 175.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف، وينظر تفسير البغوي 5/ 102، وابن كثير 5/ 89.
الحسنُ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} . قال: الموتُ الذريعُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} .
وهذا حضٌّ
(2)
من اللهِ تعالى ذكرُه نبيَّه
(3)
محمدًا
(4)
صلى الله عليه وسلم، على تبلِيغِ رسالتِه، وإعلامٌ منه له
(5)
أنه قد تقدَّم منه إليه القولُ بأنه سيمنَعُه
(6)
كلَّ مَن بغاه سُوءًا وهلاكًا، يقولُ جلَّ ثناؤُه: واذكُرْ يا محمدُ إذ قُلْنا لك: إنَّ ربَّك أحاط بالناسِ قدرةً، فهم في قبضَتِه لا يقدِرون على الخروجِ من مشيئتِه، ونحن مانِعوك منهم، فلا تتهيَّبْ مِنهم أحدًا، وامْضِ لِما أَمَرْناك به من تبليغِ رسالتِنا.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي رجاءٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ يقولُ: {أَحَاطَ بِالنَّاسِ} : عصَمك من الناسِ
(7)
.
(1)
أخرجه أحمد في الزهد ص 267، 268 من طريق نوح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن المنذر.
(2)
في ص، ت 2، ف:"حط".
(3)
في ت 2: "لنبيه"، وفى ف:"بنبيه".
(4)
في ت 2، ف:"محمد".
(5)
سقط من: م.
(6)
بعده في م: من.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 190 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 89.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الهذليُّ، عن الحسنُ:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} . قال: يقولُ: أحطْتُ لك بالعربِ ألَّا يقتُلُوك
(1)
، فعرَف أنه لا يُقتَلُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَحَاطَ بِالنَّاسِ} . قال: فهُم في قبضَتِه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، عن عروةَ بن الزبيرِ قولَه:{أَحَاطَ بِالنَّاسِ} . قال: منَعك من الناسِ. قال معمرٌ
(3)
: قال قتادةُ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ
(5)
: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} . قال: منَعك من الناسِ
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} . أي: منعَك من الناسِ حتى تُبلِّغَ رسالةَ ربِّك
(7)
.
(1)
في ت،2 ف:"تقتلوا"، وفى ت 1:"يقتلوا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في ص: "و".
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 89.
(5)
بعده في م: "قوله".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 380 من طريق معمر به.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: هو رؤيا عينٍ، وهى ما رأى [نبي الله]
(1)
صلى الله عليه وسلم لمَّا أُسرِى به من مكةَ إلى بيتِ المقدسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا ابن عيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في
(2)
: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: هي رؤيا عينٍ أُرِيَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِى به، وليست برؤيا منام
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، سُئِل عن قولِه:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: هي رؤيا عينٍ رآها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِى به.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ بنحوِه
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن [فراتٍ القزاز]
(5)
، عن
(1)
في م: "النبي".
(2)
بعده في م: "قوله".
(3)
أخرجه أحمد 3/ 396 (1916)، والبخارى (4716، 6613، 3888)، والترمذى (3413)، والنسائى في الكبرى (11292)، كلهم من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(4)
تفسير عبد الرزاق 1/ 380.
(5)
في ص، ت 1 ت 2، ف:"الفرات البزار" وينظر تهذيب الكمال 23/ 150.
سعيدِ بن جبيرٍ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: كان ذلك ليلةَ أُسْرِى به إلى بيتِ المقدسِ، فرأى ما رأى، فكذَّبه المشركون حينَ أخبَرهم
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: أُسْرِى به عشاءً إلى بيتِ المقدسِ، فصلَّى فيه، وأَراه اللهُ ما أراه الآياتِ، ثم أصبَح بمكةَ، فأخبَرهم أنه أُسْرِى به إلى بيت المقدس، [فقالوا له]
(2)
: يا محمد، ما شأنك؟! أمسيت فيه ثم أصبَحتَ فِينا تخبرنا أنَّك أتيتَ بيتَ المقدسِ! فعجِبوا من ذلك حتى ارتدَّ بعضُهم عن الإسلامِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا هَوذةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: قال كفارُ أهلِ مكةَ: أليس من كذبِ ابن أبي كبشةَ أنه يزعَمُ أنه سار مَسيرةَ شهرين في ليلةٍ!
حدَّثني أبو حَصينٍ، قال: ثنا عبثرٌ، قال: ثنا حُصيَنٌ، عن أبي مالكٍ في هذه الآية:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: مَسيرُه إلى بيتِ المقدسِ
(4)
.
حدَّثني أبو السائبِ ويعقوبُ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، عن الحسنِ بن عبدِ اللهِ، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ في قولِه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 103، والقرطبي 10/ 282، وابن كثير 5/ 89.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فقال".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 494، والبغوى في تفسيره 5/ 103، والقرطبي 10/ 282، وابن كثير 5/ 89.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى سعيد بن منصور، بنحوه.
لِلنَّاسِ}. قال: حين أُسْرِى به
(1)
.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: ليلةَ أُسْرِى به
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: الرؤيا التي أرَيْناك في بيتِ المقدسِ - حينَ أُسرِى به - فكانت تلك فتنةً للكافرِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . يقولُ: أراه اللهُ من الآياتِ والعِبرِ في مَسيرِه إلى بيتِ المقدسِ. ذُكِر لنا أن ناسًا ارتدّوا بعدَ إسلامِهم حينَ حدَّثهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمسيرِه، أنكَروا ذلك وكذَّبوا به، وعَجبوا منه، وقالوا: تُحدِّثُنا أنَّك سِرْتَ مسيرةَ شهرين في ليلةٍ واحدةٍ
(4)
!
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: هو ما أُرِى في بيت المقدس ليلةَ أُسْرِى به
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ {وَمَا
(1)
تفسير البغوي 5/ 103.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 6/ 494، وابن كثير في تفسيره 5/ 89.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ف:"الكافر". والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 380 من طريق معمر به، وفيه:"للكفار".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف وابن مردويه.
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ}. قال: أَراه اللهُ من الآياتِ في طريق بيتِ المقدسِ حين أُسْرِى به؛ نزَلت فريضةُ الصلاةِ ليلةَ أُسْرِى به، [وأُسْرِى به]
(1)
قبلَ أن يهاجرَ بسنةٍ ولتسعِ
(2)
سنينَ من العشْرِ التي مكثها بمكةَ، ثم رجع من ليلتِه، فقالت قريشٌ: أتَعشَّى فينا وأصبَح فينا، ثم زعَم أنه جاء الشامَ في ليلةٍ ثم رجَع؟! وايمُ اللهِ إن الحِدَأةَ لتجيئُها شهرين
(3)
؛ شهرًا مقبلةً، وشهرًا مُدبرةً
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: هذا حينَ أُسْرِى به إلى بيتِ المقدسِ، افتُتِن فيها ناسٌ، فقالوا: يذهَبُ إلى بيتِ المقدسِ ويرجِعُ في ليلةٍ! وقال: "لمَّا أتَانِي جبريلُ عليه السلام بالبُراقِ ليحْمِلَني عليها صرَّت بأذنَيها، وانقبضَ بعضُها إلى بعضٍ، فنظَر إليها جبريلُ، فقال: والذي بعثَني بالحقِّ من عنده ما ركِبَك أحدٌ من ولدِ آدم خيرٌ منه". قال: "فصرَّت بأذنَيها وارْفَضَّت
(5)
عَرَفًا حتى سال ما تحتَها، وكان مُنتهَى خطوِها
(6)
عندَ مُنتهَى طرفِها". فلما أتاهم بذلك، قالوا: ما كان محمدٌ لينتهِىَ حتى يأتى بكِذْبةٍ تخرُجُ من أقطارِها. فأَتَوْا أبا بكرٍ رضي الله عنه، فقالوا: هذا صاحبُك يقولُ كذا وكذا. فقال: أوَقد قال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدَق. فقالوا: تصدِّقُه إن قال ذهَب
(7)
إلى بيتِ المقدسِ ورجَع في ليلةٍ؟! فقال أبو بكرٍ: إى، نزَع اللهُ عقولَكم، أُصدِّقُه بخبرِ السماء، والسماءُ أبعدُ من بيتِ المقدسِ، ولا أصدِّقُه بخبرِ بيتِ المقدسِ؟! قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنا قد جئنا بيتَ المقدسِ،
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "تسع".
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
ينظر التبيان 6/ 494.
(5)
ارفضَّ عرقًا: أي جرى عرقه وسال. النهاية 2/ 243.
(6)
في ف: "خطوتها".
(7)
في ت 1، ت 2، ف:"ذهبت".
فصِفْه لنا. فلما قالوا ذلك، رفَعه اللهُ تبارك وتعالى ومثَّله بينَ عينَيه، فجعَل يقولُ:"هو كذا، وفيه كذا". فقال بعضُهم: وأبيكم إنْ أخطَأ منه حرفًا. قال
(1)
: فقالوا: هذا
(2)
رجلٌ ساحرٌ.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . يعنى: ليلةَ أُسْرِى به إلى بيتِ المقدسِ، ثم رجَع من ليلتِه، فكانت فتنةً لهم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ]
(4)
، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(5)
: {الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} . قال: حينَ أُسْرِى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
وقال آخرون: هي [رؤيا نومٍ، وهى]
(7)
رُؤياه التي رأَى أَنَّه يدخُلُ مكةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال:
(1)
سقط من: م.
(2)
في ص: "هو".
(3)
ينظر التبيان 6/ 494، وتفسير القرطبي 10/ 282.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(5)
بعده في م: "في قوله".
(6)
تفسير مجاهد ص 438، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 89.
(7)
سقط من: م.
ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . قال: يقالُ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أرى أنه دخَل مكةَ هو وأصحابُه، وهو يومَئذٍ بالمدينةِ، فجعَل
(1)
رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم السيرَ إلى مكةَ قبلَ الأجَلِ، فرَدَّه المشرِكون، فقالت أناسٌ: قد رُدَّ
(2)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان حدَّثنا أنه سيدخُلُها. فكانت رجعَتُه فتنتَهم
(3)
.
وقال آخرون ممن قال هي رؤيا منامٍ: إنما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى في منامِه قومًا يَعلُون مِنبَرَه
(4)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن محمدِ بن الحسنِ بن زبالةَ، قال: ثنا عبدُ المهيمنِ بنُ عباسٍ بن سهلِ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، عن جَدِّي، قال: رأَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنى فلانٍ يَنزُون علي منبرِه نزوَ القِردةِ، فساءه ذلك، فما استَجْمَع ضاحكًا حتى مات. قال: وأنزل اللهُ عز وجل في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} . الآية
(5)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عنَى به رُؤْيا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما
(1)
في م: "فعجل".
(2)
في ص، ت 2، ف:"ورد".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف وابن مردويه.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"منابره".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 90 عن سندًا ومتنًا ثم قال:"وهذا السند ضعيف جدًّا؛ فإن محمد بن الحسنُ بن زبالة متروك، وشيخه أيضًا بالكلية".
رأى من الآياتِ والعِبرِ في طريقِه إلى بيتِ المقدسِ، وبيتَ
(1)
المقدسِ ليلةَ أُسرِى به، وقد ذكَرنا بعضَ ذلك في أوَّلِ هذه السورةِ.
وإنما قُلنا ذلك أولى بالصوابِ؛ لإجماعِ الحجَّةِ من أهلِ التأويلِ على أن هذه الآية إنما نزَلت في ذلك، وإيَّاه عنَى اللهُ عز وجل بها.
فإذ
(2)
كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: وما جعَلنا رؤياك التي أَرَيناك ليلةَ أسْرَينا بك من مكةَ إلى بيتِ المقدسِ، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. يقولُ: إِلا بَلاءً للناسِ الذين ارتدُّوا عن الإسلامِ لمَّا أُخبِروا بالرُّؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وللمشرِكين من أهلِ مكةَ الذين ازدادوا بسماعِهم ذلك من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تماديًا في غيِّهم، وكفرًا إلى كفرِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
(3)
.
وأما قولُه: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . فإنَّ أهلُ التأويلِ اختلَفوا فيها؛ فقال بعضُهم: هي شجرةُ الزَّقُومِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا [ابن عيينة]
(4)
، عن عمرٍو، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: شجرةُ
(1)
في ت 1، ف:"ببيت".
(2)
في م: "فإذا".
(3)
ذكر السند فقط اكتفاءً بما تقدم ص 643.
(4)
في م: "أبو عبيدة"، وينظر تهذيب الكمال 27/ 87.
الزَّقومِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: هي شجرةُ الزَّقُّومِ. قال أبو جهلٍ: أيُخوِّفُنى ابن أبى كبشةَ بشجرةِ الزَّقُّومِ؟! ثم دعا بتَمرٍ وزُبدٍ، فجعَل يقولُ: زَقِّمْنى. فأنزل اللهُ تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. وأَنَزَل: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ ويعقوبُ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، عن الحسنِ بن عبيدِ اللهِ، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: شجرةُ الزَّقُّومِ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن الحسنِ بن عبيدِ اللهِ، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ مثلَه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} : فإنَّ قريشًا كانوا يأكُلون التمرَ والزُّبدَ، ويقولون: تزقَّموا هذا الزَّقومَ. قال أبو رجاءٍ: فحدَّثني عبدُ القدوسِ، عن الحسنِ، قال: فوصَفَها اللهُ لهم في "الصافاتِ".
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا هَوذةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنُ، قال: قال أبو جهل وكفارُ أهلُ مكةَ: أليس مِن كذِبِ ابن أبي كبشةَ أنَّه يُوعِدُكم بنارٍ تحترقُ فيها الحجارةُ، ويزعُمُ أنه ينبتُ فيها شجرةً. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}. قال:
(1)
ينظر تخريجه ص 650 من طريق ابن عيينة عند عبد الرزاق.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 191 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
تفسير ابن كثير 5/ 90.
هي شجرةُ الزَّقومِ
(1)
.
حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بن يونسَ، قال: ثنا عبثرٌ، قال: ثنا حُصينٌ، عن أبي مالكٍ في هذه الآيةِ:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: شجرةُ الزَّقومِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا هشيمٌ، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ، قال [في قوله:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: هي شجرةُ الزقوم]
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن رجلٍ يقالُ له: بدرٌ، عن عكرمةَ، قال: شجرةُ الزَّقومِ.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن فُراتٍ القزَّازِ، قال: سُئِل سعيدٌ بنُ جبيرٍ عن الشجرة الملعونةِ، قال: شجرةُ الزَّقومِ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا هشيمٌ، عن عبدِ الملكِ العَزْرميِّ، عن سعيد بن جبيرٍ:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} . قال: شجرةُ الزقومِ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ بمثلِه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: الزقومُ
(4)
.
(1)
ذكرُه الطوسي في التبيان 6/ 494.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الشجرة الزقوم".
(3)
ذكرُه الطوسى في التبيان 6/ 494، والقرطبي في تفسيره 10/ 282.
(4)
تفسير مجاهد ص 438، وينظر التبيان 6/ 494، وتفسير القرطبي 10/ 282.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن أبي المُحَجَّلِ، عن أبي معشَرٍ، عن إبراهيمَ، أنه كان يحلِفُ ما يسْتَثْنِى؛ أن الشجرةَ الملعونةَ شجرةُ الزقومِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن فُراتٍ القزَّازِ، قال: سألتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ عن: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: شجرةُ الزَّقُّومِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا ابن عيينةَ، عن عمرٍو، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: هي الزَّقُّومُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} . وهي شجرةُ الزَّقومِ، خوَّف اللهُ بها عبادَه، فافتُتِنوا بذلك، حتى قال قائلُهم؛ أبو جهلِ بنُ هشامٍ: زعَم صاحبُكم هذا أنَّ في النارِ شجرةً، والنار تأكلُ الشجرَ، وإنا واللهِ ما نعلمُ الزَّقومَ إلا التمرَ والزُّبدَ، فتزقَّموا. فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى حين عَجِبوا أن يكونَ في النارِ شجرةٌ:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64، 65]. إنى خلَقْتُها
(3)
من النارِ، وعذَّبتُ [بها من شِئْتُ من عبادي]
(4)
.
(1)
التبيان 6/ 494.
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 381.
(3)
في ت 1، ت،2، ف:"خلقت".
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"به"، والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 277 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، بنحوه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . قال: الزقومُ؛ وذلك أن المشركين قالوا: يخبِرُنا هذا أنّ في النارِ شجرةً، والنارُ تأكُلُ الشجرَ حتى لا تدعَ منه شيئًا
(1)
! وكان
(2)
ذلك فِتنةً
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: شجرةُ الزقومِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . الزَّقومُ التي سألوا الله أن يملأَ بيوتَهم منها. وقال: هي الصَّرَفانُ بالزُّبدِ تتزقَّمُه. والصَّرَفانُ صِنْفٌ من التَّمرِ. قال: وقال أبو جهلٍ: هي الصَّرفانُ بالزبدِ. وافتُتِنوا بها
(5)
.
وقال آخرون: هي الكَشُوثُ
(6)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا محمدُ بن إسماعيلَ بن أبي فُدَيكٍ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن مولًى لبنى هاشمٍ، حدَّثه أنَّ عبدَ اللهِ بنَ الحارثِ بن نوفلٍ أرسَله إلى ابن
(1)
بعده في ت 1: "قال الزقوم".
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 381 من طريق معمر.
(4)
ينظر التبيان 6/ 494.
(5)
ينظر التبيان 6/ 494.
(6)
الكشوث والأكشوث والكشوثي والكشوثاء: نبات مجتث مقطوع الأصل، وقيل: لا أصل له، وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك وغيره. ينظر اللسان (ك ش ث).
عباسٍ، يسألُه عن الشجرةِ الملعونة في القرآنِ، قال: هي هذه الشجرةُ التي تَلْوِى على الشجرةِ، وتُجعَلُ في الماءِ، يعني: الكشُوثا
(1)
.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ عندَنا قولُ مَن قال: عنَى بها
(2)
شجرةَ الزقومِ؛ لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ على ذلك.
ونُصِبت الشجرةُ الملعونةُ عطفًا بها على الرُّؤيا. فتأويلُ الكلامِ إذن: وما جعَلنا الرؤيا التي أرَيناك، والشجرةَ الملعونةَ في القرآنِ، إلا فِتنةً للناسِ. فكانت فتنتُهم في الرؤيا ما ذكرتُ من ارتدادِ مَن ارتدَّ، وتمادِى أهلُ الشركِ في شركِهم، حينَ أخبَرهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما أَراه اللهُ في مسيرِه إلى بيتِ المقدسِ ليلةَ أُسْرِى به، وكانت فتنتُهم في الشجرةِ الملعونةِ ما ذكَرنا من قولِ أبي جهلٍ والمشرِكين معه: يُخْبِرُنا محمدٌ أنّ في النارِ شجرةً نابتةً، والنارُ تأكُلُ الشجرَ، فكيف تنبتُ فيها؟!
وقولُه: {وَنُخَوِّفُهُمْ} . يقولُ: ونخوِّفُ هؤلاء المشركين بما نتوعَّدُهم به
(3)
من العقوباتِ والنَّكالِ، {فَمَا يَزِيدُهُمْ} تخويفُناهم
(4)
، {إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}. يقول: إلا تماديًا وغيًّا كبيرًا في كفرِهم، وذلك أنَّهم لما خُوِّفوا بالنارِ التي طعامُهم فيها الزَّقومُ دَعَوْا بالتمرِ والزُّبدِ، وقالوا: تزقُّمُوا من هذا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
ينظر البحر المحيط 6/ 55، وتفسير القرطبي 10/ 286.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"به".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "تخويفنا".
ذكرُ مَن قال ذلك
وقد تقدَّم ذكرُ بعضِ مَن قال ذلك، ونذكُرُ بعضَ مَن بقِى.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} . قال: طَلْعُها كأنه رءوسُ الشياطينِ، والشياطينُ ملعونون. قال:{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} . لمَّا ذكَرها زادهم افتِتانًا وطغيانًا، قال اللهُ تبارك وتعالى:{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ يا محمدُ تمادِىَ هؤلاء المشركين في غَيِّهم وارْتِدادِهم، عُتُوًّا على ربِّهم، مخوِّفًا
(1)
إياهم تحقيقَهم قولَ عَدُوِّهم وعدوِّ والدِهم - حين أمرَه ربُّه بالسُّجودِ له فعصاه وأبى السجودَ له؛ حَسَدًا واستكبارًا -: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} ، وكيف صَدَّقوا ظَنَّه فيهم
(2)
، وخالَفوا أمرَ ربِّهم وطاعتَه، واتَّبعوا أمرَ عدوِّهم وعدوِّ والدِهم.
ويعنى بقولِه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} : واذكُرْ إذ قلنا للملائكةِ: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} . فإنه اسْتَكبر وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} . يقولُ: لِمَنْ خَلَقْتَه مِن طينٍ. فلمَّا حُذِفَتْ "مِن" تَعلَّق به قولُه: {خَلَقْتَ} ،
(1)
في النسخ: "بتخويفه". وهو تحريف. والمثبت هو الصواب.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فيه".
فنُصِب، يفتخِرُ عليه الجاهلُ بأنه خُلِق مِن نارٍ، وخُلِق آدمُ من طينٍ.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: بعَث ربُّ العِزَّةِ تبارك وتعالى إبليسَ، فأَخَذ مِن أدِيمِ الأرضِ؛ مِن عَذْبها ومِلْحِها، فخُلِق منه آدمُ، فكلُّ شيءٍ خُلِق من عذبِها، فهو صائِرٌ إلى السعادةِ وإن كان ابنَ كافرين، وكلُّ شيءٍ خَلَقه مِن مِلحِها، فهو صائرٌ إلى الشَّقاوةِ وإن كان ابنَ نبييِّن، ومن ثَمَّ قال إبليسُ:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} . أي هذه الطينةُ أنا جِئتُ بها، ومِن ثَمَّ سُمِّي آدمَ؛ لأنه خُلِق مِن أديمِ الأَرضِ.
وقولُه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أرأيتَ هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ، فأَمَرْتَنى بالسجودِ له، ويَعْنى بذلك آدمَ، {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} . أقْسَم عدوُّ اللهِ، فقال لربِّه: لئن أخَّرتَ إهْلاكى إلى يومِ القيامةِ، {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}. يقولُ: لأَستوليَنَّ عليهم، ولأَستأصِلَنَّهم، ولأَستميلَنَّهم. يقالُ منه: احْتَنك فلانٌ ما عندَ فلانٍ مِن مالٍ أو عِلمٍ أو غيرِ ذلك. ومنه قولُ الشاعرِ
(1)
:
نَشْكُو إليكَ سَنَةً قد أَجْحَفَتْ
…
جَهْدًا إلى جَهْدٍ بنا فَأَضْعَفَتْ
واحْتَنَكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ
(2)
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
الأبيات في مجاز القرآن 1/ 384، والتبيان 6/ 497، غير منسوبة فيهما.
(2)
المُجَلَّف: الذي أتى عليه الدهر فأذْهَبَ ماله، وقد جَلَّفه واجْتَلَفَه. اللسان (ج ل ف).
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ تبارك وتعالى:{لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} . قال: لأَحْتَوِيَنَّهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} ، يقولُ: لأَستوليَنَّ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} . قال: لأُضِلَّنَّهم
(3)
.
وهذه الألفاظُ وإن اختَلَفَتْ فإنها مُتَقارِباتُ المعنى؛ لأن الاسْتِيلاءَ والاحْتواءَ بمعنًى واحدٍ، وإذا اسْتَوْلَى عليهم فقد أضَلَّهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ لإبليسَ إذ قال له: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} . اذهَبْ فقد أَخَّرْتُكَ، فَمَن تَبِعَك منهم - يَعْنى مِن ذُرِّيَّةِ آدم، عليه السلام فأَطاعَك، فإن جهنم جَزاؤُكَ وجَزاؤُهم. يقولُ: ثوابُك
(1)
تفسير مجاهد ص 438 من طريق ورقاء به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 91، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 5/ 90، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 5/ 91 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
على دُعائِك إياهم إلى
(1)
مَعْصِيَتى، وثوابُهم على اتِّباعِهم إياك وخِلافِهم أمرى. {جَزَاءً مَوْفُورًا}. يقولُ: ثَوَابًا مَكْثُورا مُكَمَّلًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} . عذابُ جهنمَ جزاؤُهم، ونِقْمَةٌ مِن اللهِ مِن أعدائِه، فلا يُعْدَلُ عنهم من عذابِها شيءٌ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينٌ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} . قال: وافرًا
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَوْفُورًا} . قال: وافرًا
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَاسْتَفْزِزْ} : واستخفِفْ واستجهِلْ. من
(1)
في م، ت 2، ف:"علي".
(2)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 5/ 91 بلفظ: "موفرا عليكم، لا ينقص لكم منه".
(3)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 5/ 91، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في ص: "يتلوه القول في تأويل قوله {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا". والأثر في تفسير مجاهد ص 438 وأخرجه عبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 4/ 240، 241 - من طريق ورقاء به.
قولهم: اسْتَفَزَّ فُلانًا كذا وكذا فهو يَسْتَفِرُّه. {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} ، اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الصوتِ الذي عَناه جلَّ ثناؤُه بقولِه:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} ، فقال بعضُهم: عَنَى به صوتَ الغناءِ، واللَّعِبَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} . قال: بِاللَّهْوِ والغناءِ
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا يذكُرُ عن مجاهدٍ في قولِه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} . قال: اللَّعِبُ واللَّهوُ.
وقال آخرون: عَنَى به واستفزِزْ من استطعتَ منهم بدُعائِك إياه إلى طاعتِك ومعصيةِ اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} . قال: صوتُه كلُّ داعٍ دَعا إلى معصيةِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأَعْلَى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 91، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم، بنحوه مطولا.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 91، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 مطولا إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} . قال: بدعائِك
(1)
.
وأَولَى الأقوالِ في ذلك بالصحةِ أن يُقالَ: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليسَ: واسْتَفْزِزْ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ مَن استطعتَ أن تَسْتَفِزَّه بصوتِك. ولم يَخْصُصْ مِن ذلك صوتًا دونَ صوتٍ، فكلُّ صوتٍ كان دُعاءً إليه وإلى عمله وطاعتِه، وخِلافًا للدعاءِ إلى طاعةِ اللهِ، فهو داخلٌ في معنى صوتِه الذي قال اللهُ تبارك وتعالى اسمُه له:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} .
وقوله: (وَأَجلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجْلِك
(2)
). يقولُ: واجْمَعْ عليهم مِن رُكْبانِ جُندِك ومُشاتِهم مَن يُجْلِبُ عليهم
(3)
بالدعاءِ إلى طاعتِك والصَّرْفِ عن طاعتى. يُقالُ منه: أَجْلَبَ فلانٌ على فلانٍ إجْلابًا. إذا صاح عليه. والجَلبَةُ: الصوتُ. وربما قيل: ما هذا الجلَبُ؟ كما يقالُ: الغَلَبَةُ والغَلَبُ، والشَّفَقَةُ والشَّفَقُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى سَلْمُ بنُ جُنادةَ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا يَذْكُرُ عن مجاهدٍ في قولِه: (وَأَجَلِبْ عَلَيْهِم بِخَيلِكَ وَرَجْلِك). قال: كلُّ راكبٍ وماشٍ في معاصى اللهِ
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:
(1)
تفسير عبد الرزاق 1/ 381 عن معمر به مطولًا، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 105 مطولًا، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 91.
(2)
هكذا اختار هذه القراءة كما سيأتي بيان ذلك في الصفحة التالية حاشية (7).
(3)
في م: "عليها".
(4)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(وَأَجلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجْلِك). قال: إن له خَيْلًا ورَجُلًا مِن الجِنِّ والإِنسِ، وهم الذين يُطيعونه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(وَأَجَلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجْلِك): [إِنَّ له خَيْلًا ورِجالًا جنودًا مِن الجِنِّ والإنسِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قوله: (وَرَجْلِك)]
(2)
. قال: الرِّجالُ المشاةُ
(3)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:(وَأَجلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجُلِك). قال: خيلُه كلُّ راكبٍ في معصيةِ اللهِ، ورَجُلُه كلُّ راجلِ في معصيةِ اللهِ
(4)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:(وَأَجلِب بِخَيْلِكَ وَرَجْلِك). قال: ما كان من راكبٍ يُقاتلُ في معصيةِ اللهِ فهو مِن خيلِ إبليسَ، وما كان مِن راجِلٍ يُقاتِلُ
(5)
في معصيةِ اللهِ فهو مِن رجالِ إبليسَ
(6)
.
والرَّجُلُ جمعُ راجلٍ، كما التَّجْرُ جمع تاجِرٍ، والصَّحْبُ جمعُ صاحِبٍ
(7)
.
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
سقط من: م.
(3)
ذكرُه الطوسي في التبيان 6/ 499، وابن كثير في تفسيره 5/ 91، نحوه مطولا.
(4)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 5/ 91.
(5)
سقط من: م.
(6)
تقدم تخريجه في الحاشية (1) ص 657.
(7)
تمثيل المصنف هنا بـ "الصَّحْب" و "التَّجْر" يدل على أن اختيار ابن جرير في قراءة الآية: (ورَجْلِكَ) بإسكان الجيم، وهو جمع راجل هذا وقد قرأ حفص رجلك بكسر الجيم - وهو صفة بمعنى راجل -، وقرأ الباقون بإسكانها. ينظر الكشف عن وجوه القراءات السبع 2/ 48، وحجة القراءات ص 405، 406.
وأما قولُه: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . فإن أهلُ التأويلِ اخْتَلَفوا في المُشارَكَةِ التي عُنِيَتْ بقوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} ؛ فقال بعضُهم: هو أمْرُه إياهم بإنفاقِ أموالِهم في غيرِ طاعةِ اللهِ، واكْتِسابِهِمُوهَا مِن غيرِ حِلِّها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سَمِعتُ ليثًا يَذْكُرُ عن مجاهدٍ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} . [قال: الأموالُ]
(1)
التي أصَابوا
(2)
مِن غيرِ حِلِّها
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} . قال: ما أُكِل من مالٍ بغيرِ طاعةِ اللهِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن طلحةَ بن عمرٍو، عن عطاء بن أبي رَباحٍ، قال: الشِّرْكُ في أموالِ الرِّبا
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:
(1)
زيادة من: ص.
(2)
في م، وتفسير القرطبي: أصابوها.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 289.
(4)
تفسير مجاهد ص 439 من طريق ورقاء به ومن طريق الزنجى عن ابن أبي نجيحٍ به، مطولا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 105، وابن كثير في تفسيره 5/ 92.
{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: قد واللهِ شارَكَهم في أموالِهم؛ أعْطاهم
(1)
اللهُ أموالًا فأَنْفَقُوها في طاعةِ الشيطانِ في غيرِ حقِّ الله تبارَك اسمُه. وهو قولُ قتادةَ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدٌ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} : أمَرهم
(2)
أن يَكْسِبوها من خبيثٍ، ويُنْفِقُوها في حرامٍ
(3)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: كلُّ مالٍ في معصيةِ اللهِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: مشاركتُه إياهم في الأموالِ والأولادِ ما زيَّن لهم فيها مِن معاصى اللهِ حتى ركِبوها.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} : كلُّ مالٍ
(5)
أنْفَقوا في غيرِ حقِّه
(6)
.
وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ما كان مِن تحريمِ المشركين ما كانوا يُحَرِّمون من الأنْعامِ، كالبحَائرِ والسَّوائبِ ونحوِ ذلك.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"وأعطاهم".
(2)
في م: "من هم".
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 381، 382 عن معمر به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 92.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 92، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في م: "ما".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 92 بنحوه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: الأموالُ ما كانوا يُحَرِّمون مِن أَنعامِهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عيسى، عن عمرانَ بن سليمانَ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، قال: مشاركتُه في الأموالِ؛ أن جعَلوا البَحيرةَ والسَّائبةَ والوَصِيلةَ لغيرِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدٌ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} . فإنه قد فعَل ذلك؛ أما في الأموالِ فأمرَهم أن يَجْعَلوا بَحيرةً وسائبةً ووَصيلةً وحامًا
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: الصوابُ: حامِيًا.
وقال آخرون: بل عنَى به ما كان المشركون يَذْبَحونه لآلهتِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضَّحَّاكَ، يقولُ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} : يَعْنى ما كانوا يَذْبَحون لآلهتِهم
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 مطولًا. إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 289، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 مطولًا إلى المصنف وابن مردويه
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 381 عن معمر به مطولًا وذكره البغوي في تفسيره 5/ 105، والقرطبي في تفسيره 10/ 289.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 105، والقرطبي في تفسيره 10/ 289.
وأَوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عنَى بذلك كلَّ مالٍ عُصِيَ اللهُ فيه بإنفاقٍ في حرامٍ، أو اكتسابٍ من حرامٍ، أو ذَبْح للآلهةِ، أو تَسْيِيبٍ أو بَحْرٍ للشيطانِ، وغيرِ ذلك مما كان مَعْصِيًّا به أو فيه، وذلك أَنَّ الله قال:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} ، فكلُّ ما أُطِيع الشيطانُ فيه مِن مالٍ وعُصِيَ اللهُ فيه، فقد شارَك فاعلُ ذلك فيه إبليسَ، فلا وجهَ لخصُوصِ بعضِ ذلك دونَ بعضٍ.
وقولُه: {وَالْأَوْلَادِ} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ شِرْكَتِه بني آدمَ في أولادِهم؛ فقال بعضُهم: شِرْكتُه إياهم فيهم بزناهم بأُمَّهاتِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: أولادُ الزِّنا
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سَمِعتُ ليثًا يذكُرُ عن مجاهدٍ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: أولادُ الزِّنا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: أولادُ الزِّنا
(3)
.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 289، وابن كثير في تفسيره 5/ 92.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 105، وابن كثير في تفسيره 5/ 92. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192 مطولًا إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تقدم تخريجه في الحاشية (4) ص 660.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: أولادُ الزِّنا.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ، قال: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضَّحَاكَ يقولُ في قولِه: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: أولادُ الزِّنا، يَعْنى بذلك أهلَ الشِّرْكِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: الأولادُ أولادُ الزِّنا.
وقال آخرون: عنَى بذلك وَأَدَهم أَوْلادَهم وقَتْلَهمُوهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: ما قتلوا مِن أولادِهم، وأَتَوْا فيهم الحرامَ
(2)
.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك صَبْغَهم إياهم في الكفرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: قد واللهِ شارَكهم في أموالِهم وأولادِهم، فمَجَّسوا وهوَّدوا ونصَّروا، وصبَغوا غيرَ صِبْغَةِ الإسلامِ، وجَزَّءوا مِن
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 105، والقرطبي في تفسيره 10/ 289، وابن كثير في تفسيره 5/ 92.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 10/ 289، وابن كثير في تفسيره 5/ 92.
أموالهم جُزْءًا للشيطانِ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: قد فعل ذلك؛ أما في الأولاد فإنَّهم هَوَّدُوهم ونَصَّروهم ومَجَّسوهم
(2)
.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك تَسْميتَهم أولادَهم عبدَ الحارثِ وعبدَ شمسٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني عيسى بنُ يونسَ، عن عمرانَ بن سليمانَ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} . قال: مشاركتُه إياهم في الأولادِ؛ سَمَّوْا عبدَ الحارثِ وعبدَ شمسٍ وعبد فُلانٍ
(3)
.
وأوْلَى الأقوال في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: كلُّ ولدٍ ولَدَتْه أنثى عُصِيَ اللهُ بتسميتِه ما يَكْرَهُه اللهُ، أو بإدخالِه في غيرِ الدِّينِ الذي ارْتَضاه اللهُ، أو بالزِّنى بأُمِّهِ، أو بقَتْلِه ووَأدِه، أو غيرِ ذلك من الأمورِ التي يُعْصَى اللهُ [بها أو فيها]
(4)
، فقد دَخَل في مشاركةِ إبليسَ فيه مَنْ وُلِدَ ذلك المولودُ له أو منه؛ لأن الله لم يَخْصُصْ بقولِه:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} ، مَعْنَى الشِّرْكة فيه بمعنًى دُونَ معنًى، فكلُّ ما عُصِى اللهُ فيه أو به، وأُطِيعَ به الشيطانُ أو فيه، فهو [مشاركةُ مَنْ]
(5)
عصَى الله فيه أو
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 92.
(2)
تقدم تخريجه في حاشية 3 ص 662.
(3)
تقدم تخريجه في حاشية 2 ص 662، وينظر تفسير ابن كثير 5/ 92.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بفعله به أو فيه"، وفى م:"بها بفعله به أو فيه". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مشاركته ممن".
به، إبليسَ فيه
وقولُه: {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} . يقولُ تعالى ذكرُه لإبليسَ: وعِدْ أتباعَك من ذُرِّيَّةِ آدمَ النُّصْرةَ على من أرادَهم بسوءٍ. يقولُ اللهُ: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} ؛ لأنه لا يُغْنى عنهم مِنْ عقابِ اللهِ إذا نزَل بهم شيئًا، فهم مِن عِداتِه في باطلٍ وخديعةٍ، كما قال لهم عدوُّ اللهِ حِينَ حَصْحَصَ الحَقُّ {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لإبليسَ: إنَّ عبادى الذين أطاعونى فاتَّبَعوا أمرى، وعَصَوْكَ يا إبليسُ، ليس لك عليهم حُجَّةٌ.
وقولُه: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وكَفاك يا محمدُ رَبُّك حَفيظًا، وقَيِّمًا بأمرِك، فانْقَدْ لأمرِه، وبَلِّغْ رِسالَتَه هؤلاء المشركين، ولا تَخَفْ أحدًا، فإنه قد تَوَكَّلَ بحِفْظِك ونُصْرَتِك.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} : وعبادُه المؤمنون، وقال اللهُ في آيةٍ أُخْرَى:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100].
القولُ في تأويل قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)}.
يقول تعالى ذكرُه للمشركين به: ربُّكم أيها القومُ هو الذي يُسَيِّرُ لكم السُّفُنَ في البحرِ، فيحْمِلُكم فيها {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}: لتَوصَّلُوا بالرُّكوب فيها إلى أماكِنِ تجاراتِكم ومطَالِبِكم ومَعايِشِكم، وتَلْتَمِسوا مِن رِزْقِه. {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. يقولُ: إن الله كان بكم رحيمًا حينَ أجْرَى لكم الفُلْكَ في البحرِ؛ تَسْهِيلًا منه بذلك عليكم التَّصرُّفَ في طلبِ فضلِه في البلادِ النائيةِ، التي لولا تَسْهيلُه ذلك لكم لصَعُبَ عليكم الوصولُ إليها.
وبنحوِ ما قلنا في قولِه: {يُزْجِي لَكُمُ} . أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بن داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةٌ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} . يقولُ: يُجْرِى الفُلْكَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} . قال: يُسَيِّرُها في البحرِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} . قال: يُجْرِى.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {رَبُّكُمُ
(1)
أخرجه البخارى معلقًا بصيغة الجزم، عن ابن عباسٍ، عقب الحديث (4710).
(2)
تفسير عبد الرزاق 1/ 382 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 192، 193 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ}. قال: يُجْرِيها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا نالَتْكم الشِّدَّةُ والجَهْدُ في البحرِ، {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ}. يقولُ: فَقَدْتم مَنْ تَدْعون مِن دُونِ اللهِ مِن الأَنْدادِ والآلهةِ، وجارَ
(1)
عن طريقِكم فلم يُغِثْكم، ولم تَجِدوا غيرَ اللهِ مُغِيثًا يُغِيثُكم - دعوتموه، فَلَمَّا دعوتموه [وأغاثكم]
(2)
وأجاب دُعاءَكم، ونَجَّاكم مِن هَوْلِ ما كنتم فيه في البحرِ، أعْرَضْتم عمَّا دعاكم إليه ربُّكم مِن خَلْعِ الأندادِ، والبَراءةِ مِن الآلهةِ، وإفرادِه بالألوهةِ؛ كُفرًا منكم بنِعمتِهِ
(3)
، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}. يقولُ: وكان الإنسانُ ذا جَحْدٍ لنعَمِ ربِّه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ [يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ]
(4)
عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَفَأَمِنْتُمْ} أيها الناسُ مِن ربِّكم، وقد كَفَرْتم نعمتَه بتَنْجِيتِه إياكم من هولِ ما كنتم فيه في البحرِ، وعظيمِ ما كنتم قد أشْرَفْتم عليه مِن الهلاكِ، فَلَمَّا نَجاكم وصِرْتم إلى البَرِّ كَفَرْتم به
(5)
، وأَشْرَكْتم في عبادتِه غيرَه، {أَنْ
(1)
في ت 1، ت 2:"حار".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أغائكم".
(3)
في م: "لنعمته".
(4)
في ف: "نخسف بكم جانب البر أو نرسل". وبالنون في "نخسف"، "نرسل" قرأ ابن كثير وأبو عمرو. السبعة لابن مجاهد ص 383.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} يعنى ناحية البَرِّ، {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا}. يقولُ: أو يُمطِرَكم حجارةً مِن السماءِ تَقْتُلُكم، كما فَعَل بقومِ لوطٍ، {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}. يقولُ: ثم لا تَجِدوا لكم قَيِّمًا
(1)
يقومُ بالمدافَعَةِ عنكم مِن عذابِه، وما يَمْنَعُكم منه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . يقولُ: حجارةً مِن السماءِ، {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}: أي مَنَعَةً ولا ناصرًا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينٌ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ في قولِه:{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . قال: مطرَ الحجارةِ إذا خَرَجْتُم مِن البحرِ.
وكان بعضُ أهلُ العربيةِ يُوَجِّهُ تأويلَ قولِه: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . إلى: أو يُرْسِلَ عليكم رِيحًا عاصِفًا تَحصِبُ. ويَسْتَشْهِدُ لقولِه ذلك بقولِ الشاعرِ
(3)
:
مُسْتَقْبِلِين شمالَ الشَّامِ تَضْرِبُنا
…
بحاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
وأصلُ الحاصِبِ: الريحُ تَحصِبُ بالحَصْباءِ. والحصباءُ: الأرضُ فيها الرملُ
(1)
في م: "ما"، وفي ت 1:"ما ما".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 193 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
هو الفرزدق، والبيت في شرح ديوانه ص 262. وسيأتي في تفسير سورة العنكبوت آية 40.
والحَصَى الصِّغارُ. يُقالُ
(1)
في الكلامِ: حصَب
(2)
فلانٌ فلانًا. إذا رَماه بالحصباءِ.
وإنما وُصِفَتِ الريحُ بأنها تحصِبُ؛ لرَمْيِها الناسَ بذلك، كما قال الأَخْطَلُ
(3)
:
ولقد عَلِمْتِ إِذا العشارُ
(4)
تَرَوَّحَتْ
…
هَدَجَ الرِّئَالِ
(5)
تَكُبُّهُنَّ شَمَالًا
تَرمْى العِضاهَ بحاصِبٍ مِن ثَلْجِها
…
حتى يَبِيتَ على العِضاهِ جُفَالا
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ
(6)
فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ
(7)
عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ
(8)
بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَمْ أَمِنْتُمْ} ، أيها القومُ مِن ربِّكم، وقد كَفَرْتم به بعدَ إنْعامِه عليكم النعمةَ التي قد عَلِمْتم، {أَنْ يُعِيدَكُمْ} في البحرِ {تَارَةً أُخْرَى}. يقولُ: مَرَّةً أُخرى.
والهاء التي في قوله: {فِيهِ} . مِن ذِكْرِ البحر.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {أَنْ يُعِيدَكُمْ
(1)
بعده في ت 2: "منه".
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"به". وينظر الأفعال للسرقسطى 1/ 356.
(3)
شرح ديوان الأخطل ص 387.
(4)
العشار: الإبل التي مضى على حملها عشرة أشهر. اللسان (ع ش ر).
(5)
الهدج: مشى رُوَيْد في ضعف. والرئال، جمع الرأل: ولد النعام. اللسان (هـ د ج، ر أ ل).
(6)
في ت 1، ت 2، ف:"نعيدكم". وقراءة ابن كثير وأبي عمرو (نعيدكم)، (فنرسل)، (فنغرقكم) ثلاثتها بالنون. السبعة لابن مجاهدٍ ص 383.
(7)
في ت 1، ت 2، ف:"فنرسل".
(8)
في ت 1، ت 2، ف:"فنغرقكم".
فِيهِ تَارَةً أُخْرَى}. أي: في البحرِ مرةً أُخرى
(1)
.
{فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} . وهى التي تَقْصِفُ مَا مَرَّتْ به فتُحَطِّمُه وتَدُقُّه، من قولِهم: قصَف فلانٌ ظَهْرَ فلانٍ. إذا كسَره، {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ}. يقولُ: فيُغْرِقكم اللهُ بهذه الريحِ القاصِفِ {بِمَا كَفَرْتُمْ} . يقولُ: بكُفْرِكم به. {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . يقول: ثم لا تجدوا لكم علينا تابعًا يَتْبَعُنا بما فَعَلْنا بكم، ولا ثائِرًا يَثأَرُنا بإهلاكناكم
(2)
. وقيل: {تَبِيعًا} في موضعِ "التابِعِ"، كما قيل:"عليمٌ" في موضعِ "عالمٍ". والعربُ تقولُ لكل طالبٍ بدَمٍ أو دَيْنٍ أو غيرِه: تبيعٌ. ومنه قولُ الشاعرِ:
عَدَوْا وَعَدَتْ غِزْلانُهم فكأَنها
…
ضوامِنُ غُرمٍ لَزَّهن تَبِيعُ
وبنحوِ الذي قلنا في "القاصفِ" و "التَّبيعِ" قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةٌ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} . يقولُ: عاصِفًا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {قَاصِفًا} : التي تُغْرِقُ
(4)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 193 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "يا هلاكنا إياكم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (4/ 193) إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ذكرُه الحافظ في الفتح 6/ 300 عن ابن جريج به، وعزاه للمصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (4/ 193) إلى المصنف وابن المنذر.
قولَه: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . يقولُ: نصيرًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ. قال محمدٌ: ثائِرًا. وقال الحارثُ: نصيرًا ثائرًا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . قال: ثائرًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . أي: لا نَخافُ أَن تُتْبَعَ بشيءٍ مِن ذلك.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . يقولُ: لا يَتْبَعُنا أحدٌ بشيءٍ مِن ذلك
(3)
.
والتارةُ تُجْمَعُ
(4)
: تاراتٌ وتِيَرٌ. وأَفْعَلْتُ
(5)
منه: أَتَرْتُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[*]
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 193 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 439، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 193 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 1/ 382، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 193 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "جمعه".
(5)
في ص، ت 1، ت،2، ف:"فعلت".
[*](تعليق الشاملة): وقع في المطبوع هنا شيء من التفسير، تكرر بنصه وحواشيه في بداية جـ 15، غلطٌ طباعيٌ، فحذفناه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[*](تعليق الشاملة): وقع في المطبوع هنا شيء من التفسير، تكرر بنصه وحواشيه في بداية جـ 15، غلطٌ طباعيٌ، فحذفناه