الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسيرُ سورةِ طه
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى
(3)}.
اختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {طه} ، فقال بعضُهم: معناه: يا رَجُلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا أبو تُمَيلَةَ، عن الحسينِ
(1)
بن واقدٍ، عن يزيدَ النَّحْوِيِّ، عن عِكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{طه} . قال: بالنَّبَطِيَّةِ: يا رَجُلُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} : فَإِنَّ قومَه قالوا: لقد شَقِى هذا الرجلُ بربِّه. فأنزَل اللهُ تعالى ذكرُه: {طه} . يعني: يا رَجُلُ، {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
(3)
.
(1)
في م: "الحسن". وقد تقدم مرارًا.
(2)
أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (717 - بغية)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 50/ 266، وتغليق التعليق 4/ 253 - والطبراني (12249) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى ابن مردويه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 288 إلى المصنف وابن مردويه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبَرنى عبدُ اللهِ بنُ مسلمٍ، أو يَعلَى بنُ مسلمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ أنه قال:{طه} : يا رَجُلُ، بالسريانيةِ
(1)
.
قال ابن جريجٍ: وأخبَرنى زمعةُ بنُ صالحٍ، عن سلَمةَ بن وَهْرامَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ بذلك أيضًا
(2)
. قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ ذلك أيضًا
(3)
.
حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى القزَّازُ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عمارةُ، عن عكرمةَ في قولِه:{طه} . قال: يا رجلُ، كلمةٌ بالنَّبَطيَّةِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا [عبيدُ اللهِ]
(4)
، عن عكرمةَ في قولِه:{طه} . قال: هي بالنَّبَطيَّةِ: يا إنسانُ.
حدَّثنا [محمدُ بنُ سنانٍ القزازُ]
(5)
، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن قرةَ بن خالدٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{طه} . قال: يا رجلُ، بالنَّبَطِيَّةِ
(6)
.
وحدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُصَينٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{طه} . قال: يا رجلُ
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 472، والبغوى في الجعديات (2187) من طريق سالم الأفطس، عن سعيد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى المصنف.
(3)
ينظر تفسير البغوي 5/ 262.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"عبد الله". وينظر تهذيب الكمال 19/ 81.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"محمد بن بشار". وينظر تهذيب الكمال 25/ 323.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 472 من طريق قرة بن خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى عبد بن حميد وفيه قصة.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 251 - من طريق عبد الرحمن بن مهدي =
وحدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{طه} . قال: يا رجلُ، وهى بالسريانيةِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ والحسنِ في قولِه: [طه}، قالا: يا رجلُ
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ -[يَعنى ابنَ سليمانَ]
(3)
- قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قولِه: {طه} . يقولُ: يا رجلُ.
وقال آخرون: هو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ، وقَسَمٌ أقسَم اللهُ به.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{طه} . قال: فإنه قسمٌ [أقسمه اللهُ]
(4)
، وهو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ
(5)
.
وقال آخرون: هو حروفُ هجاءٍ.
وقال آخرون: هي
(6)
حروفٌ مُقطَّعةٌ، يَدُلُّ كلُّ حرفٍ منها على معنًى. واختلَفوا في ذلك اختلافَهم في {الم} . وقد ذكَرنا ذلك في مواضعِه، وبيَّناه بشواهدِه
(7)
= به، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 472 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، وفيه: بلسان الحبشة.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 262.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 15.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في م: "أقسم الله به".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(6)
سقط من: ت 1، وفى ص، م، ت 2، ت 3، ف:"هو".
(7)
ينظر ما تقدم في 1/ 204 - 213.
والذي هو أولَى بالصوابِ عندى مِن الأقوالِ فيه قولُ مَن قال: معناه: يا رجلُ. لأنها كلمةٌ معروفةٌ في عَكٍّ
(1)
فيما بلَغنى، وأن معناه فيهم: يا رجلُ، وأُنشِد لمتممِ بن نُويرةَ
(2)
:
هتفتُ بِطَهَ في القتالِ فلمْ يُجِبْ
…
فخِفتُ عليهِ أنْ يكونَ مُوائِلَا
(3)
وقال آخرُ
(4)
:
إن السَّفاهةَ طَهَ من خلائقِكم
…
لا بارَك اللهُ في القومِ الملاعينِ
فإذ كان ذلك معروفًا فيهم على ما ذكَرْنا، فالواجبُ أن يُوجَّهَ تأويلُه إلى المعروفِ فيهم مِن معناه، ولا سِيَّما إذا وافَق ذلك تأويلَ أهلِ العلمِ مِن الصحابةِ والتابعينِ.
فتأويلُ الكلامِ إذن: يا رجلُ، ما أنْزَلْنا عليك القرآن لتَشْقَى بإنزالِناه
(5)
عليك، فنكلِّفَك ما لا طاقةَ لك به مِن العملِ.
وذُكِر أنه قيل له ذلك بسببِ ما كان يَلْقَى مِن النَّصَبِ والعَناءِ والسَّهِرِ في قيامِ الليلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن
(1)
على: قبيلة يضاف إليها مخلاف باليمن. معجم البلدان 3/ 706.
(2)
ديوانه ص 131.
(3)
الموائل: الطالب للنجاة. ينظر اللسان (و أ ل)
(4)
هو يزيد بن المهلهل، والبيت في التبيان، 7/ 140، وتفسير القرطبي 11/ 166.
(5)
في م: "ما أنزلناه".
مجاهدٍ: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . قال: [في الصلاةِ. قال]
(1)
: هي مِثلُ قولِه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]. فكانوا يُعلِّقون الحبالَ بصدُورِهم
(2)
في الصلاةِ
(3)
.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . قال: في الصلاةِ؛ كقولِه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . وكانوا يعلِّقون الحبالَ بصدورِهم في الصلاةِ.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} : لا واللهِ ما جعَله اللهُ شقاءً
(4)
، ولكن جعَله رحمةً ونورًا، ودليلًا إلى الجنةِ
(5)
.
وقولُه: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . يقولُ جلَّ ذكرُه: ما أنزَلنا عليك هذا القرآنَ إلا تذكرةً لمن يَخشَى عقابَ اللهِ، فيَتَّقِيه بأداءِ فرائضِ ربِّه واجتنابِ محارمِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} : وإن الله أَنزَل كتابَه
(6)
، وبعث رسلَه رحمةً رحِم اللهُ بها العبادَ؛ ليتذَكَّر ذاكرٌ، ويَنْتِفِعَ رجلٌ بما سمِع مِن كتابِ اللهِ، وهو ذكرٌ له أنزَله
(7)
اللهُ،
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "في صدورهم".
(3)
تفسير مجاهد ص 460، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ص، م، ت 1، ف، والدر المنثور:"شقيا".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى ابن أبي حاتم.
(6)
في م: "كتبه".
(7)
في م: "أنزل".
فيه حلَالُه وحرامُه، فقال:{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى}
(1)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . قال
(2)
: أنزَلناه عليك تذكرةً لمَن يَخشَى.
فمعنَى الكلامِ إذن: يا رجلُ ما أنزَلنا عليك هذا القرآنُ لتشقَى به، ما أنزَلناه إلا تذكرةً لمَن يَخشَى.
وقد اختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ {تَذْكِرَةً} ؛ فكان بعضُ نحويِّي البصرة يقولُ
(3)
: {إِلَّا تَذْكِرَةً} . بدلًا مِن قولِه: {لِتَشْقَى} . فجعَلَه: ما أنزَلنا عليك القرآنَ إلا تذكرةً.
وكان بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(4)
يقولُ: نُصِبت على قولِه: ما أنزلناه
(5)
إلا تذكرةً.
وكان بعضُهم يُنكرُ قول القائلِ: نُصبِت بدلًا مِن قولِه: {لِتَشْقَى} . ويقولُ: ذلك غيرُ جائزٍ؛ لأن: {لِتَشْقَى} . في الجَحْدِ، و:{إِلَّا تَذْكِرَةً} . في التحقيقِ، ولكنَّه تكريرٌ.
وكان بعضُهم يقولُ: معنى الكلامِ: ما أنزَلنا عليك القرآنَ إلا تذكِرةً لمَن يَخْشَى، لا لِتَشْقَى.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} .
(1)
تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"الذي".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"قال".
(4)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 174.
(5)
في الأصل: "أنزلنا".
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: هذا القرآنُ تنزيلٌ مِن الرَّبِّ الذي خلَق الأرضَ والسماواتِ العُلى. والعُلَى: جمعُ عُلْيَا.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ قولِه: {تَنْزِيلًا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: نُصِبَ ذلك بمعْنَى: أنزَل اللهُ ذلك تنزيلًا.
وقال بعضُ مَن أنكَر ذلك مِن قيلِه: هذا مِن كلامَين، ولكن المعنَى: هو تنزيلٌ.
ثم أَسقَط "هو"، واتَّصَل بالكلامِ الذي قبلَه، فخرَج مِنه، ولم يكُنْ مِن لفظِه.
والقولانِ جميعًا عندى غيرُ خطأ.
وقولُه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: الرحمنُ على عرشِه ارتفَع وعلَا.
وقد بيَّنا معنى "الاستواء" بشواهده فيما مضَى، وذكَرنا اختلافَ المختلِفين فيه، فأغنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وللرفعِ في {الرَّحْمَنُ} وجهانِ؛ أحدُهما، بمعنَى قولِه:{تَنْزِيلًا} . فيكونُ معنى الكلامِ: نزَّله من خلَق الأرضَ والسماواتِ، نزَّله الرحمنُ الذي على العرشِ استوى. والآخرُ، بقولِه:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؛ لأن في قولِه: {اسْتَوَى} . ذِكرًا مِن "الرحمنِ".
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} مِلْكًا له، وهو مُدبِّرُ ذلك كلِّه، ومُصرِّفُ جميعِه.
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 454.
ويعنى بالثَّرَى النَّدَى، يُقالُ للترابِ الرَّطبِ المبتلِّ: ثرًى؛ مَنْقوصٌ
(1)
، يُقالُ مِنه: ثرِيَتِ الأرضُ تَثرَى ثرًى؛ مَنْقوصٌ، والثَّرَى مصدرٌ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} : والثَّرَى كلُّ شيءٍ مبتلٌّ
(2)
.
وحُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضَّحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} : ما حُفِر مِن الترابِ مُبتلًّا
(3)
.
وإنما عنَى بذلك: وما تحتَ الأرَضين السبعِ، كالذي حدَّثني محمدُ بن إبراهيمَ السَّلِيميُّ
(4)
، المعروفُ بابنِ صُدْرانَ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ رفاعةَ، عن محمدِ بن كعبٍ:{وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} . قال: الثَّرَى سبعُ أرَضِينَ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن تَجهَرْ يا محمدُ بالقولِ، أو تُخفِ به، فسواءٌ عندَ ربِّك الذي له ما في السماواتِ وما في الأرضِ؛ {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ}. يقولُ:
(1)
يعنى بالمنقوص: الاسم المقصور في مصطلح البصريين. وينظر المصطلح النحوى ص 144، 145.
(2)
تمام الأثر المتقدم في ص 9، 10.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 289 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في الأصل، ص، ت 1، ف:"السلمي". وينظر تهذيب الكمال 24/ 316.
فإنه لا يَخْفَى عليه ما استَسْررتَه في نفسِك، فلم تُبدِه بجوارحِك ولم تتكلَّمْ بلسانِك، ولم تَنطِقْ به، {وَأَخْفَى} .
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في المَعْنِيِّ بقولِه: {وَأَخْفَى} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وأخفَى مِن السرِّ. قال: والذي هو أخفَى مِن السرِّ ما حدَّث به المرءُ نفسَه ولم يَعمَلْه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: السرُّ ما عَلِمتَه
(1)
أنتَ، {وَأَخْفَى} . ما قذَف اللهُ في قلبِك مما لم تعلَمْه
(2)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ قولَه:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . يَعنِي بـ "أخفَى"، ما لم يَعمَلْه
(3)
وهو عاملُه، وأما "السرُّ"، فيعنى ما أسرَّ في نفسِه.
وحدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عبَّاسٍ قولَه:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: السرُّ ما أسرَّ ابن آدمَ في نفسِه، {وَأَخْفَى}. قال: ما أخفَى ابن آدمَ مما هو فاعلُه قبل أن يَعْمَلَه
(4)
، فاللهُ يعلَمُ ذلك، فعلْمُه
(5)
فيما مضَى من ذلك وما بَقِى علمٌ واحدٌ، وجميعُ الخلائقِ عندَه في ذلك كنفسٍ واحدةٍ،
(1)
في م، ف:"عملته".
(2)
في م: "تعمله".
والأثر أخرجه الحاكم 2/ 378 من طريق عمرو بن أبي قيس به، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (172) من طريق عطاء به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يعلمه".
(4)
في ف: "يعلمه".
(5)
في ت 1: "فعمله".
وهو قولُه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}
(1)
[لقمان: 28].
وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ: السرُّ ما أسرَّ الإنسانُ في نفسِه، {وَأَخْفَى} . ما لم
(2)
يَعْلَمِ الإنسانُ مما هو كائنٌ.
وحدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ ومحمدُ بنُ عمرٍو، قالا: ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: أخفى: الوسوسةُ. زاد ابن عمرٍو والحارثُ في حديثَيْهما: والسِّرُّ: العملُ الذي يُسِرُّونَ مِن الناسِ
(3)
.
وحدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَخْفَى} . قال: الوسوسةُ.
حدَّثنا هنَّادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال: أخفى: حدِيثُ نفسِك
(4)
.
حدَّثنا ابن [سنانٍ القزازُ]
(5)
، قال: ثنا الحسينُ بنُ الحسنِ الأشقرُ، قال: ثنا أبو كُدَينةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه: {يَعْلَمُ
(1)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (73) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"لا".
(3)
تفسير مجاهد ص 460، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في ص، م، ت 1، ف:"بشار".
السِّرَّ وَأَخْفَى}. قال: السرُّ: ما يكونُ في نفسِك اليومَ
(1)
، وأخفَى: ما يكونُ في غدٍ وبعدَ غدٍ، لا يعلمُه إلا اللهُ.
وقال آخرون: بل معناه: وأخفَى مِن السرِّ ما لم تُحدِّث به نفسَك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصَّباح، قال: ثنا ابن فُضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبيرٍ في قولِه:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: السرُّ: ما أسرَرتَ في نفسِك، وأخفَى مِن ذلك: ما لم تُحدِّثْ به نفسَك
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ قولَه:{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} : كنا نُحدَّثُ أن السرَّ ما حدَّثتَ به نفسَك، وأن أخفَى مِن السرِّ ما هو كائنٌ مما لم تُحدِّثْ به نفسَك.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا سليمانُ بنُ حربٍ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: ثنا قتادةُ
(3)
في قولِ اللهِ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: يعلمُ ما أسرَرتَ في نفسِك، وأخفَى: ما لم يكنْ وهو كائنٌ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: أخفَى مِن السرِّ: ما حدَّثتَ به نفسَك، وما لم تُحدِّثْ به نفسَك أيضًا مما هو كائنٌ
(4)
.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
تفسير مجاهد ص 460 من طريق عطاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"أبو قتادة".
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 15، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى عبد بن حميد.
وحُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضَّحاكَ يقولُ في قولِه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} : أمَّا السرُّ: فما أسرَرتَ في نفسِك، وأما أخفَى مِن السرِّ: فما لم تعلَمْه
(1)
وأنتَ عاملُه، يعلمُ اللهُ ذلك كلَّه
(2)
.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك: إنه يعلمُ سرَّ العبادِ، وأخفَى سرَّ نفسِه، فلم يُطلِعْ عليه أحدًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . قال: يعلمُ أسرارَ العبادِ، وأخفَى سرَّه فلا يُعلَمُ
(3)
.
وكأن الذين وجَّهوا تأويلِ ذلك إلى أن السِّرَّ هو ما حدَّث به الإنسانُ غيَره سرًّا، وأن أخفَى، معناه ما حدَّث به نفسَه - وجَّهوا تأويلَ "أخفَى" إلى الخفيِّ. وقال بعضُهم: قد توضَعُ "أفعَلُ" موضِعَ "الفاعلِ". واستشهَدوا لقولِهم
(4)
ذلك بقولِ الشاعرِ
(5)
:
تَمَنَّى رِجالٌ أَنْ أَمُوتَ وإِنْ أُمُتْ
…
فتلك سبيلٌ
(6)
لستُ فيها بأوحدِ
والصوابُ مِن القولِ في ذلك قولُ مَن قال: معناه
(7)
: يَعلَمُ السِّرَّ وأخفَى مِن
(1)
في م: "تعمله".
(2)
تفسير سفيان ص 192 عن أبي داود عن الضحاك، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى عبد بن حميد.
(3)
التبيان 7/ 142.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"لقيلهم".
(5)
نسبه الأخفش في الاختيارين ص 161 إلى مالك بن القين الخزرجي، وهو في ديوان عبيد بن الأبرص ص 56، وفيه: تمنى مُرَىْءُ القيس موتى.
(6)
في م: "طريق".
(7)
ليس في الأصل.
السرِّ؛ لأن ذلك هو الظاهرُ مِن الكلامِ، ولو كان معنَى ذلك على
(1)
ما تأوَّله ابن زِيدٍ لكان الكلامُ: وأخفَى اللهُ سرَّه؛ لأن "أخفَى" فِعلٌ واقِعٌ مُتعدٍّ، إذا كان بمعنَى "فعَل" على ما تأوَّله ابن زيدٍ، وفى انفرادِ "أخفَى" مِن مفعولِه والذي يَعمَلُ فيه لو كان بمعنَى "فعَل" - الدليلُ الواضحُ على أنه بمعنى "أفعَلَ"، وأن تأويلِ الكلامِ: فإنه يَعْلَمُ السرَّ وأخفَى مِنه. فإذ كان ذلك تأويلَه، فالصوابُ مِن القولِ في معنَى أخفَى مِن السرِّ أن يُقالَ: هو ما علِم اللهُ ما خَفِيَ
(2)
عن العبادِ ولم يعلَموه مما هو كائنٌ ولما يكُنْ؛ لأن ما ظهَر وكان، فغيرُ سِرٍّ، وأن ما لم يكنْ وهو غيرُ كائنٍ، فلا شيءَ، وأن ما لم يَكُنْ وهو كائنٌ، فهو أخْفى مِن السِّرِّ، لأن ذلك لا يعلَمُه إلا اللهُ، ثم مَن أَعلَمه ذلك مِن عبادِه.
وأما قولُه تعالى ذكرُه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . فإنه يعنِى بذلك: المعبودُ الذي لا تَصْلُحُ العبادةُ إلَّا {اللَّهُ}
(3)
. يقولُ: فإيَّاه فاعبدُوا أَيُّها النَّاسُ دونَ ما سِواه مِن الآلهةِ والأوثانِ، {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: لمعبودِكم أيُّها الناسُ الأسماءُ الحسْنَى. فقال تعالى ذكرُه: {الْحُسْنَى} . فوحَّد، وهو نعتٌ لـ"الأسماءِ"، ولم يَقُلْ: الأحاسنُ. لأن الأسماءَ تَقَعُ عليها "هذه"، فيُقالُ: هذه أسماءٌ. و "هذه" في لفظِ
(4)
واحدَةٍ
(5)
. ومنه قولُ الأعشَى
(6)
:
وسوف يُعْقِبُنِيهِ إِنْ ظَفِرْتُ بِه
…
ربٌّ غفورٌ وبيضٌ ذاتُ أطهارِ
فوحَّد "ذات" وهى
(7)
نعتٌ لـ "البيضِ"؛ لأنه يَقَعُ عليها "هذه"، كما
(1)
سقط من: م، ت 1، ف.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أخفى".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "لفظة".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"واحد".
(6)
ديوانه ص 181.
(7)
في م: "هو".
قال: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]. ومِنه قولُه جلَّ ثناؤُه: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]. فوحَّدَ {أُخْرَى} ، وهى نعتٌ لـ {مَآرِبُ} ، و "المآربُ" جمعٌ، واحدتُها مَأْرَبةٌ، ولم يَقُلْ: أُخَرَ. لما وصَفنا، ولو قِيل: أُخرُ. لكان صوابًا.
القولُ في تأويلِ قولِه جلّ ثناؤُه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُسلِّيَه عما يلقَى فيه
(1)
مِن الشِّدَّةِ مِن مشرِكي قومِه، ومُعَرِّفَه ما إليه صائرٌ أمرُه وأمرُهم، وأنه مُعْلِيه عليهم، وموهنُ كيدِ الكافرين، ويَحُثُّه على الجِدِّ في أمرِه، والصَّبرِ على عبادَتِه، وأن يَتَذَكَّرَ فيما يَنوبُه
(2)
فيه مِن أعدائِه من مُشرِكى قومِه وغيرِهم، وفيما يزاولُ مِن الاجتهادِ في طاعتِه - ما نال
(3)
أخاه موسى بنَ عمرانَ عليه السلام من عدوِّه فرعونَ
(4)
، ثم مِن قومِه
(5)
مِن بني إسرائيلَ، وما لَقِى فيه
(6)
مِن البلاءِ والشدَّةِ طفلًا صغيرًا، ثم يافعًا مُترَعرِعًا، ثم رجلًا كاملًا، {وَهَلْ أَتَاكَ} يا محمدُ {حَدِيثُ مُوسَى} بن عِمرانَ {إِذْ رَأَى نَارًا} .
ذُكِر أن ذلك كان في الشتاءِ ليلًا، وأن موسى كان أضَلَّ الطريقَ، فلمَّا رأى ضوءَ النارِ قال لأهلِه ما قال.
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
في ت 2، ت 3:"ينويه".
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"ناب".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(5)
بعده في م: "و".
(6)
في ص، ت 1:"منه".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما قضَى موسى الأجلَ سار بأهلِه فضَلَّ الطريقَ. قال عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ: كان في الشتاءِ، ورُفِعَتْ لهم نارٌ، فلمَّا رآها ظنَّ أنها نارٌ، وكانتْ مِن نورِ اللهِ، {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقُ، عن وهبِ بن منبِّهٍ اليمانيِّ، قال: لما قضَى موسى الأجلَ، خرَج ومعه غنمٌ له، ومعه زندٌ
(2)
له، وعَصاه في يدِه يَهُشُّ بها على غنمِه نهارًا، فإذا أمسَى اقتدَح بزَنْدِه نارًا، فبات عليها هو وأهلُه وغنمُه، فإذا أصبَح غدَا بغنمِه وأهلِه، يتوكَّأُ
(3)
على عصَاه، فلما كانت الليلةُ التي أراد اللهُ بموسى كرامتَه، وابتداءَه فيها بنبوَّتِه وكلامِه، أخطَأ فيها الطريقَ حتى لا يدرِىَ أينَ يَتَوجَّهُ، فَأَخرَج زَنْدَه ليقتدِحَ نارًا لأهلِه؛ لَيبِيتُوا عليها حتى يُصْبِحَ، ويعلمَ وَجْهَ سبيلِه، فأَصلَد زَنْدُه فلا يُورِى له نارًا، فقدَح حتى إذا
(4)
أعيَاه لاحَت النارُ فرآها فقَالَ لأهلِه: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}
(5)
.
(1)
جزء من أثر طويل أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 400 عن السدى بإسناده المعروف. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2842، 2843 من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدى، عن ابن عباس.
(2)
الزَّنْد والزَّندة: خشبتان يستقدح بهما، فالسفلى زندة، والأعلى زند. اللسان (زن د).
(3)
في م: "فتوكأ".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 401، 402.
[حدَّثني يونسُ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي سعدٍ، عن عكرمةَ، قال: قال ابن عباسٍ: كانوا شاتين، فلما النارَ قال: لعلِّى آتِيكم منها بخبرٍ]
(1)
.
وعَنَى بقولِه: {آنَسْتُ نَارًا} : وجَدتُ. ومِن أمثال العربِ: بعد اطِّلاعٍ إيناسٌ. ويقالُ أيضًا: بعدَ طلوعٍ إيناسٌ
(2)
. وهو مأخوذٌ مِن "الأُنْسِ".
وقولُه: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} . يقولُ: لعلِّى أجيئُكم مِن النارِ التي آنستُ بشُعْلةٍ.
والقبَسُ هو النارُ في طرَفِ العودِ أو القصَبةِ، يقولُ القائلُ لصاحبِه: أَقبِسْنِي نارًا. فيُعْطيه إيَّاها في طرفِ عودٍ أو قصبَةٍ.
وإنَّما أراد موسى عليه السلام بقولِه لأهلِه: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} : لعلِّى آتيكُم بذلك لتصْطَلُوا به.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن وهبِ بن منبِّهٍ:{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} . قال: بقبسٍ تَصطَلُون
(3)
.
وقولُه: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . [يقولُ: أو أجِدُ على النارِ]
(4)
دلالةً تدُلُّ على الطريقِ الذي أضلَلْناه، إمَّا مِن خبرِ هادٍ يَهدِينا إليه، وإِمَّا مِن بَيانٍ وعَلَمٍ نتبيَّنُه به ونعرِفُه.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 972 من طريق سفيان به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 270 عن الثورى به.
(2)
مجمع الأمثال 1/ 186، وقائله قيس بن زهير، ومعناه: إنما يحصل اليقين بعد النظر.
(3)
تقدم أوله في الصفحة السابقة، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2843 (16119) من طريق سلمة، عن ابن إسحاق قوله.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عبَّاسٍ قولَه:{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . يقولُ: مَن يدلُّ على الطريقِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . قال: هادٍ
(2)
يَهدِيه الطريقَ
(3)
.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . أي: هداةً يهدُونه الطريقَ.
وحدَّثني أحمدُ بنُ المقدامِ، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمِعت أبي يحدِّثُ، عن قتادةَ، عن صاحبٍ له، عن حديثِ ابن عباسٍ، أنه زعَم أَنها أَيْلَهُ، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}. وقال أبي: وزعَم قتادةُ أنه هَدْيُ الطريقِ.
وحدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . قال: من يَهْدِيني إلى الطريقِ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"هاديا".
(3)
تفسير مجاهد ص 460، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 15، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 290 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن وهبِ بن منبهٍ:{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . قال: هُدًى عن علَمِ الطريقِ الذي أضلَلنا؛ بنعتٍ من خبرٍ
(1)
.
وحدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا سفيانُ، عن أبي سعدٍ
(2)
، عن عكرمةَ، قال: قال ابن عباسٍ: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . قال: كانوا ضَلُّوا عن الطريقِ، فقال: لعلني
(3)
أجد من يدلُّني على الطريقِ، أو آتيكم بقبسٍ لعلكم تَصْطَلُون (1).
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما أتى النار موسى، ناداه ربُّه:{يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} .
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: خرَج موسى نحوَها، يعني نحوَ النارِ، فإذا هي في شجرٍ من العُلَّيْقِ
(4)
- وبعضُ أهلُ الكتاب يقولُ: في عَوْسَجَةٍ
(5)
- فلما دنا استأخَرتْ عنه، فلما رأى استئْخارَها رجَع عنها، وأوجَس في نفسِه منها خِيفةً، فلما أرَاد الرَّجْعَةَ، دنتْ منه ثم كُلَّم من الشجرةِ، فلما سمِع الصوتَ استأْنَس، وقال اللهُ تبارك وتعالى له: يا مُوسَى {فَاخْلَعْ
(1)
تقدم أولهما في ص 20.
(2)
في م، ت 2:"سعيد". وينظر تهذيب الكمال 11/ 52.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"لعلي".
(4)
العليق: شجر من شجر الشوك لا يعظم. اللسان (ع ل ق).
(5)
العوسجة: واحد العوسج، وهو شجر من شجر الشوك. اللسان (ع س ج).
نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}. فخلَعها فأَلْقاها
(1)
.
واختلَف أهلُ العلمِ في السببِ الذي من أجلِه أمرَ اللهُ موسى بخلعٍ نعلَيْه؛ فقال بعضُهم: أمَره بذلك لأنهما كانتا جلدِ حمارٍ ميِّتٍ، فكرِه أن يطأ بهما الوادىَ المقدَّسَ، وأراد أن يَمسَّه من برَكةِ الوادى.
ذكْرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن أبي قلابةَ، عن كعبٍ، أنه رآهم يَخلَعون نِعالَهم [في الصلاةِ، فقال: كان
(2)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يفعَلُ ذلك؟ فقُرِئ
(3)
عليه]
(4)
: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . فقال: كانتْ من جلدِ حمارٍ ميِّتٍ، فأرَاد اللهُ أَن يَمسَّه القُدْسُ
(5)
.
وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ في قولِه:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} . قال: كانتا من جلدِ حمارٍ ميِّتٍ
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، قال: حُدِّثنا أن نعلَيْه كانتا من جلدِ
(7)
حمارٍ، فخلَعهما ثم أتاه.
(1)
تقدم أوله في ص 20.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أكان".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فقرأ".
(4)
سقط من: م.
(5)
تفسير سفيان ص 192، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 15 عن ابن عيينة، عن عاصم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 292 إلى عبد بن حميد.
(6)
تفسير سفيان الثوري ص 193 عن حصين، عن عكرمة.
(7)
سقط من: الأصل، ص، ف.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قَتادةَ في قولِه:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} . قال: كانتا من جلدِ حمارٍ، فقيل له: اخلَعْهما
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: وأخبَرني عمرُ بنُ عطاءٍ، عن عكرمةَ، وأبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن جابرٍ الجُعْفِيِّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} . قال: كانتا من جلدِ حمارٍ، فقيل له: اخلَعْهما. قال: وقال قَتادةُ مِثْلَ ذلك
(2)
.
وقال آخرون: بل كانتا من جلدِ بقَرٍ، ولكنَّ الله أرَاد أن يطأَ موسى عليه السلام الأرضَ بقدمَيْه؛ ليصِلَ إليه من برَكتِها.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قال الحسنُ: كانتا - يعنى نعلَيْ موسى عليه السلام من بقرٍ، ولكنْ إنما أرَاد أن يُباشرَ بقدمَيْه برَكةً الأرضِ وكان قد قُدِّس مرّتين
(3)
.
قال ابن جُرَيْجٍ: وقيل لمجاهدٍ: زعَموا أن نعلَيْه كانتا من جلدِ حمارٍ أو مَيْتَةٍ. قال: لا، ولكنَّه أُمِر أن يُباشرَ بقدمَيْه برَكةَ الأرضِ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: قال أبو بشرٍ - يعنى ابن عُليةَ - سمِعتُ ابنَ أبي نجيحٍ يقولُ في قولِه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . قال: يقولُ: أَفْضِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 15.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 16 عن معمر، عن جابر، عن عمير بن سعيد، عن علي، وهو في تفسير سفيان ص 192 عن جابر كإسناد عبد الرزاق، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 292 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 292 إلى عبد بن حميد.
بقدمَيْك إلى برَكةِ الوادى
(1)
.
وأولى القولينِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: أمَره تعالى ذكْرُه بخلعِ نعلَيْه ليباشرَ بقدمَيْه برَكةَ الوادي، إذ كان واديًا مُقدَّسًا.
وإنما قلْنا: ذلك أولى التأويلين بالصوابِ؛ لأنه لا دَلالةَ في ظاهرِ التنزيلِ على أَنَّه أُمِر بخَلْعِهما من أجلِ أنهما من جلدِ حمارٍ، ولا لنجاستِهما، ولا خبرَ بذلك عمَّن تَلْزمُ بقولِه الحُجَّةُ، وأن في قولِه:{إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} بعَقبِه، دليلًا واضحًا على أنه إنما أَمَره بخلعِهما لما ذكرنا.
ولو كان الخبرُ الذي حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا خَلَفُ بنُ خليفةَ، عن حميدٍ، عن
(2)
عبدِ اللهِ بن الحارثِ، عن ابن مسعودٍ، عن نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:"يَوْمَ كَلَّمُ اللهُ مُوسى، كانَتْ عَلَيْه جُبَّةٌ صُوفٍ، وكِساءُ صُوفٍ، وسَرَاوِيلُ صُوفٍ، ونَعْلان مِن جِلْدِ حمارٍ غيرِ ذكيٍّ"
(3)
- صحيحًا لم نَعْدُهُ إلى غيرِه، ولكنَّ في إسنادِه نَظَرًا يَجِبُ التثبُّتُ فيه.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ؛ فقرأ ذلك بعضُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ: (نُودِيَ يا مُوسَى أَنِّي) بفتحِ الألفِ من "أَنِّى"
(4)
، فـ "أنَّ" على قراءتِهم
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، م:"بن".
(3)
في م: "مذكي".
والحديث أخرجه الترمذى (1734)، والحاكم 2/ 379 من طريق خلف بن خليفة به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح علي شرط البخارى ولم يخرجاه. قال الذهبي معقبًا عليه: بل ليس على شرط البخاري، وإنما غره أن في الإسناد حميد بن قيس. كذا وهو خطأ إنما هو حميد الأعرج الكوفى ابن علي أو ابن عمار أحد المتروكين فظنه المكي الصادق.
(4)
هي قراءة ابن كثير وأبى جعفر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 417.
في موضعِ رفعٍ بقولِه: {نُودِيَ} . كأنَّ
(1)
معناه كان عندَهم: نُودِىَ هذا القولُ.
[وقرأته بعدُ]
(2)
: عامةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ بالكسرِ: {نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي} . على الابتداءِ
(3)
، وأنَّ معنى ذلك: قيل يا موسى: إنِّي.
والكسرُ أولى القراءتينِ عندَنا بالصوابِ
(4)
، وذلك أن النداءَ قد حال بينَه وبينَ العملِ في "أنَّ"، قولُه:{يَامُوسَى} . وحظُّ قولِه: {نُودِيَ} أن يعملَ في "أَنْ" لو كانت قبلَ قولِه: {يَامُوسَى} ، وذلك أن يقالَ: نُودِى أنْ
(5)
يا موسى إني أنا ربُّك. ولا حظَّ لها
(6)
في "إنّ" التي بعدَ {يَامُوسَى} .
وأما قولُه: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} . فإنه يقولُ: إنك بالوادِى المطَّهرِ المباركِ.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} . يقولُ: المباركِ
(7)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ قولَه: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} . قال: قُدِّس، بُورِك مرّتين
(8)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} . قال: بالوادى المبارَكِ.
(1)
في الأصل، ت 2:"فإن".
(2)
في ص، ف:"قرأه بعد"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"قرأه بعض".
(3)
هي قراءة عاصم ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 417.
(4)
القراءتان متواترتان، وكلتاهما صواب.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(6)
في ت 2: "بعدها".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في التغليق 4/ 256 - من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى ابن المنذر.
(8)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 266 عن مجاهد.
واختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {طُوًى} ؛ فقال بعضُهم: معناه: إنك بالوادى المقدَّسِ طَوَيْتَه. فعلى هذا القولِ من قولِهم، طُوًى مصدرٌ أُخرِج من غيرِ لفظِه، كأنَّه قيل: طويتُ الوادى المقدَّسَ طُوًى.
ذكْرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . يعنى: الأرضَ المقدسةَ، وذلك أَنَّه مرّ بوادِيها ليلًا فطَوَاه - يقالُ: طويتُ وادىَ كذا وكذا طُوًى
(1)
من الليلِ - وارتفَع إلى أعلى الوادِى، وذلك نبيُّ اللهِ موسى عليه السلام
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مرّتين. وقالوا: ناداه ربُّه مرّتين. فعلى قولِ هؤلاءِ، طُوًى مصدرٌ أيضًا من غيرِ لفظِه، وذلك أن معناه عندَهم: نُودِيَ: يا موسى، مرّتين نداءَينِ. وكان بعضُهم يُنشِدُ شاهدًا لقولِه: طُوًى أَنَّه بمعنى مرّتين - قولَ عديِّ بن زيدٍ العِبَاديِّ
(3)
:
أعاذِلَ إِنَّ اللَّوْمَ فِي غَيْرِ كُنْهِه
…
عليَّ طُوًى مِنْ غَيِّكَ المُتَرَدِّدِ
وروَى ذلك آخرون: "عليَّ ثِنًى". أي: مرّةً بعد مرّةٍ، وقالوا: طُوًى وثِنًى بمعنًى واحدٍ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ
(1)
ليس في الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
معجم البلدان 3/ 553، واللسان (ث ن ي، ط و ي).
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}: كُنا نُحدَّثُ أنه وادٍ قُدِّس مرّتين، وأن اسمه طُوًى
(1)
.
وقال آخرون: بل معني ذلك: إنه قُدِّس طُوًى مرّتين.
ذكْرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُريَجٍ، قال الحسنُ: كان قُدِّس مرَّتين
(2)
.
وقال آخرون: بل {طُوًى} : اسمُ الوادى.
ذكْرُ من قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِطُوًى} : اسمُ الوادى
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{طُوًى} . قال: اسمُ الوادي
(4)
.
وحدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . قال: ذاك الوادِى هو طُوًى، حيثُ كان موسى،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 15 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى عبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
تقدم أوله في الصفحة السابقة.
(4)
تفسير مجاهد ص 703. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
وحيثُ كان إليه
(1)
من اللهِ ما كان. قال: وهو نحوَ الطورِ.
وقال آخرون: بل هو أَمْرٌ من اللهِ لموسى بأنْ يطأَ الواديَ بقدمَيْه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ منصورٍ الطوسيُّ، قال: ثنا صالحُ بن إسحاقَ الجِهْبِدُ، عن جعفرِ بن بَرْقانَ، عن عكرِمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِ اللهِ:{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . قال: طأِ الواديَ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيَى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ في قولِه:{طُوًى} . قال: طأِ الواديَ.
وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{طُوًى} . قال: طأِ الأرضَ حافيًا، كما تدخلُ الكعبةَ حافيًا. يقولُ: من بَرَكةِ الوادى
(3)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{طُوًى} : طأِ الأرضَ حافيًا.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُ قرأةِ المدينةِ: (طُوَى). بضمِ الطاءِ وتَرْكِ التنوينِ
(4)
، كأَنَّهم جعَلوه اسمَ الأرضِ التي بها الوادي، كما قال الشاعرُ
(5)
:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"المنة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى المصنف.
(3)
تفسير مجاهد ص 460، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. ينظر حجة القراءات ص 451.
(5)
هو حسان بن ثابت، وتقدم البيت في 11/ 386.
نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ وَشَدُّوا أَزْرَه
…
بحُنَيْنَ يومَ تَوَاكُلِ الأبْطَالِ
فلم يُجرِ "حُنينًا"؛ لأنه جعلَه اسمًا للبلدةِ لا للوادِى، ولو كان جعَلَه اسمًا للوادِى لأجْراه، كما قرَأتِ القرأةُ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25]. وكما قال الآخرُ
(1)
.
ألسْنَا أَكْرَمَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلًا
…
وأَعْظَمَهُ
(2)
بِبَطْنِ حِراءَ نارَا
فلم يُجرِ "حِراءَ"، وهو جبلٌ؛ لأنه جعَلَه اسمًا للبَلْدَةِ، فكذلك (طُوَى) في قراءةِ مِن لم يُجرِه، يجعَلُه اسمًا للأرضِ.
وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ {طُوًى} بضمِّ الطاءِ والتنوينِ
(3)
. وقارِئُو ذلك كذلك مُخْتلِفون في معناه على ما قد ذكَرتُ من اختلافِ أهلِ التأويلِ؛ فأَمَّا من أراد به المصدرَ مِن "طَوَيْتُ"، فلا مَئُونَةَ في تنوينِه؛ وأَمَّا مَن أراد أن يجعَلَه اسمًا للوادِى، فإنه إنما ينوِّنُه لأنَّه اسمُ ذكرٍ لا مؤنثٍ، وأن لامَ الفعلِ منه ياءٌ، فزادَه ذلك خِفَّةً فأَجْراه، كما قال اللهُ عز وجل:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} ؛ إذ كان "حنينٌ" اسمَ وادٍ، والوادِى مُذكَّرٌ.
وأولى القراءتين عندى بالصوابِ
(4)
قراءةُ مَن قرَأ بضمِّ الطاءِ والتنوين؛ لأنَّه إن يكُنِ اسمًا للوادِى فحظُّه التنوينُ؛ لما ذكرتُ لك قبلُ مِن العلةِ لمن قال ذلك، وإن كان مصدرًا أو مُفَسِّرًا، فكذلك أيضًا حكمه التنوينُ، وهو عندى اسمُ الوادِى. وإذا كان
(1)
معاني القرآن للفراء 1/ 429، 2/ 175، ونسبه سيبويه في الكتاب 3/ 245 إلى جرير باختلاف في الرواية، وليس البيت في ديوان جرير.
(2)
في م: "أعظمهم".
(3)
وهى قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 451.
(4)
القراءتان كلتاهما صواب.
كذلك، فهو في موضِعِ خفضٍ ردًّا على "الوادِي".
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤه: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} .
اختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأتْه عامَّةُ القرأةِ الذين قرءوا: (وأنَّا) بتشديدِ النونِ، (وأَنَّا) بفتحِ الألفِ من (أَنَّا) ردًّا على {نُودِيَ يَامُوسَى} كأَن معنى الكلامِ عندَهم: نُودِيَ يا موسى إنِّي أنا ربُّك، وأنّا اخترناك
(1)
. وبهذه القراءةِ قرَأ ذلك عامَّة قرأةِ أهلِ الكوفةِ
(2)
.
وأما عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ أهلِ الكوفةِ فقَرَءوا: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} . بتخفيف النونِ
(3)
على وجهِ الخبرِ من اللهِ عن نفسِه أَنَّه اخْتارَه.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندِى أن يُقالَ: إنهما قراءتان قد قرأ بكلِّ واحدةٍ منهما قرأةُ أهلِ العلمِ بالقرآنِ، مع اتِّفاقِ مَعْنَيْيهما، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ فيه. وتأويلُ الكلامِ: ونُودِيَ أَنَّا اخْتَرناكَ فَاجْتَبَيناك لرِسالَتِنا إلى مَن نُرَسلُك إليه.
{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} . يقولُ: فاسْتَمِعْ لوَحْيِنا الذي نوحِيه إليك وعِه، واعملْ بهِ. {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ}. يقولُ تعالى ذِكرُه: إننى أنا المعبودُ الذي لا تصلُحُ العِبادةُ إلَّا له، {إِلَّا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} فلا تعبُدْ غيرِى، فإنَّه لا معبودَ تجوزُ أو تصلُحُ له العبادةُ سِوَايَ، {فَاعْبُدْنِي}. يقولُ: فأخْلِصِ العبادةَ لى دونَ كلِّ ما عُبِد مِن دُونِي.
(1)
في الأصل، ص، ت 1، م، ف:"اخترتك".
(2)
هي قراءة حمزة، وقرأ أيضًا:(اخترناك). ينظر السبعة لابن مجاهد ص 417.
(3)
هي قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبي عمرو وابن عامر والكسائي. ينظر المصدر السابق.
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: أقمِ الصلاةَ لي؛ فإِنَّكَ إِذا أَقَمْتَها ذَكَرْتَني.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . قال: إذا صلَّى عبدٌ ذكَر ربَّه
(1)
.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . قال: إذا صلَّى عَبْدٌ ذكَر ربَّه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأقمِ الصلاةِ حين تذكُرُها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ في قولِه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . قال: تُصَلِّيها حينَ تذكُرُها
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثني عمى عبدُ اللهِ بنُ وهَبٍ، قال: ثني يونسُ ومالكٌ، عن ابن شهابٍ، قال: أخبَرني سعيدُ بنُ المسيَّبِ، عن أبي هريرةَ، أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَسِيَ صلاةً
(3)
فَلْيصلِّيها
(4)
(1)
تفسير مجاهد ص 460، 461، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 65 من طريق مغيرة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى عبد بن حميد.
(3)
في الأصل: "الصلاة".
(4)
في م، ومصادر التخريج:"فليصلها". والمثبت لغة صحيحة.
إذا ذكَرَها، قال اللهُ عز وجل:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . وكان الزهريُّ يقرَؤُها: (أقمِ الصَّلاةَ لِذِكْرَى)
(1)
. قال أبو جعفر: "ذِكْرَى" بمنزلةِ "فِعْلَى".
وأولى التأويلين في ذلك بالصوابِ تأويلُ مَن قال: معناه: أقمِ الصلاةَ لِتَذْكُرَنى فيها؛ لأن ذلك أظهَرُ معْنَيَيْه، ولو كان معناه: حينَ
(2)
تَذْكُرُها. لكان التنزيلُ: أقم الصلاةَ لِذِكْرِكَهَا. وفى قولِه {لِذِكْرِي} دلالةٌ بينةٌ على صحَّةِ ما قال مجاهدٌ في تأويلِ ذلك، ولو كانت القراءةُ التي ذكَرْناها عن الزهريِّ قراءةً مُسْتفيضَةً في قرَأةِ الأمصارِ، كان صحيحًا تأويلُ من تأوَّلَه بمعنى: أقمِ الصلاةَ حينَ تذكُرُها. وذلك أن الزهريَّ وجَّه بقراءتِه: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرَى) بالألفِ لا بالإضافةِ، إلى: أقمِ الصلاةَ لذِكْرَاها. إلا أنّ الهاءَ والألفَ حُذِفَتا وهما مُرَادتان في الكلام؛ ليُوفَّقَ بينَها وبينَ سائرِ رءوسِ الآياتِ؛ إذ كانت بالألفِ والفتحِ.
ولو قال قائلٌ في قراءةِ الزهريِّ هذه التي ذكَرْناها عنه: إنما قصَد الزهريُّ بفَتْحِها وتَصْييرِ باءِ الإضافة ألفًا، التوفيقَ بينَه وبينَ رءوسِ الآياتِ قبلَه وبعدَه، لا أنه خالَف بقراءتِه ذلك كذلك مَن قرَأ بالإضافةِ. وقال: إنما ذلك كقولِ الشاعرِ
(3)
:
أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِى
…
إلى أُمَّا ويُرْوينِي النَّقِيعُ
(4)
وهو يريدُ: إلى أُمِّى. وكقولِ العربِ: بأبا وأمَّا. وهى تريدُ: بأبي وأمِّي -
(1)
أخرجه مسلم (680/ 309)، وأبو داود (435)، والنسائى (618)، وابن ماجه (697)، وأبو عوانة 2/ 253، وابن حبان (2069)، والبيهقى 2/ 217، وفي الدلائل 4/ 272 من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهرى به، وأخرجه مالك ص 13، 14 عن الزهرى، عن سعيد مرسلا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 293 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
في الأصل: "حتى".
(3)
البيت في معاني القرآن للفراء 2/ 176، واللسان (نقع)، وروايته: إلى أمى ويكفيني النقيع.
(4)
والنقيع: المحض من اللبن يبرد.
كان له بذلك مَقالٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الساعةَ التي فيها يبعَثُ اللهُ الخلائقَ من قبورِهم لموقفِ القيامةِ جائيةٌ أكادُ أُخْفيها.
فعلَى ضمِّ الألفِ مِن {أُخْفِيهَا} قراءةُ جميعِ قرأةِ أمصارِ الإسلامِ، بمعنى: أكادُ أُخْفيها مِن نَفْسِى؛ لئلا يطلع عليها أحدٌ. وبذلك جاء تأويلُ أكثرِ أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} . يقولُ: لا أُظْهِرُ عليها أحدًا غيرِى
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قال: لا تأتيكُم إلا بَغْتَةً.
وحدَّثنا ابن بشارٍ قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قال: مِن نَفْسِى.
وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عزَّ ذكرُه:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قال: من نَفْسِى
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 461، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى عبد بن حميد وابن الأنباري =
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قال: مِن نَفْسِى
(1)
.
[حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدِ: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}. قال: أَكاد أُخفيها من نفسى]
(2)
.
وحدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبيدٍ الطَّنافسيُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قال: يُخْفِيها مِن نَفْسِه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} : وهى في بعضِ القراءةِ: (أُخْفِيهَا مِن نَفْسِى). ولَعَمْرِى لَقد أخْفَاها اللهُ من الملائكةِ المقرَّبين، ومن الأنبياءِ المُرْسَلين.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتَادةَ، قال: في بعضِ الحروفِ: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِى)
(4)
.
وقال آخرون: إنَّما هو: (أكادُ أَخفيها) بفتحِ الألفِ من (أخْفِيها) بمعنى: أُظْهِرُها.
= في المصاحف.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من ص، م، ت 1، ف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى عبد بن حميد.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 16، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ سهلٍ، قال: سأَلني رجلٌ في المسجدِ عن هذا البيتِ
(1)
:
دَأْبَ شَهْرَين ثُمَّ شَهْرًا دَمِيكَا
…
بِأَرِيكَيْن يَحْفِيان غَمِيرَا
(2)
فقلتُ: يَظْهَران. فقال وقاءُ
(3)
بنُ إياسٍ وهو خَلْفَى: أَقْرَأَنِيها سعيدُ بنُ جبيرٍ: (أكادُ أَخْفِيها) بنَصْبِ الألفِ
(4)
.
وقد رُوِيَ عن سعيدِ بن جبيرٍ وفَاقٌ لقولِ الآخرين الذين قالوا: معناه: أكادُ أُخْفِيها مِن نَفْسِى.
ذكرُ مَن قال الروايةَ عنه بذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، ومنصورٍ، عن مجاهدٍ، قالا:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قالا: مِن نَفْسِى.
حدَّثني عبيدُ بنُ إسماعيلَ الهَبَّارِيُّ، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} . قال: مِن نَفْسِى
(5)
.
(1)
هو كعب بن زهير شرح ديوان كعب ص 147.
(2)
قوله: دأب شهرين: يقول: يدأب. دميكا يعني: تاما. وقال الأصمعي: قوله: بأريكين: يعنى موضعًا يقال له: أريك. فضم إليه آخر فقال: بأريكين. والغمير: نبت تصيبه السماء فينبت عنه نبت آخر، وربما أصاب الإبل منه داء. شرح ديوان كعب ص 174.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ورقاء". وينظر ما تقدم في 13/ 254.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 5/ 272 - من طريق يحيى بن واضح به، وأخرجه أبو عبيد - كما في تفسير القرطبي 11/ 182 - والفراء في معاني القرآن 2/ 176 من طريق محمد بن سهل به.
(5)
تفسير مجاهد ص 461 من طريق عطاء بن السائب به.
والذي هو أولى بتأويلِ ذلك من القول قولُ مَن قال: معناه: أكادُ أُخْفِيها مِن نَفْسِي. لأن تأويلَ أهلِ التأويلِ بذلك جاء.
والذي ذُكِر عن سعيدِ بن جبيرٍ من قراءةِ ذلك بفَتْحِ الألفِ قراءةٌ لا أسْتَجيزُ القراءةَ بها؛ لخِلافِها قراءةَ الحُجَّةِ التي لا يجوزُ خِلافُها فيما جاءتْ به نقلًا مُسْتفيضًا.
فإن قال قائلٌ: ولِمَ وجَّهتَ تأويلَ قولِه: {أُخْفِيهَا} له بضمِّ الألفِ إلى معنى: أكادُ أُخْفيها من نَفْسِى. دونَ تَوْجِيهه إلى معنَى: أكادُ أُظْهِرُها. وقد عَلِمتَ أن للإخفاءِ في كلامِ العربِ وجْهَين؛ أحدُهما الإظهارُ، والآخرُ الكِتْمانُ، وأن الإظهارَ في هذا الموضِعِ أشْبَهُ بمعنى الكلامِ؛ إذ كان الإخفاءُ مِن نَفْسِه يكادُ عندَ السامعين أن يسْتَحيلَ معناه، إذ كان مُحالًا أن يُخفِيَ أحدٌ عن نَفْسِه شيئًا هو به عالمٌ، واللهُ تعالى ذكْرُه لا تَخْفَى عليه خافيةٌ؟
قيل: إن الأمرَ في ذلك بخلافِ ما ظَنَنتَ، وإنَّما وجَّهْنا معنى:{أُخْفِيهَا} بضمِّ الألفِ إلى معنى: أَسْتُرُها مِن نَفْسِي. لأنَّ المعروفَ مِن معنَى الإخفاءِ في كلامِ العربِ، السَّترُ، يقالُ: قد أَخْفَيتُ الشيءَ. إذا سَتَرْتَه. وأنَّ الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهارِ إنما اعْتَمَدوا على بيتٍ لامرئِ القيسِ بن عابسٍ الكِنْدِيِّ.
حُدِّثتُ عن معمرِ بن المثنى أنَّه قال: أنْشَدَنيه أبو الخَطَّابِ، عن أهْلِه في بلَدِه:
فإن تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نُخْفِهِ
…
وإِنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ
(1)
بضمِّ النونِ من: لا نُخْفِه. ومعناه: لا نُظْهِرْه. فكان اعتمادُهم في تَوْجِيه
(1)
البيت في مجاز القرآن 2/ 16، 17، واللسان وتاج العروس (خ ف ى) منسوب لامرئ القيس بن عابس. وهو في ديوان امرئ القيس بن حجر ص 186. وامرؤ القيس بن عابس صحابي. ينظر أسد الغابة 1/ 137.
الإخْفاءِ في هذا الموضِعِ إلى الإِظْهَارِ على ما ذكَروا من سَماعِهم هذا البيتَ، على ما وصَفْتُ مِن ضمِّ النونِ من: نُخْفِه.
وقد أَنْشَدَنِي الثِّقَةُ عن الفرَّاءِ
(1)
:
* فإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِه *
بفتحِ النونِ من: نَخْفِه، من: خَفيتُه أَخْفيه. وهو أولى بالصوابِ؛ لأنَّه المعروفُ مِن كلامِ العربِ. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الفتحُ في الألفِ مِن "أَخْفيها" غيرَ جائزٍ عندَنا؛ لِما ذَكَرْنا، ثَبَتَ وصَحَّ الوَجْهُ الآخرُ، وهو أن معنى ذلك: أكادُ أَسْتُرُها مِن نَفْسِى.
وأما وَجْهُ صحةِ القولِ في ذلك، فهو أنَّ الله تعالى ذكْرُه خاطَب بالقرآنِ العربَ على ما يَعْرِفُونَه من كلامِهم، وجرَى به خطابُهم بينهم، فلمَّا كان معروفًا في كلامِهم أن يقولَ أحدُهم إذا أراد المبالغةَ في الخبرِ عن إخْفَائِه شيئًا هو له مُسِرٌّ: قد كِدْتُ
(2)
أُخْفِى هذا الأمرَ عن نَفْسِي من شدَّةِ اسْتِسْرارِى به، ولو قدَرتُ أن أُخْفِيَه من نَفْسِى أَخْفَيتُه. خاطَبهم عز وجل على حسَبِ ما قد جرَى به استِعْمالُهم في ذلك من الكلامِ بينَهم، وما قد عرَفوه في مَنطِقِهم. وقد قيل في ذلك أقوالٌ غيرُ ما قُلنا. وإنما اخْتَرْنا هذا القولَ على غيرِه من الأقوالِ لموافقتِه أقوالَ أهلِ العلمِ من الصَّحابةِ والتَّابِعين؛ إذ كُنَّا لا نستَجِيزُ
(3)
الخلافَ علَيهم فيما اسْتَفاضَ القولُ به مِنهم، وجاء عنهم مجيئًا
(4)
يقطَعُ العذرَ. فأما الذين قالوا في ذلك غيرَ ما قلنا ممّن قال فيه على
(1)
معاني القرآن 2/ 177.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف، م:"أن".
(3)
في ص، ف:"نحسن"، وفي ت 1:"نجيز".
(4)
في ص، ف، ت 1:"هنا".
وجْهِ الانْتِزاعِ من كلامِ العربِ، من غيرِ أن يَعْزوَه إلى إمامٍ من الصحابةِ أو التابعين، وعلى وجْهِ تحميلِ
(1)
الكلامِ غيرَ وجْهِه المعروفِ، فإنهم اخْتَلَفوا في معناه بينَهم؛ فقال بعضُهم: معناه: أريدُ أُخْفِيها. قال: وذلك معروفٌ في اللغةِ، وذكَر أنه حُكِى عن العربِ أنَّهم يقولون: أولئك أصحابي الذين أكادُ أُنزِلُ عليهم. وقال: معناه: لا أنزلُ إلَّا علَيهم. قال: وحُكِي: أكادُ أَبْرحُ مَنزِلي، أي: ما أبرحُ مَنْزِلى. واحتجَّ ببيتٍ أنشَدَه لبعضِ الشعراءِ
(2)
:
كادَت وكِدْتُ وتلكَ خَيرُ إرادَةٍ
…
لو عادَ مِن لهوِ
(3)
الصَّبابَةِ مَا مَضَى
وقال: يريدُ بـ "كادَتْ": أرادَت. قال: فيكونُ المعنى: أُريدُ أُخْفِيها لتُجْزَى كلُّ نفسٍ بما تَسْعَى. قال: ومما يُشْبِهُ ذلك قولُ زيدِ الخَيْلِ
(4)
:
سَريعٌ إلى الهَيْجاءِ شاكٍ سِلاحُهُ
…
فَمَا إِنْ يَكادُ قِرْنُه يتنَفَّسُ
وقال: كأنَّه قال: فما يَتَنفَّسُ قِرْنُه. وإِلَّا ضَعُف المعنى. قال: وقال ذو الرُّمَّةِ
(5)
:
إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّين لم يَكَدْ
…
رَسِيسُ الهَوَى مِن حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وقال: ليس المعنى: لم يَكَدْ يبرحٌ. أي: بعدَ بَيْنٍ
(6)
يبرحُ وبعدَ عُسْرٍ. وإنَّما المعْنى: لم يَبْرَحْ. أو: لم يُرِدْ يَبْرَحُ. وإلا ضَعُف المعنى. قال: وكذلك قولُ أبي النَّجْمِ
(7)
:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، م، ف:"يحتمل".
(2)
البيت في الأضداد ص 97، واللسان (ك ى د) غير منسوب.
(3)
في م: "عهد".
(4)
البيت في الأضداد ص 97، واللسان (ك ي د).
(5)
ديوانه 2/ 1192.
(6)
في الأصل: "شر"، وفي م:"يسر".
(7)
الأضداد ص 97.
وإن أتاكَ نَعِيِّى فَانْدُبَنَّ أَبًا
…
قَد كادَ يَضْطَلِعُ الأعْداءَ والخُطَبَا
وقال: يكونُ المعنى: قد اضْطَلَعَ الأعداءَ. وإلا لم يَكُنْ مدْحًا إذا أراد: كاد ولم
(1)
يفعَلْ.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ} . قال: وانتهَى الخبرُ عندَ قولِه {أَكَادُ} . لأنَّ معناه: أكادُ أن آتِىَ
(2)
بها. قال: ثم ابتَدَأ فقال: ولكِنِّي أُخْفِيها لتُجْزَى كلُّ نفسٍ بما تَسْعَى. قال: وذلك نظيرُ قولِ ابن ضابئٍ
(3)
:
هَمَمْتُ ولمْ أفْعَلْ وكِدْتُ ولَيَتَنِي
…
ترَكْتُ على عثمانَ تَبْكِي حلائلُهْ
(4)
فقال: كِدْتُ. ومعناه: كِدْتُ أَفْعَلُ.
وقال آخرون: معنى: {أُخْفِيهَا} : أُظْهِرُها. وقالوا: الإخفاءُ والإسرارُ قد تُوجِّهُهما العربُ إلى معنى الإظْهارِ. واسْتَشْهَد بعضُهم لِقيلِه ذلك ببيتِ الفرزدقِ
(5)
:
فلَمَّا رأى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيفَهُ
…
أسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا
وقال: عَنَى بقولِه: أسرَّ: أَظْهَرَ. قال: وقد يجوزُ أن يكونَ معنَى قولِه: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} [سبأ: 33]: وأَظْهَرُوها. قال: وذلك لأنَّهم قالوا: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27].
وقال جميعُ هؤلاءِ الذين حَكَيْنا قولَهم: جائزٌ أن يكونَ قولُ مَن قال: معنى
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"يرد".
(2)
في ص، ف:"أراني".
(3)
البيت لضابئ البُرْجُمى وليس لابنه وهو عمير بن ضابئ، كما في طبقات فحول الشعراء 1/ 174، والكامل للمبرد 1/ 382، والأضداد ص 97 وينظر تاريخ المصنف 6/ 27.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف "أقاربه".
(5)
الأضداد ص 46، واللسان (س ر ر).
ذلك: أكادُ أُخْفِيها مِن نَفْسِى. أن يكونَ أراد: أُخْفِيها من قِبَلى ومِن عندِى.
وكلُّ هذه الأقوالِ التي ذكَرْناها عمَّن ذكَرْنا توجِيهٌ مِنهم للكلامِ إلى غيرِ وَجْهِه المعروفِ، وغيرُ جائزٍ توجِيهُ معاني كلامِ اللهِ جل وعز إلى غيرِ الأغْلَبِ عليه مِن وجوهِهِ عندَ المخاطَبين بهِ، ففى ذلك - مع خِلافِهم تأويلَ أهلِ العلمِ فيه - شاهِدا
(1)
عَدْلٍ على خطأِ ما ذهَبوا إليه فيه.
وقولُه: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} . يقولُ جل ثناؤُه: إن الساعةَ آتيةٌ؛ {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} . يقولُ: لتثابَ كلُّ نفسٍ امْتَحَنها ربُّها بالعبادةِ في الدنيا {بِمَا تَسْعَى} . يقولُ: بما تعملُ مِن خيرٍ وشَرٍّ، وطاعةِ ومعصيةٍ.
وقولُه: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلا يَرُدَّنك يا موسى عن التأهُّبِ للساعةِ {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} . يعنى: من لا يُقرُّ بقيامِ الساعة، ولا يصدِّقُ بالبعثِ بعدَ المماتِ، ولا يَرجُو ثوابًا، ولا يخافُ عقابًا.
وقولُه: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} . يقولُ: اتَّبَع هوَى نفسه، وخالَفَ أَمرَ اللهِ ونَهْيَه، {فَتَرْدَى}. يقولُ: فتَهْلِكَ إن أنتَ انْصَدَدتَ عن التأهُّبِ للساعةِ، وعن الإيمانِ بها، وبأن الله باعثٌ الخلقَ لقيامِها من قبورِهم بعدَ فَنائِهِم بِصَدِّ مَن كفَر بها.
وكان بعضُهم يزعُم أن الهاءَ والألفَ من قولِه: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} كنايةٌ عن ذكْرِ "الإيمانِ". قال: وإنما قيل: {عَنْهَا} وهى كنايةٌ عن "الإيمانِ"، كما قيل:{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]. يذهَبُ إلى "الفِعْلة".
ولم يَجْرِ للإيمانِ ذكْرٌ في هذا الموضعِ فيُجْعَلَ ذلك من ذِكْرِه، وإِنما جَرَى ذَكْرُ
(1)
في م، ت 2:"شاهد".
الساعةِ، فهو بأن يكونَ مِن ذِكْرِها أولى.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما هذه التي هي في يمينِكَ يا موسى؟ فالباءُ في قولِه: {بِيَمِينِكَ} من صِلَة {تِلْكَ} . والعربُ تَصِلُ "تلك" و "هذه"، كما تَصِلُ "الذي". ومنه قولُ يزيدَ بن مُفَرِّغٍ
(1)
:
عدَسْ ما لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمارَةٌ
…
أَمِنْت وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
كأنه قال: والذي تَحْملِين طَلِيقٌ.
ولعلَّ قائلًا أن يقولَ: وما كان
(2)
وجهُ استخبارِ اللهِ عز وجل موسى عمَّا في يدِه، ألم يكنْ عالمًا بأن الذي في يدِه عصًا؟
قيل له: إن ذلك على غير الذي ذهبتَ إليه، وإنما قال ذلك تعالى ذكرُه له إذ أراد أن يحوِّلَها حيَّةً تَسْعَى [وهى خشبةٌ، فنبَّهه عليها]
(3)
، وقرَّره بأنها خشبةٌ يتوكَّأُ عليها ويَهُشُّ بها على غنمِه، ليعرِّفَه قُدْرتَه على ما شاء، وعظيمَ سلطانِه، ونفاذ أمرِه فيما أحبَّ، بتحويلِه إيَّاها حيَّةً تَسْعَى إذا أراد ذلك
(4)
؛ ليجعَلَ ذلك لموسى آيةً مع سائر آياتِه إلى فرعونَ وقومِه.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن موسى: قال موسى مجيبًا لربِّه: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . يقولُ: أضرِبُ بها الشجرَ اليابسَ فيسقُطُ
(1)
تقدم تخريجه في 3/ 640.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3.
(3)
سقط من: م، ت 2.
(4)
بعده في م، ت 2:"به".
ورقُها فترعاه غنمي.
يقالُ منه: هشَّ فلانٌ الشجرَ يهُشُّ هَشًّا. إذا اخْتَبط ورقَ أغصانِها فسقَط ورقُها، كما قال الراجزُ
(1)
:
أهُشُّ بالعَصا على أَغْنَامي
من ناعمِ الأَرَاكِ والْبَشامِ
(2)
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادَة في قولِه:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . قال: [أَخْبِطُ بها الشجرَ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . قال: كان نبيُّ اللهِ الله موسى صلى الله عليه وسلم يهُشُّ على غنمِه ورقَ الشجرِ.
حدَّثني، موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . يقولُ: أضرِبُ بها الشجرَ للغنمِ، فيقَعُ الورقُ
(4)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . قال]
(5)
: يتوكَّأُ عليها حينَ يَمشى مع
(1)
تفسير القرطبي 11/ 187.
(2)
الأراك والبشام: من شجر السواك. ينظر اللسان (أ ر ك، ب ش م).
(3)
بعده في م: "حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}. قال: أخبط". والأثر في تفسير عبد الرزاق 2/ 16 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
تقدم أوله في ص 19.
(5)
سقط من: ت 2.
الغنمِ، ويهُشُّ بها؛ يحرِّكُ الشجرَ حتى يسقُطَ الورقُ؛ الحَبلةُ
(1)
وغيرُها
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن عكرمةَ:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . قال: أضرِبُ بها الشجرَ، فيسقُطُ ورقُها عليَّ.
حدَّثني عبدُ اللهِ بن أحمدَ بن شَبُّويَه، قال: ثنا عليُّ بنُ الحسنِ
(3)
، قال: ثنا حسينٌ، قال: سمِعتُ عكرمةَ يقولُ: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . قال: أضرِبُ الشجرَ فيتساقطُ الورقُ على غنمى
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعت الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . [يقولُ: أضرِبُ بها الشجرَ حتى يسقُطَ منه ما تأكُلُ غنمى]
(5)
.
وقولُه: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . يقولُ: ولى في عصايَ هذه حوائجُ أُخرى. وهي جمعُ مأْرُبةٍ، وفيها للعربِ لغاتٌ ثلاثٌ؛ مأْرُبةٌ بضمِّ الراءِ، ومأْرَبةٌ بفتحِها، ومأْرِبةٌ بكسرِها، وهى مَفْعُلةٌ، من قولهم: لا أَرَبَ لى في هذا الأمرِ. أي: لا حاجةَ لي فيه.
وقيل: {أُخْرَى} - وهى
(6)
مآربُ جمعٌ - ولم يقل: أُخَرُ. كما قيل: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]. وقد بيَّنتُ العلةَ في توحيدِ
(7)
ذلك
(1)
الحبلة: الكرم، وقيل: الأصل من أصول الكرم، وشجرة العنب. ينظر اللسان (ح ب ل).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
في الأصل: "الحسين". وينظر تهذيب الكمال 6/ 493.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 294 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من ص، ت 1، ف.
(6)
في م، ت 2:"هن".
(7)
في ص، م، ت 1، ف:"توجيه".
هنالك
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى المآربِ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ عَبْدةَ الضَّبيُّ، قال: ثنا حفصُ بنُ جُميعٍ، قال: ثنا سِماكُ بنُ حَرْبٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . قال: حوائجُ أُخرى قد علِمتَها
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . يقولُ: حاجةٌ أُخرى
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى
(4)
، [وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . قال: حاجاتٌ؛ منافعُ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . قال: حاجاتٌ]
(6)
.
(1)
ينظر ما تقدم في ص 18.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في التغليق 3/ 149 - من طريق أحمد بن عبدة الضبى به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في التغليق 3/ 149 - من طرق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن المنذر.
(4)
بعده في الأصل، ص، ت 2، ف:"عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} يقول: حاجات". وزاد في الأصل: "أخرى".
(5)
تفسير مجاهد ص 461، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
سقط من: ت 2.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرُو بنُ حَمَّادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . يقولُ: حوائجُ أُخرى؛ أحمِلُ عليها المِزْودَ والسِّقاءَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . قال: حوائجُ أُخرى.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . قال حاجاتٌ أُخرى
(2)
؛ منافعُ أُخرى
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن وهبِ بن مُنبِّهٍ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . أي: منافعُ أُخرى
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . قال: حوائجُ أُخرى سوى ذلك.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعت أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبيدٌ، قال: سمِعت الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {مَآرِبُ أُخْرَى} . قال: حاجاتٌ أُخرى.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ لموسى: ألقِ عصاك التي بيمينِك يا موسى.
(1)
في ص: "السعل"، وفى ت 1:"الشغل"، وفى ف:"السفل".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن أبي حاتم، وتقدم أوله في ص 19.
(2)
سقط من: ص، م، ف.
(3)
تقدم أوله تخريجه في ص 43.
(4)
تقدم أوله في ص 19.
يقولُ جلَّ ثناؤُه: فألقاها موسى، فجعَلها اللهُ حيَّةٌ تَسْعَى، وكانت قبلَ ذلك خشبةً يابسةً، وعصا يتوكَّأُ عليها موسى، ويهُشُّ بها على غنمِه، فصارت حيةً بأمرِ اللهِ.
كما حدَّثنا أحمدُ بنُ عَبْدةَ الضبِّيُّ، قال: ثنا حفصُ بنُ جُميعٍ، قال: ثنا سِماكُ بنُ حربٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: لما قيل لموسى: أَلْقِها يا موسى. ألقاها {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ، ولم تكنْ قبلَ ذلك حيةً. قال: فمرَّت بشجرةٍ فأكَلتها، ومرَّت بصخرةٍ فابتلَعتها. قال: فجعَل موسى يسمَعُ وقعَ الصخرةِ في جوفِها. قال: فولَّى مُدْبِرًا، فنُودِىَ أن يا موسى خُذْها. فلم يأخُذْها، ثم نُودِيَ الثانيةَ: أن {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} . فلم يأخُذْها، فقيل له في الثالثةِ:{إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]. فأخَذها
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: قال له، يعني لموسى، ربُّه:{أَلْقِهَا يَامُوسَى} يعنى: عصاه. {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}. فنُودِيَ: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي
(2)
لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}
(3)
[النمل: 10].
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن وهبِ بن مُنبِّهٍ:{قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} : تهتزُّ، لها أنيابٌ وهيئةٌ كما شاء اللهُ أن تكونَ، فرأى أمرًا فظيعًا، فولَّى مدبرًا ولم يعقِّبْ، فناداه ربُّه: يا موسى أقْبِلْ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 274 - من طريق أحمد بن عبدة به.
(2)
في الأصل، ت 2:"إنه".
(3)
تقدم أوله في ص 19.
ولا تَخَفْ، {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}
(1)
.
وقولُه: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ لموسى: خُذِ الحيةَ. والهاءُ والألفُ من ذكرِ "الحيةِ"، {وَلَا تَخَفْ} يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تخفْ من هذه الحيةِ، {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}. يقولُ: فإنا سنعيدُها لهيئتِها الأولى التي كانت عليها قبلَ أن نصيِّرَها حيةً، ونردَّها عصًا كما كانت.
يقال لكلِّ من كان على أمرٍ فترَكه، وتحوَّل عنه ثم راجَعه: عاد فلانٌ سيرتَه الأولى، وعاد لسيرتِه الأولى، وعاد إلى سيرتِه الأولى.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{سِيرَتَهَا الْأُولَى} . يقولُ: حالَتَها الأُولى
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ [قولَه: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا]
(3)
الْأُولَى}. قال: هيئتَها
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(4)
تفسير مجاهد ص 461. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاق، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ:{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} . أي: سنردُّها عصًا كما كانت
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} . قال: إلى هيئتِها الأُولى.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واضمُمْ يا موسى يدَك فَضَعْها تحتَ عَضُدِك.
والجناحانِ هما اليدانِ. كذلك رُوِىَ الخبرُ عن أبي هريرةَ وكعبِ الأحبارِ.
وأما أهلُ العربيةِ فإنهم يقولون: هما الجَنْبان. وكان بعضُهم يستشهِدُ لقولِه ذلك بقولِ الراجزِ
(2)
:
أضُمُّهُ للصدرِ والجَنَاحِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَى جَنَاحِكَ} . قال: كفُّه تحتَ عضُدِه
(3)
.
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
مجاز القرآن 2/ 18، وتفسير القرطبي 11/ 191.
(3)
تفسير مجاهد ص 461. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقولُه: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . ذُكِر أن موسى عليه السلام كان رجلًا آدمَ، فَأَدْخَل يدَه في جيبِه، ثم أَخْرَجها بيضاءَ من غيرِ سوءٍ؛ من غيرِ بَرَصٍ، مثلَ الثلجِ، ثم ردَّها، فخرَجت كما كانت على لونِه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةَ، عن ابن إسحاقَ، عن وهبِ بن منبهٍ
(1)
بذلك.
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ موسى الفَزاريُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن يزيدَ بن أبي زيادٍ، عن مِقْسمٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، قال: من غيرِ بَرَصٍ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . قال: من غيرِ برصٍ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:
(1)
تقدم أوله في ص 19، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2975، 2976، من طريق سلمة، عن ابن إسحاق قوله.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2851 (16160)، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن المنذر.
(3)
تقدم تخريجه في ص 48.
{بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . قال: من غيرِ برَصٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} .
قال: من غيرِ بَرَصٍ.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، قال:[السوءُ البياضُ]
(2)
؛ من غيرِ برَصٍ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحَّاكِ يقولُ في قولِه: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} : من غيرِ برَصٍ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا حمادُ بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا قُرَّةُ، عن الحسنِ في قولِ اللهِ:{بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . قال: أخْرَجها اللهُ مِن غيرِ سوءٍ؛ من غيرِ برَصٍ، فعلِم موسى أنه لقِى ربَّه
(5)
.
وقولُه: {آيَةً أُخْرَى} . يقولُ: وهذه علامةٌ ودلالةٌ أُخرى غيرُ الآيةِ التي أَرَيْناك قبلَها من تحويلِ العصا حيةً تسعى - على حقيقةِ ما بعَثناك به من الرسالةِ لمن بعَثناك إليه.
ونصبَ {آيَةً} على اتصالِها بالفعلِ، إذ لم يظهَرْ لها ما يُرافِعُها
(6)
من "هذه" أو "هي".
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 16، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 61/ 51.
(2)
سقط من: م، وفى ص، ت 1، ف:"فالسوء البياض"، وفى ت 2:"سوء البياض".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2851 من طريق عمرو بن حماد به.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2851 معلقا.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2850، وابن عساكر في تاريخه 61/ 51، من طريق قرة بن خالد به.
(6)
في م: "يرفعها".
وقولُه: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} . يقولُ: واضمُمْ يدَك يا موسى إلى جَناحِك تخرُجْ بيضاءَ من غيرِ سوءٍ، كى نُريَك من أدلَّتِنا
(1)
الكبرى على عظيمِ سلطانِنا وقدرتِنا. وقال: {الْكُبْرَى} فوحَّد، وقد قال:{مِنْ آيَاتِنَا} . كما قال: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]. وقد بيَّنا ذلك هنالك
(2)
. وكان بعضُ أهلِ البصرةِ يقولُ
(3)
: إنما قيل: {الْكُبْرَى} ؛ لأنه أُرِيد بها التقديمُ، كأن معناها عندَه: لنريَك الكُبرى من آياتِنا.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه موسى: اذْهَبْ يا موسى {إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . يقولُ: تجاوَز قدْرَه، وتمرَّد على ربِّه. وقد بيَّنا معنى "الطغيانِ" فيما مضى بما أَغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(4)
. وفى الكلامِ محذوفٌ اسْتُغنى بفهمِ السامعِ بما ذُكِر منه، وهو قولُه: اذْهَبْ إلى فرعونَ إِنه طَغَى، فادْعُه إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه، وإرسالِ بنى إسرائيلَ معك.
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} . يقولُ جلّ ثناؤُه: قال موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} . [يقولُ: اشْرَحْ لى صَدْرى]
(5)
لأعِيَ عنك ما تُودِعُه مِن وحيِك، وأجْترئَ به على خطابِ فرعونَ،
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} . يقولُ: وسَهِّلْ لى
(6)
(1)
في ت 1: "آياتنا".
(2)
ينظر ما تقدم في ص 17.
(3)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 18.
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 320، 321.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
سقط من: ت 2، وفى ص، م، ت 1، ت 3، ف:"على".
القيامَ بما تُكلِّفُنى من الرسالةِ، وتحمِّلُنى من الطاعةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} . قال: جرِّئْه
(1)
لى.
وقولُه: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} . يقولُ: وأَطْلِقْ لساني بالمنطقِ. وكانت فيه - فيما ذُكِر - عُجْمةٌ عن الكلامِ للذى
(2)
كان من إلقائِه الجمرةَ إلى فيه يومَ همَّ فرعونُ بقتلِه.
ذكرُ الروايةِ بذلك عمن قاله
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى عن ابن أبي نجيحٍ، عن [سعيدِ بن جبيرٍ]
(3)
في قولِه: {عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} . قال: عجمةً، الجمرةِ نارٍ أَدْخَلها في فيه عن أمرِ امرأةِ فرعونَ، تردُّ به عنه عقوبةَ فرعونَ، حين أخَذ موسى بلحيتِه وهو لا يعقِلُ، فقال: هذا عدوٌّ لى. فقالت [له: إنه لا يعقِلُ]
(4)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نَجيحٍ:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} : لجمرةِ نارٍ أَدْخَلها في فيه عن أمرِ امرأةِ فرعونَ، تدرَأُ به عنه عقوبةَ فرعونَ، حينَ أخَذ موسى بلحيتِه وهو لا يعقِلُ، فقال: هذا
(1)
في م: "جرأة".
(2)
في م: "الذي".
(3)
في ت 1: "مجاهد".
(4)
في ص، ت 1، ف:"لا تفعل".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
عدوٌّ لي. فقالت له: إنه لا يعقِلُ. هذا قولُ سعيدِ بن جبيرٍ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} . قال: عجمةً، لجمرةِ نارٍ أَدْخَلها في فيه، عن أمرِ امرأةِ فرعونَ، تردُّ به عنه عقوبةَ فرعونَ حينَ أَخَذ بلحيتِه
(1)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: لما تحرَّك الغلامُ - يعنى موسى - أرَته
(2)
أمُّه آسيةُ صبيًّا، فبينما هي ترقِّصُه وتلعبُ به، إذ ناولَته فرعونَ وقالت: خذْه. فلما أخَذه إليه أخَذ موسى بلحيتِه فنتَفها، فقال فرعونُ: عليَّ بالذَّبَّاحين. قالت آسيةُ: لا تَقْتُلُوه، عسى أن يَنْفَعَنا أو نَتَّخِذَه ولدًا، إنما هو صبيٌّ لا يعقِلُ، إنما صنَع هذا من صِباه، وقد علِمتَ أنه ليس في أهلِ مصرَ أَحْلَى منى، أنا أضعُ له حَلْيًا من الياقوتِ، وأضعُ له جمرًا، فإن أخَذ الياقوتَ فهو يعقِلُ فاذبَحْه، وإن أخَذ الجمرَ فإنما هو صبيٍّ. فأَخْرَجت له ياقوتَها ووضعت له طسْتًا من جمرٍ، فجاء جبريلُ فطرَح في يدِه جمرةً، فطرَحها موسى في فيه، فأَحْرَقت لسانَه، فهو الذي يقولُ اللهُ عز وجل:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} . فزالَت
(3)
عن موسى من أجلِ ذلك
(4)
.
وقولُه: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} : يقولُ: يَفْهَموا
(5)
عنى ما أُخاطبُهم وأُراجعُهم به من
(1)
تفسير مجاهد ص 462.
(2)
في م: "أورته"، وفى ت 2:"أوريه".
(3)
في الأصل: "فتزالت"، وفى ص، ت 1، ف:"فتزاللت".
(4)
تقدم أوله في ص 19، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945، من طريق عمرو بن حماد به.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 3:"يفقهوا".
الكلامِ، {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} يقولُ
(1)
: واجعَلْ لى عونًا [{مِنْ أَهْلِي}. يقولُ]
(2)
: من أهلِ بيتى
{هَارُونَ أَخِي} . وفى نصبِ {هَارُونَ} وجهان؛ أحدُهما، [أن يكونَ منصوبًا بقوله:{وَاجْعَلْ} . فيكونَ "الوزيرُ" على هذا الوجهِ إذا نُصِب فعلًا لـ {هَارُونَ} . والآخرُ]
(3)
، أن يكونَ "هارونُ" منصوبًا على الترجمةِ عن "الوزيرِ".
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجَّاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: كان هارونُ أكبرَ من موسى
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن موسى أنه سأل ربَّه أن يشدُدَ أَزْرَه بأخيه هارونَ.
وإنما يعنى بقولِه: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} : قوِّ به
(5)
ظَهْرى، وأَعِنِّي به. يقالُ منه: قد آزَر فلانٌ فلانًا. إذا أعانه وشدَّ ظهرَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} . يقولُ: اشدُدْ به ظهرى.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {اشْدُدْ
(1)
في الأصل: "هارون أخى".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3.
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن المنذر.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
بِهِ أَزْرِي}. يقولُ: اشْدُدْ به أمرى، وقوِّنى به، فإن لي به قوّةً
(1)
.
وقولُه: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} . يقولُ: واجعَلْه نبيًّا مثلَ مَا جَعَلتَنى نبيًّا، وأَرْسِلْه معى إلى فرعونَ
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} . يقولُ: كي نعظِّمَك بالتسبيحِ لك كثيرًا،
{وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} فنُمجِّدَك
{إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} . يقولُ: إنك كنت ذا بصَرٍ بنا، لا يخْفى عليك من أفعالِنا شيءٌ.
وذُكِر عن عبدِ اللهِ بن أبي إسحاقَ أنه كان يقرأُ: (أَشْدُدْ بِهِ أَزْرِى). بفتحِ الألفِ من (أَشْدُدْ)، (وأُشْرِكْهُ في أَمْرِى) بضمِّ الأُلفِ من (أُشْرِكْهُ)
(2)
. بمعنى الخبرِ من موسى عن نفسِه أنه يفعَلُ ذلك، لا على وجهِ الدعاءِ، وإذا قُرِئ ذلك كذلك جُزِم "أَشَدُدْ" و "أُشْرِكْ" على الجزاءِ، أو
(3)
جوابِ الدعاءِ. وذلك قراءةٌ لا أرى القراءةَ بها، وإن كان لها وجهٌ، مفهومٌ، لخلافِها قراءةَ الحجةِ التي لا يجوزُ خلافُها
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ لموسى: قد أُعْطِيتَ ما سألتَ يا موسى ربَّك من شرحه صدرَك، وتيسيرِه لك أمرَك، وحَلِّ عقدةِ لسانِك، وتصييرِ أخيك هارونَ وزيرًا لك، وشَدِّ أَزْرِك به، وإشراكِه في الرسالةِ معك.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد تطوَّلنا عليك يا موسى قبلَ هذه المرّةِ مرّةً أخرى، وذلك حينَ أَوْحَينا إلى أمِّك إذ ولَدَتك في العامِ الذي كان فرعونُ يقتُلُ كلَّ مولودٍ ذكَرٍ من قومِك - ما أَوْحَينا إليها،
ثم فسَّر تعالى ذكرُه ما أَوْحَى إلى أمِّه،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 295 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
وهي قراءة ابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 418.
(3)
في الأصل: "و".
(4)
القراءتان متواترتان.
فقال: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} . فـ {أَنِ} في موضعِ نصبٍ ردًّا على {مَا} التي في قولِه: {مَا يُوحَى} . وترجمةً عنها.
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد مننَّا عليك يا موسى مرّةً أخرى حينَ أَوْحَينا إلى أمِّك أن اقْذِفى ابنَك موسى - حينَ ولَدَتكَ - في التابوتِ، {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} . يعنى باليَمِّ النيلَ، {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ}. يقولُ: فاقْذِفيه في اليَمِّ، يُلْقِه اليمُّ بالساحلِ. وهو جزاءٌ أُخْرِج مُخْرَجَ الأمرِ، كأنَّ اليمَّ هو المأمورُ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} . [العنكبوت: 12]. بمعنى: اتبعوا سبيلَنا نحمِلْ عنكم خطاياكم. ففعَلت ذلك أمُّه به فألقاه اليمُّ بمَشْرَعَةِ آلِ فرعونَ.
كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما ولَدَت موسى أمُّه أَرْضَعته، حتى إذا أمَر فرعونُ بقتلِ الولدانِ من سنتِه تلك، عمَدت إليه، فصنَعت به ما أمَرها اللهُ تبارك وتعالى، جعَلته في تابوتٍ صغيرٍ، ومهَّدت له فيه، ثم عمَدت إلى النيلِ فقذَفته فيه، فأصبَح فرعونُ في مجلسٍ له كان يجلِسُه على شفيرِ النيلِ كلَّ غداةٍ، فبينا هو جالسٌ، إذ مرَّ النيلُ بالتابوتِ فقذَف به وآسيةُ ابنةُ مُزاحمٍ امرأتُه جالسةٌ إلى جنبِه، فقال: إن هذا لشيءٌ في البحرِ، فأتونى به. فخرَج إليه أعوانُه حتى جاءوا به، ففتَح التابوتَ فإذا فيه صبيٌّ في مهدِه، فألقى اللهُ عليه محبتَه، وعطَف عليه نفسَه
(1)
.
وعنى جلَّ ثناؤُه بقولِه: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} . فرعونَ، وهو العدوُّ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945، من طريق سلمة به.
كان للهِ ولموسى.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ في قولِه:{فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} : وهو البحرُ، وهو النيلُ
(1)
.
واختلف أهلُ التأويلِ في معنى "المحبةِ" التي قال اللهُ جلَّ ثناؤُه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ؛ فقال بعضُهم: عنَى بذلك أنه حبَّبه إلى عبادِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني الحسينُ بنُ عليٍّ الصدائيُّ والعباسُ بنُ محمدٍ الدُّوريُّ، قالا: ثنا حسينٌ الجُعْفيُّ، عن موسى بن قيسٍ الحَضْرميِّ، عن سلَمةَ بن كُهيلٍ في قولِ اللهِ:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} . قال عباسٌ: حبَّبتك إلى عبادى. وقال الصُّدائيُّ: حبَّبتك إلى خلقى
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أي: حسَّنتُ خَلَقَك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى إبراهيمُ بنُ مَهْدِيٍّ، عن رجلٍ، عن الحكمِ بن أبانٍ، عن عكرمةَ قولَه:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} . قال: حُسْنًا وملاحةً
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: والذي هو أولى بالصوابِ من القولِ في ذلك أن يقالَ: إن الله عزّ
(1)
تقدم أوله في ص 19، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2942، من طريق عمرو بن حماد به.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 23، من طريق عباس الدورى به، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 532 عن حسين بن علي الجعفى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى عبد بن حميد.
وجلّ أَلْقَى محبتَه على موسى عليه السلام، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فحبَّبه إلى آسيةَ امرأةِ فرعونَ حتى تبنَّته وغدَّته وربَّته، وإلى فرعونَ حتى كفَّ عنه عادِيتَه وشرَّه. وقد قيل: إنما قيل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ؛ لأنه حبَّبه إلى كلِّ مَن رآه. ومعنى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} : حبَّبْتك إليهم. يقولُ الرجلُ لآخرَ إذا أحبَّه: ألقيتُ عليك رحمتى. أي: محبتى.
القولُ في تأويلِ قوله جل ثناؤُه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (40)} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ؛ فقال بعضُهم: معناه: ولتُغَذَّى وتُرَبَّى على محبتى وإرادتي.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . قال: هو غذاؤُه، ولتُغَذَّى على عينى
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . قال: جَعَله في بيتِ الملكِ ينعَمُ ويترَفُ، غذاؤُه عندَهم غذاءُ الملكِ، فتلك الصَّنْعةُ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت بعينى في أحوالك كلِّها.
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 17، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 278 عن ابن زيد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . قال: أنت بعيني إذ جعَلَتك أمُّك في التابوتِ، ثم في البحرِ، {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ}
(1)
.
وقرأ ابن نَهيك: (وَلِتَصْنَعَ [على عينى)]
(2)
بفتح التاءِ. وتأوَّله كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبدُ المؤمنِ، قال: سمِعتُ أبا نَهيكٍ يقرأُ: (وَلِتَصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) فسألتُه عن ذلك، فقال: ولتَعْمَلَ على عينى
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: والقراءةُ التي لا أستجيزُ القراءةَ بغيرها: {وَلِتُصْنَعَ} بضمِّ التاءِ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليها. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين به التأويلُ الذي تأوَّله قتادةُ، وهو:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} : ولتغَذَّى على عينى ألقيتُ عليك المحبةَ منى.
وعنى بقولِه: {عَلَى عَيْنِي} : بمرأًى منى ومحبةٍ وإرادةٍ.
وقوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: حينَ تمشِى أختُك تبتغيك
(4)
حتى وجَدَتك، ثم تأتى من يطلُبُ المراضعَ لك، فتقولُ: هل أدُلُّكم على مَن يَكْفُلُه؟ وحُذِف من الكلامِ ما ذكرتُ بعد قولِه: {إِذْ تَمْشِي} . استغناءً بدلالة الكلامِ عليه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في م، ف:"تتبعك".
وإنما قالت أختُ موسى ذلك لهم لِما حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ، قال: لما ألقَته أمُّه في اليمِّ وقالت لأختِه: قصِّيه. فلما التقَطه آلُ فرعونَ، وأرادوا له المرضِعاتِ، فلم يأخُذْ من أحدٍ من النساءِ، وجعَل النساءُ يطلُبْنَ ذلك لينزِلْنَ عند فرعونَ في الرَّضاعِ، فأبَى أن يأخُذَ، فقالت أختُه:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]. فأخَذوها وقالوا: بل قد عرفتِ هذا الغلامَ، فدُلِّينا على أهلِه. فقالت: ما أعرِفُه، ولكنى إنما قلتُ: هم للملكِ ناصحون
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: قالت - يعنى أمَّ موسى لأختِه -: قُصِّيه فانظُرى ماذا يفعَلون به. فخرَجت في ذلك، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11]. وقد احتاج إلى الرَّضاعِ والتَمس الثديَ، وجمَعوا له المراضعَ حينَ أَلْقَى اللهُ [محبتَهم عليه]
(2)
، فلا يُؤْتَى بامرأةٍ فيقبَلُ ثَدْيَها، فيُرْمِضُهم
(3)
ذلك، فيُؤْتَى بمُرْضِعٍ بعد مُرْضِعٍ، فلا يقبَلُ شيئًا منهن
(4)
، فقالت لهم أختُه حينَ رأت من وَجْدِهم به وحرصِهم عليه:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} . أي: لمنزلتِه عندَكم وحرصِكم على مسرَّةِ الملكِ
(5)
.
وعنَى بقولِه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} : هل أدلُّكم على من يضمُّه إليه
(1)
تقدم أوله في ص 19، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949، 2950، من طريق عمرو به.
(2)
في ت 2: "محبته عليهم".
(3)
أرمضه: أوجعه. ينظر التاج (ر م ض).
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"منهم".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949، 2950، من طريق سلمة به.
فيحضُنَهُ
(1)
ويُرْضِعَه ويربِّيَه.
وقيل: معنى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]: ضمَّها.
وقولُه: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فرَدَدناك إلى أُمِّك بعدَ ما صرتَ في أيدى آلِ فرعونَ، كيما تقرَّ عينُها بسلامتِك ونجاتِك من القتلِ والغرقِ في اليمِّ، وكيلا تحزنَ عليك من الخوفِ من فرعونَ عليك أن يقتُلَك.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما قالت أختُ موسى لهم ما قالت، قالوا: هاتى. فأتت أمَّه فأخبرتْها، فانطلقت معها حتى أتَتهم، فناولوها إيَّاه، فلما وَضعته في حِجْرِها أَخَذ ثديَها، وسُرُّوا بذلك منه، وردَّه اللهُ إلى أمِّه كي تقرَّ عينُها ولا تحزنَ، فبلَغ لطفُ اللهِ لها وله أن ردَّ عليها ولدَها، وعطَف عليها نَفْعَ فرعونَ وأهلِ بيتِه، مع الأمَنةِ من القتلِ الذي يُتَخَوَّفُ على غيرِه، فكأنَّهم كانوا من أهلِ بيتِ فرعونَ في الأمانِ والسَّعَةِ، فكان على فُرُشِ فرعونَ وسُرُرِه
(2)
.
وقولُه: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} . يعنى جلَّ ثناؤُه بذلك قتله القِبْطيَّ الذي قتَله حينَ استغاثه عليه الإسرائيليُّ، فوكَزه موسى.
وقولُه: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فنجَّيناك من غمِّك بقتلِك النفسَ التي قتلتَ، إذ أرادوا أن يقتُلوك بها فخلَّصناك منهم، حتى هرَبتَ إلى أهلِ مَدْينَ، فلم يَصِلوا إلى قتلِك وقَوَدِك به.
وكان قتلُه إيَّاه، فيما ذُكِر، خطأً.
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"فيحفظه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2950، من طريق سلمة به.
كما حدَّثني واصلُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضيلٍ، عن أبيه، عن سالمٍ، عن عبدِ الله بن عمرَ، قال: سمِعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنما قتَل موسى الذي قتَل من آلِ فرعونَ خطأً، فقال اللهُ له:{وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}
(1)
.
حدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ ومحمدُ بنُ عمرٍو، قالا: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ}
(2)
. قال: من قتلِ النفسِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} : النفسِ التي قتَل.
واختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ؛ فقال بعضُهم: معناه: ابتليناك ابتلاءً، واختَبرناك اختبارًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . يقولُ: اختَبرناك اختبارًا
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (2905/ 50)، وأبو عمرو الدانى في السنن الواردة في الفتنة (45)، والبيهقي في الشعب (5348) من طريق واصل بن عبد الأعلى به، وأخرجه الروياني (1410)، والخطيب في تاريخه 12/ 492 من طريق محمد بن فضيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
بعده في الأصل، ت 2:"وفتناك فتونا".
(3)
تفسير مجاهد ص 462، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . قال: ابْتُلِيتَ بلاءً
(1)
.
حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ الآمُليُّ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أَخبَرنا أَصْبَغُ بن زيدٍ الجُهَنيُّ، قال: أخبَرنا القاسمُ بنُ أبي
(2)
أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بن جبيرٍ، قال: سألتُ عبدَ اللهِ بن عباسٍ عن قولِ اللهِ لموسى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . فسأَلْتُه عن
(3)
الفُتُونِ ما هي؟ فقال لي: استأنفِ النهارَ يا بنَ جُبيرٍ؛ فإن لها حديثًا طويلًا. قال: فلما
(4)
أصبحتُ غدوتُ على ابن عباسٍ لأنتجزَ منه ما وعَدنى. قال: فقال ابن عباسٍ: تذاكَر فرعونُ وجلساؤُه ما وعَد اللهُ إبراهيمَ أن يجعَلَ في ذَرِّيتِه أنبياءَ وملوكًا، فقال بعضُهم: إن بنى إسرائيلَ ينتظرون ذلك وما يشكُّون، ولقد كانوا يظنُّون أنه يوسفُ بن يعقوبَ. فلما هلَك قالوا: ليس هكذا كان اللهُ وعد إبراهيمَ. فقال فرعونُ: فكيف ترَوْن؟ قال: فأْتَمَروا بينَهم، وأَجْمَعوا أمرَهم على أن يبعَثَ رجالًا معهم الشِّفارُ يطوفون في بنى إسرائيلَ، فلا يجِدون مولودًا ذكرًا إلا ذبَحوه، فلما رأَوا أن الكبارَ من بني إسرائيلَ يموتون بآجالِهم، وأن الصغارَ يُذْبَحون، قالوا: تُوشِكُون
(5)
أن تُفْنُوا بنى إسرائيلَ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمالِ والخدمةِ التي كانوا يَكْفُونكم، فاقتُلوا عامًا كلَّ مولودٍ ذكرٍ، فيَقِلَّ أبناؤُهم، ودَعُوا عامًا لا تقتُلوا منهم أحدًا، فتشُبَّ الصغارُ مكانَ من يموتُ من الكبارِ، فإنهم لن يكثُروا بمن تَسْتَحيون
(1)
تفسير سفيان ص 194 من طريق سعيد، عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296، إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميدٍ وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(3)
في م: "علي".
(4)
في م: "فلو".
(5)
في م: "يوشك"، وفى ف:"توشك".
منهم، فتخافون مُكاثَرتَهم إيَّاكم، ولن يَقِلُّوا بمن تقتُلون. فأَجْمَعوا أمرَهم على ذلك، فحمَلت أمُّ موسى بهارونَ في العامِ المقبلِ الذي لا يُذْبَحُ فيه الغِلمانُ، فولَدته علانيةً آمنةً، حتى إذا كان العامُ المقبلُ حملت بموسى
(1)
، فوقَع في قلبِها الهمُّ والحزْنُ، وذلك من الفتونِ يا بنَ جبيرٍ؛ مما دخَل عليه في بطنِ أمِّه مما يرادُ به، فأَوْحَى اللهُ إليها {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]. وأمَرها إذا ولَدته أن تجعَلَه في تابوتٍ، ثم تُلْقِيه في اليمِّ، فلما ولَدته فعلت ما أُمِرت به، حتى إذا تَوارَى عنها ابنُها أَتاها إبليسُ، فقالت في نفسِها: ما صنَعْتُ بابني، لو ذُبِح عندى فوارَيْتُه وكفَّنْتُه كان أحبَّ إليَّ من أن أُلْقِيَه بيدى إلى حيتانِ البحرِ ودوابِّه. فانطلَق به الماءُ حتى أَوْفَى
(2)
به عندَ فُرْضَةِ
(3)
مُسْتَقَى جوارى آلِ فرعونَ، فرأيْنَه فأَخَذْنَه، فهَمَمْنَ أَن يَفْتَحْنَ البابَ، فقال بعضُهن
(4)
لبعضِ: إن في هذا مالًا، وإنا إن فتَحْناه لم تُصَدِّقْنا امرأةُ فرعونَ بما وجَدنا فيه. فحمَلنه كهيئتِه لم يحرِّكْن منه شيئًا، حتى دفَعنه، إليها، فلما فتَحته رأت فيه الغلام، فأُلْقِى عليه منها محبَّةٌ لم يُلْقَ مثلُها
(5)
منها على أحدٍ من الناسِ، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10]. من ذكرِ
(6)
كلِّ شيءٍ إلا من ذكرِ موسى. فلما سمِع الذبَّاحون بأمرِه أقْبَلوا إلى امرأةِ فرعونَ بشِفارِهم يريدون أن يذبَحوه - وذلك من الفتون يا بن جُبَيرٍ - فقالت للذبَّاحين: انصرِفوا عنى. فإن هذا الواحدَ لا يزيدُ في بنى إسرائيلَ، فآتِى فرعونَ فأستوهبُه إياه، فإن وهبَه لى كنتم قد أَحْسَنتُم وأَجمَلتُم، وإن أمَر بذبحِه لم أَلُمْكم. فلما أتَتْ به فرعونَ قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ
(1)
في ص، ت 1، ف:"أم موسى".
(2)
في الأصل، ونسخة من تاريخ المصنف:"أرفأ".
(3)
وفرضة النهر: ثلمته التي منها يستقى. لسان العرب (ف ر ض).
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"بعضهم".
(5)
في الأصل، ت 2:"مثله".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
لِي وَلَكَ} [القصص: 9]. قال فرعونُ: يكونُ لكِ، [فأما أنا فلا حاجةَ لي فيه. فقال [رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم]
(1)
: "والذي يُحْلَفُ]
(2)
به، لو أقرَّ فرعونُ أن يكونَ له قرَّةَ عينٍ كما أقرَّت به، لهداه اللهُ به كما هدَى به امرأتَه، ولكنَّ الله حرَمه ذلك". فأَرْسَلت إلى من حولَها من كلِّ أنثى لها لبنٌ لتختارَ له ظئْرًا، فجعَل كلَّما أَخَذَته امرأةٌ منهن
(3)
لتُرضِعَه لم يَقبَلْ ثديَها، حتى أَشْفَقت امرأةُ فرعونَ أن يَمتنعَ من اللبنِ فيموتَ، فحَزَنَها ذلك، فأمَرت به فأُخْرِج إلى السوقِ مجمَعِ الناسِ ترجو أن تُصيبَ له ظئرًا يأخذُ منها، فلم يقبَلْ من أحدٍ، وأصبحت أمُّ موسى، فقالت لأختِه: قُصِّيه واطلُبيه، هل تسمَعين له ذكرًا، أحيٌّ ابنى، أو قد أكَلتْه دوابُّ البحرِ وحيتانُه؟ ونَسِيتُ الذي كان اللهُ وعَدها، فبَصُرت به أختُه عن جُنُبٍ وهم لا يشعُرون، فقالت من الفرحِ حينَ أعياهم الظُّئوراتُ: أنا أدلُّكم على أهلِ بيتٍ يكفُلونه لكم وهم له ناصحون. فأخَذوها وقالوا: وما يُدْرِيكِ ما نُصْحُهم له، هل يعرفونه، حتى شكُّوا في ذلك - وذلك من الفتونِ يا بنَ جُبيرٍ - فقالت: نُصْحُهم له وشفقَتُهم عليه، رغْبتُهم في ظُئُورةِ الملكِ، ورجاءُ منفعتِه. فترَكوها، فانطلقت إلى أمِّها فأَخْبَرتها الخبرَ، فجاءت، فلما وضَعَتْه في حَجْرِها نزا إلى ثديها حتى امْتَلأ جنباه، فانطلق البُشَراءُ إلى امرأةِ فرعونَ يبشِّرونها أن قد وجَدنا لابنِك ظِئْرًا. فَأَرْسَلت إليها، فأُتِيَت بها وبه. فلما رأت ما يصنَعُ بها قالت: امْكُثى عندى
(4)
تُرْضِعين
(5)
ابنى هذا، فإنى لم أُحِبُّ حبَّه شيئًا قطُّ. قال: فقالت: لا أستطيعُ أن أدَعَ بيتى وولدى فيضيعَ، فإن طابت نفسُكِ أن تُعْطِينِيه، فأذهبَ به إلى بيتى، فيكونَ معى لا آلوه خيرًا، فعلتُ، وإلا فإني غيرُ تاركةٍ بيتى وولدى. وذكرت أمُّ موسى ما كان اللهُ وعَدها، فتعاسَرت على
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 3، ف.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"منهم".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"حتى".
(5)
في م: "ترضعي".
امرأةِ فرعونَ، وأيقنَت أن الله عز وجل منجِزٌ وعدَه، فرجَعت بابنِها إلى بيتِها من يومِها، فأنبَته اللهُ نباتًا حسنًا، وحفِظه لِما قضَى فيه، فلم يزَلْ بنو إسرائيلَ وهم مُجْتمِعون في ناحيةِ المدينةِ يمتنِعون به من الظلمِ والسُّخْرةِ التي كانت فيهم، فلما تَرَعْرعَ قالت امرأةُ فرعونَ لأمِّ موسى
(1)
: أَزِيريني
(2)
ابنى. فوعَدَتها يومًا تُزِيرُها
(3)
إيَّاه فيه، فقالت لحواضِنِها
(4)
وظُئورتِها وفهارِمَتِها: لا يبقينَّ أحدٌ منكم إلا استقبلَ ابنى بهديةٍ وكرامةٍ ليرى ذلك، وأنا باعثةٌ أمينةً تُحْصِى كلَّ ما يصنعُ كلُّ إنسانٍ منكم. فلم تَزَلِ الهديةُ والكرامةُ والتُّحَفُ تَسْتَقْبِلُه مِن حينَ خرَج مِن بيتِ أمِّه إلى أن دخَل على امرأةِ فرعونَ، فلما دخَل عليها نحَلَتْه
(5)
وأَكْرَمَته، وفرِحَت به، وأَعْجَبها ما رأت مِن حُسْنِ أثرِها عليه، وقالت: انطلِقن
(6)
به إلى فرعونَ، فليَنْحَلْه
(7)
وليُكْرِمه. فلمَّا دخَلن
(8)
به عليه جعَلْنَه
(9)
في حجره، فتَناوَل موسى لحية فرعونَ حتى مدَّها، فقال عدوٌّ مِن أعداءِ اللهِ: ألا تَرَى ما وعَد اللهُ إبراهيمَ أنه سيَصْرَعُك ويَعْلُوك. فأرْسَل إلى الذَّباحين ليَذْبَحوه، وذلك من الفُتونِ يا بنَ جُبيرٍ، بعد كلِّ بلاءٍ ابْتُلِى به وأُرِيد به. فجاءت امرأةُ فرعونَ تَسْعَى إلى فرعونَ، فقالت: ما بدا لك في هذا الصبيِّ الذي قد وهَبْتَه لى؟ قال: ألا تَرَيْنه يَزْعُمُ أَنه سَيَصْرَعُنى ويَعْلُونى! فقالت: أجْعَلُ بينى وبينَك أمرًا تَعْرِفُ فيه الحقَّ؛ ائْتِ
(1)
بعده في ت 2: "أن".
(2)
في ص، ف:"أن ترينى". وفى ت 1: "لابد أن ترينى"، وفي مسند أبي يعلى:"أريد أن ترينى".
(3)
في ص، ف:"تريها".
(4)
في ص، م، ت 1، ف:"لخواصتها"، وفى مصادر التخريج:"لخزانها".
(5)
في ت 1، ت 2، ف، وتاريخ المصنف، ومسند أبي يعلى:"بجلته".
(6)
في ص، ت 1، ف:"انطلقوا".
(7)
سقط من: ص، ف. وفي ت 1:"فلينظره".
(8)
في ص، م، ت 1، ف:"دخلوا".
(9)
في ص، م، ت 1، ت 2:"جعلته". وفى ف: "حملته".
بجَمْرَتين ولُؤلؤتَيْن، فقرِّبْهن إليه، فإن بطَش باللؤلؤتين واجْتَنَب الجمْرتَيْن علِمْتَ أنه يَعْقِلُ، وإن تَناوَل الجمرتين ولم يُرِدِ اللؤلؤتين، فاعْلَمْ أَن أحدًا لا يُؤْثِرُ الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يَعْقِلُ. فقرَّب ذلك إليه، فتناول الجمرتين، فنزَعوهما منه مَخافةَ أن تُحْرِقا يدَه، فقالت المرأةُ: أَلا تَرَى! فصرَفه اللهُ عنه بعدَ ما كان
(1)
قد همَّ به، وكان اللهُ بالغًا فيه أمرَه.
فلما بلغ أَشُدَّه وكان مِن الرجالِ، لم يَكُنْ أَحدٌ مِن آلِ فرعونَ يَخْلُصُ إلى أحدٍ من بني إسرائيلَ معه بظلمٍ ولا سُخْرةٍ، حتى امْتَنعوا كلَّ امتناعٍ، فبينما هو يمشى ذاتَ يومٍ في ناحيةِ المدينةِ، إذ هو برجلين يَقْتَتِلان؛ أحدُهما مِن بنى إسرائيلَ، والآخرُ مِن آلِ فرعونَ، فاسْتَغاثه الإسرائيليُّ على الفِرْعَونيِّ، فغضِب موسى واشْتَدَّ غضبُه؛ لأنه تَناوَله وهو يَعْلَمُ منزلةَ موسى من بني إسرائيلَ، وحفِظَه لهم، ولا يَعْلَمُ الناسُ إلا أنما ذلك مِن قِبَل الرَّضاعة غيرَ
(2)
أمِّ موسى، إلا أن يكونَ اللهُ أطْلَعَ موسى موسى من ذلك على ما لم يُطْلِعْ عليه غيرَه، فوكَز موسى الفرعونيَّ فقتَله، وليس يراهما أحدٌ إلا اللهُ والإسرائيليُّ، فقال موسى حينَ قتل الرجلَ:{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} . ثم قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15، 16]. فأصبَح في المدينةِ. خائفًا يَتَرَقَّبُ الأخبارَ، فأُتِى فرعونُ، فقيل له: إن بني إسرائيلَ قد قتَلوا رجلًا من آلِ فرعونَ، فخُذْ لنا بحقِّنا ولا تُرَخِّصْ لهم في ذلك. فقال: ابْغُونى قاتلَه ومَن يَشْهَدُ عليه؛ لأنه لا يَسْتَقِيمُ أَن نَقْضِى بغيرِ بينةٍ ولا ثَبَتٍ. فطلبوا له ذلك، فبينما هم يطوفون لا يَجِدون ثَبَتًا، إذ مرَّ موسى من الغدِ، فرأى ذلك الإسرائيليَّ يُقاتِلُ
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
في الأصل: "عبر".
فرعونيًّا، فاسْتَغاثه الإسرائيليُّ على الفرعونيِّ، فصادَف موسى وقد ندِم على ما كان منه بالأمسِ، وكرِه الذي رأى، فغضب موسى فمدَّ يدَه وهو يريدُ أن يَبْطِشَ بالفرعونيِّ، فقال للإسرائيليِّ لِما فعَل بالأمسِ واليومَ:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص 18]. فنظَر الإسرائيليُّ إلى
(1)
موسى بعدَ ما قال [ما قال]
(2)
، فإذا هو غضبانُ كغضبِه بالأمسِ الذي قتَل فيه الفرعونيَّ، فخاف أن يكونَ بعدَ ما قال له:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . أن يكونَ إيَّاه أراد، ولم يَكُنْ أراده
(3)
، إنما أراد الفرعونيَّ، فخاف الإسرائيليُّ، فحاجَز الفرعونيَّ فقال:{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]. وإنما قال ذلك مَخافةَ أن يكونَ إياه أراد موسى ليَقْتُلَه، فتَتاركَا، فانْطَلَق الفرعونيُّ إلى قومِه، فأخْبرهم بما سمِع من الإسرائيليِّ من الخيرِ حينَ يقولُ:{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} . فأرْسَل فرعونُ إلى الذَّبَّاحين، فسلَك موسى الطريقَ الأعظمَ، فطلَبوه وهم لا يَخافون أن يَفوتَهم، وكان
(4)
رجلٌ مِن شِيعةِ موسى مِن أقصى المدينةِ، فاخْتَصَر طريقًا قريبًا حتى سبَقَهم إلى موسى، فأخْبَره الخبرَ، وذلك من الفتون يابنَ جبيرٍ
(5)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت، ف.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(3)
بعده في ص: "و".
(4)
في م: "جاء".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 392، وأخرجه النسائي في الكبرى (11326)، وفي تفسيره (346)، وأحمد بن منيع في مسنده - كما في المستزاد من الإتحاف للبوصيرى (5366) - وأبو يعلى (2618)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2942 - 2944، 2948، 2946، 2950، 2953 - 2955، 2957 - 2960 من طريق يزيد بن هارون به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى ابن أبي عمر العدني في مسنده وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(1)
، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فُتُونًا} . قال: بلاءً؛ إلقاؤُه في التابوتِ، ثم في البحرِ، ثم التقاطُ آلِ فرعونَ إياه، ثم خروجُه خائفًا
(2)
. قال محمدُ بنُ عمرٍو: قال أبو عاصمٍ: خائفًا أو جائعًا. شكَّ أبو عاصمٍ. وقال الحارثُ [في حديثِه]
(3)
: خائفًا يترقَّبُ. ولم يَشُكَّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، وقال: خائفًا يترقَّبُ. ولم يَشُكَّ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولُه:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . يقولُ: ابْتَلَيْناك بلاءً
(4)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} : هو
(5)
البلاءُ على إِثْرِ البلاءِ
(6)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخْلَصْناك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ
(7)
، قال: ثنا وَرْقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن
(1)
في ص، ف:"الحسين".
(2)
تفسير مجاهد ص 462. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 198.
(5)
في الأصل: "قال".
(6)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 273.
(7)
في الأصل، ف:"الحسين".
مجاهدٍ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} : أَخْلَصْناك إخلاصًا
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يَعْلَى بن مسلمٍ، قال: سمِعْتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ يُفَسِّرُ هذا الحرفَ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . قال: أخْلَصْناك إخلاصًا.
وقد بيَّنا فيما مضَى من كتابِنا هذا معنى "الفتنةِ"، وأنها الابتلاءُ والاختبارُ، بالأدلةِ المُغْنيةِ عن الإعادةِ في هذا الموضعِ
(2)
.
وقولُه: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} . وهذا كلامٌ
(3)
قد حُذِف منه بعضُ ما به تمامُه؛ اكتفاءً بدلالةِ ما ذُكِر عما حُذِف. ومعنى الكلامِ: وفتَنَّاك فُتونًا، فخرَجْتَ خائفًا إلى أهلُ مَدْينَ، فلبثْتَ سنينَ فيهم.
وقولُه: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ثم جئتَ للوقتِ الذي أرَدْنا إرسالَك إلى فرعونَ رسولًا ولمقدارِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} . يقولُ: لقد جئتَ لميقاتٍ يا موسى
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 296 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر ما تقدم في 2/ 356، 357.
(3)
في الأصل، م، ف:"الكلام".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى المصنف.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا [عن ابن أبي نجيحٍ]
(1)
، عن مجاهدٍ قولَه:{عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} . قال: موعدٍ
(2)
.
[حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: على ذى موعدٍ]
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} . قال: قدَرِ الرسالةِ والنبوةِ
(4)
.
والعربُ تقولُ: جاء فلانٌ على قدرٍ. إذا جاء لميقاتِ الحاجةِ إليه، ومنه قولُ الشاعرِ
(5)
:
[نال الخلافةَ أو]
(6)
كانتْ له قَدَرًا
…
كما أتَى ربَّه موسى على قدَرِ
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} : أَنْعَمْتُ عليك يا موسى هذه النعمَ، ومنَنْتُ عليك هذه المننَ؛ اجتباءً منى لك، واختيارًا لرسالتي والبلاغِ عنى، والقيامِ بأمرى ونهيى،
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} هارونُ، {بِآيَاتِي}. يقولُ:
(1)
سقط من: م.
(2)
تفسير مجاهد ص 462، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 256 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 17. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301، إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
هو جرير، وتقدم البيت في 1/ 355.
(6)
في ص، ت 1، ف:"تلك الخلافة لو".
بأدِلَّتى وحُجَجِي، اذْهَبا إلى فرعونَ بها، إنه تَمرَّد في ضلالِه وغيِّه، فأبْلِغاه رسالتي، {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}. يقولُ: ولا تَضْعُفا في أن تَذْكُراني فيما أمَرْتُكما ونَهَيْتُكما، فإن ذكْرَكما إياى يُقَوِّى عَزائمَكما، ويُثَبِّتُ أفدتَكما
(1)
؛ لأنكما إذا ذكَرْتُماني، ذكَرْتُما منى عليكما نعمًا جَمَّةً، ومِننًا لا تُحْصَى كثرةً.
يقالُ منه: ونَى فلانٌ في هذا الأمرِ، وعن هذا الأمرِ. إذا ضعُف، وهو يَنِى وَنًى، كما قال العَجَّاجُ
(2)
:
فما ونَى محمدٌ مُذْ أَن غَفَرْ
…
له الإلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَنِيَا} . يقولُ: لا تُبْطِئا
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} . يقولُ: ولا تَضْعُفا في ذكرى
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"أقدامكما".
(2)
ديوانه ص 8.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قولَه: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} . قال: لا تَضْعُفا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{تَنِيَا} : تَضْعُفا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} . يقولُ: لا تَضْعُفا في ذكرى.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، [قال: أخبَرنا]
(2)
معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} . قال: لا تَضْعُفا
(3)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ [يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ]
(4)
يقولُ في قولِه: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} . يقولُ: لا تَضْعُفا.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} . قال: الوانى هو الغافلُ المُفَرِّطُ، ذلك الوانى.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لموسى وهارونَ: فقولا لفرعونَ قولًا ليِّنًا. ذُكِر أن القولَ اللينَ الذي أمَرَهما اللهُ أن يقولاه له، هو أن يُكَنِّياه.
(1)
تفسير مجاهد ص 462، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 257، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى عبد بن حميد.
(2)
في الأصل: "عن".
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 17، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى عبد بن حميد.
(4)
سقط من: ص، ت 1.
حدَّثني جعفرُ ابن بنتِ إسحاقَ بن يوسُفَ الأزرقِ
(1)
، قال: ثنا سعيدُ بنُ محمدٍ الثقفيُّ، قال: ثنا عليُّ بنُ صالحٍ، عن السديِّ [في قولِه]
(2)
: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} . قال: كَنِّياه
(3)
.
وقولُه: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . اخْتُلِف في معنى قولِه: {لَعَلَّهُ
(4)
}. في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: معناها ههنا الاستفهامُ. كأنهم وجَّهوا معنى الكلامِ إلى
(5)
: فقولا له قولًا لينًا، فانْظُرَا هل يَتَذَكَّرُ فيُراجِعَ
(6)
، أَو يَخْشَى الله فَيَرْتَدِعَ عن طغيانِه؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . يقولُ: هل يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى
(7)
؟
وقال آخرون: معنى "لعلَّ" ههنا: كى. ووجَّهوا معنى الكلامِ إلى: اذهبا إلى فرعونَ إنه طغَى فَادْعُواه وعِظاهِ ليَتَذَكَّرَ أو يَخْشَى. كما
(8)
يقولُ القائلُ: اعْمَلْ عملَك لعلك تَأْخُذُ أجرَك. بمعنى: لِتَأْخُذَ أجرَك. وافْرُغْ من عملِك لعلنا نَتَغَدَّى. بمعنى: لنَتَغَدَّى، أو حتى نَتَغَدَّى. ولكلا هذين القولين وجهٌ حسنٌ، ومذهبٌ صحيحٌ.
(1)
في ت 1: "الأددى"، وفى ف:"الأزدى".
(2)
ليس في: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 274.
(4)
في الأصل، ت 2:"لعل".
(5)
سقط من: الأصل، ت 2.
(6)
في ص، م، ت 2، ف:"ويراجع".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(8)
سقط من: ص، ت 1.
وقولُه: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إننا نخافُ فرعونَ إن نحن دعَوْناه إلى ما أمَرْتَنا أَن نَدْعُوه إليه، أن يَعْجَلَ علينا بالعقوبةِ. وهو من قولِهم: فرَط منى إلى فلانٍ أمرٌ. إذا سبَق منه ذلك إليه، ومنه فارِطُ القومِ، وهو المتعجِّلُ المتقدمُ أمامَهم إلى الماءِ أو المنزلِ، كما قال الراجزُ
(1)
:
قد فرط العِلْجُ علينا وعجَلْ
فأما الإفراطُ فهو الإسرافُ والاشتطاطُ والتعَدِّى، يقالُ منه: أَفْرَطَتَ في قولِك. إذا أسْرَف فيه وتعدَّى. وأما التفريطُ فإنه التَّوانى، يقالُ منه: فرَّطْتَ في هذا الأمرِ حتى فات. إذا تَوانَى فيه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} . قال: عقوبةً منه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّنَا
(1)
مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 541، وتفسير القرطبي 11/ 201.
(2)
تفسير مجاهد ص 462، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 257، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}. قال: نَخَافُ أن يَعْجَلَ علينا إذ
(1)
نُبَلِّغُه كلامَك أو أمرَك، يَفْرُطُ
(2)
؛ يعْجَلُ. وقرَأ: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ لموسى وهارونَ: {لَا تَخَافَا} فرعونَ، {إِنَّنِي مَعَكُمَا} أعِينُكما عليه وأنصُرُكما
(4)
، {أَسْمَعُ} ما يَجْرِى بينَكما وبينَه، فأُنْهِمُكما ما تُحاوِرانِه به، {وَأَرَى} ما تَفْعَلان ويَفْعَلُ، لا يَخْفَى عليَّ مِن ذلك شيءٌ، {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا} له:{إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} .
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . [قال ابن جريجٍ: أسمعُ وأرى]
(5)
ما يُحاوِرُكما
(6)
، فأُوحِى إليكما فتُجاوِبانِه
(7)
.
(1)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ف:"إن".
(2)
بعده في م، ف:"و".
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 289.
(4)
في م، ت 2، ف:"أبصركما".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(6)
في الدر المنثور: "يجاوبكما".
(7)
في ص، ت 1، ف:"فتحاورانه".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301 إلى ابن المنذر.
وقولُه: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} . [يقولُ تعالى ذكرُه: فأْتيا فرعونَ فقولا: إنا رسولا ربِّك]
(1)
[إليك
(2)
، أرْسَلَنا]
(3)
إِليك يَأْمُرُكَ أَن تُرْسِلَ معنا بني إسرائيلَ، فأرْسِلْهم معنا ولا تُعَذِّبُهم بما تُكَلِّفُهم من الأعمالِ الرديئةِ، {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} مُعْجِزةٍ، {مِنْ رَبِّكَ} على أنه أرْسَلَنا إليك بذلك، إن أنت لم تُصَدِّقْنا فيما نقولُ لك أَرَيْناكها، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}. يقولُ: والسلامةُ لمن اتَّبَع هدى اللهِ. وهو بيانُه. يقالُ: السلامُ على مَن اتَّبع
(4)
، ولمن اتَّبَع. بمعنًى واحدٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه عزَّ ذكرُه: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لرسوليه
(5)
موسى وهارونَ: قولا لفرعونَ: إنا قد أَوْحَى إلينا ربُّك أن عذابَه الذي لا نفادَ له ولا انقطاعَ، على مَن كَذَّب بما نَدْعوه إليه مِن توحيدِ اللهِ وطاعتِه وإجابةِ رسلِه، {وَتَوَلَّى}. يقولُ: وأَدْبَر مُعْرِضًا عما جئْناه به [مِن عندِه]
(6)
مِن الحقِّ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} : كذَّب بكتابِ اللهِ، وتوَلَّى عن طاعةِ اللهِ
(7)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
بعده في م، ف:"الهدى".
* من هنا خرم في نسخة جامعة القرويين، والمشار إليها بـ "الأصل"، وينتهى في ص 113، وسيجد القارئ أرقام النسخة ت 1 في مكان هذا الخرم.
(5)
في م، ت 1، ف:"لرسوله".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 301، 302 إلى ابن أبي حاتم.
وقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} . وفى هذا الكلام متروكٌ، تُرك ذكره استغناء بدلالة ما ذُكر عليه عنه، وهو قوله: فأَتَياه فقالا له ما أمرهما به ربُّهما، وأبْلَغاه رسالته، فقال فرعون لهما:{فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} . فخاطَب موسى وحدَه بقوله: {يَامُوسَى} . وقد وجَّه الكلام قبل ذلك إلى موسى وأخيه. وإنما فعل ذلك كذلك؛ لأن المجاوبة إنما تكونُ مِن الواحد - وإن كان الخطاب لجماعةٍ
(1)
- لا من الجميع، وذلك نظير قوله:{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]. وكان الذي يَحْمِلُ الحوت واحدًا، وهو فتى موسى. يَدلُّ على ذلك قوله:{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63].
وقوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . يقول تعالى ذكره: قال موسى له مجيبًا: ربُّنا الذي أعْطَى كلَّ شيءٍ خلقه. يعني: نظير خلقه في الصورة والهيئة؛ كالذكور من بنى آدمَ أعْطاهم نظير خلقهم مِن الإناث أزواجًا، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجًا، فلم يُعْطِ الإنسانَ خلاف خلقه فيُزَوِّجَه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هداهم للمأتَى الذي منه النسل والنَّماء كيف يَأْتيه، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
وقد اخْتَلَف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . يقولُ: خلق لكلِّ شيءٍ زوجه
(2)
، ثم
(1)
في م: "بالجماعة".
(2)
في م، ت 1:"زوجة".
هداه لمنكَحِه ومَطْعَمِه ومشرَبه ومسكنِه ومولدِه
(1)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ثُمَّ هَدَى} . يقولُ]
(2)
: أعطى كلَّ دابةٍ خلَقَها زوجًا، ثم هدَى للنكاحِ
(3)
.
وقال آخرون: معنى قوله: {ثُمَّ هَدَى} . أنه هداهم إلى الأُلفةِ والاجتماعِ والمُناكحة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . يعنى: هَدى بعضهم إلى بعضٍ، ألَّف بين قلوبهم وهداهم للتزويج؛ أن يُزَوِّجَ بعضُهم بعضًا.
وقال آخرون: بل
(4)
معنى ذلك: أعْطَى كلَّ شيءٍ صورته، وهي خلقه الذي خلقه به، ثم هداه لما يُصْلِحُه مِن الاحتيال للغذاء والمعاش.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، في قوله:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . قال: أعْطَى كلَّ شيءٍ صورته، ثم
(1)
في ت 2: "مولوده".
والأثر أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (139) من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2.
(3)
تقدم أوله في ص 19.
(4)
زيادة من: ت 2.
هدَى كلَّ شيءٍ إلى معيشتِه.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . قال: سوَّى خلق كلِّ دابةٍ، ثم هداها لما يُصْلِحُها، فعلَّمها إياه
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قوله:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . قال: سوَّى خلقَ كُلِّ دابةٍ، ثم هداها لما يُصْلِحُها وعلَّمَها إياه، ولم يَجْعَلِ الناس في خلقِ البهائم، ولا خلقَ البهائم في خلقِ الناسِ، ولكن خَلَقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا.
حدَّثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهدٍ:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . قال: هداه إلى حيلته ومعيشته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعْطَى كلَّ شيءٍ ما يُصْلِحُه، ثم هداه له.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة قوله:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} . قال: أعْطَى كلَّ شيءٍ ما يُصْلِحُه، ثم هداه له
(2)
.
قال أبو جعفر: وإنما اخْتَرْنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك؛ لأنَّه جلَّ ثناؤه
(1)
تفسير مجاهد ص 463، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 17 عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 عن الحسن، وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
أَخْبَر أَنَّه أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خلقه، ولا يُعْطِى المُعْطَى نفسه، بل إنما يُعْطَى ما هو غيرُه؛ لأن العطية تَقْتَضِى المُعْطى والمُعْطَى والعطية، ولا تكون العطية هي المُعْطى، وإذا لم تكن هي هو، وكانت غيره، وكانت صورة كلِّ خلقٍ بعض أجزائه، كان معلومًا أنه إذا قيل: أعْطَى الإنسان صورته
(1)
. أنما يعنى أنه أعطى بعض المعانى التي
(2)
به مع غيرِه دُعِى إنسانًا، فكأنَّ قائله قال: أعْطَى كلَّ خلقٍ نفسه. وليس ذلك إذا وجِّه إليه الكلام بالمعروفِ مِن معاني العطية، وإن كان قد يَحْتَمِلُه الكلام.
فإذا كان ذلك كذلك، فالأصوبُ من معانيه أن يكونَ مُوَجَّهًا إلى أن كلُّ شيءٍ أعْطاه ربُّه مثلَ خلقِه، فزوَّجه به، ثم هداه
(3)
لما يشاءُ
(4)
. ثم ترك ذكر "مثل"، وقيل:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} . كما يقالُ: عبدُ اللهِ مثلُ الأسد. ثم يَحْذِفُ "مثل"، فيقولُ: عبدُ اللهِ الأَسدُ.
القولُ في تأويل قوله عزَّ ذكرُه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}
يقول تعالى ذكره: قال فرعون لموسى، إذ وصف موسى ربَّه جل جلاله بما وصفه به من عظيم السلطان، وكثرة الإنعام على خلقه والإفضال: فما شأن الأمم الخالية من قبلنا لم تُقِرَّ بما تقولُ، ولم تُصَدِّقْ بما تَدْعُو إليه، ولم تُخلص له العبادة، ولكنها عبدَت الآلهة والأوثانَ مِن دونِه، إن كان الأمر على ما تَصِفُ مِن أن الأشياءَ كلَّها خلقُه، وأنها في نعمِه تَتَقَلَّبُ، وفى مِننِه تَتَصَرَّفُ؟
فأجابه موسى فقال: علم هذه الأمم التي مضت من قبلنا فيما فعلت ذلك، عند ربي، {فِي
(1)
بعده في: ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أنه".
(2)
في ص، ت 1:"الذي".
(3)
في ت 2: "بيناه".
(4)
في م: "بينا"، وفى ف:"شاء".
كِتَابٍ}. يعني: في أمِّ الكتاب، لا علم لى بأمرها، وما كان سبب ضلالِ مَن ضَلَّ منهم، فذهب عن دينِ اللهِ، {لَا يَضِلُّ رَبِّي}. يقولُ: لا يُخْطِئُ ربي في تدبيره وأفعاله، فإن كان عذَّب تلك القرون في عاجلٍ، وعجَّل هلاكها، فالصواب ما فعل، وإن كان أخَّر عقابها إلى القيامة، فالحقُّ ما فعَل، هو أعلم بما يَفْعَلُ، لا يُخْطِئُ ربِّى، {وَلَا يَنْسَى} فيترُك فعل ما فعلُه حكمةٌ وصوابٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . يقولُ: لا يُخْطِئُ ربى ولا ينسى
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} . يقولُ: فما أعْمَى القرون الأولى؟ فوكَّلها نبيُّ اللهِ مُوَكَّلًا، فقال:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} الآية. يقول: أي
(2)
: أعمارُها وآجالها.
وقال آخرون: معنى قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} واحدٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . قال: هما شيءٌ واحدٌ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 2: "إلى".
(3)
تفسير مجاهد ص 463، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال:[ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ]
(1)
، عن مجاهدٍ مثله.
والعرب تقولُ: ضلَّ فلانٌ منزله. إذا أخْطَاء، يَضِلُّه، بغير ألفٍ، وكذلك ذلك في كلِّ ما كان من شيءٍ ثابت لا يَبْرَحُ، فَأَخْطَأه [مُرِيدُه، فإنها تقولُ: [ضلَّه. ولا تقول]
(2)
: أضله. فأما إذا ضاع منه ما يَزولُ بنفسه مِن دابةٍ وناقةٍ و]
(3)
ما أشبَه ذلك من الحيوان الذي يَنْفَلِتُ منه فيَذْهَبُ، فإنها تقولُ: أَضَلَّ فلانٌ بعيره. أو: شاته. أو: ناقته. يُضِلُّه، بالألف.
وقد بيَّنا معنى "النسيان" فيما مضى قبل بما أغْنَى عن إعادتِه
(4)
.
القول في تأويل قوله عزَّ ذكرُه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا
(5)
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)}.
اخْتَلَف أهل التأويل في قراءة قوله: {مَهْدًا} ؛ فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة: (الذي جعل لكم الأرضَ مهادًا) بكسر الميم من "المهادِ"، والحاقِ ألفٍ فيه بعد الهاءِ
(6)
، وكذلك [فعلُهم
(7)
ذلك في كلِّ القرآن.
وزعم بعضُ مَن اختار قراءة ذلك كذلك]
(8)
أنه إنما اخْتاره مِن أجلِ أن
(1)
في ت 2: "ثنا ورقاء جميعًا عن أبي نجيح".
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
ينظر ما تقدم في 2/ 390 - 397.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"مهادا".
(6)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد 418.
(7)
في م: "عملهم".
(8)
سقط من: ص، ت 1، ف.
المهاد اسم الموضع، وأن المهد الفعل. قال: وهو مثلُ الفَرْشِ والفراش.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: {مَهْدًا}
(1)
. بمعنى: الذي مهَّدَكم
(2)
الأرضَ مَهْدًا
(3)
.
والصوابُ من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان [متقاربتا المعنى؛ لأن الأرضَ إذا كان اللهُ قد جعلها مهادًا لخلقه فقد مَهَّدَهُموها، وإن كان قد مَهّدَهُموها فقد جعلها لهم مهادًا، وهما مع ذلك قراءتان]
(4)
مُسْتَفِيضتان في قرأة الأمصار، مشهورتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمُصِيبٌ الصواب فيها.
وقوله: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} . يقول: وأَنْهَج لكم في الأرضِ طرقًا.
والهاء في قوله: {فِيهَا} من ذكرِ الأَرضِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} . أي: طرقًا
(5)
.
وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} . يقولُ: وأَنْزَلَ مِن السماءِ مطرًا {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} . وهذا خبرٌ مِن الله تعالى ذكره عن إنعامه على خلقه بما يُحْدِثُ لهم من الغيث الذي يُنْزِلُه من سمائه إلى أرضه، بعد تناهي خبره عن جواب موسى فرعون عما سأله عنه، وثنائه على ربِّه بما هو أهله، يقولُ جلَّ ثناؤه: فأَخْرَجْنا
(1)
وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 418.
(2)
في م: "مهد لكم".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(5)
تقدم تخريجه في 14/ 191.
نحن، أيُّها الناسُ، بما نُنْزِلُ مِن السماءِ مِن ماء - {أَزْوَاجًا}. يعنى: ألوانًا {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} . يعني: مختلفةِ الطُّعومِ والأَراييح والمنظرِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} . يقولُ: مختلفٍ
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)} .
يقول تعالى ذكره: كُلُوا أيُّها الناسُ من طيِّب ما أُخْرَجْنا لكم بالغيث الذي أنْزَلَناه من السماء إلى الأرض من ثمار ذلك وطعامه، وما هو من أقواتكم وغذائكم، وارْعَوْا فيما هو أزراقُ بهائمكم منه وأقواتُها - أنعامكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}. يقول: إن فيما وصفتُ في هذه الآية من قدرة ربَّكم، وعظيم سلطانه {لَآيَاتٍ}. يعنى: لدلالاتٍ وعلاماتٍ تَدُلُّ على وحدانية ربِّكم، وأن لا إله لكم غيرُه - {لِأُولِي النُّهَى}. يعنى: أهل الحِجَا والعقولِ.
والنُّهَى جمعُ نُهْيَةٍ، كما الكُشَى جمع كُشْبَةٍ. والكُشَى شحمةٌ تكون في جوفِ الضَّبِّ، شبيهةٌ بالسُّرَّة.
وخصَّ تعالى ذكرُه بأن ذلك آياتٌ لأُولى النُّهَى؛ لأنهم أهل التفكُّرِ والاعتبارِ، وأهل التدبر والاتِّعاظ.
القول في تأويل قوله عزَّ ذكرُه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.
يقول تعالى ذكره: من الأرضِ خلقناكم أيُّها الناسُ، فأَنْشَأْناكم أجسامًا ناطقةً، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}. يقولُ: وفى الأرضِ نُعِيدُكم بعد مَماتِكم، فنُصَيِّرُكم ترابًا، كما كنتم قبل إنشائِناكم
(1)
بشرًا سويًّا، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ}. يقولُ: ومن الأرضِ نُخْرِجُكم كما كنتم قبل مماتكم أحياءً، فنُنْشِئُكم منها، كما أَنْشَأْناكم أَوْلَ مرة.
وقولُه: {تَارَةً أُخْرَى} . يقولُ: مرةً أُخرى.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . يقولُ: مرةً أُخرى
(2)
.
حدَّثني يونُس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {تَارَةً أُخْرَى} . قال: مرةً أخرى، الخَلْقِ الآخر.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: من الأرضِ أخْرَجْناكم، ولم تكونوا شيئًا، خلقًا سويًّا، وسنُخْرِجُكم منها بعد مماتكم مرةً أُخرى، كما أخرجناكم منها أول مرةٍ.
القول في تأويل قوله عزَّ ذكرُه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)} .
يقول تعالى ذكره: ولقد أرينا
(3)
فرعونَ {آيَاتِنَا} . يعنى: أدلتَنا وحججَنا
(1)
في م: "إنشائنا لكم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "رأينا".
على حقيقة ما أَرْسَلْنا به رسولَيْنا؛ موسى وهارونَ {كُلَّهَا} ، {فَكَذَّبَ} بها
(1)
{وَأَبَى} أن يَقْبَلَ مِن موسى وهارونَ ما جاءاه
(2)
به من عند ربِّهما من الحقِّ استكبارًا وعُتُوًّا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)} .
يقول تعالى ذكره: قال فرعونُ لمَّا أرَيناه آياتنا كلَّها لرسولنا موسى: أجئتنا يا موسى لتخرجنا من منازلنا ودورنا بسحرك هذا الذي جئتنا به؟
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} نتَّعِدُه
(3)
؛ لنجئَ بسحرٍ مثل الذي جئت به، فننظر أيُّنا يغلب صاحبه، لا نُخلِفُ ذلك الموعد، {نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى}. يقولُ: بمكانٍ عَدْلٍ بينَنا وبينك، ونَصَفٍ.
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة، وبعضُ الكوفيين:(مكانا [سِوًى) بكسر السين
(4)
.
وقرأته عامة قرأة الكوفة: {مَكَانًا]
(5)
سُوًى} بضمِّها
(6)
.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما
(7)
لغتان، أعنى
(1)
ليست في: ص، م، ت 1، ت 3.
(2)
في ص، م:"جاءا". وفى ت 1، ف:"جاءه".
(3)
في م، ت 2:"لا نتعداه"، وفي ف:"نقعده".
(4)
قرأ بها ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي. السبعة 418.
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
قرأ بها ابن عامر وعاصم وحمزة. المصدر السابق
(7)
بعده في ت 1: "قراءتان و".
الكسر والضمِّ في السين [مِن "سوى" مشهورتان في العرب، وقد قرأت بكلِّ واحدةٍ منهما علماء من القرأة، مع اتفاق معنييهما]
(1)
، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وللعرب في ذلك، إذا كان بمعنى العَدْلِ والنَّصَفِ، لغةٌ هي أشهرُ من الكسرِ والضمِّ، وهو الفتحُ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]. وإذا فُتِحت السينُ منه مُدَّ، وإذا كُسِرت أو ضُمَّت قُصِر، كما قال الشاعر:
(2)
:
فإنَّ
(3)
أبانا كانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ
…
سِوًى بينَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالفِزْرا
(4)
ونظيرُ ذلك من الأسماء: طُوًى وطوًى، وثُنًى وثِنًى، وعُدًى وعِدًى.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{مَكَانًا سُوًى} . قال: [مَنْصَفًا بينَهم]
(5)
.
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
هو موسى بن جابر الحنفى، كما في الصحاح، واللسان (س و ى)، وهو في الأضداد ص 42 غير منسوب.
(3)
في الصحاح، واللسان:"وجدنا".
(4)
في ص: "القرن"، وفى ت 1:"الفرن"، وفى ف:"العرن".
(5)
في ص: "منقصا منهم"، وفى ت 1:"منقضا منهم".
والأثر في تفسير مجاهد ص 463، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 256 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{مَكَانًا سُوًى} . أي: عادلًا بيننا وبينك.
حدَّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، عن معمر، عن قتادة قوله:{مَكَانًا سُوًى} . قال: نَصَفًا بيننا وبينك
(1)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} . قال: يقولُ: عَدْلًا
(2)
.
وكان ابن زيد يقولُ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَكَانًا سُوًى} . قال: مكانًا مستويًا يتبيَّنُ الناسُ ما فيه، لا يكونُ صُوَبٌ
(3)
ولا شيءٌ فيغيبَ بعضُ ذلك عن بعضٍ، مستوٍ حتى يُرَى
(4)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)} .
يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعونَ حين سأله أن يجعل بينه وبينه موعدًا
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 17، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى عبد بن حميد.
(2)
تقدم أوله في ص 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"صوت". والصُّوبة: الكثبة من تراب أو غيره. اللسان (ص و ب).
(4)
في ت 2: "يرون".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن أبي حاتم.
للاجتماع: {مَوْعِدُكُمْ} للاجتماع {يَوْمُ الزِّينَةِ} . يعنى يوم عيدٍ كان لهم، أو سوقٍ كانوا يتزيَّنون فيه، {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ}. يقولُ: وأن يُساقَ النَّاسُ مِن كُلِّ فجٍّ وناحيةٍ {ضُحًى} ، فذلك موعد ما بيني وبينك للاجتماع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} : فإنه يوم زينة [يجتمعون إليه، ويُحشر الناس له]
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} . قال: يوم زينةٍ لهم، ويوم عيدٍ لهم، {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} إلى عيدهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ:{يَوْمُ الزَّينَةِ} . قال: يومُ السوقِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثنى الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمُ الزَّينَةِ} : مَوْعِدُهم
(4)
.
(1)
في م: "يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له"، وفى ت 1، ف:"يجتمعون الناس له ويحشرون إليه".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"عيد لهم". والأثر ذكره الطوسي في التبيان 7/ 160.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 463 وفيه: يوم عيد لهم، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى عبد بن حميد وفيه: هو عيدهم.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد مثله.
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: قال موسى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} : وذلك يومُ عيدٍ لهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} : يوم عيد كان لهم. وقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} : يجتمعون لذلك الميعاد الذي وُعِدوه
(2)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} . قال: يوم العيدِ؛ يومَ يتفرَّغُ الناسُ مِن الأعمال، ويشهدون ويحضرون ويرون
(3)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} : يوم عيدٍ كان فرعون يخرج له، {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ؛ حتى يحضروا أمرى وأمرَك
(4)
.
و "أنْ" مِن قولِه: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} . رفعٌ بالعطف على قوله: {يَوْمُ الزِّينَةِ} .
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
في ت 2: "واعده".
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 17 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى عبد بن حميد إلى قوله: عيد كان لهم، وعزا آخره إلى ابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
تقدم أوله في ص 19 من قول وهب بن منبه، وينظر قول ابن إسحاق في التبيان 7/ 160.
وذُكر عن أبي نَهِيكِ في ذلك ما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نَهيك يقرأ
(1)
: (وأنْ يَحشُرَ النَّاسَ ضُحًى): يعنى فرعون يحشُرُ قومه
(2)
.
وقوله: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} . يقول تعالى ذكره: فأدبر فرعون معرضًا عما أتاه به من الحقِّ، {فَجَمَعَ كَيْدَهُ}. يقولُ: فجمَع مَكرَه، وذلك جمعُه سَحَرتَه
(3)
بعد أخذه إياهم بتعلُّمه، {ثُمَّ أَتَى}. يقول: ثم جاء للموعدِ الذي وعده موسى، وجاء بسَحَرَته.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)} .
يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} . [يقولُ: لا تختلقُوا على الله كذبًا]
(4)
، ولا تتقوَّلوه، {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}. يقولُ: فيستأصِلَكم بهلاكٍ فيُبيدكم.
وللعرب فيه لغتان: سَحَت، وأسحَت، وسخت أكثرُ مِن أسحَت، يقالُ منه: سحت الدهرُ والحدَثُ
(5)
مالَ فلانٍ، إذا أهلَكه، فهو يَسحَتُه سَحْتًا، وأَسحَته يُسحِتُه إسحانًا. ومن الإسحاتِ قول الفرزدق
(6)
:
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"يقول".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن أبي حاتم، وفيه أن قراءته بالتاء، وهما قراءتان عنه، وبالياء والتاء قرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجونى وعمرو بن فائد. البحر المحيط 6/ 254. وهما قراءتان شاذتان.
(3)
في ت 2: "حرته".
(4)
سقط من: ت 20.
(5)
في م، ت 1:"أسحت"، وفي ت 2:"احدت".
(6)
تقدم تخريجه في 8/ 435.
وعَضٌ زَمانِ يا بْنَ مَرْوَانَ لم يَدَعْ
…
مِنَ المالِ إِلَّا مُسْحَتًا
(1)
أَوْ مُجلَّفُ
ويروى: إلا مسحتٌ
(2)
أو مجلَّفُ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} . يقولُ: فيُهِلِكَكُم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} . يقولُ: يستأصِلكم بعذابٍ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قَتادةَ في قوله:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} . قال: فيستأصِلَكم بعذابٍ، فيُهلككم
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} . قال: يُهلِكَكم هلاكًا ليس فيه بقيَّةٌ. قال: والذي يُسحَتُ ليس فيه بقيةٌ
(5)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {فَيُسْحِتَكُمْ
(1)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"مسحت".
(2)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"مسحتا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة المحمودية ق 288 - إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 18، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة المحمودية ق 288 - إلى عبد بن حميد.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة المحمودية ق 288 - إلى ابن أبي حاتم.
بِعَذَابٍ}. قال: يهلِكَكم بعذاب
(1)
.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأةِ أهل المدينة و [بعضُ أهل]
(2)
البصرة وبعضُ أهل الكوفة: (فَيَسْحَتَكُمْ). [بفتح الياءِ]
(3)
مِن: سحَت يَسحَتُ
(4)
.
وقرَأته عامة قرأة الكوفة: {فَيُسْحِتَكُمْ} ، بضمِّ الياء من: أسحَت يُسحِتُ
(5)
.
قال أبو جعفرٍ: والقولُ في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان بمعنًى واحدٍ، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ، غير أن الفتح فيها أعجبُ إليَّ؛ لأنها لغةُ أهل العالية وهى أفصحُ، والأُخرى وهى الضمِّ في نجدٍ.
وقولُه: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} . يقولُ: ولم يظفّرْ مَن يخلُقُ كذبًا ويقولُه، بكذبه ذلك، بحاجتِه التي طلبها به، ورجا إدراكَها به.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ
(6)
لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: فتنازَع السحرةُ أمرَهم بينهم.
وكان تنازُعُهم أمرهم بينهم، فيما ذُكر، أن قال بعضُهم لبعض، ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} : قال السحرةُ بينهم: إن كان هذا ساحرًا فإنا سنغلبُه، وإن كان من
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(3)
في ت 1، ف:"بفتح التاء"، وفى ت 2:"بضم الياء".
(4)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي بكر وأبي عمرو وابن عامر وأبى جعفر وروح. ينظر النشر 2/ 240.
(5)
وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف وحفص ورويس. المصدر السابق.
(6)
في ت 1: "هذين". وهى قراءة أبي عمرو، وقرأ:"إِنَّ" بتشديد النون. السبعة لابن مجاهد ص 419.
السماءِ فله أمرٌ
(1)
.
وقال آخرون: بل هو أنَّ بعضهم قال لبعضٍ: ما هذا القولُ بقول ساحرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حُدِّثت عن وهب بن منبهٍ، قال: جمع كلُّ ساحرٍ حباله وعصيَّه، وخرج موسى معه أخوه، يَتَّكِئُ على عصاه، حتى أتى الجمْعَ
(2)
، وفرعون في مجلسِه معه أشرافُ أهل مملكته، قد استكفَّ
(3)
له الناسُ، فقال موسى للسحرة حين جاءهم:{وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} . فترادَّ السحرةُ بينهم، وقال بعضُهم لبعض: ما هذا [بقول ساحرٍ]
(4)
.
وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} . يقول تعالى ذكره: وأسرُّوا السحرةُ المناجاة بينهم.
ثم اختلف أهل العلم في "السِّرار" الذي أسرُّوه؛ فقال بعضُهم: هو قولُ بعضِهم لبعضٍ: إن كان هذا ساحرًا فإنا سنغلبُه
(5)
، وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبُنا
(6)
.
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حُدِّثت عن وهب بن منبهٍ، قال: أشار بعضهم إلى بعضٍ بتناجٍ: {إِنْ هَذَانِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة المحمودية ق 288، 289 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"المجمع".
(3)
في ت 1: "استلف"، وفي ت 2:"أسِد".
(4)
في ت 1: "يقول الساحر"، وفى ف:"بقول الساحر". والأثر تقدم أوله في ص 19.
(5)
في ص: "سنقتله".
(6)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"سيقتلنا".
لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا}
(1)
.
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} : من دونِ موسى وهارون، فقالوا في نجواهم: {إِنْ هَذَانِ
(2)
لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا [وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}
(3)
.
{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} . يعنُون بقولهم: {إِنْ هَذَانِ} : موسى وهارونَ {لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} ]
(4)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} : يعنون
(5)
موسى وهارونَ صلى الله عليهما.
وقد اختلفت القرأة في قراءةِ قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ؛ فقرأته عامة قرأةِ الأمصار: (إِنَّ هَذَانِ). بتشديدِ "إِنَّ" وبالألفِ في "هذان"
(6)
. وقالوا: قرأنا ذلك كذلك [[اتِّباعًا لخطِّ المصحف]
(7)
.
واختلف أهل العربية في وجه ذلك إذا قُرِئَ كذلك]
(8)
؛ فكان بعضُ أهل العربية
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"هذين". وما في هذه النسخ قراءة أبي عمرو كما تقدم في ص 95.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 7/ 162 عن السديِّ.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(6)
وهى قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم. السبعة لابن مجاهد 419.
(7)
في ت 2: "اتبا لخط المصنف". والمثبت هو الصواب.
(8)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
من أهل البصرة يقولُ: "إن" خفيفةٌ في معنَى ثقيلةٍ، وهي لغةٌ لقومٍ يرفَعون بها، ويُدخِلون اللامَ ليفرِّقُوا بينَها وبينَ التي تكونُ في معنى "ما".
وقال بعضُ نحويِّى الكوفة
(1)
: ذلك على وجهين: أحدُهما، على لغة بني الحارثِ بن كعبٍ ومَن جاورهم؛ يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبِهما وخفضِهما بالألف
(2)
. وقال
(3)
: أنشَدنى رجلٌ من الأَسْدِ
(4)
عن بعضِ بني الحارث بن كعبٍ
(5)
:
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى
(6)
…
مساغًا لناباه
(7)
الشُّجاع لصمَّما
(8)
قال: وحكَى عنه أيضًا: هذا خطُّ يدا أخى أعرفُه. قال: وذلك - وإن كان قليلًا - أقيَسُ؛ لأن العربَ قالوا: مسلمون. فجعَلوا الواوَ تابعةً للضمة؛ لأنها لا تُعرَبُ
(9)
، ثم قالوا: رأيتُ المسلمين. فجعَلوا الياءَ تابعةً لكسرةِ الميم. قال: فلما رأوا الياءَ من الاثنينِ لا يمكنُهم كسرُ ما قبلَها وثَبَتَ مفتوحًا، تركوا الألفَ تتبعُه، فقالوا: رجلان. في كلِّ حالٍ. قال: وقد اجتمَعت العربُ على إثباتِ الألف في: كلا الرجلين. في الرفع والنصبِ والخفضِ، وهما اثنان، إلا بني كنانةَ، فإنهم يقولون:
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 184.
(2)
بعده في ص، ت 1، ف:"واللام".
(3)
في م، ت 2، ف:"قد".
(4)
الأسْد: لغةٌ في الأَزْد، وهى بالسين أفصح وبالزاي أكثر. ينظر التاج (أ س د).
(5)
هو المتلمس الضبعي، والبيت في ديوانه ص 34.
(6)
في م: "رأى"، وفى ت 1، ف:"ترى".
(7)
في الديوان: "لنابيه".
(8)
الشجاع: الحية الذكر، وقيل: هو ضرب من الحيات. وصمم: عض ونيَّب فلم يرسل ما عض. اللسان (ش ج ع، ص م م)
(9)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"تعرف"، وفي ت 2:"يعرف".
رأيتُ كِلَي الرجلين، ومررتُ بكلي الرجلين. وهي قبيحةٌ قليلةٌ مُضُوًّا على القياسِ. قال: والوجهُ الآخرُ أن تقول: وُجِدَت الألفُ [من "هذا" دعامةً، وليست بلام "فعل"، فلما بُنيَت زدتَ عليها نونًا، ثم تُركت الألفُ]
(1)
ثابتةً على حالها لا تزولُ [في كلِّ]
(2)
حالٍ، كما قالت العربُ: الذي. ثم زادوا نونًا تدلُّ على الجماع
(3)
، فقالوا: الذين. في رفعِهم ونصبِهم وخفضهم، كما تركوا "هذان" في رفعِه ونصبِه وخفضِه. قال:[وكنانةُ يقولون]
(4)
: الَّذون.
وقال آخرُ منهم: ذلك من الجزم المرسل، ولو نُصب لخرَج إلى الانبساطِ
(5)
.
وحُدثت عن أبي عُبيدةَ معمر بن المثنى
(6)
، قال: قال أبو عمروٍ
(7)
وعيسى بنُ عمرَ
(8)
و
(9)
يونسُ: (إِنَّ هذين لساحران) في اللفظ، وكُتب "هذان" كما [يزيدون [ويَنْقُصون في]
(10)
الكتاب، واللفظُ صوابٌ. قال: وزعم أبو الخطاب]
(11)
أنه سمع قومًا من بني كنانةَ وغيرهم يرفَعون الاثنين في موضع الجرِّ والنصب. قال: وقال بشرُ بن هلالٍ: "إنَّ" بمعنى الابتداء والإيجاب، ألا ترَى أنها
(1)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"بكل".
(3)
في م، ت 2:"الجمع".
(4)
في م، ت 2:"وكان القياس أن يقولوا"، وفى ص، ت 1، ت 2، ف:"وكأنه يقول"، والمثبت من معاني القرآن للفراء 2/ 184.
(5)
في ت 2: "الاستنباط".
(6)
مجاز القرآن 2/ 21، 22.
(7)
في ت 1، ف:"عمر".
(8)
في ص، ف:"عمرو".
(9)
في ص، ت 1، ف:"بن".
(10)
سقط من النسخ، والمثبت من مجاز القرآن.
(11)
سقط من: ت 2.
تعمَلُ فيما يليها، ولا تعملُ فيما
(1)
بعد
(2)
الذي بعدَها، فترفعُ الخبرَ، ولا
(2)
تنصِبُه كما تنصِبُ
(3)
الاسم؟ فكان مجازُ (إنَّ هذان لساحران) مجازَ كلامين، مَخْرجُه: إنه، أي: نعم. ثم قلت: هذان ساحران. ألا ترَى أنهم يرفعون المُشرَكَ
(4)
كقول ضابيء
(5)
:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالمَدِينَةِ
(2)
رَحْلُهُ
…
فإِنِّي وَقَيَّارٌ
(6)
بِهَا لَغَرِيبُ
وقوله
(7)
:
إنَّ السُّيُوفَ غُدُوُّها وَرَوَاحُها
…
تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الْأَعْضَبِ
قال: ويقولُ بعضُهم: (إن الله وملائكتُه يصلُّون على النبيِّ)
(8)
. فيرفَعون
(9)
على شركة الابتداء، ولا يُعملون فيهم "إنَّ". قال: وقد سمعتُ الفصحاءَ من المُحرمين يقولون: إن الحمدَ والنعمةُ لك والملكُ، لا شريكَ لك. قال: وقرأها قومٌ على تخفيفِ نون "إن" وإسكانها
(10)
. قال: وهو يجوزُ؛ لأنهم قد أدخلوا اللام في
(1)
في ت 2: "فيها".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(3)
في م، ت 2:"نصبت".
(4)
في م، ت 2:"المشترك".
(5)
نوادر أبي زيد ص 20، ومعاني القرآن للفراء 1/ 311، ومجالس ثعلب ص 316، 598، والكتاب 1/ 75، والكامل للمبرد 1/ 320، وخزانة الأدب 10/ 312، 313.
(6)
قيار: اسم فرسه، وقال أبو زيد: اسم جمله. وقيار يروى بالرفع والنصب.
(7)
هو الأخطل، والبيت في شرح ديوانه ص 329.
(8)
قرأ بها ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو. البحر المحيط 7/ 248.
(9)
بعده في مجاز القرآن: "ملائكته".
(10)
هي قراءة حفص عن عاصم، وقرأ ابن كثير بتخفيف نون "إن" وتشديد نون "هذان". السبعة لابن مجاهد ص 419.
الابتداء وهى فضلٌ. قال
(1)
:
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهُ
(2)
قال: وزعم قومٌ أنه لا يجوزُ؛ لأنه إذا خفَّف نونَ "إن" فلا بدَّ له من أن يُدخِلَ "إلا" فيقولَ: إنْ هذان إلا ساحران.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القراءة في ذلك عندنا: (إنَّ) بتشديد نونها، (هذان) بالألف؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه، وأنه كذلك هو في خطِّ المصحف. ووجهُه إذا قُرِئ كذلك مشابهتُه "الذين"، إذ زادوا على "الذي" النونَ، وأقرَّ
(3)
في جميع أحوال
(4)
الإعراب على حالةٍ واحدةٍ، فكذلك (إنَّ هَذَانِ). زِيدَت على "هذا" نونٌ وأُقِرَّ في جميع أحوال الإعراب على حالةٍ واحدةٍ، وهى لغةُ بَلحرث بن كعبٍ، وخثعمَ، وزُبَيدٍ، ومَن وَليَهم من قبائل اليمن.
وقولُه: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . يقولُ: ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم.
يقالُ: هو طريقةُ قومِه، ونَظُورَةُ قومه، ونَظيرتُهم. إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه، يقالُ ذلك للواحد والجميع
(5)
، وربما جمَعوا، فقالوا: هؤلاء طرائقُ قومِهم. ومنه قولُ الله تبارك وتعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]. وهؤلاء نظائرُ قومِهم.
(1)
زيادات ديوان رؤبة ص 170، ونسبه الصاغانى في العباب - كما في خزانة الأدب 10/ 326 - (شهرب) إلى عنترة بن عَرْوش. قال العيني: وهو الصحيح.
(2)
في ص: "شهيبره"، وفى ت 1، ف:"سهيره". والشهربة والشهبرة: العجوز الكبيرة. اللسان (شهبر).
(3)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(4)
في م، ت 2:"الأحوال".
(5)
في ص، م، ت 1، ف:"الجمع".
وأما قولُه: {الْمُثْلَى} . فإنها تأنيثُ "الأمثل"، يقالُ للمؤنث: خذ المُثلَى منهما. [وفى المذكرِ: خذِ الأمثلَ منهما]
(1)
. ووُحِّدَت {الْمُثْلَى} وهى صفةٌ ونعتٌ للجماعة، كما قيل:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وقد يَحتملُ أن يكونَ "المُثلى" أنِّثت
(2)
لتأنيث الطريقة.
وبنحو ما قلنا في معنى قوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . يقولُ: أمثلُكم، وهم بنو إسرائيل
(3)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . قال: أولى العقل والشرف والأسنان
(4)
.
[حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . قال: أولى العقول والأشراف والأسنان
(4)
]
(5)
.
(1)
سقط من: ت 1، ف.
(2)
في ت 2: "أثبت".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور كما في المخطوطة المحمودية ق 289 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "الأنساب".
والأثر في تفسير مجاهد ص 463، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - مخطوط - إلى عبد بن حميد، وفي 4/ 303 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ف.
حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ، قالا: [ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعت إسماعيلَ بنَ أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في:{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . قال: بسَراةِ الناسِ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: نا محمدُ بنُ بشرٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ مثله.
حدَّثنا بشرٌ، قال: نا]
(2)
يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} : [وطريقتُهم المُثلى]
(3)
يومئذٍ كانت بني إسرائيل، وكانوا أكثر القوم عددًا وأموالًا وأولادًا. قال عدُّو الله: إنما يريدان
(4)
أن يذهبا بهم لأنفسِهما.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله:{بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . قال: ببنى إسرائيل
(5)
.
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . يقولُ: يذهَبا بأشراف قومكم
(6)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويغيِّرا سنتَكم ودينكم الذي أنتم عليه. من قولهم: فلانٌ حسنُ الطريقة.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم ووكيع في الغرور، وفي الدر:"بأشرافكم".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(3)
سقط من: ت 1، ت 2.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"يريد".
(5)
تفسير عبد الرزاق 2/ 18.
(6)
تقدم أوله في ص 19.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . قال: يذهَبا بالذي أنتم عليه بغير
(1)
ما أنتم عليه. وقرأ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26]. قال: هذا قولُه: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . وقال: يقولُ: طريقتُكم اليوم طريقةٌ حسنةٌ، فإذا غيَّرَ
(2)
ذهبت هذه الطريقةُ
(3)
.
ورُوى عن عليٍّ في معنى قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . ما حدَّثنا به القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبدُ الرحمن بنُ إسحاق، عن القاسمِ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، قال: يصرفان وجوه الناس إليهما
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذا القولُ الذي قاله ابن زيدٍ في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . وإن كان قولًا له وجهٌ يَحتمِلُه الكلامُ، فإن تأويل أهل التأويل بخلافِه، فلا أستجيزُ لذلك القول به.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)} .
اخْتَلَفَت القرأةُ في قراءة قوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} ؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينة والكوفة: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} بهمز الألف من: {فَأَجْمِعُوا}
(5)
. ووجَّهوا معنى
(1)
في م: "يغير".
(2)
في م: "غيرت".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن أبي حاتم مختصرًا.
(4)
تفسير مجاهد ص 463، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 295 - من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور كما في المخطوطة المحمودية ق 289 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 456.
ذلك إلى: فأَحْكموا كيدَكم واعْزموا عليه. من قولهم: أجْمَع فلانٌ الخروجَ، وأجْمَع على الخروج. كما يقالُ: أزْمَع عليه. ومنه قولُ الشاعر
(1)
:
يا ليت شِعْرِى والمُنَى لا تَنْفَعُ
…
هل أَغْدُونْ يومًا وأَمْرِى مُجْمَعُ
يعنى بقوله: مُجْمَعُ: قد أُحْكم وعُزم عليه. ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "من لم يُجْمِعْ على الصومِ مِن الليل فلا صومَ له"
(1)
.
وقرأ ذلك بعضُ قرَأة أهل البصرة: (فاجْمَعوا كَيْدَكم). بوصل الألف وترك همزِها
(2)
، من: جمَعْتُ الشيءَ. كأنه وجَّهه إلى معنى: فلا تَدَعوا من كيدكم شيئًا إلا جئْتُم به.
وكان بعضُ قارئى هذه القراءةِ يَعْتَلُّ فيما ذُكِر لى لقراءته ذلك كذلك بقوله: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} .
والصوابُ في قراءة ذلك عندنا همزُ الألفِ مِن "أَجْمَع"؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن القرأة عليه، وأن السَّحَرةَ هم الذين [قيل لهم ذلك، ولم يحضُروا ذلك المشهد إلا لما كان عندَهم من السحر الذي]
(3)
كانوا به معروفين، فلا وجه لأن يُقال لهم: اجمعُوا ما دُعيتُم له مما أنتم به عالمون
(4)
؛ لأن المرْءَ إنما يَجْمَعُ ما لم يَكُنْ عنده إلى ما عندَه، ولم يَكُنْ ذلك يومَ
(5)
يَزِيدُ في علمِهم بما كانوا يَعْلمونه
(6)
من السحر، بل كان يومَ
(1)
تقدم تخريجه في 12/ 231.
(2)
هي قراءة أبي عمرو. حجة القراءات ص 456.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(4)
في ت 2: "عاملون".
(5)
في ت 2: "يوما".
(6)
في م، ت 2:"يعملونه".
إظهاره، أو ما
(1)
كان متفرِّقًا مما هو عندَه، بعضَه إِلى بعضٍ، ولم يكن السحرُ
(2)
متفرِّقًا عندَهم فَجَمَعوه
(3)
.
وأما قولُه: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} . فغيرُ شبيه المعنى بقوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} . وذلك أن فرعون كان هو الذي يَجْمَعُ ويَحْتَفِلُ بما
(4)
يَغْلِبُ به موسى مما لم يَكُنْ عندَه مُجْتَمِعًا حاضرًا، فقيل:{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} .
وقولُه: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} . يقولُ: ثم احْضُروا وجيئوا صفًّا. والصفُّ ههنا مصدرٌ، ولذلك وُحِّد، ومعناه: ثم ائْتُوا صُفوفًا.
وللصفِّ في كلام العرب موضعٌ
(5)
آخرُ، وهو قولُ العرب: أَتَيْتُ الصفَّ اليومَ. يعني به المُصَلَّى الذي يُصَلَّى فيه.
وقولُه: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} . يقولُ: قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهَره.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حُدِّثْتُ عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: جمَع فرعونُ الناسَ لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال:{ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} . أي: قد أفْلَح مَن فلَج
(6)
اليوم على صاحبه
(7)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(2)
في ت 1، ف:"السحرة".
(3)
في م، ت 2:"فيجمعونه"، وفى ت 1، ت 3:"مجتمعون"، وفى ف:"مجتمعوه".
(4)
في ص: "مما"، وفى ت 1، ت 2:"فيما".
(5)
في ت 2: "مواضع".
(6)
في م: "أفلج".
(7)
تقدم أوله في ص 19.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأَجْمَعَت السَّحَرَةُ كيدَهم، ثم أتَوْا صفًّا، فقالوا لموسى:{يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} . وتُرك ذكرُ ذلك من الكلام اكتفاءً بدَلالة الكلامِ عليه.
واخْتُلِف في مبلغ عددِ السَّحَرةِ الذين أَتَوْا يومَئِذٍ صفًّا؛ فقال بعضُهم: كانوا سبعين ألف ساحرٍ، مع كلِّ ساحرٍ منهم حبلٌ وعصًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشامِ الدَّسْتُوَائيِّ، قال: ثنا القاسمُ بنُ أَبي بَزَّةَ، قال: جمع فرعونُ سبعين ألفَ ساحرٍ، فالْقَوْا سبعين ألف حبلٍ، وسبعين ألفَ عصًا، فأَلْقَى موسى عصاه، فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ [فاغِرٌ به فاه]
(1)
، فابْتَلَع حبالهم وعِصِيَّهم، فأُلْقِي السَّحَرَةُ سُجَّدًا عند ذلك، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوُا الجنة والنارَ وثوابَ أهلهما، فعندَ ذلك قالوا:{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}
(2)
[طه: 72].
وقال آخرون: بل كانوا نَيِّفًا وثلاثين ألفَ رجلٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ، قال: قالوا:
(1)
في ص، ت 1، ف:"فاغره".
(2)
تقدم تخريجه في 10/ 358.
{قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115]. قال لهم موسى: ألْقُوا. فألْقَوْا حبالهم وعصيَّهم، وكانوا بضعةً وثلاثين ألف رجلٍ، ليس منهم رجلٌ إلا ومعه حبلٌ وعصًا
(1)
.
وقال آخرون: بل كانوا خمسة عشرَ ألفًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: حُدِّثْتُ عن وهب بن مُنَبِّه، قال: صَفٌّ خمسة عشر ألف ساحرٍ، مع كلٍّ ساحرٍ حِباله وعصيُّه
(1)
.
وقال آخرون: كانوا تسعمائة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: كان السَّحَرَةُ ثلاثمائة من العريش، وثلاثمائة من الفيُّوم، و [يشكُّون في]
(2)
ثلاثمائةٍ من الإسكندرية، فقالوا لموسى: إما أن تُلْقِيَ ما معك قبلنا، وإما أن نُلْقِيَ ما معنا قبلك. وذلك قوله:{وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}
(3)
.
و {أَنْ} في قوله: {إِمَّا أَنْ} ، [{إِمَّا أَنْ}]
(4)
. في موضع نصب، وذلك أن معنى الكلام: اختر يا موسى أحد هذين الأمرين؛ إما أن تُلْقِيَ قبلَنا، وإما
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 106 إلى أبي الشيخ، وذكره القرطبي في تفسيره 7/ 258.
(4)
سقط من: م.
أن نكونَ أولَ من ألْقَى.
ولو قال قائلٌ: هو رفعٌ. كان مذهبًا، كأنه وجَّهه إلى أنه خبرٌ، كقول القائل
(1)
:
فسِيرا
(2)
فإما حاجةٌ تَقْضِيانِها
…
وإما مَقِيلٌ صالحٌ وصَدِيقُ
وقولُه: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى للسَّحَرةِ: بل ألْقُوا أنتم ما معكم قبلى.
وقولُه: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . وفى هذا الكلام متروكٌ، وهو: فألْقَوْا ما معهم من الحبالِ والعِضِيِّ فإذا حبالُهم. تُرِك ذكرُه اسْتِغْناءً بدَلالة الكلام الذي ذُكر عليه عنه.
وذُكر أن السحرةَ سحَروا عينَ موسى وأعينَ الناسِ قبلَ أن يُلْقُوا حبالَهم وعصيَّهم، [ثم ألقَوْا حبالهم وعِصيَّهم]
(3)
فخُيِّل حينئذٍ إلى موسى أنها تَسْعَى.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حُدِّثْتُ عن وهب بن مُنَبِّهٍ، قال:{قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا} : فكان أول ما اخْتَطَفوا بسحرهم بصرُ موسى وبصرُ فرعونَ، ثم أبصارُ الناس بعدُ، ثم ألْقَى كلُّ رجلٍ منهم ما في يده من العصيِّ والحبال، فإذا هي حيَّاتٌ كأمثال الجبال
(4)
، قد مَلأت الواديَ، يَرْكَبُ بعضُها بعضًا
(5)
.
واختَلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأةِ
(1)
معاني القرآن للفراء 2/ 185.
(2)
في ت 2: "فسيروا".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(4)
في م، ت 2:"الحبال".
(5)
تقدم أوله في ص 19.
الأمصار: {يُخَيَّلُ} بالياء، بمعنى: يُخَيَّلُ إليهم سعيُها
(1)
.
وإذا قُرِئ ذلك كذلك، كانت "أن" في موضعِ رفعٍ.
ورُوى عن الحسن البصريِّ أنه كان يَقْرَؤُه: (تُخَيَّلُ) بالتاءِ، بمعنى: تُخَيَّلُ حبالُهم وعصيُّهم بأنها تَسْعَى
(2)
.
ومَن قرَأ ذلك كذلك، كانت "أن" في موضع نصبٍ لتعَلَّقِ (تُخَيَّلُ) بها.
وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يَقْرَؤُه: (تَخَيَّلُ إليه). بمعنى: تَتَخَيَّلُ إليه
(3)
.
وإذا قُرِئ ذلك كذلك أيضًا فـ "أن" في موضع نصبٍ بمعنى: تتَخَيَّلُ بالسعي لهم.
والقراءة التي لا يجوز عندى في ذلك غيرُها: يُخَيَّلُ بالياء؛ لإجماع الحُجَّةِ مِن القرأة عليه
(4)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} .
يعني تعالى ذكرُه بقوله: [{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}]
(5)
: فأَوْجَس في نفسه خوفًا موسى ووجَدَه.
(1)
هي قراءة نافع وابن كثير وعاصم وأبى عمرو وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 457.
(2)
وبها قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر، وروح عن يعقوب. النشر 2/ 241، وقراءة الحسن في إتحاف فضلاء البشر ص 186.
(3)
هي قراءة أبي السَّمَّال. البحر المحيط 6/ 259.
(4)
القراءتان الأولى والثانية متواترتان.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
وقولُه: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: قلنا لموسى إذ أحَسَّ
(1)
في نفسه خِيفةً: لا تَخَفْ إِنَّك أنت الأعْلَى على هؤلاء السحرة، وعلى فرعونَ وجنده، والقاهرُ لهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا}. يقولُ: والْقِ عصاك [التي في يمينك]
(2)
تَبْتَلِعْ حبالَهم وعصيَّهم التي سحَروها حتى خُيِّل إليك
(3)
أنها تَسْعَى.
وقولُه: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} . [اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك
(4)
؛ فقرَأَته عامةُ قرأة المدينة والبصرة وبعضُ قرأة الكوفة: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} ]
(5)
برفعِ {كَيْدُ} وبالألف في {سَاحِرٍ} . بمعنى: إن الذي صنَعَه هؤلاء السحرةُ كيدُ مَنْ يَسحَرُ
(6)
.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفة: (إنما صنعوا كيدُ سِحْرٍ) برفع "الكيد" وبغير الألف في "السحرِ". بمعنى: إن الذي صنعوه كيدُ سحرٍ
(7)
.
والقولُ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان مُتَقاربتا المعنى، وذلك أن الكيدَ هو المكرُ والخُدْعةُ، فالساحرُ مَكْرُه وخُدْعتُه مِن سحرٍ يَسْحَرُه
(8)
، ومكرُ السحرِ وخُدْعتُه تخييلُه
(9)
إلى المسحور على خلاف ما هو به في حقيقتِه، فالساحرُ كائدٌ بالسحر، والسحرُ كائدٌ بالتَّخْييل، فإلى أيِّهما أضَفْتَ الكيد فهو
(1)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"أوجس".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(3)
في ت 2: "إليه".
(4)
في م: "قوله".
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمر وعاصم وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 421.
(7)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(8)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"يسحر".
(9)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"تخيله".
صوابٌ.
وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ: (كَيْدَ سِحْرٍ) بنصب "كَيْد"
. ومَن قرأ ذلك كذلك، جعَل {إِنَّمَا} حرفًا واحدًا، وأعْمَل {صَنَعُوا} في {كَيْدُ} .
وهذه قراءةٌ لا أَسْتَجِيزُ القراءة بها؛ لإجماع الحجة من القرأة على خلافها.
وقولُه: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} . يقولُ: ولا يَظْفَرُ الساحرُ بسحرِه بما طلب أين كان.
وقد ذُكر عن بعضِهم أنه كان يقولُ: معنى ذلك: ذلك: أن الساحرَ يُقْتَلُ حيثُ وُجد.
وذكر بعضُ نحويى البصرة
(2)
أن ذلك في حرف ابن مسعود: (ولا يُفْلِحُ الساحرُ أين أتى). وقال: العربُ تقولُ: جئْتُك من حيثُ لا تَعْلَمُ، ومِن أينَ لا تَعْلَمُ.
وقال غيرُه مِن أهل العربية الأُولِ
(3)
: جزاءٌ، يُقْتَلُ الساحرُ حيث أتَى وأين أتَى. وقال: وأما قولُ العرب: جئْتُك من حيثُ لا تَعْلَمُ، ومن أين لا تَعْلَمُ. فإنما هو جوابُ مَنْ
(4)
لم يَفْهَمْ فَاسْتَفْهَم، كما قالوا: أين الماءُ والعُشْبُ.
هي قراءة مجاهد وحميد وزيد بن علي. البحر المحيط 6/ 260.
(2)
هو الأخفش كما في تهذيب اللغة 15/ 550.
(3)
هو أبو العباس ثعلب كما في تهذيب اللغة الموضع السابق.
(4)
سقط من النسخ، والمثبت من تهذيب اللغة.
(1)
وفي هذا الكلام متروكٌ قد اسْتُغْنِى بدَلالة ما ذُكر
(1)
عليه، وهو: فأَلْقَى موسى عصاه فتلقَّفَت ما صنَعوا، فأُلْقى السحرةُ سُجَّدًا قالوا: آمنا بربِّ هارونَ وموسى.
وذُكر أن موسى لما ألْقَى ما في يدِه تحَوَّل ثعبانًا، فالتهم كلَّ ما كانت السحرةُ ألقَته من الحبال والعصيِّ.
ذكرُ الرواية [عمن قال ذلك]
(2)
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: لما اجْتَمَعوا وألْقَوْا ما في أيديهم من السحرِ خُيِّل إليه
(3)
من سحرهم أَنها تَسْعَى، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} فأَلْقَى عصاه، فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ، قال: فتَحَت فما لها مثل الدَّحْل
(4)
، ثم وضَعَت مِشْفَرَها على الأرض، ورفَعَت الآخر، ثم استَوْعَبَت كُلَّ شيءٍ الْقَوْه مِن السحرِ، ثم جاء إليها فقبَض عليها، فإذا هي عصًا، فخرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}. قال: فكان أول مَن قطع الأيدىَ والأرجلَ من خلافٍ فرعونُ، {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. قال: فكان أول مَن صلَب في جُذوع النخل فرعونُ
(5)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"ترك".
* إلى هنا ينتهى الخرم المشار إليه في ص 78، وسيجد القارئ أرقام نسخة جامعة القرويين بين معكوفين داخل صفحات التحقيق.
(2)
في ت 2: "بذلك".
(3)
في ت 2: "إليهم".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الرجل". والدَّحْل: نقب ضيق فمه ثم يتسع أسفله حتى يُمشى فيه. لسان العرب (د ح ل).
(5)
ينظر ما تقدم تخريجه في 10/ 363.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فأَوْحَى الله إليه: لا تَخَفْ، وأَلْقِ ما في يمينك تَلْقَفْ ما يَأْفِكون. فألْقَى عصاه، فأكَلَت كلَّ حيةٍ لهم، فلمَّا رأَوْا ذلك سجَدوا، وقالوا:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}
(1)
[الأعراف: 121، 122].
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حُدِّثْتُ عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} : لما رأى ما أَلْقَوْا مِن الحبال والعصيِّ، وخُيِّل إليه أنها تَسْعَى، وقال: والله إن كانت لَعِصِيًّا في أيديهم، ولقد عادت حيَّاتٍ، وما تَعْدو عَصاىَ هذه - أو كما حدَّث نفسَه - فأَوْحَى اللهُ إليه أن:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. [وفُرِّج عن]
(2)
موسى، فألْقَى عصاه من يدِهِ، فَاسْتَعْرَضَت ما أَلْقَوْا مِن حبالهم وعصيِّهم، وهي حياتٌ في عين فرعون وأعين الناسِ تَسْعَى، فجَعَلَت تَلْقَفُها؛ تَبْتَلِعُها حيةً حيةً، حتى ما يُرى بالوادى قليلٌ ولا كثيرٌ مما أَلْقَوْا، ثم أَخَذَها موسى فإذا هي عصًا في يده كما كانت، ووقع السَّحَرَةُ سُجَّدًا، قالوا: آمنَّا بربِّ هارونَ وموسى، لو كان هذا سحرًا
(3)
ما غلَبَنا (1).
وقولُه: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وقال فرعونُ للسحرةِ: أصدَّقْتُم وأَقْرَرْتُم لموسى بما دعاكم إليه من قبل أن أُطْلِقَ ذلك لكم، {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ}. يقولُ: إن موسى لعظيمُكم الذي علَّمكم السحر.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: حُدِّثْتُ عن
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
في م، ت 2:"وفرح".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"سحر".
وهب بن مُنَبِّهٍ، قال: لما قالت السحرةُ: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} . قال لهم فرعونُ، وأسف ورأى الغَلَبةَ البينةَ:{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} . أي: لَعظيمُ السُّحَّارِ الذي علَّمَكم
(1)
.
وقولُه: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} . يقولُ: فَلأُقَطِّعَنَّ أَيديكم وأرجلَكم مُخالفًا بين قطع ذلك؛ وذلك أن يَقْطَعَ يمني اليدين ويسرى الرجلين، أو يسرى اليدين ويمنى الرجلين، فيكونُ ذلك قطعًا من خلافٍ. وكان فيما ذُكِر أول مَن فعَل ذلك فرعونُ، وقد ذكَرْنا الرواية بذلك
(2)
.
وقولُه: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} . يقولُ: ولأُصَلِّبَنَّكم على جُذوع النخل، كما قال الشاعرُ
(3)
:
هُمُ صَلَبوا العَبْدِيَّ في جِذْع نخلةٍ
…
فلا عطَسَت شَيْبانُ إلا بأجْدَعا
يعني: على جذع نخلةٍ. وإنما قيل: {فِي جُذُوعِ} . لأن المصلوبَ على الخشبة يُرْفَعُ في طولها، ثم يَصِيرُ عليها، فيقالُ: صُلب عليها.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} : لما رأى السحرةُ ما جاء به عرَفوا أنه من الله، فخرُّوا سجَّدًا وآمَنوا، عند ذلك قال عدوُّ الله:{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} الآية [الأعراف: 124].
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال فرعونُ:{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} :
(1)
تقدم أوله في ص 19.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 113.
(3)
نسبه في الأزهية ص 278، واللسان (ع ب د، ش م س) إلى سويد بن أبي كاهل اليشكري، وكذا نسبه في حاشية نسخة من مجاز القرآن 2/ 23، 24. ونسبه في الخصائص 2/ 313، واللسان (ف ى ى) إلى امرأة من العرب.
[فقتَّلَهم وقطَّعهم]
(1)
، كما قال عبد الله بنُ عباسٍ حين قالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]. وقال: كانوا في أول النهار سحرةً، وفى آخر النهارِ شُهداء
(2)
.
وقولُه: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} . يقولُ: ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّها السحرةُ أَيُّنا أشدُّ عذابًا لكم وأدْوَمُ، أنا أو موسى.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قالتِ السحرةُ لفرعونَ لما توعَّدهم بما توعَّدهم به: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} فنَتَّبِعَك ونُكَذِّبَ مِن أجلك موسى، {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}. يعنى: من الحجج والأدلة على حقيقة ما دعاهم إليه موسى، {وَالَّذِي فَطَرَنَا}. يقولُ: قالوا: لن نُؤْثِرَك على الذي جاءنا من البينات وعلى الذي فطَرَنا. ويعنى بقوله: {فَطَرَنَا} : خَلَقَنا. فـ {الَّذِى} من قولِه: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} . خفضٌ
(3)
عطفًا
(4)
على قوله: {مَا جَاءَنَا} . وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ قوله: {الَّذِي فَطَرَنَا} . خفضًا على القسم، فيكونُ معنى الكلام: لن نُؤْثِرَك على ما جاءنا من البيناتِ واللَّهِ.
وقولُه: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} . [يقولُ: قالوا: فاصْنَعْ ما أنت صانعٌ، واعْمَلْ بنا ما بدا لك، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}]
(5)
. يقولُ: إنما تَقْدرُ أن
(1)
في ص: "وصلبهم وقطعهم"، وفى ت 1، ف:"فقتلهم وصلبهم".
(2)
تقدم أوله في ص 19.
(3)
في ص، ت 1:"خفضا".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 3، ف.
تُعَذِّبَنا في هذه الحياة الدنيا التي تَفْنَى.
ونصبُ {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} على الوقت، وجُعِلَت {إِنَّمَا} حرفًا واحدًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: حُدِّثْتُ عن وهب بن منبهٍ: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} . أي: على اللهِ على ما جاءنا من الحجج مع نبيِّه
(1)
، {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}. أي: اصْنَع ما بدا لك، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} التي
(2)
ليس لك سلطانٌ إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدَه
(3)
.
وقولُه: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنا أَقْرَرْنا بتوحيد ربِّنا، وصدَّقْنا بوعده ووَعيدِه، وأنَّ ما جاء به موسى حقٌّ؛ {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا}. يقولُ: ليَعْفُو لنا عن ذنوبنا فيَسْتُرَها علينا، {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}. يقولُ: ليَغْفِرَ لنا ذنوبَنا وتعلُّمنا ما تعلَّمْناه من السحر، وعمَلَنا
(4)
به الذي أكرهْتنا على تعلُّمه والعمل به.
وذُكر أن فرعون كان أخَذَهم بتعلُّمِ السحرِ.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"بينة".
(2)
في م: "أي".
(3)
تقدم أوله في ص 19.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"علمنا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ سهلٍ، قال: ثنا نعيمُ بنُ حمادٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينة، عن أبي سعيدٍ
(1)
، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قول الله تبارك وتعالى:{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} . قال: غِلْمانُ دفَعَهم فرعونُ إلى السحرةِ تُعَلِّمُهم السحر بالفَرَمَا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} . قال: أمَرهم بتعلُّم السحر. قال: تركوا كتاب الله، وأمَروا قومَهم بتعلُّم
(3)
السحرِ. {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} . قال: أَمَرْتَنا أن نَتَعَلَّمَه
(4)
.
وقولُه: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . يقولُ: والله خيرٌ منك يا فرعونُ جزاءً لمن أطاعه، وأبقى عذابًا لمن عصاه وخالف أمره.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق:{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . أي: خيرٌ منك ثوابًا، وأبقى عقابًا
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن [أبي مَعْشَرٍ]
(6)
، عن
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"سعيد". وينظر ما تقدم في 1/ 647.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 298 - من طريق نعيم به.
(3)
في م، ت 2:"بتعليم".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 298.
(5)
في م، ت 2:"عذابا".
والأثر تقدم أوله في ص 19.
(6)
في ت 2: "مسعر".
محمد بن كعبٍ ومحمدِ بن قيسٍ في قول الله: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . قالا: خيرٌ
(1)
منك إن أُطيع، وأبقى منك عذابًا إِنْ عُصِى
(2)
.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيل السحرة لفرعونَ: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ} مِن خلقه {مُجْرِمًا} . يقولُ: مُكتسبًا الكفر به، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ}. يقولُ: فإِنَّ له جهنَّمَ مأوًى ومسكنًا، جزاءً له على كفره، {لَا يَمُوتُ فِيهَا} فَتَخْرُجَ نفسُه، {وَلَا يَحْيَى} فتَسْتَقِرَّ نفسُه في مَقَرَّها فَتَطْمَئِنَّ، ولكنها تتعلَّق بالحَناجر منهم،
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} . [يقولُ: ومن يقدَم على ربِّه]
(2)
موحِّدًا له لا يُشْرِكُ به، {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: قد عمل بما أمره به ربُّه، وانْتَهى عما نهاه عنه، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}. يقولُ: فأولئك الذين [تلك صفتُهم]
(3)
، لهم درجاتُ الجنةِ العُلَى.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} . ثم بيَّن تلك الدرجاتِ العُلى ما هي، فقال: هن {جَنَّاتُ
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"خيرا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 303 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
عَدْنٍ}. يعني: جناتُ إقامةٍ لا ظَعْنَ عنها، ولا نفادَ لها ولا فناء، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. يقولُ: تجرى من تحت أشجارها الأنهارُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} ، يقولُ: ماكثين فيها إلى غيرِ غاية محدودةٍ. فـ "الجناتُ" مِن قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مرفوعةٌ بالردِّ على "الدرجات".
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ في قوله:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} . قال: عَدْنٌ.
وقولُه: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} . [يقولُ: وهذه الدرجاتُ العُلى التي هي جناتُ عَدْنٍ على ما وصف جل جلاله ثَوابُ {مَنْ تَزَكَّى}]
(1)
. يعنى: مَن تَطَهَّر مِن الذُّنوب، فأطاع الله فيما أَمَرَه، ولم يُدَنِّسْ نفسَه بمعصيته فيما نهاه عنه.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقدْ أَوْحَيْنا إلى نبيِّنا موسى إذ تابَعْنا له الحججَ على فرعونَ، فأبَى أن يَسْتَجِيب لأمر ربِّه، وطغَى وتَمادَى في طُغْيانِه، أن أسْر ليلًا {بِعِبَادِي}. يعني: بعبادي من بني إسرائيل، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}. يقولُ: فاتَّخِذْ لهم في البحر طريقًا يابسًا. واليَبْسُ واليَبْسُ يُجْمَعُ أَيْباسٌ، يقالُ: وقَعُوا في أيْباسِ مِن الأرضِ. واليَبْسُ المُخَفَّفُ يُجْمَعُ يُبُوسٌ.
وبنحر الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويل.
(1)
سقط من: ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{يَبَسًا} . قال: يابسًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
وأما قولُه: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} . فإنه يعنى: لا تَخافُ مِن فرعونَ وجنوده أن يُدركوك من ورائِك، ولا تَخْشَى غرقًا مِن بين يديك ووَحَلًا.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا [عبد الله]
(2)
، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قوله:{لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} . يقولُ: لا تخافُ مِن آل فرعونَ دَرَكًا، ولا تَخْشَى من البحر غرفًا
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، [ثنا سعيد]
(4)
، عن قتادة:{لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} . يقولُ: لا تَخافُ أَن يُدْرِكَك فرعونُ مِن بعدك، ولا تَخْشَى الغرقَ أمامَك.
(1)
تفسير مجاهد ص 464، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"أبو صالح".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 3.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: قال أصحابُ موسى: هذا فرعونُ قد أدْرَكَنا، وهذا البحرُ [قد غَشِيَنَا. فَأَنْزَلَ اللهُ:{لَا تَخَافُ دَرَكًا} أصحاب فرعونَ، {وَلَا تَخْشَى} ]
(1)
مِن البحرِ وَحَلًا
(2)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ الوليدِ الرَّمْليُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ عونٍ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، عن بعض أصحابه في قوله:{لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} . قال: الوَحَلَ.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} ؛ فقرأته عامةُ قرأةِ الأمصار غير الأعمش وحمزة: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} على الاستئناف
(3)
بـ {لَا} كما قال: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132]. فرفَع، وأكثر ما جاء في
(4)
الأمر الجوابُ مع "لا" بالرفع
(5)
.
وقرَأ ذلك الأعمشُ وحمزةُ: (لَا تَخَفْ دَرَكًا) فجزَما "لا تخف"
(6)
على الجزاءِ، ورفَعا:{وَلَا تَخْشَى} على الاستئناف
(7)
، كما قال جلَّ ثناؤُه:{يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]. فاسْتَأْنف بـ {ثُمَّ} ، ولو نوى بقوله:{وَلَا تَخْشَى} . الجزمَ وفيه الياءُ، كان جائزًا، كما قال الراجزُ
(8)
:
هُزِّى إليك الجُذْعَ يجنِيك الجَنَى
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304 إلى ابن المنذر.
(3)
في ص، ف:"الاستثناء". وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 459.
(4)
بعده في م: "هذا".
(5)
سقط من: م.
(6)
في م: "تخاف".
(7)
في ت 1، ف:"الاستثناء". وينظر حجة القراءات ص 458.
(8)
معاني القرآن للفراء 1/ 161، 2/ 187.
وأعجبُ القراءتين إليَّ أن أَقْرَأَ بها: {لَا تَخَافُ} على وجه الرفع؛ لأن ذلك أفصحُ اللغتين، وإن كانت الأُخرى جائزةً.
وكان بعضُ نحويى البصرة يقولُ
(1)
: معنى قوله: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} . اضْرِبْ لهم طريقًا لا تَخافُ فيه دَرَكًا. قال: وحذف "فيه" كما تقولُ: زيدٌ أكْرَمْتُ. وأنت تُرِيدُ: أَكْرَمْتُه. وكما قال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]. أي: لا تجزى فيه.
وأما نحويو الكوفة
(2)
فإنهم يُنْكرون حذف "فيه" إلا في المواقيت؛ لأنه يَصْلُحُ أن يقال فيها: قمتُ اليومَ، وفى اليوم. ولا يُجيزون ذلك في الأسماء.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأسرى
(3)
موسى ببنى إسرائيلَ إِذ أَوْحَيْنا إليه أَن أَسْرِ بهم، فأتْبَعَهم فرعونُ بجنوده حين قطَعوا البحرَ، فغشي فرعونَ وجنودَه من البحر
(4)
ما غشِيَهم، فغرقوا جميعًا،
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وجارَ
(5)
فرعونُ بقومه عن سواء السبيل، وأخَذ بهم على غيرِ استقامةٍ؛ وذلك أنه سلَك بهم طريقَ أهل النار، بأمرهم
(6)
بالكفر بالله، وتكذيبِ
(1)
ينظر الكتاب لسيبويه 1/ 386.
(2)
ينظر معاني القرآن للفراء 1/ 32.
(3)
في م: "سري".
(4)
في ص، م، ت 1، ف:"اليم".
(5)
في م: "جاوز".
(6)
في ت 1، ف:"يأمرهم".
رسولِه
(1)
.
{وَمَا هَدَى} . يقولُ: وما سلَك بهم الطريقَ المستقيمَ، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى، والتصديق به، فأطاعوه، فلم يَهْدِهم بأمره إياهم بذلك، ولم يَهْتَدوا باتِّباعِهم إياه.
القولُ في تأويل قولِه جلَّ ثناؤه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما نجا موسى بقومِه من البحر، وغشِى فرعونَ وقومه من اليم ما عَشِيهم، قلنا لقومِ موسى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون
(2)
، {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} .
وقد ذكَرْنا كيف كانت مواعدةُ الله موسى وقومه جانب الطور الأيمنَ
(2)
، وبيَّنا المنَّ والسلوى باختلاف المختلفين فيهما، وذكرْنا الشَّواهدَ على الصواب من القول في ذلك فيما مضَى قبلُ، بما أغْنى عن إعادته في هذا الموضع
(3)
.
واختَلَفت القرأةُ في قراءة قوله: {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ} ؛ فكانت عامةُ قرأة المدينة والبصرة يَقْرءونه: {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ} بالنون والألف، وسائرُ الحروفِ الأُخرِ من كذلك
(4)
.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأة الكوفة: (قد أنْجيْتُكم) بالتاء
(5)
، وكذلك سائرُ الحروف
(1)
في م: "رسله".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
ينظر ما تقدم في 1/ 663 وما بعدها.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 422.
(5)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"بالياء".
الأُخر، إلا قوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} فإنهم وانه الآخرين في ذلك، فقرءوه بالنون والألف
(1)
.
والقولُ في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان باتفاق المعنى، فبأيتهما قرأ القارئُ ذلك فمصيبٌ.
وقولُه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه لهم: كُلُوا يا بني إسرائيل مِن شَهِيَّاتِ رزقنا الذي رزَقْناكم، وحلاله الذي طيَّبْناه لكم، {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}. يقولُ: ولا تَعْتَدوا فيه، ولا يَظْلِمُ فيه بعضُكم بعضًا.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا [عبد الله]
(2)
، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} . يقولُ: ولا تَظْلِموا
(3)
.
وقولُه: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . يقولُ: فتنزل عليكم عقوبتي.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . يقولُ: فيَنْزِلَ عليكم غضبى
(4)
.
واختَلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأة الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ} بكسر الحاء، {وَمَنْ يَحْلِلْ} بكسر اللام
(5)
. ووجَّهوا معناه إلى: فيَجبَ عليكم غضبي.
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 422.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"أبو صالح".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304، إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 18 عن معمر، عن قتادة.
(5)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ونافع وعاصم وحمزة. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 422.
وقرَأ ذلك جماعةٌ من أهل الكوفة: (فيَحُلَّ عليكم) بضمِّ الحاءِ
(1)
. ووجَّهوا تأويلَه إلى ما ذكَرْنا عن قتادةَ من أنه: فيَقَعَ ويَنْزِلَ عليكم غضبي.
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرأة، وقد حذَّر الله الذين قيل لهم هذا القولُ مِن بني إسرائيل وقوعَ بأسِه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصَوْه، وخوَّفهم وجوبه لهم، فسواءٌ قُرى ذلك بالوقوع أو بالوجوب؛ لأنهم كانوا قد خُوِّفوا المعنيين كليهما.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يَجِبْ عليه غضَبى فينزِلْ به، {فَقَدْ هَوَى} .
يقولُ: فقد تردَّى فشَقى.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَقَدْ هَوَى} . يقولُ: فقد شَقِى
(2)
.
وقولُه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} . يقولُ: وإني لذو عفوٍ
(3)
لمن تاب من شركه فرجَعَ منه إلى الإيمان بي
(4)
، {وَآمَنَ}. يقولُ: وأَخْلَصَ لى الألُوهةَ ولم يشرِكْ في عبادتِه إِيَّايَ غَيْرِي، {وَعَمِلَ صَالِحًا}. يقولُ: وأَدَّى فَرائضِى التي افْتَرضتُها
(1)
هي قراءة الكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 422.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 256 - من طريق عبد الله. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304 إلى ابن المنذر.
(3)
في م، ت 1، ف:"غفر".
(4)
سقط من: الأصل.
عليه، واجْتَنَب معاصيَّ، {ثُمَّ اهْتَدَى}. يقولُ: ثم لَزِمَ ذلك فاسْتقام ولم يُضَيِّعْ شيئًا منه.
وبنحو الذي قُلنا في قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} : مِنَ الشِّركِ، {وَآمَنَ}. يقولُ: وَحَّدَ الله، {وَعَمِلَ صَالِحًا}. يقولُ: وأدَّى فرائضى
(1)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} : مِن [ذَنبِه، {وَآمَنَ} بربِّه، {وَعَمِلَ صَالِحًا} فيما بينَه وبينَ اللهِ.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيع:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} : من الشِّركِ]
(2)
، {وَآمَنَ}. يقولُ: وأَخْلَصَ لله وعمل في إخْلاصِه.
واختلَفوا في معنى قوله: {ثُمَّ اهْتَدَى} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لم يَشْكُك في إيمانه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ت 2.
قوله: {ثُمَّ اهْتَدَى} . يقولُ: لم يَشْكُكْ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم لَزم الإيمانَ والعملَ الصالح.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{ثُمَّ اهْتَدَى} .
يقولُ: ثم لَزم الإسلام حتى يموت علَيْه
(2)
.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك: ثم اسْتَقام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفر الرازيِّ، عن الربيع بن أنسٍ:{ثُمَّ اهْتَدَى} . قال: أَخَذ بسُنَّة نبيِّه عليه السلام
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: أصاب العملَ.
[ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . قال: أصاب العمل]
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عرف أمرَ مُثيبه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 304 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 288، وابن كثير في تفسيره 5/ 302 عن قتادة.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 231 عن الربيع.
(4)
سقط من: ت 2.
والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 231 عن ابن زيد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عنبسةَ، عن الكلبيِّ:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} : من الذَّنبِ، {وَآمَنَ} من الشِّركِ، {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَدَّى ما افتَرَضتُ عليه، {ثُمَّ اهْتَدَى} عرَف مُثيبَه إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا
(1)
.
وقال آخرون بما حدَّثنا إسماعيلُ بن موسى الفَزارِيُّ، قال: ثنا عمرُ بن شاكرٍ، قال: سمعتُ ثابتًا البُنانيَّ يقولُ في قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . قال: إلى ولاية أهل بيت النبيِّ عليه السلام
(2)
.
قال الطبريُّ: وإنما اخْتَرْنا القول الذي اخْتَرنا في ذلك من أجل أن الاهتداء هو الاستقامةُ على هُدًى، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمَعه الإيمانُ والعملُ الصالحُ والتوبةُ
(3)
، فمَن فعَل ذلك وثبت عليه فلا شَكَّ في اهْتِدَائِه.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤُه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَا أَعْجَلَكَ} : وأَيُّ شيءٍ أَعْجَلَك {عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} فَتَقَدَّمتهم وخَلَّفْتَهم وراءَكَ ولم تكن معهم؟
{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} . يقولُ: قومى على أَثَرِى يَلْحَقون بي، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. يقولُ: وعَجِلتُ أنا فسَبَقتُهم ربِّ كَيما ترضَى عَنِّي.
وإنَّما قال الله جلَّ وعزَّ لموسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} ؛ لأنه جلَّ ثناؤُه، فيما بلَغَنا، حين نَجَّاه وبنى إسرائيل من فرعون وقومه وقَطَع بهم البحر،
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 288، والقرطبي 11/ 231 عن الكلبي.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 231 عن ثابت.
(3)
في الأصل: "التقوى".
وعَدَهم جانبَ الطور الأيمنَ، فتَعَجَّلَ موسى إلى ربِّه، وأقام هارونُ في بني إسرائيلَ يسيرُ بهم على أَثَرِ موسى.
[كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاق، قال: وعبد الله موسى حينَ أَهْلَك فرعون وقومَه، ونجَّاه وقومَه، ثلاثين ليلةً، ثم أتَمَّها بعَشْرٍ، فَتَمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً، تَلَقَّاه فيها بما شاء، فاسْتَخْلَفَ موسى هارون في بني إسرائيل، ومعه السَّامِريُّ، يسيرُ بهم على أَثَرِ موسى ليُلْحِقَهم بهِ، فلمَّا كلَّم اللهُ موسى، قال له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى}؟ قال: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}]
(1)
.
وحدَّثني يونُس، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} . قال: لأرضِيَك.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال الله لموسى: فإنَّا يا موسى قد ابتَلَينا قومَك من بعدِك بعبادة العجل. وذلك كان فتنَتَهم من بعدِ موسى.
ويعنى بقوله: {مِنْ بَعْدِكَ} : من بعدِ فِراقِك إيَّاهم. يقولُ اللهُ عز وجل: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} . وكان إضلالُ السامريِّ إياهم دعاءه إيَّاهم إلى عبادة العجل.
(1)
سقط من: ت 2.
وقولُه: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} . يقولُ: فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد انقضاء الأربعين الليلة
(1)
، {غَضْبَانَ أَسِفًا}. [يعنى بقولِه:{أَسِفًا} ]
(2)
: مُتَغَيِّظًا على قومه، حزينًا لما أحْدَثوا بعده من الكفر بالله.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{غَضْبَانَ أَسِفًا} . يقولُ: حزينًا. وقال في "الزخرف": {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55]. يقولُ: أغْضَبونا. والأسفُ على وجهين: الغضبُ، والحُزْنُ
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{غَضْبَانَ أَسِفًا} . يقولُ: حزينًا
(3)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] أي: حزينًا على ما صَنَع قومُه مِن بعده
(4)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَسِفًا} . قال: جزعًا
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد مثله.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"ليلة"، وفي ت 2:"يوما".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 450.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 302 عن قتادة.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"حزينًا".
والأثر في تفسير مجاهد ص 464.
وقولُه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} . يقولُ: ألم يَعِدْكم ربُّكُم أَنَّه غفَّارٌ لمن تاب وآمَن وعمل صالحًا ثم اهْتَدى؟ ويَعِدْكم جانبَ الطورِ الأيمنَ، ويُنَزِّلْ علَيكم المنَّ والسَّلوى؟ فكان ذلك وعبد الله الحسن بني إسرائيل الذي قال لهم موسى عليه السلام: ألم يَعِدُكُموه ربُّكم؟
وقولُه: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ: أفطال عليكم العهدُ بي، وبجميل نعم الله عندكم، وأياديه لدَيْكُم؟ {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ}. يقولُ: أم أردتُم أن يجب عليكُم غضبٌ من ربِّكم فتَسْتَحِقُّوه بعبادتكم العجل وكفركم باللهِ؟ {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} . وكان إخلافُهم موعدَه، عُكوفَهم على العجل، وتَرْكَهم السيرَ على أَثَرِ موسى للمَوعِدِ الذي كان الله عز وجل وعدَهم، وقولَهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجلِ، ودعاهم إلى السير معه على أثر موسى:{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91].
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال قومُ موسى لموسى: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} . يعنون بموعِدِه عهدَه الذي كان عَهِدَه إِلَيْهم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{مَوْعِدَكَ} . قال: عَهْدِى
(1)
.
(1)
تفسر مجاهد ص 464، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذلك العهدُ والموعدُ هو ما بيَّناه قبلُ
(1)
.
وقولُه: {بِمَلْكِنَا} . يخبرُ جلَّ ثناؤُه عنهم أنَّهم أقرُّوا على أنفسهم بالخطأ، وقالوا: إِنَّا لم نُطِقْ حَمْلَ أنفُسِنا على الصواب، ولم تَملِكْ أمرنا حتى وَقَعْنا في الذي وقعنا فيه من الفِتْنَةِ.
وقد اخْتَلَفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقَرَأته عامَّةُ قرأة المدينة: {بِمَلْكِنَا} . بفتح الميم
(2)
.
وقرَأته عامَّةُ قرأة الكوفة: (بِمُلكِنا) بضمِّ الميم
(3)
.
وقرأه بعضُ أهل البصرة: (بِمِلْكنا) بالكسرِ
(4)
.
فأما الفتحُ والضمُّ فهما بمعنًى واحدٍ، وهو قُدْرَتُنا وطاقَتُنا، غير أن أحدهما مصدرٌ، والآخر اسمٌ، وأمَّا الكسرُ فهو بمعنَى مِلكِ الشَّيءِ وكَوْنِه للمالكِ.
واختلف أهلُ التأويل أيضًا في تأويله؛ فقال بعضُهم: معناه: ما أخْلَفْنا موعِدَك بأمرنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} . يقولُ: بأَمْرِنا
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنا
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 663 - 665.
(2)
وهي قراءة نافع وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 422.
(3)
وهى قراءة حمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد 423.
(4)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد 422.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 256 - من طريق عبد الله بن صالح به.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{بِمَلْكِنَا} . قال: [بأمْرٍ ملْكِنا]
(1)
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
وقال آخرون: معناه: بطَاقَتِنا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي: بطاقتِنا
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} . يقولُ: بطاقتِنا
(4)
.
وقال آخرون: معناه: ما أخْلَفْنا موعدَك بهَوَانَا، ولكِنَّا لم نملِكْ أَنفُسَنا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا يونسُ، قال: حدَّثنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} . قال: يقولُ: بهَوَانَا، قال
(5)
: ولكنَّه جاءت ثلاثةٌ. قال: ومعهم
(1)
في م، ت 1، ف:"بأمرنا"، وفى تفسير مجاهد:"بأمر نملكه". والمثبت موافق لما في الدر المنثور.
(2)
تفسير مجاهد ص 464، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 18 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 423 عن موسى به، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى ابن أبي حاتم من قول السدى.
(5)
سقط من: الأصل.
حُليٌّ اسْتَعاروه من آل فرعونَ وثيابٌ
(1)
.
وكلُّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك مُتقارِباتُ المعنى؛ لأن من لم يملك نَفْسَه لغَلَبة
(2)
هواه على
(3)
أمرٍ، فإنَّه لا تمتنعُ اللغةُ أن تقولَ: فعَل فلانٌ هذا الأمرَ وهو لا يملكُ نفسه، وفعَلَه وهو لا يَضْبطُها، وفعَلَه وهو لا يُطيقُ تَرْكَه. فإذا كان ذلك كذلك، فسواءٌ بأيِّ القراءات الثلاثِ قرأ ذلك القارئُ، وذلك أن من كسَر الميمَ مِنَ "المِلْكِ"، فإنما يوجِّهُ معنى الكلام إلى ما أخْلَفْنا موعدَك ونحنُ نملِكُ الوفاءَ بهِ لغَلَبة أنفسنا إيانا على خِلافِه. وجعَله من قولِ القائل: هذا ملكٌ فلانٍ. لما يَمِلكُه مِنَ المملُوكَاتِ، وأنَّ مَن فتَحها، فإنَّما يوجِّهُ معنى الكلام إلى نحو ذلك، غير أنه يجعَلُه مصدرًا من قول القائل: مَلَكتُ الشيءَ أَمْلِكُه مَلْكًا وَمَلَكةً، كما يُقالُ: غلبتُ فلانًا أَغْلِبُه غَلْبًا وغَلَبَةً، وأَنَّ مَن ضمَّها فإنَّه يوجِّه معناه إلى: ما أَخْلَفْنا موعدَك بسُلْطَانِنا وقُدرتنا. أي ونحنُ نقدر أن نمتنع منه؛ لأن كلَّ مَن قَهَر شيئًا فقد صار له السلطانُ عليه، وقد أنكَر بعضُ الناس قراءةَ مَن قرأَه بالضمِّ، فقال: أيُّ مُلكٍ كان يومئذٍ لبنى إسرائيل، وإنما كانوا بمصرَ مُسْتضعَفين؟! فأغْفَلَ معنَى القوم، وذهَب عن
(4)
مرادِهم ذهابًا بعيدًا، وقارِئو ذلك بالضمِّ لم يَقْصِدوا المعنى الذي ظَنَّه هذا المُنكِرُ عليهم ذلك، وإنَّما قَصَدوا إلى أن معناه: ما أخْلَفنا موعِدَك بسلطانٍ كانت لنا على أنفْسِنا نَقْدِرُ أن نردَّها عما أتت؛ لأنَّ هوانا غلبنا على إخلافِك الموعدَ.
وقولُه: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} . يقولُ: ولكِنَّا حُمِّلْنا أثقالًا وأحمالًا من زينة القومِ
(5)
. يعنُون مِن حُليِّ آل فرعونَ، وذلك أنَّ بني إسرائيل لما أرادَ
(1)
ينظر تفسير القرطبي 11/ 234.
(2)
بعده في ص، ت 1، ف:"نفسه".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"ما".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"غير".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
موسى أن يسيرَ بهم ليلًا من مصرَ بأمر الله إياه بذلك، أمرَهم أن يَسْتَعيروا من أمتعَة آل فرعونَ وحُلِّيهم، وقال: إن الله مُغْنِمُكم ذلك. ففعَلوا، واسْتَعاروا منهم
(1)
من حُليِّ نسائِهم وأمتعاتِهم
(2)
، فذلك قولُهم لموسى حينَ قال لهم:{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} .
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} : فهو ما كان مع بني إسرائيل من حُليِّ آل فرِعونَ، يقولُ:[حَظِينا بها]
(3)
، أصَبْنا من حُليِّ عدوِّنا
(4)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَوْزَارًا} . قال: أثقالًا. قوله: {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} . قال: وهى الحُليُّ التي اسْتَعارُوا من آل فرعونَ، وهى الأثقالُ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ف:"أمتعتهم".
(3)
في م: "خطئونا بما".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 305 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5)
تفسير مجاهد ص 464، ومن طريقه الفريابي كما في تغليق التعليق 4/ 253 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مجاهدٍ قولَه: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا} . قال: [أثقالًا. {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}. قال]
(1)
: حُليتهم
(2)
.
وحدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، السديِّ:{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} . يقولُ: مِن حُليِّ [القبْط
(3)
.
وحدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} . قال: الحُليُّ]
(4)
الذي اسْتَعاروه والثيابُ، لَيْسَت من الذُّنوب في شيءٍ، لو كانت الذُّنوب كانت: حُمَّلْناها نتحمَّلُها
(5)
، فليست من الذُّنوب في شيءٍ
(6)
.
واختَلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامَّةُ قرأة المدينة وبعضُ المكِّيِّين: {حُمِّلْنَا} بضمِّ الحاءِ وتشديد الميم
(7)
، بمعنى أنَّ موسى حمَّلهم ذلك.
وقرَأته عامَّةُ قرأة الكوفة والبصرة وبعضُ المكِّيين: (حَمَلْنَا) بتخفيف الحاءِ والميم وفتحهما
(8)
، بمعنى أنهم حمَلوا ذلك من غيرِ أن يكَلِّفَهم حَمْلَه أحدٌ.
والقولُ في ذلك عندى أنَّهما قراءتان مَشْهُورتان متقاربتا المعنى؛ فإن
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"حليهم".
(3)
تقدم تخريجه في ص 134.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في م: "نحملها"، وفى ت 1، ت 2، ت 3، ف:"بتحملها".
(6)
ينظر التبيان 7/ 175، 176.
(7)
وهى قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وحفص. حجة القراءات ص 462.
(8)
وهى قراءة أبي عمرو وحمزة وأبى بكر والكسائي. المصدر السابق.
القومَ حَمَلُوا، وأنَّ موسى قد أمرهم بحَمْلِه، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ.
وقولُه: {فَقَذَفْنَاهَا} : يقولُ: فأَلْقَيْنا تلك الأوزارَ مِن زينة القومِ في الحُفْرَةِ، {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}. يقولُ: فكما قَذَفْنا نحنُ تلك الأثقالَ، فكذلك ألْقَى السامريُّ ما كان معه من تُرْبَةِ حافرِ فرس جبريلَ عليه السلام.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فَقَذَفْنَاهَا} . قال: فأَلْقَيْناها، {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}: فكذلك صَنَع
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَقَذَفْنَاهَا} . قال: فأَلْقَيناها. {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} : فكذلك صَنَع.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَقَذَفْنَاهَا} . أي: فنَبَذْناها.
وقولُه: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} . يقولُ: فأَخْرَج لهم السامريُّ مما قذَفوه وممَّا أَلْقَاه {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} ، ويعنى بالخُوارِ الصوتَ،
(1)
تقدم تخريجه في ص 136.
وهو صوت البقر.
ثم اختلف أهل العلم في كيفيَّة إخراجِ السامريِّ العجلَ؛ فقال بعضُهم: صاغه صِياغَةٌ، ثم ألْقَى من تُرابِ حافر فرس جبريل في فيهِ، فَخَارَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} . قال: كان الله وقَّت لموسى عليه السلام ثلاثين ليلةً، ثم أتمَّها بِعَشْرٍ، فلمَّا مضَت الثلاثون قال عدوُّ الله السامريُّ: إنَّما أصابكم ما أصابكم عقوبةً بالحليِّ الذي كان معكم، فهَلُمُّوا. وكانت حُليًّا تَعَوَّروها من آل فرعون، فساروا وهى معهم، فقَذَفوها إليه، فصوَّرها صورةً بقرة، وكان قد صَرَّ في عِمامَتِه أو في ثوبه قَبْضَةً مِن أُثرِ الفرس، فرس جبريل عليه السلام، فقَذَفها مع الحليِّ والصُّورة، {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} . فَجَعَل يخُورُ خُوارَ البَقَرَةِ، فقال:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} .
حدَّثنا الحسن
(1)
، قال: حدثنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: لما اسْتَبْطَأ موسى قومه قال لهم السامريُّ: إنما احْتَبَس عنكم من أجل ما عندكم من الحليِّ. وكانوا اسْتَعارُوا حُليًّا من آل فرعونَ، فَجَمَعوه فأعطَوْه السامريَّ، فصاغ منه عِجْلًا، ثم أخذ القَبْضَةَ التي قبض من أَثَرِ الفرس فرس الملك، فنبذها في جوفِه، فإذا هو عجلٌ جَسَدٌ له حُوارٌ، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، ولكنَّ موسى نَسِي ربَّه عِندَكم
(2)
.
(1)
في الأصل: "الحسين".
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 18.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ، قال: أخذ السامريُّ مِن تُربةِ الحافر، حافرِ فرس جبريل، فانطلق موسى واسْتَخْلَفَ هارون على بنى إسرائيلَ، وَوَاعَدَهم ثلاثين ليلة، وأتمَّها اللهُ بِعَشْرٍ، فقال لهم هارون: يابني إسرائيل إن الغنيمة لا تحلُّ لكم، وإن حُليَّ القبط إنما هو غنيمةٌ، فاجمعوها جميعًا، فاحْفروا لها حُفْرةً فادفنوها، فإن جاء موسى فأحَلَّها أَخَذْتُموها، وإلا كان شيئًا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحليَّ في تلك الحفرة، وجاء السامريُّ بتلك القبضة فقَذَفها، فأَخْرَج الله مِن الحُليِّ عِجْلًا جَسَدًا له خوارٌ، وعَدَّت بنو إسرائيل موعِدَ موسى، فعَدُّوا الليلة يومًا، واليومَ يومًا، فلمَّا كان لعشرين
(1)
خرَج لهم العجلُ، فلمَّا رَأَوْه قال لهم السامريُّ:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . فعكفوا عليه يعبُدونه، وكان يخورُ ويمشى. {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}: ذلك حين قال لهم هارونُ: احْفِروا لهذا الحليِّ حُفْرةً واطْرَحوه فيها. فطَرَحوه، فقَذَف السامريُّ تُربَتَه
(2)
.
وقوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} . يقولُ: فقال قوم موسى الذين عَبدوا العجلَ: هذا مَعْبُودُكم ومعبود موسى.
وقوله: {فَنَسِيَ} يقولُ: فَضَلَّ وتَرَك.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله: {فَنَسِيَ} . من قائلُه، ومَن الذي وُصِف به، وما معناه؟ فقال بعضُهم: هذا خبرٌ من الله عن السامريِّ، والسامريُّ هو الموصوف بهِ. قالوا: ومَعْناه أنَّه ترك الدِّينَ الذي بعث الله به موسى، وهو الإسلام.
(1)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ف:"العشرين". وفى نسخة من تاريخ المصنف: "العشر".
(2)
تقدم أوله في ص 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى ابن أبي حاتم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنى محمد بن إسحاق، عن حكيمِ بن جبيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: يقولُ الله: {فَنَسِيَ} . أي: ترك ما كان عليه من الإسلام. يعنى السامريَّ
(1)
.
وقال آخرون: بل هذا من خبر الله تعالى ذكرُه عن السامريِّ أنَّه قاله
(2)
لبنى إسرائيل، وأنَّه وصف موسى بأنَّه ذهَب يطلب ربَّه، فأضلَّ موضعه، وهو هذا العجل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{فَقَذَفْنَاهَا} - يعنى زينة القوم - حين أمرنا السامريُّ لمَّا قبض قبضةً مِن أَثَرِ جبريل، فأَلْقَى القبضة على حُليِّهم، فصار عِجْلًا جسَدًا له خوارٌ {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} الذي انطلق يطلبُه {فَنَسِيَ}. يعني: نَسِيَ موسى. يعني
(3)
: ضَلَّ عنه فلم يَهْتَدِ له
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَنَسِيَ} . يقولُ: طلب هذا موسى فخالَفَه الطريق
(5)
.
وحدَّثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قَتادةَ:
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 673.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(4)
تقدم تخريجه في ص 136.
(5)
ينظر البحر المحيط 6/ 269.
{فَنَسِيَ} . يقولُ: قال السامريُّ: موسى نَسِيَ ربَّه عِندَكم
(1)
.
وحدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فَنَسِيَ} موسى. قال: هم يقُولُونَه
(2)
؛، أخطأ الربَّ؛ العِجْلَ
(3)
.
[حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {فَنَسِيَ}. قال: نَسى موسى، أخطأ الربَّ. للعجل]
(4)
(5)
، قوم موسى يَقُولُونَه.
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{فَنَسِيَ} يقولُ: ترك موسى إلَهَه ههنا وذهَب يطلبه
(6)
.
وحدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . قال: يقولُ: فنَسِيَ حيثُ وعَدَه رَبُّه، هاهنا وعَدَه
(7)
، ولكنَّه نَسِيَ
(8)
.
حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . يقولُ: نَسِيَ
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 18.
(2)
بعده في الأصل: "قال". وفي الدر المنثور: "قومه".
(3)
تفسير مجاهد ص 465، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"العجل".
(6)
تقدم أوله في ص 19.
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(8)
ينظر التبيان 7/ 176.
موسى ربَّه فأخْطَأه، وهذا العجلُ إِلَهُ موسى.
والذي هو أولى بتأويل ذلك القولُ الذي ذكرناه عن هؤلاء، وهو أن ذلك خيرٌ من الله جلَّ وعزَّ عن السامريِّ أنَّه وصف موسى بأنَّه نَسِيَ ربَّه، وأَنَّ رَبَّه الذي ذهب
(1)
يريده هو العجلُ الذي أخرجه السامريُّ؛ لإجماع الحجَّةِ مِن أهل التأويل عليه، وأنَّه عَقِيبَ ذكر موسى، فهو بأن يكون خبرًا من السامريِّ عنه بذلك أَشْبَهُ مِن غيرِه.
يقول تعالى ذكره مُوَبِّخًا عبدة العجل والقائلين له: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} . وعائبَهم بذلك، ومُسَفِّه أحلامهم بما فعلوا وقالوا
(2)
منه: أفلا يَرَوْنَ أن العجل الذي زعموا أنَّه إلههم وإله موسى لا يُكَلِّمُهم، وإن كلَّموه لم يردَّ عليهم جوابًا، ولا يقدر لهم على ضَرٍّ ولا نَفْعٍ، فكيف يكون ما كانت هذه صِفَتُه إلهًا؟.
كما حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} : العجلُ
(3)
.
(1)
بعده في ت 1: "يطلبه".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"نالوا".
(3)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
وحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} ، قال: العجلُ.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ: قال الله عز وجل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} ، ذلك العجلُ الذي اتَّخَذوه، {قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .
وقولُه: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} . [يقولُ: ولقد قال لعَبَدَةِ العجل من بني إسرائيل هارونُ من قبل]
(1)
رجوع موسى إليهم، وقيله لهم ما قال ممَّا أخبر الله جلَّ ثناؤُه عنه:{إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} . يقولُ: إنما اخْتبَر الله إيمانكم ومحافظَتَكم على دينكم بهذا العجل الذي أحْدَث فيه الخُوارَ؛ ليعلمَ به الصحيحَ الإيمانِ مِنكُم من المريض القلب، الشاكِّ في دينِه.
كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: قال لهم هارُونُ: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} . يقولُ: إِنَّما ابْتُليتُم به. يقولُ: بالعجل
(2)
.
وقولُه: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} . يقولُ: وإن ربَّكم الرحمنُ الذي تَعُمُّ جميعَ الخلقِ نعمتُه، {فَاتَّبِعُونِي} على ما آمُرُكم بهِ مِن عبادة اللهِ وتَركِ عبادة العجل، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} فيما آمُرُكم به من طاعةِ اللهِ وإخلاص العبادةِ له.
وقولُه: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} . يقولُ: قال عَبَدَةُ العجل من قومِ موسى: لن نزالَ على العجلِ مُقِيمِينَ نَعْبُدُه حتى يَرْجع إلينا موسى.
(1)
سقط من: ت 1، ف.
(2)
تقدم أوله في ص 19.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ
(1)
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى لأخيه هارون لمَّا فرغ من خطاب قومه ومراجَعته إيَّاهم على ما كان من خطأ فِعْلِهم: يا هارونُ أَيُّ شيءٍ منعك إذ رأيتَهم ضَلُّوا عن دينهم، فكَفَروا بالله وعَبَدوا العجل - ألا تَتَّبعَنى.
واخْتَلَف أهلُ التأويل في المعنى الذي عَذَل
(2)
موسى عليه أخاه من تَرْكِه اتَّباعَه؛ فقال بعضُهم: عَذَلَه على تَرْكه السير بمَن أطاعَه في أثره على ما كان عهد إليه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن حكيم بن جبيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما قال القومُ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أقام هارونُ في من معه
(3)
من المسلمين ممَّن لم يَفتَتنْ، وأقام مَن يعبُدُ العجل على عبادة العجل، وتخوَّف هارونُ إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: فرَّقْتَ بين بنى إسرائيلَ ولم تَرْقُبْ قولى. وكان له هائبًا مُطِيعًا
(4)
.
وحدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللهِ عزَّ
(1)
في الأصل، ف:"تتبعنى". وبإثبات الياء وقفا ووصلًا قرأ ابن كثير، وقرأ بها أبو عمرو في الوصل خاصة، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف، واختلف عن نافع. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 423.
(2)
العذْل: الملامة يقال: عذله يعذله: لامه. اللسان (ع ذ ل).
(3)
في م: "تبعه".
(4)
تقدم تخريجه في 1/ 673.
وجلَّ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} . قال: تَدَعَهم
(1)
.
وقال آخرون: بل عَذَلَه على تَرْكِه أن يُصْلِحَ ما كان من فسادِ القومِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيج قوله:{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} . قال: أمر موسى هارون أن يُصلِحَ ولا يَتَّبِعَ سبيلَ المُفسدين، فذلك قولُه:{أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بذلك
(2)
.
وقولُه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} . وفى هذا الكلام متروكٌ، تُرِك ذكرُه استغناءً بدلالة الكلام عليه، وهو: ثم أخذ موسى بلحْية أخيه هارونَ ورأسه يجرُّه إليه، فقال هارونُ: يابنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيتى ولا برأسي.
وقولُه: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . فاختَلَف أهلُ العلم في صفة التفريق بينهم الذي خَشِيَه هارونُ؛ فقال بعضُهم: كان هارونُ خاف أن يسيرَ بمن أطاعَه وأقامَ على دينه في أَثَرِ موسى، ويخلُفَ عَبَدَةَ العجلِ، وقد قالوا له: لن نبرحَ عليه عاكفين حتى يرجعَ إلينا موسى. فيقولَ له موسى: فرَّقْتَ بين بني إسرائيلَ بسَيْرِك بطائفةٍ، وتَرْكِكَ منهم طائفةً وراءَك.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} . قال: {خَشِيتُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 306 إلى ابن المنذر.
أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. قال: خَشِيتُ أن يتَّبعَنى بعضُهم ويتخلَّفَ بعضُهم
(1)
.
وقال آخرون: بل معني ذلك: خَشِيتُ أن نَقْتَتِلُ فيَقْتُلَ بعضُنا بعضًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: كُنَّا نكونُ فِرقَتَين فيقتُلُ بعضُنا بعضًا حتى نَتَفَانى.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القولُ الذي قاله ابن عباسٍ، من أن موسى عَذَل أخاه هارون على تَرْكه اتباعَ أمْرِه بَمَن اتَّبَعه من أهل الإيمان، فقال له هارونُ: إني خَشِيتُ أن تقولَ: فرَّقت بين جماعتِهم، فتَرَكْتَ بعضَهم وراءَك، وجئتَ ببعضِهم. وذلك بَيِّنٌ في قول هارون للقوم:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} . وفى جواب القومِ له، وقيلهم:{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} .
وقولُه: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . يقولُ: ولم تَنْظُرْ قَوْلى وتحْفَظْه. مِن مراقبة الرجل الشيءَ، وهى مُناظَرتُه لحفظه
(2)
.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . قال: لم تَحفَظْ قَوْلى
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"بحفظه".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن المنذر.
القولُ في تأويل قولِه جل ثناؤُه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)} .
يعني تعالى ذكرُه بقوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} : قال موسى للسامريِّ: فما شأنُك يا سامريُّ؟ وما الذي دعاكَ إلى ما فعَلتَ؟
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} قال: ما أَمْرُك؟ ما شأنُك؟ ما هذا الذي أدْخَلك فيما دخَلتَ فيه؟
وحدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} . قال: ما لَكَ يا سامريُّ
(1)
.
وقولُه: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} . يقولُ: قال السامريُّ: علمتُ ما لم يَعْلَموه
(2)
. وهو "فعلتُ" من البَصيرة، أي: صِرْتُ بما عملتُ بصيرًا عالمًا.
[وبنحو الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويل]
(3)
.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: لما قتل فرعونُ الولدان قالت أمُّ السامريِّ: لو نَحَّيتَه عنِّى حتى لا أراه، ولا أرى
(4)
(1)
تقدم تخريجه في ص 140.
(2)
في الأصل: "تعلموه". وهو يتفق مع قراءة من قرأ: (تبصروا). وهما قراءتان كما سيأتي في ص 150.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(4)
في م: "أدرى".
قَتْلَه. فَجَعَلَتْه في غارِ، فأتى جبريلُ، فجعَل كفَّ نَفْسِهِ فِي فِيهِ، فَجَعَل يَرْضَعُ العسل واللبنَ، فلم يزلْ يختَلِفُ إليه حتى عرَفه، فمن ثَمَّ معرفتُه إيَّاه حين قال:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} .
وقال آخرون: هو
(1)
بمعنى: أبْصَرتُ ما لم يُبْصروه. وقالوا: يقالُ: بَصُرتُ بالشيء وأَبْصَرتُه. كما يقالُ: أسرَعتُ وسَرُعْتُ؛ ماشيتُ
(2)
.
ذكرُ مَن قال: هو بمعنى: أبْصَرتُ
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} . يعني: فرسَ جبريل عليه السلام.
وقولُه: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} . يَعْنى
(3)
: فقبضتُ قبضةً من أثر حافرِ فرس جبريلَ.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثني محمدُ بنُ إسحاقَ، عن حكيم بن جبيرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما قذف بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آلِ فرعونَ في النارِ، وتكسَّرت، ورأى السامريُّ أثَرَ فرس جبريل عليه السلام، فأخذ تُرابًا من أثر حافرِه، ثم أقبل إلى النار فقذَفه فيها، وقال: كُنْ عِجْلًا
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"هي".
(2)
في م: "ما شئت". وينظر مجاز القرآن 2/ 26.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"يقول".
جسَدًا له خُوَارٌ. فكان للبلاء
(1)
والفتنة
(2)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: قبض قبضةً
(3)
من أثر جبريل، فألْقى القبضةَ على حُليِّهم، فصار عِجْلًا جسَدًا له خُوارٌ، فقال: هذا إِلَهُكم وإلَهُ موسى
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} . قال: من تحت حافرِ فرس جبريل، فنبَذه السامريُّ على حلية بني إسرائيل، فانْسَبك عِجْلًا جَسَدًا له خُوارٌ، حفيفُ الريح فيه فهو خُوارُه
(5)
.
قال أبو جعفر: والعجلُ ولدُ البقرة.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ هذين الحرفين؛ فقرأته عامَّةُ قرأة المدينة والبصرة: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} بالياء
(6)
بمعنى: قال السامريُّ: بَصُرتُ بما لم يَبصُرْ به بنو إسرائيلَ.
وقرَأ ذلك عامَّةُ قرَأةِ الكوفة: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ) بالتاءِ
(7)
، على وَجْهِ
(1)
في الأصل: "البلاء".
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 673.
(3)
بعده في م: "منه".
(4)
تقدم تخريجه في ص 136.
(5)
تفسير مجاهد ص 465، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 424.
(7)
وهى قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
المخاطَبَة لموسى وأصحابه، بمعنَى: قال السامريُّ لموسى: بَصُرتُ بما لم تَبْصُرْ بِهِ أَنتَ وأصحابُك.
والقولُ في ذلك عِندِى أنَّهما قراءتان مَعْروفتان، قد قرأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرأة، مع صحَّة معنى كلِّ واحدةٍ منهما، وذلك أَنَّه جائزٌ أن يكونَ السامريُّ رأى جبريلَ، فكان عندَه - إما
(1)
بأن حَدَّثَته نفسُه بذلك، أو بغير ذلك من الأسباب - أن ترابَ حافرِ فرسه الذي كان عليه يَصْلُحُ لما حُدِّثَ عنه حينَ نَبَذَه في جَوْفِ العجل، ولم يكنْ عِلْمُ ذلك عند موسى، ولا عندَ أصحابه من بني إسرائيل، فلذلك قال لموسى:(بَصُرْتُ بما لم تَبصُروا به). أي: عَلِمْتُ بما لم تَعْلَموا به. وأما إذا قُرِئَ: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} بالياءِ، فلا مؤنةَ فيه؛ لأنه معلومٌ أن بنى إسرائيل لم يَعْلَموا ما الذي يَصْلُحُ له ذلك الترابُ.
وأما قولُه: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} . فإن قرَأَةَ الأمصار على قراءته بالضادِ، بمعنى: فأخذتُ بكَفِّي كلِّها
(2)
ترابًا من تراب أَثَرِ فرس الرسول.
ورُوِيَ عن الحسن البصريِّ وقتادةَ ما حدَّثنى أحمدُ بن يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن عبادٍ و
(3)
عوفٍ، عن الحسن أنه قرأها:(فَقَبَصْتُ قَبْصَةً). بالصادِ.
وحدَّثني أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن عبادٍ، عن قتادةَ مثلَ ذلك بالصادِ
(4)
.
(1)
في م: "ما كان"، وفى ت 2:"إما كان".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"بن".
(4)
أخرجه البغوي في الجعديات (3292) من طريق المبارك، عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور =
يعنى: أخذتُ بأصابعى مِن ترابٍ أَثَرِ فرس الرسول عليه السلام، والقَبْضَةُ عند العرب الأخذُ بالكفِّ كلِّها، والقَبْصَةُ الأخْذُ بأطْراف الأصابع.
وقولُه: {فَنَبَذْتُهَا} . يقولُ: فأَلْقَيتُها، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}. يقولُ: وكما فعلتُ من إلقائى القَبْضةَ التي قبضتُ مِن أَثَرِ الرسول
(1)
على الحلية التي أُوقدَ عليها حتى انْسَبَك فصار عجلًا جسدًا له حُوَارٌ، {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}. يقولُ: زَيَّنَتْ لى نفسى أنَّه يكونُ ذلك كذلك.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} . قال: كذلك حدَّثتْني نفسي.
يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى عليه السلام للسَّامِرِيِّ: فاذهب فإن لك في أيام حياتِك أن تقولَ: لا مِسَاسَ. أي: لا أمسُّ ولا أُمَسُّ. وذُكر أن موسى عليه السلام أَمَر بني إسرائيلَ ألَّا يُؤاكلوه، ولا يُخالطوه، ولا يُبايعوه، فلذلك قال له: إن لك في الحياةِ أن تقول لا مِسَاسَ. فبَقِى ذلك فيما ذُكِرَ في قبيلته.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، قال: كان والله السَّامِرِيُّ عظيمًا من عُظماء بنى إسرائيلَ، مِن قبيلةٍ يقالُ لها: سَامِرَةُ. ولكنَّ عدوَّ الله
= 4/ 307 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(1)
في م، ت 1، ف:"الفرس".
نافَقَ بعدَ ما قَطَعَ البحرَ مع بني إسرائيلَ، قولَه:{فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} : فبقاياهم اليومَ يقولون: لا مساسَ
(1)
.
وقولُه: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} . اختلَفت القرَأَةُ في قراءته؛ فقرأته عامةُ قرأَةِ
(2)
المدينة والكوفة: {لَنْ تُخْلَفَهُ} بضَمِّ التاءِ وفَتْحِ اللام
(3)
، بمعنى: وإن لك موعدًا لعذابك وعُقُوبتِك على ما فعلتَ مِن إضْلالك قومى، حتى عبدُوا العجل من دونِ اللهِ، لن يُخْلِفَكه الله، ولكنه يُذِيقَكَه.
وقرأ ذلك الحسنُ وقتادةُ وأبو نَهيك [وأبو عمرٍو]
(4)
: (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلِفَهُ). بضَمِّ التاءِ وكَسْرِ اللام
(5)
، بمعنى: وإن لك موعدًا لن تُخْلِفَه أنت يا سامريُّ. وتأوَّلوه بمعنى: لن تَغِيبَ عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبدُ المؤمن، قال: سمِعتُ أبا نَهِيكِ يقرأُ: (لَن تُخْلِفَهُ): أنت، يقولُ: لن تَغيبَ عنه
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلِفَهُ). يقولُ: لن تَغِيبَ عنه
(7)
.
(1)
ذكر آخره ابن كثير في تفسيره 5/ 307.
(2)
بعده في م: "أهل".
(3)
وهى قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 424.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(5)
وهى قراءة ابن كثير أيضًا. ينظر المصدر السابق.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 307.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
والقولُ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان مُتقاربتا المعنى؛ لأنه لا شكَّ أن الله مُوفٍ وعدَه لخَلْقِه بحَشْرِهم لموقفِ الحسابِ، وأن الخلقَ مُوافوه
(1)
ذلك اليومَ، فلا الله جلَّ وعزَّ مُخْلِفُهم ذلك، ولا هم مُخْلِفُوه بالتَّخَلُّفِ عنه، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمُصيبٌ الصوابَ في ذلك.
وقولُه: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} . يقولُ: وانظرُ إلى معبودِك الذي ظَلْتَ عليه مُقِيمًا تعبُدُه.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} . يقولُ: الذي أقمتَ عليه
(2)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن: أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: فقال له موسى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} . يقولُ: الذي أقمتَ عليه.
وللعرب في "ظلْتَ" لغتان؛ الفتحُ في الظاء، وبها قرأ قرأة الأمصار، والكسرُ فيها، وكأن الذين كَسَروا نَقَلوا حركةَ اللام التي هي عينُ الفعل مِن "ظَلِلْتُ" إليها، ومن فَتَحها، أقَرَّ حركتَها التي كانت لها قبلَ أن يُحْذَفَ منها شيءٌ، والعربُ تفعلُ في الحروفِ التي فيها التضعيفُ ذلك، فيقولون في "مَسِسْتُ": مِسْتُ ومَسْتُ. وفى "هَمَمْتُ" بذلك: هَمْتُ به. وهل أحَسْتَ فلانًا وأحْسَسْتَه؟ كما قال الشاعرُ
(3)
:
(1)
في ص: "موافقوه"، وفى م:"موافون"، وفى ت 1:"موقوفون"، وفى ف:"موافتة".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 28 - من طريق أبي صالح به، وعزاه في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن المنذر.
(3)
هو أبو زبيد الطائى، والبيت في ديوانه (مجموع) ص 96، وفيه: حسسن. ورواية المصنف هي رواية أبي عبيدة في مجاز القرآن 2/ 28.
خَلَا أَنَّ العِتاقَ
(1)
من المطايا
…
أحَسْنَ به فَهُنَّ إِليه شُوسُ
(2)
وقولُه: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} . اختلَفت القرَأَةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأَةِ الحجاز والعراق: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} . بضَمِّ النون وتشديد الراء، بمعنى: لنُحَرِّقَنَّه بالنارِ قطعةً قطعةً.
ورُوي عن الحسن البصريِّ أنه كان يقرأُ ذلك: (لَنُحْرِقَنَّهُ). بضَمِّ النون وتخفيف الراءِ
(3)
، بمعنى: لنُحْرِقَنه بالنار إحْراقةً واحدةً.
وقرَأه أبو جعفر القارئُ: (لَنَحْرُقَنَّهُ). بفتح النون وضمِّ الراء
(4)
، بمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمبارد. مِن: حَرَقْتُه أَحْرُقُه وأَحْرِقُه. كما قال الشاعرُ
(5)
.
بِذِي فَرْقَينِ
(6)
يومَ بنو حَبِيبٍ
…
نيوبَهُمُ علينا يَحْرُقُونا
(7)
والصوابُ في ذلك عندَنا من القراءةِ: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بضمِّ النونِ وتشديدِ الراء، من الإحراق بالنار.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{لَنُحَرِّقَنَّهُ} يقُولُ: بالنار
(8)
.
(1)
العتاق: من الخيل ومن الإبل: النجائب منهما. التاج (ع ت ق).
(2)
الشوس: جمع أشوس والشَّوَس بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا. اللسان (ش و س).
(3)
وهى رواية ابن جماز عن أبي جعفر، وهو من العشرة. النشر 2/ 241، وإتحاف فضلاء البشر ص 188.
(4)
وهى رواية ابن وردان عنه، وقراءة على بن أبي طالب والأعمش. المصدران السابقان.
(5)
هو عامر بن شقيق الضبي، والبيت في الحماسة لأبي تمام 1/ 295.
(6)
ذو فرقين: هضبة في بلاد بني أسد من ناحية الفرات. شرح ديوان الحماسة للتبريزى 2/ 67.
(7)
يقال: هو يحرق أنيابه: إذا حك بعضها ببعض تهديدا
…
ويقال: حرقه بالمبرد إذا برده. المصدر السابق.
(8)
تقدم أوله في الصفحة السابقة.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَنُحَرِّقَنَّهُ} : فَحَرَّقَه ثم ذَرَّاه في اليَمِّ.
وإنما اخترتُ هذه القراءة لإجماع الحُجَّة من القرَأَة عليها، وأما أبو جعفرٍ، فإنى أحسَبُه ذَهَب إلى ما حدَّثنا به موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} : ثم أخَذَه فذَبَحه، ثم حَرَقَه بالمِبْردِ، ثم ذَرَّاه في اليمِّ، فلم يَبْقَ بحرٌ يجرى
(1)
يَوْمَئِذٍ إِلا وَقَع فيه شيءٌ منه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} . قال: وفى بعض القراءةِ: (لَنَذْبَحَنَّهُ ثم لنَحْرُقَنَّه ثم لَنَنْسِفَنَّه في اليَمِّ نَسْفًا)
(3)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرَنا عبدُ الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قَتادةَ: في حرف ابن مسعودٍ (وانْظُرْ إلى إلهك الذي ظَلْتَ عليه عاكفًا لنَذْبَحَنَّه ثم لَنَحْرُقَنَّه ثم لنَنْسِفَنَّه في اليمِّ نسْفًا)
(4)
.
وقولُه: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} . يقولُ: ثم لنُذَرِّيَّنَّه في البحرِ تذريةٌ. يقال منه: نَسَفَ فلانٌ الطعامَ بالمِنْسَف. إذا ذَراه
(5)
فَطَيَّرَ عنه قُشُورَه وترابَه
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
تقدم تخريجه في ص 140.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن أبي حاتم وفيه زيادة.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 18 وسقط منه: ثم لنذبحنه ثم. وهى في مصحف أبي كما في حرف ابن مسعود. ينظر البحر المحيط 6/ 276.
(5)
بعده في ت 2: "في الهواء".
باليَد أو بالريح. [يقالُ: ذرا يَذْرُو، وذرَى يَذْرى، وذَرَّى يُذَرِّى، تَذْرِيةً ونسفًا بمعنًى واحدٍ]
(1)
.
وبنحو الذي قلنا في تأويل
(2)
ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، قوله:{ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} . يقولُ: لَنُذَرِّيَنَّه في البحرِ
(3)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه،، عن ابن عباسٍ، قال: ذَرَّاه في اليَمِّ، واليَمُّ البحرُ
(4)
.
وحدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: ذَرَّاه في اليَمِّ
(5)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فِي الْيَمِّ} . قال: في البحر.
وقولُه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . يقولُ: ما لكم أيُّها القومُ معبودٌ إلا الله
(6)
الذي له عبادةُ جميع الخلق، لا تَصْلُحُ العبادةُ لغيره، ولا تَنْبَغى أن تكون إلا له، {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}. يقولُ: أحاطَ بِكُلِّ شيءٍ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(3)
تقدم تخريجه في ص 154.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن أبي حاتم دون قوله: ذراه في اليم.
(5)
تقدم تخريجه في ص 140.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
علمًا فعَلِمَه، فلا يَخْفَى عليه [منه شيءٌ ولا يَضِيقُ عليه]
(1)
علمُ جميع ذلك. يقالُ منه: فلانٌ يَسَعُ لهذا الأمر. إذا أطاقه وقَوىَ عليه، ولا يَسَعُ له. إذا عَجَزَ عنه فلم يُطِقْه ولم يَقْوَ عليه.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} . يقولُ: مَلأَ كلَّ شيءٍ علمًا، تبارك وتعالى
(2)
.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤُه: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: كما قَصَصْنا عليك يا محمدُ نَبأ موسى
وفرعونَ وقومه وأخبار بني إسرائيل مع موسى، {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ}. يقولُ: كذلك نخبرُك بأنباء الأشياء التي قد سَبَقَت مِن قَبْلِك ولم تُشاهدها ولم تُعاينْها.
وقولُه: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه لمحمد صلى الله عليه وسلم: وقد آتيناك يا محمدُ من عندنا ذِكْرًا يَتَذَكَّرُ به ويَتَّعِظُ
(3)
أهلُ العقل والفَهْم، وهو هذا القرآنُ الذي أنزلَه الله عليه، فجَعَلَه ذِكْرَى للعالمين.
وقولُه: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: مَن وَلَّى عنه فأَدْبَرَ ولم يُصَدَّقْ به ولم يُقرَّ، {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}. يقولُ: فإنه يأتى ربَّه يومَ القيامةِ يحمِلُ
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
بعده في م، ت 2:"به".
حملًا ثقيلًا، وذلك الإثمُ العظيمُ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} . قال: إثمًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤُه: {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ
(2)
فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: خالدين في وِزْرِهم. فأخرج الخبرَ جَلَّ ثناؤُه عن هؤلاء المُعْرِضِين عن ذكره في الدنيا أنهم خالدون في أوْزارِهم، والمعنى أنهم خالدون في النارِ بأوْزارهم، ولكن لمَّا كان معلومًا المرادُ من الكلام، اكْتُفي بما ذُكر عما لم يُذْكَرُ.
وقولُه: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وساءَ ذلك الحمْلُ والثِّقَلُ من الإثم يومَ القيامةِ حِمْلًا. وحُقَّ لهم أن يَسُوءُهم ذلك، وقد أوردَهم مَهْلَكةً لا مَنْجَا منها.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 466، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 2، ف:"ننفخ". وهما قراءتان كما سيأتي.
قوله: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} . يقولُ: بئسمَا حَمَلوا
(1)
.
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} : يعنى بذلك ذنوبهم.
وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وساء لهم يوم القيامةِ، يوم ينفخُ في الصور. فقوله:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} رَدٌّ على {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وقد بيَّنَّا معنى النَّفْخِ في الصور، وذكرنا اختلاف المختلفين في معنى الصور، والصحيح في ذلك من القول عندنا بشواهده المُغنية عن إعادته في هذا الموضع قبلُ
(2)
.
واختلفت القرَأَةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأَةِ الأمصارِ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} . بالياءِ وضَمَّها
(3)
، على وجهِ
(4)
ما لم يُسَمَّ فاعلُه، بمعنى: يومَ يَأْمُرُ اللهُ إسرافيلَ فينفخُ في الصور. وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأُ ذلك: (يَوْمَ نَنْفُخُ فِي الصُّورِ). بالنون، بمعنى: يومَ ننفخُ نحن في الصور. وكأنَّ الذي دعاه إلى قراءة ذلك كذلك طَلَبُه التوفيق بينه وبين قوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} . إذ كان لا خلاف بين القرأَةِ في {وَنَحْشُرُ} أنها بالنون.
والذي أختارُ في ذلك من القراءة: {يَوْمَ يُنْفَخُ} . بالياء، على وَجْهِ ما لم يُسمَّ فاعلُه؛ لأن ذلك هو القراءة التي عليها قرأةُ الأمصار، وإن كان للذى قرأ به
(4)
أبو
(1)
تقدم تخريجه في ص 154.
(2)
ينظر ما تقدم في 9/ 339 - 341.
(3)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، وقرأ أبو عمرو بالنون كما سيأتي. ينظر حجة القراءات ص 463.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
عمرٍو وَجْهٌ غيرُ فاسدٍ.
وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} . يقول تعالى ذكرُه: ونسوقُ أهلَ الكفر باللهِ يومئذٍ إلى موقف القيامةِ زُرْقًا. فقيل: عَنى بالزُّرْقِ في هذا الموضع ما يظهرُ في أعينهم من شدة العَطَشِ الذي يكونُ بهم عند الحشرِ، لِرَأْي العين، مِن الزَّرَقِ. وقيل: أُريدَ بذلك أنهم يُحْشَرون عُمْيًا، كالذى قال الله:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} [الإسراء: 97].
وقوله: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} . يقول تعالى ذكره:
يتهامسون بينهم، ويُسرُّ بعضُهم إلى بعضٍ: إن لبثتُم في الدنيا. يعنى أنهم يقولُ بعضهم لبعضٍ: ما لبثتُم في الدنيا إلا عَشْرًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} . يقولُ: يَتَسَارُّونَ
(1)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} . أي: يَتَسارُّون
(2)
بينهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} .
(1)
في ب، ت 1، ف:"يتشاورون"، وفى م:"يتسارون بينهم".
والأمر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ف:"يتشاورون".
يقول تعالى ذكره: {نَحْنُ أَعْلَمُ} منهم عندَ إسْرارِهم وتَخافُتِهم بينهم بقيلهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} - {بِمَا يَقُولُونَ} : لا يخفى علينا مما يتسارُّونه بينَهم شيءٌ، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}. يقولُ تعالى ذكرُه: حين يقولُ أوفاهم عقلًا، وأعلمهم فيهم: إن لبِثتُم في الدنيا إلا يومًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد
(1)
في قوله: قوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} . [يقولُ أعلمُهم في أنفسهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}
(2)
.
حدَّثنا أبو كريب، قال: حدَّثنا ابن يَمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قوله:{أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} ]
(3)
. قال: أَوْفاهم عقلًا
(4)
.
وإنما عنى جلَّ ثناؤُه بالخبر عن قيلهم هذا القول يومئذٍ، إعلامَ عباده أن أهل الكفرِ به يَنْسَون - مِن عظيم ما يُعاينون مِن هَوْلِ يوم القيامة، وشدة جَزَعِهم من عظيم ما يردون عليه - ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم واللذَّاتِ، ومبلغ ما عاشوا فيها من الأزمانِ، حتى يُخَيَّلَ إلى أَعْقَلِهم فيهم وأَذْكَرِهم وأَفْهَمِهم، أنهم لم يَعِيشوا فيها إلا يومًا.
القول في تأويل قوله جل ثناؤُه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي
(1)
في ص، م، ت 2، ف:"شعبة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 307 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م، ف.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 288 من طريق ابن يمان به.
نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}.
يقول تعالى ذكره: ويسألك يا محمد قومُك عن الجبال، فقُل لهم: يُذَرِّيها ربِّي تَذْرِيةً، ويُطَيِّرُها بقَلْعِها واستئصالها من أُصُولِها، ودَكِّ بعضها على بعض، وتصْييره إياها هَباءً مُنْبثًّا، {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}. يقول تعالى ذكرُه: فيَدَعُ أماكنها من الأرضِ إذا نَسَفَها نَسْفًا - {قَاعًا} . يعنى: أرضًا ملساء، {صَفْصَفًا}: مُسْتَوِيًا لا نبات فيه ولا نَشَزَ ولا ارتفاع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{قَاعًا صَفْصَفًا} . يقولُ: مُسْتَوِيًا لا نباتَ فيه
(1)
.
وحدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} . قال: مُسْتَوِيًا، الصَّفْصَفُ المُسْتَوِى.
وحدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{صَفْصَفًا} . قال: مُسْتَوِيًا
(2)
.
وحدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
وحدَّثني يونس، قال: أخبرنا عبد الله بن يوسفَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بن لهيعةَ،
(1)
تقدم تخريجه في ص 154.
(2)
تفسير مجاهد ص 466، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد.
قال: ثنا أبو الأسود، عن عروة، قال: كُنَّا قُعُودًا عند عبد الملك بن مروان حين قال: قال
(1)
كعبٌ: إن الصخرة موضعُ قدم الرحمن يوم القيامة. فقال: كَذَبَ كعبٌ، إنما الصخرةُ جبلٌ من الجبال، إن الله يقولُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} . فَسَكَتَ عبد الملكِ.
وكان بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل الكوفة يقولُ
(2)
: القاعُ، مستنقَعُ الماءِ، والصَّفْصَفُ، الذي لا نبات فيه.
وقوله: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} . يقولُ: لا تَرَى في الأَرضِ عِوَجًا ولا أمتًا.
واختلف أهل التأويل في معنى "العِوَج" و "الأَمْتِ"؛ فقال بعضُهم: عَنَى بالعوج في هذا الموضع الأودية، وبالأَمْتِ الرَّوابي والنُّشُوزَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} . يقولُ: واديًا، {وَلَا أَمْتًا}. يقولُ: رابيةً
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ المُخَرِّمِيُّ، قال: ثنا أبو عامر العَقدِيُّ
(4)
، عن عبدِ الواحد بن صفوان مولى عثمان، قال: سمعتُ عكرمة يقولُ: سُئل ابن عباسٍ عن قوله: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} . قال: هي الأرضُ البيضاء - أو قال:
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 191، وفيه: الصفصف الأملس
…
.
(3)
تقدم تخريجه في ص 154.
(4)
في ت 1، ف:"العقيلي". وينظر تهذيب الكمال 18/ 364.
المَلْساءُ - التي ليس فيها لَبِنةٌ مرتفعةٌ
(1)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:[{عِوَجًا}. قال: الانخفاض، {أَمْتًا}. قال: ارتفاعًا]
(2)
.
[حدَّثنا القاسم، قال: نا الحسين، قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}. قال: ارتفاعًا ولا انخفاضًا]
(3)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} . قال: ولا تَعادِي، الأَمْتُ التَّعَادِي.
وقال آخرون
(4)
: عَنَى بالعِوَج في هذا الموضع الصُّدُوعَ، وبالأَمْتِ الارتفاع من الآكام وأشباهها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قَتادةَ في قوله:{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} . قال: صَدْعًا، {وَلَا أَمْتًا}. يقولُ: ولا أَكمةً
(5)
.
وقال آخرون: عَنَى بالعوج الميلَ، وبالأَمْتِ الأَثَرَ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 408 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"لا ترى فيها عوجا ولا أمتا". قال: ارتفاعا ولا انخفاضا".
والأثر تقدم تخريجه في ص 163.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(4)
بعده في م، ت 2:"بل".
(5)
تفسير عبد الرزاق 2/ 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} . يقولُ: لا تَرَى فيها ميلًا، والأمْتُ الأَثَرُ مثلُ الشِّرَاكِ
(1)
.
وقال آخرون: الأَمْتُ المَحانِي والحدابُ
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، قال: الأمْتُ الحَدَبُ.
وأَوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: عَنى بالعوج الميل؛ وذلك أن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
فإن قال قائلٌ: وهل في الأرضِ اليومَ مِن عِوَجٍ فيقال: لا تَرَى فيها يومئذٍ عِوَجًا؟
قيل: إن معنى ذلك: ليس فيها أوديةٌ وموانع تمنع الناظر أو السائر فيها عن الأخذ على استقامةٍ، كما يحتاج اليومَ مَن أخذ في بعض سُبُلِها إلى الأخذ أحيانًا يمينًا وأحيانًا شمالًا، لما فيها من الجبال والأودية والبحار.
وأما "الأمْتُ" فإنه عند العرب الانْثِناءُ والضَّعْفُ. مسموعٌ منهم: مَدَّ حَبْلَه حتى ما تَرَك فيه أمْتًا. أي: انْثِناءً، ومَلأَ سِقاءَه حتى ما تَرَك فيه أمْتًا. ومنه قولُ الراجزِ
(3)
:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في م: "الأحداب". وكلاهما جمع الحدب.
(3)
هو العجاج، والبيت في اللسان (أ م ت)، (خ م س) وروايته:
ما في انطلاق ركبه من أمت.
* ما في انجذاب سَيْرِه مِن أمْتِ *
يعنى: مِن وَهْنٍ وضَعْفٍ. فالواجبُ - إذ كان ذلك معنى الأمْتِ عِندَهم - أن يكون أصوبُ الأقوال في تأويله: ولا ارتفاع ولا انخفاض؛ لأن الانخفاض [لن يكون]
(1)
إلا عن ارتفاع. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلام: لا تَرَى فيها ميلًا عن الاستواء، ولا ارتفاعًا ولا انخفاضًا، ولكنها مستويةٌ ملساء، كما قال جلّ ثناؤه:{قَاعًا صَفْصَفًا} .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} .
يقول تعالى ذكره: يومَئِذٍ يَتَّبِعُ الناسُ صوت داعى الله الذي يَدْعُوهم إلى موقف القيامة، فيَحْشُرُهم إليه، {لَا عِوَجَ لَهُ}. يقول: لا عِوَجَ لهم عنه ولا انحراف، ولكنَّهم سراعًا إليه يَنْحَشِرون. وقيل: لا عِوَجَ له. والمعنى: لا عِوَجَ لهم عنه؛ لأن معنى الكلام ما ذكرنا من أنه لا يعوجون له ولا عنه، ولكنَّهم يَؤُمُّونه ويَأْتونه، كما يقال في الكلام: دعانى فلان دعوة لا عِوَجَ لي عنها. أي: لا أعْوج عنها.
وقوله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} . يقول تعالى ذكره: وسَكَنت
(2)
أصواتُ الخلائق للرحمنِ. فوصَفَ الأصوات بالخشوع، والمعنى لأهْلِها أنهم خُضَّعٌ جميعهم لربِّهم، فلا تَسْمَعُ لناطقٍ منهم مَنْطقًا إِلا مَن أَذِنَ له الرحمنُ.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"لم يكن".
(2)
في الأصل: "سكتت".
عباس قولَه: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} . يقولُ: سَكَنَت
(1)
.
وقوله: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . قيل
(2)
: إنه وطءُ الأَقْدامِ إلى المَحْشَرِ. وأصله الصوت الخفيُّ، يقال: هَمَسَ فلانٌ إلى فلانٍ بحديثه. إذا أسرَّه إليه وأخفاه، ومنه قول الراجز
(3)
:
وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَا
إِنْ تَصْدُقِ الطيرُ نَنِكْ لَمِيسَا
يعنى بالهَمْس صوتَ أخْفافِ الإبل في سيْرِها.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريب، قال: ثنا عليٌّ بن عابسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . قال: وَطْءَ الأقدام
(4)
.
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} : يعنى هَمْسَ الأَقْدامِ، وهو الوَطْءُ.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:
(1)
تقدم تخريجه في ص 154.
(2)
في م، ت 2:"يقول".
(3)
تقدم تخريجه في 3/ 459.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأخرجه البغوي في الجعديات (2215) من طريق سالم، عن سعيد قوله.
{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . يقول: الصوت الخفيَّ
(1)
.
حدَّثنا إسماعيل بن موسى السُّدِّيُّ، قال: أخبرنا شَرِيكٌ، عن عبد الرحمن بن الأصْبهانيِّ، عن عكرمة:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . قال: وطعَ الأَقْدامِ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا حمادٌ، عن حميدٍ، عن الحسنِ:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . قال: هَمْس الأقدام
(3)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٍ، عن قتادة:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . قال قتادةُ: كان الحسنُ يقولُ: وَقْعَ أَقْدامِ القومِ.
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} ، قال: تَهافُتًا. أو
(4)
قال: تخافُت الكلام.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{هَمْسًا} . قال: خَفْضَ الصوتِ
(5)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ، قال: خَفْضَ الصوتِ. قال: وأخبرنى عبد الله بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال: كلام الإنسان، لا تسمعُ تَحَرُّكَ شَفَتَيه ولسانه
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . يقولُ: لا تسمعُ إلا مَشْيًا. قال: المَشْىُ الهمسُ؛ وطءُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد.
(3)
تفسير مجاهد ص 466 من طريق حماد به.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"و".
(5)
تفسير مجاهد ص 466.
الأقدام
(1)
.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤُه: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} .
يقول تعالى ذكره: يومَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشفاعة إلا شفاعَةَ مَن أذن له الرحمن أن يشْفَعَ ورضى له قوله
(2)
(3)
.
وأدخل في الكلام {له} دليلًا على إضافة القول إلى كناية {مَنْ} . وذلك كقول القائل لآخرَ: رَضِيتُ لك عملك، ورَضِيتُه منك.
وموضع {مَنْ} مِن قوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} نصبٌ؛ لأنه خلاف
(4)
الشفاعة.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكره: يعلمُ ربُّك يا محمد ما بين أيدى هؤلاء الذين يَتَّبِعون الداعى مِن أمرِ القيامة، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب، {وَمَا خَلْفَهُمْ}. يقولُ: ويعلمُ أَمرَ مَا خَلَّفوه وراءهم مِن أمر الدنيا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {يَعْلَمُ مَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"قولا".
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 310.
(4)
النصب على الخلاف من العوامل المعنوية عند الكوفيين، ومنه استعماله في نصب المستثنى؛ لأنه مخالف للمستثنى منه وليس من جنسه. ينظر مصطلحات النحو الكوفى ص 101 - 105، والمصطلح النحوى ص 187 - 189، وينظر الكتاب 2/ 330.
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. [يقولُ: يعلمُ ما بين أيديهم]
(1)
مِن أمر الساعةِ، {وَمَا خَلْفَهُمْ}
(2)
: من أمر الدنيا
وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . يقول تعالى ذكرُه: ولا يُحِيطُ خلقُه به علمًا.
ومعنى الكلام أنه محيطٌ بعباده علمًا، ولا يُحِيطُ عباده به علمًا.
وقد زَعَم بعضُهم
(3)
أن معنى ذلك، أن الله يعلم ما بين أيدى ملائكته وما خَلْفَهم، وأن ملائكته لا يُحيطون علمًا
(4)
بما بين أيدى [أنفسها وما خلفها]
(5)
. وقال: إنما أعلم بذلك الذين كانوا يعبدون الملائكة، أن الملائكة كذلك لا تعلمُ ما بين أيديها وما خلفَها، مُوَبِّخَهم بذلك، ومعرِّفهم
(6)
بأن مَن كان كذلك فكيف يُعْبَدُ
(7)
! وأن العبادةَ إنما تصلُحُ لَمَن لا تَخْفَى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماء.
القول في تأويل قولِه جل ثناؤه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)} .
يقول تعالى ذكره: استأْسرت
(8)
وجوه الخلق واسْتَسْلَمَت للحيِّ الذي لا
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ف.
(2)
بعده في ت 2: "وراءهم".
(3)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 192.
(4)
فوقها إحالة في الأصل، وتوجد كلمة غير مقروءة في الحاشية.
(5)
في م: "أنفسهم وما خلفهم".
(6)
في ص: "مفزعهم"، وفى م، ت 1، ت 2، ف:"مقرعهم".
(7)
في ت 2، ت 3:"يعبدون".
(8)
في م: "استسرت".
يموتُ، القيوم على خَلْقِه بتدبيره إياهم، وتصريفهم لما شاءُوا. وأَصلُ العُنُوِّ الذُّلُّ، يقالُ منه: عَنا وجهه لربِّه يَعْنُو عُنُوًّا. يعنى به
(1)
: خَضَع له وذَلَّ؛ ولذلك
(2)
قيل للأسير: عانٍ. لذلَّةِ الأسْرِ. وأما قولُهم: أخذتُ الشيءَ عَنْوَةً. فإنه يكونُ وإن كان معناه يَئُولُ إلى هذا أن يكونَ أخذه غَلَبَةً، ويكون أخذه عن تسليمٍ وطاعةٍ، كما قال الشاعر:
(3)
.
هل أنتَ مُطِيعى أَيُّها القلبُ عَنْوة
…
ولم تُلْحَ نفسٌ
(4)
لم تُلَمْ في احتيالها
(5)
وقال آخرُ
(6)
:
فما أَخَذُوها عَنْوةً عن مَودَّةٍ
…
ولكن بضرب
(7)
المَشْرَفيِّ
(8)
اسْتَقالَها
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . يقولُ: ذَلَّتْ
(9)
.
(1)
سقط من: م، وفى ت 2:"به يعنى".
(2)
في ص، م، ف:"كذلك".
(3)
هو كثير عزة، والبيت في ديوانه (مجموع) ص 93.
(4)
في الديوان: "نفسا".
(5)
في م، ت 1:"اختيالها".
(6)
هو كثير عزة أيضا، والبيت في ديوانه ص 80 وفيه:"تركوها" بدل "أخذوها"، و "بحد" بدل "بضرب"، وهو في معاني القرآن للفراء 2/ 193 بنفس رواية المصنف.
(7)
في م: "بحد".
(8)
يقال: سيوف مشرفية. نسبة إلى المشارف وهى قرى من أرض اليمن. اللسان (ش ر ف).
(9)
تقدم تخريجه في ص 154.
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثني أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . يعنى: [اسْتَسلَمت إليَّ]
(1)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} . قال: خَشَعَت
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٍ، عن قتادة قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . أي: ذَلَّتِ الوجوه للحيِّ القيوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} . قال: ذَلَّتِ الوجوه
(3)
.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قال طلقٌ: إذا سَجَد الرجلُ فقد عَنا وجهه. أو قال: عُنى
(4)
.
حدثني أبو حَصِين عبد الله بن أحمد، قال: ثنا عَبْثرٌ، قال: ثنا حصينٌ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن طَلْقٍ بن حبيب في هذه الآية:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قال: هو وَضْعُ الرجل رأسه ويديه وأطرافَ قَدَمَيه.
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"بعنت استسلموا لى"، وفي ت 2:"بعنت أي استسلموا لى".
(2)
تفسير مجاهد ص 466، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في ت 2: "للحي القيوم".
والأثر في تفسير عبد الرزاق 2/ 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ف:"عنا".
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن لَيْثٍ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن طَلْقٍ بن حبيبٍ في قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قال: هو وَضْعُك جبهتك وكَفَّيك ورُكْبَتَيك وأطراف قدميك في السجودِ.
حدَّثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا محمدُ بنُ فضيلٍ، عن حُصينٍ، عن عمرو بن مُرَّةَ، عن طَلْقٍ بن حبيب في قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قال: وَضْعُ الجبهة والأنف على الأرض.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا حُصين، عن عمرو بن مُرَّةَ، عن طَلْقٍ بن حبيبٍ في قوله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قال: هو السجودٌ على الجبهة والراحتين
(1)
والركبتين والقدمين
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قال: اسْتأْسَرتِ الوجوه للحيِّ القيوم، صاروا أُسارى كلُّهم له. قال: والعانى الأسير
(3)
.
وقد بَيَّنا معنى "الحيِّ القيوم" فيما مَضَى بما أغنى عن إعادتِه هاهنا
(4)
.
وقولُه: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} . يقول تعالى ذكره: ولم يَظْفَرْ بحاجتِه وطَلِبَتِه مَن حَمَل إلى موقف القيامة شركًا بالله، وكفرًا به، وعملًا بمعصيته.
(1)
في م: "الراحة".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 261 عن هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
ينظر ما تقدم في 4/ 527 - 530.
وبنحو الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} . قال: مَن حَمَل شِركًا
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} . قال: مَن حَمَل شِرْكًا، الظلمُ هاهنا الشِّرْكُ.
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} .
[يعنى تعالى ذكره بقوله]
(2)
: ومَن يَعْمَلْ من صالحات الأعمال، وذلك - فيما قيل - أداء فرائض الله التي فَرَضَها على عباده، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. يقولُ: وهو مُصَدَّقٌ باللَّهِ، وأنه مُجَازٍ أهل طاعته [على طاعته]
(3)
، وأهلَ مَعاصِيه على معاصيهم، {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا}. يقولُ: فلا يخافُ مِن الله أن يَظْلِمَه، فيحمل عليه سيئاتِ غيره، فيعاقبه عليها، {وَلَا هَضْمًا}. يقولُ: ولا يخافُ أَن يَهْضِمَه حسناتِه، فيَنْقُصه ثوابها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
(1)
تقدم تخريجه في ص 173.
(2)
في م، ف:"يقول تعالى ذكره وتقدست أسماؤه".
(3)
سقط من: م، ت 1، ف، وفى ص:"على طاعته".
الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: وإنما يَقْبَلُ اللهُ مِن العمل ما كان في إيمانٍ.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قوله {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. قال: زَعموا أنها الفرائضُ.
ذكرُ مَن قال ما قُلنا في معنى قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}
حدَّثنا أبو كريبٍ وسليمانُ بن عبد الجبار، قالا: ثنا ابن عطية، عن إسرائيل، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . قال: {هَضْمًا} غَصْبًا
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . قال: لا يخافُ ابْنُ آدمَ يومَ القيامة أن يُظْلَم فيزادَ عليه في سيئاتِه، ولا يُظْلَمُ فَيُهْضَمَ من
(2)
حسناتِه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . يقولُ: أنا قاهِرٌ لكم اليوم، آخُذُكم بقُوَّتى وشِدَّتى، وأنا قادرٌ على قهركم وهَضْمِكم، فإنما بينى وبينكم العدلُ، وذلك يومَ القيامةِ.
حُدِّثتُ عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} : أما {هَضْمًا} فهو أن يَقْهَرَ الرجلُ الرجلَ بِقُوَّتِه، يقولُ اللَّهُ يومَ القيامة:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى الفريابى وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "في".
(3)
تقدم تخريجه في ص 154.
لا آخُذُكم بقوَّتى وشِدَّتى، ولكن العدل بيني وبينكم، ولا ظلم عليكم.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{هَضْمًا} . قال: انتقاص شيءٍ مِن حقٍّ
(1)
عَمله
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسروقيُّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن مسعرٍ، قال: سمعتُ حبيب بن أبى ثابتٍ يقولُ في قوله: {وَلَا هَضْمًا} . قال: الهَضْمُ الانتقاص.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله:{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . قال: ظُلْمًا أن يُزادَ في سيئاتِه، ولا يُهْضَمَ من حسناته
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . [أي: لا يخافُ أن يُحمل عليه ذنب غيره، ولا يهضم من حسناته.
حدَّثني يونسُ: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} ]
(4)
. قال: لا يخافُ أن يُظْلَمَ فلا يُجْزَى بعمله، ولا يخافُ أن
(1)
في ص، ت 1:"حقه".
(2)
تقدم تخريجه في ص 173.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 308 إلى عبد بن حميد.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
يُنْتَقَصَ مِن حَقِّه فلا يوَفَّى عمله
(1)
.
حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا سَلَّامُ بنُ مسكينٍ، عن ميمون بن سِيَاهٍ، عن الحسنِ في قولِ اللهِ:{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} . قال: لا يَنْتَقِصُ الله حسناته شيئًا، ولا يحمِلُ عليه ذنب مُسِيءٍ.
وأصلُ الهَضْمِ النَّقْصُ، يقالُ: هَضَمَنى فلانٌ حَقِّى
(2)
. ومنه امرأةٌ هَضِيمُ الكشح
(3)
. أي: ضامرةُ البطن. ومنه قولُهم: قد هُضِمَ الطعامُ. إِذا ذَهَبَ، وهَضَمْتُ لك من حقِّك. أي: حَطَطتُك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} .
يقول تعالى ذكره: كما رغَّبنا أهلَ الإيمان في صالحات الأعمال [بوعدناهم ما وعدنا]
(4)
، كذلك حذَّرْنا بالوعيد أهل الكفر المُقام
(5)
على معاصينا وكفرهم بآياتنا، فأنزلنا هذا القرآن عربيًّا، إذ كانوا عَرَبًا، {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} فبيَّنَّاه. يقولُ: وخوَّفناهم فيه بضروب من الوعيدِ، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. يقولُ: كى يتقُونا بتصريفنا ما صرَّفنا فيه من الوعيد، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}. يقولُ: أو يحدثُ لهم هذا القرآنُ تذكرةً، [فيعتبروا ويتعظوا]
(6)
بفعلنا بالأمم التي كذَّبت الرسل قبلها،
(1)
ذكره ابن الجوزى في زاد المسير 5/ 324.
(2)
في ت 2: "حقه".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(4)
في م، ت 2:"بوعدناهم ما وعدناهم"، وفى ت 1:"توعدناهم ما وعدناهم"، وفى ف:"بوعدنا ما وعدناهم".
(5)
في م: "بالمقام".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ف:"فيعتبرون ويتعظون".
وينزجروا
(1)
عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : ما حُذِّروا به مِن أمرِ اللَّهِ وعذابه
(2)
، ووقائعه بالأمم قبلهم، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}: أي جِدًّا وورعًا.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
(3)
ذِكْرًا}. قال: جِدًّا ووَرَعًا
(4)
.
وقد قال بعضهم
(5)
في {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أن معناه: أو يُحْدِثُ لهم شرفًا بإيمانهم به.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤُه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} .
يقول تعالى ذكره: فارتفع الذي له العبادةُ مِن جميع خلقه، الملكُ الذي قَهَرَ سلطانه كلَّ مَلِكٍ وجَبَّارٍ، الحقُّ، عما يَصِفُه به المشركون به مِن خلقِه، {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}. يقول جلَّ ثناؤه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"ينزجرون".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"عقابه".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"القرآن".
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 193.
ولا تَعْجَلْ يا محمد بالقرآن فتُقْرِتَه أصحابك، أو تَقْرَأَه عليهم، من قبل أن يُوحَى إليك بيانُ معانيه. فعُوتِبَ
(1)
على إكتابه وإملائه ما كان اللَّهُ يُنَزِّلُه عليه من كتابه مَنْ كان يُكتبه ذلك من قبل أن يُبيِّن له معانيه، وقيل له: لا تتلُه على أحدٍ، ولا تُمله عليه حتى نبيِّنه لك.
[وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل]
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} . قال: لا تَتْلُه على أحدٍ حتى نبيِّنَه
(3)
لك
(4)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، [عن مجاهدٍ]
(5)
، قال: يقولُ: لا تُملِه
(6)
على أحد حتى نُتِمَّه لك. هكذا قال القاسمُ: حتى نُتمَّه
(7)
.
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ
(1)
في ص، ف:"يقول".
(2)
سقط من: الأصل الأصل، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ف: "نتمه".
(4)
تفسير مجاهد ص 467، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: ص، م، ف.
(6)
في ص، م، ت 1، ف:"تتله".
(7)
في الأصل: "تتمه".
وَحْيُهُ}. يعنى: لا تعجل حتى نبيِّنه لك
(1)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} . أي: بيانُه.
وحدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة [في قوله]
(2)
: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} . قال: تبيانُه
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى وابنُ بشارٍ، قالا: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبة، عن قتادة:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} . قال: من قبل أن يُبيَّنَ لك بيانُه
(4)
.
وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . يقول تعالى ذكره: وقل يا محمدُ: ربِّ زدني علمًا إلى ما علَّمتنى. أمره بمسألته
(5)
من فوائد العلم ما لا يعلمُ.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} .
يقول تعالى ذكره: وإن يُضَيِّع يا محمد هؤلاء الذين نُصَرِّفُ لهم في هذا القرآن
(6)
الوعيد، عهدى، ويخالفوا أمرى، ويترُكوا طاعتى، ويتَّبعوا أمر عدوِّهم إبليس، ويطيعوه في خلاف أمرى، فقديمًا ما فعل ذلك أبوهم آدم، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا} إليه. يقولُ: ولقد وصَّينا آدمَ وقلنا له: {إِنّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"ولا تعجل بالقرآن".
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 20، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه البغوي في الجعديات (1007) عن شعبة به.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ف، وفى ت 2:"لمسئلته".
(6)
بعده في م، ت 2:"من".
الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]. فوسوس إليه الشيطان فأطاعه، وخالف أمرى، فحلَّ به من عقوبتى ما حلَّ.
وعنى جلَّ ثناؤه بقوله: {مِنْ قَبْلُ} : من قبل هؤلاء الذين أخبر أنه صرَّف لهم الوعيد في هذا القرآن.
وقوله: {فَنَسِيَ} . يقولُ: فترَك عهدى.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . يقولُ: فترك
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَنَسِيَ} . قال: ترَك أمرَ ربِّه
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . قال: قال له: {يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} . فقرأ حتى بلغ: {لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . وقرأ حتى بلغ {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} . قال: فنسى ما عهِد الله إليه في ذلك. قال: وهذا عهد الله إليه. قال: ولو كان له عزمٌ ما أطاع عدوَّه الذي حسَدَه، وأبى أن يَسْجُدَ له مع من سجد له - إبليسَ، وعصى الله الذي كرَّمه وشرَّفه، وأمر ملائكته فسجدوا له
(3)
.
وحدَّثنا ابن المثنى وابنُ بشارٍ، قالا: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وعبد الرحمن ومؤملٌ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 9/ 309 إلى المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 20.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 251 عن ابن زيد.
قالوا: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن مسلم البَطين، عن سعيد بن جُبَيْرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إنما سُمِّى الإنسان لأنه عُهد إليه فنسى
(1)
.
وقوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . اخْتَلَف أهل التأويل في معنى "العزمِ" هاهنا؛ فقال بعضُهم: معناه الصبر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ، أي: صبرًا.
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادة:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . قال: صبرًا
(2)
.
وحدَّثنا إبراهيم بن يعقوب الجُوزجانيُّ، قال: ثنا أبو النَّضْرِ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادة مثله.
وقال آخرون: بل معناه الحفظُ. قالوا: ومعناه: ولم نجد له حفظًا لما عهدنا إليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 19، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 313 - وابن منده في الرد على الجهمية (18) من طريق سفيان به، وأخرجه الطبراني في الصغير 2/ 55 من طريق الأعمش به، وأخرجه الحاكم 2/ 380، وابن عساكر في تاريخه 7/ 387 من طريق ابن جبير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن منده في التوحيد.
(2)
أخرجه البغوي في الجعديات (1006) عن شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 310 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
عَزْمًا}. قال: حفظًا لما [أمر به]
(1)
.
وحدَّثنى يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن الأَشْجَعيِّ، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عن عطية في قوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . قال: حفظًا.
وحدَّثنا عباس
(2)
بن محمد، قال: ثنا قَبِيصةُ، عن سفيان، عن عمرو بن قيسٍ، عن عطية في قوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . قال: حفظًا لما أُمِر به
(3)
.
وحدَّثنى محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . يقول: لم نجد له حفظًا
(4)
.
وحدَّثنى يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . قال: العزم المحافظةُ على [أمر الله]
(5)
عز وجل
(6)
والتمسك به
(7)
.
وحدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . يقولُ: لم نَجْعَلْ
(8)
له عزمًا
(9)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"أمرته".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 310 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"عباد".
(3)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 401 من طريق قبيصة به، وهو في تفسير سفيان ص 197 من قوله بلفظ حفظًا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى المصنف وابن منده.
(5)
في ص، ف:"ما أمرنى" وفى م: "ما أمره"، وفى ت 1، ت 3:"ما أمر".
(6)
بعده في م: "بحفظه".
(7)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 252 عن ابن زيد.
(8)
في ف: "نجد".
(9)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وحدَّثنى القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا الفرج
(1)
بن فضالة، عن لقمان بن عامرٍ، عن أبي أمامة، قال: لو أن أحلام بنى آدمَ جُمِعَت منذُ خلق الله تعالى ذكره آدم إلى يوم تقومُ الساعةُ، ووُضعت في كفَّةِ ميزانٍ، ووُضِع حِلْمُ آدمَ في الكِفَّةِ الأُخرى، لرجح حِلْمُه بأحلامهم، وقد قال الله تعالى:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأصلُ العزم اعتقادُ القلب على الشيءِ، يقال منه: عزم فلانٌ على كذا. إذا اعتقد عليه ونواه، ومن اعتقادِ القلب حفظُ الشئ، ومنه الصبر على الشيء؛ لأنه لا يَجْزَعُ جازعٌ إِلا مِن خَوَرِ قلبه وضعفه.
فإذ كان ذلك كذلك، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تعالى ذكرُه، وهو قوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . فيكون تأويله: ولم نجد له عزم قلبٍ [على الصبر]
(3)
على الوفاءِ لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه.
القول في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} .
يقول تعالى ذكرُه مُعْلِمًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان مِن تَضييع آدم عهده، ومُعَرِّفَه بذلك أن ولده لن يَعْدُوا أن يكونوا في ذلك على مِنهاجه، إلا مَن عصمه الله منهم -: واذْكُرْ يا محمد حينَ قُلْنا لملائكتنا: اسجدوا لآدم. فسجدوا
(1)
في م: "الحجاج". وينظر تهذيب الكمال 23/ 156.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7/ 444 من طريق الفرج بن فضالة أبى فضالة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 309 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
له إلا إبليس أبى أن يَسْجُدَ له،
{فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} .
ولذلك مِن شأنِه
(1)
لم يَسْجُدْ لك، وخالف أمرى في ذلك وعصانى، فلا تُطيعاه فيما يَأْمُرُكما به، فيُخْرِجَكما - بمعصيتكما ربَّكما، وطاعتكما له - من الجنة، {فَتَشْقَى}. يقولُ: فيكون عيشُك مِن كَدِّ يدك. فذلك شقاؤُه الذي حذَّره ربُّه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: أُهْبِط إلى آدمَ ثَوْرٌ أَحمرُ، فكان يَحْرُثُ عليه، ويَمْسَحُ العرقَ من جبينه
(2)
، فهو الذي قال الله عز وجل:{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} فكان ذلك شقاؤه
(3)
.
وقال تعالى ذكره: {فَتَشْقَى} . ولم يقل: فتَشْقيا. وقد قال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا} . لأن ابتداء الخطابِ مِن اللَّهِ عز وجل كان لآدم عليه السلام، فكان في إعلامه العقوبة - على معصيته إياه فيما نهاه عنه من أكل الشجرة - الكفايةُ من ذكر المرأة، إذ كان معلومًا أن حكمها في ذلك حكمه، كما قال:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]. اجتزاءً
(4)
بمعرفة السامعين معناه من ذكر
(5)
فعل صاحبه.
القول في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا
(1)
في م: "شنآنه".
(2)
في م: "جنينه".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 130، وأبو نعيم في الحلية 4/ 282، وابن عساكر في تاريخه 7/ 412 من طريق ابن حميد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 310 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "اجترئ".
(5)
بعده في م: "من".
تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)}.
يقولُ تعالى ذكره مُخْبِرًا عن قيله لآدم حين أسكنه الجنةَ: إن لك يا آدم، {أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}. و"أن" في قوله:{أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} . في موضع نصبٍ بـ {إِنّ} التي في قوله: {إِنَّ لَكَ} .
وقوله: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا} . اخْتَلَفت القرأة في قراءتها؛ فقرأ ذلك بعضُ قرأة المدينة والكوفة بالكسر: (وإنك)
(1)
على العطف على قوله: {إِنَّ لَكَ} . وقرأ ذلك بعضُ قرأة المدينة وعامة قرأة الكوفة والبصرة: {وَأَنَّكَ}
(2)
بفتح ألفها عطفًا بها على "أنْ" التي في قوله: {أَلَّا تَجُوعَ} . ووجَّهوا تأويل ذلك إلى: أن لك هذا وهذا، وهذه القراءة أعجبُ القراءتين إليَّ؛ لأن الله تعالى ذكرُه وعد ذلك آدم عليه السلام حينَ أسْكَنه الجنةَ، فكَوْنُ ذلك بأن يكون عطفًا على:{أَلَّا تَجُوعَ} أَوْلى من أن يكون خبرًا مبتدأً، وإن كان الآخرُ غير بعيدٍ من الصواب.
وعُنِي بقوله: {لَا تَظْمَأُ فِيهَا} : لا تَعْطَشُ في الجنة ما دُمْتَ فيها، {وَلَا تَضْحَى}. يقولُ: ولا تَظْهَرُ للشمس فيُؤذيك حرُّها. كما قال عمر بن أبى ربيعة
(3)
:
رأَتْ رَجُلًا أَمَّا إذا الشمس عارَضَتْ
…
فيَضْحَى وأمَّا بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
(4)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
وهى قراءة نافع وأبى بكر. حجة القراءات ص 464.
(2)
وهى قراءة ابن كثير وحفص وأبى عمرو وابن عامر وحمزة والكسائى وأبى جعفر ويعقوب وخلف. النشر 2/ 242.
(3)
شرح ديوانه ص 94.
(4)
خَصِرَ الرجل: آلمه البرد في أطرافه. اللسان (خ ص ر).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . يقولُ: لا يُصيبُك فيها عطشٌ ولا حرٌّ
(1)
.
وحدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . يقولُ: لا يُصِيبُك فيها حرٌّ ولا أذى
(2)
.
وحدَّثنى أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديُّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن شريكٍ، قال: ثنى أبى، عن خُصَيْفٍ، عن سعيدٍ بن جبيرٍ قوله:{وَلَا تَضْحَى} . قال: لا تُصيبُك الشمسُ.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلَا تَضْحَى} . قال: لا تُصيبك الشمسُ.
وقوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} . يقولُ: فألقى إلى آدمَ الشيطان وحدَّثه، فـ {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}. يقولُ: قال له: هل أَدُلُّك على شجرةٍ [مَنْ أكل منها خَلَد فلم يمت، ومَلَك]
(3)
ملكًا لا يَنْقَضى فيَبْلَى.
كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {قَالَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 310 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 310 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
في ص، م:"إن أكلت منها خلدت فلم تمت وملكت"، وفى ت 1، ف:"إن أكلت منها حدوت ولم تمت وملك".
يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}. [يقولُ: هل أدلُّك على شجرة]
(1)
إن أكَلْتَ منها كنتَ ملكًا مثل الله، {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]. فلا تموتان أبدًا
(2)
.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} .
يقول تعالى ذكره: فأكل آدمُ وحواءُ من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها، وأطاعا أمر إبليس، وخالفا أمرَ ربِّهما، {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}. يقولُ: فانْكَشَفَت لهما عوراتهما، وكانت مستورةً عن أعينهما.
كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ، قال: إنما أراد - يعنى إبليس - بقوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} . ليُبْدِيَ لهما ما تَوارَى عنهما مِن سوآتِهما بهَتْكِ لباسهما، وكان قد علم أن لهما سوأةً؛ لما كان يَقْرَأُ مِن كتب الملائكة، ولم يَكُنْ آدمُ يَعْلَمُ ذلك وكان لباسهما الظُّفُر، فأبى آدم أن يَأْكُلَ منها، فتقَدَّمَت حواءُ فأكلت، ثم قالت: يا آدمُ كُلْ، فإنى قد أكَلْتُ فلم يَضُرَّنى. فلمَّا أكل آدمُ بدَت لهما سواتهما
(2)
.
وقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا [مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} ]
(3)
. يقولُ: أَقْبَلَا يَشُدَّان عليهما من ورق الجنة.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
(2)
تقدم أوله في ص 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 74 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: الأصل، ص، ت 2.
كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} . يقولُ: أَقْبَلا يُغَطِّيان عليهما بورق التِّين
(1)
.
وحدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: قتادة قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} . يقولُ: يُوصِلان عليهما من ورق الجنة
(2)
.
وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} . يقولُ: وخالف أمرَ ربِّه، فتَعَدَّى إلى ما لم يَكُنْ له أن يَتَعَدَّى إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
وقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} . يقول: ثم اصطفاه ربُّه من بعد معصيته إياه، فرزقه الرجوع إلى ما يَرْضَى عنه، والعمل بطاعته، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه.
وقوله: {وَهَدَى} . يقولُ: وهداه للتوبة، فوفَّقه لها.
القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} .
يقول تعالى ذكره: قال الله لآدم وحواء: اهْبِطا من الجنة جميعًا إلى الأرضِ، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. يقول: أنتما عدوَّا
(3)
إبليس وذريته، وإبليس عدوُّكما وعدوُّ ذريتكما.
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} . يقولُ: فإن يَأْتِكم يا آدم وحواء
(1)
تقدم أوله في ص 19، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 75 إلى ابن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م، ت 1:"عدو".
وإبليس، {مِنِّي هُدًى}. يقولُ: بيانٌ لسبيلى، وما أختاره لخلقى من دينٍ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}. يقولُ: فمَن اتَّبع بيانى ذلك وعمل به، ولم يزغ عنه، {فَلَا يَضِلُّ}. يقولُ: فلا يَزولُ عن مَحَجَّةِ الحقِّ، ولكنه يَرْشُدُ في الدنيا ويَهْتَدِى، {وَلَا يَشْقَى}. [يقولُ: ولا يَشقَى]
(1)
في الآخرة بعقاب الله؛ لأن الله يُدْخِلُه الجنةَ ويُنَجِّيه من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحُسَينُ بن يزيدَ الطَّحَّانُ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن عمرو بن قيس الملائيِّ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: تضَمَّن الله لمن قرأ القرآنَ واتَّبع ما فيه ألا يَضِلَّ في الدنيا، ولا يَشْقَى في الآخرةِ. ثم تلا:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}
(2)
.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأوْديُّ، قال: ثنا حَكَّامُ الرازيُّ، عن أيوب بن موسى، عن عمرو بن قيسٍ الملائيِّ، عن ابن عباسٍ أنه قال: إن الله قد ضمن. فذكر نحوه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن أيوب بن يسارٍ أبى عبد الرحمن، عن عمرو بن قيسٍ، عن رجلٍ، عن ابن عباسٍ بنحوه.
حدَّثنا عليُّ بن سهل الرَّمْليُّ، قال: ثنا أحمدُ بن محمدٍ النَّسائيُّ، عن أبي
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 371 عن أبي خالد الأحمر به.
سلمة
(1)
، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قال ابن عباسٍ: مَن قرأ القرآنَ واتَّبَع ما فيه عصمه الله من الضَّلالة، ووقاه - قال أبو جعفرٍ الطبريُّ: أظنُّه أنا قال
(2)
-: هَوْلَ يوم القيامة، وذلك أنَّه قال:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} في الآخرة
(3)
.
القولُ في تأويل قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} .
يقول تعالى ذكره: ومن [أدبر معرضًا]
(4)
عن ذِكْرِى الذي أُذَكِّرُه به، فتَوَلَّى عنه ولم يقبله، ولم يَسْتَجِبْ له، ولم يَتَّعِظُ به، فينزجر عما هو عليه مُقِيمٌ من خلافه أمر ربِّه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}. يقولُ: فإن له معيشةً ضيقةً.
والضَّنك من المنازل والأماكن والمعايش، الشديد، يقال: هذا منزلٌ ضَنْكٌ. إذا كان ضيقًا، وعيشٌ ضنكٌ. الذكر والأنثى، والواحدُ والاثنان والجمعُ، بلفظٍ واحدٍ، ومنه قول عنترة
(5)
:
* وإن نزلوا بضَنكٍ أنزل*
(1)
بعده في حاشية الأصل: "المغيرة بن زياد الموصلى". والموصلى هذا كنيته أبو هشام أو أبو هاشم وليس أبا سلمة، أما أبو سلمة فهو المغيرة بن زياد القسملى، السراج. ينظر تهذيب الكمال 28/ 359، 395.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"من".
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 381، والبيهقى في الشعب (2029) والخطيب في الفقيه والمتفقه (193) من طريق عطاء به، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 467 من طريق عطاء، عن أبيه، عن سعيد به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (6033) من طريق عطاء، عن ابن عباس.
(4)
في م: "أعرض".
(5)
ديوانه ص 100 وهو جزء من شطر بيت تمامه:
إن يُلحقوا أكْرُرْ وإن يُستلحموا
…
أشدُد وإن يُلفَوا بضنكٍ أنزل
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . يقولُ: الشقاء
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{ضَنْكًا} . قال: ضيقةً
(2)
.
وحدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادة في قوله:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: الضَّنْكُ الضِّيقُ
(3)
.
وحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عنبسة، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسم بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . يقولُ: ضيقةً.
وحدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المُغرضين عن ذكرِه المعيشةَ الضَّنْكَ، والحال التي جعَلَهم فيها؛ فقال بعضُهم: جعَل ذلك لهم في
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في فتح البارى 8/ 433 - من طريق على بن طلحة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 311 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 467، ومن طريقه البيهقى في عذاب القبر ص 73.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 20.
الآخرة في جهنم، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضَّرِيعَ والزَّقُومَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمر بن عليٍّ المقدَّميُّ، قال: ثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسنِ في قوله:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: في جهنم
(1)
.
وحدَّثنى يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . فقرأ حتى بلغ: {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} . قال: هؤلاء أهلُ الكفر. قال: و {مَعِيشَةً ضَنْكًا} في النارِ؛ شَوْكٌ مِن نارٍ وزَقُّومٌ وغِسْلينٌ، والضَّريعُ شوكٌ مِن نارٍ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشةٌ، ما المعيشةُ والحياة إلا في الآخرةِ. وقرأ قولَ اللَّهِ عز وجل:{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]. قال: لمعيشتى. قال: والغسلين والزقُّومُ شيءٌ لا يَعْرِفُه أهلُ الدنيا
(2)
.
وحدَّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبدُ الرزاق، عن معمر، عن قتادة:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . يقول: ضنكًا في النار
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك: فإن له معيشةً في الدنيا حرامًا. قال: ووصف الله جلَّ ثناؤُه معيشتهم بالضَّنكِ لأن الحرام وإن اتَّسع فهو ضنكٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، قال: ثنا الحسين
(4)
بنُ
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 6/ 286 عن الحسن.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 7/ 194 عن ابن زيد مختصرًا.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 20، بلفظ:"الضنك الضيق، يقال: ضنكا في النار".
(4)
في ص، ت 1، ف:"الحسن".
واقدٍ، عن يزيد، عن عكرمة في قوله:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: هي المعيشةُ التي أوسع الله عليه من الحرام
(1)
.
حدَّثني داود بن سليمان بن يزيدَ المُكْتِبُ مِن أهل البصرة، قال: ثنا عمرُو بنُ جريرٍ البجليُّ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيسٍ بن أبى حازمٍ في قول الله:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: رزقًا في معصية
(2)
.
حدَّثني عبد الأعلى بن واصلٍ، قال: ثنا يعلى بنُ عُبيدٍ، قال: ثنا أبو بسطام، عن الضحاك:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: الكسب الخبيث
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ إسماعيلَ الضّرَاريُّ
(4)
، قال: ثنا محمدُ بنُ سَوَّارٍ، قال: ثنا أبو اليقظان عمارُ بنُ محمدٍ، عن هارون بن محمدٍ التَّيميِّ، عن الضحاكِ في قوله:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: العمل الخبيثَ، والرزق السيئ
(5)
.
وقال آخرون ممن قال: عُنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا: إنما قيل لها: ضَنكٌ وإن كانت واسعةً؛ لأنهم يُنفقون ما يُنْفِقون من أموالهم على تكذيبٍ بالخَلَفِ مِن اللَّهِ، وإياس من فضلِ اللَّهِ، وسوء ظنٍّ منهم بربِّهم، فتَشْتَدُّ لذلك عليهم معيشتهم وتَضِيقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 311 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في م 2، ت 2:"معصيته". والأثر ذكره الحافظ في الفتح 8/ 433.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 301.
(4)
في ص، ف:"الصدارى"، وفى ت 1:"الصدائى". وينظر الأنساب 4/ 15.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم، بلفظ:"العمل السئ والرزق الخبيث".
أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . يقولُ: كلُّ مالٍ أعْطَيْتُه عبدًا من عبادى قلَّ أو كثُر، لا يَتَّقِينى فيه، فلا خير فيه، وهو الضَّنْكُ في المعيشة. ويقالُ أيضًا: إن قومًا ضُلَّالًا أَعْرَضوا عن الحقِّ، وكانوا أُولى سَعَةٍ من الدنيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكًا، وذلك أنهم كانوا يَرَوْن أن اللَّهَ ليس بمُخْلِفٍ لهم معايشهم من سوء ظنِّهم بالله، والتكذيب به، فإذا كان العبدُ يُكَذِّبُ باللَّهِ ويُسئُ الظَّنَّ به، اشْتَدَّت عليه معيشتُه، فذلك الضنكُ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك: أن ذلك لهم في البَرْزَخ. قالوا: وهو عذابُ القبر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يزيدُ بنُ مَخْلَدٍ الواسطيُّ، قال: ثنا خالد بن عبدِ اللهِ، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي حازم، عن النعمان بن أبى عَيَّاشٍ، عن أبي سعيد الخدريِّ، قال في قولِ اللَّهِ:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: عذابَ القبرِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا بشر بنُ المفضَّل، قال: ثنا عبدُ الرحمن بن إسحاق، عن أبي حازمٍ، عن النعمان بن أبي عيَّاشٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: إن المعيشة الضنك التي قال الله؛ عذابُ القبر.
حدَّثني حَوْثَرَةُ بنُ محمدِ المِنْقَريُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حازمٍ، عن أبي
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 316 عن عطية العوفى، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 311 إلى ابن أبي حاتم مقتصرًا على أوله.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 13/ 392 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق به، وأخرجه الحاكم في 2/ 381 من طريق أبى حازم به.
سلمة، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: يَضِيقُ عليه قبره حتى تَخْتَلِفَ أضلاعُه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكم، قال: ثنا أبى وشعيب بنُ الليث، عن الليث، قال: ثنا خالدُ بن زيدٍ، عن ابن أبي هلالٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي سعيدٍ أنه كان يقولُ: المعيشةُ الضنكُ عذابُ القبر، إنه يُسَلَّطُ على الكافر في قبره تسعةٌ وتسعون تِنِّينًا تَنْهَشُه وتَخْدِشُ لحمه حتى يُبْعَثَ. وكان يقالُ: لو أن تنِّينًا منها يَنفُخُ
(2)
الأرضَ لم تُثبت زرعًا
(3)
.
حدَّثنا مجاهدُ بن موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا محمدُ بن عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: يُضَيَّقُ
(4)
على الكافِرِ قبرُه حتى تَخْتَلِفَ فيه أضلاعُه، وهى المعيشة الضنك التي قال الله عز وجل:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
(5)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ والسديِّ في قوله:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قالا
(6)
: عذابَ القبرِ
(7)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 21، وفي مصنفه (6741)، والبيهقى في عذاب القبر ص 72 من طريق سفيان به.
(2)
في ص: "نفح بفج"، وفى م:"نفخ"، وفى ت 1، ف:"نفح يفح".
(3)
أخرجه البيهقى في عذاب القبر (74) من طريق أبى الهيثم، عن أبي سعيد، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 175، وأحمد 17/ 433 (11334)، وعبد بن حميد (929)، والدرامى 2/ 331، والترمذى (2460)، وابن حبان (3121)، والآجرى في الشريعة (841) من طريق أبى الهيثم، عن أبي سعيد مرفوعا.
(4)
في ص، م، ت 1، ف:"يطبق".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6703)، وهناد (354) من طريق محمد بن عمرو به
(6)
في م، ت 2، ف:"قال".
(7)
أخرجه هناد (353)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1454، 1458) والبيهقى في عذاب القبر (76) من طريق إسماعيل بن أبى خالد عن أبي صالح وحده، وأخرجه البيهقى في عذاب القبر (77) من طريق شعبة، عن السدى.
وحدَّثنا محمد بن إسماعيلَ الأَحْمَسيُّ، قال: ثنا محمدُ بن عبيدٍ، قال: ثنا سفيان الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبي صالحٍ في قوله:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: عذاب القبر
(1)
.
وحدَّثنى عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمدُ بن ربيعة، قال: ثنا أبو عُمَيْسٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن مُخَارِقٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ في قوله:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: عذاب القبر
(2)
.
وحدَّثنا ابن
(3)
عبد الرَّحيم البرقيُّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ وابن أبي حازم، قالا: ثنا أبو حازمٍ، عن النعمان بن أبي عَيَّاشٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ:{مَعِيشَةً ضَنْكًا} . قال: عذاب القبر
(4)
.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هو عذاب القبر. الذي حدَّثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهبٍ، قال: ثنا عمى عبد الله بن وهبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاجٍ، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أتدْرُون فيمَ أَنْزِلَت هذه الآيةُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} أتدرون ما المعيشةُ الضنكُ؟ ". قالوا: الله ورسولُه أعلمُ. قال: "عذاب الكافر في قبره، والذي نفسى بيده، إنه يُسلَّط
(5)
عليه تسعةٌ وتسعون
(1)
أخرجه البيهقى في عذاب القبر (76) من طريق سفيان الثورى به.
(2)
أخرجه هناد (352)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1429) من طريق أبى العميس به، وأخرجه الطبراني (9143) والبيهقى في عذاب القبر (75) من طريق عبد الله بن المخارق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 714 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط في ص، م، ت 1، ت 2، ف، ت 2:"أحمد".
(4)
أخرجه الحاكم 2/ 381 من طريق أبى حازم به مرفوعا.
(5)
في م: "ليسلط".
تِنِّينًا، أتَدْرُون ما التِّنِّيُن؟ تسعةٌ وتسعون حيَّةً، لكلِّ حيةٍ سبعةُ أرؤسٍ
(1)
، يَنْفُخون في جسمِه ويَلْسَعونه ويَخْدِشونه إلى يومِ القيامةِ"
(2)
وأن الله تبارك وتعالى أتْبَع ذلك قولَه: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . فكان معلومًا بذلك أن المعيشةَ الضنكَ التي جعَلَها اللهُ لهم قبلَ عذابِ الآخرةِ
(3)
؛ لأن ذلك لو كان في الآخرةِ لم يكنْ لقولِه: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . معنًى مفهومٌ؛ لأن ذلك إن لم يكنْ تقَدَّمه عذابٌ لهم قبلَ الآخرةِ، حتى يكونَ الذي في الآخرةِ أشدَّ منه، بطَل معنى قوله:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} .
فإذ كان ذلك كذلك، فلا تَخْلو تلك المعيشةُ الضنكُ التي جَعَلَها اللَّهُ لهم مِن أن تكونَ لهم في حياتهم الدنيا، أو في قبورِهم قبلَ البعثِ - إذ كان لا وجهَ لأن تكونَ في الآخرةِ؛ لما قد بيَّنا - فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا، فقد يَجِبُ أن يكونَ كلُّ مَن أَعْرَض عن ذكرِ اللَّهِ مِن الكفار، فإن معيشتَه فيها ضنكٌ، وفي وجودِنا كثيرًا منهم أوْسَعَ معيشةً من كثيرٍ من المُقْبِلِين على ذكرِ اللهِ تبارك وتعالى القابلين
(4)
له المؤمنين - ما يَدُلُّ على أن ذلك ليس كذلك، فإذ خلا القولُ في ذلك مِن هذين
(1)
في ص، ت 2، ف:"أرس"، وفى م:"رءوس".
(2)
أخرجه أبو يعلى (6644) وابن حبان (3122) والآجرى في الشريعة ص 1273، والبيهقي في عذاب القبر (80) من طريق ابن وهب به، وأخرجه البزار (2233 - كشف) من طريق ابن حجيرة به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 316 - من طريق دراج به، وقال ابن كثير: رفعه منكر جدا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 411 إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن مردويه. وعندهم سوى البزار زيادة في أوله: "المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب قبره سبعين ذراعا وينور له كالقمر ليلة البدر". وعند البيهقي: "تسعة رءوس" بدل من "سبعة أرؤس".
(3)
في ت 2: "القبر".
(4)
في م: "القائلين".
الوجهين، صحَّ الوجهُ الثالثُ، وهو أن ذلك في البَرْزَخ.
وقولُه: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . [يقولُ تعالى ذكرُه: ونحشُرُه مِن قبرِه إلى موقفِ القيامةِ يومَ القيامةِ أعمَى
(1)
.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في صفةِ العَمَى الذي ذكَر اللهُ في هذه الآيةِ أنه يَبْعَثُ يومَ القيامةِ هؤلاء الكفارَ به؛ فقال بعضُهم: ذلك عَمًى عن الحجِة، لا عمَى
(2)
البصرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ الأحْمَسيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبيدٌ، قال: ثنا سفيانُ الثوريُّ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . قال: ليس له حجةٌ
(3)
.
حدثَّني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . قال: عن الحجةِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقيل: يُحْشَرُ أعمى البصرِ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(2)
بعده في م: "عن".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 468، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 21 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قال اللهُ تعالى ذكرُه، وهو أَنه يَحْشُرُه أعمى عن الحجةِ ورؤيةِ الأشياءِ كما أخْبَر جلَّ ثناؤُه، فعمَّ ولم يَخْصُص.
وقولُه: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} . [فقال بعضُهم في ذلك ما حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} . قال: لا حجةَ لى
(1)
.
وقولُه: {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} ]
(2)
. اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: وقد كنتُ بصيرًا بحُجَجى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} . قال: عالمًا بحُجَجى.
وقال آخرون: بل معناه: وقد كنتُ ذا بصرٍ أُبْصِرُ به الأشياءَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} : في الدنيا
(3)
.
وحدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {قَالَ رَبِّ لِمَ
(1)
تفسير سفيان ص 198، ومن طريقه هناد (226).
(2)
ليست في: ص، م، ف.
(3)
تفسير مجاهد ص 468، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}. قال: كان بعيدَ البصرِ، قصيرَ النظرِ، أعمى عن الحقِّ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنا أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه عمَّ بالخبرِ عنه بوصفِه نفسَه بالبصرِ، ولم يَخْصُص منه معنًى دون معنًى، فذلك على ما عمَّه، فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ
(1)
: قال: ربَّ لمَ حشَرْتَنى أَعْمَى عن حُجَجى ورؤيةِ الأشياءِ، وقد كنتُ في الدنيا ذا بصرٍ بذلك كلِّه.
فإن قال قائلٌ: وكيف قال هذا لربِّه: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} . مع مُعاينتِه عظيمَ سلطانِه؟ أجَهِلَ في ذلك الموقفِ أن يكونَ اللهِ عز وجل أن يفعلَ به ما شاء؟ أم ما وجهُ ذلك؟
قيل له: إن ذلك منه مسألةٌ لربِّه تعريفَه
(2)
الجُرَّمَ الذي اسْتَحَقَّ به ذلك، إذ
كان قد جهِله، وظنَّ أن لا جُرْمَ له اسْتَحَقَّ ذلك به منه، فقال: ربِّ لأيِّ ذنبٍ، ولأيِّ جُرْمٍ حَشَرْتَنى أعمى، وقد كنتُ بصيرًا مِن قبلُ في الدنيا وأنت لا تُعاقِبُ أحدًا إلا بدونِ ما يَسْتَحِقُّ منك مِن العقابِ.
وقوله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ حينَئذٍ للقائل له: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} : فعَلْتُ ذلك بك، فحشَرْتُك أعمى كما أتَتْك آياتي - وهى حُجَجُه وأدلتُه وبيانُه الذي بيَّنه في كتابه - {فَنَسِيتَهَا}. يقولُ: فترَكْتُها وأعْرَضْتَ عنها، ولم تُؤْمِنْ بها، ولم تَعْمَلْ.
وعنَى بقوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ} : هكذا أَتتْك.
وقولُه: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . يقولُ: فكما نسيت آياتِنا في الدنيا فترَكْتَها
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"الآية".
(2)
في م، ت 2:"يعرفه".
وأَعْرَضْتَ عنها، فكذلك اليوم نَنْساك فنَتْرُكُك في النارِ.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} ؛ فقال بعضُهم بمثلِ الذي قلنا في ذلك
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ الأحْمَسيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبيدٍ، قال: ثنا سفيانُ الثوريُّ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . قال: في النارِ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} ، قال: فتَرَكْتَها. وَ {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} : وكذلك اليومَ تُتْرَكُ في النارِ
(1)
.
ورُوِى عن قتادةَ في ذلك ما حدثَّني به بِشرٌ، ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . قال: نُسِي
(2)
مِن الخيرِ، ولم يُنْسَ
(3)
مِن الشرِّ
(4)
.
وهذا القولُ الذي قاله قتادةُ قريبُ المعنى مما قاله أبو صالحٍ ومجاهدٌ؛ لأن تركَه إياهم في النارِ من أعظمِ الشرِّ لهم.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} .
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 21، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 8/ 311 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "تنسى".
(3)
في الأصل: "تنس".
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 301.
يقولُ تعالى ذكرُه: وهكذا {نَجْزِي} . أي: نُثِيبُ مَن أَسرَف، فعصَى رَبَّه ولم يُؤْمِنُ برسله وكتبه، فنَجْعَلُ له معيشةً ضنكًا في البرزخِ، كما قد بيَّنا قبلُ.
{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولعذابُ اللهِ في الآخرةِ لهم أشدُّ مما [عَذَّبَهم به]
(1)
في القبرِ مِن المعيشة الضنكِ، {وَأَبْقَى}. يقولُ: وأدومُ منها؛ لأنه إلى غيرِ أَمَدٍ ولا نهايةٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: أفلم يَهْدِ لقومِك المشركين باللهِ. ومعني {يَهْدِ} : يُبَيِّنْ. يقولُ: أفلم يُبَيِّنْ
(2)
لهم كثرةُ ما أَهْلَكْنا قبلَهم مِن الأممِ التي [سلفَت قبلَهم]
(3)
، التي يَمْشون هم
(4)
في مساكنِهم ودُورِهم، ويَرَوْن آثارَ عُقوباتنا التي أحْلَلْناها بهم - سوءَ مَغَبَّة
(5)
ما هم عليه مُقِيمون مِن الكفرِ بآياتِنا، فيَتَّعظوا بهم، ويَعْتَبِروا ويُنيبوا إلى الإذْعانِ، ويُؤْمنوا باللهِ ورسولِه؛ خوفًا أن يُصِيتهم بكفرِهم باللهِ مثلُ ما أصابَهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {كَمْ أَهْلَكْنَا
(1)
في ص: "وعدتهم به"، وفى م:"وعدتهم"، وفى ت 1، ف:"عذبهم".
(2)
في ص: "نبين".
(3)
في م: "سلكت قبلها".
(4)
سقط من: م.
(5)
في ت 1، ت 2:"معية".
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}: [نحوِ عادٍ وثمودَ ومَن هلَك من الأُممِ
(1)
.
وقال: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ]
(2)
. لأن قريشًا كانت تَتَّجِرُ إلى
(3)
الشامِ، فتَمُرُّ بمساكنِ عادٍ وثمودَ ومَن أَشْبَههم، فتَرَى آثارَ وقائعِ اللهِ تعالى بهم، فلذلك قال لهم: أفلم يُحَذِّرُهم ما يَرَوْن من فعلِنا بهم بكفرِهم بنا نزولَ مثلِه بهم، وهم على مثلِ فعلهم مقيمون.
وكان الفَرَّاءُ يقولُ
(4)
: لا يَجوزُ في {كَمْ} في هذا الموضعِ أن يكونَ إلا نصبًا بـ {أَهْلَكْنَا} . وكان يقولُ: وهو وإن لم يكنْ إلا نصبًا، فإن جملة الكلامِ رفعٌ بقولِه:{يَهْدِ لَهُمْ} . ويقولُ: ذلك مثلُ قولِ القائلِ: قد تبَيَّن لي أقام عمرٌو أم
(5)
زيدٌ؟ في الاستفهامِ، وكقولِه:{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]. ويَزْعُمُ أن فيه شيئًا يَرْفَعُ {سَوَاءٌ} لا يَظْهَرُ مع الاستفهامِ، قال: ولو قلتَ: سواءٌ عليكمَ صمتُكم ودعاؤُكم. تبَيَّن ذلك الرفعُ الذي في الجملةِ.
وليس الذي قال الفرَّاءُ من ذلك كما قال؛ لأن {كَمْ} وإن كانت مِن حروفِ الاستفهامِ، فإنها لم تُجْعَلْ في هذا الموضعِ للاستفهامِ، بل هي واقعةٌ موقعَ
(6)
الأسماءِ الموصوفةِ.
ومعنى الكلامِ ما قد ذكَرْنا قبلُ، وهو: أفلم يُبَيِّنْ
(7)
لهم كثرةُ إهلاكِنا قبلَهم
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 123 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(3)
في الأصل: "في".
(4)
في معاني القرآن 2/ 195.
(5)
في الأصل، ص، ت 1، ف:"أو".
(6)
في الأصل: "مواقع".
(7)
في الأصل: "يتبين".
القرونَ التي يمشون في مساكِنهم. أو أفلم تَهْدِهم القرونُ الهالكةُ.
وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (أفلم يَهْدِ
(1)
لهم مَن أَهْلَكْنا). فـ {كَمْ} واقعةٌ موقع "مَن" في قراءةِ عبدِ اللَّهِ، و
(2)
هي في موضعِ رفعٍ بقولِه: {يَهْدِ لَهُمْ} . وهو أظهرُ وُجوهه، وأصحُّ معانيه، وإن كان للذى
(3)
قاله وجهٌ ومذهبٌ على بُعْدٍ.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن فيما يُعايِنُ هؤلاء، ويَرَوْن مِن آثارِ وقائعِنا بالأم المكذِّبةِ رسلَها قبلَهم، وحُلولٍ مَثُلاتِنا بهم لكفرِهم باللهِ، {لَآيَاتٍ}. يقول: لدَلالاتٍ وعِبَرًا وعِظَاتٍ {لِأُولِي النُّهَى} . يعنى: لأهلِ الحِجَا والعقولِ، ومَن ينهاه عقلُه وفهمُه ودينُه عن مُواقعةِ ما يَضُرُّه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لِأُولِي النُّهَى} . يقولُ: التُّقَى
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} : أهلِ الوَرَعِ
(5)
.
(1)
في ص، ف:"نهد"، وفي ت 2:"يهدى".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"الذي".
(4)
ذكره ابن حجر في تغليق التعليق 4/ 256 عن المصنف.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 302 إلى ابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} .
يقول تعالى ذكرُه: ولولا كلمةٌ سَبَقَت من ربِّك يا محمدُ أن كلَّ مَن قضَى له أجلًا فإنه لا يَخْتَرِمُه قبل بلوغِه أجلَه، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى}. يقولُ: ووقتٌ مُسَمًّى عندَ ربِّك سمَّاه لهم في أمِّ الكتابِ، وخطَّه فيه، هم بالغوه ومُسْتَوْفوه - {لَكَانَ لِزَامًا}. يقولُ: للازمهم الهلاكُ عاجلًا.
وهو مصدرٌ من قول القائل: لازم فلانٌ فلانًا يُلازِمُه مُلازمةً ولِزامًا. إذا لم يُفارقه. وقدَّم قولَه: {لَكَانَ لِزَامًا} . قبل قوله: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} . [ومعنى الكلامِ: ولولا كلمةٌ سبَقَت من ربِّك وأجلٌ مسمَّى]
(1)
لكان لزامًا، فاصبِرْ على ما يقولون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} . قال: الأجلُ المسمَّى: الدنيا
(2)
.
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
(1)
سقط من: ت 1، ف.
(2)
تقدم تخريجه في 9/ 152.
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ [لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}. وهذه من مَقاديمِ الكلامِ. يقولُ: ولولا كلمةٌ سبَقت من ربِّك]
(1)
إلى أجلٍ مسمًّى لكان لزامًا. والأجلُ المسمَّى: الساعةُ؛ لأن اللهُ يقولُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
(2)
[القمر: 46].
حدثَّني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} . قال: هذا مُقَدَّمٌ ومُؤَخَّرٌ: ولولا كلمةٌ سبَقَت من ربِّك وأجلٌ مسمَّى لكان لزامًا.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {لَكَانَ لِزَامًا} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لكان موتًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني عليٌّ، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله: لَكَانَ لِزَامًا ?. يقولُ: موتًا
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: لكان قتلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {لَكَانَ لِزَامًا} : واللِّزامُ القتلُ.
وقولُه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ عليه السلام:
(1)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
فاصْبِرْ يا محمدُ على ما يقولُ هؤلاء المكذِّبون بآياتِ اللهِ مِن قومِك، لك: إنك، ساحرٌ، وإنك [مجنونٌ،]
(1)
وشاعرٌ. ونحوَ ذلك مِن القولِ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}. يقولُ: وصلِّ بثنائِك على ربِّك. وقال: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} . والمعنى: [بحمدِكَ ربَّك]
(2)
، كما تقولُ: أَعْجَبَنِى ضربُ زيدٍ. والمعنى: ضربى زيدًا.
وقولُه: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، وذلك صلاةُ الصبحِ، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ، وهي صلاةُ
(3)
العصرِ، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} ، وهى ساعاتُ الليلِ، واحدُها إنْيٌ، على تقديرِ حِمْلٍ، ومنه قولُ المُتَنَخِّلِ
(4)
السعديِّ:
حُلْوٌ ومُرٌّ كعَطْفِ القِدْح مِرَّته
…
في
(5)
كلٍّ إِنِّي حَذَاه
(6)
الليلُ يَنْتَعِلُ
ويعنى بقوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} . صلاةَ العشاءِ الآخرةِ؛ لأنها تُصَلَّى بعدَ مُضِى آناءٍ مِن الليلِ.
وقولُه: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} . يعنى صلاةَ الظهرِ والمغربِ.
وقيل
(7)
: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} . والمرادُ بذلك الصلاتان اللتان ذكَرْنا؛ لأن صلاةَ الظهرِ في آخِرِ طَرَفِ النهارِ الأولِ، وفى أولِ طَرَفِ النهارِ الآخِرِ، فهي في طرفين منه، والطَّرَفُ الثالثُ غروبُ الشمسِ، وعند ذلك تُصَلَّى المغربُ، فلذلك قيل: أطرافٌ.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في م، ت 1، ف:"بحمد ربك".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(4)
في ص، م، ت 2، ف:"المنخل". والبيت تقدم تخريجه في 5/ 695.
(5)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"قضاه".
(7)
بعده في الأصل: "في".
وقد يَحْتَمِلُ أن يقالَ: أُرِيد به طرفا النهارِ، فقيل: أطرافٌ. كما قيل: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. فجمَع، والمرادُ قلبان، فيكونُ ذلك أولَ طرفِ النهارِ الآخِرِ، وآخِرَ طرفِه الآخِرِ
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن [أبى رَزينٍ]
(2)
، عن ابن عباسٍ: فـ {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} . قال: الصلاةُ المكتوبةُ
(3)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قَيسٍ بن أبي حازمٍ، عن جريرِ بن عبدِ اللهِ، قال: كنا جلوسًا عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرأى القمرَ ليلةَ البدرِ، فقال: "إنكم راءُون ربَّكم كما تَرَوْن هذا، لا تُضامُّون في رُؤيتِه، فإن اسْتَطَعْتُم ألا تُغلبوا على
(4)
صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها فافْعَلوا". ثم تلا: فـ {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}
(5)
.
(1)
في م: "الأول".
(2)
في م: "ابن أبي زيد". وينظر تهذيب الكمال 13/ 475.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 21، وابن المنذر في الأوسط 2/ 324 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
في الأصل: "عن".
(5)
أخرجه البخارى في خلق أفعال العباد ص 21، وابن خزيمة في التوحيد ص 110 من طريق يزيد بن هارون به، وأخرجه البخارى (554، 573، 4851)، ومسلم (633/ 211)، وأحمد 4/ 360 (الميمنية)، وأبو داود (4729)، والترمذى (2551)، والنسائى (7762)، وابن ماجه (177)، وابن حبان (7442، 7443) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ: فـ {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} . قال ابن جُرَيج: العصر. {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} . قال: المكتوبةُ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه فـ {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}. قال: هي صلاةُ الفجرِ، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}: صلاةُ العصرِ، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ}: صلاةُ المغربِ والعشاءِ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}: صلاةُ الظهرِ
(1)
.
حدثَّني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} . قال: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} : العَتَمةِ. {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} : المغربَ والصبحَ.
ونصَب قولَه: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} . عطفًا على قولِه: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} . لأن معنى ذلك: فسبِّح بحمدِ ربِّك آخِرَ الليلِ وأطرافَ النهارِ.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى {آنَاءِ اللَّيْلِ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} . قال: المصلَّى مِن الليلِ كلِّه.
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 21، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى ابن أبي حاتم.
حدثَّني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن أبي رَجاءٍ، قال: سَمِعْتُ الحسنَ قرَأ: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} . قال: مِن أولِه وأوسطِه وآخرِه
(1)
.
حدثَّني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} . قال: آناءُ الليل جوفُ الليلِ
(2)
.
وقوله: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} . يقولُ: كَى تَرْضَى.
وقد اختلفَت القرَأَةُ في قراءةِ ذلك، فقرَأَته
(3)
عامةُ قرَأةِ المدينةِ والعراقِ: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بفتحِ التاءِ
(4)
.
وكان عاصمٌ والكِسائيُّ يَقرآن ذلك: (لعلك تُرْضَى) بضمِّ التاءِ
(5)
. ورُوِى ذلك عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَميِّ.
وكأن الذين قرَءوا ذلك بالفتحِ ذهَبوا إلى معنَى: إِن اللَّهَ يُعْطِيك حتى تَرْضَى عطيتَه وثوابَه إياك، وكذلك تأوَّله أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} . قال: الثواب؛ تَرْضَى مما
(6)
يُثِيبُك اللهُ على ذلك
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 739 (4013) من طريق عباد بن منصور، عن الحسن.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 738 (4010) من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس.
(3)
في الأصل: "فقرأ به".
(4)
وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 425.
(5)
وهي قراءة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر. المصدر السابق.
(6)
في م: "بما".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى ابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{لَعَلَّكَ تَرْضَى} . قال: بما
(1)
تُعْطَى.
و كأن الذين قرَءوا ذلك بالضمِّ وجَّهوا معنى الكلامِ إلى: لعل الله يُرْضِيك مِن عبادتك إياه وطاعتِك له.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرَأةِ، وهما قراءتان مُسْتَفِيضتان في قرَأةِ الأمصارِ، مُتَّفِقَتَا المعنى، غيرُ مُخْتَلِفَتَيْه، وذلك أن الله تعالى ذكرُه إذا
(2)
أرْضاه، فلا شكَّ أنه يَرْضَى، [وأنه]
(3)
إذا رضِى فقد أرْضاه اللهُ، فكلُّ واحدةٍ منهما تَدلُّ على معنى الأُخرى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولا تَنظُرْ إلى ما جَعَلْنَا لَضُرَباءِ هؤلاء المُعرِضين عن آياتِ ربِّهم وأشكالِهم، متعةً في حياتِهم الدنيا، يَتَمَتَّعون بها مِن زهرةِ عاجلِ الدنيا ونَضرتِها {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}. يقولُ: لنَخْتَبرَهم فيما متَّعْناهم به مِن ذلك ونَبْتليهم، فإن ذلك فانٍ زائلٌ، وغُرورٌ وخُدَعٌ تَضْمَحِلُّ، {وَرِزْقُ رَبِّكَ} الذي وعَدك أن يَرْزُقَكه في الآخرةِ حتى تَرْضَى - وهو ثوابُه إياه - {خَيْرٌ} لك مما متَّعْناهم به من زهرة الحياةِ الدنيا {وَأَبْقَى}. يقولُ: وأدومُ. لأنه لا انقطاعَ له ولا نفادَ.
(1)
في الأصل، ت 2:"ما".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(3)
سقط من: ت 1، ف.
وذكر أن هذه الآيةَ نزَلت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الله مِن أجلِ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَث إلى يهوديٍّ يَسْتَسْلِفُ منه طعامًا، فأبَى أن يُسْلِفَه إلا برَهنٍ.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن موسى بن عُبيدةَ، عن يزيدَ بن عبدِ اللَّهِ بن قُسَيْطٍ، عن أبي رافعٍ، قال: أَرْسَلَنى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يهودِيٍّ يَسْتَسْلِفُهُ، فَأَبَى أَن يُعْطِيَه إلا برهنٍ، فحزِن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل اللهُ:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن واقدٍ، عن يعقوبَ بن يزيدَ، عن أبي رافعٍ، قال: نزَل برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَيفٌ، فأَرْسَلَنى إلى يهوديٍّ بالمدينةِ أَستسلِفُه
(2)
، فأتَيْتُه فقال: لا أُسْلِفُه إلا برهنٍ. فَأَخْبَرْتُه بذلك، فقال:"إني لأمينٌ في أهلِ السماءِ، وفى أهلِ الأرضِ، فاحْمِلْ دِرْعى إليه". فنزلَت هذه الآيةُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. وقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . إلى قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} .
(1)
أخرجه الروياني (715) عن سفيان بن وكيع به، وأخرجه إسحاق، وابن أبي شيبة - كما في المطالب العالية (1600، 1601) - وأبو يعلى من طريق ابن أبي شيبة - كما في المطالب العالية (1603) - من طريق وكيع به، وأخرجه إسحاق - كما في المطالب (1602) - والروياني (695)، والبزار (3863)، والطبراني (989) من طريق موسى بن عبيدة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312، 313 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطى في مكارم الأخلاق وأبي نعيم في المعرفة.
(2)
في م، ت 2:"يستسلفه".
ويعنى بقوله: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} : [رجالًا منهم]
(1)
أشكالًا، وبـ:{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : زينةَ الحياةِ الدنيا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . أي: زينةَ الحياةِ الدنيا
(2)
.
ونصَب {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على الخروجِ من الهاءِ التي في قولِه: {بِهِ} . مِن: {مَتَّعْنَا بِهِ} . كما يقالُ: مرَرْتُ به الشريفَ الكريمَ. فنصَب الشريفَ الكريمَ على فعلِ: مرَرْتُ. فكذلك قولُه: {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تُنْصَبُ على الفعلِ بمعنى: متَّعْناهم به زهرةً في الحياةِ الدنيا وزينةً لهم فيها. وذكَر الفرَّاءُ أَن بعضَ بني فَقْعَسٍ أَنْشَدَه
(3)
:
أبعْدَ الذي بالسَّفْحِ سَفْحِ كَواكِبٍ
…
رهينةَ رَمْسٍ من ترابٍ وجَنْدَلِ
فنصَب "رهينة" على الفعلِ مِن قولِه: أبعْدَ الذي بالسَّفْح. وهذا لا شكّ أنه أضعفُ في العملِ نصبًا مِن قوله: {مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . لأن العاملَ في الاسمِ الذي
(4)
هو "رهينة"، حرفٌ خافضٌ لا ناصبٌ
وبنحوِ الذي قلنا في [معنى قولِه: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
(5)
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}]
(6)
قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: الأصل، وفي ت 2:"رجالا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 312 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
معاني القرآن 2/ 196.
(4)
سقط من: ص، ت 1 ف، وفى م:"و".
(5)
بعده في ت 2: "قال: لنبتليهم فيه".
(6)
في م: "ذلك".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} . قال: لنَبْتَلِيَهم فيه، {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} مما
(1)
مُتِّع
(2)
به هؤلاء من هذه الدنيا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ} يا محمدُ {أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} . يقولُ: واصْطَبِرْ على القيامِ بها وأدائِها بحدودِها أنت {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} . يقولُ: لا نَسْأَلُك مالًا، بل نُكَلِّفُك عملًا ببدنِك، نُؤْتِيك عليه أجرًا عظيمًا وثوابًا جَزيلًا، {نَحْنُ نَرْزُقُكَ}. يقولُ: نحن تُعْطِيك المال ونُكْسِبُكَه، ولا نَسْأَلُكَه.
وقولُه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} . يقولُ: والعاقبةُ الصالحةُ مِن عِمل كلِّ عاملٍ لأهلِ التقوى والخشيةِ مِن اللهِ، دونَ مَن لا يَخافُ له عقابًا، ولا يَرْجو له ثوابًا.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في الأصل: "ما".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"متعنا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 313 إلى ابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني أبو السائبِ، قال: ثنا حفصُ بنُ غِياثٍ، عن هشامِ بن عروةَ، قال: كان عروةُ إذا رأَى ما عندَ السلاطينِ دخَل دارَه، فقال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} . ثم يُنادِى: الصلاة الصلاةَ، يَرْحَمُكم الله
(1)
.
حدَّثنا أبو كريب، قال: ثنا عَثَّامٌ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئًا مِن الدنيا جاء إلى أهلِه، فقال: الصلاةَ؛ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا}
(2)
.
حدَّثنا العباسُ بنُ عبدِ العظيمِ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عَونٍ، قال: أخبَرنا هشامُ بنُ سعدٍ، عن زيدِ بن أسلَم، عن أبيه، قال: كان يَبِيتُ عند عمرَ بن الخطابِ مِن غِلمانِه أنا ويَرْفَأُ
(3)
، وكانت له مِن الليلِ ساعةٌ يُصَلِّيها، فإذا قلنا: لا يقومُ مِن الليلِ [كما كان يقومُ. يكونُ أبكرَ ما]
(4)
كان قيامًا، وكان إذا صلَّى مِن الليلِ ثم فرَغ، قرَأ هذه الآيةَ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآيةَ
(5)
.
حدثَّني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: أخبرَني هشامُ بنُ سعدٍ، عن زيدِ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 263.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 536 من طريق هشام بن عروة به.
(3)
في الأصل، ص، ت 1، ف:"يرفى"، وفى ت 2:"مرمى". وينظر الإصابة 6/ 696.
(4)
سقط من: م.
(5)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل (351) من طريق هشام بن سعد به، وأخرجه مالك 1/ 119 - ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه (4743) عن زيد بن أسلم به.
ابن أَسْلَمَ، [عن أبيه، عن عمرَ]
(1)
مثلَه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء المشركون الذين وصَف صفتَهم في الآياتِ قبل: هلَّا يَأْتِينا محمدٌ بآيةٍ من ربِّه، كما أَتَى قومَه صالحٌ بالناقةِ، وعيسى بإحياءِ الموتى وإبراءِ الأكْمهِ والأبرصِ؟ يقولُ اللهُ جَلَّ ثناؤُه: أو لم يَأْتِهم بيانُ ما في الكتبِ التي قبلَ هذا الكتابِ مِن أنباءِ الأممِ من قبلِهم التي أَهْلَكْناهم لمَّا سأَلوا الآياتِ، فكفَروا بها لما أتَتْهم - كيف عجَّلْنا لهم العذابَ، وأنْزَلنا بهم
(2)
بأسَنا بكفرِهم بها. يقولُ: فماذا يُؤْمِنُهم إن أتَتْهم الآيةُ أن يكونَ حالُهم حالَ أولئك.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} . قال: التوراةِ والإنجيلِ
(3)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ
(1)
سقط من: م، وفى ص، ت:1: "عن عمر".
(2)
سقط من: م.
(3)
تفسير مجاهد ص 468، ومن طريقه ابن أبي شيبة 14/ 120، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 313 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}: الكتبِ التي خلَت من الأممِ التي يَمْشُون في مساكنِهم.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولو أنا أهْلكنا هؤلاء المشركين الذين يُكَذِّبون بهذا القرآنِ مِن قبلِ أن ننزِّلَه عليهم، ومِن قبلِ أن نَبْعَثَ داعيًا يَدْعوهم إلى ما فرَضْنا عليهم فيه، بعذابٍ تُنْزِلُه بهم بكفرِهم باللهِ، لَقالوا يومَ القيامةِ إذا
(1)
ورَدُوا علينا، فأَرَدْنا عقابهم: ربَّنا هلَّا أَرْسَلْتَ إلينا رسولًا يَدعونا إلى طاعتِك {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} ؟ يقولُ: فتَتَّبِعَ حُجَجَك وأدلَّتَك وما تُنَزِّلُه عليه مِن أمرِك ونهِيك، مِن قبلِ أن نَذِلَّ بتعذيبِك إيانا ونَخْزَى به.
كما حدَّثني الفضلُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا أبو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ، عن فُضَيْلِ بن مَرْزُوقٍ، عن عطيةَ العَوْفيِّ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يَحْتَجُّ على اللهِ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ؛ الهالكُ في الفَتْرةِ، والمغلوبُ على عقلِه، والصبيُّ الصغيرُ، فيقولُ المغلوبُ على عقلِه: لم تَجْعَل لى عقلًا أَنْتَفِعُ به. ويقولُ الهالكُ في الفترةِ: لم يَأْتِنى رسولٌ ولا نبيٌّ، ولو أتانى لك رسولٌ أو نبيٌّ لَكنتُ أطوعَ خلقِك لك - وقرأ: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} - ويقولُ الصبيُّ الصغيرُ: كنتُ صغيرًا لا أَعقِلُ. قال: فتُرْفَعُ لهم نارٌ، ويقالُ لهم: رِدُوها. قال: فيَرِدُها مَن كان في علمِ الله أنه سعيدٌ، ويَتَلَكَّأُ عنها مَن كان في علمِ اللَّهِ أَنه شَقِيٌّ. فيقولُ: إياى عصَيْتُم، فكيف برسلى لو أتَتْكم؟ "
(2)
(1)
في م: "إذ".
(2)
أخرجه البزار (2176 - كشف)، ومحمد بن يحيى الذهلي - كما في تفسير ابن كثير 5/ 52 طريق فضيل بن مرزوق به.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤُه: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ: كلُّكم أيُّها المشركون باللهِ {مُتَرَبِّصٌ} . يقولُ: منتظِرٌ لمن يكونُ الفلاحُ، وإلى ما يَئُولُ أمرى وأمرُكم، مُتَوَقِّفٌ يَنْتَظِرُ دوائرَ الزمانِ، {فَتَرَبَّصُوا}. يقولُ: فتَرَقَّبوا وانْتَظِروا، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ}. يقولُ: فسيعلَمون مَن]
(1)
أهلُ الطريقِ المستقيمِ المعتدلِ الذي لا اعْوِجاجَ فيه إذا جاء أمرُ اللهِ، وقامت القيامةُ، أنحن أم أنتم؟ {وَمَنِ اهْتَدَى}. يقولُ: وستَعْلَمون حينَئذٍ من المهتدِى الذي هو على سننِ الطريقِ القاصدِ غيرِ الجائرِ عن قصدِه منا ومنكم.
وفى {وَمَنِ} مِن قولِه: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} . والثانيةِ مِن قوله: {وَمَنِ اهْتَدَى} وجهان؛ الرفعُ، وتركُ إعْمالِ "تعلمون" فيهما، كما قال جلَّ ثناؤُه:{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12]. والنصبُ على إعمال "تعلمون" فيهما، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
إلى هنا ينتهى الجزء الخامس والثلاثون من نسخة جامعة القرويين، والمشار إليه بالأصل، وسيجد القارئ بعد ذلك أرقام النسخة ت 1 بين معكوفين.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قوله عزّ ذكرُه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
(1)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: دنا حسابُ اللهِ للناسِ على أعمالِهم التي عَمِلوها في دُنياهم، ونِعَمهم التي أنعَمها عليهم فيها؛ في أبْدَانِهم وأجْسامِهم ومَطاعمِهم ومَشاربِهم وملابسِهم، وغيرِ ذلك من نعمِه عندَهم، ومسألتِه إيَّاهم ماذا عمِلوا فيها، وهل أطاعوه فيها، فانْتَهَوا إلى أمْرِه ونَهيِه في جميعِها، أم عَصَوه فخَالَفَوا أَمْرَه فيها؟ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}. يقولُ: وهم في الدنيا عمَّا اللهُ فاعلٌ بهم من ذلك يومَ القيامةِ، وعن دُنوِّ محاسبته إيَّاهم منهم
(1)
، واقْترابِه لهم، في سَهْوٍ وغَفْلَةٍ، وقد أعْرَضوا عن ذلك، فتَرَكوا الفِكْرَ فيه، والاستعدادَ له، والتأهُّبَ؛ جهلًا منهم بما هم لاقُوه عند ذلك من عظيمِ البلاءِ، وشديدِ الأهوالِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في تأويل قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}
(2)
جاء الأثَرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذِكرُ [الرواية بذلك]
(3)
حدَّثنا أبو موسى محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثني أبو معاويةَ،
(1)
في ت 2: "منه".
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"قال أهل التأويل و".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"من قال ذلك".
قال: أخبَرنا الأعمشُ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} . قال: "في الدُّنيا"
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
(2)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: ما يُحْدِثُ الله من تنزيلِ شيءٍ من هذا القرآنِ للناس
(2)
، ويُذَكِّرُهم به ويَعِظُهم، {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}:[لا يَعْتَبرون به، ولا يتفكَّرون في وعدِه ووعيدِه، ولكنَّهم يَسْتمِعونه وهم يلعَبون]
(3)
لاهيةً قلوبُهم.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} الآية. يقولُ: ما يُنَزَّلُ عليهم من شيءٍ من القرآنِ إِلا اسْتَمَعوه وهم يَلْعَبون
(4)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
(3)}.
يعنى
(5)
تعالى ذِكرُه بقولِه
(6)
: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} : غافلةٌ. يقولُ: ما
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن مردويه، وأخرجه النسائي في الكبرى (11332) من طريق أبي الوليد به من حديث أبي سعيد، وفي (11331) من طريق أبى معاوية به من حديث أبي سعيد أيضًا.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف، وفى م:"للناس و".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ف.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2750 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن المنذر.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"يقول".
(6)
سقط من: م.
يَسْتَمِعُ هؤلاءِ القوُم الذين وصَف صفتهم، هذا القرآنَ إِلَّا وهم يَلْعَبون، غافلةً عنه قلوبُهم، لا يتَدبَّرون حُكْمَه، ولا يتفَكَّرون فيما أَوْدَعه اللهُ من الحُجَجِ عليهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} . يقولُ: غافلةً قلوبهم
(1)
.
وقولُه: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} . يقولُ: وأَسَرَّ هؤلاء الناسُ الذين اقْتَرَبتِ الساعةُ مِنهم وهم في غَفْلةٍ معرضون لاهيةً قلوبُهم - النَّجْوى بينَهم. يقولُ: وأظهروا المناجاةَ بينَهم فقالوا: هل هذا الذي يزعُمُ أَنَّه رسولٌ من اللهِ أرسَله إليكم، {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. يقولون: هل هو إلا إنسانٌ مِثلُكم في صورِكم وخَلْقِكم. يَعْنُون بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فوصَفَهم بالظُّلمِ بفِعْلِهم وقِيلِهم الذي أخبرَ به عنهم في هذه الآياتِ أنَّهم يفْعَلون ويقولون؛ من الإعراضِ عن ذكرِ اللهِ، والتكذيبِ برسولِه.
ولـ {الَّذِينَ} من قولِه: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} في الإعرابِ وَجْهان؛ الخفضُ على أنَّه تابع لـ "الناسِ" في قولِه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} والرفعُ على الردِّ
(2)
على الأسماء الذين في قولِه: {وَأَسَرُّوا} من ذِكْرِ "الناس"، كما قيل:{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]. وقد يحتمِلُ أن يكونَ رفعًا على الابْتداءِ، ويكونَ معناه: وأسرَّوا النَّجوى. ثم قال: هم الذين ظَلَموا.
وقولُه: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} . يقولُ: وأَظْهَروا
(3)
هذا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
الرد: البدل. ينظر مصطلحات النحو الكوفي ص 36.
(3)
في ص، ف:"وأظهر".
القولُ بينَهم، وهى النَّجْوى التي أسرُّوها بينهم، فقال بعضُهم لبعضٍ: أتَقْبَلون السِّحرَ، وتُصَدِّقون به وأنتم تعلمون أنَّه سحرٌ؟ يعنُون بذلك القرآنَ.
كما حدثَّني يونُسُ قال: أخبَرنا ابن وَهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} . قال: قاله أهلُ الكفْرِ لنبيِّهم ليما جاء به من عندِ اللهِ، زعَموا أنَّه ساحرٌ، وأن ما جاء به سحرٌ، قالوا: أتأتون السِّحرَ وأنتم تُبْصرون؟
القولُ في تأويلِ قوله: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(4)}.
اختلفَت القرأةُ في قراءةِ قوله: (قُلْ رَبِّي)؛ فقرأ ذلك عامّةُ قرَأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكوفيِّين: (قُلْ رَبِّي). على وجْهِ الأمْرِ
(1)
. وقرَأَه بعضُ قرَأة مكةَ وعامَّةُ قرَأةِ الكوفةِ: {قَالَ رَبِّي} على وجْهِ الخبر
(2)
. وكأنَّ الذين قرءوه على وجْهِ الأمْرِ أرادوا من تأويلِه: قُلْ يا محمدُ للقائلين: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} : ربِّي يعلمُ قول كلِّ قائلٍ في السماءِ والأرضِ، لا يَخْفَى عليه منه شيءٌ، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لذلك كُلِّه، ولما يقولون من الكَذِبِ، {الْعَلِيمُ} بصِدْقى وحقيقةِ ما أدْعُوكم إليه، وباطلِ ما تقولون، وغيرِ ذلك من الأشياءِ كلِّها. وكأنَّ الذين قَرَءوه على وجْهِ الخبرِ أرادوا: قال محمدٌ: {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ} . خبرًا مِنَ اللَّهِ عن جوابِ نبيِّه إيَّاهم.
والقولُ في ذلك عندى أنَّهما قراءتان مشهورَتان في قَرَأَةِ الأمصار، قد قرَأ بكلِّ
(1)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة لابن مجاهد ص 428.
(2)
وهى قراءة عاصم في رواية حفص، وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرَأةِ، وجاء بهما مصاحفُ المسلمين مُتَّفقَتا المعنَى، وذلك أن الله إذا أمر محمدًا بقِيلِ ذلك قالَه، وإذا قالَه فعن أمرٍ مِنَ
(1)
اللهِ قالَه، فبأيَّتهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ في قراءتِه.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه: ما صَدَّقوا بحِكْمَةِ هذا القرآنِ، ولا أنَّه من عندِ اللهِ، ولا أَقَرُّوا بأنَّه وَحْىٌ أوحاه
(2)
اللهُ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بل قال بعضُهم: هو أهاويلُ رُؤيا رآها في النومِ. وقال بعضُهم: هو
(3)
فِرْيةٌ واختلاقٌ افْتَراه واخْتَلَقَه من قِبَلِ نفسِه. وقال بعضُهم: بل محمدٌ شاعرٌ، وهذا الذي جاءكم بِه شعرٌ. {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ}. يقولُ: قالوا: فَلْيَجِئِنَا محمدٌ إن كان صادقًا في قولِه: إن الله بعَثَه رسولًا إلينا، وإن هذا الذي يَتْلُوه علينا وحْىٌ مِن اللَّهِ أَوْحَاه إلينا. {بِآيَةٍ}. يقولُ: بحجةٍ ودَلالةٍ على حقيقةٍ ما يقولُ ويدَّعى، {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}. يقولُ: كما جاءت به الرسلُ الأوَّلون من قَبْلِه؛ من إحياءِ المَوْتَى، وإِبْراءِ الأَكْمَةِ والأَبْرَصِ، وكناقةِ صالحٍ، وما أشْبَهَ ذلك من المعجِزاتِ التي لا يقدرُ عليها إِلَّا اللهُ، ولا يأتى بها إلَّا الأنبياء والرُّسلُ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت، ف.
(2)
في م: "أوحى".
(3)
في ت 2: "بل".
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} . أي: فعلُ حالمٍ، إنما هي رؤيا رآها. {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}: كلُّ هذا قد كان مِنهم.
وقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . يقولُ: كما جاء عيسى بالبيِّنات، وموسى بالبيناتِ، والرُّسل
(1)
.
حدثَّني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} . قال: مُشْتَبِهِةٌ
(2)
.
حدثَّني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} . قال: أهاوِيلُها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقال تعالى ذكرُه: {بَلِ افْتَرَاهُ} . ولا جحدَ
(4)
في الكلامِ ظاهرٌ
(5)
فيُحَقَّقَ بـ "بل"؛ لأن الخبرَ عن أهلِ الجحودِ والتكذيبِ، فاجْتُزِيء بمعرفةِ السامعين بما دَلَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تقدم تخريجه في 13/ 179.
(3)
تفسير مجاهد ص 469.
(4)
في ت 2: "حجة".
(5)
في ت 2: "ظاهرة".
عليه قولُه: {بَلِ} من ذكرِ الخبر عنهم على ما قد بَيَّنا.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ما آمَن قبلَ هؤلاءِ المُكَذِّبين محمدًا من مُشرِكي قومِه الذين قالوا: فلْيَأْتِنا محمدٌ بآيةٍ كما جاءت به الرسلُ قبلَه - من أهلِ قرية عذَّبْناهم بالهلاكِ في الدُّنيا، إذ جاءهم رسولُنا إليهم بآية مُعْجِزةٍ، {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}. يقولُ: أفهؤلاء المكذِّبون محمدًا، السائلوه الآيةَ، يؤمنون به إن جاءَتْهم آيةٌ، ولم تُؤمِنْ قَبْلَهم أسلافُهم من الأممِ الخاليةِ التي أَهْلَكْناها، برُسُلِها مع مَجيئها!
وبنحوِ الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثَّني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} : يُصَدِّقون بذلك
(1)
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} : أي أنَّ
(2)
الرسلَ كانوا إذا جاءوا قومَهم
(1)
تفسير مجاهد ص 469، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، ف.
بالبيناتِ فلم يؤمنوا، لم يُنظروا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
(2)
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: وما أرسلنا يا محمدُ قَبْلَك رسولا إلى أُمَّةٍ من الأممِ التي خَلَت قبلَ أُمَّتِك إلَّا رجالًا مثلهم نُوحِى إليهم ما نريدُ أن نُوحيه إليهم مِن أَمْرِنا ونَهْيِنا، لا ملائكةً، فماذا أنكَروا من إرْسَالِناك إليهم، وأنتَ رجلٌ كسائرِ الرُّسلِ الذين قبلَك إلى أممِهم؟!
وقولُه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . يقولُ للقائلين لمحمدٍ في تناجِيهم بينَهم: هل هذا إلا بشرٌ مِثْلُكم. فإن أنكَرْتم وجَهِلْتُم أمرَ الرُّسل الذين كانوا من قبلِ محمدٍ، فلم تعلَموا أيُّها القومُ أمرَهم إنسًا كانوا أم ملائكةً، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}. أي: أهلَ الكُتُبِ من التوراةِ والإنجيلِ ما كانوا يُخبِرُوكم عنهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . يقولُ: فاسألوا أهلَ التوراةِ والإنجيلِ - قال أبو جعفرٍ: أُرَاه أنا قال: يُخبرُوكم - أن الرسلَ كانوا رجالًا يأكُلُون الطعامَ، ويمشُون في الأسواقِ
(3)
.
وقيل: أهلُ الذِّكْرِ أهلُ القرآن.
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"يناظروا".
والأثر تقدم أوله في ص 226.
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"يوحى". وهي قراءة نافع وابن كثير وأبى بكر وابن عامر وأبي عمرو وحمزة والكسائي، والمثبت هو قراءة حفص. السبعة لابن مجاهد ص 428.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 32 عن معمر، عن قتادة بنحوه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطوسيُّ، قال: ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ صالحٍ، قال: ثنى موسى بنُ عثمانَ، عن جابرٍ الجُعْفيِّ، قال: لما نزَلت: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . قال [عليٌّ: نحنُ]
(1)
أهلُ الذِّكرِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . قال: أهلَ القرآنِ. والذِّكرُ القرآنُ. وقرَأ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(3)
[الحجر: 9].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه: وما جعَلنا الرُّسلَ الذين أرسَلْناهم من قَبْلِك يا محمدُ إلى الأممِ الماضيةِ قبلَ أُمَّتِكَ، {جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [يقولُ: لم نجعَلْهم ملائكةً لا يأكُلون الطعامَ]
(4)
، ولكِنْ جعَلْناهم أجسادًا مِثْلَك يأكُلون الطعامَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [يقولُ: ما جعَلناهم جسَدًا إلَّا ليأْكُلوا الطعامَ]
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ
(1)
في ص، ت 1، ف:"يقول الحسن على".
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 272، وأبو حيان في البحر المحيط 6/ 298.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 311، والقرطبي في تفسيره 11/ 272.
(4)
سقط من: ت 1، ف.
(5)
سقط من: ت 2.
الضحاكَ يقولُ في قوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} . يقولُ: لم أجْعَلُهم جسَدًا ليس فيها
(1)
أرواحٌ لا يأْكُلون الطعامَ، ولكنَّا
(2)
جعَلناهم جسَدًا فيها أرواحٌ يأْكُلون الطعامَ.
قال أبو جعفرٍ: وقال: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا} ، فوحَّد "الجسدَ" وجعله [وهو مُوَحَّدًا]
(3)
من صفةِ الجمَاعةِ، وإنَّما جاز ذلك لأن الجسدَ بمعنى المصدرِ، كما يقالُ في الكلامِ: ما
(4)
جَعَلْناهم خَلْقًا لا يأْكُلون.
وقوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} . يقولُ: ولا كانوا أربابًا لا يموتون ولا يَفْنون، ولكِنَّهم كانوا بشَرًا أجسادًا فماتوا، وذلك أنَّهم قالوا الرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما قد أخبرَ اللهُ عنهم:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:90 - 92]. قال اللهُ تبارك وتعالى لهم: ما فعَلْنا ذلك بأحدٍ قَبلَكم فنفعل بكم، وإنَّما كُنَّا نرسلُ إليهم رجالًا نُوحِى إليهم كما أَرْسَلْنا إليكم رسولًا نوحِى إليه أمْرَنا ونَهْيَنا.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} . أي: لا بُدَّ لهم من الموت أن يموتوا
(5)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"فيهم".
(2)
في م: "لكن".
(3)
في م: "موحدا وهو".
(4)
في م: "وما".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه: ثم صَدَقْنا رُسُلَنا الذين كَذَّبَتْهُم أَمَمُهم، وسأَلَتْهم الآياتِ، فأتَيْناهم ما سألوه مِن ذلك، ثم أقاموا على تكْذِيبِهم إيَّاها، وأصَرُّوا على جحودِهم نبوَّتَها بعدَ الذي أتَتْهم به من آياتِ ربِّها - وعْدَنا الذي وعَدْناهم من الهلاكِ
(1)
على إقامتِهم على الكفرِ بربِّهم بعدَ مجيءِ [الآياتِ التي سألوها]
(2)
، وذلك كقولِه جلَّ ثناؤُه:{فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]. وكقوله: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]. ونحوِ ذلك من المواعيدِ التي وعَد الأممَ مع مجيءِ الآياتِ.
وقولُه: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: فأنجَيْنا الرسلَ عندَ إصرارِ أمَمِيها على تَكْذيبِها بعدَ الآيات، {وَمَنْ نَشَاءُ}: وهم أتباعُها الذين صدَّقوها وآمنوا بها.
وقوله: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: وأَهْلَكْنا الذين أسرَفوا على أنفسِهم بكفرِهم بربِّهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:
{وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} : والمُسرِفون هم المُشركِون
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنَى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا
(1)
في ت 2: "العذاب".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"الآية التي سألوا".
(3)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}: فيه حديثُكم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فِيهِ ذِكْرُكُمْ} . قال: حديثُكم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} . قال: حديثُكم، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. قال في "قد أفلَح":{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا سفيانُ: نزَل القرآنُ بمكارِم الأخلاقِ، ألم تَسْمَعُه يقولُ:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
(2)
؟
وقال آخرون: بل عنَى بالذِّكرِ في هذا الموضعِ الشرف. وقالوا: معنى الكلامِ: لقد أنزَلْنا إليكم كتابًا فيه شَرَفُكم.
قال أبو جعفرٍ: وهذا القولُ الثاني أشْبَهُ بمعنى الكلمة، وهو نحوٌ ممَّا قال سفيانُ الذي حكَيْنا عنه، وذلك أنَّه شَرَفٌ لمن اتَّبَعَه وعمِل بما فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا
(1)
تفسير مجاهد ص 469، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 6/ 299.
بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وكثيرًا قصَمْنا من قريةٍ، والقَصْمُ أصلُه الكَسْرُ، يُقالُ منه: قصَمْتُ ظَهْرَ فلانٍ. إذا كَسَرْتَه، وانْقَصَمتْ سِنُّه. إذا انْكَسرت. وهو هلهُنا معنيٌّ به: أهْلَكْنا، وكذلك تأوَّله أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} . قال: أهْلَكَنا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} . قال: أهلَكْناها. قال ابن جُرَيجٍ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} ، قال: باليمنِ، قصَمْنا بالسيفِ: أُهلِكُوا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللَّهِ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} . قال: قصَمها: أهلَكَها.
وقولُه: {مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أُجْرِى الكلامُ على القريةِ، والمرَادُ به
(2)
أهلُها؛ لمعرفةِ السَّامِعين بمعناه، وكأنَّ ظُلمَها كُفْرُها باللهِ، وتكذيبُها رسُلَه.
وقوله {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: وأحْدَثنا بعدما أهْلَكنا هؤلاء الظَّلَمةَ مِن أهلِ هذه القريةِ التي قَصَمْناها بظُلْمِها، قومًا
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
في م: "بها".
آخرين سِواهم.
وقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} . يقولُ: فلمَّا عاينوا عَذابَنا قد حلَّ بهم، ورأَوه [ووجَدوا]
(1)
مسَّه.
يُقالُ منه: قد أحسسْتُ من فلانٍ ضَعْفًا، وأحَسْتُه منه، {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} يقولُ: إذا هم مما أحَسُّوا بأسَنا النازلَ بهم يهرُبون سِرعًا عَجْلَى، يَعْدُون مُنْهَزمين، يُقالُ منه: ركَض فلانٌ فرسَه. إذا كَدَّه بساقَيه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)} .
يقولُ تَعالى ذِكرُه: لا تهربُوا، {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ}. يقولُ: إلى ما أُنْعِمْتُم فيه من عَيْشِكم ومساكنِكم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} . يعني من نزل به العذابُ في الدُّنيا ممن كان يَعْصِي اللَّهَ مِن الأممَ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{لَا تَرْكُضُوا} : لا تَفِرُّوا
(3)
.
(1)
في م: "قد وجدوا".
(2)
في ص: "لسياقه"، وفى م:"بسياقته"، وفى ت 1، ف:"لساقه".
(3)
تقدم تخريجه في ص 232.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة:{وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} . يقولُ: ارْجعوا إلى دُنياكم التي أُترِفْتُم فيها.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَة:{وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} . قال: إلى ما أُتْرِفْتُم فيه من دُنياكم
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنَى قولِه: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لعلَّكم تَفقَهون وتَفْهَمون بالمسألِة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} . قال: تَفْقَهون
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} . قال: تَفْقَهُون.
وقال آخرون: بل معناه: لعلَّكم تُسْألون من دُنياكم شيئًا. على وجْهِ السُّخْرِية والاستهزاءِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 22 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 314 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 469، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 258، وهو من تمام الأثر المتقدم في ص 232.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة:{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} : استهزاءً بهم.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَة:{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} : من دُنياكم شيئًا، استهزاءً بهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: قال هؤلاءِ الذين أحَلَّ اللهُ بهم بأسَه بظُلْمِهم، لمَّا نزَل بهم بأسُ اللهِ: يا ويلَنا إنا كنا ظالمين بكُفْرِنا برَبِّنا، {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}. يقولُ: فلم تزَلْ دَعْواهم حينَ أتاهم بأسُ اللَّهِ بظُلْمِهِم أنفسَهم: {يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
حتى قتَلَهم اللهُ، فحصَدَهم بالسيفِ كما يُحْصَدُ الزرعُ ويُسْتَأْصَلُ قَطْعًا بالمناجلِ.
وقولُه: {خَامِدِينَ} . يقولُ: هالِكين قد انْطَفأت شَرارتُهم، وسكَنت حرَكتُهم، فصاروا هُمُودًا
(2)
كما تَخْمُدُ النارُ فتُطفَأُ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
بعده في ت 1: "خمودًا".
دَعْوَاهُمْ} الآية: فلمَّا رأَوا العذابَ وعايَنُوه لم يكُنْ لَهم هِجِّيرى
(1)
إلا قولَهم: {يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . حتى دمَّر اللهُ عليهم وأَهْلَكَهم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَة:{قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} . قال: [فما كان هِجِّيراهم إلا الويلَ]
(2)
{حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} . يقولُ: حتى هَلَكُوا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال ابن عباسٍ:{حَصِيدًا} : الحَصَادُ، {خَامِدِينَ}: خُمودُ النار إذا طُفِئت
(4)
.
حدَّثنا سعيدٌ بنُ الربيعِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: إنَّهم كانوا أهلَ حصونٍ، وإن الله بعَث عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، فبعَث إليهم جيشًا فقتَلَهم بالسيفِ، وقَتَلوا نبيًّا لهم فحُصِدوا بالسَّيفِ، وذلك قولُه:{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} بالسيفِ
(5)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما خلَقْنا السماءَ والأرْضَ وما بينَهما إِلَّا حُجَّةً عليكم أيُّها
(1)
في ص: "هجيرًا"، وفي ت 1، ف:"هجرًا"، وفي ت 2:"مجير".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(3)
تقدم تخريجه في ص 235.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى ابن المنذر.
(5)
سقط من: ت 1، ف.
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 22 عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى ابن أبي حاتم.
الناسُ، ولتَعْتَبِروا بذلك كلِّه، فتَعلَموا أنَّ الذي خلَقه ودبَّره لا يُشْبِهُه شيءٌ، وأنَّه لا تكونُ الألوهةُ إلَّا له، ولا تَصْلُحُ العبادةُ لشيءٍ غيرِه، ولم يَخْلُقُ ذلك عَبَثًا وَلَعِبًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} . يقولُ: ما خَلَقْناهما عَبَثًا ولا باطلًا
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: لو أردنا أن نتخِذَ زوجةً وولدًا لاتَّخَذنا ذلك من عندِنا، ولكنَّا لا نفعلُ ذلك، ولا يصلُحُ لنا فعلُه ولا يَنْبَغى؛ لأنه لا يَنْبغى أن يكونَ للهِ ولدٌ ولا صاحبةٌ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني
(2)
سليمانُ بن عبيدٌ اللهِ الغَيْلانيُّ
(3)
، قال: ثنا أبو قُتَيبةَ، قال: ثنا سلَّامٌ بنُ مِسكينٍ، قال: ثنا عقبةُ بنُ أبى جَسْرَةَ
(4)
، قال: شهِدتُ الحسنَ بمكةَ، قال: وجاءه طاوسٌ وعطاءٌ ومجاهدٌ، فسأَلوه عن قولِ اللهِ تعالى:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} . قال الحسنُ: اللهوُ المرأةُ
(5)
.
حدَّثني سعيدُ بنُ عمرٍو السَّكُوني، قال: ثنا بقيةُ بنُ الوليدِ، عن عليِّ بن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في م، ت 1، ف:"محمد بن". وينظر تهذيب الكمال 12/ 35.
(3)
في م: "الغيداني".
(4)
في ص، م، ت 1، ف:"حمزة". وينظر الجرح والتعديل 6/ 309.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
هارونَ، عن محمدٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} . قال: زوجةً
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} . الآية، أي: إن ذلك لا يكونُ ولا يَنْبغى. واللهوُ بلُغةِ أهلِ اليمنِ: المرأةُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَة:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} . قال: اللهوُ في بعضِ لغةِ أهلِ اليمنِ: المرأةُ. {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}
(2)
.
وقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} . حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَةَ قولَه:{إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} . يقولُ: ما كُنا فاعلين
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قالوا: مريمُ صاحبتُه، وعيسى ولدُه. فقال تبارك وتعالى:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [نساءً وولدًا]
(4)
، {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [من عندنا، لاتَّخذْنا نساءً ووَلَدًا مِن أهلِ السماءِ، وما اتَّخذْنا نساءً ووَلدًا مِن أهلِ الأرضِ، {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} ما كنا نفعلُ.
قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ: لو أردْنا أن نتخِذَ لهوا ووَلَدًا، {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} ]
(5)
.
(1)
ينظر تفسير القرطبي 11/ 276.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 22 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 22 عن معمر به.
(4)
سقط من: ت 1، ف.
(5)
في ص، م، ت 1، ف:"إن كنا فاعلين".
قال: مِن عِندِنا، ولا خلَقْنا جَنةً ولا نارًا، ولا موتًا ولا بَعْثًا ولا حسابًا.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} : مِن عندِنا، وما خَلَقْنَا جَنَّةً ولا نَارًا، ولا موتًا ولا بَعْثًا [ولا حسابًا]
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ولكن نُنَزِّلُ الحقَّ من عندنا، وهو كتابُ اللهِ وتَنْزِيلُه، على الكفرِ بهِ وأهلِه، {فَيَدْمَغُهُ}. يقولُ: فيُهْلِكُه كما يَدْمَغُ الرجلُ الرجلَ؛ بأن يَشُجَّه على رأسه شَجَّةً تبلُغُ الدِّماغَ، وإذا بلغتِ الشَّجَّةُ ذلك من المَشْجُوج لم يكنْ له بعدَها حياةٌ.
وقولُه: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . يقولُ: فإذا هو هالِكٌ مُضْمَحِلٌ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَة:{فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . قال: هالكٌ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة:{فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . قال: ذاهب.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
والأثر في تفسير مجاهد ص 470، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 23 عن معمر به.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [والحقُّ: كتابُ اللَّهِ القرآنُ، والباطلُ إبليسُ، {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}]
(1)
. أي: ذاهبٌ
(2)
.
وقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} . يقولُ: ولكم الويلُ مِن وَصْفكم ربَّكم بغيرِ صفَتِه، وقِيلِكم: إنَّه اتَّخَذ زوجةً وولدًا. وفِريتِكم عليه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، إلا أنَّ بعضَهم قال: معنَى {تَصِفُونَ} : تَكْذِبون. وقال آخرون: معنَى ذلك: تُشرِكون.
وذلك وإن اختَلفت به الألفاظُ فمتَّفِقَةٌ معانيه؛ لأنَّ من وصَف الله بأنَّ له صاحبةً فقد كذَب في وصفه إيَّاه بذلك، وأَشْرَك به، ووصَفه بغيرِ صفَتِه، غيرَ أن أوْلى العباراتِ أن يُعَبَّرَ بها عن معاني القرآنِ أقربُها إِلى فَهْمِ سامِعيهِ.
ذكرُ مَن قال ما قُلنا في ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} . أي: تكذبون
(3)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 389، 2/ 23 عن معمر، عن قتادة بنحوه دون أوله، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وفيه: هالك. بدلا من: ذاهب.
(3)
تقدم تخريجه في 9/ 455، 13/ 42، 277.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} . قال: تُشْرِكون. وقولُه: {عَمَّا تَصِفُونَ} [الأنعام: 100، الأنبياء: 22، المؤمنون: 91، الصافات: 159، 180، الزخرف:82]. قال: يُشركون. قال: وقال مجاهدٌ: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام:139]. قال: قولَهْم الكَذِبَ في ذلك
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: وكيف يجوزُ أن يتَّخِذَ اللَّهُ
(2)
لهوًا وله مُلْكُ جميعِ مَن في السماواتِ والأرضِ، والذين عِندَه مِن خَلْقِه لا يَستَنْكِفُون عن عبادتِهم إيَّاه، ولا يَعْيَون من طولِ خِدْمتِهم له، وقد عَلِمتُم أنَّه لا يستَعْبِدُ والدٌ ولدَه ولا صاحبتَه، وكلُّ مَن في السماواتِ والأرضِ عبيدُه، فأنَّى يكونُ له صاحبةٌ وولدٌ؟ يقولُ: أفلا تَتفَكَّرون فيما تَفْتَرون مِن الكذبِ على ربِّكم.
وبنحوِ الذي قُلنا في تأويلِ قولِه: {يَسْتَحْسِرُونَ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} . يقولُ: لا يَرجِعُون
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 277 بنحوه.
(2)
بعده في ت 2: "ولدًا و".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى ابن أبي حاتم.
قوله: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} : لا يحسُرون
(1)
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} . يقولُ: لا يَفْتُرون
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتَادةَ قولَه:{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} . قال: لا يُعْيون
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} . قال: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} : لا يملُّون. وذلك الاسْتِحْسارُ. قال: {لَا يَفْتُرُونَ} ، و {لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. هذا كلُّه واحدٌ معناه، والكلامُ فيه مُخْتَلِفٌ، وهو من قولِهم: بعيرٌ حَسِيرٌ، إذا أعْيَا وقام
(4)
، ومنه قولُ علقمةَ بن عبدةَ
(5)
:
بها جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها
…
فَبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصلِيبُ
(6)
(1)
تفسير مجاهد ص 470، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"يُعْيَون".
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 23.
(4)
قام: وقف عن السير. اللسان (ق و م).
(5)
ديوانه ص 14.
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 7/ 210.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}
يقولُ تعالى ذِكرُه: يُسَبِّحُ هؤلاء الذين عندَه من ملائكتِه ربَّهم الليل والنَّهارَ لا يفْتُرون من تَسْبيحِهم إيَّاه.
كما حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: أخبَرنا حميدٌ، عن إسحاقَ بن عبدِ اللهِ بن الحارثِ، عن أبيه، أن أن ابنَ عباسٍ سأل كعبًا عن قولِه:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} و {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. فقال: هل يَئودُكَ طَرْفُك؟ هل يَئودُك نَفَسُك؟ قال: لا. قال: فإنَّهم أُلهِموا التسبيحَ كما أُلْهِمتمُ الطَّرْفَ والنَّفَسَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو معاويةَ، عن أبي إسحاقَ الشَّيبانيِّ، عن حسانَ بن مُخارقٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن الحارثِ، قال: قلتُ لكَعْبِ الأحبارِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . أما يشْغَلُهم رسالةٌ أو عملٌ؟ قال: يا بنَ أخى، إنَّه
(2)
جُعِل لهم التسبيحُ كما جُعِل لكم النَّفَسُ، ألستَ تأكلُ وتشْرَبُ، وتقومُ وتَقْعُدُ، وتجيءُ وتذهَبُ، وأنت تَتَنفس؟ قلتُ: بلى. قال: فكذلك جُعِل لهم التسبيحُ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ وأبو داودَ، قالا: ثنا عِمْرانُ القطَّانُ، عن قتادَة، عن سالم بن أبي الجَعْدِ، عن مَعْدانَ بن أبي طلحةَ، عن عمرٍو البِكَاليِّ،
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (160) من طريق حميد به من غير ذكر ابن عباس.
(2)
في م: "إنهم".
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (322)، والبيهقى في الشعب (161) من طريق أبي معاوية به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 330 عن أبي إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو
(1)
، قال: إن الله [جزَّأ الخَلَقَ]
(2)
عَشَرَةَ أجزاءٍ، فجعل تسعةَ أجزاءٍ الملائكةَ، وجزءًا سائرَ الخَلْقِ، وجزَّأ الملائكةَ عَشَرة أجزاءٍ، فجعل تسعةَ أجزاءٍ يُسَبِّحون الليل والنهار لا يفترون، وجزءًا لرسالته، وجزَّأ الخلقَ عَشَرةَ أجزاءٍ، فجعَل تسعةَ أجزاءٍ الجنَّ، وجُزْءًا سائرَ بني آدمَ، وجَزَّأ بنى آدمَ عَشَرَةَ أجزاءٍ، فجعَل يأجوجَ ومأجوجَ تسعةَ أجزاءٍ، وجُزْءًا سائرَ بنى آدم آدمَ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . يقولُ: إنَّ الملائكة الذين هم عندَ الرحمنِ لا يَسْتَكْبِرُون عن عبادَتِه ولا يَسأمُون فيها. وذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَما هو جالسٌ مع أصحابِه إذ قال: "تَسْمَعون ما أسْمَعُ؟ " قالوا: ما نَسمَعُ من شيءٍ يا نبيَّ اللهِ. قال: "إنى لأسمَعُ أطِيطَ السماءِ، وما تُلامُ أن تَئِطَّ وليس فيها مَوْضِعُ راحةٍ إِلَّا وفيه مَلَكٌ سَاجِدٌ أو قائمٌ"
(4)
.
وقولُه: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أَتَّخَذ هؤلاء المشرِكُون آلهةً مِن الأرضِ هم يُنشرون؟ يعنى بقولِه: {هُمْ} . الآلهةَ. يقولُ: أهذه الآلهةُ التي اتَّخَذوها تُنشِرُ الأمواتَ. يقولُ: يُحيون الأمواتَ، ويُنشئون
(5)
الخَلْقَ، فإن الله هو الذي يُحيى ويُميتُ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
في م، ت 2:"عمر". وينظر ما تقدم في 15/ 297.
(2)
في م: "خلق".
(3)
ينظر ما سيأتي ص 401، 402.
(4)
أخرجه الطبراني (3122)، وأبو نعيم 2/ 217، والبزار (3208) والطحاوى في مشكل الآثار (1134) من طريق سعيد به، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 329 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام مرفوعًا.
(5)
في م، ف:"ينشرون".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{يُنْشِرُونَ} . قال: يُحيُون
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} . يقولُ: أفى آلهتِهم أحدٌ يُحيى ذلك؛ يُنشرون. وقرَأ قولَ اللهِ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونسُ: 31 - 35].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: لو كان في السماواتِ والأرضِ آلهةٌ تصلُحُ لهم العبادةُ سوى اللهِ الذي هو خالقُ الأشياءِ، وله العبادةُ والأُلوهةُ التي لا تصلُحُ إلَّا له {لَفَسَدَتَا}. يقولُ: لفسَد أهلُ السماواتِ والأرضِ، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فتَنزِيهٌ اللهِ وتَبْرِئَةٌ له مما يَفْتَرى به عليه هؤلاءِ المشرِكُون به مِن الكذبِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} : يُسَبِّحُ نفسَه إذ قيل عليه البُهتانُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 315، 316 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 316 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
يقولُ تعالى ذِكْرُه: لا سائل يسألُ ربَّ العرشِ عن الذي يَفعَلُ بخْلقِه من تَصْريفِهم فيما شاء
(1)
من حياةٍ وموتٍ وإعْزازٍ وإذْلالٍ وغيرِ ذلك من حُكْمِه فيهم؛ لأنَّهم خَلْقُه وعبيدُه، وجميعُهم في مُلكه وسلطانِه، والحكمُ حُكْمُه، والقضاءُ قضاؤُه، لا شيءَ فوقَه يسألُه عمَّا يَفعَلُ، فيقولُ له: لِمَ فَعَلْتَ؟ ولِمَ لم تَفْعَلْ {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وجميعُ مَن في السماواتِ والأرضِ من عبادِه مَسْئولُون عن أفْعالِهم، ومحاسَبون على أعمالِهم، وهو الذي يسألُهم عن ذلك، ويُحاسبُهم عليه؛ لأنّه فوقَهم ومالِكُهم، وهم في سُلطانه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . يقولُ: لا يُسألُ عما يفعل بعبادِه، وهم يُسألون عن أعمالِهم
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال قوله:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . قال: لا يُسألُ الخالقُ عن قَضائِه في خَلْقِه، وهو يَسْأَلُ الخلقَ عن عمَلِهم
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . قال: لا يُسأَلُ
(1)
في ص، ت 1، ف:"بينا"
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 316 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 279.
الخالقُ عما يَقْضِى في خلقِه، والخلقُ مسئولون عن أعمَالهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: أَتَّخَذ هؤلاءِ المشرِكُون من دونِ اللَّهِ آلِهَةٌ تنفَعُ وتضُرُّ، وتَخلقُ وتُحيى وتُميتُ {قُلْ} يا محمدُ لهم:{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . يعنى: حُجَّتكم. يقولُ: هاتوا، إن كُنتم تزعُمون أنَّكم مُحِقُّون في قِبلكم ذلك، حُجَّةٌ ودليلًا على صِدْقِكم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . يقولُ: هاتوا بيِّنتكم على ما تَقُولون
(2)
.
وقولُه: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} . يقولُ: هذا الذي جِئتُكم بهِ مِن عندِ اللهِ من القرآنِ والتَّنزيل {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} . يقولُ: خَبرُ مَن معى بما
(3)
لهم مِن ثوابِ اللَّهِ على إيمانِهم به، وطاعتِهم إيَّاه، وما عليهم مِن عقابِ اللهِ على معصيتِهم إيَّاه وكفرِهم به، {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ}. يقولُ: وخَيرُ مَن قَبْلى من الأممِ التي سلَفت قَبْلى، وما فعَل اللَّهُ بهم في الدُّنيا وما هو فاعلٌ بهم في الآخرةِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 316 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
عزاء السيوطي في الدر المنثور 4/ 316 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ت 1، م:"مما".
مَعِيَ}. يقولُ: هذا القرآنُ فيه ذكرُ الحلالِ والحرامِ، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}. يقولُ: ذكرُ أعمالِ الأممِ السالفةِ وما صنَع اللهُ بهم، وإلى ما صارُوا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} . قال: حديثُ مَن معى، وحديثُ مَن قَبْلى.
وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} . يقولُ: بل أكثر هؤلاء المُشركين لا يَعلَمُون الصوابَ فيما يقولون، ولا فيما يأْتُون ويَذَرون، {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} عن الحقِّ جَهْلًا منهم به، وقِلَّةَ فَهْمٍ.
وكان قتادة يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا، سعيدٌ عن قتادَة:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} : عن كتابِ اللهِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي
(2)
إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: وما أرسلنا يا محمدُ من قبلك من رسولٍ إلى أمةٍ من الأممِ إلَّا نُوحى إليه أنَّه لا معبودَ في السماواتِ والأرضِ تَصْلُحُ له العبادةُ سِواى {فَاعْبُدُونِ} . يقولُ: فأخْلِصوا لى العبادةَ، وأفْرِدوا لى الأُلوهةَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف، هنا وفيما يأتي:"يوحى" وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم. وقرأ بالنون حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، ونسب أبو حيان في البحر المحيط 6/ 307 هذه القراءة إلى المصنف.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} : به
(1)
أرسَلتُ الرسلَ؛ بالإخلاصِ والتوحيدِ، لا يُقبلُ منهم - قال أبو جعفرٍ: أَظُنُّه أنا قال - عَمَلٌ حتى يقولوه ويُقِرُّوا به، والشرائعُ مختلفةٌ؛ في التوراةِ شريعةٌ، وفي الإنجيلِ شريعةٌ، وفي القرآنِ شريعةٌ، حلالٌ وحرامٌ، وهذا كلُّه في إخلاصٍ للهِ وتوحيدٍ له
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: وقال هؤلا الكافرون بربِّهم: اتَّخَذَ الرحمنُ ولدًا من ملائكتِه. فقال جلَّ ثناؤُه، استعظامًا لما
(3)
قالوا، وتَبرِّيًا مما وصَفوه به سبحانَه، يقولُ: تَنْزِيها له عن ذلك، ما ذلك من صِفَتِه {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. يقولُ: ما الملائكةُ كما وصَفهم به هؤلاء الكافرون من بنى آدمَ، ولكنَّهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. يقولُ: أَكْرَمهم الله.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} . قال: قالت اليهودُ: إن الله تبارك وتعالى صاهَر الجنَّ، فكانت مِنهم الملائكةُ، قال اللهُ تبارك وتعالى تكذيبًا لهم وردًّا عليهم:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وإن الملائكةَ ليس
(4)
كما قالوا، إنَّما هم عبادٌ
(1)
في م: "قال".
(2)
تقدم تخريجه في ص 248.
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"مما".
(4)
في ت 1: "ليسوا".
أكرمهم اللهُ بعبادتِه
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَة، وحدثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبد الرزاق، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قَتادَة:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} : قالتِ اليهودُ وطوائف من الناسِ: إن الله تبارك وتعالى خاتَن إلى الجِنَّ؛ فالملائكةُ من الجنِّ. قال اللهُ تبارك وتعالى: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [حتى بلَغ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}]
(2)
.
[قال أبو جعفرٍ: ورفعَ قولَه: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}]
(3)
.
وقوله: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: لا يتكَلَّمون إلا بما يأمرُهم به ربُّهم، ولا يعْمَلون عملًا إلا به
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة، قال: قال اللهُ: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} : يُثْنى عليهم، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (1).
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م، ت 2، ف.
والأثر في تفسير عبد الرزاق 2/ 23.
(3)
سقط من: م، ت 2، ف. والكلام فيه سقط.
قال الفراء في معاني القرآن 2/ 201: وقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} . معناه: بل هم عباد مكرمون. ولو كانت: بل عبادًا مكرمين. مردودة على الولد، أي: لم نتخذهم ولدًا، ولكن اتخذناهم عبادًا مكرمين - كان صوابًا.
يقولُ تعالى ذِكرُه: يعلمُ ما بينَ أيدى ملائكتِه ما لم يَبْلُغوه، ما هو، وما هم فيه قائلُون وعاملُون، {وَمَا خَلْفَهُمْ}. يقولُ: وما مضَى من قبلِ اليومِ مما خَلَّفوه وراءَهم من الأزمانِ والدُّهورِ ما عمِلوا فيه. قالوا: ذلك كلُّه مُحْصًى لهم وعليهم، لا يَخْفَى عليه من ذلك شيءٌ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . يقولُ: يعلمُ ما قدَّموا وما أضَاعوا من أعْمالِهم
(1)
.
{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . يقولُ: ولا تَشْفَعُ الملائكةُ إِلَّا لَمَن رضي الله عنه
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . يقولُ: الذين ارْتَضَى لهم شهادةَ أَلَّا إِلَهَ إلَّا اللهُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 489، 490 (2590، 2595) عن محمد بن سعد به.
(2)
أخرجه البيهقى في البعث والنشور (2) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . قال: لَمَن رضِي عنه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} : يومَ القيامةِ. {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادَة يقولُ:{وَلَا يَشْفَعُونَ} : يومَ القيامةِ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمرٍ، عن قتادَة مثله
وقولُه: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . يقولُ: وهم من خوفِ اللهِ وحذارِ عقابِه أن يحُلَّ بهم {مُشْفِقُونَ} . يقولُ: حَذِرُون أَن يَعْصوه ويُخالفوا أمْرَه ونهيَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ومَن يقل من الملائكة: إنِّي إِلهٌ من دونِ اللَّهِ؛ {فَذَلِكَ} الذي يقولُ ذلك مِنهم {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} . يقولُ: نُثيبُه على قِيلِه ذلك جَهَنَّمَ، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. يقولُ: كما نَجْزِى مَن قَالَ مِنَ الملائكةِ: إِنِّي إِلهٌ مِن دونِ اللَّهِ. جَهَنَّمَ، كذلك نَجْزِى ذلك كلَّ مَن ظلَم نفسَه، فكَفر باللهِ وعبَد غيرَه.
وقيل: عُنِى بهذه الآيةِ إبليسُ. وقال قائلو ذلك: إنَّما قُلنا ذلك لأنَّه لا أحدَ مِن
(1)
تفسير مجاهد ص 470، ومن طريقه البيهقى في البعث والنشور (3)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 23 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
الملائكةِ قال: إنِّي إلهٌ مِن دونِ اللهِ. سواه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ} . قال: قال ابن جُرَيج: مَن يَقُلْ مِن الملائكة: إنِّي إلهٌ من دونِه. فلم يَقُلْه إلا إبليسُ دعا إلى عبادةِ نفسِه، فنَزلت هذه في إبليسَ
(1)
.
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} : وإنَّما كانت هذه الآيةُ خاصةً لعدوِّ اللهِ إبليسِ لمَّا قال ما قال، لعَنه اللهُ وجعَله رجيمًا، فقال:{فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادَةَ:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} . قال: هي خاصةٌ لإبليسَ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: أو لم ينظُرْ هؤلاءِ الذين كفَروا باللَّهِ بِأَبْصَارِ قلوبِهم، فيَرَوْا بها، ويعْلَموا {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا}. يقولُ: ليس فيهما ثَقْبٌ، بل كانتا مُلْتَصِفَتَين. يقال منه: رَتَق فلانٌ الفَتْقَ، إذا شَدَّه، فهو يَرْتُقُه رَتْقًا ورُتُوقًا. ومن ذلك قيل للمرأةِ التي فرجُها مُلْتَحِمٌ: رَتْقَاءُ، ووَحَّد "الَّرتقَ"،
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 83.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 83، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 83، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 23 من طريق معمر به.
وهو مِن صِفةِ السماءِ والأرضِ، وقد جاء بعدَ قولِه:{كَانَتَا} ؛ لأنَّه مصدرٌ مثلُ
(1)
الزورِ والصومِ والفطرِ.
وقولُه: {فَفَتَقْنَاهُمَا} . يقولُ: فصَدَعْناهما وفرَجْناهما.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في معنَى وصْفِ اللهِ السماواتِ والأرضِ بالرَّتْقِ، وكيف كان الرَّتقُ؟ وبأيِّ معنَى فُتِق؛ فقال بعضُهم: عُنى بذلك أن السماواتِ والأرضَ كانت مُلتَصِقَتَين، ففصل اللهُ بينَهما بالهواءِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} . يقولُ: مُلتَصِقَتَين
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} الآية. يقولُ: كانتا مُلتَصِقَتَين، فرفَع السماءَ ووضع الأرضَ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . كان ابن عباسٍ يقولُ: كانتا مُلْتَزِقتين، ففَتَقَهما اللهُ
(4)
.
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ف:"قول".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى المصنف.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 316.
(4)
تفسير سفيان ص 200 عن الضحاك.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ قولَه:{أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . قال: كان الحسنُ وقَتادةُ يقولان: كانتا جميعًا، ففصَل الله بينَهما بهذا الهواءِ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك أن السماواتِ كانت مُرتَتِقَةٌ طبقةً، ففَتَقَها اللهُ، فجعَلها سبعَ سماواتٍ، وكذلك الأرضُ كانت كذلك مُرْتَتِقَةً، فَفَتَقَها، فجعَلها سبعَ أَرَضِين.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله تبارك وتعالى:{رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} : مِن الأرضِ ستَّ أَرَضِين معها، فتلك سبعُ أرَضِين معها، ومن السماءِ
(2)
سِتَّ سماواتٍ معها، فتلك سبعُ سماواتٍ معها. قال: ولم تكنِ الأرضُ والسماءُ مُتماسَّتَين
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . قال: فتَقَهُنَّ سبعَ سماواتٍ، بعضُهنَّ فوقَ بعضٍ، وسبعَ أَرَضِين، بعضُهنَّ تحتَ بعضٍ
(4)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 333 عن الحسن وقتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"السماوات".
(3)
تفسير مجاهد ص 470، ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة (544)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 17 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 23 عن معمر به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوَ حديثِ محمدُ بنُ عمرٍو، عن أبي عاصمٍ.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ يزيدَ، عن إسماعيلَ، قال: سألتُ أبا صالحٍ عن قوله: {رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . قال: كانت الأرضُ رَتْقًا والسماءُ
(1)
رَتْقًا، ففَتَق من السماءِ سبعَ سماواتٍ، ومِن الأَرضِ سبعَ أَرَضِين
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: كانت سماءً واحدةً ثم فتَقها، فجعَلها سبعَ سماواتٍ في يومين؛ في الخميس والجُمُعَةِ، وإنَّما سُمِّيَ يومَ الجُمُعَةِ لأنَّه جُمِع فيه خلقُ السماواتِ والأرضِ، فذلك حينَ يقولُ:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54، يونسُ: 3، هود: 7، الحديد: 4]. يقولُ: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك أن السماواتِ كانت رَتْقًا لا تُمْطِرُ، والأرضَ كذلك رَتْقًا لا تُنْبِتُ، ففَتَقَ السماءَ بالمطرِ، والأرضِ بالنباتِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن عكرِمةَ:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . قال: كانتا رَتْقًا لا يخرُجُ منهما شيءٌ، ففَتَق السماءَ للمطرِ
(4)
، وفَتَق الأرضَ للنباتِ
(5)
. قال: وهو قولُه:
(1)
في م: "السماوات".
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (543) من طريق إسماعيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 317 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 55 بإسناد السدى المعروف.
(4)
في م: "بالمطر".
(5)
في م: "بالنبات".
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 11، 12].
حدَّثني الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا أبي، عن الفُضَيلِ بن مَرْزُوقٍ، عن عطيةَ في قولِه:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . قال: كانت السماءُ رَتْقًا لا تُمطرُ، والأرضُ رَتْقًا لا تُنْبِتُ، ففَتَق السماءَ بالمطرِ، وفَتَق الأرضَ بالنباتِ، وجعَل من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ، أفلا يؤمنون
(1)
؟
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} . قال: كانت السماءُ
(2)
رَتْقًا لا يَنزِلُ منها مطرٌ، وكانت الأرضُ رَتْقًا لا يخرج منها نباتٌ، ففَتَقَهما اللهُ، فأَنزَلَ مطرَ السماءِ، وشَقَّ الأرضَ فأَخْرَج نباتَها. وقرأ:{فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}
(3)
.
وقال آخرون: إنما قيل: {فَفَتَقْنَاهُمَا} لأنَّ الليلَ كان قبلَ النَّهارِ، ففَتَق النهارَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبد الرزاق، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن أبيه، عر عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: خَلَق الليلَ قبلَ النهارِ، ثم قال:{كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}
(4)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 316، وابن كثير في تفسيره 5/ 332.
(2)
في م، ف:"السماوات".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 284.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 61، وهو في تفسير سفيان ص 200، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 23.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: أو لم يرَ الذين كفَروا أن السماواتِ والأرضَ كانتا رَتْقًا من المطرِ والنباتِ، فَفَتَقْنَا السماءَ بالغَيْثِ، والأرضَ بالنباتِ.
وإنما قُلنا: ذلك أولى بالصوابِ في ذلك؛ لدلالةِ قولِه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} على ذلك، وأنَّه جلَّ ثناؤُه لم يُعْقِبْ ذلك بوصْفِ الماءِ بهذه الصِّفَةِ إلَّا والذي تَقَدَّمه مِن ذكرِ أسبابِه.
فإن قال قائلٌ: فإن كان ذلك كذلك، فكيفَ قيل:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} . والغيثُ إنَّما ينزلُ من السماءِ الدُّنيا؟
قيل: إن ذلك مُخْتَلَفٌ فيه، قد قال قومٌ: إنَّما ينزلُ مِن السماءِ السابعةِ. وقال آخرون: من السماءِ الرابعةِ. ولو كان ذلك أيضًا كما ذكَرتَ مِن أنَّه ينزلُ من السماءِ الدُّنيا، لم يكنْ في قولِه:{أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} دليل على خلافِ ما قُلنا؛ لأنَّه لا يمتَنِعُ أن يُقالَ: السماواتُ. والمراد منها واحدةٌ، فتُجْمعَ؛ لأن كلَّ قطعةٍ منها سماءٌ، كما يُقالُ: ثوبٌ أخْلاقٌ، وقميصٌ أسمالٌ.
فإن قال قائلٌ: وكيفَ قيل: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} . فالسماواتُ جمعٌ، وحكمُ جمعِ الإناثِ أن يُقالَ في قليلِه: كُنَّ، وفى كثيرِه: كانت؟
قيل: إنَّما قيل ذلك كذلك؛ لأنَّهما صنفان، فالسماواتُ نوعٌ، والأرضُ آخرُ، وذلك نظيرٌ قولِ الأسودِ بن يَعْفُرَ
(1)
:
إن المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهما
…
تُوفِى المخَارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي
فقال: كِلاهما. وقد ذكَر المنيةَ والحتُوفَ؛ لِما وصَفْتُ من أَنَّهُ عنَى النَّوعين.
(1)
البيت في المفضليات ص 216، وسمط اللآلئ 1/ 174، 368.
وقد أُخْبِرتُ عن أبي عبيدةَ معمرِ بن المثنى
(1)
، قال: أنشَدني غالبٌ النُّفَيْليُّ للقُطامِيِّ
(2)
:
أَلَمْ يَحْزُنُكِ أن حِبالَ قَيْسٍ
…
وتَغْلِبَ قد تَبايَنتا انْقِطاعَا
فجعَل حبالَ قيسٍ وهى جمعٌ، وحبالَ تَغْلِبَ وهى جمعٌ، اثْنَيْن.
وقولُه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: وأَحْيَيْنا بالماءِ الذي نُنَزِّلُه مِن السماءِ كلَّ شيءٍ.
كما حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . قال: كلُّ شيءٍ حَيٍّ خُلِقَ مِنَ الماءِ
(3)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف خُصَّ كلُّ شيءٍ حيٍّ بأنَّه يجعل مِن الماءِ دونَ سائرِ الأشياءِ غيرِه، فقد عَلِمتَ أنَّه يَحْيا بالماءِ الزروعُ والنباتُ والأشجارُ، وغيرُ ذلك ممَّا لا حياةَ له، ولا يُقالُ له: حيٌّ ولا مَيِّتٌ؟
قيل: إنه لا شيءَ من ذلك إلَّا وله حياةٌ وموتٌ، وإن خَالفَ معناه في ذلك معنَى ذواتِ الأرواحِ في أنَّه لا أرواحَ فيهنَّ، وأن في ذواتِ الأرواحِ أرواحًا، فلذلك قيل:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} .
وقولُه: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: أفلا يُصَدِّقون بذلك، ويُقِرُّونَ بِأُلُوهةِ مَن فعَل ذلك ويُفْرِدُونه بالعبادة!
(1)
مجاز القرآن 2/ 37.
(2)
ديوانه ص 32، والرواية فيه:"تباينت".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 23 عن معمر به، وأخرجه أحمد 13/ 314 (7932)، والحاكم 4/ 129، 160 من طريق قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: أو لم يرَ هؤلاءِ الكفارُ أيضًا من حُجَجنا عليهم وعلى جميعِ خَلْقِنا، أنَّا جعَلْنا في الأرضِ [جبالًا راسيةً]
(1)
. والرَّواسِي جمعُ راسيةٍ، وهى الثَّابتةُ.
كما حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ قولَه:{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} . أي: جبالًا
(2)
.
وقولُه: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} . يقولُ: ألَّا تَتَكفَّأَ بهم. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فجعَلْنا في هذه الأرضِ هذه الرَّواسِىَ من الجبالِ، فثَبتَّناها لئلَّا تَتَكفَّأَ بالناسِ، وليقْدِرُوا على الثباتِ على ظهرِها.
كما حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كانوا على الأرضِ تَمورُ بهم، لا تَسْتقِرُّ، فأصبَحُوا صبحًا
(3)
، وقد جعل الله الجبالَ، وهى الرَّواسي، أوتادًا للأرضِ
(4)
.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} . [يقولُ: وسهَّلْنا في الأرضِ التي أسكناهم فيها {فِجَاجًا}]
(5)
. يعني: مسالِكَ، واحِدُها فَجٌّ.
(1)
في ت 2: "رواسي".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 7/ 2219 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 113 إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 113 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 3، ف.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا} . أي: أَعْلامًا، وقولُه:{سُبُلًا} . أي: طُرُقًا، وهى جمعُ السَّبيلِ
(1)
.
وكان ابن عباسٍ فيما ذُكِر عنه يقولُ: إنما عنَى بقولِه: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا} : وجعلنا في الرَّواسِي، فالهاءُ والألفُ في قولِه:{وَجَعَلْنَا فِيهَا} من ذِكْرِ الرَّواسي.
حدَّثنا بذلك القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا} . قال: بينَ الجبال
(2)
.
وإنما اخْتَرنا القولَ الآخر في ذلك، وجعَلنا الهاءَ والألفَ من ذِكْرِ "الأرضِ"؛ لأنَّها إذا كانت من ذِكْرِها دخَل في ذلك السهلُ والجبلُ، وذلك أن ذلك كلَّه من الأرضِ، وقد جعَل اللهُ لخلْقِه في ذلك كلِّه فجاجا سُبُلًا، ولا دلالةَ تدلُّ على أنَّه عنَى بذلك فِجاجَ بعضِ الأرضِ التي جعَلها لهم سُبُلًا دونَ بعضٍ، فالعمومُ بها أَوْلَى.
وقولُه: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} . يقولُ تعالى ذكره: جعَلْنا هذه الفجاجَ في الأرضِ ليَهْتَدوا إلى السيرِ فيها.
القولَ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى المصنف وابن المنذر.
يَسْبَحُونَ (33)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: وجعَلْنا السماءَ سقفًا للأرضِ مَسْمُوكًا.
وقولُه: {مَحْفُوظًا} . يقولُ: حفِظناها مِن كلِّ شيطانٍ رجيمٍ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{سَقْفًا مَحْفُوظًا} . قال: مرفوعًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} . الآية: سَقْفًا مرفوعًا، ومَوْجًا مَكْفُوفًا
(2)
.
وقوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} . يقول: وهؤلاء المشركون عن آيات السماءِ - ويعنى بـ {آيَاتِهَا} شمسَها وقمرَها ونجومَها - {مُعْرِضُونَ} . يقولُ: يُعرِضُون عن التَّفَكُّرِ فيها، وتَدبُّرِ ما فيها من حُججِ اللهِ عليهم، ودلالتِها على وَحْدَانيَّة خالِقِها، وأنَّه لا ينبَغى أن تكونَ العبادةُ إلَّا لَمَن دَبَّرَها وسَوَّاها، ولا تَصْلُحُ إِلَّا له.
(1)
تفسير مجاهد ص 471، ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة (559)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سيأتي تخريجه في تفسير الآية "3" من سورة "الحديد".
وبنحوِ الذي قُلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} . قال: الشمسُ والقمرُ والنجومُ آياتُ السماءِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
وقولُه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: واللُه الذي خلَق لكم أيُّها الناسُ الليلَ والنهارَ، نعمةً منه علَيكم وحُجَّةً، ودلالةً على عظيمِ سُلطانِه، وأن الأُلوهةَ له دونَ كلِّ ما سِواه، فهما يختَلِفان عليكم لصلاحِ معايشِكم وأُمورِ دُنْياكم وآخرتِكم، وخلَق الشمسَ والقمرَ أيضًا، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. يقولُ: كلُّ ذلك في فلكٍ يَسْبَحون.
واختَلَف أهلُ التأويلِ في معنى "الفَلَكِ" الذي ذكَره اللهُ في هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: هو كهيئةِ حديدةِ الرَّحَى.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 471.
قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: فَلَكٌ كهيئةِ حديدةِ الرَّحَى
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: كنعتِ حديدةِ الرَّحَى.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثني جريرٌ، عن قابوسَ بن أبي ظَبْيان، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: فَلَكُ السماءِ
(2)
.
وقال آخرون: بل الفَلَكُ الذي ذكَره اللهُ في هذا الموضعِ سرعةُ جريِ الشمسِ والقمرِ والنجومِ وغيرِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : الفَلَكُ المَجْرى والسُّرعةُ
(3)
.
[وقال آخرون: الفَلَكُ مَوْجٌ مكْفوفٌ تجْرى الشمسُ والقمرُ والنجومُ فيه]
(4)
.
وقال آخرون: بل هو القطبُ الذي تدورُ به النُّجومُ. وَاسْتَشْهَد قائلُ هذا القولِ لقولِه هذا بقول الراجزِ
(5)
:
باتَتْ تُناصِي
(6)
الفَلَكَ الدَّوَّارَا
(1)
تفسير مجاهد ص 471، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر فتح البارى 8/ 436.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 11/ 286.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 38.
(6)
في م: "تناجي". وتناصى: تجاذب. ينظر اللسان (ن ص ى).
حتى الصَّباحِ تُعمِلُ الأقْتارَا
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولهَ:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . أي: في فَلَكِ السماءِ.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثور، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: يَجْرى في فَلَكِ السماءِ كما رأيتَ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: الفَلَكُ الذي بينَ السماءِ والأرضِ مِن مجارى النُّجومِ والشَّمسِ والقَمرِ. وقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} [الفرقان: 61]. وقال: تلك البروجُ بينَ السماءِ والأرضِ، وليست في الأرضِ، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. قال: فيما بينَ السماءِ والأرضِ؛ النجومُ والشمسُ والقمرُ
(2)
.
وذُكِر عن الحسنِ أنَّه كان يقولُ: الفَلَكُ طاحونةٌ كهيئةِ فَلَكَةِ المِغْزَلِ
(3)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يُقالَ كما قال اللهُ عز وجل: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . وجائزٌ أن يكونَ ذلك الفَلَكُ كما قال مجاهدٌ كحديدةِ الرَّحَى، وكما ذُكِر عن الحسنِ كطاحُونَةِ الرَّحَى، وجائزٌ أن يكونَ موجًا مَكْفُوفًا، وأن يكونَ قُطْبَ السماءِ، وذلك أن الفَلَكَ في كلامِ العربِ هو كلُّ شيءٍ دائرٍ، فَجَمْعُه أَفْلَاكٌ. وقد ذكَرتُ قولَ الراجزِ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 23، 24 عن معمر، عن قتادة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وينظر تفسير القرطبي 11/ 286.
(3)
أخرجه ابن عيينة في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 257 عن عمرو، عن الحسن.
باتَتْ تُناصِى
(1)
الفَلَكَ الدَّوَّارَا
وإذا كان كلُّ ما دار في كلامِها فلكًا
(2)
، ولم يكنْ في كتابِ اللهِ، ولا في خبرٍ عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا عمَّن يَقْطَعُ قولُه العُذْرَ، دليل يدلُّ على أيِّ ذلك هو مِن أيِّ، كان الواجبُ أن نقولَ فيه ما قال، ونَسْكُتَ عمَّا لا علمَ لنا بهِ.
فإذ كان الصوابُ في ذلك مِن القولِ ما ذكَرْنا، فتأويلُ الكلامِ: والشمسُ والقمرُ، كلُّ ذلك في دائرٍ يَسْبَحون.
وأما قولُه: {يَسْبَحُونَ} . فإن معناه: يَجْرون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: يَجْرون
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَسْبَحُونَ} . قال: يَجْرون
(4)
.
وقيل: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فأخرَج الخبرَ عن الشمسِ والقمرِ مُخرَجَ
(1)
في م: "تناجي".
(2)
سقط من: م، ف.
(3)
تفسير مجاهد ص 471.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
الخبرِ عن بني آدمَ بالواوِ والنونِ، ولم يقلْ: يَسْبَحْنَ، أو: تَسْبَحُ. كما قيل: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. لأنَّ السجودَ من أفعالِ بني آدمَ، فلمَّا وُصِفتِ الشَّمسُ والقمرُ بمثلِ أفعالِهم، أُجْرِيَ الخبرُ عنهما مُجْرَى الخبرِ عنهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وما خَلَّدْنا أحدًا من بنى آدمَ يا محمدٌ قبلَك في الدُّنيا فنُخَلِّدَك فيها، ولا بُدَّ لك من أن تموتَ كما مات مِن قَبْلِكَ رُسُلُنا، {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. يقولُ: فهؤلاء المُشرِكون بربِّهم هم الخالِدُون في الدُّنيا بعدَك؟ لا، ما ذلك كذلك، بل هم مَيِّتون بكلِّ حالٍ، عِشْتَ أو مِتَّ. فأُدخِلتِ الفاءُ في "إن" وهى جزاءٌ، وفى جوابِه؛ لأنَّ الجزاءَ مُتَّصِلٌ بكلامٍ قَبْلَه، ودخلت أيضًا في قولِه:{فَهُمُ} ؛ لأنَّه جوابٌ للجزاءِ، ولو لم يكُنْ في قولِه:{فَهُمُ} الفاءُ، جاز على وجْهَين؛ أحدُهما، أن تكونَ محذوفةً وهى مرادةٌ، والآخرُ، أن يكونَ مرادًا تقديمُها إلى الجزاءِ، فكَأَنَّه قال: أَفَهُمُ الخالدون إن مِتَّ؟
وقولُه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: كلُّ نَفْسٍ مَنْفوسةٍ من خَلْقِه، معالِجَةٌ غُصَصَ الموتِ، ومتجرّعةٌ كأسَها.
وقولُه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . يقولُ تعالى ذِكرُه: ونَخْتَبِرُكم أيُّها الناسُ {بِالشَّرِّ} . وهو الشِّدَّةُ، نَبْتَلِيكم بها، وبـ {وَالْخَيْرِ} . وهو الرخاءُ والسَّعةُ والعافيةُ، فنَفْتِنُكم به.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قولَه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . قال: بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وكلاهما بلاءٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . يقولُ: نَبْلُوكم بالشَّرِّ بلاءً، وبالخيرِ فتنةً، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} . قال: [نَبْلُوهم بما يُحبُّون وبما يَكْرَهون؛ نَخْتَبِرُهم]
(2)
بذلك لنَنظرَ كيف شُكرُهم فيما يُحبُّون، وكيف صبرُهم فيما يَكْرَهون (1).
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} . يقولُ: نَبْتَلِيكم بالشَّدةِ والرَّخاءِ، [والصِّحةِ]
(3)
. والسَّقَمِ، والغِنَى والفَقْرِ، والحلالِ والحرامِ، والطاعةِ والمعصيةِ، والهُدَى والضَّلالةِ
(4)
.
وقولَه: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
(5)
. يقولُ: وإلينا [تُردُّون فتُجازَوْن]
(6)
بأعمالِكم
(7)
؛
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 6/ 311.
(2)
في ت 1، ت 2:"نبلوكم بما تحبون وما تكرهون نختبركم".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 3، ف.
(4)
أخرجه اللالكائى في شرح أصول الاعتقاد (1007) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في ص، ف:"يرجعون". قال أبو حيان في البحر المحيط 6/ 311: وقرأ الجمهور "تُرْجعون" بتاء الخطاب مبنيا للمفعول، وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة مبنية للفاعل - وهى قراءة يعقوب، وهو من العشرة - وقرأت فرقة بضم الياء للغيبة مبنيا للمفعول على سبيل الالتفات. وينظر في قراءة يعقوب إتحاف فضلاء البشر ص 189.
(6)
في م: "يردون فيحازون".
(7)
في ص، ت 1، ت 3، ف:"بأعمالهم".
حسنِها وسيِّئِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإذا رآك يا محمدُ الذين كَفَروا باللهِ {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} . يقولُ: ما يَتَّخِذُونك إِلَّا سِخْرِيًّا يقولُ بعضُهم لبعضٍ: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} . يعنى بقولِه: {يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} : يذكرُ آلهتَكم بسوءٍ ويُعيبُها؛ تعجُّبًا مِنهم مِن ذلك، يقولُ اللَّهُ تعالى ذِكرُه: فيَعجَبون مِن ذِكْرِك يا محمدُ آلهتَهم التي لا تضرُّ ولا تَنفَعُ بسوءٍ، وهم يذكْرِ الرحمنِ الذي خلَقهم وأنعَم عليهم، ومنه نَفْعُهم، وبيدِه ضرُّهم، وإليه مَرْجِعُهم، بما هو أهلُه مِنهم أن يَذكُروه به - كافرون.
والعربُ تضَعُ الذِّكرَ موضِعَ المدحِ والذمِّ، فيقولون: سمِعْنا فلانًا يَذْكُرُ فلانًا. وهم يُريدُونَ: سَمِعْناه يَذْكُرُه بقبيحٍ ويَعيبُه - ومِن ذلك قولُ عنترةَ
(1)
:
لا تَذكُرِى مُهْرِى وما أَطْعَمْتُه
…
فيكونَ
(2)
جلدُكِ مِثلَ جِلدِ الأَجْرَبِ
يعنى بذلك: لا تَعِيبى مُهْرِى - وسَمِعْناه يَذْكُرُه بخيرٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ} . يعني آدمَ، {مِنْ عَجَلٍ} .
واختَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: مِن عَجَلٍ في بِنْيَتِه
(1)
ديوانه ص 19، ونسبه في اللسان (ن ع م) إلى خُزَز بن لَوْذان السدوسي.
(2)
في ت 2: "فيصير".
وخَلْقِه
(1)
، كان مِن العَجَلَةِ
(2)
، وعلى العجَلَةِ.
ذِكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . قال: لمَّا نُفِخ في آدمَ الروحُ في رُكبتَيْهِ ذَهَب لِينهضَ، فقال اللهُ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما نُفِخ فيه، يعني في آدمَ، الروحُ، فدخَل في رأسِه عطَس
(4)
، فقالت الملائكةُ: قُلْ: الحمدُ للهِ. فقال: الحمدُ للهِ. فقال اللهُ له: رحِمكَ ربُّك. فلمَّا دخَل الروحُ في عَيْنَيْه نظَر إلى ثمارِ الجَنَّةِ، فلمَّا دخَل في جوفِه اشْتَهى الطعامَ، فوثَب قبلَ أن تبلغَ الروحُ رجُلَيه عَجْلَانَ إلى ثمارِ الجنةِ، فذلك حينَ يقولُ اللَّهُ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . يقولُ: خُلِق الإنسانُ عَجُولًا
(5)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن
(6)
ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . قال: خُلِق عَجُولًا
(7)
.
وقال آخرون: معناه {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . أي: من تَعْجِيلٍ فِي خَلْقِ اللَّهِ
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"خلقته".
(2)
في ت 2: "عجل".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
في ت 2: "فعطس".
(5)
تقدم مطولًا في 1/ 486 - 488.
(6)
في ت 2: "أبو".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 24 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى ابن المنذر.
إيَّاه ومِن سُرعةٍ فيه وعلى عَجَلٍ. وقالوا: خلَقه اللهُ في آخِرِ النَّهَارِ يومَ الجُمُعةِ قبلَ غُروبِ الشمسِ على عجلٍ في خَلْقِهِ إِيَّاه قبلَ مَغيبِها.
ذِكْرُ مِن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا
(1)
عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . قال: قولُ آدمَ حينَ خُلِق بعدَ كلِّ شيءٍ آخرَ النهارِ مِن يومِ خُلِق الخَلْقُ، فلمَّا أَحْيا الروحُ عَينَيْه ولسانَه ورأسَه، ولم يَبلُغْ أسْفَلَه، قال: يا ربِّ اسْتَعْجِلْ بخَلْقِى قبلَ غروبِ الشمسِ
(2)
.
[حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ مثلَه]
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . قال: آدمُ حينَ خُلِق بعدَ كلِّ شيءٍ. ثم ذكَر نحوَه، غيرَ أنَّه قال في حديثِه: اسْتَعْجِلْ بخَلْقِي فقد غَرَبتِ الشمسُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولهِ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . قال: على عَجَلٍ خُلِق آدمُ آخِرَ ذلك اليومِ من [ذلك اليومِ]
(4)
، يريدُ يومَ الجُمُعةِ، وخَلَقه على عجلٍ، وجعَلَه عَجُولًا
(5)
.
(1)
سقط من: ص، ت 2.
(2)
تفسير مجاهد ص 471، وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 115، وأبو الشيخ في العظمة (1026) من طريق ليث عن مجاهد بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
كذا في النسخ، وهو تكرار من الأثر السابق.
(4)
في ص، ت 1:"ذلك اليومين" في م: "ذينك اليومين".
(5)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 6/ 313 بنحوه.
وقال بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ
(1)
ممَّن قال نحوَ هذه المقالةِ: إنَّما قال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} وهو يعنى أنه خلَقَه مِن تعجيلٍ من الأمرِ؛ لأنَّه قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. قال: فهذا العَجَلُ، وقولُه:{فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [إنِّي {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي}]
(2)
.
وعلى قولِ صاحبِ هذه المقالةِ يجبُ أن يكونَ كلُّ خَلْقِ اللهِ خُلِق على عَجَلٍ؛ لأن كلَّ ذلك خُلقِ بأنْ قِيل له: كُنْ. فكان. فإن كان ذلك كذلك، فما وَجْهُ خصوصِ الإنسان إذن بذكرِ أَنَّه خُلِق من عَجَلٍ دونَ الأشياءِ كلِّها، وكُلُّها مخلوقٌ منِ عَجَلٍ، وفي خصوصِ اللهِ تعالى ذِكرُه الإنسانَ بذلك، الدليلُ الواضحُ على أن القولَ في ذلك غيرُ الذي قاله صاحبُ هذه المقالةِ.
وقال آخرون مِنهم
(3)
: هذا من المَقْلوبِ، وإِنَّما هو: خُلِق [العجَلُ مِنْ](2) الإنسانِ وخُلِقتِ العَجَلَةُ من الإنسانِ. وقالوا: ذلك مثلُ قولِه: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76] إنَّما هو: لَتَنوءُ العصبةُ بها مُتثاقِلةً. وقالوا: هذا وما أشْبَههُ في كلامِ العربِ كثيرٌ مشهورٌ. قالوا: وإنَّما كُلِّم القومُ بما يَعقلون. قالوا: وذلك مثلُ قولِهم: عرَضْتُ الناقةَ [على الحوضِ. يُريدون: عرضتُ الحوضَ على الناقةِ]
(4)
. وكقولِهم: إذا طلعتِ الشِّعرَى واستوى العودُ على الحِرْباءِ. أي: اسْتَوتِ الحِرْباءُ على العودِ. كقولِ الشاعرِ
(5)
:
(1)
هو الأخفش، كما في البحر المحيط 6/ 313.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 38، 39.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 3، ف.
(5)
هو خداش بن زهير، والبيت في الكامل 2/ 62، واللسان (ض ط ر)، والشطر الثاني في المخصص 2/ 77 غير منسوب.
وتَركَبُ خَيلًا لا هَوَادَةَ بينَها
…
وتَشْقَى الرِّماحُ بالضياطِرَةِ
(1)
الحُمْرِ
وكقولِ ابن مُقْبلٍ
(2)
:
حَسَرْتُ كَفِّى عن السِّربالِ آخُذُه
…
فَردًا يُجَرُّ علَى أَيْدِى المُفَدِّينا
يريدُ: حسَرتُ السِّربالَ عن كَفِّى. ونحوُ ذلك مِن المقلوبِ.
وفي إجماعِ أهلِ التأويلِ على خلافِ هذا القولِ الكفايةُ المغنيةُ عن الاستشهادِ على فسادِه بغيرِه.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: والصوابُ من القولِ في تأويلِ ذلك عِندَنا القولُ الذي ذكَرْناه عمَّن قال: معناه: خُلِق الإنسانُ من عَجَلٍ فِي خَلْقِهِ. أَيْ: على عَجَلٍ وسُرعةٍ في ذلك. وإنما قِيل: ذلك كذلك لأنَّه بُودِر بخلْقِه مغيبُ الشمسِ في آخِرِ ساعةٍ مِن نهارِ يومِ الجُمُعةِ، وفي ذلك الوقتِ نُفِخ فيه الروحُ.
وإنما قلنا: ذلك
(3)
أولى الأقوال التي ذكرْناها في ذلك بالصواب؛ لدلالةِ قولِه تعالى ذِكرُه: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} . على ذلك.
وأن أبا كريبٍ حدَّثنا قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن في الجُمُعَةِ لَسَاعَةً - يُقَلِّلُها
(4)
- فقال: لا يُوافِقُها عَبْدٌ مسلِمٌ يَسأَلُ الله فيها خيرًا إِلَّا آتاه اللهُ إيَّاه". فقال عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ: قد علِمتُ أيَّ ساعةٍ هِي؛ هي آخِرُ ساعاتِ النهارِ من يومِ الجُمُعةِ، قال اللهُ:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}
(5)
.
(1)
الضياطرة: الرجال الضخام. اللسان (ض ط ر).
(2)
ديوانه ص 325.
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
أي يقلل يده؛ كما في مصادر التخريج الآتية، ويقللها: كأنه يشير إلى ضيق وقتها. ينظر التمهيد 19/ 18.
(5)
أخرجه البغوي في شرح السنة (1046) من طريق محمد بن عمرو به، وينظر الطيالسي (2484) =
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا المُحاربيُّ وعَبْدةُ بنُ سليمانَ وأسدُ
(1)
بنُ عمرو، عن محمدِ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو سلمةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه. وذكَر كلامَ عبدِ اللهِ بن سلامٍ بنحوِه.
فتأويلُ الكلامِ إذ كان الصوابُ في تأويلِ ذلك ما قُلنا بما بهِ اسْتَشْهَدْنا: خُلِقَ الإنسان مِن تعجيلٍ
(2)
؛ ولذلك يَسْتَعجِلُ ربَّه بالعذابِ، {سَأُرِيكُمْ}
(3)
أيُّها المُستَعجِلون ربَّهم بالآياتِ القائِلُون لنبيِّهم
(4)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] - {آيَاتِي} ، كما أَرَيْتُها
(5)
مَن قَبْلَكم من الأممِ التي أهْلَكْتُها
(6)
بتكذيبِها الرُّسلَ، إذ أَتَتْهَا الآياتُ، {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}. يقولُ: فلا تَستَعجِلوا ربَّكم، [فإنَّا سنأتِيكُم]
(7)
بها ونُرِيكُمُوها.
واختَلَفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . فقرَأَتُه عَامَّةُ قرَأةِ الأمصارِ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} بضمِّ الخاءِ على مذهبِ ما لم يسمَّ فاعلُه. وقرَأه حُميدٌ الأعرجُ: (خَلَقَ) بفَتحِها
(8)
. بمعنى: خَلَقَ اللَّهُ الإنسانَ.
والقراءةُ التي عليها قرَأةُ الأمصارِ هي القراءةُ التي لا أسْتَجيزُ خِلافَها.
= وأخرج المرفوع منه أبو يعلى (5925) من طريق ابن إدريس به مختصرًا، وأخرجه الطيالسي (2483)، وأحمد (10545) من طرق محمد بن عمرو به.
(1)
في ص، م:"أسير". وتقدم في 3/ 382، وينظر التاريخ الكبير 2/ 49.
(2)
في ص، م:"عجل".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"آياتي فلا تستعجلون".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"لنبينا".
(5)
في ت 1: "توارثتها".
(6)
في ص، م:"أهلكناها".
(7)
في ت 1، ت 2، ف:"بها فإنها سياتيكم".
(8)
وهى قراءة مجاهد وابن مقسم، وهى قراءة شاذة، ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 94، والبحر المحيط 6/ 313.
وقولُه: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: ويقولُ هؤلاءِ المُستَعِجلون ربَّهم بالآياتِ والعذابِ، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ؟ يقولُ: متى يجِيئُنا هذا الذي تَعِدُنا من العذابِ، إن كُنتُم صادقين فيما تَعِدُونَنا به من ذلك؟
وقيل: {هَذَا الْوَعْدُ}
(1)
. والمعنَى: الموعودُ. لمعرِفةِ السامِعين معناه. وقيل: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . كأنَّهم كانوا قالوا ذلك لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بهِ.
و {مَتَى} في موضعِ نصبٍ؛ لأنَّ معناه: أيَّ وقتٍ هذا الوعدُ؟ وأيَّ يومٍ هو؟ فهو نصبٌ على الظرف؛ لأنَّه وقتٌ.
القولٌ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: لو يعلمُ هؤلاءِ الكفارُ المُستَعجِلون عذابَ ربِّهم ماذا لهم من البلاءِ حينَ تَلفَحُ وجُوهَهم النارُ، وهم فيها كالِحُون، فلا يَكفُّون عن وجوهِهم النارَ التي تَلفَحُها، ولا عن ظُهورِهم فيَدفَعونها عنها بأنفسِهم، {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. يقولُ: ولا لهم ناصرٌ ينصُرُهم، فيَسْتَنقِذُهم حينئذٍ من عذاب اللهِ - لَمَا أقامُوا على ما هُم عليه مُقيمون من الكفرِ باللهِ، ولَسارَعوا
(2)
إلى التوبةِ منه والإيمانِ باللهِ، ولَما اسْتَعجَلوا لأنفسِهم البلاءَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: لا تأتى هذه النارُ التي تَلْفَحُ وجوهَ هؤلاءِ الكفارِ الذين
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"الوعيد".
(2)
في ت 2: "يسارعون".
وُصِف أمرُهم في هذه السُّورةِ حينَ تأتِيهم - عن علمٍ مِنهم بوْقُتِها؛ ولكنَّها تأتِيهم مفاجأةً لا يَشْعُرون بمجيئِها، {فَتَبْهَتُهُمْ}. يقولُ: فتَغْشاهم فجأةً، وتلْفحُ وجوهَهم معايَنةً، كالرَّجل يَبْهَتُ الرجلَ في وَجْهِهِ بالشيءِ حتى يَبْقَى المبهوتُ
(1)
كالحيرانِ منه، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا}. يقولُ: فلا يُطيقون حينَ تَبْغَتُهم فتَبهَتُهم، دفْعَها عن أنفسِهم، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}. يقولُ: ولا هم وإن لم يُطيقوا دَفْعَها عن أنفسِهم يُؤَخَّرون بالعذابِ بها لتوبةٍ يُحدِثونها، وإنابةٍ يُنيبون؛ لأنَّها لَيْست حينَ عملٍ وساعةً توبةٍ وإنابةٍ، بل هي ساعةُ مُجازاةٍ وإثَابَةٍ.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)} .
يقولُ تعالى ذِكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن يَتَّخِذْكَ يا محمدُ هؤلاءِ القائلُون لك: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]. إذا رَأَوْكَ هُزُوًا، ويَقُولُون: هذا الذي يَذْكُرُ آلهتَكم! كفرًا مِنهم باللهِ، واجْتراءً عليه - فلقد استهُزِئَ بِرُسُلٍ مِن رُسُلِنا الذين أرْسَلْناهم من قبلك إلى أُمِمهم. يقولُ: فوجَب ونزَل بالذين اسْتَهْزءوا بِهم، وسَخِروا مِنهم من أُمَمِهم ما كانوا به يستهزئون
(2)
، من البلاءِ والعذابِ الذي كانت رُسُلُهم تخُوِّفُهم تُزولَه بهم.
{يَسْتَهْزِئُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فلن يَعْدُوَ هؤلاءِ المُسْتَهْزِئُون بكَ من هؤلاءِ الكَفَرةِ أن يَكُونوا كأَسْلافهم من الأممِ المُكَذِّبةِ رُسُلَها، فينزلَ بهم من عذابِ اللَّهِ وسَخَطِه باسْتِهْزائِهم بكَ، نظيرُ الذي نزَل بِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ
(1)
في ت 2: "كالمبهوت".
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"يقول جل ثناؤه: حل بهم الذي كانوا به يستهزئون".
عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)}.
يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لهؤلاءِ المُسْتَعجِليكَ
(1)
بالعذابِ، القائلين:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : {مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} أيُّها القومُ. يقولُ: مَن يَحْفَظُكم ويَحرُسُكم بالليلِ إذا نِمْتُم، وبالنهارِ إذا انصرَفتم
(2)
{مِنَ الرَّحْمَنِ} ؟ يقولُ: من أمرِ الرحمنِ إن نزل بكم، و
(3)
من عذابِه إن حلّ بكم.
وترَك ذِكْرَ "الأمْرِ"، وقيل:{مِنَ الرَّحْمَنِ} ؛ اجْتِزاءً بمعرفةِ السامِعين لمعناه من ذِكْرِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ في قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} . قال: يَحرُسُكُم
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} . قال
(5)
: يَحفَظُكم بالليلِ والنهارِ مِن الرحمنِ.
يُقال منه: كلأتُ القومَ، إذا حَرَسْتَهم، أكْلَؤهم. كما قال ابن هَرْمةَ
(6)
:
إِنَّ سُلَيْمَى واللَّهُ يَكْلَؤُها
…
ضَنَّتْ بشَيءٍ ما كان يَرْزَؤُها
(1)
في ت 1: "المستهزئون المستعجليك"، وفى ت 2:"المستعجلوك".
(2)
في ص، م:"تصرفتم".
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى المصنف وابن المنذر.
(5)
في م: "قل من".
(6)
ديوانه ص 55.
وقوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} . وقولُه: {بَلْ} تحقيقٌ لجَحْدٍ
(1)
قد عرَفه المُخاطَبون بهذا الكلامِ، وإن لم يكُنْ مذكورًا في هذا الموضِعِ ظاهرًا، ومعنَى الكلامِ: وما لهم ألَّا يعلَموا أنَّه لا كَالِئَ لهم [مِن أَمرِ]
(2)
اللَّهِ إِذا هو حَلَّ بهم ليلًا أو نهارًا! بل هم عن ذكرِ مواعظٍ ربِّهم وحُجَجِه التي احْتَجَّ بها علَيهم مُعْرِضُون، لا يتَدَبَّرون ذلك، ولا يَعْتَبِرُون بهِ؛ جَهْلًا مِنهم وسَفَهًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ألِهؤلاء المُسْتَعْجِلى ربِّهم بالعذابِ آلهةٌ تَمنَعُهم - إن نحنُ أحْلَلْنا بهم عذابَنا، وأَنْزَلْنا بهم بأسَنا - من دونِنا. ومعناه: أم لهم آلهةٌ من دونِنا تَمنَعُهم مِنَّا. ثم وصَف جلَّ ثناؤه الآلهةَ بالضَّعْفِ والمَهانَةِ، وما هي بهِ مِن صِفَتِها، فقال: وكيف تَسْتَطيعُ آلهتهم التي يَدْعُونها من دونِنا أن تَمنَعُهم مِنَّا وهي لا تستَطيعُ نَصْرَ أَنفُسِها؟
وقولُه: {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بذلك، وفى معنَى {يُصْحَبُونَ}؛ فقال بعضُهم: عنَى بذلك الآلهةَ، وأنَّها لا تُصْحَبُ مِن اللهِ بخيرٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} : [يعنى الآلهة]
(3)
،
(1)
في ت 2: "لحجة".
(2)
في ت 2: "إلا".
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
{وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} . يقولُ: لا يُصْحَبون مِن اللَّهِ بخيرٍ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنَى ذلك: ولا هم مِنَّا يُنصَرُون.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} . قال
(2)
: يُنصَرُون
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} إلى قولِه: {يُصْحَبُونَ} . قال: يُنصَرُون
(4)
. قال: قال مجاهدٌ: ولا هم يُحفَظون.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} : يُجارُون
(5)
.
[ذِكرُ مَن قال ذلك]
(6)
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} . يقولُ: ولا هم مِنَّا يُجارُون، وهو قولُه:{وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. يعني
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في م: "لا".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 24 عن معمر به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ينظر تفسير القرطبي 11/ 291.
(6)
كذا في النسخ، ولم يترجم المصنف لهذا القول، وحق ترجمة هذا القول وهذه الجملة أن يكونا قبل الأثر السابق.
الصَّاحبَ، وهو الإنسانُ يكونُ له خَفِيرٌ
(1)
ممَّا يخافُ، فهو قولُه:{يُصْحَبُونَ}
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال هذا القولَ الذي حَكَيناه عن ابن عباسٍ وأنّ {هُمْ} مِن قولِه: {وَلَا هُمْ} . من ذِكْرِ الكُفَّارِ، وأنَّ قولَه:{يُصْحَبُونَ} . بمعنى: يُجارُون؛ يُصْحَبون بالجِوارِ؛ لأنَّ العربَ مَحْكِيٌّ عنها: أنا لك جارٌ مِن فلانٍ وصاحبٌ. بمعنَى: أُجِيرُكَ وأَمْنَعُكَ. وهم إذا لم يُصْحَبوا بالجوارِ ولم يكنْ لهم مانِعٌ مِن عذاب اللهِ مع سَخَطِ اللهِ عليهم، فلم يُصْحَبوا بخيرٍ ولم يُنصَرُوا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ما لهؤلاءِ المُشرِكين مِن آلهةٍ تَمنَعُهُم من دونِنا، ولا جارٌ يُجيرُهم من عذابِنا - إذا نحن أرَدْنا عذابَهم - فاتَّكَلوا على ذلك، وعَصَوا رُسُلَنا؛ اتِّكَالًا على ذلك، ولَكِنَّا متَّعْناهم بهذه الحياةِ الدُّنيا وآباءَهم مِن قَبلِهم حتى طال عليهم العُمُرُ، وهم على كُفْرِهم مُقِيمُون، لا تَأْتِيهم مِنَّا واعظةٌ مِن عذابٍ، ولا زاجرةٌ مِن عقابٍ على كُفْرِهم وخِلافِهم أمْرَنا، وعبادتِهم الأوثانَ والأصنامَ، فنَسُوا عَهدَنا وجَهِلُوا موقِعَ نِعْمَتِنا عليهم، ولم يعْرِفُوا موضِعَ الشُّكرِ.
وقولُه: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: أفلا يَرى هؤلاءِ المُشرِكون باللهِ السَّائلُون محمدًا صلى الله عليه وسلم الآياتِ
(1)
خفير القوم: مجيرهم الذي يكونون في ضمانه ما داموا في بلاده. التاج (خ ف ر).
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 338 عن العوفى عن ابن عباس إلى قوله: "يجارون".
المُسْتَعجِلوه بالعذابِ - أنَّا نأتى الأرضَ نُخَرِّبُها مِن نواحِيها بقَهْرِنا أَهْلَها، وغَلَبَتِناهم، وإجلائِهم عنها، وقَتْلِهم بالسيوفِ، فيَعْتَبِروا بذلك ويَتَّعِظُوا بهِ، ويَحْذَروا مِنَّا أن نُنْزِلَ من بأسِينا بهم نحوَ الذي قد أَنْزَلْنا بمَن فَعَلْنا ذلك بهِ مِن أهلِ الأطرافِ.
وقد تقدَّم ذكرُ القائلين بقولِنا هذا ومخالِفيه، بالرِّواياتِ عنهم في سورةِ "الرَّعدِ" بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وقولُه: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} . يقولُ تبارك وتعالى: أفهؤلاء المُشرِكون المُسْتَعجِلون محمدًا بالعذابِ الغَالِبُونا؟ وقد رأوا قَهْرَنَا مَن أَحْلَلَنا بِساحتِه بِأسَنا في أطرافِ الأَرْض، ليس ذلك كذلك، بل نحن الغالِبُون.
وإنَّما هذا تقريعٌ مِن اللهِ تعالى لهؤلاءِ المُشرِكين بهِ بجهلِهم، يقولُ: أفيظُنُّون أنَّهم يَغْلِبون محمدًا ويَقْهَرُونه، وقد قُهِر مَن ناوأه مِن أهلِ أطرافِ الأرضِ غيرُهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} . يقولُ: ليسوا بغَالِبين، ولكِنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو الغالبُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاءِ القائلين: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5]: إنما أُنذِرُكم أَيُّها القومُ بتَنزِيلِ اللَّهِ الذي يُوحِيه إليَّ مِن عندِه، وأُخَوِّفكم به بأسَه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ قولَه: {قُلْ إِنَّمَا
(1)
ينظر ما تقدم في 13/ 574 - 579.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 319 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}. أي: بهذا القرآنِ
(1)
.
وقولُه: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} اختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامة قرأةِ الأمصارِ: {يَسْمَعُ} . بمعنى أنَّه فِعْلٌ لـ"الصُّمِّ"، و "الصُّمُّ" حينئذٍ مَرْفُوعون.
ورُوِى عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ أَنَّه كان يقرَأُ: (وَلا [يُسْمَعُ) بالياء]
(2)
وضَمِّها، فـ"الصُّمُّ" على هذه القراءةِ مَرْفُوعَةٌ؛ لأنَّ قولَه:(وَلَا يُسْمَعُ)
(3)
لم يُسَمَّ فاعلُه، ومعناه على هذه القراءةِ: ولا يُسمِعُ اللهُ الصمَّ الدُّعاءَ.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القراءةِ عِندَنا في ذلك ما عليه قرَأَةُ الأمصارِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من القرَأةِ عليه. ومعنى ذلك: ولا يُصْغِى الكافرُ باللَّهِ بسَمْعِ قلبِه إلى تَذَكُّرِ ما في وَحْيِ اللَّهِ مِنَ المواعظِ والذَّكْرِ، فيتذَكَّرَ به ويَعْتَبَرَ، فيتزجِرَ عمَّا هو عليه مُقيمٌ مِن ضلالِه إذا تُلِى عليه وأُريد به، ولكِنَّه يُعرِضُ عن الإعْتِبارِ به والتَّفكُّرِ فيه، فعلَ الأصمِّ الذي لا يَسْمَعُ ما يُقال له فيعملَ به.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَلَا يَسْمَعُ
(1)
جزء من الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(2)
في النسخ: "تُسمع بالتاء".
قال القرطبي في تفسيره 11/ 292: وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى ومحمد بن السميفع: (ولا يُسْمَع) بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله؛ (الصم) رفعًا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضًا وأبو حيوة ويحيى بن الحارث: "تُسمِع" بتاء مضمومة وكسر الميم؛ (الصُّمَّ) نصبًا، أي: إنك يا محمد لا تسمع الصمَّ الدعاءَ. وينظر البحر المحيط 6/ 315، 316.
(3)
في م، ت 1:"تسمع". وينظر الحاشية السابقة.
الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}. يقولُ: إن الكافرَ قد صَمَّ عن كتابِ اللَّهِ لا يَسْمَعُه، ولا ينتَفِعُ به ولا يعقِلُه، كما يَسمَعُه المؤمنُ وأهلُ الإيمانِ.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ولئن مسَّت هؤلاءِ المُستَعجِلين بالعذابِ يا محمدُ {نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} . يعنى بالنَّفْحَةِ النَّصيبَ والحظَّ، من قولهم: نفَح فلانٌ لفلانٍ من عطائِه، إذا أعْطاه قِسْمًا أو نصيبًا من المالِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} الآية. يقولُ: لئن أصابَتْهم عقوبةٌ
(1)
.
وقولُه: {لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . يقولُ: لئن أصابَتْهم هذه النفحةُ من عقوبةِ ربِّك يا محمدُ بتكذيبِهم بك وكُفْرِهم، ليَعْلَمُنَّ حينئذٍ غِبَّ تَكْذيبِهم بك، وليَعْتَرِفُنَّ على أنفسِهم بنعمةِ اللهِ وإحسانِه إليهم، وكُفْرانِهم أياديَه عِندَهم، ولَيَقُولُنَّ: يا وَيْلنا إنا كُنَّا ظالمين في عبادتِنا الآلهةَ والأندادَ، وتَرْكِنا عبادةَ اللهِ الذي خلَقنا وأنعَم علينا، ووَضْعِنا العبادةَ غيرَ موضعِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} .
يقولُ تعالى ذِكْرُه: ونضَعُ الموازين [العدلَ، وهو]
(2)
القِسْطُ.
(1)
تقدم أوله في ص 282.
(2)
سقط من: ت 2.
وجعَل "القِسطَ"، وهو موحدٌ، من نعتِ "الموازين" وهي جمعٌ؛ لأنَّه في مذهبِ عدلٍ ورضًا ونظرٍ.
وقولُه: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . يقولُ: لأهلِ يوم القيامةِ، ومَن ورَد على اللَّهِ في ذلك اليومِ من خَلْقِه.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ يوجِّهُ معنَى ذلك إلى "في"، كأنَّ معناه عندَه: ونضَعُ الموازينَ القسطَ في يومِ القيامةِ
وقولُه: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} . يقولُ: فلا يَظْلِمُ اللَّهُ نفسًا ممَّن ورَد عليه منهم شيئًا بأن يعاقبَه بذنبٍ لم يَعْمَلُه، أو يبخسَه ثوابَ عملٍ عمِلَه، أو طاعةٍ أَطاعه بها، ولكِن يُجازِى المحسنَ بإحسانِه، ولا يعاقبُ مسيئًا إلا بإساءتِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} إلى آخرِ الآيةِ: وهو كقولِه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8]. يعنى بـ "الوزن" القِسطِ بينَهم": بالحقِّ
(1)
في الأعمالِ، الحَسَناتِ والسَّيئاتِ؛ فمَن أحاطَت حسناتُه بسيئاتِه ثَقُلتْ موازينُه. يقولُ: أَذْهَبَت حسناتُه سيئاتِه، ومن أحاطتْ سيئاتُه بحسناتِه فقد خَفَّتْ موازينُه وأمُّهُ هاويةٌ. يقولُ: أَذْهَبتْ سيئاتُه حسناتِه
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا الثوريُّ، عن
(1)
ص، ت 1، ف:"في الحق".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 320 إلى المصنف مقتصرا على أوله.
ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . قال: إنَّما هو مَثَلٌ، كما يجوزُ الوزنُ كذلك يجوزُ الحقُّ، قال الثوريُّ: قال ليثٌ عن مجاهدٍ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} . قال: العدلَ
(1)
.
وقولُه: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} . يَقولُ: وإن كان الذي له من عمل الحسناتِ، أو عليه من السيئاتِ وزنَ حبةٍ من خَرْدَلٍ {أَتَيْنَا بِهَا}. يقولُ: جِئْنا بها فأَحْضَرْناها إِيَّاه.
كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} . قال: [كتَبْناها وأحْصَيْناها له وعليه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} . قال]
(2)
: يُؤْتَى بها لك أو عليك، ثم يَعْفو إنْ شاء أو يأخُذُ
(3)
، ويَجزِى بما عُمِل له مِن طاعةٍ.
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} . قال: جَازَيْنَا بها
(4)
.
حدَّثنا عمرُو
(5)
بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ أنَّه كان
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 24.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ت 1: "يؤاخذ".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 320 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في ت 2: "عمر".
يقولُ: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} . قال: جَازَيْنا بها.
وقال: {أَتَيْنَا بِهَا} فأخرَج قولَه: {بِهَا} مُخرَجَ كنايةِ المؤنثِ، وإن كان الذي تقدَّم ذلك قولَه:{مِثْقَالَ حَبَّةٍ} ؛ لأنَّه عنى بقوله: {بِهَا} الحبةَ دونَ المِثْقالِ، ولو عنى به المثقالَ لَقِيل:"به".
وقد ذُكِر أنَّ مجاهدًا إنَّما تأوَّل قولَه: {أَتَيْنَا بِهَا} على ما ذكَرْنا عنه؛ لأنَّه كان يقرأُ ذلك (آتَيْنا بها)
(1)
بمدِّ الألفِ.
وقوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . يقولُ: وحسْبُ مَن شَهِد ذلك الموقفَ بنا حاسبين؛ لأنه لا أحدَ أعلمُ بأعمالِهم، وما سَلَف في الدِّنيا من صالحٍ أو سيِّئً، مِنَّا.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ولقد آتَيْنا موسى بنَ عِمرانَ وأخاه هارونَ {الْفُرْقَانَ} . يعنى به الكتابَ الذي يَفْرُقُ بينَ الحقِّ والباطلِ. وذلك هو التوراةُ في قولِ بعضِهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الْفُرْقَانَ} . قال: الكتابَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
(1)
وقرأ بها ابن عباس وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن محمد الأصبهاني، وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 6/ 316.
(2)
تفسير مجاهد ص 472.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتَادةَ قولَه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} : الفرقانُ التوراةُ، حلالُها وحرامُها، وما فرَق اللَّهُ بِينَ الحقِّ والباطل
(1)
.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} . قال: الفرقانُ الحقُّ، آتاه اللهُ موسى وهارونَ، فرَق بينَهما وبيَن فِرعونَ، قضَى بينَهم بالحقِّ. وقرَأ:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41]. قال: يومَ بدرٍ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وهذا القولُ الذي قاله ابن زيدٍ في ذلك أشْبَهُ بظاهرِ التَّنزِيلِ، وذلك لدخولِ الواوِ في "الضياءِ"، ولو كان الفرقانُ هو التوراةَ كما قال مَن قال ذلك، لكان التنزيلُ: ولقد آتَيْنا موسى وهارونَ الفرقانَ ضياءً؛ لأن الضياءَ الذي آتَى اللهُ موسى وهارونَ هو التوراةُ التي أضاءت لهما ولمَن اتَّبَعَهما أمرَ دينِهم فبصَّرَهم الحلالَ والحرامَ، ولم يقصِدْ بذلك في هذا الموضعِ ضياءَ الإبْصَارِ. وفى دخولِ الواوِ في ذلك دليل على أن الفرقانَ غيرُ التوراةِ التي هي ضياءٌ.
فإن قال قائلٌ: وما ينكرُ أن يكونَ "الضياءُ" من نعتِ "الفُرْقانِ"، وإن كانت فيه واوٌ، فيكونَ معناه: وضياءً آتيْناه ذلك. كما قال: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا} ؟ [الصافات: 6، 7].
قيل: إن ذلك وإن كان الكلامُ يحتَمِلُه، فإنَّ الأغلبَ مِن معانيه ما قُلنا، والواجبَ أن تُوجَّهَ معاني كلامِ اللهِ إلى الأغلبِ الأشهرِ من وجوهِها المعروفةِ عندَ العربِ ما لم يكنْ بخلافِ ذلك ما يجبُ التسليمُ له مِن حُجَّةِ خبرٍ أو عقلٍ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 320 إلى المصنف.
وقولُه: {وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} . يقولُ: وتَذكِيرًا لمَن اتَّقى الله بطاعتِه وأدَّى فرائضَه، واجتنبَ معاصيه، ذكَّرهم بما آتَى موسى وهارونَ من التوراةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: آتينا موسى وهارونَ
(1)
: الذِّكْرَ الذي آتيناهما للمُتَّقين الذين يخافون ربَّهم {بِالْغَيْبِ} : يعنى في الدُّنيا أن يعاقِبَهم في الآخِرةِ إذا قَدِموا عليه بتَضْييعِهم ما ألزَمَهم مِن فرائضِه، فهم من خَشْيَتِه يحافِظُون على حدودِه وفرائضِه، وهم من الساعةِ التي تقوم فيها القيامةُ مُشْفِقُون حَذِرُون أن تقوم علَيهم، فَيرِدُوا على ربِّهم قد فرَّطوا في الواجبِ عليهم للهِ، فيعاقِبَهم من العقوبةِ بما لا قِبَل لهم به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} .
يقولُ جلَّ ثناؤُه: وهذا القرآنُ الذي أنزَلْناه إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم ذِكْرٌ لمَن تذَكَّر به، وعِظَةٌ لمن اتَّعظ به، مباركٌ، أنزَلْناه كما أنزَلْنا التوراةَ إلى موسى وهارونَ ذِكْرًا للمُتّقين - {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}. يقولُ تعالى ذِكْرُه: أفأنتم أيُّها القومُ لهذا الكتابِ الذي أَنْزَلْناه إلى محمدٍ مُنكِرون وتقولون هو {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5]. وإنَّما الذي آتيناه ذلك ذِكْرٌ للمُتَّقين؛ كالذى آتَيْنا موسى وهارونَ ذكرًا للمُتَّقين.
وينحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
بعده في م، ت 1، ت 3، ف:"الفرقان".
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} إلى قولهِ: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} . أي: هذا القرآنُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: ولقد أرشَدْنا إِبْرَاهِيمَ مِن قبلِ موسى وهارونَ، ووفَّقناه للحقِّ، وأنْقَذْناه من بين قومِه وأهلِ بيتِه من عبادةِ
(2)
الأوثانِ، كما فَعَلْنا ذلك بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى إبرَاهيمَ - فأَنْقَذَناه من قومِه وعشيرتِه من عبادةِ الأوثانِ، وهَدَيْناه إلى سبيلِ الرَّشادِ توفيقًا مِنَّا له.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} . قال: هَدَيْناه صغيرًا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 320 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 2:"عباد".
(3)
تفسير مجاهد ص 472، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 320 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مجاهد: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} . قال: هَدَاهُ
(1)
صغيرًا.
حدَّثنا ابن بَشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جريجٍ
(2)
، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} . قال: هَداه صغيرًا
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: آتَيْناه هُدَاهُ
(4)
وقولُه: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} . يقولُ: وكُنَّا عالمين به أنَّه ذو يَقينٍ وإيمانٍ باللَّهِ وتوحيدٍ له، لا يُشْرِكُ به شيئًا؟
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} . يعني: في وقتِ قِيلِه وحينِ قيلِه لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} . يقولُ: قال لهم: أيُّ شيءٍ هذه الصورُ التي أنتم عليها مُقِيمون؟ وكانت تلك التماثيلُ أصنامَهم التي كانوا يَعْبُدونها.
كما حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثني عيسى، وحدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} . قال: الأصنامُ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
(1)
في ف: "هديناه".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"أبي نجيح".
(3)
تفسير سفيان ص 201، 202.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 320 إلى المصنف.
(5)
تفسير مجاهد 472، ومن طريقه الفريابي - كما في الفتح 8/ 437 وتغليق التعليق 4/ 259 - وهو من تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
وقد بيَّنا فيما مضَى من كتابِنا هذا أن العاكفَ على الشيءِ: المُقيمُ عليه، بشواهدِ ذلك، وذكَرْنا الروايةَ عن أهلِ التأويلِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: قال أبو إبراهيمَ وقومُه لإبراهيمَ: وَجَدْنا آباءَنا لهذه الأوثانِ عابِدين، فنحنُ على مِلةِ آبائِنا نَعبُدُها كما كانوا يَعْبُدون.
{قَالَ} إبراهيمُ: {لَقَدْ كُنْتُمْ} أيُّها القومُ {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} بعبادتِكم إياها، {ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يقولُ: في ذَهابٍ عن سبيلِ الحقِّ، وجَوْرٍ عن قَصْدِ السبيلِ، {مُبِينٍ}. يقولُ: بيِّنٌ
(2)
لمَن تأمَّلَه بعقلٍ أنكم كذلك في جَوْرٍ عن الحقِّ.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} . يقولُ: قال أبوه وقومُه له: أجئتَنا بالحقِّ فيما تقولُ، أمْ أنت هازِلٌ لاعِبٌ من اللاعِبين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال إبراهيمُ لهم: بل جئتُكم بالحقِّ لا اللَّعِبِ؛ ربُّكم رَبُّ السَّماواتِ والأرضِ الذي خَلَقَهن، {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} ، مِن أن ربَّكم هو ربُّ السَّماواتِ والأَرضِ الذي فَطَرَهنَّ، دونَ التماثيلِ التي أنتم لها عاكفون، ودونَ كلِّ أحدٍ سِواه، شاهدٌ {مِنَ الشَّاهِدِينَ}. يقولُ: فإياه فاعبُدوا، لا هذه التماثيلَ التي هي خَلْقُه، التي لا تضُرُّ ولا تنفعُ.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 534 - 536.
(2)
في ص، ت 1، ت 2،:"تبين"، وفى ف:"يبين".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} .
ذُكرِ أن إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه خَلَف بهذه اليمينِ في سِرٍّ مِن قومِه وخفاءٍ، وأنه لم يَسْمَعْ ذلك منه إلا الذي أفشاه عليه حينَ قالوا:{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59]. فقال: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} . قال: قولُ إبراهيمَ حينَ اسْتَتْبَعه قومُه إلى عيدٍ لهم فأبَى وقال: إنى سَقِيمٌ. فسَمِع منه وعيدَ أصنامِهم رجلٌ منهم اسْتأخَرَ، وهو الذي يقولُ:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} . قال: نَرَى أنه قال ذلك حيثُ لا يَسْمَعون بعدَ أَن تَوَلُّوا مُدْبِرين
(2)
.
وقولُه: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} . اختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ سوى يحيى بن وثَّابٍ والأعمشِ والكسائيِّ:
(1)
تفسير مجاهد ص 472، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 321 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 321 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} . [بمعنى: فجعلهم جذاذًا]
(1)
، بمعنى جمعٍ
(2)
، كأنهم أرادُوا به جمعَ جَذِيذٍ وجذاذٍ، كما يُجمَعُ الخَفِيفُ حِفافًا، والكريمُ كِرامًا.
وأولى القراءتَين في ذلك عندَنا بالصوابِ قراءةُ مَن قرأه: {جُذَاذًا} . بضَمِّ الجيمِ؛ لإجماعِ قرأةِ الأمصارِ عليه، وأن ما أجمَعت عليه فهو الصوابُ
(3)
، وهو إذا قُرِئ كذلك مصدرٌ مثلَ الرُّفاتِ والفُتاتِ والدُّقاقِ، لا واحدَ له. وأما مَن كَسَر الجيمَ، فإنه جمعٌ لـ "جَذيذِ" والجَذِيذُ هو فَعِيلٌ، صُرِف مِن مَجذوذٍ إليه، مثلَ كَسِيرٍ، وهَشِيمٍ. والمجذوذةُ المكسورةُ قِطَعًا.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} . يقولُ: حُطامًا
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{جُذَاذًا} : كالصَّرِيمِ
(5)
.
(1)
سقط من: م، والكلام فيه سقط ظاهر، ويوضحه ما قاله أبو حيان في البحر المحيط 6/ 322: وقرأ الجمهور "جُذاذًا". بضم الجيم، والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها، وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها
…
وقال اليزيدي: "جذاذا" بالضم جمع "جُذاذة"، كزجاج وزجاجة. وقيل: بالكسر جمع "جَذيذ" ككَريم وكرام. وقيل: الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود، فالمعنى "مجذوذين"
…
وقرأ يحيى بن وثاب: جُذاذًا
…
كجديد ومجدُد. وقرئ "جُذاذًا"
…
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 3، ف:"جذيذ".
(3)
وما قرأ به الكسائي أيضًا فهو صواب؛ لأن قراءته من السبعة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 321 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
تفسير مجاهد ص 472.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} . أي: قِطَعًا
(1)
.
وكان سببَ فعلِ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ عليه بآلهةِ قومِه ذلك، كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، أن إبراهيمَ قال له أبوه: يا إبراهيمُ، إن لنا عيدًا لو قد خَرَجتَ معنا إليه قد أعجَبَك دِينُنا؟ فلما كان يومُ العيدِ، فخَرجوا إليه، خَرَج معهم إبراهيمُ، فلما كان ببعضِ الطريقِ ألقَى نفسَه وقال: إنى سَقِيمٌ. يقولُ: أَشْتَكى رِجْلى. فتَوطَّئوا
(2)
رِجْلَيه وهو صريعٌ، فلما مَضَوا نادَى في آخِرِهم، وقد بَقِيَ ضَعْفَى الناسِ:{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} . فسَمِعوها منه، ثم رَجَع إبراهيمُ إلى بيتِ الآلهةِ، فإذا هُنَّ في بَهْوٍ عظيمٍ، مُسْتقبِلَ بابِ البَهْوِ صنمٌ عظيمٌ، إلى جَنْبِه أصغرُ منه، بعضُها إلى بعضٍ، كلُّ صنمٍ يليه أصغرُ منه، حتى بَلَغوا بابَ البَهْوِ، وإذا هم قد جَعَلوا طعامًا، فوَضَعوه بينَ يَدَى الآلهةِ، قالوا: إذا كان حينَ نرجِعُ رَجَعْنا، وقد بارَكَتِ الآلهةُ في طعامِنا، فأكَلنا. فلما نَظَر إليهم إبراهيمُ، وإلى ما بينَ أيدِيهم مِن الطعامِ، {فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} . فلما لم تُجِبْه، قال:{مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 91 - 93]. فأخَذَ
(3)
حديدةً، فنَقَرَ كلَّ صنمٍ في حافَتَيه، ثم عَلَّق الفأسَ في عُنُقِ الصنمِ الأكبرِ، ثم خَرَجَ، فلما جاء القومُ إلى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 257 - من طريق يزيد بن زريع به.
(2)
في م: "تواطئوا".
(3)
بعده في م: "فأس".
طعامِهم نَظَروا إلى آلهتِهم، {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}
(1)
.
وقوله: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} . يقولُ: إلا عظيمًا للآلهةِ؛ فإنَّ إبراهيمَ لم يَكْسِرُه، ولكنَّه فيما ذُكِر عَلَّق الفأسَ في عُنُقِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} . قال: قال ابن عباسٍ: إلا عظيمًا لهم، عظيمَ آلهتِهم
(2)
.
قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: وجَعَل إبراهيمُ الفأسَ التي
(3)
أَهْلَك بها
(4)
أصنامهم مُسْندةً إلى صدرِ
(5)
كبيرِهم الذي تَرَكَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: جَعَل إبراهيمُ الفأسَ التي أهْلَك بها أصنامَهم مُسْندةً إلى صدرِ كبيرِهم الذي تَرَك
(6)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: أقبَل عليهنَّ كما قال اللهُ تبارك وتعالى: {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]. ثم جَعَل يكسِرُهنَّ بفأسٍ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 236 - 238 مطولًا بإسناد السدي المعروف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 321 إلى ابن المنذر.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الذي".
(4)
في ص، ت 1، ت 2 ف:"به".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ظهر".
(6)
تفسير مجاهد ص 473.
في يَدِه، حتى إذا بَقِى أعظمُ صنمٍ منها رَبَط الفأسَ بيدِه، ثم تَرَكهنَّ، فلما رَجَع قومُه رَأَوا ما صُنِع بأصْنامِهم، فَراعَهم ذلك وأعْظَموه وقالوا: مَن فَعَل هذا بآلهتِنا؟ إنه لمِن الظالمين
(1)
.
وقولُه: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} . يقولُ: فَعَلَ ذلك إبراهيمُ بآلهتِهم؛ ليَعْتَبِرُوا ويَعْلَموا أنها إذا لم تَدْفَعْ عن نفسِها ما فعل بها إبراهيمُ، فهى مِن أن تدفَعَ عن غيرها مَن أرادَه بسُوءٍ أبعدُ، فيرجِعوا عما هم عليه مُقِيمون مِن عبادتِها إلى ما هو عليه من دينِه وتوحيدِ اللهِ والبراءةِ مِن الأوثانِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} . قال: كادَهم بذلك لعلهم يَتَذكَّرون أو يُبْصِرون
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال قومُ إبراهيمَ لمَّا رَأَوا آلهتَهم قد جُذَّتْ، إلا الذي رَبَط به الفأْسَ إبراهيمُ: مَن فعَل هذا بآلهتِنا؟ إن الذي فعَل هذا بها لمِن الظالمين. أي: لمن الفاعلين بها ما لم يكنْ له فعلُه
(3)
.
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 238.
(2)
ينظر التبيان 7/ 228.
(3)
في ص، ت 2، ف:"فعلها".
يقولُ: قال الذين سَمِعوه يقولُ: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} : {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} بِعَيْبٍ، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} . قال ابن جريجٍ: {يَذْكُرُهُمْ} : يَعِيبُهم.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ قولَه:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} : سَمِعناه
(1)
يَسُبُّها ويَعِيبُها ويَسْتَهْزِئُ بها، لم نسمَعْ أحدًا يقولُ ذلك غيرُه، وهو الذي نظُنُّ صَنَع هذا بها
(2)
.
وقولُه: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال قومُ إبراهيمَ بعضُهم لبعضٍ: فَأْتُوا بالذي فَعَل هذا بآلهتنا، الذي سَمِعتُموه يذكُرُها بعَيْبٍ ويَسُبُّها ويَذُمُّها، على أعيُنِ الناسِ. فقيل: معنى ذلك: على رءوسِ الناسِ
(3)
.
وقال بعضُهم: معناه: بأعيُنِ الناسِ ومَرْأَى منهم. وقالوا: إنما أُريدَ بذلك: أظهروا الذي فعل ذلك للناس. كما تقولُ العربُ إذا أُظْهِرَ الأمرُ وشُهِر: كان ذلك على أعيِنُ الناسِ. يرادُ به: كان بأيْدِى الناسِ
(4)
.
واختلَفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لعلَّ الناسَ يَشْهَدون عليه أنه الذي فعَل ذلك، فتكونَ شهادتُهم عليه حُجَّةً لنا عليه. وقالوا: إنما فعَلوا ذلك لأنهم كَرِهوا أن يأخُذوه بغيرِ بَيِّنَةٍ.
(1)
في ص، ت 2، ف:"سمعنا".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 239.
(3)
هو قول الفراء في معاني القرآن 2/ 206.
(4)
ينظر مجاز القرآن 2/ 40.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} : عليه أنه فعَل ذلك
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} . [قال: كَرِهوا أن يأخُذوه بغيرِ بَيِّنةٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لعلهم يَشْهَدون]
(2)
ما يُعاقِبونه به، فيُعايِنونه ويَرَونه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: بَلَغ ما فعلَ إبراهيمُ بآلهةِ قومِه نُمرُودَ وأشرافَ قومِه، فقالوا:{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} . أي: ما يُصْنعُ به
(3)
.
وأظهرُ معنى ذلك أنهم قالوا: فَأْتُوا به على أعيُنِ الناسِ لعلهم يَشْهَدون عُقُوبَتَنا إياه؛ لأنه لو أُريد بذلك ليَشْهَدوا عليه بفعلِه كان يقالُ: انظُروا مَن شَهِده يفعلُ ذلك. ولم يقلْ: أحْضِروه بمَجْمعٍ مِن الناسِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا
(1)
تقدم تخريجه في ص 296.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
يَنْطِقُونَ (63)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: فَأْتُوا بإبراهيمَ، فلما أَتَوا به قالوا له: أأنتَ فعلتَ هذا الذي بآلهتِنا مِن الكسرِ بها يا إبراهيمُ؟ فأجابَهم إبراهيمُ، فقال: بل فَعَله كبيرُهم هذا وعظيمُهم، فاسْأَلُوا الآلهةَ مَن فَعَل بها ذلك وكَسَرها إن كانت تَنْطِقُ أو تُعَبِّرُ عن نفسِها.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لمَّا أُتِى به واجتَمع له قومُه عندَ ملكِهم نُمْرُودَ، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}: غَضِبَ مِن أن تَعْبُدوا معه هذه الصِّغارَ وهو أكبرُ منها، فكَسَرَهن
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الآية: وهى هذه الخَصلةُ التي كادَهم بها
(2)
.
وقد زَعَم بعضُ مَن لا يُصَدِّقُ بالآثارِ، ولا يقبلُ مِن الأخبارِ إلا ما اسْتفاضَ به النقلُ مِن العَوامِّ، أن معنى قولِه:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . إنما هو: بل فَعَله كبيرُهم هذا إن كانوا يَنْطِقون، فاسْأَلُوهم. أي: إن كانت الآلهةُ المكسورةُ تَنْطِقُ؛ فإن كبيرَهم هو الذي كَسَرهم.
وهذا قولٌ خلافُ ما تَظاهَرَت به الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أن إبراهيمَ لم يكذِبْ إلا ثلاثَ كَذَبَاتٍ كلُّها في اللهِ
(3)
، قولُه:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} .
(1)
تقدم تخريجه في ص 298.
(2)
تقدم تخريجه ص 297.
(3)
سيأتي تخريجه في تفسير الآية "89" من سورة الصافات.
وقولُه: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]. وقولُه لسارةَ: هي أختى. وغيرُ مستحيلٍ أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه أذِن لخليلِه في ذلك ليُقَرِّعَ قومَه به، ويَحْتَجَّ
(1)
به عليهم، ويُعَرِّفَهم موضعَ خَطَئهم وسُوءَ نَظَرِهم لأنفسِهم، كما قال مؤذِّنُ يوسف لإخوتِه:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]. ولم يكونوا سَرَقوا شيئًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فذَكَروا حينَ قال لهم إبراهيمُ صلوات الله عليه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} . في أنفسِهم، ورَجَعوا إلى عُقُولِهم، ونظَر بعضُهم إلى بعضٍ، فقالوا: إنكم معشرَ القومِ الظالمون هذا الرجلَ في مسألتِكم إياه، وقيلِكم له: مَن فعَل هذا بآلهتِنا يا إبراهيمُ؟ وهذه آلهتُكم التي فُعِلَ بها ما فُعِلَ حاضِرتُكم فاسْألوها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} . قال: ارعَوَوْا ورجَعوا عنه - يعنى: عن إبراهيمَ فيما ادَّعوا عليه مِن كَسْرِهن - إلى أنفسِهم فيما بينَهم، فقالوا: لقد ظَلَمْناه وما نَراه إلا كما قال
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"يجتمع".
(2)
تقدم تخريجه في ص 297.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} . قال: نظَر بعضُهم إلى بعضٍ، فقالوا:{إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}
(1)
.
وقولُه: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} . يقولُ جل ثناؤُه: ثم غُلِبوا في الحُجَّةِ، فاحْتَجُّوا على إبراهيمَ بما هو حُجةٌ لإبراهيمَ عليهم، فقالوا: لقد علمتَ ما هؤلاء الأصنامُ يَنْطِقون.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقٍ، قال: ثم قالوا - يعنى قومَ إبراهيم - وعَرَفوا أنها، يعنى آلهتَهم لا تضُرُّ ولا تنفَعُ ولا تَبْطِشُ:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} . أي: لا تتكلَّمُ فتُخْبِرَنا مَن صَنَع هذا بها، وما تَبْطِشُ بالأيدِى فنُصَدِّقَك. يقولُ اللَّهُ:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} . في الحُجَّةِ عليهم لإبراهيم حينَ جادَلهم، فقال عندَ ذلك إبراهيمُ حينَ ظَهَرت الحُجَّةُ عليهم بقولِهم:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: قال اللهُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} . أَدْرَكَتِ الناسَ حيرةٌ؛ حيرةُ سَوْءٍ
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم نُكِسوا في الفتنةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {ثُمَّ نُكِسُوا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 321 إلى ابن المنذر.
(2)
كذا في النسخ، وسقط منها بقية الأثر، وبقيته كما في تاريخ المصنف: قال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وتقدم أوله في ص 297.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 344، وفي البداية 1/ 336.
عَلَى رُءُوسِهِمْ} قال: نُكِسوا في الفتنة على رءوسِهم، فقالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}
(1)
.
وقال بعضُ أهلِ العربيةِ
(2)
: معنى ذلك: ثم رَجَعوا عما
(3)
عَرَفوا مِن حُجَّةِ إبراهيمَ، فقالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} .
وإِنَّما اختَرْنا القولَ الذي قُلنا في معنى ذلك؛ لأن نَكْسَ الشيءِ على رأسِه، قَلْبُه على رأسِه، وتصْيِيرُ أعْلاه أسفلَه، ومعلومٌ أن القومَ لم يُقْلَبوا على رءوسِ أنفسِهم، وأنهم إنما نُكِست حُجَّتُهم، فأُقِيمَ الخبرُ عنهم مُقامَ الخبرِ عن حُجَّتِهم. وإذ كان ذلك كذلك، فنَكْسُ الحُجَّةِ - لا شكَّ - إنما هو احتجاجُ المُحْتَجِّ على خَصْمِه بما هو حُجَّةٌ لخَصْمِه.
وأما قولُ السديِّ: ثم نُكِسوا في الفتنةِ. فإنهم لم يكونوا خَرَجوا مِن الفتنةِ قبلَ ذلك فنُكِسوا فيها.
وأما قولُ مَن قال مِن أهلِ العربيةِ ما ذكرنا عنه، فقولٌ بعيدٌ مِن المفهومِ؛ لأنهم لو كانوا رَجَعوا عما عَرَفوا مِن حُجَّةِ إبراهيمَ، ما احْتَجُّوا عليه بما هو حُجَّةٌ له، بل كانوا يقولون: لا نَسْأَلُهم، ولكن نَسْأَلُك، فأخبِرْنا مَن فعَل ذلك بها، وقد سَمِعنا أنك فعلتَ ذلك؟ ولكن صَدَقوه القولَ فقالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} . وليس ذلك رجوعًا عمَّا كانوا عَرَفوا، بل هو إقرارٌ به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} .
يقول تعالى ذكرُه: قال إبراهيمُ لقومِه: أفتعبدون أيُّها القومُ ما لا ينفعُكم شيئًا ولا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 344، وفي البداية 1/ 336.
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 207.
(3)
في معاني القرآن: "عندما".
يضُرُّكم، وأنتم قد علمتُم أنها لم تمنَعُ نفسَها ممن أرادَها بسُوءٍ، ولا هي تقدِرُ أن تَنْطِقَ إن سُئِلَت عمن يأتِيها بسُوءٍ فَتُخْبِرَ به، أفلا تَسْتَحْيون مِن عبادةِ ما كان هكذا؟.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} الآية: يقولُ يرحمُه اللهُ: ألَا تَرَون أنهم لم يَدْفَعوا عن أنفسِهم الضُّرَّ الذي أصابَهم، وأنهم لا يَنْطِقون فيُخْبِرونكم مَن صنَع ذلك بهم، فكيف يَنْفَعونكم أو يَضُرُّون
(1)
.
وقولُه: {أُفٍّ لَكُمْ} . يقولُ: قُبْحًا لكم وللآلهةِ التي تَعْبُدون مِن دونِ اللَّهِ. أفلا تَعْقِلُون قُبْحَ ما تَفْعَلون مِن عبادتِكم ما لا يضُرُّ ولا ينفعُ، فتَتْرُكوا عبادتَه، وتَعْبُدوا الله الذي فَطَر السماواتِ والأرضَ، والذي بيدِه النفعُ والضَّرُّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال بعضُ قوم إبراهيمَ لبعض: حَرِّقوا إبراهيمَ بالنار: {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} . يقولُ: إن كنتم ناصِرِيها، ولم تُرِيدوا تَرْكَ عبادتِها.
وقيل: إن الذي قال ذلك رجلٌ مِن أكرادِ فارسَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:
(1)
تقدم تخريجه في ص 297.
{حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} . قال: قالَها رجلٌ مِن أعرابِ
(1)
فارسَ، يعنى الأكراد
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قال: أخبَرني وهبُ بنُ سليمانَ، عن شعيبٍ الجَبائيِّ، قال: إن الذي قال: {حَرِّقُوهُ} هيزنُ، فَخَسَف اللهُ به الأرضَ، فهو يَتَجَلْجَلُ فيها إلى يومِ القيامةِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: أجمعَ نُمْرودُ وقومُه في إبراهيمَ فقالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} . أي: لا تَنْصُروها منه إلا بالتَّحْريقِ بالنارِ إِن كُنتُم ناصِرِيها
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن الحسنِ بن دينارٍ، عن ليثِ بن أبى سُلَيمٍ، عن مجاهدٍ، قال: تَلُوتُ هذه الآيةَ على عبدِ اللهِ بن عمرَ، فقال: أتدرى يا مجاهدُ من الذي أشارَ بتحْريقِ إبراهيمَ بالنارِ؟ قال: قلتُ لا. قال: رجلٌ مِن أعرابِ فارسَ. قلتُ: يا أبا عبدِ الرحمنِ، وهَلْ للفُرْسِ أعرابٌ؟ قال: نعم، [الكُرْدُ هم]
(5)
أعرابُ فارسَ؛ فرجلٌ منهم هو الذي أشارَ بتَحْريقِ إبراهيمَ بالنارِ
(6)
.
(1)
في ت 2: "أكراد".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 240، 241.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 241 وفيه: "هينون"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 322 إلى ابن أبي حاتم وفيه:"هبون".
(4)
تقدم تخريجه في ص 297.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الكند هي".
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 240.
وقولُه: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . وفى الكلامِ متروكٌ اجتُزِئ بدلالةِ ما ذُكِر عليه منه، وهو: فأوْقَدُوا له نارًا ليُحَرِّقوه، ثم أَلْقَوه فيها، فقلنا للنارِ: يا نارُ كوني بردًا وسلامًا على إبراهيمَ.
وذُكِر أنهم لمَّا أرادوا إحْراقَه بَنَوا له بُنْيانًا، كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]. قال: فحَبَسُوه في بيتٍ، وجَمَعوا له حَطَبًا، حتى إن كانتِ المرأةُ لتَمْرَضُ فتقولُ: لئن عافانى اللهُ لأجمْعنَّ حَطَبًا لإبراهيمَ. فلما جَمَعوا له، وأكثَروا مِن الحطبِ، حتى إن الطيرَ لتَمُرُّ بها فتحترقُ مِن شِدَّةِ وَهَجِها، فعَمَدوا إليه فرَفَعوه على رأسِ البنيانِ، فرفَع إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم رأسَه إلى السماءِ، فقالت السماءُ والأرضُ والجبالُ والملائكةُ: ربَّنا، إبراهيمُ يُحْرَقُ فيك. فقال: أنا أعلمُ به، وإنْ دَعاكم فأَغِيثوه. وقال إبراهيمُ حينَ رَفَع رأسه إلى السماءِ: اللهمِّ أنت الواحدُ في السماءِ، وأنا الواحدُ في الأرضِ، ليس في الأرضِ أحدٌ يعبدُك غيرى، حَسْبي اللهُ ونعمَ الوكيلُ. فقَذَفوه في النارِ، فناداها فقال:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . فكان جبريلُ عليه السلام هو الذي ناداها - وقال ابن عباسٍ: لو لم يُتبَعْ بَرْدُها "سلاما" لماتَ إبراهيمُ مِن شدَّةِ بَرْدِها، فلم يَبْقَ يومَئِذٍ نَارٌ في الأرضِ إِلا طُفِئتْ، ظَنَّتْ أنها هي تُعْنى - فلما طُفِئَتِ النارُ نَظَروا إلى إبراهيمَ، فإذا هو ورجلٌ آخَرُ معه، وإذا رأسُ إبراهيمَ في جُرِه يمسَحُ عن وَجْهِهِ العَرَقَ، وذُكِر أن ذلك الرجلَ هو مَلَكُ الظَّلِّ، وأنزلَ اللهُ نارًا فانتفَعَ بها بنو آدمَ، وأخْرَجوا إبراهيمَ، فأدخَلوه على المَلِكِ، ولم يكنْ قبلَ ذلك دخَل عليه
(1)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 241، 242. وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 322، مقتصرًا على أن القائل للنار هو جبريل وعزاه إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثني أحمدُ
(1)
بنُ المقدامِ أبو الأشْعثِ، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمعتُ أبي، قال: ثنا قتادةُ، عن أبي سليمانَ، عن كعبٍ، قال: ما أحْرقَت النارُ مِن إبراهيم إلا وَثاقَه
(2)
.
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادَة قولَه:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . قال: ذُكِر لنا أن كَعْبًا كان يقولُ: ما انتفَعَ بها يومَئذٍ أحدٌ مِن الناسِ. وكان كعبٌ يقولُ: ما أحرقَت النارُ يومَئِذٍ إلا وَثاقَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن شيخٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في قولِه:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قال: بَرَدَتْ عليه حتى كادت تقتُلُه، حتى قيل:{وَسَلَامًا} . قال: لا تَضُرِّيه
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: أخبرَنا إسماعيلُ، عن المِنْهالِ بن عمرٍو، قال: قال إبراهيمُ خليلُ اللهِ: ما كنتُ أيامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِن الأيامِ التي كنتُ فيها في النارِ
(4)
.
(1)
في النسخ: "إبراهيم"، وتقدم مرارًا.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 243 بدون ذكر كعب. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 322 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(3)
تفسير الثورى ص 202، وأخرجه ابن أبي شيبة، 11/ 519، 520، وأحمد في الزهد ص 79 من طريق الأعمش - وعند ابن أبي شيبة الشيخ المبهم عبد الله بن مليل، وعند أحمد: عبد الله بن فلفل رجل من آل أبي ليلى. والظاهر أنه تصحيف عن الأول. وينظر التاريخ الكبير 5/ 192، والجرح والتعديل 5/ 168 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 322 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/ 191 من طريق أبي كريب به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 346 - ، وأبو نعيم في الحلية 1/ 20، وابن عساكر في تاريخه 6/ 191 من طريق إسماعيل به.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: لمَّا أُلْقِى إبراهيمُ خليلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النارِ، قال الملَكُ خازنُ المطرِ: ربِّ، خليلُك إبراهيمُ! رَجا أن يُؤذَنَ له [فيُمطِرَ عليه]
(1)
، قال: فكان أمرُ اللهِ أسرعَ مِن ذلك فقال: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . فلم يَبْقَ في الأرضِ نارٌ إلا طُفِئَت
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن الحارثِ، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هريرةَ، قال: إن أحسنَ شيءٍ قاله أبو إبراهيمَ لمَّا رَفَع عنه الطَّبَقَ وهو في النارِ، وجَدَه يرشَحُ جبينُه، فقال عندَ ذلك: نِعْمَ الربُّ ربُّك يا إبراهيمُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال أخبرَني وهبُ بن سليمانَ، عن شعيبٍ الجَبَائيِّ، قال: أُلْقِى إبراهيمُ في النارِ وهو ابن ستَّ عَشْرةَ سنةً، وذُبِح إسحاقُ
(4)
وهو ابن سبعِ
(5)
سنينَ، ووَلَدَته سارةُ وهي ابنةُ تسعين سنةً، وكان مذبحُه مِن بيتِ إيلياءَ على ميلَين، ولما عَلِمت سارةُ بما أراد بإسحاقَ بُطِنت يومين، وماتَت اليومَ الثالثَ
(6)
.
قال ابن جريج: قال كعبُ الأحبارِ: ما أحرقَتِ النارُ مِن إبراهيمَ شيئًا غيرَ وَثاقِه الذي أوثَقوه به.
(1)
في م، والدر المنثور:"فيرسل المطر".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 322 إلى المصنف.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وينظر تعليقنا في تفسير الآية (107) من سورة الصافات.
(5)
في علل أحمد: "تسع".
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 249، وأخرجه أحمد في العلل - رواية عبد الله - 1/ 101، 102، وهو في عرائس المجالس ص 68 من قول الشعبي.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا معتمرُ بنُ سليمانَ التَّيْمِيُّ، عن بعضِ أصحابهِ، قال: جاء جبريلُ إلى إبراهيمَ عليهما السلام وهو يُوثَقُ، أو يُقَمَّطُ، لِيُلقَى في النارِ، قال: يا إبراهيمُ ألك حاجةٌ؟ قال: أمَّا إليك فلا
(1)
.
قال: ثنا معتمرٌ، قال: ثنا ابن كعبٍ، عن أرقمَ، أن إبراهيمَ قال حينَ جَعَلوا يُوثِقونه ليُلْقُوه في النارِ: لا إلهَ إلا أنت سبحانَك ربُّ العالمين، لك الحمدُ، ولك الملكُ لا شريكَ لك
(2)
.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} . قال: السلامُ لا يُؤْذِيه بَرْدُها، ولولا أنه قال:{وَسَلَامًا} لكان البَرْدُ أشدَّ عليه [من الحرِّ]
(3)
(2)
.
قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قولَه:{بَرْدًا} . قال: فبَرَدَتْ عليه، {وَسَلَامًا} لا يُؤذيه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . قال: قال كعبٌ: ما انتفَعَ أحدٌ مِن أهلِ الأرضِ يومَئذٍ بنارٍ، ولا أحرقَتِ النارُ يومَئِذٍ شيئًا إلا وَثاقَ إبراهيمُ.
وقال قتادةُ: لم تأتِ يومَئِذٍ دابةٌ إلا أطفأتْ عنه النارَ، إِلا الوَزَغَ
(4)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 243.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
الوزغة: سام أبرص، والجمع وزغ. اللسان (و ز غ).
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 24، 25 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 322 إلى عبد بن حميد.
وقال الزهريُّ: أَمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَتْلِه، وسَمَّاه فُوَيسِقًا
(1)
.
وقوله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأرادوا بإبراهيمَ كَيْدًا، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}. يعنى: الهالِكين.
وقد حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} . قال: أَلْقَوا شيخًا منهم في النارِ؛ لأَنْ يُصِيبوا نَجاتَه، كما نجَا إبراهيمُ عليه السلام، فاحْتَرَق
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ونَجَّينا إبراهيمَ ولوطًا مِن أعدائِهما؛ نُمْرودَ وقومِه، مِن أرضِ العراقِ {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وهى أرضُ الشامِ، فارَق صلواتُ اللهِ عليه قومَه ودينَهم وهاجَر إلى الشامِ.
وهذه القصةُ التي قَصَّ اللهُ مِن نَبَأِ إبراهيمُ وقومه، تذكيرٌ منه بها قومَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن قريشٍ أنهم قد سَلَكوا في عبادتِهم الأوثانَ وأَذَاهم محمدًا على نَهْيِه عن عبادتِها
(3)
، ودُعائِهم إلى عبادةِ اللهِ مُخْلِصين له الدينَ - مَسْلكَ [أعداءِ أبيهم إبراهيمَ]
(4)
، ومُخالفتَهم دينَه، وأن محمدًا في
(5)
براءتِه مِن عبادتِها،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 25 عن معمر به.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى المصنف.
(3)
في ص، ت 2، ف:"عبادته".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أعدائهم".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"من".
وإخْلاصِه
(1)
العبادةَ للهِ، وفى دُعائِهم إلى البراءةِ من الأصنامِ، وفي الصَّبْرِ على ما يَلْقَى منهم في ذلك - سالكٌ مِنْهاجَ أبيه إبراهيمَ، وأنه مُخْرِجُه مِن بين أَظْهُرِهم، كما أخرجَ إبراهيمَ مِن بين أظْهُرِ قومِه، حينَ
(2)
تَمادوا في غَيِّهِم، إِلى مُهَاجَرِهِ مِن أَرضِ الشامِ، ومُسَلٍّ بذلك نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما يَلْقى مِن قومِه من المَكْروهِ والأذَى، ومُعْلِمُه أَنه مُنَجِّيه منهم، كما نَجَّى أباه إِبراهيمَ مِن كَفَرَةِ قومِه.
وقد اختلفَ أهلُ التأويلِ في الأرضِ التي ذَكَر اللهُ أنه نَجَّى إبراهيمَ ولوطًا إليها، ووَصْفه أنه بارَك فيها للعالمين؛ فقال بعضُهم بنحوِ الذي قُلنا في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسينُ
(3)
بن حُرَيثٍ المَرْوَزِيُّ أبو عمارٍ، قال: ثنا الفضلُ بنُ موسى، عن الحسينِ بن واقدٍ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ، عن أُبيِّ بن كعبٍ:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . قال: الشامُ، وما مِن ماءٍ عَذْبٍ إلا خَرَج مِن تلك الصخرةِ التي ببيتِ المقدسِ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن قُراتِ القَزَّازِ، عن الحسنِ في قولِه:{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . قال: الشامُ
(5)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"إصلاحه".
(2)
في ص، ت 2، ف:"حتى".
(3)
في ت 1 ت 2، ف:"الحسن". وينظر تهذيب الكمال 6/ 358.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 1/ 140 من طريق أبي عمار به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
تقدم تخريجه في 10/ 405.
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} : كانا بأرضِ العراقِ، فأُنْجِيا إلى أرضِ الشامِ، وكان يقالُ للشامِ: عمادُ
(1)
دارِ الهجرةِ، وما نَقَص مِن الأرضِ زِيد في الشامِ، وما نَقَص مِن الشامِ زِيد في فِلَسْطينَ، وكان يقالُ: هي أرضُ المحشرِ والمَنْشَرِ، وبها مَجْمَعُ الناسِ، وبها ينزلُ عيسى ابن مريمَ، وبها يُهْلِكُ اللهُ مسيحَ
(2)
الضلالةِ الكذَّابَ الدَّجَّالَ
(3)
.
وحدثنا أبو قِلَابةَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ فيما يَرَى النائمُ كأن الملائكةَ حَمَلَت عَمُودَ الكتابِ فوَضَعَته بالشامِ، فأَوَّلْتُه أَن الفِتَنَ إِذا وَقَعَت فإن الإيمانَ بالشامِ"
(4)
.
وذُكِر لنا أن رسولَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يومٍ في خُطْبَتِه: "إِنَّه كائِنٌ بالشامِ جُنْدٌ، وبالعراقِ جُنْدٌ، وباليمنِ جندٌ". فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، خِرْ لى. فقال: "عليك بالشامِ، فإنَّ الله قد تَكَفَّلَ لى بالشامِ وأهْلِه، فمَنْ أَتَى فَلْيَلْحَقْ بيمنِه
(5)
وَلْيَسْتَقِ بغُدُرِه
(6)
".
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أعقاب".
(2)
في ص، ت 1:"مسيخ"، وفي م، ف، والدر المنثور:"شيخ".
(3)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 1/ 181 من طريق سعيد وخليد به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 1/ 110 من طريق أبي قلابة عن عبد الله بن عمرو به. وأخرجه في 1/ 101 - 113 من طرق عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب وأبي أمامة وعائشة وعبد الله بن حوالة.
(5)
في النسخ: "بأمنه". والمثبت من مصادر التخريج.
(6)
في م: "بقدره". والغُدُر جمع غدير، وهو النهر الصغير.
والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (3851)، وفي مسند الشاميين 1/ 228 من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه في الكبير (22/ 55، 130، 58، 137، 138) من حديث واثلة بن الأسقع، وأخرجه في =
وذُكِر لنا أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قال: يا كعبُ، ألا تَتَحوَّلُ إلى المدينةِ؛ فإنها مُهاجَرُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وموضعُ قبرِه؟ فقال له كعبٌ: يا أميرَ المؤمنين، إني أجِدُ في كتاب اللهِ المُنَزَّلِ، أن الشامَ كَنْزُ اللهِ مِن أرضِه، وبها كنزُه مِن عبادِه
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن قَتَادةَ:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . قال: هاجَرا جميعًا من كُوثَى
(2)
إلى الشامِ
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: انطَلَق إبراهيمُ ولوطٌ قِبَلَ الشامِ، فلَقِيَ إبراهيمُ سارةَ، وهى بنتُ ملكِ حَرَّانَ، وقد طَعَنَت على قومها في دينهم، فتَزَوَّجها على أَلَّا يُغَيِّرَها
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: خَرَج إبراهيمُ مُهاجِرًا إلى ربِّه، وخَرَج معه لوطٌ مُهاجِرًا، وتَزوَّج سارَةَ ابنة عمِّه، فخَرج بها يَلْتَمِسُ الفِرارَ بدينِه والأمانَ على عبادةِ ربِّه، حتى نَزَلَ حَرَّانَ، فمكَث فيها ما شاء اللهُ أن يَمْكُثَ، ثم خَرَج منها مُهاجِرًا حتى قَدِمَ مصرَ، ثم خَرَجَ مِن مصر إلى الشامِ، فنَزَل السَّبْعَ مِن أرضِ فِلَسطينَ، وهي بَريَّةُ الشامِ، ونَزل لوطٌ
= مسند الشاميين 1/ 292، 570، 2/ 1054، والحاكم 4/ 510 من حديث عبد الله بن حوالة. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 1/ 56 - 83 من طرق عن عبد الله بن حوالة وعبد الله بن عمر ووائلة بن الأسقع وعبد الله بن الأسقع وأبي الدرداء والعرباض بن سارية.
(1)
أخرجه. معمر في جامعه (20459)، والبغوى في تفسيره 5/ 329 وابن عساكر في تاريخه 1/ 121، 122 من طرق عن عمر.
(2)
كُوثَي: موضع بسواد العراق في أرض بابل. معجم البلدان 4/ 317.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 30.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 244. وقال ابن كثير في تفسيره 5/ 347: وهو غريب، والمشهور أنها ابنة عمه.
بالمؤتفكةِ، وهى مِن السَّبْعِ على مسيرةِ يومٍ وليلةٍ، أو أقرب من ذلك، فبَعَثَه اللهُ نبيًّا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قولَه:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . قال: نَجَّاه مِن أرضِ العراقِ إلى أرضِ الشامِ.
قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ، عن أبي العاليةِ أنه قال في هذه الآيةِ:{بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . قال: ليس ماءٌ عذبٌ إلا يَهْبِطُ إلى الصخرةِ التي ببيتِ المقدسِ. قال: ثم يَتَفَرَّقُ في الأرضِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . قال: إلى الشامِ.
وقال آخرون: بل يعنى مكةَ، وهى الأرضُ التي قال اللهُ تعالى:{الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} : يعنى مكةَ، ونُزُولَ إسماعيلَ البيتَ، ألَا تَرى أنه يقولُ: {إِنَّ أَوَّلَ
(1)
تقدم أوله في ص 297.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى عبد بن حميد.
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}
(1)
[آل عمران: 96].
قال أبو جعفرٍ: وإنما اختَرنا ما اختَرنا مِن القولِ في ذلك لأنه لا خلافَ بينَ جميعِ أهلِ العلمِ أن هجرةَ إبراهيمَ مِن العراقِ كانت إلى الشامِ، وبها كان مُقامه أيامَ حياتِه، وإن كان قد كان قدِم مكةَ، وبَنَى بها البيتَ، وأسْكَنَها إسماعيلَ ابنَه مع أمِّه هاجرَ، غيرَ أنه لم يُقِمْ بها، ولم يَتَّخِذْها وَطَنًا لنفسِه، ولا لوطٌ، واللهُ إنما أخبَر عن إبراهيمَ ولوطٍ أنهما أُنجيا
(2)
إلى الأرضِ التي بارك
(3)
فيها للعالمين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ووَهَبْنا لإبراهيمَ إسحاق ولدًا، ويعقوبَ ولدَ ولدِه، نافلةً له
(4)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بقولِه: {نَافِلَةً} ؛ فقال بعضُهم: عَنَى به يعقوبَ خاصةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} . يقولُ: وَوَهَبْنا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 347.
(2)
في م، ت 1:"أنجاهما"، وفى ص، ف:"أنجاه".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"باركنا".
(4)
في م: "لك".
له إسحاقَ ولدًا، ويعقوبَ ابنَ ابنٍ، نافلةً
(1)
.
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} : والنافلةُ ابن ابنِه يعقوبُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} . قال: سأل واحدًا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]. فأعْطاه واحدًا، وزادَه يعقوبَ، ويعقوبُ ولدُ ولدِه.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك إسحاق ويعقوب. قالوا: وإنما معنى النافلةِ: العَطِيَّةُ، وهما جميعًا من عطاءِ اللهِ أعْطاهما إياه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} . قال: عَطِيَّةً
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} . قال: عطاء
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 348.
(3)
تفسير سفيان ص 202.
(4)
تفسير مجاهد ص 473، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وقد بَيَّنا فيما مضَى قبلُ، أن النافلةَ: الفضلُ مِن الشيءِ، يصيرُ إلى الرجلِ مِن أيِّ شيءٍ كان ذلك
(1)
، وكِلَا وَلدَيه إسحاقَ ويعقوبَ كان فضلًا مِن اللَّهِ تَفَضَّل به على إبراهيمَ، وهِبةً منه له. وجائزٌ أن يكونَ عنَى به أنه آتاهما إياه جميعًا نافلةً منه له، وأن يكونَ عنَى أنه آتاه نافلةً يعقوبَ. ولا برهانَ يَدُلُّ على أيِّ ذلك المرادُ مِن الكلامِ، فلا شيءَ أَوْلَى أن يقالَ في ذلك مما قال اللهُ: ووَهَب اللهُ لإبراهيمَ إسحاقَ ويعقوبَ نافلةً.
وقولُه: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} . [يقولُ: وكلُّهم جعَلنا صالحين]
(2)
. يعني: عاملين بطاعة الله، مُجْتَنِبين محارمَه.
وعنَى بقولِه: {وَكُلًّا} : إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ.
وقولُه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ أئمةً يُؤتَمُّ بهم في الخيرِ في طاعةِ اللهِ في اتِّباعِ أمْرِه ونَهْيِه، ويُقتدى بهم ويُتَّبَعون عليه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} : جَعَلهم اللهُ أئمةً يُقتدَى بهم في أمرِ اللَّهِ
(3)
.
وقولُه: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} . يقولُ: يَهْدُون الناسَ بأمرِ اللَّهِ إِيَّاهم بذلك، ويَدْعُونهم إلى اللَّهِ وإلى عبادتِه.
(1)
ينظر ما تقدم في 11/ 10.
(2)
سقط من: م، ف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 323 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأَوْحَينا فيما أوحَينا: أن افْعَلوا الخيراتِ، وأقِيموا الصلاةَ بأمْرِنا بذلك. {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. يقولُ: كانوا لنا خاشِعِين، لا يَسْتَكْبِرون عن طاعتِنا وعبادتِنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وآتَينا لوطًا حُكْمًا، وهو فَضْلُ القضاءِ بينَ الخصومِ. {وَعِلْمًا}. يقولُ: وآتَيناه أيضًا عِلْمًا بأمْرِ دينِه، وما يجبُ عليه للَّهِ مِن فرائضِه.
وفى نَصْبِ "لوط" وجهان؛ أن يُنْصَبَ لتعلُّقِ الواوِ بالفعلِ، كما قلنا: وآتَينا لوطًا. والآخرُ، بمضمرٍ بمعنى: واذكُرْ لوطًا.
وقولُه: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} . يقولُ: ونَجَّيناه مِن عذابِنا الذي أحْلَلْناه بأهلِ القريةِ التي كانت تعملُ الخبائثَ، وهي قريةُ سَدُومَ التي كان لوطٌ بُعِث إلى أهلِها، وكانت الخبائث التي يَعْمَلُونها؛ إتيانَ الذُّكران في أدْبارهم، وحَذْفَهم
(1)
الناسَ، وتَضارُطَهم في أنديَتِهم، مع أشياءَ أُخَرَ كانوا يَعْمَلُونَها مِن المُنكرِ، فأخرَجَه اللهُ حينَ أراد إهلاكَهم إلى الشامِ.
كما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: أخرَجهم اللهُ - يعنى لوطًا وابنتَيه ريثا وزغرتا
(2)
- إلى الشامِ حينَ أرادَ إهلاكَ قومِه
(3)
.
وقولُه: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} . مُخالِفين أمرَ اللَّهِ، خارِجين عن طاعتِه وما يَرْضَى من العملِ.
(1)
في م: "خذفهم".
(2)
في م: "زعرثا".
(3)
تقدم تخريجه في 12/ 497.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} .
يقولُ تعالى ذكره: وأَدْخَلْنا لوطًا في رحمتِنا بانجائِنا إياه مما أحْلَلْنا بقومِه مِن العذابِ والبلاءِ، وإنقاذِناه {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}. يقولُ: إن لوطًا مِن الذين كانوا يَعْمَلون بطاعتِنا، ويَنْتَهُون إلى أمرِنا ونَهْيِنا، ولا يَعْصُونَنا.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في معنى قولِه: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} . قال: في الإسلام.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واذكُرْ يا محمدُ نوحًا إذ نادَى ربَّه مِن قبلِك، ومِن قبلِ إبراهيمَ ولوطٍ، وسألَنا أن نُهلِكَ قومَه الذين كذَّبوا الله فيما تَوَعَّدَهم به مِن وَعيدِه، وكذَّبوا نوحًا فيما أتاهم به من الحقِّ مِن عندِ ربِّه وقال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]. فاسْتَجَبنا له دعاءَه. {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} . يعني بـ "أهلِه" أهلَ الإيمانِ به من ولدِه وحَلائلِهم، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}. يعنى بـ"الكَرْبِ العظيمِ": العذابَ الذي حَلَّ
(1)
بالمكُذِّبين مِن الطوفانِ والغَرَقِ.
والكَرْبُ شدَّةُ الغَمِّ، يقالُ منه: قد كَرَبَنى هذا الأمرُ، فهو يَكْرُبُنِي كَرْبًا.
وقولُه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} . يقولُ: وَنَصَرْنا نوحًا
(1)
في ص، م، ت 2، ف:"أحل".
على القومِ الذين كذَّبوا بحُجَجِنا وأدلتِنا، فأنْجَيناه منهم، فأَغْرَقْنَاهم أجمعين {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ}. يقولُ تعالى ذكرُه: إن قومَ نوحٍ الذين كذَّبوا بآياتِنا كانوا قومَ سَوْءٍ، يُسِيئُون الأعمالَ، فيُعْصُون الله، ويُخالفون أمرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ داودَ وسليمانَ يا محمدُ إذ يَحْكُمان في الحرْثِ.
واختلف أهلُ التأويلِ في ذلك الحرْثِ، ما كان؟ فقال بعضُهم: كان نَبْتًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، إسحاق، عن [أبي إسحاقَ]
(1)
مُرَّةَ في قولِه: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} . قال: كان الحرثُ نَبْتًا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ذُكِر لنا أن غَنَمَ القومِ وَقَعَت في زَرْعٍ لَيْلًا
(3)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك الحرْثُ كَرْمًا.
(1)
في ص، م:"ابن إسحاق". وتقدم مرارًا.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور، وهو في تفسير سفيان ص 202 عن أبي إسحاق، عن مرة، عن مسروق قال: الحرث عنب.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 324 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن أشعثَ، عن أبي إسحاقَ، عن مرَّةَ، عن ابن مسعودٍ في قولِه:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} . قال: كَرْمٌ قد أنبتَتْ عناقيدُه
(1)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن شَريكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن مسروقٍ، عن شُريحٍ، قال: كان الحرثُ كَرْمًا
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ ما قال اللهُ تبارك وتعالى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} . والحرْثُ إنما هو حَرْثُ الأرضِ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك كان زَرْعًا، وجائزٌ أن يكونَ كان
(3)
غَرْسًا، وغيرُ ضائرٍ الجهلُ بأيِّ ذلك كان.
وقولُه: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . يقولُ: حينَ دخلَتْ في هذا الحرْثِ عْنَمُ القومِ الآخرين من غيرِ أهلِ الحرْثِ ليلًا، فرَعَتْه و
(4)
أَفْسَدْته. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} . يقولُ: وكنا لحكْمِ
(5)
داودَ وسليمانَ والقومِ الذين حكَم بينَهم فيما أفسَدتْ غنَمُ أهلِ الغنَمِ من حرْثٍ أهل الحرثِ - شاهدِين لا يخفَى علينا منه شيءٌ، ولا يغيبُ عنا علْمُه.
وقولُه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . يقولُ: ففهَّمنا القضيةَ في ذلك سُلَيْمانَ دونَ
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 588 - ومن طريقه البيهقى 10/ 118، وابن عساكر في تاريخه 22/ 234 - من طريق المحاربي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 324 إلى ابن مردويه.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 346، وينظر ص 324.
(3)
سقط من: م.
(4)
في ص، م، ت 1:"أو".
(5)
في ت 2: "لحكمهم".
داودَ، {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. يقولُ: وَكلَّهم من داودَ وسليمانَ والرسلِ الذين ذكَرهم في أوّلِ هذه السورةِ {آتَيْنَا حُكْمًا} ، وهو النبوَّةُ، {وَعِلْمًا}. يعنى: وعلْمًا بأحكامِ اللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ وهارونُ بنُ إدريسَ الأصمُّ، قالا: ثنا المحاربيُّ، عن أشعثَ، عن أبي إسحاقَ، عن مرَّةَ، عن ابن مسعود في قولِه:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ، قال: كَرْمٌ قد أنبتَت عناقيدُه فأفسَدته. قال: فقضَى داودُ بالغنمِ لصاحبِ الكرْمِ، فقال سليمانُ: غير هذا يا نبيَّ اللهِ. قال: وما ذاكَ؟ قال: يُدفَعُ الكرْمُ إلى صاحبِ الغنمِ، فيقومُ عليه حتى يعودَ كما كان، وتُدفَعُ الغنمُ إلى صاحبِ الكرْمِ فيُصيبُ منها، حتى إذا كان الكرْمُ كما كان، دفَعتَ الكرمَ إلى صاحبِه، ودفَعتَ الغنمَ إلى صاحبِها. فذلك قولُه:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قولِه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} . يقولُ: كنا لما حكَما شاهدين؛ وذلك أن رجُلين دخَلا على داودَ، أحدُهما صاحبُ حرْثٍ، والآخرُ صاحبُ غنَمٍ، فقال صاحبُ الحرْثِ: إن هذا أرسَل غنَمَه في حَرْثِى، فلم يُبْقِ من حَرْثى شيئًا. فقال له داودُ: اذهَبْ فإن الغنَمَ كلَّها لك. فقضَى بذلك داودُ، ومَرَّ صاحبُ الغنَمِ بسليمانَ فأخبرَه بالذي قضَى به داودُ، فدخلَ سليمانُ على داودَ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، إن القضاءَ سِوى الذي قضَيْتَ. فقال: كيف؟ قال سليمانُ: إِن الحَرْثَ لا يَخْفَى
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
على صاحبِه ما يخرُجُ منه في كُلِّ عامٍ، فله من صاحبِ الغنَمِ أن يبيعَ
(1)
من أولادِها وأصوافِها وأشعارِها حتى يستوفِيَ ثمنَ الحرْثِ، فإن الغنَمَ لَها نَسْلٌ في كلِّ عامٍ. فقال داودُ: قد أَصَبْتَ، القضاءُ كما قضيْتَ. ففهَّمَها اللهُ سليمانَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عليّ بن زيدٍ، قال: ثنى خليفةُ، عن ابن عباسٍ، قال: قضَي داودُ بالغنَمِ لأصحابِ الحرْثِ، فخرَج الرِّعاءُ
(3)
الكلابُ، فقال سليمانُ: كيف قضَى بينكم
(4)
؟ فأخبرَوه، فقال: لو وافيْتُ أمرَكم
(5)
لقضَيْتُ بغيرِ هذا. فأُخبِر بذلك داودُ، فدعاه فقال: كيف تقضِى بينَهم؟ قال: أَدْفَعُ الغنَمَ إلى أصحابِ الحرْثِ، فيكونُ لهم أولادُها وألبانُها وسِلاؤُها
(6)
ومنافعُها، ويَبذُرُ أصحابُ الغنَمِ لأهلِ الحرْثِ مثلَ حرْثِهم، فإذا بلَغ الحرْثُ الذي كان عليه، أخَذ أصحابُ الحرْثِ الحرْثَ، وردُّوا الغنم إلى أصحابِها
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسَى، قال: ثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: أَعْطاهم داودُ رِقابَ الغنمِ بالحرْثِ، وحكَم سليمانُ بجِزَّةِ
(8)
الغنمِ وألبانِها لأهلِ
(1)
في ت 1، ت 2:"يبتع".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 324 إلى المصنف.
(3)
في ص، م، ف:"الرعاة".
(4)
في ص، ت 1، ف:"بينهم"، وفى ت 2:"معهم".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"أمرهم".
(6)
السلاء: السمن. تاج العروس (س ل أ).
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 349 عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد به.
(8)
الجزة: صوف الشاة في سنة. تاج العروس (ج ز ز).
الحرْثِ، وعليهم رِعايتُها على أهلِ الحرْثِ، ويحرُثُ لهم أهلُ الغنمِ حتى يكونَ الحرْثُ كهيئتِه يومَ أُكِلَ، ثم يدفَعونَه إلى أهلِه، ويأْخُذونَ غنمَهم
(1)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنى ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ بنحوِه، إلا أنه قال: وعليهم رَعْيُها
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي
(3)
إسحاقَ، عن مُرَّةَ في قولِه:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: كان الحرْثُ نبْتًا، فنفَشَتْ فيه ليلًا، فاختَصَموا فيه إلى داودَ، فقضَى بالغنَمِ لأصحابِ الحرْثِ، فمرُّوا على سليمانَ، فذكَروا ذلك له، فقال: لا، تُدفَعُ الغنم فيُصيبونَ منها - يعنى أصحابَ الحرْثِ - ويقومُ هؤلاءِ على حَرْثِهم، فإذا كان كما كان، رَدُّوا عليهم. فنزلَت:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
(4)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن شَريكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن مَسروقٍ، عن شُريحٍ في قولِه:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: كان النفْشُ ليلًا، وكان الحرْثُ كَرْمًا. قال: فجعَل داودُ الغنمَ لصاحبِ الكَرْمِ. قال: فقال سليمانُ: إن صاحبَ الكرْمِ قد بَقِى له أَصْلُ أَرْضِه، وأَصْلُ كَرْمِهِ، فَاجْعَلْ له أصوافَها وألبانَها. قال: فهو قولُ اللهِ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (18435) عن ابن جريج، عن مجاهد.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"رعيتها".
(3)
في ص، م، ت 1:"ابن".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 324 إلى المصنف.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 26، وفى المصنف (18433) من طريق أبي إسحاق، عن مرة، عن مسروق من قوله، وهو في تفسير مجاهد ص 473 من طريق مرة، عن مسروق. وعزاه السيوطي في الدر=
حدَّثنا ابن أبي زيادٍ، قال: ثنا يزيدُ بن هارونَ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ، عن عامرٍ، قال: جاءَ رجُلانِ إلى شُرَيحٍ، فقال أحدُهما: إن شاةَ
(1)
هذا قطعتْ غَزْلًا لي. فقال شُريحٌ: نهارًا أم ليلًا
(2)
؟ قال: فإن كان نهارًا فقد برِئ صاحبُ الشاةِ، وإن كان ليلًا فقد ضَمِنَ. ثم قرأ:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: كان النفْشُ ليلًا
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، قال: ثنا إسماعيلُ بن أبي خالدٍ، عن عامرٍ، عن شُريحٍ بنحوِه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن الشعبيِّ، عن شُريحٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ قولَه:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية: النفْشُ بالليلِ، والهَمَلُ بالنهارِ. وذُكِر لنا أن غنَمَ القومِ وقَعتْ في زَرْعٍ ليلًا، فرُفِع ذلك إلى داودَ، فقضَى بالغنمِ لأصحابِ الزرعِ، فقال سليمانُ: ليس كذلك، ولكن له نَسْلُها ورَسَلُها وعوارضُها
(4)
وجِزاؤُها، حتى إذا كان من العامِ المقبلِ كهيئتِه يومَ أُكِلَ، دُفِعت الغنمُ إِلى رَبِّها، وقبَض صاحبُ الزرعِ زَرْعَه، فقال اللهُ:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
(5)
.
= المنثور 4/ 324 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1)
في م: "شياه".
(2)
بعده في ت 1: "قال كان نهارًا".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 350 عن المصنف، وأخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 254، 259 - ومن طريقه ابن أبي شيبة 9/ 436 - من طريق إسماعيل به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (18439، 18440) من طريق الشعبى به. وأخرجه وكيع في 2/ 321 من طريق أشعث بن أبي الشعثاء، عن شريح بنحوه.
(4)
الرَّسَل: القطيع من كل شيء، ويجمع على أرسال. والعوارض جمع العريض، وهو ما فوق الفطيم ودون الجذع من المعز. وقيل: هو الجدى إذا نزا. وقيل: هو الذي أتي عليه سنة وتناول الشجر والنبت، ويجمع على عرضان وعُرضان. اللسان (ع ر ض، ر س ل).
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 324 إلى المصنف.
حدثَّنا ابن عبدِ الأعلَى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ والزُّهْريِّ:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: نفشَت غنَمٌ فِي حَرْثِ قومٍ، قال الزُّهْريُّ: والنفْشُ لا يكونُ إلا ليلًا. فقضَى داودُ أن يأخُذَوا الغنمَ، ففهَّمَها اللهُ سليمانَ. قال: فلما أُخبِر بقضاءِ داودَ، قال: لا، ولكن خُذوا الغنَمَ، فلكم ما خرَج مِن رَسَلِها وأولادِها وأصوافِها إلى الحولِ
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: في حَرْثِ قومٍ. قال معمرٌ: قال الزُّهْريُّ: النفْشُ لا يكونُ إلا بالليلِ، والهمَلُ بالنهار. قال قَتادةُ: فقضَى أَن يأْخُذوا الغنمَ، ففهَّمها اللهُ سليمانَ. ثم ذكَر باقىَ الحديثِ نحو حديثِ ابن عبدِ الأعلَى
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} الآيتَيْن. قال: انفلَتَتْ غنمُ رجلٍ على حرْثِ رجلٍ فأكلَتْه، فجاءَ إلى داودَ، فقضَى فيها بالغنمِ لصاحبِ الحرْثِ بما أكَلَتْ، وكأنه رأَى أنه وجْهُ ذاك، فمرُّوا بسليمانَ، فقال: ما قضَى بينَكم نبيُّ اللهِ؟ فأخبَروه، فقال: ألا أَقضى بينَكما بقضاءٍ
(3)
عسى أن تَرضيا به؟ فقالا: ". فقال: أما أنتَ يا صاحبَ الحَرْثِ، فخُذْ غنمَ هذا الرجلِ فكنْ فيها كما كان صاحبُها، أَصِبْ من بينها وعارضَتِها وكذا وكذا ما كان يُصيبُ، واحْرُثْ أنت يا صاحبَ الغنمِ حَرْثَ هذا الرجلِ، حتى إذا كان حَرْثُه مثلَه ليلةَ نفَشَت فيه عَنَمُك، فأعطِهْ حَرْثَه، وخُذْ غنَمَك. فذلك قولُ اللهِ تبارك وتعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (18432) عن معمر، عن الزهري.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 24.
(3)
سقط من: م.
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}. وقرَأ حتى بلَغ قولَه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} .
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . قال: رعَتْ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: النفْشُ الرَّعيةُ تحتَ الليلِ.
قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن الزهريِّ، عن حرامِ بن مُحَيِّصةَ بن مسعودٍ، قال: دخلت ناقةٌ للبراء بن عازبٍ حائطًا لبعضِ الأنصارِ فأفسَدتْه، فرُفِع ذلك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . فقضَى على البراءِ بما أفسَدتِ الناقةُ، وقال:"علَى أصحابِ الماشيةِ حِفْظُ الماشيةِ باللَّيْلِ، وعلى أصحابِ الحوائطِ حِفْظُ حيطانِهم بالنَّهارِ".
قال الزهريُّ: وكان قضاءُ داودَ وسليمانَ في ذلك أن رجلًا دخَلت ماشيتُه زَرْعًا لرجلٍ فأفسَدتْه - ولا يكونُ النُّفُوسُ إلا بالليلِ - فارتفَعا إلى داودَ، فقضَى بغنمِ صاحبِ الغنمِ لصاحبِ الزرْعِ، فانصرَفا، فمرّا بسليمانَ، فقال: بماذا قضَى بينَكما نبيُّ اللهِ؟ فقالا: قضَى بالغنمِ لصاحبِ الزرعِ. فقال: إن الحُكمَ لعلى غيرِ هذا، انصَرِفا معى. فأَتى أباه داودَ فقال: يا نبيَّ اللهِ، قضَيْتَ على هذا بغنَمِه لصاحبِ الزرْعِ؟ قال: نعَم. قال: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّ الحَكْمَ لعلَى غيرِ هذا. قال: وكيف يا بُنَيَّ؟ قال: تدفَعُ الغنمَ إلى صاحبِ الزرْعِ، فيُصيبُ من ألبانِها
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 325 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وسمونِها وأصوافِها، وتدفَعُ الزرْعَ إلى صاحبِ الغنمِ يقومُ عليه، فإذا عادَ الزرْعُ إلى حالِه التي أصابتْه الغنمُ عليها، رُدَّتِ الغنمُ على صاحبِ الغنمِ، ورُدَّ الزرْعُ على صاحبِ الزرْعِ. فقال داودُ: لا يقطَعُ اللهُ فَمَكَ. فقضَى بما قضَى سليمانُ. قال الزهريُّ: فذلك قولُه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قولِه: {حُكْمًا وَعِلْمًا}
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ وعليُّ بنُ مجاهدٍ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: فحدَّثني من سمِع الحسنَ يقولُ: كان الحكْمُ بما قضَى به سليمانُ، ولم يُعنِّفِ اللهُ داودَ في حُكْمِه
(2)
.
وقولُه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} . يقولُ تعالَى ذكرُه: وسخَّرْنا مع داودَ الجبالَ والطيرَ يُسبِّحْنَ معه إذا هو سَبَّح.
وكان قَتادةُ يقولُ في معنَى قولِه: {يُسَبِّحْنَ} في هذا الموضِعِ ما حدَّثنا به بِشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} . أي: يُصلِّينَ مع داودَ إِذا صَلَّى
(3)
.
وقولُه: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} . يقولُ: وكنا قد قَضْينا أنَّا فاعِلُو ذلك، ومُسَخِّرو الجبالِ والطيرِ في أُمِّ الكتاب مع داودَ عليه الصلاة والسلام.
(1)
المرفوع أخرجه أحمد 5/ 435، 436 (الميمنية)، وأبو داود (3570)، وابن ماجه (2332) من طريق الزهرى به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (18438) - ومن طريقه أحمد 5/ 436 (الميمنية)، وأبو داود (3569) من طريق الزهرى، عن حرام بن محيصة، عن أبيه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 325 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 326 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ
(1)
مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وعلَّمْنا داودَ صنعةَ لبوسٍ لكم.
واللَّبوسُ عندَ العربِ السِّلاحُ كُلُّه؛ دِرْعًا كان أو جَوْشَنًا
(2)
أَو سَيْفًا أو رُمْحًا.
يدُلُّ عَلَى ذلك قولُ الهُذَليِّ
(3)
:
ومعِي لَبُوسٌ للبَئيسِ
(4)
كأنَّهُ
…
رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعَاجٍ مُجْفِلِ
وإنما يصِفُ بذلك رُمْحًا. وأما في هذا الموضِعِ فإن أهلَ التأويلِ قالوا: عنَى الدُّرُوعَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} الآية. قال: كانت قبلَ داود صفائحَ. قال: وكان أوّلَ من صنَع هذا الحلَقَ وسَرَد داودُ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلَى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} . قال: كانت صفائحَ، فأوّلُ من سَرَدَهَا وحَلَّقها داودُ عليه السلام
(5)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ليحصنكم". وهما قراءتان كما سيأتي في الصفحة الآتية.
(2)
الجوشن: اسم الحديد الذي يلبس من السلاح. اللسان (ج ش ن).
(3)
هو أبو كبير عامر بن الحليس الهذلي، والبيت في ديوان الهذليين 2/ 98.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ف:"لِلَّبيس".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 27 عن معمر به، وهو تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: (لِيُحْصِنَكُم). فقرأَ ذلك أكثرُ قرأةِ الأمصارِ: (لِيُحْصِنَكُمْ). بالياءِ
(1)
، بمعنى: ليُحصِنَكم اللَّبوسُ من بأْسِكم. ذَكَّروه لتذكيرِ "اللَّبوسِ". وقرأ ذلك أبو جعفرٍ يزيدُ بنُ القعقاعِ: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاءِ
(2)
، بمعنَى: لتُحصِنَكم الصنعَةُ. فأَنَّث لتأْنيثِ الصنعَةِ. وقرأ شيبةُ بنُ نِصَاحٍ
(3)
وعاصمُ بنُ أبي النَّجودِ: (لِنُحْصِنَكُمْ) بالنونِ
(4)
، بمعنى: لنُحصِنَكم نحنُ من بأْسِكم.
قال أبو جعفرٍ: وأولَى القراءاتِ في ذلك بالصوابِ عندى قراءةُ من قرأَه بالياءِ؛ لأنها القراءةُ التي عليها الحجةُ مِن قرأةِ الأمصارِ، وإن كانت القراءاتُ الثلاثُ التي ذكَرناها متقارباتِ المعانى، وذلك أن الصَّنعَةَ هي اللَّبوسُ، واللَّبوسَ هي الصنعةُ، واللهُ هو المحصِنُ به من البأْسِ
(5)
، وهو المحصِنُ بتصييرِ اللهِ إياه كذلك. ومعنَى قولِه (لِيُحْصنَكُمْ): ليُحرِزَكم. وهو من قولِه: قد أحصَن فلانٌ جاريتَه. وقد بيَّنا معنَى ذلك بشواهدِه فيما مضَى قبلُ
(6)
.
والبأْسُ: القتالُ. وعلَّمنا داودَ صنعةَ سلاحٍ لكم ليُحرِزَكم إذا لَبِستموه، ولقِيتُم فيه أعداءكم من القتلِ.
وقولُه: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} . يقولُ: فهل أنتم أيها الناسُ شاكِرُو اللهِ على
(1)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 430.
(2)
هي قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
(3)
في ت 1، ف:"فصاح"، وينظر غاية النهاية 1/ 329.
(4)
هي رواية أبي بكر ورويس عن عاصم. النشر 2/ 243. وتنظر قراءة شيبة في تفسير القرطبي 11/ 321، وذكرها في البحر المحيط 6/ 332 بالتاء.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الناس".
(6)
ينظر ما تقدم في 6/ 575.
نِعْمَتِه
(1)
عليكم بما علَّمكم من صَنْعةِ اللَّبوسِ المحصِنِ في الحرْبِ، وغيرِ ذلك من نعَمِه عليكم. يقولُ: فاشْكُرونى علَى ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه: وسخَّرْنا لسليمانَ بن داودَ {الرِّيحَ عَاصِفَةً} ، وعُصوفُها شِدَّة هبوبِها، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. يقولُ: تجرى الريحُ بأمرِ سليمانَ {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . يعنى: إلى الشامِ، وذلك أنها كانت تجرى بسليمانَ وأصحابِه إلى حيثُ شاءَ سليمانُ، ثم تعودُ به إلى منزلِه بالشامِ، فلذلك قيلَ:{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} .
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: كان سليمانُ إذا خرَج إلى مجلسِه عكَفتْ عليه الطيرُ، وقامَ له الجنُّ والإنسُ حتى يجلِسَ إلى سريرِه، وكان امْرأً غزَّاءً، قَلَّما يقعُدُ عن الغزوِ، ولا يسمَعُ في ناحيةٍ من الأرضِ بملِكٍ إلا أتاه حتى يُذِلَّه، وكان فيما يزعُمونَ إذا أرادَ الغزوَ، أمَر بعسْكرِه فضُرِب له بخشَبٍ، ثم نُصِب له على الخشَبِ، ثم حمَل عليه الناسَ والدوابَّ وآلةَ الحربِ كلَّها، حتى إذا حمَل معه ما يريدُ، أمر العاصِفَ من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا حتى إذا استقَلَّتْ أمَر الرُّخاءَ فمدَّتْه شهرًا في رَوْحتِه وشهرًا في غُدُوتِه إلى حيثُ أرادَ، يقولُ اللهُ جلَّ وعزّ:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36]. وقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. قال: فذُكِر لى أن مَنزِلًا بناحيةِ دجلةَ مكتوبٌ فيه كتابٌ، كتبه بعضُ صحابةِ سليمانَ؛ إمّا من الجنِّ
(1)
في ت 1: "نعمه".
وإمّا من الإنسِ: نحن نزَلْناه وما بنَيْناه، ومَبْنيًّا وجَدناه، غَدَونا من إصْطَخْرَ فقلناه، ونحن راحِلون منه إن شاءَ اللهُ قائلونَ الشامَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} إلى قولِه: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} . قال: ورَّثَ اللهُ سليمانَ داودَ، فورَّثَه نبوَّتَه ومُلكَه، وزادَه على ذلك أن سخَّر له الريحَ والشياطينَ
(2)
.
حدثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} . قال: عاصفةً شديدةً، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ}. قال: الشامُ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {الرِّيحَ}
(3)
. بالنصبِ على المعنى الذي ذكَرناه. وقرَأ ذلك عبدُ الرحمنِ الأعرجُ: (الريحُ) رفعًا
(4)
باللامِ
(5)
في "سليمانَ"، على ابتداءِ الخبرِ عن أن لسليمانَ الريحَ.
قال أبو جعفرٍ: والقراءةُ التي لا أستجيزُ القراءةَ بغيرِها في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ؛ الإجماعِ الحجَّةِ من القرأةِ عليه.
وقولُه: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} . يقولُ: وكنا عالمين بأن في
(6)
فعْلِنا ما
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 486.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 327 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م، ف.
(4)
البحر المحيط 6/ 332.
(5)
في م: "بالكلام".
(6)
سقط من: م.
فعَلنا لسليمانَ من تسخيرِنا له، وإعطائِنا ما أعطَيْناه من الملكِ - صلاحَ
(1)
الخَلْقِ، فعلى علْمٍ منا بموضِعِ ما فعَلنا به من ذلك فعَلنا ونحنُ عالمونَ بكلِّ شيءٍ، لا يخفَى علينا منه شيءٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وسخَّرنا أيضًا لسليمانَ من الشياطينِ من يَغوصونَ له في البحرِ، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ}؛ من البنيانِ والتماثيلِ والمحاريبِ. {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}. يقولُ: وكنا لأعمالِهم ولأعدادِهم حافظينَ، لا يئودُنا حفظُ ذلك كلِّه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ أيوبَ يا محمدُ إذ نادَى رَبَّه وقد مسَّه الضرُّ والبلاءُ: ربِّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فاستَجَبنا لأيوبَ دعاءَه إذ نادانا، فكَشَفنا ما كان به مِن ضُرٍّ وبلاءٍ وجَهْدٍ.
وكان الضُّرُّ الذي أصابَه، والبلاءُ الذي نزَل به، امْتِحانًا من اللهِ له واخْتِبارًا.
وكان سبَبَ ذلك كما حدَّثني محمدُ بنُ سَهْلِ بن عَسْكَرٍ البخاريُّ، قال: ثنا
(1)
في م: "وصلاح".
إسماعيلُ بنُ عبدِ الكريمِ أبو
(1)
هشامِ، قال: ثنى عبدُ الصمدِ بنُ مَعْقِلٍ، قال: سمِعتُ وهبَ بنَ منبِّهٍ يقولُ: كان بَدءُ أَمْرِ أيوبَ الصديقِ صلواتُ اللهِ عليه، أنه كان صابرًا، نِعْمَ العبدٌ، قال وهبٌ: إن لجبريلَ بينَ يديِ اللهِ مقامًا ليس لأحدٍ من الملائكةِ في القُرْبةِ من اللهِ والفضيلةِ عندَه، وإن جبريلَ هو الذي يتلَقَّى الكلامَ، فإذا ذكَر اللهُ عبدًا بخيرٍ، تلقَّاه منه جبريلُ، ثم تلقَّاه ميكائيلُ، وحَوْلَه الملائكةُ المقرَّبون حافِّينَ من حولِ العرشِ، وشاعَ ذلك في الملائكةِ المقرَّبينَ، صارتِ الصلاةُ على ذلك العبدِ من أهلِ السماواتِ، فإذا صلَّت عليه ملائكةُ السماواتِ هبطَت عليه بالصلاةِ إلى ملائكةِ الأرضِ، وكان إبليسُ لا
(2)
يُحْجَبُ بشيءٍ من السماواتِ، وكان يقِفُ فيهنَّ [حيثُما أراد]
(3)
، ومن هنالِك وصَل إلى آدمَ حينَ أخرَجه من الجنةِ، فلم يَزَلْ على ذلك يصعَدُ في السماواتِ حتى رفَع اللهُ عيسىَ ابن مريمَ، فَحُجبَ من أربعٍ، وكان يصعَدُ في ثلاثٍ، فلما بعَث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم حُجِب من الثلاثِ الباقيةِ، فهو محجوبٌ هو وجميعُ جنودِه من جميعِ السماواتِ إلى يومِ القيامةِ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فأتْبَعه شهابٌ ثاقبٌ. ولذلك أنكرَت الجنُّ ما كانت تعرِف حينَ قالت:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} ، إلى قولِه:{شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9].
قال وهبٌ: فلم يَرُعْ إبليسَ إلا تجاوبُ ملائكتِها بالصلاةِ على أيوبَ، وذلك حينَ ذكَره اللهُ وأثنَى عليه، فلما سمِع إبليسُ صلاةَ الملائكةِ أدْرَكه البغْيُ والحسَدُ، وصعِد سريعًا حتى وقَف من اللهِ مكانًا كان يقِفُه، فقال: يا إلهى، نظَرتُ في أَمْرِ عبدِك أيوبَ، فوجَدتُه عبدًا أنْعَمتَ عليه فشكَركَ، وعافَيتَه فحمِدَك، ثم لم تُجرِّبْه
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"بن". وينظر تهذيب الكمال 3/ 138.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في م: "حيث شاء ما أرادوا".
بشدَّةٍ ولم تجرِّبْه ببلاءٍ، وأنا لك زَعيمٌ لئن ضربتَه بالبلاءِ ليكفُرَنَّ بك ولينسَينَّك، وليعبُدَنَّ غيرَك. قال اللهُ تبارك وتعالى له: انطلِقْ فقد سلَّطتُك على مالِه، فإنه الأمرُ الذي تزعُمُ أنه من أجلِه يشكُرُنى، ليس لك سلطانٌ على جسدِه، ولا على عقلِه. فانقَضَّ عدوُّ الله حتى وقَع على الأرضِ، ثم جمَع عفاريتَ الشياطينِ وعظماءَهم، وكان لأيوبَ البَثَنِيةُ
(1)
من الشامِ كلِّها بما فيها من شرقِها وغربِها، وكان له بها ألفُ شاةٍ برُعاتِها وخمسُمائةِ فدَّانٍ
(2)
يَتْبَعُها خمسُمائةِ عبدٍ، لكلِّ عبدٍ امرأةٌ وولَدٌ ومالٌ، ويحمِلُ آلةَ كلِّ فدانٍ أتانٌ، لكلِّ أتانٍ ولدٌ من اثنين وثلاثةٍ وأربعةٍ وخمسةٍ وفوقَ ذلك. فلما جمعَ إبليسُ الشياطينَ، قال لهم: ماذا عندَكم من القوَّةِ والمعرفةِ، فإنى قد سُلِّطتُ على مالِ أيوبَ، فهى المصيبةُ الفادِحةُ، والفتنةُ التي لا يصبِرُ عليها الرجالُ؟ قال عفريتٌ من الشياطينِ: أُعطيتُ من القوَّةِ ما إذا شئتُ تحوَّلتُ إعصارًا من نارٍ فأحرَقتُ كلَّ شيءٍ أتى عليه. فقال له إبليسُ: فأْتِ الإبلَ ورُعاتَها، فانطلَق يؤمُّ الإبلَ، وذلك حينَ وضَعت رُءُوسَها وثبتَتْ في مراعِيها، فلم يَشعُرِ الناسُ حتى ثار من تحتِ الأرض إعصارٌ من نارٍ تُنفَخُ منها أرواحٌ السَّمومِ، لا يَدْنُو منها أحدٌ إلا احتَرقَ، فلم يزَلْ يَحْرِقُها ورُعاتَها حتى أتَى على آخرِها، فلما فرَغ منها تمثَّل إبليسُ على قعودٍ
(3)
منها براعيها، ثم انطلَق يؤمُّ أيوبَ حتى وجَده قائمًا يُصلِّى، فقال: يا أيوبُ. قال: لبَّيْكَ. قال: هل تدرِى ما الذي صنَع ربُّك
(4)
الذي اختَرْتَ وعَبَدْتَ ووحَّدتَ بإبلِكَ ورُعاتِها؟ قال أيوبُ: إنها مالُه أعارَنيه، وهو أَوْلى به إذا شاءَ نزَعه،
(1)
البثنية والبثنة: اسم ناحية من نواحي دمشق، وقيل: هي قرية بين دمشق وأذرعات، كان أيوب عليه السلام منها. معجم البلدان 1/ 493.
(2)
الفدَّان: الذي يحرث به. اللسان (ف د ن).
(3)
القعود من الإبل: هو البكر حين يركب، أي: يمكن ظهره من الركوب، وأدنى ذلك أن يأتي عليه سنتان، ولا تكون البكرة قعودا، وإنما تكون قلوصا. اللسان (ق ع د).
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بك".
وقديمًا ما وطَّنْتُ نفسِي ومالي على الفناءِ. قال إبليسُ: وإن ربَّك أرسَل عليها نارًا من السماءِ فاحتَرقَتْ ورُعاتُها حتى أتَى على آخرِ شيءٍ منها ومن رُعاتِها، فتَرَكْتُ الناسَ مَبهوتينَ وهم وُقوفٌ عليها يتعجَّبون؛ منهم من يقولُ: ما كان أيوبُ يعبُدُ شيئًا، وما كان إلا في غُرورٍ. ومنهم من يقولُ: لو كان إلهُ أيوبَ يقدِرُ على أن يصنَعَ
(1)
من ذلك شيئًا لمنَع وَلِيَّه. ومنهم من يقولُ: بل هو فعَل الذي فَعَل ليُشمِتَ
(2)
به عدَّوه، وليُفجِعَ به صديقَه. قال أيوبُ: الحمدُ للهِ حينَ أعْطاني، وحينَ نزَع منى، عُرْيَانًا خرَجتُ من بطنِ أُمِّي، وعُريانًا أعودُ في الترابِ، وعُريانًا أُحشَرُ إلى اللهِ، ليس ينبَغى لك أن تفرَحَ حينَ أعارَك اللهُ، وتجزَعَ حينَ قبَض عاريَتَه، اللهُ أولَى بك وبما أعْطاكَ، ولو علمِ اللهُ فيك أيُّها العبدُ خيرًا لنقَل
(3)
رُوحَك مع ملَكِ
(4)
الأرواحِ، فأجرى
(5)
فيك وصرْتَ شهيدًا، ولكنه علِم منك شرًّا فأخَّرك من أجلِه، فعرَّاك اللهُ من المصيبةِ، وخلَّصَك من البلاءِ كما يُخلَّصُ الزَّوانُ
(6)
من القمحِ الخَلاصِ.
ثم رجَع إبليسُ إلى أصحابِه خاسئًا ذليلًا، فقال لهم: ماذا عندَكم من القوَّةِ، فإني لم أُكلِّمْ قلبَه؟ قال عفريتٌ من عظمائِهم: عندِى من القوَّةِ ما إذا شئتُ صِحتُ صوتًا لا يسمَعُه ذو رُوحٍ إلا خرَجت مهجةُ نفسِه. قال له إبليسُ: فأتِ الغنَمَ ورُعاتَها. فانطلَق يؤمُّ الغنمَ ورُعاتَها، حتى إذا وَسَطها
(7)
صاحَ صوتًا جثَمت أمواتًا
(1)
في م: "يمنع".
(2)
في ص، ت 2، ف:"وليشمت"
(3)
في ت 1: "ليتقبل"، وفى ف:"ليقبل".
(4)
في ف، وعرائس المجالس:"تلك".
(5)
في م: "فأجرني".
(6)
الزوان والزؤان: عشب ينبت بين أعواد الحنطة غالبا، حبه كحبها، إلا أنه أسود وأصفر، وهو يخالط البر، فيكسبه رداءة. الوسيط (زأن، زون).
(7)
في ت 1، وعرائس المجالس:"توسطها".
من عندِ آخرِها ورعاؤُها. ثم خرَج إبليسُ متمثِّلًا بقَهْرمانِ
(1)
الرِّعاءِ، حتى إذا جاءَ أيوبَ وجَده وهو قائمٌ يُصلِّى، فقال له القولَ الأوّلَ، ورَدَّ عليه أيوبُ الردَّ الأَوَّلَ، ثم إن إبليسَ رجَع إلى أصحابِه، فقال لهم: ماذا عندَكم من القوَّةِ، فإني لم أُكلِّمْ قلبَ أيوبَ؟ فقال عفريتٌ من عظمائِهم: عندى من القوَّةِ إذا شئتُ تحوَّلتُ رِيحًا عاصِفًا تنسِفُ كلَّ شيءٍ تأتِى عليه، حتى لا أُبْقيَ شيئًا. فقال له إبليسُ: فأتِ الفدادينَ والحرْثَ. فانطلَق يؤمُّهم، وذلك حين قَرَّبوا الفَدادينَ، وأنشَئوا في الحرْثِ، والأُتُنُ وأولادُها رُتوعٌ، فلم يَشعروا حتى هبَّت ريحٌ عاصفٌ تنسِفُ كلَّ شيءٍ من ذلك، حتى كأنه لم يكُنْ. ثم خرج إبليسُ متمثِّلًا بقهْرمانِ الحَرْثِ حتى جاء أيوبَ وهو قائمٌ يصلِّي، فقال له مثلَ قولِه الأوَّلِ، ورَدَّ عليه أيوبُ مثلَ ردِّه الأوَّلِ.
فلما رأى إبليسُ أنه قد أفنَى مالَه، ولم يُنْجِحْ منه، صعِد سريعًا حتى وقَف من اللهِ الموقف الذي كان يقِفُه، فقال: يا إلهى، إن أيوبَ يرَى أنك ما متَّعتَه بنفسِه وولَدِه، فأنت مُعْطِيه المالَ، فهل أنت مُسلِّطى على ولَدِه؟ فإنها الفتْنةُ المضلةُ، والمصيبةُ التي لا تقومُ لها قلوبُ الرجالِ، ولا يقوَى عليها صبرُهم. فقال اللهُ تعالى: انْطَلِق، فقد سلَّطتُك على ولدِه، ولا سلطانَ لك على قلبِه ولا جسَدِه، ولا على عَقْلِه. فانقَضَّ عدوُّ اللهِ جوادًا حتى جاءَ بنى أيوبَ وهم في قَصْرِهم، فلم يَزَلْ يُزِلْزِلُ بهم حتى تداعى من قواعدِه، ثم جعَل يناطِحُ جُدُرَ بعضِها ببعضٍ، ويرمِيهم بالخشَبِ والجندَلِ، حتى إذا مَثَّل بهم كلَّ مُثلَةٍ، رفَع بهم القصْرَ، حتى إذا أقلَّه بهم فصاروا فيه مُنَكَّسين، وانطلَق إلى أيوبَ متمثِّلًا بالمعلِّمِ الذي كان يعلِّمُهم الحكمةَ، وهو جريحٌ مشدوخُ الوجهِ، يسيلُ دمُه ودِماغُه، متغيِّرًا لا يكادُ يُعرَفُ من شدَّةِ التغيُّرِ والمُثْلَةِ التي جاء متمثِّلًا فيها، فلما نظَر إليه أيوبُ هالَه، وحزِن ودَمَعت عيناه، وقال
(1)
القهرمان: هو المسيطر الحفيظ على من تحت يديه. اللسان (قهرم).
له: يا أيوبُ، لو
(1)
رأيتَ كيف أفْلَتُّ من حيثُ أفلتُّ، والذي رمانَا به من فوقِنا ومن تحتِنا! ولو رأيتَ بنيكَ كيف عُذِّبوا وكيف مُثِّل بهم! وكيف قُلبوا فكانوا منكَّسين على رءوسِهم، تسيلُ دماؤُهم ودِماغُهم من أُنوفهم وأجوافِهم، وتقطُرُ من أشفارِهم! ولو رأيتَ كيف شُقَّتْ
(2)
بطونهم فتناثَرَت أمعاؤُهم! ولو رأيتَ كيف قُذِفوا بالخشَبِ والجندَلِ يشدَحُ دِماغَهم! وكيف دقَّ بالخشبِ
(3)
عظامَهم، وخرَق جلودَهم، وقطع عصَبَهم! ولو رأيتَ العَصَبَ عُريانًا ولو رأيتَ العظامَ مُتهَشِّمةً في الأجوافِ! ولو رأيتَ الوجوهَ مَشدوخةً! ولو رأيتَ الجُدُرَ تَناطَحُ عليهم! ولو رأيتَ ما رأيتُ لقُطِّعَ قلبُك. فلم يزَلْ يقولُ هذا ونحوَه، ولم يَزَلْ يرقِّقُه حتى رَقَّ أيوبُ فبكَى، وقبَض قبضةً من ترابٍ فوضَعها على رأسِه، فاغتنَم إبليسُ الفرصةَ منه عندَ ذلك، فصعِد سريعًا بالذي كان من جزَعِ أيوبَ مسرورًا به، ثم لم يلبَثْ أيوبُ أن فاء وأبصَرَ فاستغْفَر، وصَعِد قرناؤه من الملائكةِ بتوبةٍ منه، فبدَروا إبليسَ إلى اللهِ، فوجَدوه قد علِم بالذي رُفِع إليه من توبةِ أيوبَ، فوقَف إبليسُ خازيًا ذليلًا، فقال: يا إلهى، إنما هوَّن على أيوبَ خَطَرُ المالِ والولَدِ أنه يرَى أنك ما متَّعتَه بنفسِه، فأنت تعيدُ له المالَ والولدَ، فهل أنت مسلِّطى على جسَدِه؟ فأنا لك زعيمٌ، لئن ابتليتَه في جَسَدِهِ ليَنسينَّك، وليكْفُرَنَّ بك، وليَجْحَدنَّك نعمتَك. قال اللهُ: انطلِقْ فقد سلَّطتُك على جسَدِه، ولكن ليس لك سلطانٌ على لسانِه، ولا على قلبِه، ولا على عقلِه.
فانقضَّ عدوُّ اللهِ جوادًا، فوجَد أيوبَ ساجدًا، فعجَّل قبلَ أن يرفَعَ رأسَه، فأتاه من قِبَلِ الأرضِ في موضعِ وَجْهِه، فنفَخ في مِنخَرِه نفخةً اشتَعل منها جسدُه، فترهَّل
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"قد".
(2)
في ت 1، ت 2:"عضت"، وفى ف:"عقب"، وغير منقوطة في ص.
(3)
في م: "الخشب".
ونبتَت به ثآليلُ
(1)
مثلُ ألياتِ الغنَمِ، ووقَعت فيه حِكَةٌ لا يملِكُها، فحَكَّ بِأَظْفارِه حتى سقَطت كلُّها، ثم حَكَّ بالعظامِ، وحَكَّ بالحجارةِ الخَشِنَةِ، وبقطَعِ المُسوحِ الخِشِنَةِ، فلم يزَلْ يحُكُّه حتى نَفِد لحمُه وتقطَّع، ولما نَغِل
(2)
جلدُ أيوبَ وتغيَّر وأنتَنَ، أخرَجه أهلُ القريةِ، فجعَلوه على تَلٍّ وجعَلوا له عَرِيشًا، ورفَضه خلقُ اللهِ غَيرَ امرأتِه، فكانت
(3)
تختَلِفُ إليه بما يُصلِحُه ويلزَمُه، وكان ثلاثةٌ من أصحابِه اتَّبَعوه على دينِه، فلما رأَوا ما ابتلاه اللهُ به رفَضوه من غيرِ أن يترُكوا دينَه واتَّهَموه؛ يُقال لأحدِهم: بلددُ، وأليفرُ، وصافرُ. قال: فانطلَق إليه الثلاثةُ وهو في بلائِه، فبكَتوه، فلما سمِع منهم أقبَل على ربِّه، فقال أيوبٌ عليه السلام: ربِّ لأيِّ شيءٍ خَلَقتَنى؟ لو كنتَ إذْ كرِهْتني في الخيرِ ترَكتَنى فلم تخلُقْنى، يا لَيتني كنتُ حَيْضةً ألقَتْني أُمِّي، ويا لَيتنى مِتُّ في بطنِها فلم أعرِفْ شيئًا ولم تَعْرِفْنى
(4)
، ما الذنبُ الذي أذنبتُ لم يُذنِبْه أحدٌ غيرِى، وما العمَلُ الذي عمِلتُ فصرَفتَ وجْهَك الكريمَ عنِّي، لو كنتَ أمتَّنِى فألحَقْتَنى بآبائي، فالموتُ كان أجملَ بي، فأُسوةٌ لي بالسلاطينِ الذين صُفَّتْ من دونِهم الجيوشُ يضرِبون عنهم بالسيوفِ بخلًا بهم عن الموتِ، وحرصًا على بقائِهم، أصبَحوا في القبورِ جاثِمينَ، حتى ظنُّوا أنهم سيُخلَّدون، وأُسوةٌ لى بالملوكِ الذين كَنَزوا الكنوزَ، وطَمروا المطاميرَ
(5)
، وجمَعوا الجموعَ، وظنُّوا أنهم سيُخلَّدون، وأُسوةٌ لى بالجبارينَ الذين بنَوا المدائنَ والحصونَ، وعاشُوا فيها المِئين من السنينَ، ثم أصبَحت خرابًا مأوًى للوحوشِ ومَبْتًى
(6)
للشياطينِ.
(1)
الثاليل جمع الثُّؤلول، وهو الخُرَاج اللسان (ث أ ل).
(2)
نغل: عفن وفسد. التاج (ن غ ل).
(3)
في ت 2: "فإنها كانت".
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"يعرفنى".
(5)
المطامير جمع المطمورة: وهى الحفيرة تحت الأرض يوسع أسفلها، تخبأ فيها الحبوب. التاج (ط م ر).
(6)
في م: "مثنى"، وفي ت 1، ت 2:"مبنى"، وفى ف:"مبتغى". ومبتى من قولهم: بتا بالمكان بتوا: أقام. اللسان (ب ت و).
قال أليفزُ التيمانيُّ
(1)
: قد أعيانا أمرُك يا أيوبُ، إن كلَّمْناكَ فما نَرْجُ للكلامِ
(2)
منك موضِعًا، وإن نسْكُتْ عنك مع الذي نرَى فيك من البلاءِ، فذلك علينا، قد كنا نرَى من أعمالِك أعمالًا كنا نَرْجو لك عليها من الثوابِ غيرَ ما رَأَيْنا، فإنما يحصُدُ امرؤٌ ما زرَع، ويُجزَى بما عمِل، أشهَدُ على اللهِ الذي لا يُقدَّرُ قَدْرُ عظمَتِه، ولا يُحصَى عددُ نعَمِه، الذي يُنزِلُ الماءَ من السماءِ، فيُحيى به الميِّتَ، ويرفَعُ به الخافِضَ، ويقوِّى به الضعيفَ، الذي تَضِلُّ حكمةُ الحكماءِ عندَ حكمتِه، وعلْمُ العلماءِ عندَ علْمِه، حتى تراهم من العِيِّ في ظلمةٍ يموجونَ - أن من رَجا معونةَ اللهِ هو القويُّ، وأن من توكَّل عليه هو المكفِيُّ، هو الذي يكسِرُ ويَجبُرُ، ويجرَحُ ويُداوِى.
قال أيوبُ لذلك سكتُّ فعضَضْتُ على لسانى، ووضَعتُ لسوءِ
(3)
الخدمةِ رأسِى؛ لأنى علِمتُ أن عقوبتَه غيَّرت نورَ وجْهِى، وأن قوتَه نزَعت قوَّةً جَسَدِى، فأنا عبدُه، ما قضَى عليَّ أصابَني، ولا قوَّةَ لى إلا ما حمَل عليَّ، لو كانت عِظامي من حديدٍ، وجسَدِى من نُحاسٍ، وقلبى من حجارةٍ، لم أُطِقْ هذا الأمرَ، ولكن هو ابتلاني به
(4)
، وهو يحمِلُه عنِّى، أتيْتُموني غضابًا، رَهِبتُم قبلَ أَن تُستَرْهَبوا، وبَكَيْتُم من قبلِ أن تُضْرَبوا، كيف بي لو قلتُ لكم: تَصدَّقوا عنى بأموالِكم لعلَّ الله أن يُخلِّصَنى، أو قَرِّبوا عنِّى قربانًا لعلَّ الله أن يتقبَّلَه منى ويرْضَى عنى. إذا استيقَظْتُ تمنَّيْتُ النومَ؛ رجاءَ أن أستريحَ، فإذا نِمْتُ كادَت تجودُ نفسِي، تقطَّعتْ أصابِعِي، فإني لأرفعُ اللُّقمةَ من الطعامِ بيديَّ جميعًا، فما تبلغانِ فَمى إلا على الجهْدِ منى، تساقطَتْ لَهَواتِي، ونُخِر رأسِى، فما بين أُذُنيَّ من سِدادٍ، حتى إن إحداهما لتُرَى
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"اليماني".
(2)
في م: "للحديث".
(3)
في ص: "لنبو".
(4)
سقط من: م، ت 1، ف.
من الأُخرَى، وإن دِماغى ليسيلُ من فَمِي، تساقَط [شعَرُ عيني]
(1)
فكأنَّما حُرِّق بالنارِ وَجْهى، وحدَقتاى هما مُتدلِّيتان على خَدِّى، ورمَ لساني حتى [ملأ في]
(2)
، فما أُدْخِلُ فيه طعامًا إلا غصَّنى، ورِمتْ شفتاى حتى غطَّت العليا أَنْفى، والسُّفْلى ذَقَنِي، تقطَّعت أمعائى في بَطنى، فإني لأُدخِلُ الطعامَ فيخرُجُ كما دخَل، ما أُحِسُّه ولا ينفَعُنى، ذهَبَتْ قوَّةُ رِجلَيَّ فكأنهما قِربَتا ماءٍ مُلئَتا لا أُطيقُ حَمَلَهما، أحمِلُ لحِافي بيديَّ وأسناني، فما أُطيقُ حمْلَه حتى يحمِلَه معى غيرِى، ذهَب المالُ فصِرتُ أسألُ بكفِّي، فيُطعِمُنى من كنتُ أَعولُه اللقمةَ الواحدةَ، فيمُنُّها عليَّ، ويعيِّرُني هُلْكَ بَنيَّ وبناتي، ولو بقِى منهم أحدٌ أعانَني على بلائى ونفعني
(3)
، وليس العذابُ بعذابِ الدُّنيا، إنه يزُولُ عن أهلِها ويموتُونَ عنه، ولكن طُوبَى لمن
(4)
كانت له راحةٌ في الدارِ التي لا يموتُ أهلُها، ولا يتحوَّلون عن منازلِهم، السعيدُ من سعدِ هنالِك، والشقيُّ من شَقِى فيها.
قال بِلْدَدُ: كيف يقومُ لسانُك بهذا القولِ، وكيف تُفصِحُ به؟ أتقولُ: إن العدْلَ يجورُ؟ أم تقولُ: إن القويَّ يضعُفُ؟ ابْكِ على خطيئتِكَ، وتضرَّعْ إلى رَبِّك، عسَى أن يرحَمَك ويتَجاوزَ عن ذَنْبِك، وعسى إن كنتَ بريئًا أن يجعَلَ هذا لك ذُخْرًا في آخرَتِك، وإن كان قلبُك قد قسَا فإن قولَنا لن ينفَعَك، ولَن
(5)
يأخذَ فيك، هيهاتَ أن تنبُتَ الآجامُ في المفاوِزِ، وهيهاتَ أن ينبُتَ البَرْدِيُّ في الفَلَاةِ، مَن توكَّلَ على الضعيفِ كيف يَرْجُو أن يمنَعَه، ومَن جحَد الحقَّ كيف يَرْجُو أَن يُوَفَّى حقَّه؟
(1)
في م: "شعرى عني".
(2)
في م: "ملأ فمى"، وفى ت 1، ت 2، ف:"مِنكفى".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عنفني".
(4)
في ص، ت 1، ف:"من".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لكن".
قال أيوبُ: إنى لأعلَمُ أن هذا هو الحقُّ، لن يَفْلُجَ
(1)
العبدُ على رَبِّه، ولا يُطِيقُ أن يخاصِمَه، فأيُّ كلامٍ لى معه، وإن كان إليَّ القوَّةُ؟ هو الذي سمَك السماءَ فأقامَها وحدَه، وهو الذي يكشُطُها إذا شاءَ فتَنْطَوى له، وهو الذي سطَح الأرضَ فدَحَاها وحدَه، ونصَب فيها الجبالَ الراسياتِ، ثم هو الذي يُزَلْزِلُها من أُصولِها، حتى تعودَ أسافِلُها أعالِيَها، وإن كان فيَّ الكلام، فأى كلامٍ لى معه؟ من خَلَقَ عَرْشَه العظيمَ بكلمةٍ واحدةٍ، فحَشاهُ السماواتِ والأرضَ وما فيهما من الخلْقِ، فوسَّعَه في سَعةٍ واسعةٍ، وهو الذي كلَّم البحارَ ففهِمَت قولَه، وأَمَرَها فلم تَعْدُ أَمرَه، وهو الذي يفْقَهُ الحِيتانَ والطيرَ وكلَّ دابَّةٍ، وهو الذي يكلِّمُ الموْتَى فيُحييهم قوله، ويكلِّمُ الحجارةَ فتَفْهَمُه
(2)
، ويأْمُرُها فتُطِيعُه.
قال أليفزُ: عظيمٌ ما تقولُ يا أيوبُ، إن الجلودَ لتقشَعِرُّ من ذكرِ ما تقولُ، إنما أصابَك ما أصابَك بغيرِ ذنبٍ أذْنَبْتَه، مثلُ هذه الحدَّةِ وهذا القولِ أنزَلَك هذه المنزلةَ، عظُمَت خطيئتُكَ، وكثُر طُلَّابُك، وغَصَبْتَ أهلَ الأموالِ على أموالِهم، فلبِسْتَ وهم عراةٌ، وأكَلْتَ وهم جياعٌ، وحبَسْتَ عن الضعيفِ بابَك، وعن الجائعِ طعامَك، وعن المحتاجِ معروفَك، وأسْرَرتَ ذلك وأخفيتَه في بيتِك، وأظْهَرتَ أعمالًا كنا نَراك تعمَلُها، فظنَنْتُ أن الله لا يَجزِيك إلا على ما ظهَر مِنك، وظنَنْتَ أن الله لا يَطَّلِعُ على ما غيَّبْتَ في بيتِك، وكيف لا يطَّلِعُ على ذلك وهو يعلَمُ ما غيَّبَتِ الأرَضون، وما تحتَ الظلماتِ والهواءِ؟
قال أيوبُ عليه السلام: إن تكلَّمتُ لم ينفَعْنى الكلامُ، وإن سكَتُّ لم تَعذِروني، قد وقَع عليَّ كَيْدِى، وأسخَطتُ ربِّي بخطيئتِي، وأشمَتُّ أعدائى،
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يفلح". ويفلج: يظفر. اللسان (ف ل ج).
(2)
في م: "فتفهم قوله".
وأمكنْتُهم من عُنُقى، وجعَلتنى للبلاءِ غَرَضًا، وجعَلتنى للفتنةِ نُصُبًا، لم تُنْفِسْنى مع ذلك، ولكن أتبَعَنى
(1)
ببلاءٍ على إثرِ بلاءٍ، ألم أكُنْ للغريبِ دارًا، وللمسكينِ قرارًا، ولليتيمِ وليًّا، وللأرملةِ قَيِّمًا؟ ما رأيتُ غريبًا إلا كنتُ له دارًا مكانَ دارِه، وقرارًا مكانَ قرارِه، ولا رأيتُ مسكينًا إلا كنتُ له مالًا مكانَ مالِه، وأهلًا مكان أهلِه، وما رأيتُ يتيمًا إلا كنتُ له أَبا مكانَ أَبِيه، وما رأيتُ أَيِّمًا إلا كنتُ لها قَيِّمًا ترضَى قِيامَه، وأنا عبدٌ ذليلٌ، إن أحسَنتُ لم يكُنْ لى كلامٌ بإحسانٍ؛ لأن المَنَّ لرَبِّي وليسَ لي، وإن أَسَأْتُ فبيدِه عُقوبَتي، وقد وقَع عليَّ بلاءٌ لو سلَّطتَه على جبَلٍ ضعُف عن جملِه. فكيف يحمِلُه ضَعْفِي؟
قال أليفزُ: أَتَحاجُّ الله يا أيوبُ في أمْرِه؟ أم تريدُ أن تُناصِفَه وأنت خاطِئُ؟ أو تُبَرِّئَها وأنت
(2)
غيرُ برئٍ؟ خلَق السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، وأحصَى ما فيهما من الخلْقِ، فكيف لا يعلَمُ ما أَسْرَرْتَ؟ وكيف لا يعلَمُ ما عمِلتَ فيجزيَك به؟ وضَع اللهُ ملائكتَه صفوفًا حولَ عرْشِه وعلى أرجاءِ سماواتِه، ثم احتَجَب بالنورِ، فأبصارُهم عنه كليلةٌ، وقوَّتُهم عنه ضَعيفةٌ، وعزُّهم
(3)
عنه ذليلٌ، وأنتَ تزعُمُ أن لو خاصَمَك، وأدْلى إلى الحكْمِ معك! وهل تراه فتُناصِفَه؟ أم هل تسمَعُه فتحاوِرَه؟ قد عرَفنا فيك قضاءَه، إنه مَن أرادَ أن يرتفِعَ وضَعه، ومَن اتَّضَعَ له رفَعه.
قال أيوبُ: إن أهلَكني فمن ذا الذي يعرضُ له في عبده ويسألُه عن أمرِه؟ لا يرُدُّ غضبَه شيءٌ إلا رحمتُه، ولا ينفَعُ عبدَه إلا التضرُّعُ له، رَبِّ أقبِلْ عليَّ برحمتِك، وأَعلِمْنى ما ذَنْبى الذي أذنبتُ؟ أو لأيِّ شيءٍ صرَفتَ وَجْهَكَ الكريمَ عنى، وجَعَلْتني
(1)
في ص: "أتعبتنى"، وفى ت 1، ف:"ألعبتنى".
(2)
بعده في ص، ت 1، ت، 2، ف:"ذوى".
(3)
في م: "عزيزهم"، وفى ت 1، ت 2، ف:"عزرهم".
لك مثلَ العدوِّ، وقد كنتَ تُكرِمُنى؟ ليس يغيبُ عنك شيءٌ، تُحصِى قَطْرَ الأمطارِ، وورَقَ الأشجارِ، وذرَّ الترابِ، أصبَح جِلدِى كالثوبِ العَفِنِ، بأَيِّهِ أمسَكتُ سقَط في يدِى، فهَبْ لى قُربانًا من عندِك، وفرَجًا من بلائِي، بالقدرَةِ التي تبعَثُ مَوْتَى العبادِ، وتنشُرُ بها مَيْتَ البلادِ، ولا تُهلِكْنى بغيرِ أن تُعلِمَنى ما ذَنْبِي، ولا تُفسِدْ عمَلَ يديْكَ، وإن كنتَ غنيًّا عنِّي، ليس ينْبَغِى في حُكْمِك ظُلْمٌ، ولا في نِقْمَتِكَ عَجَلٌ، وإنما يحتاجُ إلى الظُّلْمِ الضعيفُ، وإنما يعجَلُ مَن يخافُ الفَوْتَ، ولا تُذَكِّرْني خَطَئِى وذُنوبي، اذكرْ كيفَ خَلَقتَنى من طينٍ، فجُعِلتُ مضغةً، ثم خلَقتَ المضغةَ عِظامًا، وكسَوتَ العظام لحمًا وجِلدًا، وجعَلتَ العصَبَ والعروقَ لذلك قوامًا وشدَّةً، ورَبَّيْتَنى صغيرًا، ورَزَقتني كبيرًا، ثم حفِظتُ عهدَك وفعلتُ أمرَك، فإن أخطأتُ فبيِّنْ لى، ولا تُهلِكْنى عَمًّا، وأعلِمْنى ذَنْبِي، فإن لم أُرْضِكَ فَأَنَا أَهْلٌ أن تعذِّبَنِي، وإن كنتُ من بين خلْقِك تُحصِى عليَّ عمَلِى، وأستَغْفِرُك فلا تغفِرُ لى، إن أحسَنتُ لم أرْفَعْ رأسِي، وإن أسأْتُ لم تُبلعْنِى رِيقى، ولم تُقِلْنى عَثرتي، وقد ترَى ضَعْفى تحتَك، وتضرُّعِى لك، فلِمَ خَلَقْتنى؟ أو لِمَ أَخرَجْتَنى من بطنِ أُمِّي؟ لو كنتُ كمن لم يكُنْ لكان خيرًا لي، فليسَتِ الدنيا عندِى بخطَرٍ لغضَبِك، وليس جسَدِى يقومُ بعذابِك، فارْحَمْنى وأَذِقْنى طعْمَ العافيةِ من قبلِ أن أصيرَ إلى ضِيقِ القبرِ وظُلمةِ الأرضِ وغمِّ الموتِ.
قال صافِرُ
(1)
: قد تكلَّمتَ يا أيوبُ، وما يُطيقُ أحدٌ أن يحبِسَ فمَك، تزعُمُ أنك برئٌ، فهل ينفَعُك إن كنتَ بريئًا، وعليك مَن يُحصِى عمَلَك؟ وتَزْعُمُ أنك تعلَمُ أن الله يغفِرُ لك ذنوبَك، هل تعلَمُ سُمْكَ السماءِ كم بُعدُه؟ أم هل تعلَمُ عُمْقَ
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"طافر"، وفى ف:"ظافر".
الهواءِ كم بعدُه؟ أم هل تعلَمُ أيُّ الأرضِ أعْرَضُها؟ أم هل
(1)
عندَك لها من مقدارٍ تُقدِّرُها به؟ أم هل
(2)
تعلَمُ أيُّ البحرِ أعمَقُه؟ أم هل تعلَمُ بأيِّ شيءٍ تحبِسُه؟ فإن كنتَ تعلَمُ هذا العلمَ، وإن كنتَ لا تعلَمُه، فإن الله خلَقه وهو يُحصِيه، لو تركْتَ كثرةَ الحديثِ، وطلَبتَ إلى رَبِّكَ، رَجَوْتُ أن يرحمَك، فبذلك تستَخرجُ رحمتَه، وإن كنتَ تقيمُ على خطيئَتِك وترفَعُ إلى اللهِ يدَيْك عندَ الحاجةِ، وأنت مُصِرٌّ على ذنبِك إصرارَ الماءِ الجارِى في صَبَبٍ لا يُستطاعُ إحباسُه، فعندَ طلَبِ الحاجاتِ إلى الرحمنِ تسوَدُّ وجوهُ الأشرارِ، وتُظْلِمُ عيونُهم، وعندَ ذلك يُسَرُّ بنجاحِ حوائجِهم الذين ترَكوا الشهواتِ تزيُّنًا بذلك عند ربِّهم، وتقدَّموا في التضرُّعِ ليستَحِقُّوا بذلك الرحمةَ حين يحتاجونَ إليها، وهم الذين كابَدوا الليلَ، واعتزَلوا الفُرُشَ، وانتظَروا الأسحارَ.
قال أيوبُ: أنتم قومٌ قد أعجَبتكُم أنفسُكم، وقد كنتُ فيما خَلا والرجالُ يُوَقِّرونَنى، وأنا معروفٌ حَقِّى، مُنتَصِفٌ من خَصْمِي، قاهرٌ لمن هو اليومَ يَقْهَرُني، يسألُني عن علْمِ غيبِ اللهِ لا أعلَمُه ويسألُنى، فَلَعَمْرِي، ما نُصْحُ الأَخِ لأخِيه حينَ نزَل به البلاءُ كذلك، ولكنه يَبكِي معه، وإن كنتَ جادًّا فإن عقلِي يقصُرُ عن الذي تسألُنى عنه، فسَلْ طيرَ السماءِ هل تُخبِرُك؟ وسَلْ وُحوشَ الأرضِ هل تَرْجِعُ إليك؟ وسَلْ سباعَ البَرِّيَّةِ هل تُجيبُك؟ وسَلْ حيتانَ البحر هل تَصِفُ لك كُلَّ ما عدَدتَ؟ تَعَلَّمْ أن الله صنَع هذا بحكمتِه، وهيَّأَه بلُطْفِه.
أما يعلَمُ ابن آدمَ من الكلامِ ما سمِع بأُذُنيه، وما طعِم بفِيه، وما شَمَّ بأنفِه، وأن العلمَ الذي سألتَ عنه لا يعلَمُه إلا اللهُ الذي خلَقَه، له الحكمةُ والجبروتُ، وله
(1)
سقط من: م.
(2)
بعده في ت 2: "عندك".
العظمةُ واللُّطفُ، وله الجلالُ والقدرةُ، إن أفسَد فمن ذا الذي يُصلِحُ؟ وإن أعجَم فمن ذا الذي يُفْصِحُ؟ إن نظَر إلى البحارِ يبِسَتْ من خوفِه، وإن أَذِن لها ابتلَعت الأرضَ، فإنما يحمِلُها بقدرَتِه، هو الذي تبْهَتُ الملوكُ عندَ مُلكِه، وتَطِيشُ العلماءُ عندَ علْمِه، وتَعْيا الحكماءُ عندَ حكْمتِه، ويخسَأُ المبطِلُونُ عندَ سلطانِه، هو الذي يُذكِّرُ المنسِيَّ، ويُنسِّى المذكورَ، ويُجرِى الظلماتِ والنورَ، هذا علمِى، وخلقُه أعظَمُ من أن يُحصيَه عَقْلِى، وعظمتُه أَعظَمُ من أَن يَقْدُرَها مِثلى.
قال بلْدَدُ: إن المنافِقَ يُجزَى بما أَسَرَّ من يُفاقِه، وتَضِلُّ عنه العلانيةُ التي خادَع بها، ويُوكَلُ على الجزاءِ بها على
(1)
الذي عمِلها، ويَهلِكُ ذِكرُه من الدنيا، ويُظلِمُ نورُه في الآخرةِ، ويُوحِشُ سبيلُه، وتوقِعُه في الأُحبولَةِ سريرتُه، وينقَطِعُ اسمُه من الأرضِ، فلا ذِكْرَ له
(1)
فيها ولا عُمرانَ، لا يرِثُه ولدٌ مُصلِحونَ من بعدِه، ولا يبقَى له أصلٌ يُعْرَفُ به، ويَبْهَتُ من يراهُ، وتقِفُ الأشعارُ عند ذكْرِه.
قال أيوبُ: إن أكُنْ غَوِيًّا فعلَيَّ غَواى، وإن أَكُنْ بَرِيًّا فَأَيُّ مَنَعَةٍ عَندِي؛ إِن صرَختُ فمن ذا الذي يُصرِخُنى؟ وإن سكَتُّ فمَن ذا الذي يعذِرُني؟ ذهَب رجائي وانقضَتْ أحلامي، وتنكَّرتْ لى معارفي، دعَوْتُ غلامى فلم يُجِبْني، وتضرَّعتُ لأمَتى فلم ترْحَمْنى، وقَع عليَّ البلاءُ فرفَضُونى، أنتم كنتُم أشدَّ عليَّ من مُصِيبتي، انظُروا تَبْهَتُوا
(2)
من العجائبِ التي في جسدِى، أما سمِعتم
(3)
بما أصابَني؟ وما شغَلكم عنى ما رأيتُم بي؟ لو كان عبدٌ يُخاصِمُ رَبَّهِ رَجُوتُ أَن أَتغَلَّبَ عندَ الحكَمِ، ولكنَّ لى رَبًّا جبارًا تعالى فوقَ سماواتِه، وألقَانى ههنا، وهُنْتُ عليه، لا هو عذَرَني
(1)
سقط من: م.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ف:"وابهتوا".
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"لي".
بعُذْرِى، ولا هو أَدْنانى فأُخاصِمَ عن نفسِى، يَسمَعُنى ولا أَسْمَعُه، ويرانى ولا أرَاه، وهو محيطٌ بي، ولو تجلَّى لى لذابَتْ كُليَتاى، وصعِق رُوحِي، ولو نَفَّسَنى فأتكلَّمَ بملءِ في، ونزَع الهيبةَ مِني، علِمتُ بأيِّ ذنبٍ عَذَّبني.
نُودِى فقيل: يا أيوبُ. قال: لبَّيْكَ. قال: أنا هذا قد دَنوتُ مِنك، فقُمْ فاشدُدْ إزارَك، وقُمْ مقامَ جَبَّارٍ، فإنه لا ينبَغى لى أن يُخاصِمَنى إلا جبَّارٌ مِثلى، ولا ينبَغى أن يُخاصِمَنى إلا من يجعَلُ الزِّمامَ
(1)
في فَمِ الأسدِ، والسِّخالَ
(2)
في فَمِ العنقاءِ
(3)
، واللجامَ
(4)
في فم التِّنِّينِ، ويكيلُ مكيالًا من النورِ، ويزنُ مثقالًا من الريحِ، ويَصُرُّ صُرَّةً من الشمسِ، ويرُدُّ أمسِ لغدٍ، لقد مَنَّتْك نفسُك أمرًا ما يبلُغُ بمثلِ قوَّتِك، ولو كنتَ إذ مَنَّتْك نفسُك ذلك ودَعَتْك إليه تذكَّرْتَ أيَّ مرامٍ رامَتْ بك، أرَدتَ أن تُخاصِمَنى بِغَيِّك؟ أم أرَدتَ أن تُحاجَّني بخطَئِك؟ أم أردتَ أن تُكاثِرَني بضَعْفِك؟ أين كنتَ
(5)
مِنى يومَ خَلَقتُ الأرضَ فوضعتُها على أساسِها؟ هل علمتَ بأيِّ مقدارٍ قدَّرْتُها؟ أم كنتَ معى تمرُّ بأطرافِها؟ أم تعلَمُ ما بُعدُ زَواياها؟ أم علَى أيِّ شيءٍ وضَعتُ أكنافَها؟ أبطاعتِك حمَل الماءُ الأرضَ؟ أم بحكمتِك كانتَ الأرضُ للماءِ غطاءً؟ أين كُنتَ مِنِّي يومَ رفَعتُ السماءَ سَقفًا في الهواءِ لا بعلائِقَ ثبَتَتْ من فوقِها، ولا يحمِلُها دعائمُ
(6)
من تحتِها؟ هل يبلُغُ من حكمتِك أن تُجرِى نورَها؟ أو
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"الزنار"، وفي ت 2:"الزمان".
(2)
السخال جمع السخلة: ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرًا كان أو أنثى. اللسان (س خ ل).
(3)
العنقاء: طائر ضخم ليس بالعقاب، وقيل: العنقاء المُغْرِب كلمة لا أصل لها، يقال: إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور. اللسان (ع ن ق).
(4)
في م، وعرائس المجالس:"اللحم".
(5)
في ص، ت 2:"أنت".
(6)
في ص، ت 2:"دعم".
تُسَيِّر نجومَها، أو يختلِفَ بأمرِك ليلُها ونهارُها؟ أينَ كنتَ
(1)
منى يومَ سَجَّرتُ
(2)
البحارَ وأنبَعتُ الأنهارَ؟ أقدرتُك حبَستْ أمواجَ البحارِ على حدودِها؟ أم قدرتُك فتَحَتِ الأرحامَ حينَ بلَغتْ مدتَها؟ أين أنتَ منى يومَ صبَبتُ الماءَ على الترابِ، ونصَبتُ شوامِخَ الجبالِ؟ هل لك من ذِراعٍ تُطيقُ حَمْلَها؟ أم هل تدرِى كم من مثقالٍ فيها؟ أم أينَ الماءُ الذي أُنزِلُ من السماءِ؟ هل تدرِى [أمٌّ تلِدُه أو أبٌ تَوَلَّدَه]
(3)
؟ أَحِكمتُك أحصَتِ القَطْرَ، وقسَمتِ الأرزاقَ؟ أم قدرتُك تُثيرُ السحابَ، وتغشِيه الماءَ؟ هل تدرِى ما أصواتُ الرعودِ؟ أم من أيِّ شيءٍ لهبُ البروقِ؟ هل رأيتَ عُمقَ البحرِ
(4)
؟ أم هل تدرِى ما بُعدُ الهواءِ؟ أم هل خزَنتَ أرواحَ الأمواتِ؟ أم هل تدرِى أينَ خزانةُ الثلجِ، أو أينَ خزائِنُ البَرَدِ؟ أم أين جبالُ البَرَدِ؟ أم هل تدرِى أينَ خِزانةُ الليلِ بالنهارِ، وأين خِزانةُ النهارِ بالليلِ؟ وأين طريقُ النورِ؟ وبأيِّ لغةٍ تتكلَّمُ الأشجارُ؟ وأين خزانةُ الريحِ؟ وكيف تحبِسُه الأغلاقُ؟ ومن جعَل العقولَ في أجوافِ الرجالِ؟ ومن شَقَّ الأسماعَ والأبصارَ؟ ومن ذلَّت الملائكةُ لملكِه؟ وقهرَ الجبارين بجبروتِه؟ وقسَم أرزاقَ الدوابِّ بحكمتِه؟ ومن قسَم للأُسدِ أرزاقَها؟ وعرَّف الطيرَ معايشَها؟ وعطَفها على أفراخِها؟ من أعتقَ الوحشَ من الخدمةِ، وجعَل مساكنَها البرِّيَّةَ، لا تستأنِسُ بالأصواتِ ولا تهابُ السلاطينَ
(5)
؛ أمِن حكمتِك تفرَّعت أفراخُ الطير وأولادُ الدَّوابِّ لأمهاتِها؟ أم مِن حكمتِك عطَفت أمهاتُها عليها حتى أخرَجت لها الطعامَ من بطونِها، وآثرَتْها بالعيشِ على نفوسِها؟ أم
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أنت".
(2)
في ت 1، ت 2، ف:"سخرت"، وغير منقوطة في: ص، والمثبت موافق لما في عرائس المجالس.
(3)
في عرائس المجالس: "كم بلدة أهلكتها".
(4)
في م: "البحور".
(5)
في ص، م، ت 1، ف:"المسلطين".
من حكمتِك [يبصِرُ العُقابُ [الصيدَ البصرَ البعيدَ]
(1)
فأصبَح في أماكنِ القتلَى]
(2)
؟ أين أنت منى يومَ خلَقتُ بهموتَ مكانَه في منقطعِ الترابِ؟ والوتيان
(3)
يحملانِ الجبالَ والقرَى والعمرانَ، آذانُهما كأنها شجَرُ الصَّنَوْبَرِ الطوالِ، رُءوسُهما كأنها آكامُ
(4)
الجبالِ، وعروقُ أفخاذِهما كأنها أوتادُ الحديدِ، وكأن جلودَهما فِلَقُ الصخورِ، وعظامُهما
(5)
كأنها عُمُدُ النُّحاسِ، هما رأسا خلَقى الذين
(6)
خلَقْتُ للقتالِ، أأنت ملأتَ جلودَهما لحمًا؟ أم أنت ملأتَ رءوسَهما دِماغًا؟ أم هل لك في خلقِهما من شِرْكٍ؟ أم لك بالقوَّةِ التي عمِلَتْهما
(7)
يدانِ؟ أو هل يبلُغُ من قوَّتِك أن تَحْطِمَ على أُنوفِهما؟ أو تضَعَ يدَك على رُءوسِهما؟ أو تقعُدَ لهما على طريقٍ فتحبِسَهما، أو تصُدُّهما عن
(8)
قوَّتِهما؟ أين أنتَ يومَ خلَقتُ التِّنِّينَ؟ رِزقُه في البحرِ ومسكَنُه في السحابِ، عيناهُ تَوَقَّدانِ نارًا، ومِنخراه يثورانِ دُخَانًا، أُذناه مثلُ قوسِ السحابِ، يثورُ منهما لهبٌ كأنه إعصارُ العجاجِ، جَوفُه يَحْتَرِقُ، ونَفَسُه يلتهِبُ، وزبدُه [جَمرٌ أمثالُ]
(9)
الصخورِ، وكأن صريفَ أسنانِه أصواتُ الصواعقِ، وكأن نظرَ عينيهِ لهبُ البرْقِ، أسرارٌ
(10)
لا تدخُلُه الهمومُ، تمرُّ به الجيوشٌ وهو مُتَّكئٌ لا يُفْزِعُه شيءٌ، ليس فيه مفصَلٌ
(11)
، الحديدُ عندَه مثلُ التبنِ، والنُّحاسُ عندَه مثلُ الخيوطِ، لا
(1)
سقط من: م.
(2)
في عرائس المجالس: "يبصر العقاب الصيد البعيد واضحا في أماكن الفلا".
(3)
في م: "الوتينان"، وفى ت:2: "الويتان"، وفى عرائس المجالس:"اللوتيا".
(4)
في ص، ت 1، ف:"كوم"، وفي ت 2:"أكرم".
(5)
في ت 2: "أفخاذهما".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الذي".
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"علمتها".
(8)
في ص، ت 1، ف:"من".
(9)
في م: "كأمثال".
(10)
في م: "أسراره".
(11)
بعده في م بين معكوفين: "زبر".
يفزَعُ من النُّشَّابِ، ولا يُحِسُّ وقْعَ الصخورِ على جسدِه، ويضحَكُ من النيازِكِ، ويسيرٌ في الهواءِ كأنه عصفورٌ، ويُهلِكُ كلَّ شيءٍ يمرُّ به، ملكُ الوحوشِ، وإياه آثرتُ بالقوَّةِ على خلْقِى، هل أنت آخِذُه بأُحبولَتِك فرابطُه بلسانِه، أو واضِعٌ اللجامَ في شِدقِه؟ أنظنُّه يُوفِى بعهدِك، أو يُسبِّحُ من خوفِك؟ هل تُحصِى عُمُرَه، أم هل تدرِى أجلَه؟ أو تُفوِّتُ رزْقَه؟ أم هل تدرِى ماذا خرّبَ من الأَرضِ؟ أم ماذا يُخرِّبُ فيما بقِى من عُمُرِه؟ أتطيقُ غضبَه حينَ يغضَبُ؟ أم تأمرُه فيُطيعَك
(1)
؟ تبارَك اللهُ وتعالَى.
قال أيوب عليه السلام: قَصَرْتُ عن هذا الأمرِ الذي تعرِضُ لى، ليتَ الأرضَ انشَقَّت بي، فذهبتُ في بلائى، ولم أتكَلَّمْ بشيءٍ يُسخِطُ رَبِّي، اجتَمَع عليَّ البلاءُ، إلهى جعَلتنى لك مثلَ العدوِّ، وقد كنتَ تُكرِمُنى، وتعرِفُ نُصْحِى، وقد علمتُ أن كلَّ
(2)
الذي ذكرتَ صُنْعُ يديْك، وتدبيرُ حكمتِك، وأعظمُ من هذا ما شئتَ عَمِلتَ، لا يُعجِزُك شيءٌ، ولا تخفى عنك
(3)
خافيةٌ، ولا تغيبُ عنك غائبةٌ، مَنْ هذا الذي يظُنُّ أن يُسِرَّ عنك سرًّا، وأنت تعلَمُ ما يخطُرُ على القلوبِ؟ وقد علمتُ منك في بَلائِى هذا ما لم أكُنْ أَعلَمُ، وَخِفْتُ حينَ بلوتُ أمرَك أكثرَ مما كنتُ أخافُ، إنما كنتُ أسمعُ بسَطوتِك
(4)
سَمعًا، فأَمَّا الآن فهو بصَرُ العين، إنما تكلَّمتُ حينَ تكلمتُ لتعذِرَني، وسكتُّ حينَ سكتُّ لترحَمَنى، كلمةٌ زَلَّتْ فلن أعودَ، قد وضَعتُ يدى على فَمِي، وعَضَضَتُ على لساني، وألصَقتُ
(1)
في م: "فيعطيك"، وفى ت 2:"فتطيعك".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م، ف:"عليك".
(4)
في ت 2، ف:"بصوتك".
بالترابِ خَدِّي، ودَسَسْتُ
(1)
وَجْهِي لصغارِى، وسكتُّ كما أسكَتَنْنى خطيئَتِي، فاغفِرْ لى ما قلتُ، فلن أعودَ لشيءٍ تكرَهُهُ مِنِّى.
قال اللهُ تبارك وتعالى: يا أيوبُ نفَذ فيك عِلْمى، وبحِلْمى صرَفتُ عنك غَضَبي إِذ خَطِئْتَ، فقد غَفَرتُ لك وردَدتُ عليك أهلَك ومالَك ومثلَهم معهم، فاغتَسِلْ بهذا الماءِ، فإن فيه شفاءَك، وقرِّبْ عن صحابتِك قُربانًا، واستغفِرْ لهم، فإنهم قد عَصَوْني فيك
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عمَّن لا يَتَّهِمُ، عن وهبِ بن مُنبهٍ اليمانيِّ وغيرِه من أهلِ الكُتبِ الأوَلِ، أنه كان من حديثِ أيوبَ أنه كان رجلًا من الرومِ، وكان اللهُ قد اصطفاه ونبّأَه، وابتَلاهُ في الغِنَى بكثرةِ الولدِ والمالِ، وبسَط عليه من الدنيا، فوسَّع عليه في الرزقِ، وكانت له البَثَنيةُ من أرضِ الشامِ، أعلَاها، وأسفلُها، وسهلُها وجبَلُها، وكان له فيها من أصنافِ المالِ كلِّه؛ من الإبلِ والبقرِ والغنمِ والخيلِ والحميرِ ما لا يكونُ للرجلِ أفضَلُ منه في العِدَّةِ والكثرةِ، وكان اللهُ قد أعطاهُ أهلًا وولدًا من رجالٍ ونساءٍ، وكان بَرًّا تَقيًّا رحيمًا بالمساكين، يُطعِمُ المساكينَ، ويحمِلُ الأراملَ، ويكفُلُ الأيتامَ، ويُكرِمُ الضيفَ، ويُبلِّغُ ابنَ السبيلِ، وكان شاكِرًا لأنعُمِ اللهِ عليه، مؤدِّيًا لحقِّ اللهِ في الغنِي، قد امتَنَع من عدوِّ اللهِ إبليسَ أن يُصيبَ منه ما أصابَ من أهلِ الغِنى مِن العِزَّةِ والغَفْلَةِ، والسهوِ
(3)
والتشاغُلِ عن أمرِ اللهِ بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثةٌ قد آمنوا به
(1)
في م: "دست".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 322 مختصرًا جدًّا، وذكره الثعالبى في عرائس المجالس ص 135 عن وهب وكعب وغيرهما، وذكره البغوي في تفسيره 5/ 337 عن وهب، وقال ابن كثير في تفسيره 5/ 354: وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخرى المفسرين، وفيها غرابة، تركناها لحال الطول.
(3)
في ت 1، ت 2:"الشهوة".
وصدَّقوه، وعرَفوا فضْلَ ما أعطاه اللهُ على مَن سِواه؛ منهم رجلٌ من أهلِ اليمنِ يقالُ له: أليفزُ. ورجلانِ مِن أهلِ بلادِه يقالُ لأحدِهما: صوفرُ. وللآخرِ: بلددُ. وكانوا من بلادِه كُهولًا، وكان لإبليسَ عدوِّ اللهِ مُنزَلٌ من السماءِ السابعةِ يقَعُ به كلَّ سنةٍ مَوقِعًا يسألُ فيه، فصعِد إلى السماءِ في ذلك اليومِ الذي كان يصعَدُ فيه، فقال اللهُ له، أو قيلَ له عن اللهِ: هل قدَرْت من أيوبَ عبدِى على شيءٍ؟ قال: أَيْ رَبِّ، وكيف أقدِرُ منه على شيءٍ و
(1)
إنما ابتلَيْتَه بالرخاءِ والنعمَةِ والسَّعةِ والعافيةِ، وأعطيتَه الأهلَ والمالَ والولدَ والغِنى والعافيةَ في جسَدِه وأهلِه ومالِه، فما له لا يشكُرُك ويعبُدُك ويُطيعُك وقد صنَعتَ ذلك به، لو ابتليتَه بنَزْعِ ما أعْطيتَه لحالَ عما كان عليه من شُكْرِك، ولترَك عبادتَك، ولخرَج من طاعتِك إلى غيرِها. أو كما قال عدوُّ اللهِ، فقال: قد سلَّطتُك على أهلِه ومالِه. وكان اللهُ هو أعلَمَ به، ولم يُسلِّطْه عليه إلا رحمةً؛ ليُعظِمَ له الثوابَ بالذي يُصيبُه من البلاءِ، وليجعَلَه عبرةً للصابرين، وذِكرَى للعابدين، في كُلِّ بلاءٍ نزَل بهم، ليأْتَسُوا
(2)
به، وليرْجُوا من عاقبةِ الصبرِ في عَرَضِ الدنيا ثوابَ الآخرةِ، وما صنَع اللهُ بأيوبَ، فانحطَّ عدوُّ اللهِ سريعًا، فجمعَ عفاريتَ الجنِّ ومَرَدةَ الشياطينِ من جنودِه، فقال: إني قد سُلِّطتُ على أهلِ أيوبَ ومالِه، فماذا عليكم؟ فقال قائلٌ منهم: أكونُ إعصارًا فيه نارٌ، فلا أمُرُّ بشيءٍ من مالِه إلا أهلكْتُه، قال: أنت وذاك. فخرَج حتى أتى إبلَه، فأحرَقها ورُعاتَها جميعًا، ثم جاءَ عدوُّ اللهِ إلى أيوبَ في صورةِ قَيِّمِه عليها وهو في مُصلًّى، فقال: يا أيوبُ أقبلَت نارٌ حتى غَشِيت إبلَك فأحرقَتها ومن
(3)
فيها غيرِى، فجئتُك أخبِرُك ذلك
(4)
. فعرَفه أيوبُ، فقال: الحمدُ للهِ الذي هو أعطاها، وهو أخَذها، الذي أخرَجك منها كما يُخْرَجُ الزُّؤانُ
(5)
من الحبِّ
(1)
في م: "أو".
(2)
في م: "ليتأسوا".
(3)
في ت:2: "ما".
(4)
في م، ت 2:"بذلك".
(5)
في ص، ت 1، ف:"الزلال"، وفى ت 2:"الدلال". والزؤان، بهمز وبغيره: حب يخالط البُرِّ فيكسبه رداءة، وهو حب يُسكِر. اللسان (ز أ ن، ز و ن).
النقيِّ. ثم انصرَف عنه، فجعَل يُصيبُ ماله مالًا مالًا، حتى مرَّ على آخِرِه، كلَّما انتهى مرَّ هلاكُ مالٍ من مالِه حمِد الله وأحسَن عليه الثناءَ، ورَضِى بالقضاءِ، ووطَّن نفسَه للصبرِ على البلاءِ، حتى إذا لم يبقَ له مالٌ أتَى أهلَه وولَده وهم في قصرٍ لهم، معهم حَظِيَّاتُهم وخدّامُهم، فتمثَّل ريحًا عاصفًا، فاحتَمل القصرَ من نواحِيه، فألقاه على أهلِه ووَلَدِه، فشدَخهم تحتَه، ثم أتاه في صورةِ قَهْرمانِه عليهم، قد شُدِحْ وَجْهُه، فقال: يا أيوبُ، قد أَتَتْ ريحٌ عاصفٌ، فاحتَملَت القصرَ من نواحِيه، ثم ألقَتْه على أهلِك وولدِك فشدَخَهم غيرِى، فجئْتُك أخبِرُك ذلك. فلم يجزَعْ على شيءٍ أصابَه جزَعه على أهلِه وولَدِه، وأخَذ ترابًا فوضَعه على رأسِه، ثم قال: ليتَ أُمِّي لم تلِدْنى، ولم أكُ شيئًا. وسُرَّ بها عدوُّ اللهِ منه، فأصعَد إلى السماءِ جَذِلًا، وراجَع أيوبُ التوبةَ مما قال، فحمدِ الله، فسبَقت توبتُه عدوَّ اللهِ إلى اللهِ، فلما جاءَ وذكَر ما صنَع، قيل له: قد سبَقتْك توبتُه إلى اللهِ ومراجَعتُه. قال: أَيْ رَبِّ، فسلِّطْنى على جسَدِه. قال: قد سلَّطتُك على جسَدِه إلا على لسانِه وقلبِه ونفَسِه وسَمعِه وبَصَرِه. فأقبلَ إليه عدوُّ اللهِ وهو ساجِدٌ، فنفَخ في جسَدِه نفخةً أشعَل ما بينَ قرنِه إلى قدَمِه، كحريقِ النارِ، ثم خرَج في جسدِه ثآليلُ كألياتِ الغنَمِ، فحَكَّ بأظفارِه حتى ذهَبت، ثم بالفَخَّارِ والحجارةِ حتى تساقَطَ لحمُه، فلم يبقَ منه إلا العروقُ والعصَبُ والعظامُ، عيناه تجولانِ في رأسِه للنظرِ، وقلبُه للعقلِ، ولم يخلُصْ إلى شيءٍ من حشوِ البطْنِ؛ لأنه لا بقاءَ للنفسِ إلا بها، فهو يأكُلُ ويشرَبُ على التواءٍ من حُشوتِه، فمكَث كذلك ما شاءَ اللهُ أن يمكُثَ.
فحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن الحسنِ
(1)
بن دينارٍ، عن الحسنِ، أنه كان يقولُ: مكَث أيوبُ في ذلك البلاءِ سبعَ سنينَ وستةَ أشهرٍ ملقًى على رمادِ مكنسةٍ في جانبِ القريةِ. قال وهبُ بنُ منبهٍ: ولم يبقَ من أهلِه إلا امرأةٌ واحدةٌ تقومُ عليه وتكسِبُ له، ولا يقدِرُ عدوُّ اللهِ منه على قليلٍ ولا كثيرٍ مما يريدُ.
(1)
سقط من: م، وينظر الجرح والتعديل 2/ 11.
فلما طالَ البلاءُ عليه وعليها، وسئِمها الناسُ، وكانت تكسِبُ عليه ما تُطعِمُه وتَسقِيه. قال وَهْبُ بنُ منبهٍ: فحُدِّثتُ أنها التَمَست له يومًا من الأيامِ ما تُطعِمُه، فما وجَدَت شيئًا حتى جزَّت قَرْنًا من رأسِها
(1)
فباعَته برغيفٍ. فأتَته به
(2)
فعشَّتْه إياه، فلبِث في ذلك البلاءِ تلك السنينَ، حتى إن كان المارُّ ليمُرُّ فيقولُ: لو كان لهذا عندَ اللهِ خيرٌ لأراحَه مما هو فيه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: فحدَّثني محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: وكان وهبُ بنُ منبهٍ يقولُ: لَبِث في ذلك البلاءِ ثلاثَ سنينَ لم يَزِدْ يومًا واحدًا، فلما غلَبه أيوبُ فلم يستَطِعْ منه شيئًا، [اعترض امرأتَه]
(3)
في هيئةٍ ليست كهيئةِ بني آدمَ في العِظَمِ والجسْمِ والطولِ، على مركبٍ ليس من مراكبِ الناسِ، له عِظَمٌ وبهاءٌ وجمالٌ ليس لها، فقال لها: أنت صاحبةُ أيوبَ هذا الرجل المبتلَى؟ قالت: نعَم. قال: هل تعرِفينَني؟ قالت: لا. قال: فأنا إلَهُ الأرضِ، وأنا الذي صنعتُ بصاحبِك ما صنَعتُ، وذلك أنه عبد إلَهَ السماءِ وترَكنى فأغضَبَنى، ولو سجَد لي سجدةً واحدةً ردَدتُ عليه وعليكِ كلَّ ما كان لكُما من مالٍ، وولَدٍ، فإنه عِندى. ثم أراها إياهم فيما ترَى ببطنِ الوادى الذي لَقيها فيه. قال: وقد سمِعتُ أنه إنما قال: لو أن صاحِبَك أكَل طعامًا ولم يُسَمِّ عليه، لعُوفى مما به من البلاءِ. واللهُ أعلَمُ. وأرادَ عدوُّ اللهِ أن يأتيَه من قِبَلِها، فرجَعت إلى أيوبَ فأخبرَته بما قال لها وما أَراها، قال: أقد
(4)
أتاكِ عدوُّ اللهِ ليفتِنَكِ عن دِينكِ؟ ثم أقسَم إنِ اللهُ عافاه ليضرِبَنَّها مائةَ ضربةٍ.
فلما طالَ عليه البلاءُ، جاءه أولئك النفَرُ الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدَّقوه،
(1)
في ت 2: "شعرها".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ص، ف:"أعرض امرأته".
(4)
في م: "أو قد".
معهم فتًى حديثُ السنِّ، قد كان آمن به وصدَّقه، فجلَسُوا إلى أيوبَ ونظَروا إلى ما به من البلاءِ، فأعظَموا ذلك وفَظِعوا به، وبلَغ من أيوبَ صلواتُ اللهِ عليه مجهودُه، وذلك حينَ أرادَ اللهُ أن يُفرِّجَ عنه ما به، فلما رأى أيوبُ ما أعظَموا مما أصابَه، قال: أي رَبِّ، لأيِّ شيءٍ خَلَقتَنى؟ ولو كنتَ إذ قضَيْتَ عليَّ البلاءَ ترَكتَنى فلم تخلُقْنى، ليتَنى كنتُ دَمًا ألقَتْنى أُمِّى. ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابن عسْكَرٍ، عن إسماعيلَ بن عبدِ الكريمِ، إلى: وكابَدُوا الليلَ، واعتزَلوا الفُرُشَ، وانتظَروا الأسحارَ. ثم زاد فيه: أولئك الآمنون الذين لا يَخافُون، ولا يهتمُّون ولا يحزَنون، فأين عاقبةُ أمرِك يا أيوبُ من عواقبِهم؟ قال فتًى حضَرهم، وسمِع قولَهم
(1)
، ولم يفطِنوا له، ولم يأبَهوا
(2)
لمجلِسِه، وإنما قيَّضَه اللهُ لهم؛ لما كان من جَوْرِهم في المنطِقِ وشطَطِهم، فأرادَ اللهُ أن يُصغِرَ به إليهم أنفسَهم، وأن يُسَفِّهَ بصَغَرِه لهم أحلامَهم، فلما تكلَّم تمادَى في الكلامِ فلم يزدَدْ إلا حُكْمًا، وكان القومُ من شأنِهم الاستماعُ والخشوعُ إذا وُعِظوا أو ذُكِّروا، فقال: إنكم تكلَّمتُم قَبْلى أيها الكهولُ، وكُنتُم أحقَّ بالكلامِ وأَوْلى به منى؛ لحقِّ أسنانِكم، ولأنكم قد جرَّبْتُم قَبْلى، ورأيتُم وعلِمتم ما لم أعلَمْ، وعرَفتُم ما لم أعرِفْ، ومع ذلك قد ترَكتُم من القولِ أحسَنَ من الذي قلتُم، ومن الرأيِ أصوبَ من الذي رأيتُم، ومن الأمرِ أجملَ من الذي أتيتُم، ومن الموعظةِ أحكَمَ من الذي وصَفتُم، وقد كان لأيوبَ عليكم من الحقِّ والذِّمامِ أفضلُ من الذي وصَفتم، فهل تدرونَ أيها الكهولُ حقَّ من انتقَصْتم؟ وحُرمةَ مَن انتهَكْتم؟ ومَن الرجلُ الذي عِبْتُم واتَّهَمْتم؟ ألم تعلَموا أيها الكهولُ أن أيوبَ نبيُّ اللهِ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قوله".
(2)
في ت 1: "ينتبهوا".
وخِيرتُه وصِفوتُه من أهلِ الأرضِ يومَكم هذا؟ اختارَه اللهُ لوحيِه، واصطفاه لنفسِه، وائْتَمنه على نبوَّتِه، ثم لم تعلَموا ولم يُطلِعْكم اللهُ على أنه سخِط شيئًا من أمرِه مذ آتاه ما آتاه إلى يومِكم هذا، ولا على أنه نزَع منه شيئًا من الكرامةِ التي أكرَمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا أن أيوبَ غَيَّر الحقَّ في طولِ ما صحِبتُموه إلى يومِكم هذا، فإن كان البلاءُ هو الذي أزْرَى به عندَكم، ووضَعه في أنفسِكم، فقد علِمتم أن الله يَبتَلِى النبيِّين والصدِّيقين والشهداءَ والصالحين، ثم ليس بلاؤُه لأولئِك بدليلِ سخْطِه عليهم، ولا لهوانِه لهم، ولكنها كرامةٌ وخِيَرَةٌ لهم، ولو كان أيوبُ ليس من اللهِ بهذه المنزلةِ، ولا في النبوَّةِ ولا في الأَثرةِ ولا في الفضيلةِ ولا في الكرامةِ، إلا أنه أخٌ آخَيْتُموه
(1)
على وَجْهِ الصحابةِ، لكان، [وهو]
(2)
لا يجمُلُ بالحكيمِ أن يعذِلَ أخاه عندَ البلاءِ، ولا يُعيِّرَه بالمصيبةِ بما لا يعلَمُ وهو مكروبٌ حزينٌ، ولكن يرحَمُه ويبكِي معه، ويستغفِرُ له، ويحزَنُ لحزنِه، ويدُلُّه على مراشِدِ أمرِه، وليس بحكيمٍ ولا رشيدٍ من جهِل هذا، فاللهَ الله أيها الكهولُ في أنفسِكم.
قال: ثم أقبَل على
(3)
أيوبَ عليه السلام فقال، وقد كان في عَظمةِ اللهِ وجَلالِه، وذكْرِ الموتِ: ما يقطَعُ لسانَك، ويكسِرُ قلبَك، ويُنسيك حُجَجَك، ألم تعلَمْ يا أيوبُ أن للهِ عبادًا أسكتَتْهم خَشْيتُه من غيرِ عِيٍّ
(4)
ولا بَكَمٍ؟ وإنهم لهم الفصحاءُ النُّطَقاءُ النبلاءُ الألبّاءُ العالمون باللهِ وبآياتِه، ولكنهم إذا ذكرُوا عظمةَ اللهِ انقطَعت ألسنتُهم، واقْشَعرَّت جلودُهم، وانكسرَت قلوبُهم، وطاشَت عقولُهم، إعظامًا للهِ، وإعزازًا وإجلالًا، فإذا استَفاقوا من ذلك استَبَقُوا إلى اللهِ بالأعمالِ
(1)
في م: "أجبتموه".
(2)
سقط من: م.
(3)
في ت 2: "إلى".
(4)
في ص، ت 1، ف:"عمي".
الزاكيةِ، يَعُدُّونَ أنفسَهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاهٌ برآءُ، مع
(1)
المقصِّرِين والمفرِّطين، وإنهم لأكياسٌ أقوياءٌ، ولكنهم لا يستكثِرون للهِ الكثيرَ، ولا يَرضَوْن للهِ بالقليلِ، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمالِ، فهم مُروَّعون مُفزَّعون مغتَمُّون، خاشِعون وجِلون، مستكِينون معترِفون، متى ما رأيتَهم يا أيوبُ.
قال أيوبُ: إن الله يزرَعُ الحكمةَ بالرحمةِ في قلبِ الصغيرِ والكبيرِ، فمتى نبتَت في القلبِ يُظهِرُها اللهُ على اللسانِ، وليست تكونُ الحكمةُ من قِبَل السنِّ ولا الشبيبةِ، [ولا]
(2)
طولِ التجرِبةِ، وإذا جعَل اللهُ العبدَ حكيمًا في الصِّبَا
(3)
لم تَسْقُطْ منزلتُه
(4)
عندَ الحكماءِ، وهم يَرَون عليه من اللهِ نورَ الكرامةِ، ولكنكم قد أعجبَتْكُم أنفسُكم، وظنَنْتم
(5)
أنكم عُوفِيتم بإحسانِكم، فهنالِك بغَيتم وتعزَّرْتم، ولو نظَرتم فيما بينَكم وبينَ رَبِّكم، ثم صدَقتم أنفسَكم، لوجَدتم لكم عيوبًا ستَرها اللهُ بالعافيةِ التي ألبَسكم، ولكني قد أصبَحتُ اليومَ وليس لى رأيٌ ولا كلامٌ معكم، قد كنتُ فيما خَلا مسموعًا كلامِي، معروفًا حقِّى، مُنتصِفًا من خَصْمِي، قاهرًا لمن هو اليومَ يقهَرُني، مَهيبًا مكانى، والرجالُ مع ذلك يُنصِتون لى ويوقِّرونى، فأصبَحتُ اليومَ قد انقَطَع رَجائى، ورُفِع حَذَرِى، ومَلَّنى أهلِى، وعَفَّنى أرحامِي، وتنكَّرَت لى معارِفي، ورغِب عنِّى صَديقي، وقطَعنى أصحابي، وكفَرني أهلُ بيتي، وجُحِدَتْ حُقوقي، ونُسِيت صنائِعى، أصرُخُ فلا يُصْرِخونَنى، وأعتذِرُ فلا يُعذِرونني، وإن قضاءَه هو الذي أذلَّنى، وأقمأَنى، وأخسأَنى، وإن سُلطانَه الذي أسقَمنى،
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"ومع".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"إلا".
(3)
في م: "الصيام".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2:"منزله".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ظني".
وأنحَل جِسْمى، ولو أن رَبى نزَع الهيبةَ التي في صَدرِى، وأطلَق لِساني حتى أتكلَّمَ بملءِ فَمِي، ثم كان ينبَغي للعبدِ أن يُحاجَّ عن نفسِه، لرجَوتُ أن يُعافيَني عندَ ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عنى، فهو يَرانى ولا أَراه، ويسمَعُنى ولا أسمَعُه، لا نظَر إليَّ فرحِمني، ولا دَنا منى ولا أدناني فأُدْلِيَ بعْذرِى، وأتكلَّمَ ببراءَتي، وأُخاصِمَ عن نفسِي.
لمّا قال ذلك أيوبُ وأصحابُه عندَه، أظَلَّه غمامٌ حتى ظَنَّ أَصحابُه أنه عذابٌ، ثم نُودِيَ منه
(1)
: يا أيوبُ، إن الله يقولُ: ها أنذا ذا قد دَنوتُ منك، ولم أَزَلْ منك قريبًا، فقُمْ فَأَدْلِ بعُذرِك الذي زَعَمتَ، وتكلَّمْ ببراءتِك، وخاصِمْ عن نفسِك، واشدُدْ إزارَك. ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابن عسكرٍ، عن إسماعيلَ، إلى آخرِه، وزاد فيه: ورَحمتى سبَقت غضَبي، فاركُضْ برِجلِك هذا مغتَسَلٌ باردٌ وشرابٌ فيه شفاؤُك، وقد وهَبتُ لك أهلَك ومثلَهم معهم، ومالَك ومثلَه معه. وزعَموا: ومثلَه معه لتكونَ لمن خلفَك آيةً، ولتكونَ عبرةً لأهلِ البلاءِ، وعزاءً للصابرين. فركَض برِجْلِه، فانفجَرتْ له عَيْنٌ، فدخَل فيها فاغتَسل، فأذهَب اللهُ عنه كلَّ ما كان به من البلاءِ، ثم خرَج فجلَس، وأقبلَت امرأتُه تلتِمسُه في مضجَعِه، فلم تجِدْه، فقامَتْ كالوالهةِ متلدِّدةً، ثم قالت: يا عبدَ اللهِ، هل لك عِلمٌ بالرجلِ المبتَلى الذي كان ههنا؟ قال: لا. ثم تبَسَّم، فعرَفته بمضحَكِه، فاعتنقَتْه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: فحدَّثتُ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ حديثَه، واعتنِاقَها إياه، فقال عبد الله: فوالذى نفسُ عبدِ اللهِ بيدِه، ما فارَقَتْه من عِناقِه حتى مرَّ بهما
(2)
(1)
بعده في م: "ثم قيل له".
(2)
في م: "بها".
كلُّ مالٍ لهما وولدٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: وقد سمعتُ بعضَ من يذكُرُ الحديثَ عنه أنه دَعاها حينَ سألتْ عنه، فقال لها: وهل تعرفينَه إذا رأيتِه؟ قالت: نعم، وما لي لا أعرِفُه؟ فتبسَّم، ثم قال: ها أنا هو، وقد فرج اللهُ عني ما كنتُ فيه. فعندَ ذلك اعتنقَتْه.
قال وهبٌ: فأوحَى اللهُ إليه
(2)
في قسَمِه ليضرِبَنَّها في الذي كلَّمته أن: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]. أي: قد بَرَرَتَ يمينَك. يقولُ اللهُ تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . يقولُ اللهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43].
حدَّثنا يحيى بنُ طلحةَ اليربوعيُّ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ عياضٍ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، قال: لقد مكَث أيوبُ مطروحًا على كُناسةٍ سبعَ سنينَ وأشهرًا ما يسأَلُ الله أن يكشِفَ ما به. قال: وما على وَجْهِ الأرضِ خلقٌ أكرَمُ على اللهِ من أيوبَ، فيزعُمون أن بعض الناس قال: لو كان لرَبِّ هذا فيه حاجةٌ ما صنَع به هذا. فعندَ ذلك دَعا
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليةَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قال: بَقِى أيوبُ على كُناسةٍ لبنى إسرائيلَ سبَع سنينَ وأشهرًا تختلِفُ فيه
(4)
الدوابُّ
(5)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 342 عن ابن عباس.
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 324.
(4)
في م: "عليه".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 324، ووقع في آخره: اختلف فيها - فيه - الرواة، وهو خطأ.
حدَّثني محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا يحيى بنُ معينٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، عن عمرٍو، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: لم يكُنْ بأيوبَ الأكَلَةُ، إنما كان يخرُجُ به مثلُ ثَدْيِ النساءِ ثم ينقُفُه
(1)
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا مخلدُ بن حسينٍ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، وحجاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ - زاد أحدُهما على الآخرِ - قال: إن أيوبَ آتاه اللهُ مالًا، وأوسَع عليه، وله من النساءِ والبقرِ والغنَمِ والإبلِ، وإن عدوَّ اللهِ إبليسَ قيل له: هل تقدِرُ أن تفتِنَ أيوبَ؟ قال: رَبِّ إن أيوبَ أصبَح في دُنيا من مالٍ وولَدٍ، ولا يستطيعُ ألا يشكُرَك، ولكن سلِّطْنى
(3)
على مالِه وولَدِه، فستَرى كيف يُطيعُنى ويَعصِيك. قال: فسلَّطَه
(3)
على مالِه وولَدِه. قال: فكان يأتى بالماشيةِ من مالِه من الغنمِ فيحرِقُها بالنيرانِ، ثم يأتى أيوبَ وهو يُصلِّى متشبِّهًا براعِي الغنمِ، فيقولُ: يا أيوبُ، تُصلِّى لربِّك! ما ترَك اللهُ لك من ماشيتِك شيئًا من الغنمِ إلا أحرَقها بالنيرانِ، وكنتُ ناحيةً فجئتُ لأخبِرَك. قال: فيقولُ أيوبُ: اللهمَّ أنت أعطيتَ، وأنتَ أخذتَ، مهما تُبْقِ نفسِي أَحْمَدْك على حُسْنِ بلائِك. فلا يقْدِرُ منه على شيءٍ مما يريدُ، ثم يأتى ماشيتَه من البقرِ فيحرِقُها بالنيرانِ، ثم يأتى أيوبَ فيقولُ له ذلك، ويرُدُّ عليه أيوبُ مثلَ ذلك. قال: وكذلك فعَل بالإبلِ حتى ما ترَك له
(4)
ماشيةً، حتى هدَم البيتَ على ولَدِه، فقال: يا أيوبُ أرسَل اللهُ على ولَدِك من هدَم عليهم البيوتَ، حتى هلَكوا. فيقول أيوبُ مثلَ ذلك، وقال: رَبِّ هذا حينَ أحسنتَ إليَّ الإحسانَ كلَّه، قد كنتُ قبلَ اليومِ يشغَلُنى حُبُّ المالِ بالنهارِ، ويشغَلُنى حُبُّ الولَدِ بالليلِ شفقةً عليهم، فالآن
(1)
النَّقْفُ: كسر الهامة عن الدماغ ونحو ذلك، كما ينقف الظليم الحنظل عن حبه - أي يشقه - ونقف الفرخُ البيضة: نقبها وخرج منها، التاج (ن ق ف).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328 إلى المصنف.
(3)
بعده في ت 2: "عليه و".
(4)
بعده في م، ت 1، ف:"من".
أُفْرِغْ سمْعِى لك
(1)
وبصَرى، وليلى ونهارِى، بالذكْرِ والحمدِ، والتقديسِ والتهليلِ. فينصرفُ عدوُّ اللهِ من عندِه لم يُصِبْ منه شيئًا مما يريدُ.
قال: ثم إن الله تبارك وتعالى قال: كيف رأيتَ أيوبَ؟ قال إبليسُ: أيوبُ قد علم أنك سترُدُّ عليه مالَه وولده، ولكن سلِّطنى على جسَدِه، فإن أصابَه الضرُّ فيه أطاعَنى وعَصاك. قال: فسُلِّط على جسَدِه، فأتاه فنفَخ فيه نفخةً قَرِح من لَدُن قرنِه إلى قدَمِه. قال: فأصابَه البلاءُ بعدَ البلاءِ، حتى حُمِل فوُضِعَ على مَزْبَلَةِ كُناسةٍ لبنى إسرائيلَ، فلم يبقَ له مالٌ ولا ولَدٌ ولا صديقٌ ولا أحدٌ يَقرَبُه غيرُ زوجَتِه، صبَرت معه، تَصَدَّقُ
(2)
و
(3)
تأتيه بطعامٍ، وتحمَدُ الله معه إذا حمِد، وأيوبُ على ذلك لا يفتُرُ من ذكرِ اللهِ والتحميدِ والثناءِ على اللهِ، والصبرِ على ما ابتلاهُ اللهُ.
قال الحسنُ: فصرَخ إبليسُ عدوُّ اللهِ صرخةً جمَع فيها جنودَه من أقطارِ الأرضِ جزَعًا من صبرِ أيوبَ، فاجتَمَعوا إليه وقالوا له: اجْتَمَعْنا
(4)
، ما حَزَبَك
(5)
؟ ما أعياكَ؟ قال: أعيانى هذا العبدُ الذي سألتُ رَبِّي أن يُسلِّطَنى على مالِه وولَدِه، فلم أدَعْ له مالًا ولا ولَدًا، فلم يزدَدْ بذلك إلا صبرًا وثناءً على اللهِ وتحميدًا له، ثم سُلِّطتُ على جَسَدِه فترَكتُه قُرْحةً ملقاةً على كُناسةِ بنى إسرائيلَ، لا يقرَبُه إلا امرأتُه، فقد افتضَحْتُ برَبِّي، فاستعَنْتُ بكم، فأَعينونى عليه. قال: فقالوا له: أين مكرُك؟ أين عِلمُك الذي أهلَكْتَ به من مضَى؟ قال: بطَل ذلك كلُّه في أيوبَ، فأشيروا عليَّ. قالوا:
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "بصدق"، وفى ت 2:"فتصدق". وتصدق هنا بمعنى: تسأل. ينظر اللسان (ص د ق).
(3)
بعده في م: "كانت".
(4)
في م: "جمعتنا".
(5)
في م، ت 2:"خبرك"، وفى ت 1، ف:"أحزنك". وحزبه الأمر: نابه، واشتد عليه، وقيل: ضغطه. اللسان (ح ز ب).
نُشيرُ عليك، أرأيتَ آدمَ حينَ أخرَجْتَه من الجنةِ، من أينَ أتيتَه؟ قال: من قِبَلِ امرأتِه. قالوا: فشأنُك بأيوبَ من قبَلِ امرأتِه، فإنه لا يستطيعُ أن يَعصِيَها، وليس أحدٌ يقرَبُه غيرُها. قال: أصبْتُم. فانطلَق حتى أتى امرأتَه وهى تَصَدَّقُ، فتمثَّل لها في صورةِ رجلٍ، فقال: أينَ بعلُكِ يا أمةَ اللهِ؟ قالت: ها هو ذاك يحُكُّ قروحَه، وتتردَّدُ الدوابُّ في جسَدِه. فلما سمِعها طمِع أن تكونَ كلمةَ جزَعٍ، فوقَع في صَدْرِها، فوسْوَسَ إليها، فذكَّرها ما كانت فيه من النِّعَمِ والمالِ والدوابِّ، وذكَّرها جمالَ أيوبَ وشبابَه، وما هو فيه من الضرِّ، وأن ذلك لا ينقَطِعُ عنهم أبدًا. قال الحسنُ: فصرَخت. فلما صرَخت علِم أن قد صرَخت وجَزِعَتْ، أتاها بسَخْلةٍ، فقال: ليذبَحَ هذا إليَّ أيوبُ ويبرأُ. قال: فجاءت تصرُخُ: يا أيوبُ، يا أيوبُ، حتى متى يعذِّبُكَ رَبُّك؟ ألا يرحَمُك؟ أينَ الماشيةُ؟ أين المالُ؟ أين الولدُ؟ أين الصديقُ؟ أين لونُك الحسَنُ؟ قد تغيَّر وصارَ مثلَ الرمادِ، أين جسمُك الحسَنُ الذي قد بلى وتردَّدَ فيه الدوابُّ؟ اذبَحْ هذه السَّخْلَةَ واسترِحْ. قال أيوبُ: أتاكِ عدوُّ اللهِ فنفَخ فيكِ، فوجَد فيكِ رِفْقًا وأَجَبتِه، ويلَكِ، أرأيتِ ما تبكين عليه مما تذكُرِين مما كنا فيه من المالِ والولَدِ والصحةِ والشبابِ، من أعطانيه؟ قالت: اللهُ. قال: فكم متَّعَنا به؟ قالت: ثمانين سنةً. قال: فمُذْ كم ابتَلانا اللهُ بهذا البلاءِ الذي ابتَلانا به؟ قالت: منذُ سبعِ سنين وأشهرٍ. قال: ويلَكِ! واللهِ ما عدَلتِ ولا أنصَفتِ رَبَّك، ألا صبَرتِ حتى نكونَ في هذا البلاءِ الذي ابتلانا رَبُّنَا به ثمانين سنةً كما كُنا في الرخاءِ ثمانين سنةً؟ واللهِ لئن شفانى اللهُ لأجْلِدنَّكِ مائةَ جلدةٍ، هِيهِ، أمرتِيني أن أذْبَح لغيرِ اللهِ، طعامُك وشرابُك الذي تأتينى به عليَّ حرامٌ، وأن أذُوقَ ما تأتينى به بعدُ، إذ قلتِ لى هذا فاغرُبى عَنِّي، فلا أراكِ. فطردَها فذهَبت، فقال الشيطانُ: هذا قد وطَّن نفسَه ثمانين سنةً على هذا البلاءِ الذي هو فيه، فباء بالغلَبةِ ورفَضه. ونظَر أيوبُ إلى امرأتِه
قد طرَدها، وليس عندَه طعامٌ ولا شرابٌ ولا صَديقٌ. قال الحسنُ: ومرَّ به رجلانِ وهو على تلك الحالِ، ولا واللهِ ما على ظهْرِ الأرضِ يومئذٍ أكرَمُ على اللهِ من أيوبَ، فقال أحدُ الرجلين لصاحبِه: لو كان للهِ في هذا حاجةٌ ما بلَغ به هذا. فلم يسمَعْ أيوبُ شيئًا كان أشدَّ عليه من هذه الكلمةِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن جريرِ بن حازمٍ، عن عبدِ اللهِ بن عُبيدِ بن عُميرٍ، قال: كان لأيوبَ أخوانِ، فقامت من بعيدٍ لا يقدِرانِ أن يدنوَا منه من ريحِه، فقال أحدُهما لصاحبِه: لو كان اللهُ علِم في أيوبَ خيرًا ما ابتَلاه بما أرَى. قال: فما جزِع أيوبُ من شيءٍ أصابه جزَعَه من كلمةِ الرجل، فقال أيوبُ: اللهمَّ إن كنتَ تعلَمُ أنى لم أبِتْ ليلةً شبعانَ قطُّ وأنا أعلَمُ مكانَ جائعٍ فصَدِّقْنى، فصُدِّق وهما يسمعانِ، ثم قال: اللهمَّ إن كنتَ تعلَمُ أني لم أتخِذْ قميصَين قطُّ وأنا أعلَمُ مكان عادٍ فَصَدِّقْنى. فصُدِّق وهما يسمعانِ. قال: ثم خَرَّ ساجدًا
(2)
.
فحدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: فحدَّثني مخلدُ بنُ الحسينِ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، قال: فقال: ربِّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . ثم ردَّ ذلك إلى رَبِّه فقال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن جريرٍ، عن عبدِ اللهِ بن عبيدِ بن عميرٍ، قال: فقيل له: ارفَعْ رأسَك فقد استُجِيب لك.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328، 329 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في البداية والنهاية 1/ 510 - وابن عساكر في تاريخه 10/ 62 من طريق جرير بن حازم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 327 إلى ابن أبي شيبة وأحمد في الوهد وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 10/ 63 من طريق مخلد بن الحسين به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن مباركٍ، عن الحسنِ. ومخلدٌ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، دخَل حديثُ أحدِهما في الآخرِ، قالا: فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]. فركَض برجلِه فنبعَت عينٌ، فاغتسَل منها، فلم يبقَ عليه من دائِه شيءٌ ظاهرٌ إلا سقَط، فأذهَب اللهُ كلَّ ألمٍ وكلَّ سَقَمٍ، وعاد إليه شبابُه وجمالُه أحسنَ ما كان وأفضلَ ما كان، ثم ضرَب برجلِه، فنبَعت عينٌ أُخرى فشرِب منها، فلم يبقَ في جوفِه داءٌ إلا خرَج، فقام صحيحًا، وكُسِى حُلةً. قال: فجعَل يتلفَّتُ ولا يَرَى شيئًا مما كان له من أهلٍ ومالٍ إلا وقد أضعَفه اللهُ له، حتى واللهِ ذُكِر لنا أن الماءَ الذي اغتسَل به تطايرَ على صدرِه جرادًا من ذهَبٍ. قال: فجعَل يضمُّه بيده، فأوحَى اللهُ إليه: يا أيوبُ ألم أُغنِك؟ قال: بلَى، ولكنها بركَتُك، فمن يشبَعُ منها! قال: فخرَج حتى جلَس على مكانٍ مُشرِفٍ، ثم إن امرأتَه قالت: أرأيتِ إن كان طردَنى إلى مَن أكِلُه؟ أَدَعُه يموتُ جوعًا أو يَضيعُ فتأكُلُه السِّباعُ؟ لأرجِعنَّ إليه. فرجَعتْ، فلا كُناسةَ ترَى، ولا من تلك الحال التي كانت، وإذا الأمورُ قد تغيَّرتْ، فجعَلت تطوفُ حيث كانت الكُناسةُ وتَبْكِي، وذلك بعينِ أيوبَ. قال
(1)
: وهابَتْ صاحِبَ الحُلَّةِ أن تأتيَه فتسألَه عنه، فأرسَل إليها أيوبُ فدعاها، فقال: ما تُريدين يا أَمَةَ اللهِ؟ فبكَتْ وقالت: أردتُ ذلك المبتَلَى الذي كان مَنْبوذًا على الكُناسةِ، لا أدرِى أضاعَ أم ما فعَل؟ قال لها أيوبُ: ما كان منك؟ فبكَت وقالت: بَعْلى، فهل رأيتَه؟ وهى تبكِي، إنه قد كان ههنا. قال: وهل تعرِفينَه إذا رأَيتِه
(2)
؟ قالت: وهل يَخْفَى على أحدٍ رآه؟ ثم جعَلت تنظُر إليه وهى تهابُه، ثم قالت: أما إنه كان أشبَهَ خلْقِ اللهِ بك إذ كان صحيحًا. قال: فإنى أنا أيوبُ الذي أمرتِينى أن أذبَح للشيطانِ، وإنى أطعْتُ الله وعَصيتُ الشيطانَ، فدعوتُ الله فردَّ عليَّ
(1)
في م: "قالت".
(2)
في م: "رأيتيه".
ما تَرَين. قال الحسنُ: ثم إن الله رحِمها بصبرِها معه على البلاءِ، أن أمره تخفيفًا عنها أن يأخُذَ جماعةً من الشجَرِ فيضرِبَها ضربةً واحدةً تخفيفًا عنها بصبرِها معه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} إلى آخرِ الآيتين: فإنه لما مسَّه الشيطانُ بنصْبٍ وعذابٍ، أنساهُ اللهُ الدعاءَ؛ أن يدعُوَه فيكشِفَ ما به من ضُرٍّ، غيرَ أنه كان يذكُرُ الله كثيرًا، ولا يزيدُه البلاءُ في اللهِ إلا رغبةً وحُسْنَ إيمانٍ، فلمَّا انتهى الأجلُ، وقضَى اللهُ أنه كاشِفٌ ما به من ضُرٍّ، أذِن له في الدعاء، ويسَّره له، وكان قبلَ ذلك يقولُ تبارك وتعالى: لا ينبَغى لعبدِي أيوبَ أن يدعوَنى ثم لا أستجيبَ له. فلمَّا دَعا استجابَ له، وأبدَله بكلِّ شيءٍ ذهَب له ضِعفَين؛ رَدَّ إليه أهلَه ومثلَهم معهم، وأثنى عليه فقال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
(2)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في "الأهْلِ" الذين
(3)
ذكَر اللهُ في قولِه: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . أهُم أهلُه الذين أُوتيهم في الدنيا؟ أم ذلك وَعْدٌ وعَده اللهُ أيوبَ أن يفعلَ به في الآخرةِ؟ فقال بعضُهم: إنما أتى اللهُ أيوبَ في الدنيا مثلَ أهلِه الذين هلَكوا، فإنهم لم يُرَدّوا عليه في الدنيا، وإنما وعَد اللهُ أيوبَ أن يؤتيَه إيَّاهم في الآخرةِ.
حدَّثني أبو السائبِ سلْمُ بنُ جُنادةَ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ليثٍ، قال: أرسل مجاهدٌ رجلًا، يقالُ له: قاسمٌ، إلى عكرمةَ يسألُه عن قولِ اللهِ لأيوبَ:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 329 إلى المصنف من تمام الأثر المتقدم في ص 360 - 363.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328 إلى المصنف.
(3)
في م: "الذي".
{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . فقال: قيلَ له: إن أهلَك لك في الآخرةِ، فإن شئْتَ عجَّلناهم لك في الدنيا، وإن شئتَ كانوا لك في الآخرةِ، وآتيناكَ مثلَهم في الدنيا. فقال: يكونون لى في الآخرةِ. وأُوتِى مثلهم في الدنيا. قال: فرجَع إلى مجاهدٍ، فقال: أصابَ
(1)
.
وقال آخرون: بل رَدَّهم إليه بأعيانِهم، وأعطاه مثلَهم معَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال
(2)
: ثنا حكَّامُ بنُ سلْمٍ، عن أبي سنانٍ، عن ثابتٍ، عن الضحاكِ، عن ابن مسعودٍ:{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . قال: أهلَه بأعيانِهم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ: لما دَعا أيوبُ استجابَ
(4)
له، وأبدَله بكلِّ شيءٍ ذهَب له ضِعفين، رَدَّ إليه أهلَه ومثلَهم معَهم
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . قال: أحياهُم بأعيانِهم، ورَدَّ إليه مثلَهم
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328 إلى المصنف.
(2)
بعده في ت 1: "ثنا سلمة قال".
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير 9/ 254 من طريق أبي سنان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(4)
بعده في م: "الله".
(5)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(6)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 357.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . قال: قيلَ له: إن شئتَ أحْيَيْناهم لك، وإن شِئْتَ كانوا لك في الآخرةِ، وتُعْطَى مثلَهم في الدنيا. فاخْتارَ أن يكونوا له
(1)
في الآخرةِ ومثلَهم في الدنيا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ:{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . قال الحسنُ وقتادةُ: أحْيا اللهُ أهلَه بأعيانِهم، وزاده إليهم مثلَهم
(2)
.
وقال آخرون: بل آتاه المثلَ من نسلِ ماله الذي ردَّه عليه وأهلِه، فأما الأهلُ والمالُ فإنه ردَّهما عليه بأعيانِهما
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن رجلٍ، عن الحسنِ:{وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . قال: مِن نسلِهم
(4)
.
وقولُه: {رَحْمَةً} . نُصِبَت بمعنى: فعَلْنا ذلك بهم رحمةً منَّا له
(5)
.
وقولُه: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . يقولُ: وتذكرةً للعابدين ربَّهم فعَلْنا ذلك به، ليَعْتَبِروا به، ويَعْلَموا أن الله قد يَبْتَلِى أولياءَه ومَن أحَبَّ مِن عبادِه في الدنيا بضُروبٍ مِن البلاءِ، في نفسِه وأهلِه ومالِه، من غيرِ هَوانٍ به عليه، ولكن اختبارًا منه
(1)
سقط من: م، ت 1، ف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328 إلى المصنف.
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 328 إلى المصنف.
(5)
في ت 2، ف:"لهم".
له، ليَبْلُغَ بصبرِه عليه، واحتسابِه إياه، وحسنِ يقينِه - منزلتَه التي أعدَّها له تبارك وتعالى مِن الكرامةِ عندَه.
وقد حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي معشرٍ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظِيِّ في قولِه:{رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . [وقولِه: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}]
(1)
[ص: 43]. قال: أيُّما مؤمنٍ أصابَه بلاءٌ، فذكَر ما أصاب أيوبَ، فَلْيَقُلْ: قد أصاب مَن هو خيرٌ منا؛ نبيًّا مِن الأنبياءِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)} .
يعني تعالى ذكرُه بإسماعيلَ: إسماعيلَ بن إبراهيمَ صادقَ الوعدِ، وبإدريسَ: خَنُوخَ
(2)
، وبذى الكِفْلِ: رجلًا تكَفَّل مِن بعضِ الناسِ، إما مِن نبيٍّ وإما مِن ملكٍ مِن صالحي الملوكِ، بعملٍ مِن الأعمالِ، فقام به من بعدِه، فأَثْنَى اللهُ عليه حسنَ وفائِه بما تكَفَّل به، وجعَله من المعدودين في عبادِه، [مع مَن حمِد]
(3)
صبرَه على طاعةِ اللهِ. وبالذي قلنا في أمرِه جاءت الأخبارُ عن سلفِ العلماءِ.
ذكرُ الرواية بذلك عنهم
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ بن عمرٍو، عن عبدِ اللهِ بن الحارثُ، أن نبيًّا من الأنبياءِ، قال: مَن يكْفلُ
(4)
لى
(1)
سقط من: م، ت 1، ف.
(2)
في ص: "حنوح"، وفى م، ت 1، ف:"أخنوخ". وهذا الأخير مما قيل فيه. وينظر فتح البارى 6/ 373، والتاج (خ ن خ).
(3)
في ت 2: "من حسن".
(4)
في م، ت 2:"تكفل".
أن يصومَ النهارَ، ويقومَ الليلَ، ولا يَغْضَبَ؟ فقام شابٌّ فقال: أنا. فقال: اجْلِسْ. ثم عاد فقال: مَن يَكْفُلُ
(1)
لى أن يقوم الليلَ، ويصوم النهارَ، ولا يَغْضَبَ؟ فقام ذلك الشابُّ فقال: أنا. فقال: اجْلِسْ. ثم عاد فقال: مَن يَكْفُلُ
(1)
لى أن يقومَ الليلَ، ويصومَ النهارَ، ولا يَغْضَبَ؟ فقام ذلك الشابُّ فقال: أنا. فقال: تقومُ الليلَ، وتصومُ النهارَ، ولا تَغْضَبُ؟ فمات ذلك النبيُّ، فجلَس ذلك الشابُّ مكانَه يَقْضِى بينَ الناسِ، فكان لا يَغْضَبُ، فجاءه الشيطانُ في صورةِ إنسانٍ ليُغْضِبَه، وهو صائمٌ يُرِيدُ أن يَقِيلَ
(2)
، فضرَب البابَ ضربًا شديدًا، فقال: مَن هذا؟ فقال: رجلٌ له حاجةٌ. فأَرْسَل. معه رجلًا، فقال: لا أَرْضَى بهذا الرجلِ. فأرْسَل معه آخرَ، فقال: لا أَرْضَى بهذا. فخرَج إليه، فأَخَذ بيدِه، فانْطَلَق معه، حتى إذا كان في السوقِ خلَّاه وذهَب، فسُمِّى ذا الكِفْلِ
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عفانُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا وُهَيْبٌ، قال: ثنا داودُ، عن مجاهدٍ، قال: لما كبِر الْيَسَعُ قال: لو أنى اسْتَخْلَفْتُ رجلًا على الناسِ يَعْمَلُ عليهم في حياتى حتى أَنْظُرَ كيف يَعْمَلُ. قال: فجمَع الناسَ، فقال: مَن يَتَقَبَّلْ
(4)
لى بثلاثٍ أَسْتَخْلِفه؛ يصومُ النهارَ، ويقومُ الليلَ، ولا يَغْضَبُ؟ قال: فقام رجلٌ تَزْدَرِيه العينُ، فقال: أنا. فقال: أنت تصومُ النهارَ، وتقومُ الليلَ، ولا تَغْضَبُ؟ قال: نعم. فردَّهم ذلك اليومَ، وقال مثلَها اليومَ الآخرَ، فسكَت الناسُ، وقام ذلك الرجلُ، فقال: أنا. فاسْتَخْلَفه. قال: فجعَل إبليسُ يقولُ للشياطينِ: عليكم
(1)
في م، ت 2:"تكفل".
(2)
في ت 1: "يفتن".
(3)
أخرجه ابن عساكر 17/ 373 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 332 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ف: "يقبل"، وفى الدر:"يتكفل"، ويتقبل، من قَبَل - بالفتح -: إذا كَفَل، وقَبُل - بالضم - إذا صار قبيلا: أي كفيلا. وينظر النهاية 4/ 10.
بفلانٍ. فأعْياهم، فقال: دَعُونى وإياه. فأتاه في صورةِ شيخٍ كبيرٍ فقيرٍ، فأتاه حينَ أخَذَ مَضْجَعَه للقائلةِ، وكان لا يَنامُ الليلَ والنهارَ إلا تلك النَّوْمةَ، فدقَّ البابَ، فقال: مَن هذا؟ قال: شيخٌ كبيرٌ مظلومٌ. قال: فقام ففتَح البابَ، فجعَل يَقُصُّ عليه، فقال: إن بيني وبينَ قومى خُصومةً، [وإنهم ظلَموني]
(1)
وفعَلوا بي وفعَلوا فجعَل يُطَوِّلُ عليه حتى حضَر الرَّوَاحُ، وذَهَبت القائلةُ، وقال: إذا رُحْتُ فأْتِنِي أَخُذْ لك بحقِّك. فانْطَلَق وراح، فكان في مجلسِه، فجعَل يَنْظُرُ هل يَرَى الشيخَ، فلم يَرَه، فجعَل يَبْتَغِيه، فلمَّا كان الغدُ جَعَل يَقْضِى بينَ الناسِ، ويَنْتَظِرُه فلا يَراه، فلمَّا رجَع إلى القائلةِ، فأَخَذَ مَضْجَعَه، أتاه فدقَّ البابَ، فقال: من هذا؟ قال: الشيخُ الكبيرُ المظلومُ. ففتَح له، فقال: ألم أَقُلْ لك: إذا فَعَدْتُ فَأْتِني؟ فقال: إنهم أخبثُ قومٍ إذا عرَفوا أنك قاعدٌ، قالوا: نحن نُعْطِيك حقَّك. وإذا قمْتَ جحَدوني. قال: فانْطَلِقْ فإذا رُحْتُ فأْتِنى. قال: فاتته القائلةُ، فراح فجعَل يَنْظُرُ فلا يراه، فشقَّ عليه النُّعاسُ، فقال لبعضِ أهلِه: لا تَدَعَنَّ أحدًا يَقْرَبُ هذا البابَ حتى أنام، فإني قد شقَّ عليَّ النومُ. فلما كان تلك الساعةُ جاء، فقال له الرجلُ: وراءَك. فقال: إني قد أتَيْتُه
(2)
أمسِ، فذكَرْتُ له أمرى، قال: واللهِ لقد أمَرَنا أن لا نَدَعَ أحدًا يَقْرَبُه. فلمَّا أَعْياه نظر فرأَى كُوَّةً في البيتِ، فتسوَّر منها، فإذا هو في البيتِ، وإذا هو يَدُقُّ البابَ. قال: فاسْتَيْقَظ الرجلُ، فقال: يا فلانُ، ألم آمُرْك؟ قال: أما مِن قِبَلى واللهِ فلم تُؤْتَ، فانْظُرْ مِن أينَ أُتيتَ. قال: فقام إلى البابِ، فإذا هو مُغْلَقٌ كما أغْلَقه، وإذا هو معه في البيتِ، فعرَفه فقال: أعدوُّ اللهِ؟ قال: نعم، أعْيَيْتَنى في كلِّ شيءٍ، فَفَعَلْتُ ما تَرَى لأُغْضِبَك. فسمَّاه اللهُ
(3)
ذا الكِفْلِ؛ لأنه
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
في ص، ت 2، ف:"أتيتك".
(3)
سقط من النسخ. واستدركناه من مصدرى التخريج.
تكَفَّل بأمرٍ فوفَّى به
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَذَا الْكِفْلِ} . قال: رجلٌ صالحٌ غيرُ نبيٍّ، تكفَّل لنبيِّ قومِه أن يَكْفِيه أمرَ قومِه، [ويُقيمه لهم]
(2)
، ويَقْضِى بينَهم بالعدلِ، ففعَل ذلك، فسُمِّىَ ذا الكِفْلِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقَاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، إلا أنه قال: ويَقْضِىَ بينَهم بالحقِّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن أبي معشرٍ، عن محمدِ بن قيسٍ، قال: كان في بني إسرائيلَ ملكٌ صالحٌ، فكبِر، فجمَع قومَه، فقال: أيُّكم تكفَّل
(4)
لي بملكي هذا، على أن يصوم النهارَ، ويقومَ الليلَ، ويَحْكُمَ بينَ بني إسرائيلَ بما أَنْزَل اللهُ، ولا يَغْضَبَ؟ قال: فلم يَقُمْ أَحدٌ إلا فتًى شابٌّ، فازْدَراه لحَداثةِ سنِّه، فقال: أيُّكم تكَفَّلَ
(4)
لى بملكي هذا، على أن يصومَ النهارَ، ويقومَ الليلَ، ولا يَغْضَبَ، ويَحْكُمَ بينَ بني إسرائيلَ بما أَنْزَلَ اللهُ؟ فلم يَقُمْ إلا ذلك الفتى، فازْدَراه، فلمَّا كانت الثالثةُ قال مثلَ ذلك، فلم يَقُمْ إلا ذلك الفتى، فقال: تَعالَ. فخلَّى بينَه وبينَ ملكِه، فقام الفتى ليلَه
(5)
، فلما أَصْبَحَ جَعَل يَحْكُمُ بَينَ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 358 عن المصنف، وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق زهير، عن داود، عن مجاهد.
(2)
في مصدرى التخريج: "يقيمهم له".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 358 عن ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 331 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميدٍ وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ص، م، ت 1، ف:"يكفل".
(5)
في م: "ليلة".
بنى إسرائيلَ، فلما انْتَصَف النهارُ دخَل ليَقِيلَ، فأتاه الشيطانُ في صورةِ رجلٍ مِن بنى آدمَ، فجذَب ثوبَه، فقال: أتَنامُ والخصومُ ببابِك؟! قال: إذا كان العشيةُ فأْتِني. قال: فانْتَظَره بالعشيِّ فلم يَأْتِه، فلما انْتَصَف النهارُ ودخَل ليَقِيلَ، جذَب ثوبَه، وقال: أتَنامُ والخصومُ ببابِك؟! قال: قلتُ لك: ائْتِنى العشيَّ، فلم تأْتِني، ائْتِنِي العشيةَ. فلما كان بالعشيِّ انْتَظَره فلم يَأْتِ، فلمَّا دخل ليَقِيلَ جذَب ثوبَه، وقال: أتَنامُ والخصومُ ببابِك؟! قال: أخْبِرْنى مَن أنت؟! لو كنتَ مِن الإنسِ سمِعْتَ ما قلتُ! قال: هو الشيطانُ، جئتُ لأَفْتِنَك، فعصَمَك اللهُ منى. فقضَى بينَ بني إسرائيلَ بما أنْزَل اللهُ زمانًا طويلًا، وهو ذو الكِفْلِ، سُمِّيَ ذا الكفلِ؛ لأنه تكفَّل بالمُلْكِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أبي موسى الأشعريِّ أنه قال وهو يَخْطُبُ الناسَ: إن ذا الكِفْلِ لم يَكُنْ نبيًّا، ولكن كان عبدًا صالحًا، تكَفَّل بعملِ رجلٍ صالحٍ عندَ موتِه، كان يُصَلِّي اللهِ كلَّ يومٍ مائةَ صلاةٍ، فأَحْسَن اللهُ عليه الثناءَ في كَفالتِه إياه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ، قال: ثنا عمرٌو، قال: أمَّا ذو الكِفْلِ، فإنه كان على بنى إسرائيلَ ملِكٌ، فلما حضَره الموتُ قال: مَن يَكْفُلُ لى أن يَكْفِيَنِى بنى إسرائيلَ، ولا يَغْضَبَ، ويُصَلِّي كلَّ يومٍ مائةَ صلاةٍ؟ فقال ذو الكِفْلِ: أنا. فجعَل ذو الكِفْلِ يَقْضِى بينَ الناسِ، فإذا فرَغ صلَّى مائةَ صلاةٍ، فكاده الشيطانُ، فأمْهَله حتى إذا قضَى بينَ الناسِ، وفرَغ مِن صلاتِه، وأخَذ مضجعَه فنام، أتَى الشيطانُ بابه فجعَل يَدُقُّه، فخرَج إليه، فقال: ظُلِمْتُ وصُنِع بي وصُنِع. فأعْطاه خاتَمَه، وقال: اذْهَبْ
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 4/ 359.
فأْتِنى بصاحبِك. وانْتَظَرَه، فأبْطَأ عليه الآخرُ، حتى إذا عرَف أنه قد نام، وأخَذ مضجعَه، أتَى البابَ أيضًا كى يُغْضِبَه، فجعَل يَدُقُّه، وخدَش وجهَ نفسِه، فسالَت
(1)
الدماءٌ، فخرَج إليه فقال: مالك؟ فقال: لم يَتْبَعْنى وضُربتُ وفعَل. فأخَذه ذو الكِفْلِ، وأنْكَر أمرَه، فقال: أخْبِرْنى مَن أنت؟ وأخَذَه أخْذًا شديدًا، قال: فأخبَره مَن هو.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرني معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَذَا الْكِفْلِ} . قال: قال أبو موسى الأشْعَريُّ: لم يَكُنْ ذو الكِفْلِ نبيًّا، ولكنه كفَل بصلاةِ رجلٍ كان يُصَلِّي كلَّ يومٍ مائةَ صلاةٍ فتُوفِّي
(2)
، فكفَل بصلاتِه، فلذلك سُمِّي ذا الكِفْلِ
(3)
.
ونصَب {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} عطفًا على {أَيُّوبَ} ، ثم استُؤْنِف بقولِه:{كُلٌّ} . فقال: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} . ومعنى الكلام: كلُّهم مِن أهلِ الصبرِ فيما نابَهم في اللهِ.
وقولُه: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأَدْخَلْنا إسماعيلَ وإدريسَ وذا الكِفْلِ. والهاءُ والميمُ عائدتان عليهم. {فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . يقولُ: إنهم ممن صلَح، فأطاع الله، وعمِل بما أمرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
(1)
في ت 1: "حتى سالت".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"فوفى".
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 27 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 17/ 375 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 332 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: واذْكُرْ يا محمدُ ذا النونِ. يعنى: صاحبَ النونِ. والنونُ: الحوتُ، وإنما عَنَى بذى النونِ يونُسَ بنَ مَتَّى. وقد ذكَرْنا قصتَه في سورةِ "يونُسَ" بما أغْنَى عن ذكرِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وقولُه: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} . يقولُ: حينَ ذهَب مُغاضِبًا.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذَهَابِه مُغاضِبًا، وعمَّن كان ذهابُه، وعلى مَن كان غضبُه؛ فقال بعضُهم: كان ذهابُه عن قومِه، وإياهم غاضَب.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} ، يقولُ: غضِب على قومِه
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} : [أما غضبُه، فكان]
(3)
على قومِه
(4)
.
وقال آخرون: ذهَب عن قومِه مُغاضِبًا لربِّه، إذ كشَف عنهم العذابَ بعدَ ما وعَدهموه.
(1)
ينظر ما تقدم في 12/ 291 - 297.
(2)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (1077) من طريق محمد بن سعد به.
(3)
في ت 2: "يقول غضب".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك، وذكرُ سبب مُغاضَبتِه ربَّه في قولِهم
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن عبدِ اللهِ بن أبي سلمةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ قال: بعَثه اللهُ - يعني يونُسَ - إلى أهلِ قريتِه، فردُّوا عليه ما جاءهم به، وامْتَنَعوا منه، فلمَّا فعَلوا ذلك أَوْحَى اللهُ إليه: إنى مُرْسِلٌ عليهم العذابَ في
(1)
يومِ كذا وكذا، فاخْرُجْ مِن بين أظْهُرهم. فأعْلَم قومَه الذي وعَدَهم
(2)
اللهُ مِن عذابِه إياهم، فقالوا: ارْمُقوه، فإن خرَج مِن بين أظهرِكم، فهو واللهِ كائنٌ ما وعَدَكم.
فلما كانت الليلةُ التي وُعِدوا العذابَ في صبِحها أدْلَج ورآه القومُ، فخرَجوا من القريةِ إلى بَرازٍ
(3)
مِن أرضِهم، وفرَّقوا بينَ كلِّ دابةٍ وولدِها، ثم عَجُّوا إِلى اللهِ، فاسْتَقالوه، فأقالهم، وتنظَّر
(4)
يونُسُ الخبرَ عن القريةِ وأهلِها، حتى مرَّ به مارٌّ فقال: ما فعل أهلُ القريةِ؟ فقال: فعَلوا أن نبيَّهم خرَج من بين أظهرِهم، عرَفوا أنه صدَقهم ما وعَدَهم مِن العذابِ، فخرَجوا مِن قريتِهم إلى بَرازٍ من الأرضِ، ثم فرَّقوا بينَ كلِّ ذاتِ ولدٍ وولدِها، وعَجُّوا إلى اللهِ، وتابوا إليه، فقبِل منهم، وأخَّر عنهم العذابَ. قال: فقال يونُسُ عندَ ذلك، وغضِب: واللهِ لا أَرْجِعُ إليهم كذَّابًا أبدًا، وعَدْتُهم العذابَ في يومٍ، ثم رُدَّ عنهم! ومضَى على وجهِه مُغاضِبًا
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا عوفٌ، عن سعيدِ بن أبى
(1)
بعده في ص، ف:"كل".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"وعده".
(3)
البراز: المكان الفضاء من الأرض البعيد الواسع. اللسان (ب ر ز).
(4)
في ت:2: "ينظر"، وتنظره: انتظره في مهلة. اللسان "نظر".
(5)
في ت 1، ف:"مغضبا".
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 13، وزاد في آخره:"لربه فاستزله الشيطان". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى ابن أبي حاتم بنحوه مطولًا.
الحسنِ، قال: بلَغَنى أن يونُسَ لما أصاب الذنبَ انْطَلَق مُغاضِبًا لربِّه، واسْتَزَلَّه الشيطانُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا يحيى بنُ زكريا بن أبي زائدةَ، عن [مُجالدٍ بن]
(2)
سعيد، عن الشعبيِّ في قولِه:{إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} . قال: مغاضِبًا لربِّه
(3)
.
حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بن عبدِ الملكِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ. فذكَر نحوَ حديثِ ابن حميدٍ، عن سلمةَ، وزاد فيه: قال: فخرَج يونُسُ يَنْظُرُ العذابَ، فلم يَرَ شيئًا، قال: جرَّبوا عليَّ كذبًا. فذهَب مُغاضِبًا لربِّه حتى أتَى البحرَ
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن ربيعةَ بن أبي عبدِ الرحمنِ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ اليَمانيِّ، قال: سَمِعْتُه يقولُ: إِن يُونُسَ بنَ مَتَّى كان عبدًا صالحًا، وكان في خُلُقِه ضِيقٌ، فلما حُمِّلَت عليه أثقالَ النبوةِ - ولها أثقالٌ لا يَحْمِلُها إلا قليلٌ - تفَسَّخ تحتَها تفَسُّخَ الرُّبَعِ تحتَ الحِمْلِ
(5)
، فقذَفها بينَ يديه، وخرَج هاربًا منها، يقولُ اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. و {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]. أي: لا تُلْقِ أمرى كما ألقاه
(6)
.
(1)
سيأتي تخريجه في ص 380.
(2)
في ت 2: "مجاهد عن". وينظر تهذيب الكمال 27/ 219.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 7/ 242.
(4)
تقدم تخريجه في 12/ 295.
(5)
الرُّبَع: الفصيل، وهو ولد الناقة إذا فُصِل عن أمه، وتَفسَّخ الربع تحت الحمل الثقيل إذا لم يطقه التاج (ف س خ، ر ب ع).
(6)
ذكره ابن منظور في تاريخه 28/ 106 عن وهب بن منبه.
وهذا القولُ - أعنى قولَ مَن قال: ذهَب عن قومِه مُغاضِبًا لربِّه - أشبهُ بتأويلِ الآيةِ، وذلك لدَلالةِ قولِه:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . على ذلك. على أن الذين وجَّهوا تأويلَ ذلك إلى أنه ذهَب مُغاضِبًا لقومِه، إنما زعَموا أنهم فعَلوا ذلك استنكارًا منهم أن يُغاضِبَ نبيٌّ مِن الأنبياءِ ربَّه، واستعظامًا له. وهم بقيلِهم: إنه ذَهب مُغاضِبًا لقومِه. قد دخَلوا في أعظمَ مما أنْكَروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهَب مُغاضِبًا لربِّه. اخْتَلَفوا في سببِ ذَهابِه كذلك؛ فقال بعضُهم: إنما فعَل ما فعَل من ذلك كراهةَ أن يكونَ بينَ قومٍ قد جرَّبوا عليه الخُلْفَ فيما وعَدَهم، واسْتَحْيا منهم، ولم يَعْلَمِ السببَ الذي دُفِع به عنهم البلاءُ.
وقال بعضُ مَن قال هذا القولَ: كان من أخلاقِ قومِه الذين فارَقَهم قتلُ مَن جرَّبوا عليه الكذب، عسى أن يَقْتُلوه من أجل أنه وعَدَهم العذابَ، فلم يَنْزِلْ بهم ما وعَدَهم مِن ذلك. وقد ذكَرْنا الروايةَ بذلك في سورةِ "يونُسَ"، فكرِهْنا إعادتَها
(1)
في هذا الموضعِ.
وقال آخرون: بل إنما غاضَب ربَّه مِن أجلِ أنه أُمِر بالمصيرِ إلى قومٍ ليُنذِرَهم بأسَه، ويَدْعُوَهم إليه، فسأَل ربَّه أن يُنظِرَه؛ ليَتَأَهَّبَ للشُّخوصِ إليهم، فقيل له: الأمرُ أسرعُ مِن ذلك، ولم يُنظَرْ حتى شاء أن يُنْظَرَ إلى أَن يَأْخُذَ نعلا يَلبَسُها
(2)
، فقيل له نحوُ القولِ الأولِ، وكان رجلًا في خُلُقِهِ ضِيقٌ، فقال: أعْجَلَني ربي أن آخُذَ نعلًا! فذهَب مُغاضِبًا.
وممن ذُكِر هذا القولُ عنه الحسنُ البصريُّ، حدَّثني بذلك الحارثُ، قال: ثنا
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"إعادته". وينظر ما تقدم في 12/ 296.
(2)
في م: "ليلبسها".
الحسنُ بنُ موسى، عن
(1)
أبي هلالٍ، عن شهرِ بن حَوْشَبٍ عنه
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وليس في واحدٍ مِن هذين القولين مِن وصفِ نبيِّ اللهِ يونُسَ عليه السلام شيء إلا وهو دونَ ما في وصفه بما وَصَفه الذين قالوا: ذهَب مُغاضِبًا لقومِه؛ لأن ذَهابَه عن قومِه مُغاضِبًا لهم، وقد أَمَرَه اللهُ تعالى بالمُقامِ بينَ أظهُرِهم؛ ليُبَلِّغهم رسالتَه، ويُحَذِّرهم بأسَه، وعقوبتَه على تركِهم الإيمانَ به والعملَ بطاعتِه - لا شكَّ أن فيه ما فيه، ولولا أنه قد كان عليه السلام أتَى ما قاله الذين وصَفوه بإتيانِ الخطيئةِ، لم يَكُنِ اللهُ تعالى ذِكْرُه لِيُعَاقِبَه العقوبةَ التي ذكَرها في كتابِه، ويَصِفَه بالصفةِ التي وَصَفَه بها، فيقولَ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48]. ويقول: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 142 - 144].
وقولُه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: فظنَّ أن لن نُعاقِبَه بالتَّضيِيقِ عليه. من قولِهم: قدَرْتُ على فلانٍ. إذا ضَيَّقْتَ عليه، كما قال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ
(3)
، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . يقولُ: ظنَّ أن لن يَأْخُذَه العذابُ
(1)
بعده في ت 2: "ابن". وتقدم في 3/ 253.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 12 عن الحارث به. دون ذكر الحسن.
(3)
في ت 1، ت:2: "صبيح"، وفى ف:"صبح".
الذي أصابه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . يقولُ: ظَنَّ أَن لن نَقْضِيَ عليه عُقوبةً ولا بلاءً فيما صنَع بقومِه في غضبِه إذ غضِب عليهم، وفرارِه، وعقوبتُه أخْذُ النونِ إياه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . قال: فظَنَّ أَن لَن نُعَاقِبَه بذنبِه
(3)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقيُّ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ، قال: ثنى شعبةُ، عن مجاهدٍ. ولم يَذْكُرْ فيه الحَكَمَ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . قال: يقولُ: ظَنَّ أَن لن نُعاقِبَه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ والكلبيِّ:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . قالا: ظنَّ أن لن نَقْضِىَ عليه العقوبةَ
(5)
.
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1076) من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تقدم تخريجه في ص 374.
(3)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (1080) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (1079) من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 27 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى ابن أبي حاتم.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . يقولُ: ظَنَّ أَن اللَّهَ لن يَقْضِيَ عليه عُقوبةً ولا بلاءً في غضبه الذي غضِب على قومِه، وفراقه إياهم
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . قال: البلاءُ الذي أصابه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظنَّ أنه يُعْجِزُ ربَّه فلا يَقْدِرُ عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا عوفٌ، عن سعيدِ بن أبى الحسنِ، قال: بلَغَنى أن يونُسَ لما أصاب الذنبَ، انْطَلَقَ مُغاضِبًا لربِّه، واسْتَزَلَّه الشيطانُ، حتى ظنَّ أن لن نَقْدِرَ عليه. قال: وكان له سلفٌ وعبادةٌ وتسبيحٌ، فأبَى اللَّهُ أن يَدَعَه للشيطانِ، فَأَخَذَه فقذَفَه في بطنِ الحوتِ، فمكَث في بطنِ الحوتِ أربعين، مِن بين ليلةٍ ويومٍ، فأَمْسَك اللَّهُ نفسَه فلم يَقْتُلُه هناك، فتاب إلى ربِّه في بطنِ الحوتِ، وراجَع نفسَه. قال: فقال: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . قال: فاسْتَخْرَجه اللَّهُ مِن بطنِ الحوتِ برحمتِه، بما كان سلَف من العبادةِ والتسبيحِ، فجعَله مِن الصالحين. قال عوفٌ: وبلَغَنى أنه قال في دعائِه: وبنَيْتُ لك مسجدًا في مكانٍ لم يَبْنِه أحدٌ قبلى
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا هَوْذَةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} : وكان له سلفٌ مِن عبادةٍ وتسبيحٍ، فتَدارَكه اللَّهُ بها، فلم يَدَعُه
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 361 مختصرًا جدًّا - وفيه: سعيد بن الحسن البصري. وهو سعيد بن أبي الحسن البصرى، أخو الحسن البصرى. ينظر تهذيب الكمال 10/ 385، والبداية والنهاية 2/ 20.
للشيطانِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن عبدِ الرحمنِ بن الحارثِ، عن إياسِ بن مُعاويةَ المَدَنيِّ، أنه كان إذا ذُكِر عندَه يُونُسُ وقولُه:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . يقولُ إياسٌ: فلِمَ فَرَّ؟
وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهامِ، وإنما تأويلُه: أفظَنَّ أَن لن نَقْدِرَ عليه؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . قال: هذا استفهامٌ. وفى قوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} . قال: استفهامٌ أيضًا
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوالِ في تأويلِ ذلك عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: عُنِى به: فظنَّ يونُسُ أن لن نَحْبسَه ونُضَيِّقَ عليه، عقوبةً له على مُغاضبتِه ربَّه.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويلِ الكلمةِ؛ لأنه لا يَجوزُ أَن يُنْسَبَ إلى الكفرِ وقد اخْتارَه لنبوتِه، ووصفُه بأن ظنَّ أن ربَّه يَعْجِزُ عما أراد به، ولا يَقْدِرُ عليه، وصفٌ له بأنه جهِل قدرةَ اللَّهِ، وذلك وصفٌ له بالكفرِ، وغيرُ جائزٍ لأحدٍ وصفُه بذلك.
وأما ما قاله ابن زيدٍ، فإنه قولٌ، لو كان في الكلامِ دليلٌ على أنه استفهامٌ - حسنٌ، ولكنه لا دلالةَ فيه على أن ذلك كذلك، والعربُ لا تَحْذِفُ لا تَحْذِفُ مِن الكلامِ شيئًا
(3)
إليه حاجةٌ إلا وقد أبْقَت دليلًا على أنه مرادٌ في الكلامِ، فإذ لم يكنْ في قولِه:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى أحمد في الزهد وابن المنذر وعبد بن حميد.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 351.
(3)
بعده في ص، ت 1، ف:"له"، وبعده في م:"لهم".
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . دلالةٌ على أن المرادَ به الاستفهامُ - كما قال ابن زيدٍ - كان معلومًا أنه ليس به، وإذ فسَد هذان الوجهان، صحَّ الثالثُ وهو ما قلنا.
وقولُه: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . اخْتَلَفَ أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بهذه الظلماتِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها ظلمةُ الليلِ، وظلمةُ البحرِ، وظلمةُ بطنِ الحوتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ
(1)
، عن إسرائيلُ، [عن أبي إسحاقَ]
(2)
، عن عمرِو بن ميمونٍ:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . قال: ظلمةِ بطنِ الحوتِ، وظلمةِ البحرِ، وظلمةِ الليلِ
(3)
. وكذلك قال أيضًا ابن جُريجٍ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن أبي سلمةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: نادَى في الظلماتِ؛ ظلمةِ الليلِ، وظلمةِ البحرِ، وظلمةِ بطنِ الحوتِ:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
(4)
.
حدَّثني محمدُ بن إبراهيم السُّلَميُّ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبَرنا محمدُ بنُ رِفاعةَ، قال: سمِعْتُ محمدَ بنَ كعبٍ يقولُ في هذه الآيةِ: {فَنَادَى فِي
(1)
بعده في ت 1، ت 2:"عن ابن جريج".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 11/ 541، وابن أبي الدنيا في العقوبات (171)، والمصنف في تاريخه 2/ 15 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، مطولًا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى المصنف.
الظُّلُمَاتِ}. قال: ظلمةِ الليلِ، وظلمةِ البحرِ، وظلمةِ بطنِ الحوتِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . قال: ظلمةِ الليلِ، وظلمةِ البحرِ، وظلمةِ بطنِ الحوتِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . قال: ظلمةِ بطنِ الحوتِ، وظلمةِ البحرِ، وظلمةِ الليلِ
(2)
.
وقال آخرون: إنما عُنِى بذلك أنه نادَى في ظلمةِ جوفِ حوتٍ في جوفِ حوتٍ آخرَ في البحرِ. قالوا: فذلك هو الظلماتُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن سالمِ بن أبي الجَعْدِ:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . قال: أَوْحَى اللَّهُ إلى الحوتِ ألا تَضُرَّ له لحمًا ولا عظمًا. ثم ابْتَلَع الحوتَ حوتٌ آخرُ، قال:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . قال: ظلمةِ الحوتِ
(3)
، ثم حوتٍ، ثم ظلمةِ البحرِ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إِن اللَّهَ أَخْبَر عن يونُسَ أنه ناداه في الظُلماتِ: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . ولا شكَّ أنه قد عنَى بإحدى الظلماتِ بطنَ الحوتِ، وبالأُخرى ظلمةِ البحرِ، وفي
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 333 إلى المصنف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 27 عن معمر به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"حوت".
(4)
أخرجه أحمد في الزهد ص 34 من طريق عبد الرحمن به، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 11/ 543، 544 عن سفيان به.
الثالثةِ اختلافٌ، وجائزٌ أن تكونَ تلك الثالثةُ ظلمةَ الليلِ، وجائزٌ أن تكونَ كونَ الحوتِ في جوفِ حوتٍ آخرَ، ولا دليلَ يَدلُّ على أيِّ ذلك مِن أيٍّ
(1)
، فلا قولَ في ذلك أولى بالحقِّ من التسليمِ لظاهرِ التنزيلِ.
وقولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} . يقولُ: نادَى يُونُسُ بهذا القولِ معترفًا بذنبِه، تائبًا من خطيئتِه:{إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} في معصيتى إياك.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن أبي سلمةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ قال:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، معترفًا بذنبِه، تائبًا من خطيئتِه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال أبو مَعْشَرٍ: قال محمدُ بنُ قيسٍ قولَه: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} : ما صنَعْتُ مِن شيءٍ فلم أَعْبُدُ غيرَك، {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} حينَ عَصَيْتُك.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن عوفٍ الأعرابيِّ، قال: لما صار يونُسُ في بطنِ الحوتِ ظنَّ أَنه قد مات، ثم حرَّك رِجلَيه
(2)
، فلما تحرَّكَت سجَد مكانَه، ثم نادَى: يا ربِّ اتَّخَذْتُ لك مسجدًا في موضعٍ ما اتَّخَذه أحدٌ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، عمَّن حدَّثه، عن
(1)
بعده في ت 2: "قول".
(2)
في م: "رجله".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 361 عن عوف، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة ص 13، وفى العقوبات (178) من طريق جعفر بن سليمان، عن عوف، عن سعيد بن أبي الحسن بمعناه.
عبدِ اللَّهِ بن رافعِ مولى أمِّ سلمةَ زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: سمِعْتُ أبا هريرةَ يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لما أراد اللَّهُ حبْسَ يونُسَ في بطنِ الحوتِ أَوْحَى اللَّهُ إلى الحوتِ أن خُذْه، ولا تَخْدِشْ له لحمًا، ولا تَكْسِرُ عظمًا. فأخَذَه، ثم هوَى به إلى مسكنِه مِن البحر، فلمَّا انتهى به إلى أسفلِ البحرِ، سمِع يونُسُ حِسًّا، فقال في نفسِه: ما هذا؟ قال: فأوْحَى اللَّهُ إليه وهو في بطنِ الحوتِ: إن هذا تسبيحُ دوابِّ البحرِ، قال: فسبِّح وهو في بطنِ الحوتِ، فسمِعَت الملائكةُ تسبيحَه، فقالوا: يا ربَّنا، إنا نَسْمَعُ صوتًا ضعيفًا بأرضٍ غريبةٍ. قال: ذاك عبدى يونُسُ، عصاني فحبَسْتُه في بطنِ الحوتِ في البحرِ. قالوا: العبدُ الصالحُ الذي كان يَصْعَدُ إليك منه في كلِّ يومٍ وليلةٍ عملٌ صالحٌ؟ قال: نعم. قال: فشفَعوا له عندَ ذلك، فأمَر الحوتَ فقذَفه في الساحلِ، كما قال اللَّهُ تبارك وتعالى: {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] "
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فاسْتَجِبْنا ليونُسَ دعاءه إيانا، إذ دَعانا في بطنِ الحوتِ، ونجَّيْناه مِن الغمِّ الذي كان فيه بحَبْسِناه في بطنِ الحوتِ، وغمِّه بخطيئتِه وذنبِه، {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: وكما أنْجَيْنا يونُسَ مِن كربِ الحبسِ في بطنِ الحوتِ في البحرِ إذ دعانا، كذلك نُنْجِى المؤمنين مِن كربِهم إذا اسْتَغاثوا بنا ودَعْونا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك جاء الأثرُ.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 16، وأخرجه البزار في مسنده - كشف (2254) - من طريق محمد بن إسحاق به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرانُ بن بكَّارٍ الكَلَاعيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ صالحٍ، قال: ثنا أبو يحيى بن عبدِ الرحمنِ، قال: ثنى بشرُ بنُ منصورٍ، عن عليّ بن زيدٍ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، قال: سمِعْتُ سعدَ بنَ مالكٍ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "اسمُ اللَّهِ الذي إذا دُعِى به أجاب، وإذا سُئِل به أعْطَى، دعوة يونُسَ بن مَتَّى". قال: فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هي ليونُسَ بن مَتّى خاصةً، أم لجماعةِ المسلمين؟ قال:"هي ليونُسَ بن مَتَّى خاصةً، وللمؤمنين عامةً إذا دَعَوْا بها، ألم تَسْمَعْ قول اللَّهِ تبارك وتعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فهو شرطُ اللَّهِ لمن دعاه بها"
(1)
واخْتَلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} . فقرَأَت ذلك قرأةُ الأمصار، سوى عاصمٍ، بنونين، الثانيةُ منهما ساكنةٌ مِن: أنْجيناه، فنحن نُنْجِيه. وإنما قرءوا ذلك كذلك، وكتابتُه في المصاحفِ بنونٍ واحدةِ؛ لأنه لو قُرِئَ بنونٍ واحدةٍ وتشديد الجيمِ، بمعنى ما لم يُسَمَّ فاعلُه، كان "المؤمنون" رفعًا، وهم في المصاحفِ منصوبون، ولو قُرِئَ بنونٍ واحدةٍ وتخفيفِ الجيمِ، كان الفعلُ للمؤمنين، وكانوا رفعًا، ووجَب مع ذلك أن يكونَ قولُه:"نجى". مكتوبًا بالألفِ؛ لأنه مِن ذواتِ الواوِ، وهو في المصاحفِ بالياءِ.
فإن قال قائلٌ: فكيف كُتب ذلك بنونٍ واحدةٍ، وقد علِمْتَ أن حكمَ ذلك إذا قُرِئَ:{نُنْجِي} . أن يُكْتَبَ بنونين؟ قيل: لأن النونَ الثانيةَ لما سُكِّنَت، وكان
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 363 عن المصنف.
الساكنُ غيرَ ظاهرٍ على اللسانِ، حُذِفَت كما فعلوا ذلك بـ "إلا"، فحذفوا النونَ مِن "إنْ" لخفائِها، إذ كانت مندغمةً في اللامِ مِن "لا". وقرَأ ذلك عاصمٌ:(نُجِّي المؤمنين). بنونٍ، واحدةٍ، وتثقيلِ الجيمِ، وتسكينِ الياءِ
(1)
. فإن يكنُ عاصمٌ وجَّه قراءتَه ذلك إلى قولِ العربِ: ضُرِب الضربُ زيدًا. فكنَى عن المصدرِ الذي هو النَّجاءُ، وجعَل الخبرَ - أَعْنى خبر ما لم يُسَمَّ فاعله - المؤمنين، كأنه أراد: وكذلك نجَى النَّجاءُ
(2)
المؤمنين. فكنَى عن النَّجاءِ - فهو وجهٌ، وإن كان غيرُه أصوبَ، وإلا فإن الذي قرَأ مِن ذلك على ما قرأه، لحنٌ؛ لأن "المؤمنين" اسمٌ على القراءةِ التي قرَأها ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والعربُ تَرْفَعُ ما كان مِن الأسماءِ كذلك، وإنما حمَل عاصمًا على هذه القراءةِ أنه وجَد المصاحفَ بنونٍ واحدةٍ، وكان في قراءتِه إياه على ما عليه قراءةُ القرأَةِ إلحاقُ نونِ أُخرى ليست في المصحفِ، فظنَّ أن ذلك زيادةُ ما ليس في المصحفِ، ولم يَعْرِفْ لحذفِها وجهًا يَصْرِفُه إليه.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القراءةِ التي لا أَسْتَجِيزُ غيرَها في ذلك عندَنا ما عليه قرأةُ الأمصارِ، من قراءتِه بنونين، وتخفيفِ الجيمِ؛ لإجماعِ الحجَّةِ مِن القرأةِ عليها، وتخطئتِها خلافَه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ يا محمدُ زكريا حينَ نادَى ربَّه:
(1)
هي قراءة ابن عامر وأبى بكر عن عاصم. النشر 2/ 243.
(2)
سقط من: م.
(3)
القراءتان متواترتان.
ربِّ لا تَذَرْنى وحيدًا فَرْدًا لا ولدَ لى ولا عَقِبَ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}. يقولُ: فارزُقْنى وارِثًا من آلِ يعقوبَ يَرِثُنى. ثم رَدَّ الأمرَ إلى اللَّهِ فقال: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} .
يقول الله جلَّ ثناؤُه: {فَاسْتَجَبْنَا} لزكريا دُعاءَه، {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} . ولدًا ووارثًا يَرِثُه، {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} .
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى "الصَّلاحِ" الذي عناه الله جلَّ ثناؤُه بقولِه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} ؛ فقال بعضُهم: كانت عَقِيمًا فَأَصْلَحَها بأن جَعَلَها وَلُودًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عُبيد المُحَاربيُّ، قال: ثنا حاتمُ بنُ إسماعيلَ، عن حُميدِ بن صَخْرٍ، عن عمارٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} . قال: كانت لا تَلِدُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ في قولِه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} . قال: وَهَبْنا له ولدَها
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} : كانت عاقرًا، فَجَعَلَها اللَّهُ وَلُودًا، ووَهَب له منها يحيى
(3)
.
وقال آخرون: كانت سيئةَ الخُلُقِ، فأَصْلَحَها اللَّهُ له، بأن رزَقَهَا حُسنَ الخلقِ.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 19/ 53 من طريق حاتم بن إسماعيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يُقالَ: إِن اللَّهَ أَصْلَح لزكريا زوجَه، كما أخْبَر تعالى ذكرُه بأَنْ جعَلها وَلودًا حسنةَ الخُلُقِ؛ لأن كلَّ ذلك مِن معاني إصلاحِه إياها، ولم يَخْصُصِ اللَّهُ جلَّ ثناؤُه بذلك بعضًا دونَ بعضٍ في كتابِه، ولا على لسانِ رسولِه، ولا وضَع على خُصوصِ ذلك دَلالةً، فهو على العُمومِ، ما لم يَأْتِ ما يَجِبُ التسليمُ له بأن ذلك مرادٌ به بعضٌ دونَ بعضٍ.
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} . يقولُ: إن الذين سَمَّيْناهم - يَعْني زكريا وزوجه ويحيى - كانوا يُسارعون
(1)
في طاعتِنا، والعملِ بما يُقَرِّبُهم إلينا.
وقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكانوا يَعْبُدوننا رَغَبًا وَرَهَبًا. وعَنَى بالدعاءِ في هذا الموضعِ العبادةَ، كما قال:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48]. ويعنى بقوله: {رَغَبًا} . أنهم كانوا يَعْبُدونه رغبةً منهم فيما يَرْجون منه مِن رحمتِه وفضلِه، {وَرَهَبًا} . يَعْنى رهبةً منهم مِن عذابِه وعقابِه، بتَرْكِهم عبادتَه، ورُكوبِهم معصيتَه.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} . قال: رغبًا في
(1)
بعده في م، ت 1، ف:"في الخيرات".
رحمةِ اللَّهِ، ورهبًا مِن عذابِ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} . قال: خوفًا وطمعًا. قال: وليس يَنْبَغي لأحدِهما أن يُفارِقَ الآخرَ
(2)
.
واخْتَلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ الأمصارِ: {رَغَبًا وَرَهَبًا} . بفتحِ الغينِ والهاءِ، مِن الرَّغْبِ والرَّهْب. واخْتُلِف عن الأعمشِ في ذلك، فرُوِيَت عنه الموافَقَةُ في ذلك للقرأةِ، ورُوِى عنه أنه قرأَها:(رُغْبًا ورُهْبًا). بضمِّ الراءِ في الحرفين، وتسكينِ الغينِ والهاءِ
(3)
.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ؛ وذلك الفتحُ في الحرفَيْن كليهما.
وقوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . يقولُ: وكانوا لنا مُتَواضِعِين مُتَذَلِّلِين، لا يَسْتَكْبِرون عن عبادتِنا ودعائِنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرِ التي أحْصَنَت فرجَها. يَعْنى مريمَ بنتَ عِمْرانَ. ويَعْنى بقوله: {أَحْصَنَتْ} : حَفِظَتْ ومَنَعَتْ فرجَها مما حَرَّم اللَّهُ عليها إباحتَه فيه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وسقط من مطبوعة الدر لفظها الأثر، فانتقل إلى لفظ الأثر التالى.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور ص 296 (المخطوطة المحمودية) إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
ذكرها القرطبي في تفسيره 11/ 337، وقرأ ابن وثاب والأعمش ورواية عن أبي عمرو بفتح الراء وتسكين الغين والهاء. البحر المحيط 6/ 336.
واختلف في "الفَرْج" الذي عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه أنها أحْصَنَتْه؛ فقال بعضُهم: عنى بذلك فرجَ نَفْسِها؛ أنها حَفِظَتْه مِن الفاحشةِ.
وقال آخرون: عنَى بذلك جَيْبَ دِرْعِها؛ أنها مَنَعَتْ جبريلَ منه قبلَ أن تَعْلَمَ أنه رسولُ ربِّها، وقبل أن تُثْبِتَه مَعْرِفَةً. قالوا: والذي يدُلُّ على ذلك قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا} . ويَعْقُبُ
(1)
ذلك قولَه: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} . قالوا: وكان معلومًا بذلك أن معنى الكلامِ: والتي أحصَنَتْ جَيْبَها
(2)
فنَفَخْنا فيها من رُوحِنا.
قال أبو جعفرٍ: والذي هو أَوْلَى القولَيْن عندَنا بتأويلِ ذلك قولُ مَن قال: أحصنتْ فرجَها مِن الفاحشةِ. لأن ذلك هو الأغْلَبُ مِن مَعْنَيَيْه عليه، والأَظْهَرُ في ظاهرِ الكلامِ.
{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} . يقولُ: فنفحْنا في جيبِ درعِها مِن رُوحِنا. وقد ذكرْنا اختلافَ المُختلِفِين [في معنى قولِه: {فَنَفَخْنَا فِيهَا}]
(3)
.
لو في غيرِ هذا الموضعِ، والأَوْلَى بالصوابِ مِن القولِ في ذلك فيما مضَى، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(4)
.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} . يقولُ: وجَعَلْنا مريمَ وابنَها عِبْرَةً لعالَمى زمانِهما؛ يَعْتَبِرون بهما، ويَتَفَكَّرون في أمرِهما، فيَعْلَمون عظيمَ سُلْطانِنا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يعقبه".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"فرجها".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
ينظر ما تقدم في 15/ 490، 491، ولم ينص المصنف هناك على اختلاف المختلفين، ولا ذَكَر الأولى بالصواب، فلعلَّ ذلك كان مما فسَّره المصنف ثم اختصره.
وقُدْرتِنا على ما نشاءُ. وقيلَ: {آيَةً} . ولم يَقُلْ: "آيتَين". وقد ذكَر آيتين؛ لأن معنى الكلامِ: جعلْناهما عَلَمًا لنا وحُجَّةً. فكلُّ واحدةٍ منهما في معنى الدَّلالة على اللَّهِ، وعلى عظيمِ قُدرتِه، يقومُ مَقامَ الآخَرِ؛ إذ
(1)
كان أمرُهما في الدَّلالةِ على اللَّهِ واحدًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن هذه مِلَّتكم مِلَّةً واحدةً، وأنا ربُّكم أيها الناسُ فاعْبُدونِ دونَ الآلهةِ والأَوثانِ وسائرِ ما تَعْبُدونَ مِن دوني.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . يقولُ: دينُكم دينٌ واحدٌ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: قال مجاهدٌ في قولِه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: دينُكم دينٌ واحدٌ
(2)
.
ونُصِبَتِ {أُمَّةً} الثانيةُ على القَطْعِ. وبالنصبِ قرأَه جماعةُ قرأةِ الأمصارِ، وهو الصوابُ عندَنا؛ لأن {أُمَّةً} الثانيةَ نكرةٌ، والأُولَى مَعْرِفةٌ. وإذ كان ذلك
(1)
في م، ف:"إذا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى المصنف.
كذلك، وكان الخبرُ قبلَ مجيءِ النكرةِ مُسْتَغْنِيًا عنها، كان وجهُ الكلامِ النصبِ، هذا مع إجماعِ الحُجَّةِ مِن القرأةِ عليه. وقد ذُكِر عن عبدِ اللَّهِ بن أَبي إسحاقَ رَفْعُ ذلك أنه قرأَه:(أُمَّةٌ واحدةٌ)
(1)
بنِيَّةِ تكريرِ الكلامِ، كأنه أراد: إنَّ هذه أمَّتُكم هذه
(2)
أمةٌ واحدةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وتَفَرَّق الناسُ في دينهم الذي أمرَهم اللَّهُ به ودَعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابًا، فتَهَوَّدَتِ
(3)
اليهودُ، وتَنَصَّرتِ النصارى، وعُبِدتِ الأوثانُ. ثم أخْبَر جلَّ ثناؤُه عمَّا هم إليه صائرون، وأن مرجعَ جميعِ أهلِ الأديانِ إليه، مُتَوَعِّدًا بذلك أهلَ الزَّيْغِ منهم والضلالِ، ومُعْلِمَهم أنه لهم بالمرصادِ، وأنه مُجازٍ جميعَهم جَزاءَه
(4)
؛ المُحسنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءَتِه.
وبنحوِ الذي قُلْنا في تأويلِ قولِه: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} . قال: تقطَّعوا؛ اختلَفوا في الدينِ
(5)
.
(1)
وهى قراءة الحسن والأشهب العقيلي وأبى حيوة وابن أبي عبلة والجعفى وهارون عن أبي عمرو والزعفراني. البحر المحيط 6/ 337.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
في ص، ت 1، ف:"فهودت".
(4)
في م: "جزاء".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى المصنف.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فمن عمِل مِن هؤلاءِ الذين تفرَّقوا في دينِهم بما أمرَه اللَّهُ به مِن العملِ الصالحِ، وأطاعَه في أمرِه ونهيِه، وهو مُقِرٌّ بوحدانيَّةِ اللَّهِ، مُصدِّقٌ بوعدِه ووعيدِه، مُتَبَرِّئٌ مِن الأندادِ والآلهةِ، {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}. يقولُ: فإن اللَّهَ يَشكُرُ عملَه الذي عمِل له مُطيعًا له، وهو به مؤمنٌ، فيُثِيبُه في الآخرةِ ثوابَه الذي وعَد أهلَ طاعتِه أن يُثِيبَهُموه، ولا يَكْفُرُ ذلك له فيَجْحَدَه ويَحْرِمَه ثوابَه على عملِه الصالحِ، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}. يقولُ: ونحن نَكتُبُ أعمالَه الصالحةَ كلَّها، فلا نَترُكُ منها شيئًا؛ لنَجْزِيَه على صغير ذلك وكبيرِه، وقليلِه وكثيرِه.
قال أبو جعفرٍ: والكُفْرانُ مَصْدرٌ مِن قولِ القائلِ: كَفَرْتُ فُلانًا نِعْمَتَه، فأنا أَكْفُرُه كُفْرًا وكُفْرانًا. ومنه قول الشاعرِ
(1)
:
مِن الناسِ ناسٌ
(2)
ما تَنامُ خُدودُهمْ
…
وخَدِّي ولا كُفْرانَ للَّهِ نائِمُ
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)} .
اخْتَلَفت القرأَةُ في قراءة قوله: {وَحَرَامٌ} ؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ: (وحِرْمٌ). بكسرِ الحاءِ
(3)
.
وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأة أهلِ المدينةِ والبَصْرةِ: {وَحَرَامٌ} ، بفتحِ الحاءِ والألفِ
(4)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قِراءَتانِ مَشْهورتانِ مُتَّفِقَتا المَعْنَى، غيرُ
(1)
مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 42 وجمهرة اللغة 3/ 415 غير منسوب.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
وهى قراءة حمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 431.
(4)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
مُخْتَلِفَتَيْه؛ وذلك أن الحِرْمَ هو الحَرامُ، والحَرامَ هو الحِرْمُ، كما الحِلُّ هو الحَلالُ، والحَلالُ هو الحِلُّ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وكان ابن عباس يَقْرَؤُه: (وحِرْمٌ)
(1)
. بتأويلِ: وعَزمٌ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي المُعَلَّى، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، كان يَقْرَؤُها:(وحِرْمٌ على قريةٍ). قال: فقلتُ لسعيدٍ: أيُّ شيءٍ "حِرْمٌ"؟ قال: عَزْمٌ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن أبي المُعلَّى، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، كان يَقرَؤُها:(وحِرْمٌ على قريةٍ). قلتُ لأبي المُعلَّى: ما الحِرْمُ؟ قال: عَزْمٌ
(3)
عليها.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عِكْرِمةَ، عن ابن عباسٍ أنه كان يَقْرَأُ هذه الآيةَ:(وحِرْمٌ على قريةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهم لا يَرْجِعُون): فلا يَرْجِعُ منهم راجِعٌ، ولا يَتوبٌ منهم تائِبٌ
(4)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، قال:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} . قال: لم يَكُنْ ليَرْجِعَ منهم
(1)
ذكر هذه القراءة عن ابن عباس الفراء في معاني القرآن 2/ 211، وعن ابن عباس أيضًا (حَرْم)، (حُرُم)، (حَرَم)، (حَرِم). ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 95، والمحتسب 2/ 65، والبحر المحيط 6/ 328.
(2)
في ت 1: "يحرم"، وفي ت 2:"حرم".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى المصنف.
(3)
في ت 1: "يحرم"، وفى ت 2:"محرم".
(4)
تفسير سفيان ص 205، وأخرجه البيهقى في شعب الإيمان (7233) من طريق داود به مختصرًا بلفظ: لا يتوبون.
راجعٌ؛ حَرامٌ عليهم ذاك
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا عيسى بنُ فَرْقَدٍ، قال: ثنا جابرٌ الجُعْفيُّ، قال: سألتُ أبا جعفرٍ عن الرَّجْعَةِ، فقرَأ هذه الآيةَ: {وَحَرَامٌ
(2)
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}
(3)
.
فكأن أبا جعفرٍ وجَّه تأويلَ ذلك إلى أنه: وحَرامٌ على أهلِ قريةٍ أَمَتْناهم أن يَرْجِعوا إلى الدنيا.
والقولُ الذي قاله عكرمةُ في ذلك أَوْلَى عندى بالصوابِ؛ وذلك أن اللَّهَ تعالى ذكرُه أَخْبَر عن تفريقِ الناسِ دينَهم الذي بَعَثَ به إليهم الرُّسُلَ، ثم أَخْبَر عن صَنِيعِه بمَن عمِل بما دَعَتْه إليه رسلُه من الإيمانِ به والعملِ بطاعتِه، ثم أتْبَعَ ذلك قولَه: {وَحَرَامٌ
(4)
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. فلأَن يكونَ ذلك خبرًا عن صنيعِه بمَن أبَى إجابةً رسلِه وعمِل بمعصيتِه وكفَر به، أُحْرَى لِيَكُونَ بَيانًا عن حالِ الفِرْقةِ
(5)
الأُخْرَى التي لم تَعْمَلِ الصالحاتِ وكفَرَتْ به.
فإذ
(6)
كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: حرامٌ على أهلِ قريةٍ أَهْلَكْناهم
(7)
بطَبْعِنا على قُلوبِهم، وخَتْمِنا على أسماعِهم وأبصارِهم - إذ صَدُّوا عن سبيلِنا،
(1)
في م: "ذلك". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ت 1، ت 2:"حرم".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 366.
(4)
في ص: "حرم".
(5)
في م: "القرية".
(6)
في م، ف:"فإذا".
(7)
في ت 1، ت 2، ف:"أهلكناها".
وكفَروا بآياتِنا - أن يَتوبوا، ويُراجِعوا الإيمانَ بنا، واتِّباع أمْرِنا والعملَ بطاعتِنا. وإذ كان ذلك تأويلَ قولِ اللَّهِ:(وحِرْمٌ): وعَزْمٌ. على ما قال سعيدٌ، لم تَكُنْ "لا" في قوله:{أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} صِلَةً
(1)
، بل تكونُ بمعنى النَّفْيِ، ويكونُ معنى الكلامِ: وعزمٌ منا على قريةٍ أهْلَكْناها ألا يَرْجِعوا عن كفرِهم. وكذلك إذا كان معنى قوله: (وحِرْمٌ): [ووَجْبَةٌ]
(2)
.
وقد زعَم بعضُهم أنها في هذا الموضعِ صلةٌ، فإن معنى الكلامِ: وحرامٌ على قريةٍ أهْلَكُناها أن يَرجعوا
(3)
. وأهلُ التأويلِ الذين ذَكَرْناهم كانوا أعْلَمَ بمعنى ذلك منه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: حتى إذا فُتح عن يأجوجَ ومأجوجَ - وهما أُمَّتان من الأُمَمِ - رَدْمُهما.
كما حدَّثني عصامُ بنُ رَوَّادِ
(4)
بن الجَرَّاحِ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ الثَّوْرِيُّ، قال: ثنا منصورُ بنُ المُعْتَمِرِ، عن رِبْعِيِّ بن حِراشٍ، قال: سَمِعتُ حُذيفةَ بنَ اليَمَانِ، يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ الآيَاتِ الدَّجَّالُ، ونُزولُ عيسى، ونارٌ تَخْرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنِ أَبْيَنَ
(5)
، تَسوقُ الناسَ إلى المَحْشَرِ، تَقِيلُ
(1)
صلة هنا بمعنى: زائدة. ينظر مصطلحات النحو الكوفي ص 38، 39.
(2)
في م: "نوجبه". ووجب الشيء يجب وجوبًا ووجْبًا ووَجْبةً وجِبةً: لزم وثبت. المعجم الوسيط (و ج ب).
(3)
ينظر المحتسب لابن جنى 2/ 65.
(4)
في النسخ: "داود".
(5)
عدن أبين: مدينة معروفة باليمن، أضيفت إلى أبين رجل من حمير؛ لأنه عدن بها، أي: أقام. ينظر اللسان (ع د ن).
معهم إذا قالوا، والدُّخانُ، والدَّابَّةُ، ثم يأجوجُ ومأجوجُ". قال حُذيفةُ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما يأجوجُ ومأجوجُ؟ قال: "يأجوجُ ومأجوجُ أُمَمٌ؛ كلُّ أُمَّةٍ أربعمائةِ ألْفٍ، لا يموتُ الرَّجُلُ منهم حتى يَرَى أَلفَ عينٍ تُطْرِقُ
(1)
بينَ يَدَيْهِ مِن صُلْبِه، وهم وَلَدُ آدمَ، فيَسيرونَ إلى خَرابِ الدُّنْيا، ويكونُ مُقَدِّمَتُهم بالشام وساقَتُهم بالعراقِ، فيَمُرُّون بأنهارِ الدُّنيا، فيَشْربون الفُراتَ والدِّجْلَةَ وبُحِيرَةَ الطَّبَرِيَّةِ، حتى يَأْتوا بيتَ المَقْدِسِ، فيَقُولُونَ: قد قَتَلْنا أهلَ الدُّنيا، فقاتلوا مَنْ في السماءِ، فيَرْمُون بالنُّشَّابِ إلى السماءِ، فَتَرْجِعُ نُشَّابُهم
(2)
مُخَضَّبَةً بالدَّمِ، فَيَقُولُونَ: قد قَتَلْنا مَن في السماءِ. وعيسى والمسلمون بجَبَلِ طُورِ سِينِينَ، فيُوحِى اللَّهُ جلَّ وعزَّ إلى عيسى: أَن أَحْرِزْ عبادى بالطُّورِ، وما يَلِى أَيْلَةَ
(3)
. ثم إن عيسى يَرْفَعُ يَدَيْهِ
(4)
إلى السماءِ، ويُؤَمِّنُ المسلمون، فيَبْعَثُ الله عليهم دابَّةً يُقالُ لها: النَّغَفُ. تَدْخُلُ مِن مَناخِرِهم، فيُصْبِحونَ مَوْتَى، مِن حاقِّ الشامِ إلى حاقِّ العراقِ
(5)
، حتى تُنْتِنَ الأرضُ مِن جِيَفِهم، ويَأْمُرُ اللَّهُ السماءَ فتُمْطِرُ كأفْواهِ القِرَبِ، فتَغْسِلُ الأَرضَ من جِيَفِهم ونَتْنِهم، فعندَ ذلك طُلوعُ الشمسِ مِن مَغْرِبها"
(6)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرَّبيعِ، عن أبي العاليةِ، قال: إن يأجوجَ ومأجوجَ يَزيدون على سائرِ الإنسِ الضَّعْفَ، وإن الجنَّ يزيدون على
(1)
في م، ت 1:"تطرف".
(2)
النُّشَّاب: السِّهام، واحدته: نُشَّابَة. تاج العروس (ن ش ب).
(3)
أَيْلَة: مدينة على ساحل بحر القُلْزُم - البحر الأحمر الآن - مما يلى الشام. وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام. معجم البلدان 1/ 422.
(4)
في م، ت 2:"رأسه"، وفى ت 1، ف:"راية". والمثبت من ص موافق لما في الدر المنثور.
(5)
يقال: لَقيتُه عند حاقِّ المسجد، وعند حقِّ بابه. أي بقُربه. ينظر تاج العروس (ح ق ق).
(6)
أخرجه أبو عمرو الدانى في السنن الواردة في الفتن (676) من طريق ربعي به مختصرًا نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 337 إلى المصنف.
الإنسِ الضِّعفَ، وإن يأجوجَ ومأجوجَ رَجُلانِ اسمُهما يأجوجُ ومأجوجُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن أبي إسحاقَ، قال: سَمِعتُ وهبَ بن جابرٍ يُحدِّثُ، عن عبد الله بن عمرٍو أنه قال: إن يأجوجَ ومأجوجَ يَمُرُّ أوَّلُهم بنهرٍ مثل دِجْلَةَ، ويمرُّ آخِرُهم فيقولُ: قد كان في هذا مَرَّةً ماءٌ. لا يموتُ رجلٌ منهم إلا ترَك مِن ذُرِّيَّتِه ألفًا فصاعِدًا. وقال: مِن بعدِهم ثلاثُ أُمَمٍ لا يَعْلَمُ عددَهم إلا الله؛ تأويلُ، وتاريسُ، وناسكٌ أو منسكٌ. شَكَّ شعبةُ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن وهبٍ بن جابرٍ الخَيْوَانيِّ، قال: سألتُ عبد اللَّهِ بنَ عمرٍو عن يأجوجَ ومأجوجَ؛ أمِن بني آدم هم؟ قال: نعم، ومن بعدهم ثلاثُ أم لا يعلم عددهم إلا الله؛ تاريسُ، وتاويلُ، ومنسكٌ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا [سهلُ بنُ حَمَّادٍ أبو عَتَّابٍ]
(3)
، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن النُّعمانِ بن سالمٍ، قال: سَمِعتُ نافعَ بنَ جُبيرِ بن مُطْعِمٍ يقولُ: قال عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو: يأجوجُ ومأجوجُ لهم أنهارٌ يَلغُونَ
(4)
ما شاءُوا، ونساء يُجامِعون ما شاءُوا، وشجرٌ
(1)
عزاه السيوطي بنحوه في الدر المنثور 4/ 249 إلى ابن أبي حاتم، وفى لفظه:"يزيدون على الإنس الضعفين وإن الجن يزيدون على الإنس الضعفين".
(2)
أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1656) عن محمد بن جعفر به، وأخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (680)، والحاكم 4/ 490 من طريق شعبة به.
(3)
في ص، ت 1، ف:"سهل بن حاتم أبو عتاب"، وفى ت 2:"إسماعيل بن حاتم أبو أعتات". وينظر تهذيب الكمال 12/ 179.
(4)
في م: "يلقمون"، وفى ت 1، ت 2:"يلقون"، وفى ف:"يلعون".
وولَغ السَّبُعُ والكلبُ، وكلُّ ذى خَطْم في الإناء وفى الشراب، ومنه، وبه، أي: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحرَّكه. ينظر تاج العروس (و ل غ).
يَلْقَمُون ما شاءُوا، ولا يموتُ رجلٌ
(1)
إلا تَرَك مِن ذُرِّيَّتِه ألفًا فصاعدًا
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا [عُبَيدُ اللَّهِ]
(3)
بن موسى، قال: أخْبَرنا زكريا، عن عامرٍ، عن عمرِو بن ميمونٍ، عن عبد اللَّهِ بن سَلَامٍ، قال: ما مات أحدٌ مِن يأجوجَ ومأجوجَ إلا تَرَك ألفَ ذُرَّيٍّ
(4)
فصاعدًا
(5)
.
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المَسْعُوديُّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمش، عن عطيةَ، قال: قال أبو سعيدٍ: يَخرُج يأجوجُ ومأجوجُ فلا يَتْرُكون أحدًا إلا قَتَلوه، إلا أهلَ الحُصونِ، فيَمُرُّون على البُحَيرةِ فيَشْرَبونها، فيَمُرُّ المارُّ فيقولُ: كأنَّه كان ههنا ماءٌ. قال: فيَبْعَثُ اللَّهُ عليهم النَّغَفَ حتى يَكْسِرَ أعناقَهم فيَصِيروا خَبالًا، فيقولُ أهلُ الخصونِ: لقد هَلَك أعداءُ اللَّهِ. فَيُدَلُّون رجلًا ليَنْظُرَ، ويَشْتَرِطُ عليهم إن وَجَدهم أحياءَ أن يَرْفَعُوه، فيَجِدُهم قد هَلَكُوا. قال: فيُنْزِلُ اللَّهُ مَاءً مِن السماءِ، [فيَقْذِفُ بهم]
(6)
في البحرِ، فتَطْهُرُ الأرضُ منهم، ويَغْرِسُ الناسُ بعدَهم الشجرَ والنخلَ، وتُخرِجُ الأرضُ، ثمرتَها كما كانت تُخرجُ في زمنِ يأجوجَ ومأجوجَ
(7)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن
(1)
بعده في ت 2: "منهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 250 إلى المصنف.
(3)
في م، ت 1، ف:"عبد الله".
(4)
في م: "ذرء".
(5)
أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1643) من طريق زكريا به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 250 إلى ابن أبي شيبة.
(6)
في م: "فيقذفهم".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 337 إلى المصنف.
[عُبيدِ اللَّهِ بن أبي يزيدَ]
(1)
، قال: رأى ابن عباسٍ صِبْيانًا يَنْزُو بعضُهم على بعضٍ؛ يَلْعَبون، فقال ابن عباسٍ: هكذا يخرُجُ يأجوجُ ومأجوجُ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحَكَمُ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، قال: بَلَغَنا أن ملِكًا دونَ الرَّدْمِ يَبْعَثُ خَيْلًا كلَّ يومٍ يَحْرُسون الردمَ، لا يَأْمَنُ يأجوجَ ومأجوجَ أن تَخْرُجَ عليهم. قال: فيَسْمَعون جَلَبَةً وأمرًا شديدًا.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَورٍ، عن معمرٍ، عن أبي إسحاقَ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو، قال: ما يموتُ الرجلُ مِن يأجوجَ ومأجوجَ حتى يُولَدَ له مِن صُلْبِه ألفُ رَجُلٍ
(3)
، وإِن مِن وَرَائِهِم لَثَلاثَ أُممٍ ما يَعْلَمُ عددَهم إلا اللَّهُ؛ منسكٌ، وتاويلُ، وتاريسُ
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ، عن عمرٍو البِكاليِّ، قال: إن اللَّهَ جَزَّأ الملائكةَ والإنسَ والجِنَّ عشرةَ أجْزاءٍ؛ فتسعةٌ منهم الكَرُوبِيُّونَ، وهم الملائكةُ الذين يَحْمِلون العرشَ، ثم هم أيضًا الذين يُسَبِّحون الليلَ والنهارَ لا يَفْتُرون. قال: ومَن بَقِيَ مِن الملائكةِ لأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِه ورِسالتِه. ثم جَزَّأ الإنسَ والجنَّ عشرةَ أجزاءٍ؛ فتسعةٌ منهم الجنُّ، لا يُولَدُ مِن الإنسِ وَلَدٌ، إلا وُلِد مِن الجنِّ تسعةٌ. ثم جزَّأ [الإنس على]
(5)
عشرةِ أجزاءٍ؛ فتسعةٌ منهم يأجوجُ
(1)
في ص، ت:"عبيد الله عن أبي يزيد"، وفى ت 1، والدر المنثور:"عبد الله بن أبي يزيد". وهو عبيد الله بن أبى يزيد المكي. ينظر تهذيب الكمال 19/ 178.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 367 عن المصنف.
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه معمر في جامعه (20810) مطولًا، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 92، ونعيم بن حماد في الفتن (1642).
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الجن".
ومأجوجُ، وسائرُ الناسِ
(1)
جُزءٌ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ قولَه:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} . قال: أُمَّتان مِن وَرَاءِ رَدْمِ ذى القَرْنينِ
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَورٍ، عن معمرٍ، عن غيرِ واحدٍ، عن حُميدِ بن هلالٍ، عن أبي الضَّيْفِ
(4)
، قال: قال كعبٌ
(5)
: إذا كان عندَ خروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، حفَروا حتى يَسْمَعَ الذين يَلُونَهم قَرْعَ فُئوسِهم، فإذا كان الليلُ قالوا: نَجيءُ غَدًا فنَخْرُجُ. فيُعيدُها اللَّهُ كما كانت، فيَجِيئون مِن الغدِ، [فيَحْفِرون حتى يَسْمَعَ الذين يَلُونَهم قَرْعَ فُئُوسِهم، فإذا كان الليلُ قالوا: نَجِيءُ غدًا فنَخْرُجُ، فَيَجِيئون مِن الغَدِ]
(6)
، فيَجِدونَه قد أعادَه اللَّهُ كما كان، فيَحْفِرونَه حتى يَسمعَ الذين يَلُونهم قَرْعَ فُئوسِهم، فإذا كان الليلُ ألْقَى اللَّهُ على لسانِ رجلٍ منهم يقولُ: نجيءُ غدًا فنَخْرُج إن شاءَ اللَّهُ. فيَجِيئونَ مِن الغدِ فيَجِدونَه كما ترَكوه، فيَحْفِرونَ ثم يَخْرُجُون، فتَمُرُّ الزُّمْرَةُ الأُولَى بالبُحَيرةِ فيَشْرَبون ماءَها، ثم تمرُّ الزُّمْرةُ الثانيةُ فيَلْحَسون طِينَها، ثم تمرُّ الزُّمرةُ الثالثةُ فيَقولون: قد كان ههنا مرةً ماءً. ويَفِرُّ الناسُ منهم، فلا يقوم لهم شيءٌ، يَرْمون بسهامِهم إلى السماءِ، فتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بالدماءِ، فيقولون: غَلَبْنا أهلَ الأرضِ وأهلَ
(1)
في م: "الإنس".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 28 عن معمر، عن قتادة، عن عامر البكالى، وأخرجه الحاكم 4/ 490 من طريق معدان بن طلحة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن عمرو. نحوه بزيادة في آخره، وكذا عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 249 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عمرو البكالي عن عبد الله بن عمر.
(3)
ينظر ما تقدم تخريجه في 15/ 386، 387.
(4)
في ص: "الصف"، وفى م، ت 2، وتفسير عبد الرزاق:"الصيف". وينظر ترجمته في الكني ص 45، والجرح والتعديل 9/ 369.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"سمعت"، وهو تحريف واضح.
(6)
سقط من: م.
السماءِ. فيَدْعو عليهم عيسى ابن مريمَ، فيقولُ: اللَّهُمَّ لا طاقةَ ولا يَدَيْنِ لنا بهم، فاكْفِناهم بما شِئتَ. فيُسَلِّط الله عليهم دُودًا يُقال له
(1)
: النَّغَفُ. فتَفْرِسُ
(2)
رقابَهم، ويَبْعَثُ اللَّهُ عليهم طَيْرًا، فتَأْخُذُهم بمَناقيرِها
(3)
، فتُلْقيهم في البحرِ، ويَبْعَثُ اللَّهُ عينًا
(4)
يُقالُ لها: الحياةُ. تُطَهِّرُ الأرضَ منهم وتُنْبِتُها، حتى إن الرُّمَّانَةَ ليَشْبَعُ منها السَّكْنُ. قيل: وما السَّكْنُ يا كعبُ؟ قال: أهلُ البيتِ. قال
(5)
: فبَيْنا الناسُ كذلك، إذ أتاهم الصَّرِيخُ أن ذا السُّوَيقَتَين [قد غَزَا البيتَ]
(6)
يُريدُه، فيَبْعَثُ عيسى طَليعةً، سبعمائةٍ أو بينَ السَّبْعِمائة والثمانِمائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعَثَ اللَّهُ رِيحًا يَمَانِيَّةٌ طَيِّبَةً، فَيَقْبِضُ اللَّهُ فيها رُوحَ كلِّ مؤمنٍ، ثم يَبْقَى عَجَاجٌ
(7)
مِن الناسِ يَتَسَافَدُونَ
(8)
كما تَتَسافَدُ البهائمُ، فمَثَلُ الساعةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُطيفُ حولَ فَرَسِهِ، يَنْتَظِرُها متى تَضَعُ، فَمَنْ تَكَلَّف بعدَ قولى هذا شيئًا، أو على هذا شيئًا، فهو المتُكَلِّفُ
(9)
.
حدَّثنا العباسُ بنُ الوليدِ البَيْروتيُّ، قال: أخبَرني أبي، قال: سَمِعتُ ابنَ جابرٍ، قال: ثنى محمدُ
(10)
بنُ جابرٍ الطَّائيُّ، ثم الحِمْصِيُّ، ثنى عبدُ الرحمنِ بنُ جُبيرِ بن نُفيرٍ
(1)
في ص، ت 1:"لها".
(2)
فَرَس فريستَه: دقَّ عُنُقَها. والفَرْس: الكَسْر. وكلُّ قَتْلٍ فَرْسٌ. ينظر تاج العروس (ف ر س).
(3)
في م، ت 1، ف:"بمناقرها".
(4)
العبارة في تفسير عبد الرزاق جاءت هكذا: "غيثا يقال له: الحياة".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قيل".
(6)
سقط من النسخ، وفى الدر المنثور:"أتى البيت" وبمعناه في الفتن لنعيم بن حماد والمثبت من: تفسير عبد الرزاق والسنن الواردة في الفتن.
(7)
العَجاج: رَعَاعُ الناس والغَوْعَاءُ والأراذِلُ ومَن لا خير فيه. تاج العروس (ع ج ج).
(8)
التَّساقُد يُكْنَى به عن الجماعِ. يُنظر تاج العروس (س ف د).
(9)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 28، 29، وأخرجه أبو عمرو الدانى في السنن الواردة في الفتن (679) من طريق حميد به، وأخرجه نعيم حماد في الفتن (1641، 1670) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي الضيف به نحوه.
(10)
كذا في النسخ، والصواب:"يحيى"، كما في مصادر التخريج الآتية. وابن جابر الذي يروى عن يحيى بن جابر الطائي، هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، كما في ترجمته في تهذيب الكمال 5/ 18.
الحَضْرَميُّ، قال: ثنى أبي، أنه سَمِع النَّوَّاسَ بنَ سَمْعَانَ الكِلابيَّ، يقولُ: ذكَر رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَالَ، وذكَر أمرَه، وأنَّ عيسى ابنَ مريمَ يَقْتُلُه. ثم قال: "فبَيْنا
(1)
هو كذلك، أَوْحَى اللَّهُ إليه: يا عيسى، إنى قد أخرجتُ عِبادًا لى [لا يَدَ]
(2)
لأحدٍ بقتالِهم، فحَرِّزْ عبادى إلى الطُّورِ. فيَبْعَثُ اللَّهُ يأجوجَ ومأجوجَ، وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلون، فيَمُرُّ أحدُهم على بُحيرةِ طَبَرِيَّةَ، فيَشْرَبون ما فيها، ثم يَنْزِلُ آخِرُهم، فيقولُ
(3)
: لقد كان بهذه مَرَّةً ماءٌ. فيُحاصَرُ نبيُّ اللَّهِ عيسى وأصحابُه، حتى يكونَ رأسُ الثورِ يومَئذٍ خيرًا لأحدِهم مِن مائةِ دينارٍ لأحدِكم. فيَرْغَبُ نبيُّ اللَّهِ عيسى وأصحابُه إلى اللَّهِ، فيُرْسِلُ اللَّهُ عليهم النَّغَفَ في رِقابِهم، فيُصْبِحون فَرْسَى
(4)
موتِ نفسٍ واحدةٍ، فيَهْبِطُ نبيُّ اللَّهِ عيسى وأصحابُه، فلا يَجِدُون موضعًا إلا وقد ملأَه زَهَمُهم
(5)
ونَتْنُهم ودِماؤُهم، فيَرْغَبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابُه إلى اللَّهِ، فيُرْسِلُ اللَّهُ عليهم طيرًا كأَعْناقِ البُخْتِ
(6)
. فتَحْمِلُهم فتَطْرَحُهم حيثُ شاءَ اللَّهُ، ثم يُرسِلُ اللَّهُ مطرًا لا يُكِنُّ منه بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فيَغْسِلُ الأرضَ حتى يَتْرُكَها كالزَّلْقَةِ
(7)
".
(1)
في ت 1، ت 2:"فبينما". وهو موافق لما في مسلم والترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم والمثبت من ص، م، ف موافق لما في مسند أحمد.
(2)
سقط من: ت 2، وفى ص، ت 1، ف:"لا يدى".
(3)
في ص، م، ت 2، ف:"ثم يقول". والمثبت من ت 1 موافق لما في الترمذي، وفي مسلم وابن ماجه والمستدرك:"فيقولون".
(4)
فَرْسَى: قَتْلَى. جمع فَرِيس. ينظر تاج العروس (ف ر س).
(5)
الزَّهَم بالتحريك: مصدر زَهِمت يدُه تَزْهَمُ؛ من رائحة اللحم. والزُّهْمة بالضم: الريح المُنْتِنَةُ. أراد أن الأرض تُنتن من جيفهم. النهاية 2/ 323.
(6)
البخت: جمَال طِوَال الأعناق. ينظر النهاية 1/ 101.
(7)
في م، ت 1، ومسلم، والترمذى، والمستدرك:"كالزلفة". والمثبت من ص، ت 2، ف موافق لما في مسند أحمد، وابن ماجه. والزلفة بالتحريك، جَمْعُها زَلَفٌ: مصانع الماء. أراد أن المطر يُغدِّر في الأرض - أي يصنع فيها غُدْران ماء. وقيل: الزلفة: المِرْآة. شَبَّهها بها لاستوائها ونظافتها. ويقال بالقاف أيضًا. ينظر النهاية 2/ 309 والحديث أخرجه أحمد 29/ 172 - 175 (17629)، ومسلم (2937)، وأبو داود =
وأمّا قولُه: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . فإن أهلَ التأويلِ اخْتَلَفوا في المعَنِيِّ به؛ فقال بعضُهم: عُنِى بذلك بنو آدمَ أنهم يَخْرُجون مِن كلِّ موضعٍ كانوا دُفِنوا فيه مِن الأرضِ، وإنما عُنِى بذلك الحَشْرُ إلى موقف الناس يومَ القيامةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال: جميعُ
(1)
الناسِ مِن كلِّ مكانٍ جاءُوا منه يومَ القيامةِ، فهو حَدَبٌ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريج:{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال ابن جُريجٍ: قال مجاهدٌ: جميعُ
(3)
الناسِ مِن كلِّ حَدَبٍ؛ مِن مكانِ جاءُوا منه يومَ القيامةِ، فهو حَدَبٌ.
وقال آخرون: بل عَنى بذلك يأجوجَ ومأجوجَ. وقوله: {وَهُمْ} كنايةُ أسمائِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سَلَمَةَ بن
= (4321)، والترمذي (2240)، والنسائي في الكبرى (8024، 10783)، والحاكم 4/ 492 - 494، من طريق ابن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي به، مختصرًا عند أبي داود والنسائي، وأخرجه ابن ماجه (4075) من طريق ابن جابر عن عبد الرحمن بن جبير به، مطولًا، بتمامه.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ف:"جمع".
(2)
تفسير مجاهد ص 474، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 335، 336 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م، ت 1:"جمع".
كُهيلٍ، قال: ثني أبو الزَّعْراءِ، عن عبدِ اللَّهِ أنه قال: يَخْرُج يأجوجَ ومأجوجُ فيَمْرَحون في الأرض فيُفْسِدون فيها. ثم قرَأ عبدُ اللَّهِ: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال: ثم يَبْعَثُ اللَّهُ عليهم دابَّةً مثلَ النَّغَفِ، فتَلِجُ في أسماعِهم ومَناخِرِهم، فيَمُوتون منها، فتُنْتِنُ الأرضُ منهم، فيُرْسِلُ اللَّهُ عز وجل مَاءً فَيُطَهِّرُ الأرضَ منهم
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله الذين قالوا: عَنَى بذلك يأجوجَ ومأجوجَ، وإن قولَه:{وَهُمْ} . كنايةٌ عن أسمائِهم؛ للخبرِ الذي حدَّثنا به ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن عاصمِ بن عمرَ بن
(2)
قتادةَ الأنْصاريِّ، ثم الظَّفَريِّ، عن محمودِ بن لَبِيدٍ أخى بنى عبدِ الأَشْهَلِ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: سَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يُفْتَحُ يأجوجُ ومأجوجُ؛ يَخْرُجون على الناسِ كما قال اللَّهُ: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، فيَغْشَوْن الأرضَ"
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمُ بنُ بَشيرٍ، قال: أخبرنا العَوَّامُ بنُ حَوْشَبٍ، عن جَبَلَةَ بن سُحيمٍ، عن مُؤثِرٍ، وهو ابن عَفَازَةَ العَبْدِيُّ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيما يَذْكُرُ فيما يَذْكُرُ عن عيسى ابن مريمَ، قال: "قال عيسى: عَهِد إليَّ ربِّي أن الدَّجالَ خارِجٌ، وأنه مُهْبِطى إليه. فذكَر أن معه قَضِيبَين، فإذا رآنى أهْلَكَه اللَّهُ. قال: فيَذُوبُ كما يذوبُ الرّصاصُ، حتى إن الشجرَ والحجَرَ لَيَقولُ: يا مسلمُ هذا كافرٌ فاقْتُلْه. فيُهْلِكُهم اللَّهُ تبارك وتعالى، ويَرْجِعُ الناسُ إلى بلادِهم وأوطانِهم، فيَسْتَقْبِلُهم يأجوجُ ومأجوجُ مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون، لا يَأْتُونَ
(1)
جزء من أثر طويل تقدم تخريجه في 3/ 34.
(2)
في النسخ: "عن". والمثبت مما تقدم في 15/ 399، وترجمة عاصم بن عمر بن قتادة، في تهذيب الكمال 13/ 528.
(3)
جزء من أثر طويل تقدم تخريجه في 15/ 400.
على شيءٍ إلا أهْلَكوه، ولا يَمُرُّون على ماءٍ إِلا شَرِبوه"
(1)
.
حدَّثني عُبيدُ بنُ إسماعيلَ الهَبَّاريُّ، قال: ثنا المُحارِبيُّ، عن أَصْبَغَ بن زِيدٍ، عن العَوّامِ بن حَوْشَبٍ، عن جَبَلَةَ بن سُحيمٍ، عن مُؤْثِرِ بن عَفَازَةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(2)
.
وأما قولُه: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} . فإنه يَعْنى: مِن كُلِّ شَرَفِ ونَشَزٍ وأَكَمَةٍ
(3)
.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . يقولُ: مِن كُلِّ شَرَفٍ يُقْبِلون
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال: مِن كُلِّ أَكَمَةٍ
(5)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال: الحَدَبُ الشيءُ المُشْرِفُ.
(1)
تقدم في 15/ 413، 414، بأتمّ من هذا.
(2)
تقدم تخريجه في 15/ 414.
(3)
الشرف: العُلُوُّ والمكان العالى. والنَّشَز: المكان المرتفع من الأرض، والأكمة: التَّلُّ من القُفِّ؛ والقفُّ ما ارتفع من الأرض وغلُظ ولم يبلُغ أن يكون جَبَلًا. ينظر تاج العروس (ن ش ز، ش ر ف، ق ف ف، أ ك م).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 336 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 27 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 336 إلى ابن المنذر.
وقال الشاعرُ
(1)
:
......................
…
على الحِدابِ تَمُورُ
(2)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال: هذا مبتدأُ يومِ القيامةِ
(3)
.
وأما قوله: {يَنْسِلُونَ} . فإنه يَعْنى أنهم يَخْرُجون مُشَاةً مُسْرِعين في مَشْيِهم كنَسلانِ الذِّئبِ، كما قال الشاعرُ
(4)
:
عسَلانَ
(5)
الذِّنْبِ أَمْسَى قارِبًا
(6)
…
بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: حتى إذا فُتِحت يأجوجُ ومأجوجُ واقْتَرب الوَعدُ الحقُّ. وذلك وَعْدُ اللَّهِ الذي وعَد عبادَه أَنَّه يَبْعَثُهم من قبورِهم للجزاءِ والثوابِ والعقابِ، وهو لا شكَّ حقٌّ كما قال جلَّ ثناؤُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
هو الأخطل. وهو جزء من بيت في ديوانه ص 440، وهو بتمامه:
تضحَكُ الضَّبْعُ مِن دماءِ غنيٍّ
…
إذ رأتها على الحداب تمورُ
(2)
تمور: تتحرَّك وتجرى وتجيء وتذهب. اللسان (م و ر).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 336 إلى المصنف.
(4)
هو النابغة الجعدى، والبيت في ديوانه (مجموع) ص 90.
(5)
عَسَل الذئبُ والثعلبُ: مضى مُسرِعا واضطرب في عَدْوِه وهَزَّ رأسه. ينظر اللسان (ع م ل).
(6)
قارب الخطْوَ: داناه، والتقريب: أن يرفع الفَرَس يديه معًا ويضعهما معًا. ينظر اللسان (ق ر ب).
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا عمرٌو، يعني ابنَ قيسٍ، قال: ثنا حذيفةُ: لو أن رجلًا افْتَلَى فُلُوًّا
(1)
بعدَ خروجِ يأجوجَ ومأجوجَ لم يَرْكَبْه حتى تقومَ القيامةُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} . قال: اقتَرَب يومُ القيامةِ منهم
(3)
.
والواوُ في قولِه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} . مُقْحَمةٌ، ومعنى الكلامِ: حتى إذا فُتِحت يأجوجُ ومأجوجُ اقْتَرَب الوعدُ الحقُّ. وذلك نظيرُ قولِه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103، 104]. معناه: نادَيْناه. بغيرِ واوٍ، كما قال امْرُؤُ القيسِ
(4)
:
فلمَّا أَجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى
…
بِنا بَطنُ خَبْتٍ دَى حِقافٍ عَقَنْقَلِ
(5)
يريدُ: فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ انْتَحَى بنا.
وقولُه: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . ففى "هي" التي في قوله: {فَإِذَا هِيَ} . وجهان؛ أحدهما: أن تكونَ كنايةً عن الأبصارِ، وتكونَ
(1)
فَلَا الصبى والمُهر والجحش وأفلاه وافتلاه: عزله عن الرضاع وفَصَله. والفَلُوُّ والفُلُوُّ والفَلْوُ: الجحش والمُهر إذا فطم.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 355. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 338 إلى المصنف. كلاهما بلفظ: اقتنى فلوًّا.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 338 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
ديوانه ص 15.
(5)
الخبت: ما اتسع من بطون الأرض. والحقاف جمع حِقْف، والحقف من الرمل: المعوج. والعقنقل: الكثيب العظيم المتداخل الرمل. اللسان (خ ب ت، ح ق ف، ع ق ل).
الأبصارُ الظاهرة بيانًا عنها، كما قال الشاعرُ
(1)
:
لَعَمْرُ أبيها لا تَقولُ ظَعِينَتى
…
ألا فَرَّ عَنِّي مالكُ بنُ أبي كَعب
فكَنَّى عن الظَّعينةِ في: لَعَمْرُ أبيها. ثم أظْهَرَها. فيكونُ تأويلُ الكلامِ حينئذٍ: فإذا الأبصارُ شاخصةٌ أبصارُ الذين كَفَروا.
والثاني: أن تكونَ عمادًا، كما قال جلّ ثناؤه:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]. وكقولِ الشاعرِ
(2)
:
* فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بما هَاهُنا رَاسُ *
وقوله: {يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . يقول تعالى ذِكرُه: فإذا أبصارُ الذين كَفَروا قد شَخَصَت عند مَجيءِ الوعيدِ
(3)
الحقِّ بأهوالِه، وقيامِ الساعةِ بحقائقِها، وهم يقولون:{يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا} قبلَ هذا الوقتِ في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} الذي نَرَى ونُعاينُ، ونزَل بنا من عظيمِ البلاءِ. وفي الكلامِ متروكٌ تُرِك ذِكْرُه استغناءً بدلالةِ ما ذُكِر عليه عنه، وذلك "يقولون"، مِن قوله:{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يقولون: {يَاوَيْلَنَا} .
وقوله: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} . يقولُ مُخبِرًا عن قيل الذين كَفَروا باللَّهِ يومَئِذٍ: ما كُنَّا نعمل لهذا اليوم ما يُنْجِينا من شدائده، بل كُنَّا ظالمين بمعْصِيَتِنا ربَّنا، وطاعَتِنا إبليسَ وجُندَه في عبادةِ غيرِ اللَّهِ عز وجل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} .
(1)
هو مالك بن أبي كعب، كما في الأغاني 16/ 234، وهو في معاني القرآن للفراء 2/ 212 غير منسوب.
(2)
شطر بيت من ثلاثة أبيات تقدمت في 2/ 215.
(3)
في م: "الوعد".
يقولُ تعالى ذكره: إنَّكم أيُّها المُشرِكون باللَّهِ، العابِدُون من دونِه الأوثانَ والأصنامَ، وما تَعْبُدون من دونِ اللهِ مِنَ الآلهةِ.
كما حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . يعنى: الآلهةَ ومَن يَعْبُدُها
(1)
.
{حَصَبُ جَهَنَّمَ} . وأمَّا حَصَبُ جَهَنَّمَ؛ فقال بعضُهم: معناه: وقودُ جَهَنَّمَ وشَجَرُها.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قال: شَجَرُ جَهَنَّمَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . يقولُ: وقُودُها
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: حَطَبُ جَهَنَّمَ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، [وحدَّثني الحارثُ، قال: حدَّثني الحسنُ، قال: حدَّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قال: حَطَبُها
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ. وزاد فيه: وفى بعضِ القراءةِ: (حَطَبُ جَهَنَّمَ). يعنى: في قراءةِ عائشةَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قال: حَطَبُ جَهَنَّمَ يُقْذَفون فيها
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن الحُرِّ، عن عكرمةَ في قولِه:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قال: حَطَبُ جَهَنَّمَ
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنَّهم يُرْمَى بهم في جَهَنَّمَ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضَّحاكَ يقولُ في قولِه: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} . يقولُ: إن جَهَنَّمَ إنما تُحصَبُ بهم، وهو الرَّميُ. يقولُ: يُرْمَى بهم فيها (2).
واختُلِف في قراءةِ ذلك؛ فقَرَأْتُه قَرَأَةُ الأمصارِ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} . بالصادِ، وكذلك القِراءةُ عندَنا؛ لإجماعِ الحُجَّةِ عليه.
ورُوِى عن عليٍّ وعائشةَ أنَّهما كانا يَقْرَآن ذلك: (حَطَبُ جَهَنَّمَ). بالطاءِ
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 474، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 30 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه عنهما الفراء في معاني القرآن 2/ 212، وينظر مختصر الشواذ لابن خالويه.
ورُوِى عن ابن عباسٍ أنَّه قرأَه: (حَضَبُ). بالضادِ.
حدَّثنا بذلك أحمد بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ محمدٍ، عن عثمانَ بن عبدِ اللَّهِ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ أنَّه قرَأَها كذلك
(1)
.
وكأنَّ ابن عباس - إن كان قرَأ ذلك كذلك - أرَاد أنَّهم الذين تُسَجَّرُ بهم، جَهَنَّمُ، ويُوقَدُ بهم فيها النارُ؛ وذلك أنَّ كلَّ ما هُيِّجَت به النارُ وأُوقِدَت به فهو عندَ العربِ حَضَبٌ
(2)
لها.
فإذا كان الصوابُ من القراءةِ في ذلك ما ذَكَرْنا، وكان المعروفُ من معنى الحَصَبِ عندَ العربِ الرَّمْيَ، مِن قولِهم: حَصَبْتُ الرجلَ. إذا رَمَيْتَه، كما قال جلَّ ثناؤُه:{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34]. كان الأَوْلَى بتأويلِ ذلك قولُ مَن قال: معناه أنَّهم تُقْذَفُ جَهَنَّمُ بهم، ويُرْمَى بهم فيها.
وقد ذُكر أنَّ الحَصَبَ في لغةِ أهلِ اليمنِ الحَطَبُ. فإن يَكُنْ ذلك كذلك، فهو أيضًا وجهٌ صحيحٌ. وأمَّا ما قلنا من أن معناه الرَّمْيُ، فإِنَّه في لغةِ أهلِ نجدٍ.
وأما قولُه: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . فإنَّ معناه: أنتم عليها أيُّها الناسُ، أو إليها، {وَارِدُونَ}. يقولُ: داخِلُون.
وقد بيَّنتُ معنَى "الورودِ" فيما مضَى قبلُ بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه لهؤلاء المشركين الذين وصَف صفتَهم أَنَّهم {مَا يَأْتِيهِم مَّن
(1)
أخرجه الفراء في معاني القرآن 2/ 212 بإسناده عن ابن عباس.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"حصب".
(3)
ينظر ما تقدم في 15/ 590 وما بعدها.
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2]، وهم مشرِكو قريشٍ: أنتم أيُّها المشرِكون وما تَعْبُدون مِن دونِ اللَّهِ وارِدو جَهَنَّمَ، ولو كان ما تَعْبُدون من دونِ اللَّهِ آلهةً ما وَرَدُوها، بل كانت تَمْنَعُ من أراد أن يُورِدَكُمُوها؛ إذ كنتم لها في الدنيا عابدين، ولكنها إذ كانت لا نَفْعَ عندها لأنفُسِها، ولا عندَها دفعُ ضرٍّ عنها، فهى مِن أن يكونَ ذلك عندَها لغيرِها أبعدُ، ومَن كان كذلك كان بَيِّنًا بُعْدُه مِن الأُلوهَةِ، وأنَّ الإلهَ هو الذي يَقْدِرُ على ما يشاء، ولا يَقْدِرُ عليه شيءٌ، فأمَّا من كان مَقْدُورًا عليه، فغيرُ جائزٍ أن يكونَ إلهًا.
وقوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} . يعنى الآلهة ومَن عبَدها، أنَّهم ماكِثون في النارِ أبدًا بغير نهايةٍ. وإنَّما معنَى الكلامِ: كلُّكم فيها خالِدُون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} . قال: الآلهةُ التي عبَد القومُ. قال: العابدُ والمَعْبودُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} .
يعنى تعالى ذِكرُه بقولِه: {لَهُمْ} . المشرِكين وآلهتَهم.
والهاءُ والميمُ في قولِه: {لَهُمْ} . من ذِكرِ {وَكُلٌّ} التي في قولِه: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: لِكُلِّهم في جَهَنَّمَ زفيرٌ، {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}. يقولُ: وهم في النارِ لا يَسْمَعون.
وكان ابن مسعودٍ يتأوَّلُ في قولِه: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} . ما حدَّثنا
القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن المسعودِيِّ، عن يونسَ بن خَبَّابٍ، قال: قرَأ ابن مسعودٍ هذه الآيةَ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} . قال: إذا أُلقِىَ في النارِ مَن يُخلَّدُ فيها جُعِلوا في توابيتَ من نارٍ، ثم جُعِلت تلك التوابيتُ في توابيتَ أُخْرى، ثم جُعِلت التوابيتُ في توابيتَ أُخرى فيها مساميرُ من نارٍ، فلا يَرَى أحدٌ منهم أن في النارِ أحدًا يُعذَّبُ غيرَه. ثم قرَأ:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}
(1)
.
وأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . فإنَّ أهلَ التأويلِ اختَلَفوا في المعنيِّ به؛ فقال بعضُهم: عنَى به كلَّ مَن سبَقَت له من اللَّهِ السعادةُ مِن خَلْقِه أنَّه عن النارِ مُبعَدٌ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن يوسفَ بن سعدٍ وليس بابنِ ماهِكَ، عن محمدِ بن حاطبٍ، قال: سمِعتُ عليًّا يخطُبُ فقرَأ هذه الآيةَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . قال: عثمانُ رضي الله عنه مِنهم
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (103)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 372 - وهو في تفسير مجاهد ص 475 - ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور (656) - من طريق المسعودي به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (9087) من طريق يونس بن خباب عمن حدثه، عن ابن مسعود به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/ 51، 52، وأحمد في فضائل الصحابة (771)، وابن أبي عاصم في السنة (1216)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 373 - وابن عساكر في تاريخ دمشق 46/ 471 (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق) من طريق شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس به. ووقع في تفسير ابن أبي حاتم وتاريخ دمشق:"يوسف المكي". وهو يوسف بن ماهك ووقع في المصنف والسنة: "يوسف بن ماهك". وكلاهما يوسف بن سعد الجمحي ويوسف بن ماهك المكي من طبقة واحدة. تنظر ترجمتاهما في تهذيب الكمال 32/ 426، 451.
وقال آخرون: بل عنَى مَن عُبِد مِن دونِ اللَّهِ، وهو للَّهِ طائعٌ، ولعبادةِ مَن يَعبُدُه كارِهٌ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . قال: عيسى، وعُزَيرٌ، والملائكةُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال ابن جُرَيج قولَه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : ثم اسْتَثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} .
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسينِ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ والحسنِ البصريِّ، قالا: قال في سورةِ "الأنبياءِ": {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} . ثم اسْتَثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . فقد عُبِدت الملائكةُ مِن دونِ اللَّهِ، وعُزَيرٌ، وعيسى، من دونِ اللَّهِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ:
(1)
تفسير مجاهد ص 475.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف.
{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . قال: عيسى
(1)
.
حدَّثني إسماعيلُ بنُ سَيفٍ، قال: ثنا عليُّ بنُ مُسْهِرٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} . قال: عيسى، وأمُّه، وعُزَيرٌ، والملائكةُ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: جلس رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنى، يومًا مع الوليدِ بن المُغيرةِ [في المسجد]
(2)
، فجاء النَّضْرُ بن الحارثِ حتى جلَس معهم، وفى المجلسِ غيرُ واحدٍ من رجال قريشٍ، فتَكلَّم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَض له النَّضْرُ بنُ الحارثِ، وكلَّمه رسولُ اللَّهِ حتى أفْحَمه
(3)
، ثم تلا عليه وعليهم:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} . إلى قوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} . ثم قام رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأقبَل عبدُ اللَّهِ بنُ الزِّبَعْرَى بن قيسِ بن عديٍّ السَّهْميُّ، حتى جلَس، فقال الوليدُ بن المغيرةِ لعبدِ اللَّهِ بن الزِّبَعْرَى: واللَّهِ ما قام النَّصْرُ بنُ الحارثِ لابن عبد المطلبِ آنفًا وما قعَد، وقد زعَم أنَّا وما نَعبُدُ من آلهتِنا هذه حصَبُ جَهَنَّمَ. فقال عبدُ اللَّهِ بن الزِّبَعْرَى: أمَا واللَّهِ لو وجَدتُه لخَصَمْتُه، فسلوا محمدًا: أكُلُّ مَن عُبد مِن دونِ اللَّهِ في جَهَنَّمَ مع مَن عَبَدَه؟ فنحن نعبدُ الملائكةَ، واليهودُ تعبدُ عُزَيرًا، والنَّصارى تعبدُ المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ. فعجِب الوليدُ بنُ المغيرةِ ومَن كان في المجلِسِ مِن قولِ عبدِ اللَّهِ بن الزِّبَعْرَى، [ورَأَوا أنه قد خاصم واحتَجَّ، فذُكِر ذلك لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن قولِ ابن الزِّبَعْرَى]
(4)
، فقال
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 374.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ت 2، ف:"ألجمه".
(4)
سقط من: م.
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَم، كلُّ مَن أَحَبَّ أن يُعبَدَ مِن دونِ اللَّهِ فهو مع مَن عَبَدَه، إنما يَعبُدون الشياطينَ ومَن أَمَرَتْهم
(1)
بعبادتِه". فأنزَل اللَّهُ عليه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إلى: {خَالِدُونَ} . أي: عيسى ابن مريمَ، وعُزيرٌ، ومَن عُبِدوا من الأحبارِ والرُّهبانِ الذين مَضَوا على طاعةِ اللَّهِ، فاتَّخَذهم مَنْ بعدَهم من أهلِ الضلالةِ أربابًا مِن دونِ اللَّهِ، فأنزَل اللَّهُ فيما ذكَروا أنَّهم يَعْبُدون الملائكةَ، وأنَّها بناتُ اللَّهِ:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} إلى قولِه: {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ قال: يقولُ ناسٌ مِن الناسِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} : يعنى مِن الناسِ أجمعين. فليس كذلك، إنَّما يعنِي مَن يُعْبَدُ مِن
(3)
الآلهةِ وهو للَّهِ مطيعٌ؛ مثلَ عيسى وأمِّه، وعُزَيْرٍ، والملائكةِ، واسْتَثْنى اللَّهُ هؤلاءِ مِن
(3)
الآلهةِ المعبودةِ التي هي ومَن يَعبُدُها في النارِ
(4)
.
حدَّثنا ابن سِنانٍ القزَّازُ، قال: ثنا الحسنُ بن الحسينِ الأشْقَرُ، قال: ثنا أبو كُدَينةَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لمّا نزَلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . قال المشركون: فإنَّ عيسى يُعبَدُ، وعُزَيرٌ، والشمسُ، والقمرُ يُعبدون! فأنزل اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا
(1)
في م: "أمرهم".
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 358 - 360.
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف.
مُبْعَدُونَ}؛ لعيسى وغيرِه
(1)
.
وأولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عنَى بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ما كان مِن مَعبودٍ كان المشركون يَعبُدُونه، والمعبودُ للَّهِ مطيعٌ، وعابِدُوه بعبادتِهم إياه باللَّهِ كفارٌ؛ لأن قولَه تعالى ذِكرُه:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} . ابتداءُ كلامٍ مُحقِّقٍ لأمرٍ كان يُنْكِرُه قومٌ، على نحو الذي ذكَرْنا
(2)
الخبرَ عن ابن عباسٍ، فكأنَّ المشركين قالوا لنبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذ قال لهم:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} : ما الأمرُ كما تقولُ؛ لأنَّا نَعْبُدُ الملائكةَ، ويعبدُ آخرون المسيحَ وعُزَيرًا. فقال اللَّهُ جَلَّ وعزَّ رادًّا
(3)
عليهم قولَهم: بل ذلك كذلك، وليس الذين سبَقت لهم مِنَّا الحُسْنى، هم عنها مُبْعَدون؛ لأنَّهم غيرُ مَعْنِيِّين بقولنا:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} .
فأمَّا قولُ الذين قالوا: ذلك استثناءٌ مِن قولِه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . فقولٌ لا معنَى له؛ لأنَّ الاستثناءَ إنَّما هو إخراجُ المستَثْنَى مِن المستَثنَى منه، ولا شكَّ أنَّ الذين سبَقت لهم [من اللَّهِ]
(4)
الحُسْنَى إِنَّما هم؛ إمّا ملائكةٌ، وإمّا إنسٌ، أو جانٌّ، وكلُّ هؤلاءِ إذا ذكَرَتْها العربُ فإنَّ أكثَر ما تذكُرُها بـ "من"، لا بـ "ما"، واللَّهُ تعالى ذِكرُه إنَّما ذكَر المعبودين الذين أخبَر أنَّهم حَصَبُ جَهنم بـ "ما" قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
(1)
ذِكرُه ابن كثير في تفسيره 5/ 375 عن أبي كدينة به.
(2)
بعده في م: "في".
(3)
في م: "رداء".
(4)
في ص، م:"منا".
جَهَنَّمَ}. إنَّما أُرِيد به ما كانوا يَعْبُدونه من الأصنامِ والآلهةِ مِن الحجارةِ والخشبِ، لا مَن كان مِن الملائكةِ والإنسِ. فإذ
(1)
كان ذلك كذلك لِما وصَفْنا، فقولُه:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} . جوابٌ من اللَّهِ للقائلين ما ذكَرْنا مِن المشركين، مبتدأٌ.
وأما "الحُسنى" فإنها الفُعْلَى من الحُسنِ، وإنما عنَى بها السعادةَ السابقةَ مِن اللَّهِ لهم.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} . قال: الحُسنى السعادةُ. وقال: سبَقت السعادةُ لأهلِها مِن اللَّهِ، وسبَق الشَّقاءُ لأهلِه مِنَ اللَّهِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: لا يَسْمَعُ هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحُسنى حَسِيسَ النارِ. ويعنى بالحَسيسِ: الصوتَ والحِسَّ.
فإن قال قائلٌ: فكيف لا يسمَعون حسيسَها، وقد علِمتَ ما رُوِى مِن أن جَهَنَّمَ يُؤتَى بها يومَ القيامةِ فَتَزْفِرُ زَفْرَةً، لا يبقى مَلكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرسلٌ إلا جَثا على رُكبتَيه خوفًا مِنها
(3)
؟
قيل: إن الحالَ التي لا يسمَعون فيها حسيسَها هي غيرُ تلك الحالِ، بل هي
(1)
في م: "فإذا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف وابن مردويه وابن أبي حاتم.
(3)
أثر مروى عن كعب الأحبار في مصنف ابن أبي شيبة 13/ 151، وصفة النار لابن أبي الدنيا (175)، والبعث والنشور (479)، وحلية الأولياء 5/ 369، 373.
الحالُ التي حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} . يقولُ: لا يسمعُ أهلُ الجنةِ حَسيسَ النارِ إذا نزَلوا منزِلَهم مِن الجنةِ
(1)
.
وقولَه: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} . يقولُ: وهم فيما تَشْتَهيه نفوسُهم من نعيمِها ولذَّاتِها ماكِثون فيها، لا يخافون زَوالًا عنها، ولا انْتِقالًا عنها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في "الفَزَعِ الأكبر"؛ أيُّ الفَزَعِ هو؟ فقال بعضُهم: ذلك النارُ إذا أَطبَقتْ على أهلِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} . قال: النارُ إذا أَطبَقتْ على أهلِها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ قوله: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} . قال: حينَ تُطْبِقُ
(3)
جَهَنَّمُ. وقال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 339 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، ت 2:"تنطبق".
حينَ ذَبْحِ الموتِ
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك النفخةُ الآخرةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} . يعنى النفخةَ الآخِرةَ
(2)
.
وقال آخرون: بل ذلك حينَ يُؤمَرُ بالعَبْدِ إلى النارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن رجلٍ، عن الحسنِ:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} . قال: انصرافُ العبدِ حِينَ يُؤْمَرُ به إلى النارِ
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: ذلك عند النفخةِ الآخرةِ؛ وذلك أن مَن لم يَحْزُنُه ذلك الفزعُ
(3)
وأمِن منه، فهو مما بعدَه أَحْرَى ألا يَفْزَعَ، وأنّ أَنَّ أَحْرَى مَن أَفْزَعه ذلك فغيرُ مأمونٍ عليه الفزعُ مما بعدَه.
وقوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} . يقولُ: وتَستقبِلُهم الملائكةُ يُهنِّئونهم يقولون
(4)
: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فيه الكرامةُ مِن اللَّهِ، والحِباءُ
(5)
، والجزيلُ مِن الثوابِ، على ما كنتم تَنْصَبون في الدنيا للَّهِ في طاعتِه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في م: "الأكبر".
(4)
بعده في ص، ت 1:"لهم".
(5)
الحباء: العطاء. اللسان (ح ب و).
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال ابن زيدٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} . قال: هذا قبلَ أن يدخُلوا الجنةَ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ
(2)
كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: لا يَحزُنُهم الفزعُ الأكبرُ يومَ نَطوى السماءَ. فـ {يَوْمَ} من صلة {يَحْزُنُهُمُ} .
واختَلَف أهلُ التأويلِ في معنى "السجلِّ" الذي ذِكرُه اللَّهُ في هذا الموضِعِ؛ فقال بعضُهم: هو اسمُ مَلَكِ من الملائكةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، قال: ثنا أبو الوفاءِ الأشجعيُّ، عن أبيه، عن ابن عمرَ في قولِه:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . قال: السِّجِلُّ مَلَكٌ، فإذا صُعِد بالاستغفارِ قال: اكْتُبْها نورًا
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، قال: سمعتُ السديَّ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . قال: السَّجِلُ مَلَكٌ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"للكتاب". وهما قراءتان كما سيأتي في ص 426، وسنثبتها فيما يأتي كرسم مصحفنا دون إشارة إلى ما في النسخ.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 377 - من طريق أبي كريب محمد بن العلاء به.
(4)
تفسير سفيان ص 206، وأخرجه البخارى في التاريخ الكبير 1/ 433 من طريق ابن السدي عن السدي، وعزاه الحافظ في الفتح 8/ 437 إلى ابن المنذر، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى ابن أبي حاتم.
وقال آخرون: السِّجِلُّ رجلٌ كان يكتُبُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا نوحُ بنُ قيسٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابن عباسٍ في هذه الآيةِ:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . قال: كان ابن عباسٍ يقولُ: هو الرجلُ
(1)
.
قال: ثنا نوحُ بنُ قيسٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ كعبٍ، عن عمرِو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابن عباسٍ، قال: السِّجِلُّ كاتبٌ كان
(2)
لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقال آخرون: بل هو الصَّحيفةُ التي يُكتَبُ فيها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 377 - وابن عساكر في تاريخ دمشق 4/ 332 من طريق نصر بن علي به، وأخرجه النسائي في الكبرى (11336) من طريق نوح بن قيس به، وأخرجه ابن مردويه - كما في تغليق التعليق 4/ 259 - من طريق عمرو بن مالك به، وزاد: بلغة الحبش.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"يكتب".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 378 - وابن عساكر في تاريخ دمشق 4/ 332 من طريق نصر بن علي به، وأخرجه أبو داود (2935)، والنسائى في الكبرى (11335)، والبيهقى 10/ 126 من طريق نوح بن قيس به، والعقيلي في الضعفاء 4/ 420، والطبراني (12790)، وابن عدى في الكامل 7/ 2662، والبيهقى 10/ 126 من طريق عمرو بن مالك به، وقد ضعفه بعض الحفاظ، وصرح جماعة منهم بوضعه، وخالفهم الحافظ ابن حجر فصححه بمجموع طرقه. ينظر الإصابة 3/ 33، 34، وتفسير ابن كثير 5/ 378، والبداية والنهاية 8/ 339 - 342.
قولَه: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . يقولُ: كطَيِّ الصحيفةِ على الكتابِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . يقولُ: كَطَيِّ الصُّحفِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: السِّجِلُّ الصَّحيفةُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . قال: السِّجِلُ الصَّحيفةُ.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندَنا بالصوابِ قولُ مَن قال: السِّجِلُّ في هذا الموضِعِ الصَّحيفةُ؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ في كلامِ العربِ، ولا نعرفُ
(4)
لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم كاتبًا
(5)
كان اسمه السِّجِلَّ، ولا في الملائكةِ مَلَكًا
(6)
ذلك اسمُه.
فإن قال قائلٌ: وكيف تَطوِى
(7)
الصَّحيفةُ الكتابَ
(8)
إن كان السِّجِلُّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وينظر الفتح 8/ 437، والبداية 8/ 437.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 378، وفى البداية والنهاية 8/ 341 عن العوفي عن ابن عباس.
(3)
تفسير مجاهد ص 475، وأخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 259 - من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في م، ت 1، ت 2:"يعرف".
(5)
في م: "كاتب".
(6)
في م: "ملك".
(7)
في م، ف:"نطوى".
(8)
في م: "بالكتاب".
صحيفةً؟ قيل: ليس المعنى [في ذلك]
(1)
، وإنما معناه: يومَ نطوِى السماءَ [كما يُطوَى]
(2)
السِّجِلُّ على ما فيه مِن الكتابِ. ثم جُعِل (نطوِى) مصدرًا، فقيل:(كَطَيِّ السِّجِلِّ للكتابِ). واللامُ في قولِه: (للكتابِ). بمعنى: علَى.
واختَلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامَّةُ قرَأةِ الأمصارِ سوى أبى جعفرٍ القارئِ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} بالنونِ. وقرَأ ذلك أبو جعفرٍ: (يَوْم تُطْوَى
(3)
السَّمَاءُ) بالتاءِ
(4)
وضمِّها على وجْهِ ما لم يُسمَّ فاعلُه
(5)
.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ بالنونِ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرَأةِ عليه، وشذوذِ ما خالَفَه.
وأما "السِّجِلُّ" فإنه في قراءةِ [جميعِهم بتشديدِ اللامِ، وأما "الكتابُ"، فإنّ قرأةَ]
(6)
أهلِ المدينةِ وبعضَ أهلِ الكوفةِ والبصرةِ قرَءوه بالتوحيدِ: (كطَيِّ السِّجِلِّ للكتابِ)
(7)
. وقرأ ذلك عامَّةُ قرأةِ الكوفةِ: {لِلْكُتُبِ} على الجماعِ
(8)
.
وأولى القراءتين عندَنا في ذلك بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه على التوحيدِ (للكتاب)؛ لِما ذكَرْنا مِن معناه، فإن المرادَ منه: كطَيِّ السجلِّ على ما فيه مكتوبٌ.
(1)
في م، ف:"كذلك".
(2)
في م: "كطي".
(3)
في ص، ت 2، ف:"يطوى".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"بالياء".
(5)
ينظر النشر 2/ 243.
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة لابن مجاهد ص 431.
(8)
وهى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
فلا وجْهَ إذ كان ذلك معناه بجمع
(1)
الكُتُبِ إِلَّا وجْهٌ يبعُدُ
(2)
مِن معروفِ كلامِ العرب.
وعند قوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ} انقضاءُ الخبرِ عن صلَةِ قولِه: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} . ثم ابتَدَأ الخبرَ عمَّا اللَّهُ فاعلٌ بخَلْقِه يومَئذٍ، وقال تعالى ذِكْرُه:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . فالكافُ التي في قولِه: {كَمَا} من صلةِ "نعيد"
(3)
تقَدَّمت قبلَها. ومعنى الكلامِ: نعيدُ الخلقَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا يومَ القيامةِ، كما بدَأْناهم أوّلَ مرَّةٍ في حالِ خَلْقِناهم في بطونِ أمَّهاتِهم. على اختلافٍ من أهلِ التأويلِ في تأويلِ ذلك.
وبالذي قُلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهلِ التأويلِ، وبه الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك اختَرتُ القولَ به على غيرِه.
ذكرُ من قال ذلك والأثرِ الذي جاء فيه
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . قال: حفاةً عُراةً غُرْلًا
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . قال: حُفَاةً غُلفًا.
(1)
في م: "لجميع".
(2)
في م: "نتبعه"، وفى ت 1:"نبعه"، وفى ت 2:"بنعمه".
(3)
في م: "نعيده".
(4)
تفسير مجاهد ص 475، ومن طريقه ابن أبى شيبة 14/ 120 به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال ابن جُرَيجٍ: أخبَرني إبراهيمُ بنُ ميسرةَ أنَّه سمِع مجاهدًا يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإحدَى نسائِه: "يأْتُونَه
(1)
حُفاةً عُراةً غُلَفًا". فَاسْتَتَرتْ بكُمِّ دِرْعِها وقالت: وَاسَوأَتاه! قال ابن جُرَيجٍ: أُخبِرتُ أَنَّها عائشةُ، قالت: يا نبيَّ اللَّهِ، [ولا يَحتَشِمُ]
(2)
الناسُ بعضُهم بعضًا! قال: "لكلِّ امْرئٍ يومئذٍ شأنٌ يُغنِيه".
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثني المغيرةُ بن النعمانِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُحشَرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً غُرلًا، فأولُ مَن يُكْسَى إبراهيمُ". ثم قرَأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا سفيانُ، عن المغيرةِ بن النعمانِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قام
(4)
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمَوعظةٍ. فذكَر نحوَه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن المغيرةِ بن النعمانِ
(5)
، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قام فينا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَه
(3)
.
(1)
في ت 1: "تأتونه".
(2)
في م: "لا يحتشم"، وفي ت 1:"ويحتشم"، وفي ت 2:"ولو يحتشم"، وفى ف:"والله لا يحتشم".
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 147.
(4)
بعده في م: "فينا".
(5)
بعده في م، ف:"النخعي".
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ عن شعبةَ، قال: ثنا المغيرةُ بنُ النعمانِ النَّخَعيُّ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ نحوَه
(1)
.
حدَّثنا عيسى بنُ يوسفَ بن الطَّبَّاعِ أبو يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: سمِعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ، فقال:"إنكم مُلاقو اللَّهِ مُشَاةً غُرْلًا"
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن عائشةَ، [قالت: دخَل علَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعندى عجوزٌ مِن بني عامرٍ، فقال:"مَن هذه العجوزُ يا عائشةُ؟ "]
(3)
. فقلتُ: إحْدَى خالاتي. فقالت: ادعُ اللَّهَ أن يُدخِلَني الجنةَ. فقال: "إِنَّ الجَنَّةَ لا يدخُلُها العُجُرُ
(4)
". قالت: فأَخَذ العجوزَ ما أَخَذها. فقال: "إن اللَّهَ يُنْشِئُهِنَّ خَلْقًا غيرَ خَلْقِهِنَّ". ثم قال: "تُحْشَرون
(5)
حُفاةً عُرَاةً غُلْفًا". فقالت: حاشَ للَّهِ مِن ذلك. قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بلى، إنَّ اللَّهَ قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} إلى آخرِ الآيةِ. فأوَّلُ مَن يُكسَى إبراهيمُ خليلُ اللَّهِ"
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارة الأسديُّ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 517، 13/ 247، وأحمد 4/ 9 (2096)، ومسلم (2860/ 58)، والنسائي 4/ 117 (2086) من طريق وكيع به.
(2)
أخرجه الحميدي (483)، وابن أبي شيبة 13/ 246، وأحمد 3/ 395 (1913)، والبخاري (6524، 6520)، ومسلم (57/ 2860)، والنسائى 4/ 114 (2080)، وأبو يعلى (2396) من طريق سفيان بن عيينة به.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
في م: "العجزة".
(5)
في م، ت 2، ف:"يحشرون".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف.
أبي إسحاقَ، عن عطاءٍ
(1)
، عن عقبةَ بن عامرٍ الجُهَنيِّ، قال: يُجمَعُ الناسُ في صعيدٍ واحدٍ يَنْفُذُهم البصرُ، ويُسمِعُهم الدَّاعى، حُفاةً عُراةً كما خُلِقوا أَوّلَ يومٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى عبّادُ بنُ العَوَّامِ، عن هلالِ بن حبَّابٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: يُحشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً مُشاةً غُرْلًا. قلتُ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، ما الغُرْلُ؟ قال: الغُلْفُ. فقال بعضُ أزواجِه: يا رسولَ اللَّهِ، أينظُرُ بعضُنا إلى بعضٍ؛ إلى عورتِه؟ فقال: "لكلِّ امْرئٍ منهم يومئذٍ
(3)
ما يشغَلُه عن
(4)
النَّظر إلى عورةِ أخيه". قال هلالٌ: قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]. قال: كيومَ ولَدتْه أمُّه، يُرَدُّ
(5)
عليه كلُّ شيءٍ انتُقِص منه مثلَ يومَ وُلِد
(6)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كما كُنَّا ولا شيء غيرُنا قبلَ أن نَخُلقَ شيئًا، كذلك نُهْلِكُ الأشياءَ، فنعيدُها فانيةً حتى لا يكونَ شيءٌ
(7)
سوانا.
(1)
كذا في النسخ، ولعل صوابها:"عن ابن عطاء" لما سيأتي.
(2)
في ت 2: "مرة". وهو جزء من حديث طويل أخرجه الحاكم 2/ 398، 399، وأبو نعيم في الحلية 2/ 9، والبيهقي في الشعب (3246) من طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة مرفوعًا.
وللحديث قصة مشهورة تنظر في ضعفاء العقيلي 2/ 192، والمجروحين لابن حبان 1/ 28، 29، والكامل لابن عدى 4/ 1354، والحلية لأبي نعيم 7/ 148.
(3)
بعده في ت 1، ف:"شأن يغنيه".
(4)
سقط من: ف.
(5)
في ت 2: "يريد".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 8/ 349 - والنسائى في الكبرى (11647)، والطبراني (12439)، والحاكم 2/ 251، 252 من طريق هلال بن خباب به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه الترمذى (3332) من طريق هلال بن خباب عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا، وقال: حديث حسن صحيح، قد روى من غير وجه عن ابن عباس، رواه سعيد بن جبير أيضًا.
(7)
في ت 2: "شيئًا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية. يقولُ: يُهْلِكُ كُلَّ شيءٍ كما كان أوّلَ مرَّةٍ
(1)
.
وقولُه: {وَعْدًا عَلَيْنَا} . يقولُ: وعَدْناكم ذلك وعدًا حقًّا علينا أن نوفِّىَ بما وعَدْنا، إنَّا كُنا فاعِلى
(2)
ما وعَدْناكم من ذلك أيُّها الناسُ؛ لأنه قد سبَقَ في حكمِنا وقضائِنا أن نفعلَه، على يقينٍ بأنَّ ذلك كائنٌ، فاستعِدُّوا
(3)
وتأهَّبوا.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بـ "الزَّبورِ" و "الذكرِ" في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بالزَّبورِ كتبُ الأنبياءِ كلُّها التي أنزَلها اللَّهُ عليهم، وعُنِى بالذكرِ أمُّ الكتابِ التي عندَه في السماءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عيسى بنُ عثمانَ بن عيسى الرمْليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، قال: سألتُ سعيدًا عن قولِ اللَّهِ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} . قال: الذكرِ الذي في السماءِ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 340 إلى المصنف.
(2)
في ص، ت 2، ت 1:"فاعلوا".
(3)
في ص، م، ف:"واستعدوا"، وفي ت 1:"واسعدوا".
(4)
تفسير سفيان ص 206 عن الأعمش به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عيسى بنُ يونسَ، عن الأعمشِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ}
(1)
. قال: الزّبور التوراةُ والإنجيلُ والقرآنُ، {مِنْ بَعْدِ الذِّكْر}. قال: الذكرِ الذي في السماءِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني والحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الزَّبُورِ} . قال: الكتابِ، {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}. قال: أمِّ الكتابِ عندَ اللَّهِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الزَّبُورِ} . قال: الكتبِ
(4)
، {بَعْدِ الذِّكْر}. قال: أمِّ الكتابِ عندَ اللَّهِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} . [قال: الزبورُ]
(5)
الكتبُ التي أُنزِلت على الأنبياءِ. والذكرُ أمُّ الكتاب الذي يُكتبُ فيه الأشياءُ قبلَ ذلك
(6)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن سعيدٍ في قولِه: {وَلَقَدْ
(1)
بعده في ص: "قال قرأها الأعمش الزبور"، وفى م:"قال قرأها الأعمش الزبر"، وفي ت 1:"من بعد الذكر قال قرأها الأعمش الزبور"، وفي ف:"من بعد الذكر قال قرأها الأعمش الزبر".
(2)
تفسير سفيان ص 206 عن الأعمش به، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 555، وهناد في الزهد 1/ 123. (160) من طريق الأعمش، به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى عبد بن حميدٍ.
(3)
تفسير مجاهد ص 476، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى عبد بن حميدٍ.
(4)
في م، ف:"الكتاب".
(5)
سقط من: ت 1، ت 2، ف، وبعده في ت 2:"و".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}. قال: كتَبنا في القرآنِ من بعدِ التوراةِ.
وقال آخرون: بل عُنى بالزَّبورِ الكتبُ التي أنزَلها اللَّهُ على مَنْ بعدَ موسى من الأنبياءِ، وبالذكرِ التوراةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الآية.
قال: الذكرُ التوراةُ، والزبورُ الكتبُ
(1)
.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الآية، قال: الذكرُ: التوراةُ، ويعنى بـ:{الزَّبُورِ} من بعدِ التوراةِ الكتبَ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنى بالزَّبورِ زَبورُ داودَ، وبالذكرِ تَوراةُ موسى صلى اللَّهُ عليهما.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} . قال: زبورُ داودَ، {مِنْ بَعْدِ الذِّكْر}: ذكر موسى؛ التوراةِ
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 587 من طريق داود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن داودَ، عن الشعبيِّ أنَّه قال في هذه الآيةِ:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر} . قال: في زبورِ داودَ مِن بعدِ ذكرِ موسى
(1)
.
وأولى هذه الأقوال عندى بالصوابِ في ذلك ما قاله سعيدُ بن جُبيرٍ ومجاهدٌ، ومَن قال بقولِهما في ذلك من أنَّ معناه: ولقد كتَبنا في الكُتُبِ مِن بعدِ أمِّ الكتابِ الذي كتَب اللَّهُ كلَّ ما هو كائنٌ فيه قبلَ خلقِ السماواتِ والأرضِ. وذلك أن الزبورَ هو الكتابُ، يقالُ منه: زَبَرْتُ الكتابَ، وذَبَرْتُه. إذا كتَبتَه، وأَنَّ كلَّ كتابٍ أَنْزَلَه اللَّهُ إلى نبيٍّ من أنبيائِه فهو ذِكْرٌ. فإذ كان ذلك كذلك، فإن في إدخالِه الألفَ واللامَ في "الذِّكرِ" الدَّلالةَ البينةَ أنَّه معْنيٌّ
(2)
به ذكرٌ بعينِه معلومٌ عندَ المخاطَبين بالآيةِ، ولو كان ذلك غيرَ أمِّ الكتابِ التي ذكَرْنا، لم تكُنِ التوراةُ بأَوْلى مِن أن تكونَ المعنيةَ بذلك مِن صُحُفِ إبراهيمَ، فقد كانت
(3)
قبلَ زَبورِ داودَ.
فتأويلُ الكلامِ إذن، إذ كان ذلك كما وصَفْنا: ولقد قضَيْنا فَأَثْبَتْنا قضاءَنا في الكُتُبِ مِن بعدِ أمِّ الكتابِ، {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. يعني بذلك: أن أرضَ الجنةِ يرِثُها عبادِىَ العامِلُون
(4)
بطاعتِه، المُنتَهون إلى أمرِه ونهيِه مِن عبادِه، دونَ العاملين
(5)
بمعصيتِه منهم، المُؤثِرين طاعةَ الشيطانِ على طاعتِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الهلاليُّ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: ثنا
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 555 عن محمد بن أبى عدى به.
(2)
في ت 1، ف:"يعن".
(3)
في م، ت 2، ف:"كان".
(4)
في ت 2: "العالمون".
(5)
في النسخ: "العاملون".
إسرائيلُ، عن أبي يحيى القَتَّاتِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: أَرضَ الجنةِ
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: أخبَر سبحانه في التوراةِ والزَّبورِ وسابقِ عِلْمِه قبلَ أن تكونَ السماواتُ والأرضُ، أن يُورثَ أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم الأرضَ، ويُدخِلَهم الجنةَ، وهم الصَّالحون
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِه:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: كتَبْنا في القرآنِ بعدَ التوراةِ، و "الأرضُ" أرضُ الجنةِ
(3)
.
حدَّثني عليُّ بن سهلٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ:{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: الأرضَ
(4)
الجنةَ
(5)
.
حدَّثني عيسى بنُ عثمانَ بن عيسى الرَّمْليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، قال: سألتُ سعيدًا عن قولِ اللَّهِ: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: أَرضَ الجنةِ
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف والفريابي وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 287 من طريق منصور به.
(4)
في ف: "أرض".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 380.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{أَنَّ الْأَرْضَ} . قال: أَرضَ
(1)
الجنةِ {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: الجنةَ. وقرَأ قولَ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]. قال: فالجنةُ مُبتَدؤُها في الأرضِ، ثم تَذهَبُ دَرَجًا عُلُوًّا
(3)
، والنارُ مُبتَدؤُها في الأرضِ، وبينهما حجابٌ، سورٌ ما يَدْرِى أحدٌ ما
(4)
ذاك السورُ. وقرَأ: {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
(5)
الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]. قال: ودَرَجُها تَذْهَبُ
(6)
سَفَالًا في الأرض، ودَرَجُ الجنةِ تَذْهَبُ
(6)
عُلُوًّا في السماواتِ
(7)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عوفٍ، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا صفوانُ: سألتُ عامرَ بنَ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(2)
تفسير مجاهد ص 476، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م: "درجات".
(4)
بعده في ت 2: "مبتدأ".
(5)
في ت 1: "في".
(6)
في ت 1، ت 2، ف:"يذهب".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
عبدِ اللَّهِ أبا اليمانِ: [هل أنفُس]
(1)
المؤمنين تَجْتَمِعُ
(2)
؟ قال: فقال: إن الأرضَ التي يقولُ اللَّهُ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . قال: هي الأرضُ التي تجتمِعُ إليها أرواحُ المؤمنين حتى يكونَ البعثُ
(3)
.
وقال آخرون: هي الأرضُ يورثها اللَّهُ المؤمنين في الدنيا.
وقال آخرون: عُنى بذلك بنو إسرائيلَ؛ وذلك أن اللَّهَ وعدهم ذلك فوفَّى
(4)
لهم به. واستشهَد لقولِه ذلك بقولِ اللَّهِ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137].
وقد ذكرنا قول من قال: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} : إنها أرضُ الأممِ الكافرةِ ترِثُها أمَّةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وهو قولُ ابن عباسٍ الذي روَى [عنه عليُّ]
(5)
بن أبي طلحة.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} .
يقول تعالى ذِكرُه: إن في هذا القرآنِ الذي أنزَلْناه على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم لبلاغًا لمَن عبَد اللَّهَ بما فيه مِن الفرائضِ التي فرَضها اللَّهُ إلى رِضوانِه، وإدراكِ الطَّلِبة عندَه وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ص، ت 1:"هلا نفس".
(2)
في ص، ت 2:"مجتمع"، وفي ت 1:"بمجتمع".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
(4)
في ت 2: "يوفى".
(5)
سقط من: ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن الجُرَيْرِيِّ، عن أبي الوردِ بن ثُمامةَ، عن أبي محمدٍ الحضرميِّ، قال: ثنا كعبٌ في هذا المسجدِ، قال: والذي نفسُ كعبٍ بيدِه: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} : إنَّهم لأهلُ، أو أصحابُ، الصلواتِ الخمسِ، سمَّاهم الله عابدين
(1)
.
حدَّثنا الحسينُ بنُ يزيدَ الطَّحانُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن سعيدِ بن إياسٍ الجُرَيْرِيِّ، عن أبي الوردِ، عن كعبٍ في قولِه:{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} . [قال: صومُ شهرِ رمضانَ، وصلاةُ الخمسِ. قال: هي ملءُ اليدَين والنحرِ
(2)
عبادةً
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا محمدُ بنُ الحسينِ، عن الجُرَيْرِيِّ، قال: قال كعبُ الأحبارِ: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} ]
(4)
: لأمَّةِ محمدٍ
(5)
.
(1)
أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (347، 348) من طريق الجريري به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 5/ 384 مطولًا من طريق الجريرى عن أبي الورد بن ثمامة، عن كعب بدون ذكر أبي محمد الحضرمي، وأخرجه أيضًا في 6/ 30 من طريق الجريري عن كعب بدون ذكر أبي الورد وأبي محمد الحضرمي، وينظر ما تقدم في 12/ 612.
(2)
في النسخ: "البحر"، ولعل الصواب ما أثبت، ينظر تعظيم قدر الصلاة 1/ 349،348 الأثر (349) عن ابن المسيب.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 386 من طريق الجريري به مختصرًا، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 30 من طريق أبى العلاء، عن كعب بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف مختصرًا.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} . يقول: عالمين
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيجٍ قوله:{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} . قال: يقولون: إنَّ
(2)
في هذه السورة لبلاغًا
(3)
. ويقولُ آخرون: في القرآنِ تنزيل لفرائض
(4)
الصلوات الخمسِ؛ مَن أدَّاها كان بلاغًا، {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}. قال: عالمين
(5)
.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} . قال: إن في هذا لمنفعةً وعِلمًا لقومٍ عابدين، ذاك البلاغُ
(6)
.
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد إلى خَلْقِنا إلا رحمةً لمن أرسلناك إليه مِن خَلْقى.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية؛ أجميع العالم الذين
(7)
أُرسل إليهم محمد أريد بها، مؤمنهم وكافرهم؟ أم أُريد بها أهل الإيمان خاصةً دون أهل الكفرِ؟ فقال بعضُهم: عُنى بها جميعُ العالم؛ المؤمنُ والكافرُ.
(1)
في م: "عاملين". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الفرائض".
(5)
في م: "عاملين".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341 إلى المصنف.
(7)
في م، ت 2، ف:"الذي".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني إسحاقُ بن شاهينٍ، قال: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرقُ، عن المسعودى، عن رجل يقال له: سعيد، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس في قول الله في كتابه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . قال: مَن آمَن بالله واليومِ الآخرِ كُتِب له الرحمة في الدُّنيا والآخرةِ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عُوفِيَ مما أصاب الأمَم من الخسفِ والقَذْفِ
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن المسعوديِّ، عن أبي سعيد
(2)
، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . قال: تمَّتِ الرحمة لمن آمن به في الدُّنيا والآخرة، ومَن لم يُؤمن به عُوفِىَ مما أصاب الأمَم قبلُ
(3)
.
وقال آخرون: بل أُريدَ بها أهل الإيمانِ دونَ أهل الكفرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 382 عن المصنف، وأخرجه الطبراني (12358) من طريق المسعودى عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير به، وأخرجه البيهقى في الدلائل 5/ 486 من طريق المسعودى عن سعيد، يعنى ابن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير به، وأخرجه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان 3/ 160، والضياء في المختارة 10/ 397 - 399 من طريق المسعودى عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير به، وصرح الضياء بأن أبا سنان هو ضرار بن مرة الشيباني، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 341/ 342 إلى ابن مردويه، وينظر تفسير مجاهد ص 476.
(2)
كذا في النسخ، ولعل صوابها:"سعد"، وهو أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان، وينظر مصدر التخريج: وتهذيب الكمال 11/ 52.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 382 - من طريق المسعودي عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. قال: العالَمون من آمن به وصدَّقه. وقال: {وَإِن أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111] قال: [فهو لهؤلاء]
(1)
فتنةٌ ولهؤلاء رحمةٌ، وقد جاء الأمرُ مجملًا. {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. والعالمون هاهُنا: مَن آمَن به وصدقه وأطاعه
(2)
.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ القولُ الذي رُوى عن ابن عباسٍ، وهو أن الله أرسّل نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالمين
(3)
، مؤمنهم وكافرهم؛ فأَمَّا مؤمنهم فإن الله هداه به وأدخَله بالإيمانِ به وبالعمل بما جاء به
(4)
من عند الله، الجنةَ، وأما كافرهم فإنه دفع عنه به عاجل البلاء الذي كان ينزلُ بالأممِ المكذِّبةِ رسلها من قبلِه.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ما يُوحِي إلى ربِّي إِلَّا أَنَّه لا إلهَ لكم يجوز أن يُعبد إلَّا إلهٌ واحدٌ، لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغى ذلك لغيرِه، {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}. يقولُ: فهل أنتم مذعنون له أيُّها المشركون العابدون الأوثانَ والأصنام، بالخضوع بذلك
(5)
، ومُتبرَّئون من عبادة ما دونه من آلهتكم؟
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)} .
(1)
في ت 2: "فهؤلاء".
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 359 وينظر تفسير القرطبي 11/ 350.
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"العالم".
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
في م، ف:"لذلك".
يقول تعالى ذكرُه: فإن أدبَرَ هؤلاء المشركون يا محمد عن الإقرار بالإيمان بأن لا إلهَ لهم إلَّا إلهٌ واحدٌ، فأعْرَضوا عنه وأبَوا الإجابةَ إليه، فقُل لهم: قد {آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} . يقول: أعلمهم أنَّك وهم على علمٍ من أن بعضكم لبعض حربٌ، لا صلحَ بينكم ولا سِلْمَ.
وإنما عنَى بذلك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قُريش، كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قولَه:{فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} : فإن تولَّوا: يعنى قريشًا.
وقوله: {وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} . يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه: قلْ: وما أدرى متى الوقتُ الذي يَحِلُّ بكم عقاب الله الذي وعدكم، فينتقِمَ به منكم؛ أقريبٌ نزوله بكم أم بعيدٌ؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيجٍ:{وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} . قال: الأجلُ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين: إن الله يعلم الجهرَ الذي تجهرون به من القولِ، ويعلمُ ما تُخفُونه فلا تجهَرون به، سواء عندَه خَفِيُّه وظاهرُه، وسرُّه وعلانيته، إنَّه لا يخفى عليه منه شيء، فإن أخَّر عنكم عقابَه على ما
تُخفون
(1)
مِنَ الشَّركِ به، أو تَجَهَرون به.
فما أدْرِى ما السبب الذي من أجله يؤخِّرُ ذلك عنكم؟ لعلَّ تأخيره ذلك عنكم مع وَعْدِه إيَّاكم؛ لفتنةٍ يريدها بكم، ولِتَمتَّعوا
(2)
بحياتكم إلى أجل قد جعله لكم تبلغونه، ثم يُنزِلُ بكم حينئذٍ نقمته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاءٍ الخراساني، عن ابن عباس:{وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . يقول: لعلّ ما [أقرِّبُ لكم]
(3)
من العذابِ والساعة أن يؤخَّرَ عنكم لمدتِكم، ومتاعٌ إلى حينٍ، [فيصيرَ قولى ذلك لكم فتنةً]
(4)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} .
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد: يا ربِّ افْصِلْ بينى وبينَ مَن كَذَّبَني مِن مُشرِكى قومى وكفر بك، وعبد غيرك، بإحلالِ عذابك ونقْمِتك بهم. وذلك هو الحقُّ الذي أمر الله تعالى ذكره نبيه أن يسألَ ربَّه الحكم به، وهو نظير قوله جلَّ ثناؤه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ]
(5)
} [الأعراف: 89].
(1)
في ت 1: "تخفونه".
(2)
في ت 1، ف:"لتمتعوا"، وفى ت 2:"تتمتعوا".
(3)
في ت 2: "اقترب إليكم"، وفى الدر المنثور:"أخبركم به".
(4)
سقط من: ت 1.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 342 إلى المصنف وابن أبي حاتم إلى قوله: لمدتكم.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال ابن عباس: {قَالَ رَبَّ احْكُم بِالْحَقِّ} . قال: لا يحكم بالحقِّ إلا الله، ولكن أنَّما استعجَل بذلك في الدُّنيا؛ [يسألُ ربَّه]
(1)
على قومه
(2)
.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمرٍ، عن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شَهِد قتالًا قال:{رَبَّ احْكُم بِالْحَقِّ}
(3)
.
واختلَفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأةِ الأمصار: (قُلْ رَبِّ احْكُمْ) بكسرِ الباء، ووصل الألف؛ ألفِ "احكُمْ"، على وجهِ الدعاء والمسألةِ
(4)
، سوى أبي جعفر، فإنَّه ضمَّ الباء من الربِّ على وجه نداء المفردِ، وغير الضحاكِ بن مزاحمٍ، فإنَّه رُوى عنه أنَّه كان يقرأُ ذلك:(رَبِّي أَحْكَمُ)
(5)
على وجه الخبر بأنَّ اللَّهَ أَحْكَمُ بالحقِّ مِن كلِّ حاكمٍ، فيُثبت الياءَ في الربِّ، ويهمرُ الألفَ مِن "أَحْكَمُ"، ويرفعُ "أحْكَمُ" على أنَّه خبرٌ للرب تبارك وتعالى.
والصوابُ مِن القراءةِ عندَنا في ذلك، وَصْلُ الباءِ مِن الربِّ وكسرها
(1)
في ص، ت:1: "يسأل به"، وفى ت:2: "فسيل به"، وفى ف:"نسل به"، والمثبت موافق لما في الدر المنثور.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 342 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 30 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 342 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
روى حفص عن عاصم: (قال). وقرأ الباقون (قل). وقرأ أبو جعفر: (ربُّ). وقرأ الباقون: (ربِّ). النشر 2/ 244.
(5)
وهى قراءة ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن. البحر المحيط 6/ 345.
بـ "احْكُمْ"، وترك قطع الألفِ مِن "احْكُمْ"، على ما عليه قرأةُ الأمصار؛ لإجماع الحجَّة من القرأة عليه، وشذوذ ما خالفه. وأما الضحاك فإنَّ في القراءةِ التي ذُكِرت عنه زيادةَ حرفٍ على خطِّ المصاحفِ، ولا ينبغى أن يُزادَ ذلك فيها مع صحة معنى القراءة بتَرك زيادته. وقد زعم بعضُهم أن معنى قوله:{رَبِّ احْكم [بِالحَقِّ} : قل: ربِّ احْكُم]
(1)
بحكمِكَ الحَقِّ. ثم حذف "الحكمُ" الذي "الحقُّ" نعت له، وأُقيم "الحقُّ" مُقامَه، ولذلك وجهٌ، غير أنَّ الذي قُلناه أوضحُ وأَشْبَهُ بما قاله أهل التأويل؛ فلذلك اخترناه.
وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . يقول جل ثناؤه: قل يا محمد: وربُّنا الذي يرحم عبادَه، وتَعُمُّهم نِعَمُه
(2)
، الذي أستَعِينُه
(3)
عليكم فيما تقولون وتصفون، من قولكم لي فيما أتيتُكم به من عندِ اللَّهِ {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السَّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ" [الأنبياء: 3]. وقولكم: {افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]. وفى كذبِكم على الله جل ثناؤه وقيلكم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26]. فإنَّه هَيِّنٌ عليه تغييرُ
(4)
ذلك، وفصل ما بينى وبينكم بتعجيل العقوبة لكم على ما تصفون من ذلك.
[آخر تفسير "سورة الأنبياء" عليهم السلام]
(5)
(1)
سقط من ت 2، ف، وفى ص، ت 1:"قل رب احكم".
(2)
في م: "بنعمته"، وفى ت 1، ت 2، ف:"أنعمه".
(3)
في ص: "استعنته".
(4)
في ت 2: "يعتبر"، وفى ت 1، ف:"بغير".
(5)
في ص: "آخر تفسير سورة الأنبياء صلوات الله عليهم يتلوه تفسير سورة الحج والحمد لله رب العالمين"، وفى ت 1:"والله سبحانه وتعالى أعلم آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتلوه تفسير سورة الحج إن شاء الله تعالى والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وحسبنا الله ونعم الوكيل".
تفسيرُ سورة "الحج"
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
(2)}.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيُّها الناسُ احْذَروا عقاب ربِّكم بطاعته، فأَطِيعوه ولا تعصُوه، فإنّ عقابه لمن عاقبه يومَ القيامة شديدٌ. ثم وصف جل ثناؤه هولَ أشراط ذلك اليوم وبُدُوِّه، فقال:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} .
واختلف أهل العلم في وقتِ كونِ الزلزلةِ التي وصفها جلَّ ثناؤه بالشدَّةِ؛ فقال بعضُهم: هي كائنة [في الدنيا]
(1)
قبلَ
(2)
القيامة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمةَ في قوله:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٍ عَظِيمٌ} . قال: قبل الساعة
(3)
.
(1)
في ت 2: "بالدنيا".
(2)
بعده في م: "يوم".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 384 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير - من طريق الثوري، عن منصور والأعمش به، وهو في تفسير سفيان ص 208 عن منصور وحده، عن إبراهيم به، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 410 من طريق منصور، عن إبراهيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني سليمانُ بن عبد الجبار، قال: ثنا محمدُ بن الصلت، قال: ثنا أبو كُدَينَةَ، عن عطاءٍ، عن عامرٍ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . قال: هذا في الدُّنيا قبل يوم
(1)
القيامةِ
(2)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جُرَيج في قوله:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} فقال: زَلزَلتُها أشراطها؛ الآياتُ، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَل كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارى}
(3)
.
حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاء، عن عامر:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . قال: هذا في الدنيا من آياتِ الساعة]
(3)
.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاءِ خبرٌ في إسناده نظرٌ، وذلك ما حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيُّ، عن إسماعيل بن رافعٍ المدنيِّ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن رجل من الأنصارِ، عن محمد بن كعب القرظيِّ، عن رجل من الأنصارِ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما فرَغ اللَّهُ مِن خَلْقِ السماوات والأرضِ خَلَقَ الصُّورَ، فأعطاه إسرافيل، فهو واضِعُه على فِيهِ، شاخصٌ ببصره إلى العرشِ ينتظرُ متى يُؤمرُ". قال أبو هريرة: يا رسولَ اللهِ، وما الصُّورُ؟ قال:"قَرْنٌ". قال: وكيف هو؟ قال: "قَرْنٌ عظيمٌ يُنفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نفَخاتٍ؛ الأُولى نَفْحَةُ الفَزعِ، والثانية نَفْخةُ الصَّعقِ، والثالثةُ نَفْحَةُ القِيامِ لربِّ
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 384 عن أبي كدينة به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى المصنف وابن المنذر.
العالمين؛ يأْمُرُ اللَّهُ عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقولُ: انفُخْ نفخة الفزع. فيَفْزَعُ أهل السماوات والأرض إِلَّا مَن شاء الله، ويأْمُرُه اللَّهُ فيُديمها ويطَوِّلُها فَلَا يَفْتُرُ، وهى التي يقولُ الله:{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص: 15]. فيُسَيِّرُ اللَّهُ الجبال فتكونُ سَرابًا، وتُرَجُّ الأرْضُ بأَهلِها رجًّا، وهى التي يقولُ الله:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 6 - 8]. فتكون الأرضُ كالسَّفينة المُوبقة
(1)
في البحر تَضْرِبُها الأمواج تُكْفَأُ بأهلها، أو كالقِندِيلِ المُعلَّقِ بالعرشِ تُرجِّحه الأرواح، فيَمِيدُ
(2)
الناسُ على ظهرها، فتَذْهَلُ المراضِعُ، وتضَعُ الحوامل، وتَشِيبُ الوِلْدانُ، وتطيرُ الشَّياطين هاربةً حتى تأتىَ الأقطار
(3)
، فتلقَّاها الملائكةُ، فتضرِبُ وجوهَها فتَرْجِعُ، ويُولِّى الناسُ مُدبرين، يُنادى بعضُهم بعضًا، وهو الذي يقولُ اللَّهُ:{يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 32، 33]. فبينما هم على ذلك، إذ تصَدَّعتِ الأرضُ من قُطْرِ إلى قُطْرٍ، فَرَأَوْا أمرًا عظيمًا، وأخذهم لذلك من الكَرْبِ ما الله أعلمُ به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمُهلِ، ثم خَسَف شمسها، وخَسَف قمَرُها، وانتَثَرت نُجُومُها، ثم كُشِطَت عنهم". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والأمواتُ لا يعلمون بشيءٍ من ذلك". فقال أبو هريرةَ: فمن استَثْنى الله حينَ يقولُ: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87]؟ قال: "أولئك الشهداءُ، وإِنَّما يصِلُ الفزعُ إلى الأحياء، أولئك أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون، وقاهمُ اللهُ فَزعَ ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذابُ اللهِ
(1)
في ت 1: "الموثقة". والموبقة: المحبوسة، أوبقه: حبسه. وقوله تعالى: أو يوبقهن بما كسبوا. أي: يحبسهن، يعني الفلك وركبانها. ينظر اللسان (و ب ق).
(2)
في ت 1: "فيميل"، وفي ت 2:"فيمتد"، وفى ف:"فتميل".
(3)
الأقطار، جمع قُطر، وهو الناحية والجانب: التاج (ق ط ر).
يبعَثه على شِرارِ خَلقِه، وهو الذي يقولُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} . إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "
(1)
.
وهذا القولُ الذي ذكرناه عن علقمة والشعبي ومَن ذكرنا ذلك عنه، قولٌ، لولا مجيءُ الصِّحاحِ من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافِه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعانى وَحْي الله وتنزيله.
والصواب مِن القولِ في ذلك ما صح به الخبرُ عنه.
ذكرُ الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكَرْنا
حدثني أحمدُ بنُ المِقْدامِ، قال: ثنا المعتمر بن سليمانَ، قال: سمعت أبي يحدِّثُ، عن قتادةَ، عن صاحبٍ له حدَّثه، عن عمران بن حصين، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعضِ مغازيه، وقد فاوت السَّير بأصحابِه، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية:" {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ". قال: فحثُّوا المَطِيَّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"هل تَدْرون أيَّ يوم ذلك؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذلك يومَ يُنادَى آدم؛ يُنادِيه ربُّه: ابعَثْ بَعْثَ النارِ مِن كل ألف تسعمائةٍ وتسعةً وتسعين إلى النار". قال: فأُبْلِس القومُ، فما وَضَح منهم ضاحكٌ
(2)
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألَا اعْمَلُوا وأبشروا، فإن معكم خَلِيقَتَين ما كانَتا في قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتاهِ، فَمَن هَلَكَ مِن بنى آدمَ، ومَن هلَك من بنى إبليسَ، ويأجوجَ ومأجوجَ". ثم قال: "أبْشِروا، ما أنتم في
(1)
جزء من حديث الصور، وتقدم تخريجه في 3/ 613.
(2)
قال ابن الأثير في النهاية 5/ 196 حتى ما أوضحوا بضاحكة: أي: ما طلعوا بضاحكة ولا أبدوها، وهى إحدى ضواحك الأسنان التي تبدو عند الضحك. يقال: من أين أوضحت. أي: طلعت. وينظر أيضًا 3/ 77.
النَّاسِ إِلَّا كالشَّامةِ
(1)
في جَنْبِ البعير، أو كالرَّقمةِ
(2)
في جَناحِ الدَّابة
(3)
".
حدثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا هشام بن أبي عبدِ اللَّهِ، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا معاذ بن هشامٍ، قال: ثنا أبي، وحدثنا ابن أبي عدى، عن هشام، جميعًا عن قتادةَ، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله
(5)
.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمدُ بن بشرٍ، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن عمران، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه
(6)
.
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسن،
(1)
في ت 2: "كالشاة". والشامة: العلامة. اللسان (ش ى م).
(2)
الرقمة: الهَنَة الناتئة في ذراع الدابة من داخل، وهما رقمتان في ذراعيها. النهاية 2/ 254.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (706) وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 343 إلى المصنف والترمذي - وسيأتي تخريجه عنده - وابن مردويه.
(4)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (707)، والترمذى (3169)، والنسائي في الكبرى (11340)، والروياني (69) عن محمد بن بشار به، وأخرجه أحمد 4/ 435 (الميمنية) عن يحيى بن سعيد به، وأخرجه الطيالسي (874)، وأحمد 4/ 435 من طريق هشام به، وأخرجه الطبراني 18/ 144، 145 (306 - 308) والحاكم 2/ 385 من طرق عن قتادة به، وأخرجه الحميدي (831)، وأحمد 4/ 432، والترمذى (3168)، والطبراني 18/ 101، 100 (328، 340) من طرق عن الحسن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 343 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (708).
(6)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (709)، وأخرجه الطبراني 18/ 218 (546) من طريق محمد بن بشر به، وأخرجه هناد في الزهد (197) من طريق سعيد به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 387 - من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن والعلاء به.
قال: بلغنى أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمَّا قَفَل من غزوة العُشرة ومعه أصحابه بعد ما شارَف المدينةَ، قرَأ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا} الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون أيَّ يومٍ ذاكم
(1)
؟ ". قيل: الله ورسوله أعلم. فذكر نحوَه، إلا أنه زادَ: "وإنَّه لم يكنْ رسولان إلَّا كان بينهما فَتْرَةٌ مِن
(2)
الجاهليةِ، فهم أهل النارِ، وإنكم بين ظهراني خَليقتين لا يُعادُّهما أحدٌ مِن أهل الأرضِ إِلَّا كَثَّروهم
(3)
، يأجوج ومأجوج وهم أهلُ النارِ، وتُكمَّلُ العِدَّةُ مِن المنافقين
(4)
.
حدثني يحيى بن إبراهيمَ المسعودى، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يقال لآدم: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قال: فيقولُ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ فيقولُ: مِن كُلِّ أَلْفٍ تسعمائةٍ وتسعةً وتسعين. فعند ذلك يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وتَضَعُ الحامل حملها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} ". قال: قُلنا: فأينَ النَّاجِى يا رسولَ اللهِ؟ قال: "أبشِروا، فإنَّ واحدًا منكم وألفًا من يَأْجُوجَ ومأجوج. [ثم قال]: "إنّى لأطمع أن تَكُونوا رُبعَ أَهلِ الجَنَّةِ". فَكَبرنا وحمِدْنا الله، [ثم قال]
(5)
: "إنِّي لأطمَع أن تكونوا ثُلُثَ أهل الجنة". فكبَّرنا وحَمِدْنا الله. ثم قال: "إِنِّي لأطمَعُ أن تَكُونوا نِصْفَ أهل الجنةِ؛ إِنما مَثَلُكم في
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وذاكم".
(2)
في تهذيب الآثار: "في".
(3)
بعده في م: "وهم".
(4)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (710)، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 387 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 343 إلى المصنف.
(5)
في ت 2: "فقال".
النَّاسِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ البيضاءِ في الثور الأسودِ، أو كمَثَلِ الشَّعَرِةِ السَّوداء في الثورِ الأبيض"
(1)
.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن أبي صالح، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقولُ الله لآدمَ يومَ القيامة". ثم ذكَر نحوَه
(2)
.
حدَّثنى عيسى بنُ عثمانَ بن عيسى الرَّمليُّ، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحشر، قال:"يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ: يا آدَمُ. فيقولُ: لبَّيك وسَعْديك، والخَيرُ بيديك. فيقولُ: ابْعَثْ بَعْثًا إلى النَّارِ". ثم ذكر نحوه
(3)
.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، عن أنس، قال: نزلت: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}
(4)
الآية
(5)
. على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مَسِيرٍ، فرجع بها صوته حتى ثابَ إليه أصحابه، فقال: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هذا؟ هذا يومُ يقولُ اللَّهُ لآدمَ: يا آدم، قُمْ
(1)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (711)، وأخرجه أحمد 17/ 384 (11284)، وعبد بن حميد (915)، والبخارى (3348، 4741، 6530، 7483)، وفى خلق أفعال العباد ص 92، ومسلم (222، 379، 380)، والنسائى في الكبرى (11339)، وفي التفسير (359)، وأبو عوانة 1/ 89، 90، وابن منده في الإيمان (988 - 991)، والبيهقى في الشعب (361)، وفي الأسماء والصفات (471)، والبغوى في تفسيره 5/ 364 من طرق عن الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (712).
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (713)
(4)
بعده في ص، ت 1، ف:"حتى: إن عذاب الله شديد"، وفى م:"حتى إلى: عذاب الله شديد".
(5)
ليس في: ص، وفى ت 1:"لعله: فقرأها"، وفى حاشية ف:"لعله: أنزلها".
فابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، مِن كلِّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". فكبر ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده، ما أنتم في النَّاسِ إلا كالشَّامَةِ في جَنْبِ البعيرِ، أو كالرّقْمَة في ذراع الدابةِ، وإن معكم لخلِيقَتَين ما كانتا في شيءٍ قطُّ إلَّا كَثَرَتاه، يأجوج ومأجوجُ، ومَن هَلَكَ مِن كَفَرةِ الجِنِّ والإنسِ"
(1)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن أبي
(2)
إسحاقَ، عن عمرو بن ميمونٍ، قال: دخَلتُ على ابن مسعودٍ بيت المالِ، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: "أَتَرْضَوْنَ أَن تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجنةِ؟ ". قُلنا: نعم. قال: "أَتَرضَوْن أن تَكُونوا ثُلُثَ أهل الجنة؟ ". قلنا: نعم. قال: "فوالذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأرجو أن تَكُونوا شَطْرَ أهلِ الجنةِ، وسأخبركم عن ذلك، إنَّه لا يدخُلُ الجنةَ إلا نفسٌ مسلمةٌ، وإن قِلةَ المسلمين في الكُفَّارِ يومَ القيامة كالشَّعَرةِ السَّوداء في الثَّورِ الأبيضِ، أو كالشَّعَرةِ البَيضاء في الثُّورِ الأَسْودِ"
(3)
.
حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {إنَّ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 31 - ومن طريقه عبد بن حميد (1185) - وقرن أبانًا مع قتادة، وأبو يعلى (3122)، وابن منده في الإيمان (992) وقرن مع قتادة غيره، والحاكم 1/ 29، 4/ 566، وابن حبان (7354) عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 387 - من طريق أبي سفيان، عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 443 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
سقط من النسخ، والمثبت من تهذيب الآثار وبقية المصادر.
(3)
أخرجه المصنف في تهذيب الآثار - مسند ابن عباس - (704)، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 31 عن معمر به، وأخرجه الطيالسي (322)، وهناد في الزهد (195)، وأحمد 6/ 176 (3661)، والبخارى (6528، 6642)، ومسلم (221، (376)، والترمذى (2547)، وابن ماجه (4283)، وأبو عوانة 1/ 87، وأبو يعلى (5386)، والمصنف في تهذيب الآثار (705)، والطحاوي في شرح المشكل (361، 362)، وابن حبان (7245) وابن منده في الإيمان (985)، وأبو نعيم في الحلية 4/ 152، والبيهقي 3/ 180 وغيرهم من طرق عن أبي إسحاق به.
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}. قال: هذا يوم القيامةِ
(1)
.
والزَّلزلة مصدرٌ من قول القائل: زَلْزَلتُ بفلانٍ الأَرضَ، أُزَلْزِلُها
(2)
زَلْزَلَةً وزِلزالًا، بكسر "الزَّايِ" من الزِّلْزالِ، كما قال الله:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]. وكذلك المصدر من كلّ سليمٍ من الأفعال إذا جاءت على فِعْلالٍ، فيكسرِ أَوَّلِه مثلَ: وَسُوسَ وَسْوسةً ووِسْواسًا. فإذا كان اسما كان بفتح أوَّله "الزَّلزالُ" و "الوَسْواس"، وهو ما وَسْوَس إلى الإنسان، كما قال الشاعر
(3)
:
يَعرِفُ الجَاهِلُ المُضَلَّلُ أَنَّ الـ
…
ـدَّهرَ فِيهِ النَّكراءُ والزَّلزَالُ
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} . يقول جلَّ ثناؤه: يومَ ترَوْن أَيُّها الناسُ زَلْزَلَةَ الساعةِ تَذهَلُ مِن [عِظَم هولِها]
(4)
كلُّ مُرضِعة مولودٍ عَمَّا أرضعت.
ويعنى بقوله: {تَذْهَلُ} : تَنسَى وتتركُ من شدَّةٍ كَرْبِها. يقالُ: ذَهَلتُ عن كذا، أَذْهَلُ عنه ذُهُولًا. وذَهَلْتُ أيضًا، وهى قليلةٌ، والفصيح الفتح في الهاءِ، فأما في المستقبل فالهاء مفتوحةٌ في اللُّغَتَين، لم يُسمَعْ غيرُ ذلك، ومنه قول الشاعرِ
(5)
:
* صحَا قَلْبُه يا عَزَّ أو كاد يَذْهَلُ *
فأما إذا أُريد أن الهولَ أنْسَاه وسَلَّاه، قلتَ: أَذْهَلَه هذا الأمرُ عن كذا، يُذْهِلُه إذْهَالًا.
وفي إثباتِ الهاءِ في قوله: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} اختلافٌ بين أهل العربيةِ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى المصنف.
(2)
في ت 1، ف:"أزلزله"، وفى ت 2:"أزلزل".
(3)
التبيان 7/ 256.
(4)
في م: "عظمها".
(5)
هو كثير عزة، والبيت في ديوانه ص 254.
وكان بعضُ نحويِّى الكوفيين يقولُ
(1)
: إذا أُثبتتِ الهاء في المرضِعةِ، فإِنما يُرادُ أمُّ الصبيِّ المرضَع، وإذا أُسقطت، فإنَّه يُرادُ المرأة التي معها صبيٌّ تُرضِعه؛ لأنَّه أُرِيدَ الفِعْلُ بها.
قال
(2)
: ولو أُريد بها الصِّفةُ فيما يُرَى
(3)
لقال: مُرْضِعٌ.
قال
(4)
: وكذلك كلُّ "مُفْعِل" أو "فاعلٍ" يكون
(5)
للأنثى ولا يكونُ للذَّكرِ، فهو بغير هاءٍ، نحوَ مُقْرِب
(6)
، ومُوقرٍ
(7)
، ومُشْدِنٍ
(8)
، وحاملٍ، وحائضٍ.
قال أبو جعفرٍ: وهذا القولُ عندى أولى بالصواب في ذلك؛ لأن العرب من شأنها إسقاط هاء
(9)
التأنيثِ من كلِّ "فاعل" و "مُفْعِلٍ"، إذا وصفوا المؤنَّثَ به، و
(10)
لم يكن للمذكَّرِ فيه حظٌّ. فإذا أرادوا
(11)
الخبر عنها أنَّها ستفعله ولم تفعله، أثْبَتوا هاء التأنيثِ؛ ليُفَرِّقوا بين الصِّفة والفعلِ، منه قول الأعشى فيما هو واقعٌ ولم
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 214.
(2)
في م: "قالوا". وهذا قول الأخفش - وهو بصرى - كما في تهذيب اللغة 1/ 472.
(3)
في ت 1، ت 2:"ترى".
(4)
وقال الخليل نحوه، كما في تهذيب اللغة 1/ 472، وينظر اللسان (ر ض ع).
(5)
بعده في ت 2: "فاعل".
(6)
أقربت الحامل، وهى مُقْرِب: دنا ولادها، وجمعها مقاريب. اللسان (ق ر ب).
(7)
أوقرت النخلة: أي: كثر حملها، يقال: نخلة مُوقِرة وموقر وموقَرَة. الصحاح (و ق ر).
(8)
ظبية مشدن: ذات شادن يتبعها، والشادن ولدها إذا قوى وطلع قرناه واستغنى عن أمه. ينظر اللسان (ش د ن).
(9)
في ص، ت 1، ت 2 ف:"هذا".
(10)
بعده في م: "لو".
(11)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ف:"أنه".
يكن وَقَع قبل
(1)
.
أيا جارَتا بِينِي فإنَّك طالِقَه
…
كَذاكَ أُمورُ الناس غادٍ وطارِقَهْ
وأما فيما هو صفةٌ، نحو قول امرئِ القيسِ
(2)
:
فمثلُكِ حُبْلَى قد طَرَقتُ ومُرضِع
…
فألهَيتُها عن ذِى تمائمَ مُحوِلِ
(3)
وربما أثبتوا الهاء في الحالتين، وربَّما أسْقَطوها فيهما، غير أن الفصيحَ من كلامهم ما وصَفتُ.
فتأويل الكلام إذن: يومَ تَرون أيُّها الناسُ زَلْزَلةَ الساعةِ، تَنسَى وتَتْرُكُ كلُّ والدةِ مولود تُرضع ولدها عما أرضَعَت.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} . قال: تتركُ ولدها للكربِ الذي نزل بها
(4)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، عن الحسنِ:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} . قال: ذَهَلت عن أولادها بغيرِ فطامٍ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا}. قال: ألقَتِ الحوامل ما في بُطونها لغير تَمام
(5)
.
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا} . يقولُ: وتُسقط كلُّ حاملٍ من شدَّةِ
(1)
ديوان الأعشى ص 263.
(2)
ديوانه ص 12.
(3)
محول: أتى عليه حول.
(4)
تمام الأثر المتقدم في ص 453، 454.
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 364، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى المصنف.
كربِ ذلك حَمْلَها.
وقوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} . قرأت قرَأَةُ الأمصارِ: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} . على وجْهِ الخطاب للواحدِ، كأنَّه قال: وترَى يا محمد الناس حينئذٍ سُكارَى وما هم بسُكارى.
[ورُوِى]
(1)
عن أبي زُرْعةَ بن
(2)
عمرو بن جرير: (وتُرى النَّاسَ). بضم التاء ونصْبِ (الناسَ)
(3)
. من قول القائل: رُئِيتَ
(4)
، تُرى، التي تطلب الاسمَ والفعلَ
(5)
، كـ "ظنَّ"
(6)
وأخواتِها.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرأة الأمصارِ؛ لإجماع الحجَّة من القرأةِ عليه.
واختلفتِ القرأة في قراءة قوله: {سُكَارَى} ؛ فقرأ ذلك عامَّةُ قرأة المدينةِ والبصرةِ وبعضُ أهل الكوفةِ: {سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى}
(7)
.
وقرأته عامَّةُ قرأةِ أهل الكوفة: (وتَرَى الناسَ سَكْرَى وما هم بسَكْرَى)
(8)
.
والصواب من القول في ذلك عندنا
(9)
أنَّهما قراءتان مُستفيضَتان في
(1)
في م: "وقد روى"، وفى ت: 2: "و".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عن". وينظر تهذيب الكمال 33/ 323.
(3)
وبها قرأ أبو هريرة وأبو نهيك. ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 96، والبحر المحيط 6/ 350.
(4)
في م: "أريت". وينظر معاني القرآن للفراء 2/ 215.
(5)
يريد بالفعل هنا الخبر، وينظر ما تقدم في 9/ 636.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"كالظن".
(7)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبي عمرو السبعة لابن مجاهد ص 434.
(8)
وهى قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(9)
في ص، ف:"عندي".
قرَأةِ الأمصارِ، متقاربنا المعنى، فبأيَّتهما قرأ القارئُ فمصيب الصوابَ. ومعنى الكلامِ: وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكَرْبِ وشِدَّتِه، سُكَارَى من الفزع، وما هم بسُكارَى مِن شُرْبِ الخَمرِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكرٍ، عن الحسنِ:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} : من الخوف، {وَمَا هُم بِسُكَارَى}: مِن الشَّرابِ
(1)
.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريجٍ قوله:{وَمَا هُم بِسُكَارَى} . قال: ما هم بسُكارَى من الشَّرابِ، {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} . قال: ما شَرِبوا خمرًا، {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
[وقوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}]
(3)
.
يقول تعالى ذِكرُه: ولكنَّهم صاروا شكارى من خوفِ عذابِ اللهِ عندَ معاينتهم ما عاينوا مِن كَرْبِ ذلك وعظيم هَوْلِه، مع عِلْمِهم بشدة عذابِ اللهِ.
(1)
تقدم تخريجه في ص 456.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
سقط من: م.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ
(3)}.
ذُكِر أنَّ هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . قال: النضر بن الحارث
(1)
.
ويعنى بقوله: {مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} : مَن يُخاصمُ في اللهِ، فيَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ غيرُ
(2)
قادرٍ على إحياء من قد بَلِى وصار تُرابًا، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعلمُه، بل بجهلٍ منه بما يقولُ، {وَيَتَّبِعُ} في قيلِه ذلك وجدالِه في الله بغير علمٍ {كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} .
القول في تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
(4)}.
يقول تعالى ذكره: قُضِىَ على الشيطان - فمعنى {كُتِبَ} هاهنا: قُضِى.
والهاء التي في قوله: {عَلَيْهِ} مِن ذِكْرِ الشَّيطانِ.
كما حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} . قال: كُتِب على الشَّيطانِ
(3)
.
أنَّه مَن اتَّبع
(4)
الشيطانَ مِن خَلْقِ اللَّهِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 32 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ت 2: "تولى".
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قولِ اللَّهِ:{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} . قال: الشيطانِ، اتَّبَعَه
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد:{أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} . قال: اتَّبَعه.
وقوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} . يقولُ: فإنَّ الشيطانَ يُضِلُّه. يعني: يُضِلُّ مَن تولَّاه. والهاء التي في {يُضِلُّهُ} الله عائدة على {مَن] التي في قوله: {مَن تَوَلَّاهُ} . وتأويل الكلامِ: قُضى على الشيطان أنَّه يُضِلُّ أتباعه ولا يَهديهم إلى الحقِّ.
وقوله: {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} . يقولُ: وَيَسُوقُ مَن اتَّبعه إلى عذاب جَهَنَّمَ الموقدة. وسياقه
(2)
إيَّاه إليه بدعائه إيَّاه إلى طاعته ومعصيةِ
(3)
الرحمن، فذلك هدايتُه من تَبِعه إلى عذابِ جَهَنَّمَ.
(1)
تفسير مجاهد ص 477، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 344 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"ساقه".
(3)
في ت 2: "معصيته".
وهذا احتجاجٌ من الله على الذي أخبَر الله على الذي أخبر عنه من الناسِ أَنَّه يُجادِلُ في اللَّهِ بغيرِ علمٍ، اتِّباعًا منه للشيطان المريد، وتنبيه له على موضع خطأَ قيلِه، وإنكاره ما أنكر من قدرةِ ربِّه. قال: يأَيُّها الناسُ إن كنتُم في شَكٍّ من قُدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكم، استعظامًا منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خَلْقَ أبيكم آدم عليه السلام من ترابٍ، ثم إنشائناكُم من نطفة آدم، ثم تَصْرِيفِناكم أحوالا، حالا بعد حالٍ؛ من نطفة إلى علقةٍ، ثم من علقة إلى مُضْغَةٍ لكم معتبرًا ومُتَّعظًا تعتبرون به، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذِّرَةٍ
(1)
عليه إعادتكم بعد فنائكم، كما كنتُم أحياءً قبلَ الفناء.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ؛ فقال بعضُهم: هي من صفة النُّطفةِ. قال: ومعنى ذلك: فإِنَّا خَلَقْناكم من ترابٍ، ثم مِن نطفة مخلقة وغير مخلقة. قالوا: فأمَّا المخلَّقة، فما كان خَلْقًا سَوِيًّا، وأما غيرُ مخلَّقةٍ، فما دفعته الأرحام من النُّطَفِ وألقته قبل أن يكون خلقًا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعتِ النُّطْفَةُ في الرَّحِمِ، بَعَثَ اللَّهُ ملكًا، فقال: يا ربِّ، مخلقةٌ أو غيرُ مخلقةٍ؟ فإن قال: غير مخلَّقَةٍ مَجَّتها الأرحامُ دمًا، وإن قال: مخلَّقَةٌ. قال: يا ربِّ، فما صفةُ هذه النُّطفةِ؟ أذكرٌ أم أنثى؟ ما رزقُها؟ ما أجلُها؟ أشقِيٌّ أو سعيدٌ؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أُمِّ الكتابِ فَاسْتَنسِخُ منه صفةَ هذه النُّطفةِ. قال: فينطلِقُ المَلكُ فيَنْسَخُها، فلا تزالُ معه حتى يأتى على
(1)
في م: "متعذر".
آخر صِفَتِها
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: تامَّةٍ وغير تامَّةٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله:{مُّخَلَّقَةٍ وَغَير مُخَلَّقَةٍ} . قال: تامة وغير تامة.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، [عن معمر]
(2)
، عن قتادة:{مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . فذكر مثله
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: المضغة مصوَّرةٌ إنسانًا وغير مصوّرة، فإذا صُوِّرت فهى مخَلَّقَةٌ، وإذا لم تصوّر فهي غيرُ مخَلَّقَةٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسم بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهد في قوله:{مُّخَلَّقَةٍ} . قال: السِّقطُ؛ مخلَّقةٌ وغيرُ مخلقةٍ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى المصنف، وذكر ابن كثير في تفسيره 5/ 391 نحوه بأطول. وعزاه إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 32 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى عبد بن حميد.
في قولِ اللَّهِ: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . قال: السِّقط؛ مخلوقٌ وغيرُ مخلوقٍ
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامر، أنَّه قال في النطفة والمضغةِ: إذا نكست في الخَلْقِ الرابع كانت نَسَمةً مخلقة، وإذا قذَفتها قبلَ ذلك فهى غير مخلقة
(2)
.
قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن حماد بن
(3)
سلمةَ، عن داود بن أبي هندٍ، عن أبي العالية:{مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . قال: السِّقْطُ] (2).
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: المخلقة المصورة خلقًا تامًّا، وغيرُ مخلقةٍ السِّقطُ قبلَ تمامِ خَلْقِه؛ لأن المخلَّقةَ وغيرَ المخلقة مِن نعتِ المضغة، والنطفةُ بعد مصيرها مضغةً لم يبق لها حالٌ
(4)
حتى تصير خلقا سويًا، إلا التصوير، وذلك هو المراد بقوله:{مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّفَة} خلقًا سويًا، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} بأن تُلْقِيه الأم
(5)
مضغةً ولا يُصَوَّرُ ولا يُنفَخُ فيها الروحُ.
وقوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} . يقول تعالى ذكره: جعَلْنا المضغة؛ مِنها المخلقة التّامةُ، ومِنها السِّقطُ غيرُ التَّامِّ؛ لنُبَيِّنَ لكم قدرتنا على ما نشاءُ، ونُعَرِّفكم ابْتِداءَنا خَلْقَكم.
(1)
تفسير مجاهد ص 477، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
بعده في م: "أبي".
(4)
سقط من: م.
(5)
في ص، ت 2:"الأير". غير منقوطة، وكتب فوقها في ص:"ط".
وقوله: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} . يقول تعالى ذِكرُه: ومَن كُنَّا كتَبْنا له بقاءً وحياةً إلى آمد وغايةٍ، فإنَّا نقِرُّه في رحم أمه إلى وَقْتِهِ الذي جَعَلْنا له أن يمكث في رحمها، فلا تُسقطه ولا يَخْرُجُ منها حتى يبلُغَ أَجَلَه، فإذا بلغ وقتَ خروجه من رحِمِها أَذِنَّا له بالخروج منها، فخرَجَ.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قولَه:{وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} . قال: التَّمامُ ?
(1)
.
القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: الأجلُ المُسَمَّى إقامته في الرَّحِمِ حتى يخرُجَ
(2)
.
وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} . يقول تعالى ذكرُه: ثم نُخرِجُكم من أرحامِ أمَّهاتكم إذا بلَغتُم الأجلَ الذي قَدَّرتُه الخروجكم منها طفلا صغارًا. ووحَّده "الطفل" وهو صفةٌ للجميعِ؛ لأنه مصدرٌ مثل "عَدْلٍ"
(3)
و "زَورٍ".
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عدد".
وقوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} . يقولُ: ثم لتبلغوا كمالَ عقولِكم ونهايةَ قُواكم بعُمُرِكم.
وقد ذكَرتُ اختلاف المختلفين في "الأشُدِّ"، والصواب من القول [في ذلك عندى]
(1)
بشواهده فيما مضى بما أغْنَى عن إعادته
(2)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} .
يقول تعالى ذكره: ومنكم أيها الناسُ من يُتَوفَّى من قبل أن يبلُغَ أَشُدَّه، فيموتُ، ومنكم من يُنسأ في أجَلِهِ فَيُعَمَّرُ حتى يَهرَمَ فيُردُّ مِن بعد انتهاء شبابه وبلوغِه غايةَ أشُدِّه إلى أرذَلِ عُمُرِه، وذلك الهَرَمُ، حتى يعود كهيئته في حالِ صِباهُ، لا يَعْقِلُ مِن بَعدِ عَقْلِهِ الأَوَّلِ شيئًا.
ومعنى الكلام: ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذل العُمر بعد بلوغه أشدَّه، {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ} كان يعْلَمُه {شَيْئًا} .
وقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} . يقول تعالى ذكره: وترى الأرضَ يا محمدُ يابسةً دارسة الآثارِ مِن النبات والزرع. وأصلُ الهُمودِ الدُّروسُ والدُّثور. ويُقالُ منه: هَمَدَتِ الأرضُ تَهمُدُ هُمُودًا. ومنه قول الأعشى ميمون بن قيسٍ:
قالت قُتَيْلةُ ما لجِسمِك شاحِبًا
…
وأرَى ثِيابَك بالياتٍ هُمَّدَا
(3)
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"فيه عندنا".
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"في هذا الموضع". وينظر ما تقدم في 9/ 663 وما بعدها.
(3)
ديوانه ص 227 وفيه: "سايئًا" مكان: "شاحبًا".
والهمَّدُ جمعُ هامدٍ، كما الرُّكَّعُ جمعُ راكعٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذَكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاج، عن ابن جُرَيجٍ في قوله:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} . قال: لا نباتَ فيها
(1)
.
وقولُه: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} . يقولُ تعالى ذكره: فإذا نحنُ أنزَلْنا على هذه الأرضِ الهامِدَةِ التي لا نباتَ فيها، المطرَ مِن السماءِ {اهْتَزَتْ}. يقولُ: تحرَّكت بالنباتِ، {وَرَبَتْ}. يقولُ: وأَضْعَفَتِ النباتَ بمجيءِ الغيثِ.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} . قال: عُرِف الغيتُ في رُبُوِّها.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة:{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} . قال: حَسُنَت، وعُرِف الغيثُ في رُبوِّها
(2)
.
وكان بعضهم يقولُ: معنى ذلك: فإذا أنزَلْنا عليها الماءَ اهْتَزَّت. ويوجِّهُ المعنى إلى الزرعِ، وإن كان الكلام مخرجه على الخبر عن الأرض.
وقرأت قرأة الأمصار: {وَرَبَتْ} . بمعنى الرُّبُوِّ الذي هو النماءُ والزِّيادةُ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى المصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 32، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 345 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وكان أبو جعفر القارئُ يقرأُ ذلك: (ورَبَّأَتْ). بالهمز
(1)
.
حدِّثت عن الفراءِ، عن أبي عبدِ اللَّهِ التميميِّ عنه
(2)
.
وذلك غلطٌ؛ لأنَّه لا وَجْهَ للرَّبْءِ هاهنا، وإنما يُقالُ: رَبأَ. بالهمز، بمعنى: حَرَسَ، من الرَّبيئةِ، ولا معنَى للحراسةِ في هذا الموضع، والصحيحُ من القراءة ما عليه قرأة الأمصار.
وقوله: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، يقول جل ثناؤه: وأنبتت هذه الأرضُ الهامدة بذلك الغيث، من كلِّ
(3)
نوعٍ بهيجٍ. يعنى بالبَهيجِ البَهِجَ، وهو الحسن.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ:{وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . قال: حسنٍ.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة مثله
(4)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} .
(1)
ينظر النشر 2/ 244.
(2)
معاني القرآن للفراء 2/ 216.
(3)
بعده في ص: "زوج بهيج الغيث من كل".
(4)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
يعني تعالى ذكره بقوله: {ذَلِكَ} : هذا
(1)
الذي ذكَرْتُ لكم أيها الناسُ، مِن بَدْئِنا خَلْقَكم في بُطُونِ أُمهاتكم، ووَصْفِنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده؛ طفلًا، وكهلًا، وشيخًا هَرَمًا، وتَنْبِيهِنَا كم على فِعْلِنا بالأرض الهامدة بما نُنَزِّلُ عليها من الغيثِ؛ لتؤمنوا وتُصَدِّقوا بأنَّ ذلك الذي فعل ذلك الله الذي هو الحقُّ لا شكَّ فيه، وأن من سواه مما تعبُدُون من الأوثانِ والأصنامِ باطلٌ؛ لأنها لا تقدِرُ على فعل شيءٍ مِن ذلك، وتَعْلَموا أن القدرة التي جعَل بها هذه الأشياء العجيبة، لا يتعذَّرُ عليها أن يُحْيِيَ بها الموتى بعد فنائها ودُروسِها في التُّرابِ، وأن فاعل ذلك على كلِّ ما أراد وشاء من شيءٍ قادرٌ، لا يَمتَنعُ عليه شيءٌ أرادَه.
ولتُوقِنوا بذلك أن الساعةَ التي وعَدتكم أن أبعَثَ فيها الموتَى من قبورهم جائيةٌ لا محالةَ {لا رَيْبَ فِيهَا} . يقول: لا شكَّ في مَجيئها وحُدوثِها، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} حينئذٍ، مَن فيها من الأموات أحياء إلى موقف الحسابِ، فلا تَشُكُوا في ذلك، ولا تَمْتَرُوا فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .
يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيدِ اللَّهِ وإفراده بالألوهةِ بغيرِ علمٍ منه بما يُخاصِمُ به، {وَلَا هُدًى}. يقولُ: وبغير بيان معه لِما يقولُ ولا برهانٍ، {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}. يقولُ: وبغيرِ كتابٍ من الله أتاه لصحَّةِ ما يقولُ، {مُنِيرٍ}. يقول: يُنيرُ عن حُجَّتِه، وإنما يقول ما يقولُ مِن الجهل ظنًّا منه وحِسْبانًا.
وذُكِر أنَّه عُنِي بهذه الآية والتي بعدها النضرُ بن الحارثِ مِن بنى عبدِ الدارِ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"هو".
خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: يجادلُ هذا الذي يجادلُ في اللَّهِ بغيرِ علمٍ ثانىَ عِطفِه.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي من أجلِه وُصِف بأنَّه يَثْنِى
(1)
عِطْفَهُ، وما المرادُ مِن وَصْفِه إيَّاه بذلك؛ فقال بعضُهم: وصَفه بذلك لتَكبُّرِه وتبَخْتُرِه
(2)
. وذُكِر عن العربِ أنها تقولُ: جاءنى فلانٌ ثانىَ عِطْفِه. إذا جاء مُتَبخْتِرًا مِن الكبرِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{ثَانِيَ عِطْفِهِ} . يقولُ: مُسْتَكبِرًا في نفسِه
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لَاوٍ رقَبَتَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمُد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{ثَانِيَ عِطْفِهِ} . قال: رقبَتَه
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن
(1)
في ص، ت 2:"ثنى".
(2)
في ت 2، ف:"تجبره".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 346 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(4)
تفسير مجاهد ص 477.
مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{ثَانِيَ عِطْفِهِ} . قال: لاوٍ عُنُقَه
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه يُعْرِضُ عما يُدْعَى إليه فلا يَسْمَعُ له.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثَانِيَ عِطْفِهِ} . يقولُ: يُعْرِضُ عن ذِكْرِى
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: لَاوِيًا رأسَه، مُعْرِضًا مُوَلِّيًا، لا يريدُ أن يسمعَ ما قيل له. وقرَأَ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا}
(3)
[لقمان: 7].
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{ثَانِيَ عِطْفِهِ} . قال: يُعْرِضُ عن الحقِّ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وهذه الأقوالُ الثلاثةُ مُتَقارباتُ المعنى، وذلك أن مَن كان ذا
(1)
في ت 1، ف:"عطفه".
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 33، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 346 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 346 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 346 إلى المصنف من قول ابن جريج.
اسْتِكْبارٍ فمِن شأنِه الإعراضُ عما هو مُسْتكبِرٌ عنه، وَلَيُّ عُنُقِه عنه والإعراضُ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يُقالَ: إن اللَّهَ وصَف هذا المخاصمَ في اللَّهِ بغيرِ علمٍ أنَّه مِن كبرِه إذا دُعِى إلى اللَّهِ أعرَضَ عن دَاعِيهِ، ولَوى عُنقَه عنه، ولم يَسمعْ ما يقالُ له اسْتِكبارًا.
وقولُه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: يجادلُ هذا المشركُ في اللَّهِ بغيرِ علمٍ مُعْرِضًا عن الحقِّ استكبارًا لِيَصُدَّ المؤمنين باللَّهِ عن دينِهم الذي هَدَاهم له، ويَستَزِلَّهم عنه، {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}. يقولُ جلَّ ثناؤه: لهذا المجادلِ في اللَّهِ بغيرِ علمٍ، {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} وهو القتلُ والذلُّ والمَهانةُ بأيدِى المؤمنين، فقتَلَه اللَّهُ بأيديهم يومَ بدرٍ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ قولَه: {لَهُ
(1)
فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}. قال: قَتْلٌ يومَ بدرٍ
(2)
.
وقولُه: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: ونُحرِقُه يومَ القيامةِ بالنَّارِ.
وقولُه: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: ويُقالُ له إذا أُذِيق عذابَ النارِ يومَ القيامةِ: هذا العذابُ الذي نُذيقُكَهُ اليومَ بما قدَّمَت يداكَ في الدُّنيا مِن الذنوبِ والآثامِ، واكْتَسَبْتَه فيها من الإجْرامِ، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}. [يقولُ: وفعَلنا ذلك لأنَّ اللَّهَ ليس بظلامٍ للعبيدِ]
(3)
فيعاقبَ بعضَ عبيدِه
(1)
سقط من: م.
(2)
تتمة الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(3)
سقط من: ت 1، ف.
على جُرْمٍ، وهو يعفو
(1)
مثلَه عن
(2)
آخرَ غيرِه، أو يَحملَ ذنبَ مذنبٍ على غيرِ مذنبٍ فيعاقبَه به، ويعفُوَ عن صاحبِ الذَّنبِ، ولكنَّه لا يعاقبُ أحدًا إِلَّا على جُرْمِه، ولا يعذِّبُ أحدًا على ذنبٍ يغفرُ مثلَه لآخرَ إلَّا بسببٍ اسْتَحقَّ به منه مَغْفرتَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} .
يعنى جلَّ ذِكرُه بقولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أعْرابًا كانوا يَقْدَمون على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين من باديَتِهم، فإن نالوا رخاءً من عيشٍ بعدَ الهجرةِ والدخولِ في الإسلامِ أقامُوا على الإسلامِ، وإلَّا ارْتَدُّوا على أعقابِهم. فقال اللَّهُ: ومِن الناسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على شَكٍّ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} . وهو السَّعة مِن العيشِ وما يُشْبِهُه
(3)
من أسبابِ الدُّنيا، {اطْمَأَنَّ بِهِ}. يقولُ: اسْتقرَّ بالإسلامِ وثَبَت عليه. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} . وهو الضيقُ بالعيشِ وما يُشبهُه
(3)
من أسبابِ الدُّنيا، {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}. يقولُ: ارْتَدَّ فانقلَب على وَجْهِه الذي كان عليه من الكُفرِ باللَّهِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن
(1)
في م: "يغفر".
(2)
في م: "من".
(3)
في ت 1، ت 2:"يشتهيه".
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} إلى قولِه: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} . قال: الفتنةُ البلاءُ، كان أحدُهم إذا قَدِم المدينةَ وهى أرضٌ وَبِيئةٌ
(1)
، فإن صَحَّ بها جِسْمُه، ونُتِجت فَرسُه مُهْرًا حسَنًا، ووَلَدَتِ امرأتُه غلامًا رَضِى به، واطْمَأنَّ إليه، وقال: ما أصبتُ منذُ كنتُ على دينِى هذا إلَّا خيرًا. وإن أصابَه وجَعُ المدينةِ، ووَلَدَتِ امرأتُه جاريةً، وتأخَّرت عنه الصَّدقةُ، أتاه الشيطانُ فقال: واللَّهِ ما أصبتَ منذُ كنتَ على دينِك هذا إلَّا شرًّا. وذلك الفتنةُ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، قال: ثنا عنبسةُ أبو
(3)
بكرٍ، عن محمدٍ بن عبدِ الرحمنِ بن أبى ليلى، عن القاسمِ بن أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} . قال: على شَكٍّ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{عَلَى حَرْفٍ} . قال: على شَكٍّ. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} : رَخاءٌ وعافيةٌ {اطْمَأَنَّ بِهِ} : اسْتَقَرَّ، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ}: عذابٌ، ومصيبةٌ، {انْقَلَبَ} ارتَدَّ {عَلَى وَجْهِهِ}: كافرًا
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"دونه". وقد أوبأت الأرض فهى موبئة، ووبِئَت فهى وبيئة، ووُبِئت أيضًا فهى موبوءة. والوباء: الطاعون والمرض. النهاية 5/ 144.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 346 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
في م: "عن أبي". وينظر تهذيب الكمال 22/ 406، وما سيأتي في ص 540.
(4)
تفسير مجاهد ص 477، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 346 إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال ابن جُرَيجٍ: كان ناسٌ من قبائلِ العربِ وممَّن حولَهم مِن أهلِ القُرَى يقولون: نأتى محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن صادَفْنا خيرًا مِن معيشةِ الرزقِ ثَبَتْنا معه، وإلَّا لَحِقْنا بأهلِنا
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} . قال: شَكٍّ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر}. يقولُ: كثُر مالُه، وكَثُرت ماشيتُه اطْمَأنَّ وقال: لم يُصِبْنى في دينى هذا منذُ دخَلتُه إلَّا خيرٌ، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ}. يقولُ: وإن ذهَب مالُه، وذهبَت ماشيتُه، {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} .
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قَتادةَ نحوَه
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، قال: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية: كان ناسٌ من قبائلِ العربِ، وممَّن حولَ المدينةِ مِنَ القُرَى كانوا يقولون: نأتى محمدًا صلى الله عليه وسلم فننظرُ في شأنِه، فإن صادَفْنا خيرًا ثَبَتْنا معه، وإِلَّا لَحِقْنا بمنازِلِنا وأهْلِينا، وكانوا يأتُونَه، فيقولون: نحنُ على دينِك. فإن أصابوا معيشةً، ونَتجوا خَيْلَهم، ووَلَدت نساؤهم الغِلْمانَ اطْمَأنُّوا وقالوا: هذا دينُ صدقٍ. وإن تأخَّر عنهم الرِّزقُ، وأَزْلَقت
(3)
خيُولُهم، ووَلَدت نساؤهم البناتِ، قالوا: هذا دينُ سَوْءٍ. فانقَلَبوا على وجوهِهم (1).
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 396.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 33 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
أزلقت الفرس والناقة: أسقطت، وهى مزلق، ألقت لغير تمام. اللسان (ز ل ق).
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . قال: هذا المنافقُ، إن صَلَحَتْ له دنياه أقامَ على العبادةِ، وإن فَسَدَتْ عليه دنياه وتَغيَّرتْ
(1)
انقلَب، ولا يقيمُ على العبادةِ إِلَّا لِما صَلَح مِن دُنياه، وإذا أصابَتْه شدَّةٌ أو فتنةٌ، أو اختبارٌ أو ضيقٌ، ترَك دينَه ورجَع إلى الكُفرِ
(2)
.
وقولُه: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . يقولُ: غَبِن هذا الذي وصَف جلَّ ثناؤه صِفَتَه دُنياه؛ لأنَّه لم يَظْفَرْ بحاجتِه منها بما كان مِن عبادتِه اللَّهَ على الشكِّ، ووَضِع في تجارتِه فلم يَرْبَحْ، {وَالْآخِرَةِ}. يقولُ: وخسِر الآخرةَ؛ لأنه
(3)
مُعَذَّبٌ فيها بنارِ اللَّهِ المُوقَدةِ.
وقولُه: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . يقولُ: وخَسارتُه الدنيا والآخرةَ هي {الْخُسْرَانُ} . يعنى: الهلاكُ {الْمُبِينُ} . يقولُ: يَبِينُ لمن فكَّر فيه وتدَبَّره أنه قد خسِر الدنيا والآخرةَ.
واخْتَلَفَت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأَته قرأةُ الأمصارِ جميعًا غيرَ حُميدٍ الأعرجِ: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . على وجهِ المُضِيِّ. وقرَأه حَميدٌ الأعرجُ: (خاسِرَ)
(4)
نصبًا على الحالِ، على مثالِ "فاعلِ"
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} .
(1)
في ت 1: "نفرت".
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 396.
(3)
في م: "فإنه".
(4)
في م: "خاسرًا".
(5)
وهى قراءة مجاهد وابن محيصن من طريق الزعفرانى وقعنب والجحدرى وابن مقسم. البحر المحيط 6/ 355.
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن أصابَت هذا الذي يَعْبُدُ اللَّهَ على حرفٍ فتنةٌ، ارْتَدَّ عن دينِ اللَّهِ، يَدْعُو مِن دونِ اللَّهِ آلهةً لا تَضُرُّه إن لم يَعْبُدُها في الدنيا، ولا تَنْفَعُه في الآخرةِ إن عبَدها، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}. يقولُ: ارتدادُه ذلك داعيًا مِن دونِ اللَّهِ هذه الآلهةَ هو الأخْذُ على غيرِ استقامةٍ، والذَّهابُ عن دينِ اللَّهِ ذَهابًا بعيدًا.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} : يَكْفُرُ بعدَ إيمانِه، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يَدْعو هذا المُنْقَلِبُ على وجهِه مِن أن أصابته فتنةٌ - آلهةً، لَضَرُّها في الآخرةِ له، أقربُ وأسرعُ إليه مِن نفعِها.
وذُكِر أن ابنَ مسعودٍ كان يَقْرَؤُه: (يَدْعو مَن ضَرُّه أقربُ مِن نفعِه)
(1)
.
واختَلَف أهلُ العربيةِ في موضعِ "مَن"، فكان بعضُ نحويى البصرةِ يقولُ: موضعُه نصبٌ بـ {يَدْعُوا} . ويقولُ: معناه: يَدْعو لَآلهةً ضرُّها أقربُ مِن نفعِها. ويقولُ: هو شاذٌّ؛ لأنه لم يُوجَدْ في الكلامِ: يدعو لَزيدًا.
وكان بعضُ نحويى الكوفةِ يقولُ: اللامُ مِن صلةِ ما بعدَ "مَن". كأن معنى الكلامِ عندَه: يَدْعو مَن لَضرُّه أقربُ مِن نفعِه. وحُكِى عن العربِ سماعًا منها: عندى لمَا غيرُه خيرٌ منه. بمعنى: عندى ما لَغيرُه خيرٌ منه. وأعْطَيْتُك لما غيرُه خيرٌ منه. بمعنى: ما لغيرُه خيرٌ منه. وقال: جائزٌ في كلِّ ما لم يَتَبَيَّنْ فيه الإعرابُ الاعتراضُ باللامِ دونَ الاسمِ.
(1)
ينظر البحر المحيط 6/ 357.
وقال آخرون منهم: جائزٌ أن يكونَ معنى ذلك: ذلك
(1)
هو الضلالُ البعيدُ، يَدْعُو. فيكونُ:{يَدْعُوا} صلةَ {الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} ، وتُضْمِرُ في {يَدْعُوا} الهاءَ، ثم تَسْتَأْنِفُ الكلامَ باللامِ، فتقولُ: لمن ضرُّه أقربُ مِن نفعِه لَبئس المولى. كقولِك في الكلامِ في مذهبِ الجزاءِ: لما فعَلْتَ لَهو خيرٌ لك.
فعلى هذا القولِ (مَن) في موضعِ رفعٍ بالهاءِ في قولِه: {ضَرُّهُ} ؛ لأن "مَن" إذا كانت جزاءً فإنما يُعْرِبُها ما بعدَها، واللامُ الثانيةُ في:{لَبِئْسَ الْمَوْلَى} . جوابُ اللامِ الأُولى. وهذا القولُ الآخرُ على مذهبِ العربيةِ أصحُّ، والأولُ إلى مذهبِ أهلِ التأويلِ أقربُ.
وقولُه: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} . [يقولُ: لبئس ابن العمِّ هذا الذي يَعْبُدُ اللَّهَ على حرفٍ]
(2)
، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}. يقولُ: ولبئس الخليطُ المُعاشِرُ والصاحبُ هو.
كما حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} . قال: العشيرُ هو المعاشرُ الصاحبُ.
وقد قيل: عُنِى بالمولى في هذا الموضعِ الوليُّ الناصرُ.
وكان مجاهدٌ يقولُ: عُنِى بقولِه: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} الوَثَنُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} . قال: الوَثَنُ
(3)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ف.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
تفسير مجاهد ص 478، وعزاه السيوطي في الدر المنثور ص 299 (المخطوط المحمودية) إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللَّهَ يُدْخِلُ الذين صدَقوا اللَّهَ ورسولَه، وعمِلوا بما أمَرَهم اللَّهُ في الدنيا، وانْتَهَوْا عما نهاهم عنه فيها - {جَنَّاتٍ}. يعنى: بساتينَ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} . يقولُ: تجرى الأنهارُ مِن تحتِ أشجارِها، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . فيُعْطِى ما شاء مِن كرامتِه أهلَ طاعتِه، وما شاء مِن الهَوانِ أهلَ معصيتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) [وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} ]
(1)
.
اختَلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بالهاءِ التي في قولِه: {أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فتأويلُه على قولِ بعضِ قائلى ذلك: مَن كان مِن الناسِ يَحْسَبُ أن لن يَنْصُرَ اللَّهُ محمدًا في الدنيا والآخرةِ، فلْيَمْدُدْ بحبلٍ، وهو السببُ، {إِلَى السَّمَاءِ}. يعنى: سماءِ البيتِ، وهو سقفُه، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} . السببَ بعدَ الاختناقِ به، {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ}
(2)
اختناقُه ذلك، وقطعُه السببَ بعدَ الاختناقِ، {مَا يَغِيظُ}. يقولُ: هل يُذْهِبَنَّ ذلك ما يَجِدُ في صدرِه مِن الغيظِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى خالدُ بنُ قيسٍ، عن قتادةَ: من
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
بعده في ت 1: "كيده ما يغيظ".
كان يَظُنُّ أن لن يَنْصُرَ
(1)
اللهُ نبيَّه ولا دينَه ولا كتابَه، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ}. يقولُ: بحبلٍ إلى سماءِ البيتِ، فلْيَخْتَنِقْ به، {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} .
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي [الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ]
(2)
. قال: مَن كان يَظُنُّ أن لن يَنْصُرَ اللَّهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ}. يقولُ: بحبلٍ إلى سماءِ البيتِ، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}. يقولُ: ثم لْيَخْتَنِقْ، ثم لْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كيدُه ما يَغِيظُ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ بنحوِه
(3)
.
وقال آخرون ممن قال: الهاءُ في: {يَنْصُرَهُ} مِن ذكرِ اسمِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: السماءُ التي ذُكِرَت في هذا الموضعِ هي السماءُ المعروفةُ. قالوا: معنى الكلامِ ما حدَّثني به يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي [الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . فقرَأ حتى بلَغ: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} . قال: مَن كان يَظُنُّ أن لن يَنْصُرَ اللَّهُ]
(4)
نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ويُكايدَ
(5)
هذا الأمرَ ليَقْطَعَه
(6)
عنه ومنه، فلْيَقْطَعْ ذلك مِن أصلِه
(7)
مِن حيثُ يَأْتيه، فإن أصلَه في السماءِ، فلْيَمْدُدْ بسببٍ إلى السماءٍ، ثم لْيَقْطَعْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الوحىَ الذي يَأْتيه مِن اللَّهِ، فإنه لا
(1)
في ص، ت 2، ت 3:"ينصره".
(2)
ليست في: ص.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 33 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في م، ت 1:"يكابد"، وفى ت 2:"مكايد". وبدون نقط في ص.
(6)
في ت 2: "لقطعه".
(7)
في ص، ت 1، ف:"أجله".
يُكايِدُه
(1)
حتى يَقْطَعَ أصلَه عنه، فكايَد ذلك حتى قطَع أصلَه عنه، {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} . ما دخَلَهم مِن ذلك، وغاظَهم اللَّهُ به مِن نصرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما يَنْزِلُ عليه
(2)
.
وقال آخرون
(3)
ممن قال: الهاءُ التي في قولِه: {يَنْصُرَهُ} . مِن ذكرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: معنى النصرِ ههنا الرزقُ. فعلى قولِ هؤلاء تأويلُ الكلامِ: مَن كان يَظُنُّ أن لن يَرْزُقَ اللَّهُ محمدًا في الدنيا، ولن يُعْطِيَه. وذكَروا سماعًا من العربِ: مَن يَنْصُرْنى نصرَه اللَّهُ. بمعنى: مَن يُعْطِنى أعطاه اللَّهُ. وحكَوا أيضًا سماعًا منهم: نصَر المطرُ أرضَ كذا. إذا جادَها وأحْياها. واسْتُشْهِد
(4)
لذلك ببيتِ الفَقْعَسيِّ
(5)
:
وإنَّكَ لا تُعطِى امرَأً فوْقَ حظِّهِ
…
ولا تَمْلِكُ الشِّقَّ الذي الغيثُ ناصرُهْ
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن عطيةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ: أرأيْتَ قولَه: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} . قال: مَن كان يَظُنُّ أن لن يَنْصُرَ اللَّهُ محمدًا، فلْيَرْبِطْ حبلًا في سقفٍ، ثم لْيَخْتَنِقْ به حتى يموتَ
(6)
.
(1)
في ص، ف:"يكابده".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى ابن أبي حاتم مختصرا.
(3)
ينظر مجاز القرآن لأبى عبيدة 2/ 46.
(4)
في ت 1: "واستشهدوا".
(5)
مجاز القرآن 2/ 47، والتبيان 7/ 265، وتفسير القرطبي 12/ 22.
(6)
أخرجه الحاكم 2/ 386 من طريق أبى إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى الفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عن أبي إسحاقَ الهَمْدانيِّ، عن التميميِّ، قال: سأَلْتُ ابنَ عباسٍ عن قولِه: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ}
(1)
. قال: أن لن يَرْزُقَهُ اللَّهُ، {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} . والسببُ الحَبْلُ، والسماءُ سقفُ البيتِ، فلْيُعَلِّقْ حبلًا في سماءِ البيتِ، ثم لْيَخْتَنِقْ، {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} هذا الذي صنع ما يَجِدُ مِن الغيظِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عمرٍو، عن
(3)
مُطَرِّفٍ، عن أبي إسحاقَ، عن رجلٍ مِن بنى تميمٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، عن ابن عباسٍ:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} . قال: سماءِ البيتِ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، قال: سمِعْتُ التميميَّ يقولُ: سأَلْتُ ابنَ عباسٍ. فذكَر مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . إلى قولِه: {مَا يَغِيظُ} . قال: السماءُ التي أمَر اللَّهُ أن يَمُدَّ إليها بسببٍ، سقفُ
(1)
بعده في ت 2: "في الدنيا والآخرة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "بن". وينظر تهذيب الكمال 28/ 62.
(4)
تفسير سفيان ص 208 مطولا بنحو أثر إسرائيل عن أبي إسحاق. ومن طريقه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 260.
البيتِ، أَمَر أن يَمُدَّ إليه بحبلٍ فيَخْتَنِقَ به. قال: فلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كيدُه ما يَغِيظُ إذا اخْتَنَق إِن خشِى ألا يَنْصُرَه اللَّهُ!
وقال آخرون: الهاءُ في {يَنْصُرَهُ} مِن ذكرِ {مَن} . وقالوا: معنى الكلامِ: مَن كان يَظُنُّ أن لن يَرْزُقَه اللَّهُ في الدنيا والآخرةِ، فلْيَمْدُدْ بسببٍ إلى سماءِ البيتِ، ثم لْيَخْتَنِقْ، فلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ فعلُه ذلك ما يَغِيظُ، أنه لا يُرْزَقُ!
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، [قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا]
(1)
عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} . قال: يَرْزُقَه اللَّهُ، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ}. قال: بحبلٍ، {إِلَى السَّمَاءِ}: سماءِ ما فوقَك، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}: لِيَخْتَنِقْ، هل يُذْهِبَن كيدَه [ذلك خنقُه]
(2)
ألا يُرْزَقَ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} . يَرْزُقَه اللَّهُ، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}. قال: بحبلٍ إلى السماءِ.
قال ابن جريجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ، قال:{إِلَى السَّمَاءِ} : إلى سماءِ البيتِ.
قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} . قال: ليَخْتَنِقْ، وذلك
(1)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
(2)
في ت 1: "ما يغيظ خيفة".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
كيدُه، {مَا يَغِيظُ}. قال: ذلك خنقُه ألا يَرْزُقه اللَّهُ.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} . يعنى: بحبلٍ، {إِلَى السَّمَاءِ}. يعنى: سماءِ البيتِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: أخبَرنا أبو رَجاءٍ، قال: سُئِل عكرمةُ عن قولِه: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} . قال: سماءِ البيتِ، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}. قال: ليَخْتَنِقْ
(2)
.
وأولى ذلك بالصوابِ عندى في تأويلِ ذلك قولُ مَن قال: الهاءُ مِن ذكرِ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ودينِه. وذلك أن اللَّهَ تعالى ذكرُه ذكَر قومًا يَعْبُدونه على حرفٍ، وأنهم يَطْمَئِنُّون بالدينِ إن أصابوا خيرًا في عبادتِهم إياه، وأنهم يَرْتَدُّون عن دينِهم لشدةٍ تُصِيبُهم فيها، ثم أتْبَع ذلك هذه الآيةَ، فمعلومٌ أنه إنما أتْبَعه إياها توبيخًا لهم على ارتدادِهم عن الدينِ، أو على شكِّهم فيه و
(3)
نفاقِهم؛ استبطاءً منهم السَّعةَ
(4)
في العيشِ، أو السُّبوغَ في الرزقِ.
وإذ كان الواجبُ أن يكونَ ذلك عَقِيبَ الخبرِ عن نفاقِهم، فمعنى الكلامِ إذن، إذ كان ذلك كذلك: مَن كان يَحْسَبُ أن لن يَرْزُقَ اللَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأمتَه، فيُوَسِّعَ عليهم مِن فضلِه فيها، ويَرْزُقَهم في الآخرةِ مِن سَنِيِّ عطاياه وكرامتِه؛ اسْتبطاءً منه فعلَ اللَّهِ ذلك به وبهم، فلْيَمْدُدْ بحبلٍ إلى سماءٍ فوقَه - إما سقفِ بيتٍ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 397.
(3)
سقط من: م.
(4)
في ت 1: "السفه".
أو غيرِه مما يُعَلَّقُ به السببُ مِن فوقِه - ثم ليَخْتَنِقْ إذا اغتاظ مِن بعضِ ما قضَى اللَّهُ، فاسْتَعْجَل انكشافَ ذلك عنه، فلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كيدُه اختناقَه، كذلك ما يَغِيظُ، فإن لم يُذْهِبْ ذلك غيظَه، حتى يَأْتىَ اللَّهُ بالفرجِ مِن عندِه فيُذْهِبَه، فذلك
(1)
استعجالُه نصرَ اللَّهِ محمدًا ودينَه، لن يُؤَخِّرَ ما قضَى اللَّهُ له مِن ذلك عن ميقاتِه، ولا يُعَجِّلَه
(2)
قبلَ حينِه.
وقد ذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلَت في أسدٍ وغَطفانَ، تَباطَئوا عن الإسلامِ، وقالوا: نَخافُ ألا يُنْصَرَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيَنْقَطِعَ الذي بينَنا وبينَ حُلفائِنا مِن اليهودِ، فلا يُمِيروننا ولا يَرْوُوننا
(3)
. فقال اللَّهُ تبارك وتعالى لهم: مَن اسْتَعْجَل مِن اللَّهِ نصرَ محمدٍ، فلْيَمْدُدْ بسببٍ إلى السماءِ فَلْيَخْتَنِقْ فلْيَنْظُرِ استعجالَه بذلك في نفسِه، هل هو مُذْهِبٌ غيظَه؟ فكذلك استعجالُه مِن اللَّهِ نصرَ محمدٍ غيرُ مُقَدِّمٍ نصرَه قبلَ حينِه.
واختَلَف أهلُ العربيةِ في {مَا} التي في قولِه: {مَا يَغِيظُ} ؛ فقال بعضُ نحويى البصرةِ: هي بمعنى "الذي". وقال: معنى الكلامِ: هل يُذْهِبَنَّ كيدُه الذي يَغِيظُه. قال: وحُذِفَت الهاءُ لأنها
(4)
صلةُ "الذي"، لأنه إذا صارًا
(5)
جميعًا اسمًا واحدًا كان الحذفُ أخفَّ.
وقال غيرُه: بل هو مصدرٌ لا حاجةَ به إلى الهاءِ هل يُذْهِبَنَّ كيدُه غيظَه.
وقولُه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكما بيَّنْت
(1)
في م: "فكذلك".
(2)
في م: "يعجل".
(3)
في ص، ت 1، ف:"يروننا"، وفى ت 2:"يروينا". والقصة في البحر المحيط 6/ 355. وفيه: "أسلم" بدلًا من "أسد".
(4)
في ص، ت 2:"لأنه".
(5)
في ت 2، ف:"صار".
لكم حُجَجى على مَن جحَد قدرتى على إحياءِ مَن مات مِن الخلقِ بعدَ فَنائِه، فأوْضَحْتُها أيُّها الناسُ - كذلك أنْزَلْنا إلى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآنَ {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. يعنى: دَلالاتٍ واضحاتٍ، يَهْدِين مَن أراد اللَّهُ هدايتَه إلى الحقِّ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولأن اللَّهَ يُوَفِّقُ للصوابِ ولسبيلِ الحقِّ مَن أراد، أنْزَل هذا القرآنَ آياتٍ بيناتٍ. فـ "أنَّ" في موضعِ نصبٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الفصلَ بينَ هؤلاء المنافقين الذين يَعْبُدون اللَّهَ على حرفٍ، والذين أَشرَكوا باللَّهِ فعبَدوا الأوثانَ والأصنامَ، والذين هادوا، وهم اليهودُ، والصابئين والنصارى، والمجوسِ الذين عظَّموا النيرانَ وخدَموها، وبينَ الذين
(1)
آمنوا باللَّهِ ورسيله - إلى اللَّهِ، وسيَفْصِلُ بينَهم يومَ القيامةِ بعدلٍ مِن القضاءِ. وفصلُه بينَهم إدخالُه النارَ الأحزابَ كلَّهم، والجنةَ المؤمنين به وبرسلِه، فذلك هو الفصلُ مِن اللَّهِ بينَهم.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} . قال: الصابئون قومٌ يَعْبُدون الملائكةَ، ويُصَلُّون القِبْلةَ، ويَقْرَءون الزَّبُورَ، والمجوسُ يَعْبُدون الشمسَ والقمرَ والنيرانَ، والذين أشرَكوا يَعْبُدون الأوثانَ، والأديانُ ستةٌ؛ خمسةٌ للشيطانِ،
(1)
في ص: "الله"، وفي ف:"الله الذين".
وواحدٌ للرحمنِ
(1)
.
وأُدْخِلَت {إِنَّ} في خبرِ {إِنَّ} الأولى لما ذكَرْتُ مِن المعنى، وأن الكلامَ بمعنى الجزاءِ. كأنه قيل: مَن كان على دينٍ مِن هذه الأديانِ، ففَضْلُ ما بينَه وبينَ مَن خالَفه على اللَّهِ. والعربُ تُدْخِلُ أحيانًا في خبرِ "إنَّ""إنَّ" إذا كان خبرُ الاسمِ الأولِ في اسمٍ مضافٍ إلى ذكرِه، فتقولُ: إن عبدَ اللَّهِ إن الخيرَ عندَه لَكثيرٌ. كما قال الشاعرُ
(2)
:
إِنَّ الخليفةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَه
…
سِربالَ مُلْكٍ به تُرْجَى الخواتيمُ
وكان الفرَّاءُ يقولُ
(3)
: مَن قال هذا لم يَقُلْ: إنك إنك قائمٌ. ولا: إن أباك
(4)
إنه قائم. لأن الاسمين قد اخْتَلَفا، فحُسن رفضُ الأولِ وجعلُ الثاني كأنه هو المبتدأُ، فحسُن للاختلافِ، [وقبُح للاتفاقِ]
(5)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . يقولُ: إن اللَّهَ على كلِّ شيءٍ مِن أعمالِ هؤلاء الأصنافِ الذين ذكَرهم اللَّهُ جلَّ ثناؤُه، وغيرِ ذلك مِن الأشياءِ كلِّها - شهيدٌ لا يَخفَى
(6)
عنه
(7)
شيءٌ مِن ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 39. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1176 (6628) عن الحسن بن يحيى به مقتصرا على أوله، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10206) عن معمر به مقتصرا على أوله أيضا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 347 إلى عبد بن حميد.
(2)
تقدم تخريجه في 15/ 254.
(3)
معاني القرآن 2/ 218.
(4)
في م: "إياك".
(5)
في ص، ت 2، ف:"وفتح بالاتفاق"، وفى ت 1:"وقبح باتفاق".
(6)
في ت 1: "يغيب".
(7)
في ت 2: "عليه".
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم تَرَ [يا محمدُ]
(1)
بقلبِك، فتَعْلَمَ أن اللَّهَ يَسْجُدُ له {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} مِن الملائكةِ، {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} مِن الخَلقِ؛ مِن الجنِّ
(2)
وغيرِهم، {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} في السماءِ، {وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} في الأرضِ، وسجودُ ذلك ظِلالُه حينَ تَطْلُعُ عليه الشمسُ، وحينَ تَزُولُ، إذا تحَوَّل ظلُّ كلِّ شيءٍ فهو سجودُه
(3)
.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} . قال: ظِلالُ هذا كلِّه
(4)
.
وأما سجودُ الشمسِ والقمرِ والنجومِ، فإنه كما حدَّثنا به ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ ومحمدُ بنُ جعفرٍ، قالا: ثنا عوفٌ، قال: سمِعْتُ أبا العاليةِ الرِّياحيَّ يقولُ: ما في السماءِ نجمٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ، إلا يَقَعُ للَّهِ ساجدًا حينَ يَغِيبُ، ثم لا يَنْصَرِفُ حتى يُؤْذَنَ له، فيَأْخُذُ ذات اليمينِ. وزاد محمدٌ: حتى يَرْجِعَ إلى مَطْلَعِه
(4)
.
وقولُه: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . يقولُ: ويَسْجُدُ كثيرٌ مِن
(5)
بنى آدمَ، وهم المؤمنون باللَّهِ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن
(1)
سقط من: ت 1، ف.
(2)
بعده في ت 1: "والإنس".
(3)
في ت 1، ف:"سجود".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 348 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
بعده في ت 2: "الناس من".
مجاهدٍ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . قال: المؤمنون
(1)
.
وقولُه: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكثيرٌ مِن بنى آدمَ حقَّ عليه
(2)
عذابُ اللَّهِ، فوجَب عليه بكفرِه به، وهو مع ذلك يَسْجُدُ اللَّهِ ظلُّه.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} : وهو يَسْجُدُ مع ظلِّه (1).
فعلى هذا التأويلِ الذي ذكَرْناه عن مجاهدٍ وقَع قولُه: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . بالعطفِ على قولِه: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . ويكونُ داخلًا في عِدادٍ مَن وصَفَه اللَّهُ بالسجودِ له، ويكونُ قولُه:{حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . مِن صلةِ: {كَثِيرٌ} . ولو كان "الكثيرُ" الثاني ممن لم يَدْخُلُ في عِدادٍ مَن وُصِف بالسجودِ، كان مرفوعًا بالعائدِ مِن ذكرِه في قولِه:{حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . وكان معنى الكلامِ حينَئذٍ: وكثيرٌ أبَى السجودَ؛ لأن قولَه: {حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يَدُلُّ على معصيةِ اللَّهِ وإبائِه السجودَ، فاسْتَحَقَّ بذلك العذابَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يُهِنْه اللَّهُ مِن خلقِه فيُشْقِه {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} . بالسعادةِ يُسْعِدُه بها؛ لأن الأمورَ كلَّها بيدِ اللَّهِ، يُوَفِّقُ مَن يَشاءُ لطاعتِه، ويَخْذُلُ مَن يَشاءُ، ويُشْقِى مَن أراد، ويُسْعِدُ مَن أحَبَّ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 348 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في ت 1: "العذاب أي"، وبعده في ت 2:"العذاب".
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إِن اللَّهَ يَفْعَلُ في خلقِه ما يَشاءُ مِن إهانةِ مَن أراد إهانتهَ، وإكرامِ مَن أراد كرامتَه؛ لأن الخلقَ خلقُه، والأمرَ أمرُه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
وقد ذُكِر عن بعضِهم أنه قرَأه: (فَمَا لَهُ مِن مُكْرَمٍ) بمعنى: فما له مِن إكرامٍ
(1)
.
وذلك قراءةٌ لا أَسْتَجِيزُ القراءةَ بها؛ لإجماعِ الحجةِ مِن القرأةِ على خلافِه.
اختَلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بهذين الخصمين اللذين ذكَرَهما اللَّهُ؛ فقال بعضُهم: أحدُ الفريقين أهلُ الإيمانِ، والفريقُ الآخرُ عبدُة الأوثانِ مِن مُشْركى قريشٍ الذين تَبارَزوا يومَ بدرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبَرنا أبو هاشمٍ، عن أبي مِجْلَزٍ، عن قيسِ بنِ عُبادِ
(2)
، قال: سمِعْتُ أبا ذرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا أن هذه الآيةَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ، نزَلَت في الذين بارَزوا يومَ بدرٍ؛ حمزةَ وعليٍّ وعُبَيدةَ بن الحارثِ، وعتبةَ وشيبةَ ابنى ربيعةَ والوليدِ بن عتبةَ
(3)
.
(1)
وهى قراءة ابن أبي عبلة. البحر المحيط 6/ 359.
(2)
في م: "عبادة". وينظر تهذيب الكمال 24/ 64.
(3)
أخرجه البخارى (3969، 3743)، ومسلم (3033/ 34)، والنسائى (8649) من طريق هشيم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 348 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
قال
(1)
: وقال عليٌّ: إنى لأوَّلُ - أو مِن أولِ - مَن يَجْثو للخُصومةِ يومَ القيامةِ بينَ يدِى اللَّهِ تبارك وتعالى
(2)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي هاشمٍ، عن أبى مجلزٍ، عن قيسِ بن عُبَادٍ، قال: سمِعْتُ أبا ذرٍّ يُقْسِمُ باللَّهِ قسمًا: لَنَزَلَت هذه الآيةُ في ستةٍ مِن قريشٍ؛ حمزةَ بن عبدِ المطلبِ، وعليِّ بن أبى طالبٍ، وعُبَيدةَ بن الحارثِ، رضي الله عنهم، وعتبةَ بن ربيعةَ، وشيبةَ بن ربيعةَ، والوليدِ بن عتبةَ، {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . إلى آخرِ الآيةِ، {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . إلى آخرِ الآيةِ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي هاشمٍ، عن أبى مجلزٍ، عن قيسِ بن عُبادٍ، قال: سمِعْتُ أبا ذرٍّ يُقْسِمُ. ثم ذكَر نحوَه
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ مُحَبَّبٍ
(5)
، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورِ بن المعتمرِ، عن هلالِ بن يِسافٍ، قال: نزَلَت هذه الآيةُ في الذين تَبارَزوا يومَ بدرٍ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
(6)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ بنُ الفضلِ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن بعضِ أصحابِه، عن عطاءِ بن يَسارٍ، قال: نزَلَت هؤلاء الآياتُ {هَذَانِ خَصْمَانِ
(1)
القائل قيس بن عباد.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 427، والبخارى (3965، 4744)، والنسائى (8650)، والبيهقى في الدلائل 3/ 73 من طريق أبى مجلز به.
(3)
تفسير سفيان ص 209. ومن طريقه ابن أبي شيبة 14/ 365، والبخارى (3966، 3968)، والبيهقى في دلائل النبوة 3/ 73.
(4)
أخرجه مسلم (3033)، وابن ماجه (2835) من طريق عبد الرحمن به.
(5)
في ف: "مجيب". وينظر تهذيب الكمال 26/ 365.
(6)
ينظر فتح البارى 8/ 444.
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. في الذين تَبارَزوا يومَ بدرٍ؛ حمزةَ، وعليٍّ، وعُبيدةَ بن الحارثِ، وعتبةَ بن ربيعةَ، وشيبةَ بن ربيعةَ، والوليدِ بن عتبةَ. إلى قولِه:{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} .
قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي هاشمٍ، عن أبي مجلزٍ، عن قيسِ بن عُبادٍ
(1)
، قال: واللَّهِ لأُنْزِلَت هذه الآيةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . في الذين خرَج بعضُهم إلى بعضٍ يومَ بدرٍ؛ حمزةَ، وعليٍّ، وعُبيدةَ، رحمةُ اللَّهِ عليهم، وشيبةَ، وعتبةَ، والوليدِ بن عتبةَ
(2)
.
وقال آخرون ممن قال: أحدُ الفريقين فريقُ الإيمانِ: بل
(3)
الفريقُ الآخرُ أهلُ الكتابِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . قال: هم أهلُ الكتابِ قالوا للمؤمنين: نحن أولى باللَّهِ وأقدمُ منكم كتابًا، ونبيُّنا قبلَ نبيِّكم
(4)
. قال المؤمنون: نحن أحقُّ باللَّهِ، آمَنَّا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وآمَنَّا بنبيِّكم، وبما أنْزَل اللَّهُ مِن كتابٍ، فأنتم تَعْرِفون كتابَنا ونبيَّنا، ثم ترَكْتُموه وكفَرْتُم به حسدًا. وكان ذلك خصومتَهم في ربِّهم
(5)
.
(1)
في م: "عبادة".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 379، والبيهقى في دلائل النبوة 3/ 73 من طريق أبى مجلز به.
(3)
في ت 1، ف:"قل". وفى ت 2: "و".
(4)
بعده في م: "و".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 349 إلى المصنف وابن مردويه.
وقال آخرون منهم: بل الفريقُ الآخرُ الكفارُ كلُّهم، مِن أيِّ ملةٍ كانوا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ وعطاءِ بن أبى رَباحٍ، وأبى قَزَعَةَ، عن الحسنِ
(1)
، قال: هم الكافرون والمؤمنون، اخْتَصَموا في ربِّهم
(2)
.
قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ: مثلُ الكافرِ والمؤمنِ. قال ابن جريجٍ: خصومتُهم التي اخْتَصَموا في ربِّهم، خصومتُهم في الدنيا مِن أهلِ كلِّ دينٍ يَرَوْن أنهم أولى باللَّهِ مِن غيرِهم.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ
(3)
، قال: كان عاصمٌ والكلبيُّ يقولان جميعًا في: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . قال: أهلُ الشركِ والإسلامِ حينَ اخْتَصَموا أيُّهم أفضلُ؟ قال: جعَل الشركَ ملةً
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . قال: مَثَلُ المؤمنِ والكافرِ، اختصامُهما في البعثِ
(5)
.
وقال آخرون: الخصمان اللذان ذكَرَهما اللَّهُ في هذه الآيةِ الجنةُ والنارُ.
(1)
في ص، م:"الحسين".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 349 إلى المصنف.
(3)
في ت 2، ف:"عباس". وينظر تهذيب الكمال 26/ 245.
(4)
ينظر تفسير القرطبي 12/ 26.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 349 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ في:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . قال: هما الجنةُ والنارُ اخْتَصَمَتا، فقالت النارُ: خلَقَنى اللَّهُ لعقوبتِه. وقالت الجنةُ: خلَقَنى اللَّهُ لرحمتِه. فقد قصَّ اللَّهُ عليك مِن خبرِهما ما تَسْمَعُ
(1)
.
وأولى هذه الأقوالِ عندى بالصواب وأشبهُها بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: عُنِى بالخصمينِ جميعُ الكفارِ مِن أيِّ
(2)
أصنافِ الكفرِ كانوا، وجميعُ المؤمنين. وإنما قلتُ: ذلك أولى بالصوابِ؛ لأنه تعالى ذكرُه ذكَر قبلَ ذلك صِنْفين مِن خلقِه؛ أحدُهما: أهلُ طاعةٍ له بالسجودِ، له والآخرُ: أهلُ معصيةٍ له، قد حقَّ عليه العذابُ، فقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} . ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . ثم أتْبَع ذلك صفةَ الصِّنْفين كليهما وما هو فاعلٌ بهما، فقال:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} . وقال اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الحج: 23]. فكان بيِّنًا بذلك أن ما بيَن ذلك خبرٌ عنهما.
فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ فيما رُوِى عن أبي ذرٍّ في قولِه: إن ذلك نزَل في الذين بارَزوا يومَ بدرٍ؟ قيل: ذلك إن شاء اللَّهُ كما رُوِى عنه، ولكنَّ الآيةَ قد تَنْزِلُ بسببٍ مِن الأسبابِ ثم تكونُ عامَّةً في كلِّ ما كان نظيرَ ذلك السببِ، وهذه من
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 349 إلى المصنف إلى قوله: خلقنى الله لرحمته.
(2)
في م: "أن".
تلك، وذلك أن الذين تَبارَزوا إنما كان أحدُ الفريقين أهلَ شركٍ وكفرٍ باللَّهِ، والآخرُ أهلَ إيمانٍ باللَّهِ وطاعةٍ له، فكلُّ كافرٍ في حكمِ فريقِ الشركِ منهما في أنه لأهلِ الإيمانِ خَصْمٌ، وكذلك كلُّ مؤمنٍ في حكمِ فريقِ الإيمانِ منهما في أنه لأهلِ الشركِ خصمٌ.
فتأويلُ الكلامِ: هذان خصمان اختَصَموا في دينِ ربِّهم، واخْتِصامُهم في ذلك مُعاداةُ كلِّ فريقٍ منهما الفريقَ الآخرَ، ومحاربتُه إياه على دينِه.
وقولُه: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأما الكافرُ باللَّهِ منهما فإنه يُقَطَّعُ له قميصٌ مِن نُحاسٍ مِن نارٍ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار} . قال: الكافرُ قُطِّعَت له ثيابٌ مِن نارٍ، والمؤمنُ يُدْخِلُه اللَّهُ جناتٍ تَجْرِى مِن تحتِها الأنهارُ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار} . قال: ثيابٌ مِن نُحاسٍ، وليس شيءٌ مِن الآنيةِ أحْمَى وأشدَّ حرًّا منه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الكفارُ قُطِّعَت لهم ثيابٌ مِن نارٍ، والمؤمنُ يُدْخَلُ جناتٍ تَجْرِى مِن تحتِها الأنهارُ (1).
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 349 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 349 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وقولُه: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} . يقولُ: يُصَبُّ على رءوسِهم ماءٌ مُغْلًى.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الطَّالْقانيُّ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن سعيدِ بن يزيدَ
(1)
، عن أبي السَّمْحِ، عن ابن جُحَيرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الحَمِيمَ لَيُصَبُّ على رُءُوسِهم، فيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِه، فيَسْلُتُ ما في جَوْفِه حتى يَبْلُغَ قَدَمَيهِ، وهى الصَّهْرُ، ثم يعادُ كما كان"
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا يَعْمَرُ بنُ بشرٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، قال: أخبَرنا سعيدُ بنُ يزيدَ (1)، عن أبي السَّمْحِ، عن ابن جُحَيرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلِه، إلا أنه قال:"فيَنْفُذُ الجمجمةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِه، فيَسْلُتُ ما في جَوْفِه".
وكان بعضُهم يزعُمُ أن قولَه: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} . مِن المُؤَخَّرِ الذي معناه التقديمُ، ويقولُ: وَجْهُ الكلامِ: فالذين كَفَروا قُطِّعَت لهم ثيابٌ مِن نارٍ، ولهم مَقامِعُ مِن حديدٍ، يُصَبُّ مِن فوقِ رءوسِهم الحميمُ. ويقولُ: إنما وَجَب أن يكونَ ذلك كذلك؛ لأن المَلَكَ يَضرِبُه بالمِقْمَعِ مِن الحديدِ حتى يَنْقُبَ رأسَه، ثم يَصُبُّ فيه الحميمَ الذي انْتَهَى حَرُّه، فيقطَعُ بطنَه. والخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي ذكَرنا، يدُلُّ على خلافِ ما قال هذا القائلُ،
(1)
في النسخ: "زيد". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 11/ 118.
(2)
أخرجه أحمد 14/ 452 (8864) عن إبراهيم به، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (313 - زوائد نعيم)، ومن طريقه الترمذى (2582)، وعبد الله في زوائد الزهد ص 20، والحاكم 2/ 387، وأبو نعيم في الحلية 8/ 182، والبغوى في تفسيره 5/ 374، وفى شرح السنة (4406)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 402.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن الحميمَ إذا صُبَّ على رُءُوسِهم نَفَذَ الجمجمةَ حتى يخلُصَ إلى أجْوافِهم، وبذلك جاء تأويلُ أهلِ التأويلِ، ولو كانت المَقَامِعُ قد ثقَبت
(1)
رءوسَهم قبلَ صَبِّ الحميمِ عليها، لم يَكُنْ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الحميمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ"، معنًى، ولكنَّ الأمر في ذلك بخلافِ ما قال هذا القائلُ.
وقولُه: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} . يقولُ: يُذَابُ بالحميمِ الذي يُصَبُّ مِن فوقِ رُءُوسِهم ما في بطونِهم مِن الشُّحُومِ، وتُشْوَى جلودُهم منه فتَتَساقَطُ. والصَّهْرُ هو الإذابةُ، يقالُ منه: صَهَرْتُ الأَلْيَةَ بالنارِ، إذا أذَبْتَها، أصْهَرُها صَهْرًا، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
تَرْوِى لَقًى أُلْقِىَ في صَفْصَفٍ
…
تَصْهَرُه الشَّمْسُ ولا يَنْصَهِرْ
ومنه قولُ الراجزٍ
(3)
:
* شَكّ السَّفَافِيدِ الشِّوَاءَ المُصْطَهَرْ*.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مِن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يُصْهَرُ بِهِ} . قال: يُذَابُ إذابةً
(4)
.
(1)
في م: "تثقب". وفى ت 1: "نقبت"، وفى ت 2:"بعثت"، وفى ف:"بقيت".
(2)
البيت في مجاز القرآن 2/ 48، واللسان والتاج (ص هـ ر) منسوبا لابن أحمر.
(3)
هو العجاج، والرجز في ديوانه ص 55.
(4)
تفسير مجاهد ص 478، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 350 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال ابن جريجٍ: {يُصْهَرُ بِهِ} . قال: ما قُطِّع لهم مِن العذابِ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} . قال: يُذَابُ به ما في بطونِهم.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار} . إلى قولِه: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} . يقولُ: يُسْقَون ماءً إذا دَخَل بُطُونَهم أذابَها، والجلودَ مع البطونِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ وهارونَ بن عنترةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ - قال هارونُ: إذا عامَ أهلُ النارِ. وقال جعفرٌ: إذا جاعَ أهلُ النارِ - اسْتَغاثوا بشجرةِ الزقومِ، فيأكُلون منها، فاخْتلَسَت جلودَ وُجُوهِهم، فلو أن مارًّا مَرَّ بهم يَعْرِفُهم، يعرِفُ جلودَ وُجُوهِهم فيها، ثم يُصَبُّ عليهم العَطَشُ، فيَسْتَغِيثون، فيُغاثون بماءٍ كالمُهْلِ، وهو الذي قد انتَهى حَرُّه، فإذا أَدْنَوه مِن أفْوَاهِهِم انْشَوَى مِن حَرَّه لحومُ وُجُوهِهم التي قد سَقَطَت عنها الجلودُ، و {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 34.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 350 إلى المصنف.
بُطُونِهِمْ}. [يمشون و] أمعاؤهم]
(1)
تساقط و]
(2)
جلودُهم، ثم يُضْرَبون بمَقامِعَ مِن حديدٍ، فيَسْقُطُ كلُّ عُضْوٍ على حيالِه
(3)
، يَدْعُون بالوَيْلِ والثُّبُورِ
(4)
.
وقولُه: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} . تَضْرِبُ رُءُوسَهم بها الخَزَنَةُ إذا أرادوا الخروجَ مِن النارِ حتى تَرْجِعَهم إليها.
وقولُه: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} . يقولُ: كُلَّما أراد هؤلاء الكفارُ الذين وَصَف اللَّهُ صفتَهم، الخروجَ من النارِ، مما نالَهم مِن الغَمِّ والكَرْبِ، رُدُّوا إليها.
كما حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، قال: أخبَرنا الأعْمشُ، عن أبي ظَبْيانَ، قال: النارُ سوداءُ مُظْلِمةٌ، لا يُضِئُ لَهَبُها ولا جَمْرُها. ثم قَرأ:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}
(5)
.
وقد ذُكِر أنهم يُحاوِلون الخروجَ مِن النارِ حينَ تَجيِشُ جهنمُ فتُلْقِى مَن فيها إلى أعلى أبوابِها، فيُريدون الخروجَ، فتُعِيدُهم الخُزَّانُ فيها بالمقَامِعِ، ويقولون لهم إذا ضَرَبوهم بالمقَامعِ:{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
وعَنَى بقولِه: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} : ويقالُ لهم: ذُوقوا عذابَ النارِ.
وقيل: {عَذَابَ الْحَرِيقِ} . والمعنى: المُحْرِقُ. كما قيل: العذابُ الأليمُ. بمعنى: المُؤْلِمُ.
(1)
في م: "يعنى أمعاءهم"، وفى ت 1:"يمشون بامعائهم"، وبعده في النسخ:"و".
(2)
سقط من: النسخ. والمثبت من الحلية والدر المنثور.
(3)
في م، ت 2:"حاله".
(4)
تقدم تخريجه في 15/ 252.
(5)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (310)، وابن أبي شيبة 13/ 152، وهناد في الزهد 1/ 173، وابن أبي الدنيا في صفة النار (19)، والحاكم 2/ 387 من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان. وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 350 عن سلمان، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وسعيد بن منصور.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وأمَّا الذين آمَنوا باللَّهِ ورسولِه فأطاعُوهما بما أمَرهم اللَّهُ به مِن صالحِ الأعمالِ، فإن اللَّهِ يُدْخِلُهم جناتِ عدنٍ تَجْرِى مِن تحتِها الأنهارُ، فيُحَلِّيهم فيها مِن أَساوِرَ مِن ذهبٍ ولؤلوًا
(1)
.
واختَلفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَلُؤْلُؤًا} ؛ فقَرأَته عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ، وبعضُ أهلِ الكوفةِ نَصْبًا مع التي في "الملائكةِ"
(2)
، بمعنى: يُحَلَّون فيها أساورَ مِن ذهبٍ ولؤلؤًا، عطفًا باللؤلؤ على موضعِ الأساورِ؛ لأن الأساورَ، وإن كانت مخفوضةً من أجلِ دخولِ {مِنْ} فيها، فإنها بمعنى النصبِ، قالوا: وهي تُعَدُّ في خَطِّ المصحفِ بالألفِ. فذلك دليل على صحةِ القراءةِ بالنصبِ فيه.
وقرَأت ذلك عامةُ قرأةِ العراقِ والمِصْرَين: (وَلُؤْلُؤُ) خفضًا، عطفًا على إعرابِ الأساورِ الظاهرِ
(3)
.
واختلَف الذين قَرءوا ذلك كذلك في وَجْهِ إثباتِ الألفِ فيه؛ فكان أبو عمرِو بن العلاءِ، فيما ذُكِر لى عنه، يقولُ: أُثْبِتَت فيه كما أُثْبِتَت في: قالوا، وكالوا.
وكان الكسائيُّ يقولُ: أثْبَتوها فيه
(4)
للهمزةِ؛ لأن الهمزةَ حرفٌ مِن الحروفِ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"لؤلؤ".
(2)
سورة الملائكة هي سورة فاطر، وهذه قراءة نافع وأبى جعفر وعاصم. في الموضعين، ووافقهم يعقوب هنا. النشر 2/ 244.
(3)
وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وحمزة والكسائى وخلف - المصدر السابق.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"منه".
والقولُ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان، قد قَرأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرأةِ، مُتَّفِقَتا المعنى، صَحيحتا المخرجِ في العربيةِ، فبأيَّتِهما قَرأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . يقولُ: ولُبُوسُهم التي تَلَى أَبْشَارَهم فيها ثيابٌ حريرٌ.
وقولُه: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وهَداهم ربُّهم في الدنيا إلى شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} . قال: هُدُوا إلى الكلامِ الطيبِ؛ لا إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، والحمدُ للَّهِ، قال اللَّهُ:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]
(1)
.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} . قال: أُلْهِموا
(2)
.
وقولُه: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وهَداهم ربُّهم في الدنيا إلى طريقِ الربِّ الحميدِ. وطريقُه دينُه دينُ الإسلامِ الذي شَرَعه لخلقِه، وأمَرهم أن يَسْلكوه.
"والحميدُ" فَعِيلٌ، صُرِف مِن مفعولٍ إليه، ومعناه: أنه محمودٌ عندَ أوليائِه مِن خلقِه، ثم صُرِفَ مِن محمودِ إلى حميدٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 350 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 30 - من طريق عبد الله به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 350 إلى ابن المنذر.
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين جَحَدوا توحيدَ اللَّهِ وكَذَّبوا رسولَه
(1)
، وأنكَروا ما جاءَهم به من عندِ ربِّهم، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. يقولُ: ويَمْنَعون الناسَ عن دينِ اللَّهِ أن يدخُلوا فيه، وعن المسجدِ الحرامِ الذي جعَله اللَّهُ للناسِ الذين آمَنوا به كافةً، لم يَخْصُصْ منهم
(2)
بعضًا دونَ بعضٍ، {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}. يقولُ: معتدلٌ في الواجبِ عليه من تَعْظيمِ حُرْمةِ المسجدِ الحرامِ، وقضاءِ نُسُكِه به، والنزولِ فيه حيث شاء، {الْعَاكِفُ فِيهِ} وهو المُقِيمُ به، {وَالْبَادِ} وهو المُنْتابُ إليه مِن غيرِه.
واختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} وهو المُقيمُ فيه، {وَالْبَادِ} ، في أنه ليس أحدُهما بأحقَّ بالمَنْزِلِ فيه مِن الآخَرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عمرٍو، عن يزيدَ بن أبى زيادٍ، عن ابن سابِطٍ، قال: كان الحُجاجُ إذا قدِموا مكةَ، لم يَكُنْ أحدٌ مِن أهلِ مكةَ بأحقَّ بمنزلِه منهم، وكان الرجلُ إذا وجَد سَعَةً نزَل، ففَشا فيهم السَّرَقُ، وكلُّ إنسانٍ يَسْرِقُ مِن ناحيتِه، فاصْطَنَعَ رجلٌ بابًا، فأرسَل إليه عمرُ: أَتَّخَذْتَ بابًا مِن حُجاجِ بيتِ اللَّهِ؟ فقال: لا، إنما جعَلتُه ليَحْرُزَ متاعَهم. وهو قولُه:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . قال: البادِ فيه كالمُقيمِ، ليس أحدٌ أحقَّ بمنزلِه مِن أحدٍ إلا أن يكونَ أحدٌ سَبَقَ إلى منزل
(3)
.
(1)
في م، ت 1، ت 3:"رسله".
(2)
في م، ت 1، ف:"منها".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 79، 80 من طريق يزيد به مختصرا.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارِ، قال ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حَصِينٍ، قال: قلتُ لسعيدِ بن جُبَيرٍ: أَعْتَكِفُ بمكةَ؟ قال: أنت عاكِفٌ. وقَرأ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عمن ذكَره، عن أبي صالحٍ:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . العاكِفُ أهلُه، والبادِ المَنْتابُ في المنزلِ سواءً
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . يقولُ: ينزلُ أهلُ مكةَ وغيرُهم في المسجدِ الحرامٍ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . قال: العاكِفُ فيه المُقِيمُ بمكةَ، والبادِ الذي يأتيه، هم فيه سواءٌ في البيوتِ (2).
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . سواءً فيه أهلُه وغيرُ أهلِه.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {سَوَاءً
(1)
تفسير سفيان ص 209. وهو في تفسير مجاهد ص 478 عن قيس بن الربيع عن أبي حصين بلفظ: أعتكف في المسجد الحرام؟ قال: أنت معتكف ما دمت بمكة
…
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 350، 351 إلى عبد بن حميد.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 405.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 34.
الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}. قال: أهلُ مكةَ وغيرُهم في المنازلِ سواءً
(1)
.
وقال آخرون في ذلك نحوَ الذي قُلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قولَه:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ}
(2)
. قال: الساكِنُ، {وَالْبَادِ}: الجانبُ، سواءٌ حَقُّ اللَّهِ عليهما فيه
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} . قال: الساكِنُ، {وَالْبَادِ}: الجانبُ. قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُمَيلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} . قالا: مِن أهلِه، {وَالْبَادِ}: الذين يأتونه مِن غيرِ أهلِه، هما في حُرْمتِه سواءٌ
(4)
.
وإنما اخترنا القولَ الذي اختَرنا في ذلك؛ لأن اللَّهَ تعالى ذكرُه ذَكَر في أوَّلِ الآيةِ صَدَّ مَن كفَر به مَن أرادَ مِن المؤمنين قضاءَ نُسُكِه في الحرمِ عن المسجدِ الحرامِ، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . ثم ذَكَر جلَّ ثناؤُه صفةَ المسجدِ الحرامِ، فقال:{الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} . فأخبَر جل ثناؤه أنه جعَله للناس كلِّهم، [والكافرون]
(5)
به يمنَعون مَن أرادَه مِن المؤمنين به عنه، ثم قال:
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 79 عن جرير به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى عبد بن حميد.
(2)
بعده في ت 1: "والباد".
(3)
تفسير مجاهد ص 478.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 350 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(5)
في م: "فالكافرون".
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . فكان معلومًا أن خبَرَه عن اسْتواءِ العاكفِ فيه والبادِ إنما هو في المعنى الذي ابتَدأ اللَّهُ الخبرَ عن الكفارِ
(1)
أنهم صدُّوا عنه المؤمنين به، وذلك لا شَكَّ طَوافُهم، وقضاءُ مناسكِهم به، والمقامُ، لا الخبرُ عن ملِكهم إياه وغيرِ ملكِهم.
وقيل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . فعطَف بـ {وَيَصُدُّونَ} وهو مُسْتَقبَلٌ على {كَفَرُوا} وهو ماضٍ؛ لأن الصَّدَّ بمعنى الصفةِ لهم والدَّوامِ.
وإذ كان ذلك معنى الكلامِ، لم يَكُنْ إلا بلفظِ الاسمِ أو الاسْتقبالِ، ولا يكونُ بلفظِ الماضي. وإذا كان ذلك كذلك كان معنى الكلامِ: إن الذين كفَروا مِن صفتِهم الصَّدُّ عن سبيلِ اللَّهِ، وذلك نظيرُ قولِ اللَّهِ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28].
وأما قولُه: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} . فإن قرأةَ الأمْصارِ على رفعِ (سواءٌ) بـ "العاكفِ"، و "العاكفِ" به
(2)
، وإعمالِ {جَعَلْنَاهُ} في الهاءِ المتصلةِ به، واللامِ التي في قولِه:{لِلنَّاسِ} . ثم استأنَفَ الكلامَ بـ "سواء"، وكذلك تفعلُ العربُ بـ "سواء"، إذا جاءتْ بعدَ حرفٍ قد تَمَّ الكلامُ به، فتقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ سواءٌ عندَه الخيرُ والشرُّ. وقد يجوزُ في ذلك الخَفْضُ، وإنما يُخْتَارُ الرفعُ في ذلك لأن "سواء" في مذهبِ "واحد" عندَهم فكأنهم قالوا: مَرَرْتُ برجلٍ واحدٌ عندَه الخيرُ والشرُّ. وأما مَن خَفَضَه، فإنه يوجِّهُه إلى: معتدل عندَه الخيرُ والشرُّ. ومَن قال ذلك في "سواء" فاسْتأنفَ به ورفَع
(3)
، لم يَقُلْه في "معتدل"؛ لأن "معتدل" فعلٌ مُصَرَّحٌ، و "سواء" مصدرٌ، فإخراجُهم إياه إلى الفعلِ كإخراجِهم "حَسْب" في
(1)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"به".
(2)
وهى قراءة السبعة، غير عاصم في رواية حفص فإنه قرأ بالنصب. السبعة لابن مجاهد ص 435.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"و".
قولِهم: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك مِن رجلٍ. إلى الفعلِ.
وقد ذُكِر عن بعضِ القرأةِ أنه قرَأه: {سَوَاءً} ، نصبًا على إعمالِ {جَعَلْنَاهُ} فيه. وذلك وإن كان له وَجْهٌ في العربيةِ، فقراءةٌ لا أستجِيزُ القراءةَ بها؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن القرأةِ على خلافِه
(1)
.
وقولُه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يُرِدْ فيه إلحادًا بظُلْمٍ نُذِقْه مِن عذابٍ أليمٍ. وهو أن يَمِيلَ في البيتِ الحرامِ بظلمٍ.
وأُدخِلت الباءُ في قولِه: {بِإِلْحَادٍ} . والمعنى فيه ما قلتُ، كما أُدخِلت في قولِه:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، والمعنى: تَنْبُتُ الدُّهْنَ. كما قال الشاعرُ
(2)
:
بوادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُهُ
…
وأسْفَلُه بالمرْخِ والشَّبَهانِ
والمعنى: وأسفلُه يُنْبِتُ المَرْخَ والشَّبَهانَ. وكما قال أعْشَى بنى ثَعْلبةَ
(3)
:
ضَمِنَتْ برِزْقِ عِيَالِنَا أَرْماحُنا
…
بيَن المَراجِلِ والصَّرِيحِ الأجْرَدا
بمعنى: ضَمِنَت رزْقَ عِيالِنا أرماحُنا. في قولِ بعضِ نحويِّى البصريِّين، وأما بعضُ نحويِّى الكوفيِّين، فإنه كان يقولُ
(4)
: أُدخلت الباءُ فيه لأن تأويلَه: ومَن يُرِدْ بأن يَلْحَدَ فيه بظُلْمٍ. وكان يقولُ: دخولُ الباءِ في "أنْ" أسهلُ منه في "إلحادٍ" وما أشْبَهَه؛ لأن "أنْ" تُضْمَرُ الخَوافِضُ معها كثيرًا، وتكونُ كالشَّرْطِ فاحتَمَلت دخولَ الخافضِ وخروجَه؛ لأن الإعرابَ لا يَتَبَيَّنُ فيها، وقلَّ
(5)
في
(1)
قراءة النصب متواترة كقراءة الرفع.
(2)
تقدم تخريجه في 15/ 513.
(3)
ديوانه ص 231.
(4)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 222.
(5)
في النسخ: "قال". والمثبت من معاني القرآن للفراء 2/ 222.
المصادرِ لتَبَيُّن الرفعِ والخفضِ فيها. قال: وأنشَدنى أبو الجَرَّاحِ:
فلمَّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزَّ لها العَصَا
(1)
…
شَحِيحٌ له عندَ الأَداءِ نَهِيمُ
وقال امرؤُ القيسِ
(2)
:
ألَا هَلْ أتاها والحوادثُ جَمَّةٌ
…
بأنَّ امرأَ القَيْسِ بنَ تَمْلِكَ بَيْقرا
(3)
قال: فأدخَل الباءَ على "أن" وهى في موضعِ رفعٍ، كما أدخَلها على "إلحادٍ" وهو في موضعِ نصبٍ. قال: وقد أدخَلوا الباءَ على "ما" إذا أرادوا بها المصدرَ، كما قال الشاعرُ
(4)
:
ألَمْ يَأْتِيكَ والأنباءُ تَنْمِى
…
بما لاقَتْ لَبُونُ بنى زِيادِ
وقال: وهو في "ما" أقلُّ منه في "أن"؛ لأن "أن" أقلُّ شَبَهًا بالأسماءِ مِن "ما". قال: وسمِعتُ أعرابيًّا مِن ربيعةَ وسألتُه عن شيءٍ، فقال: أرجو بذاك. يريدُ: أرجو ذاك.
واختَلف أهلُ التأويلِ في معنى "الظلم" الذي مَن أرادَ الإلحادَ به في المسجدِ الحرامِ أذاقَه اللَّهُ مِن العذابِ الأليمِ؛ فقال بعضُهم: ذلك هو الشركُ باللَّهِ وعبادةُ غيرِه به. أي: بالبيتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
في ت 1، ت 2:"العطا".
(2)
ديوانه ص 392.
(3)
بيقر الرجل: هاجر من أرض إلى أرض، وبيقر: خرج إلى حيث لا يدرى، وبيقر: نزل الحضر وأقام هناك وترك قومه بالبادية، وخص بعضهم به العراق، وقول امرئ القيس: يحتمل جميع ذلك. اللسان (ب ق ر).
(4)
هو قيس بن زهير، والبيت في الكتاب 3/ 316، ونوادر أبى زيد ص 203، والخزانة 8/ 361.
قولَه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . يقولُ: بشِرْكٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عَنْسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن
(2)
القاسمِ بن أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . قال
(3)
: هو أن يُعْبَدَ فيه غيرُ اللَّهِ
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بن سليمانَ، عن أبيه، قال:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . قال: هو الشركُ، من أشرَك في بيتِ اللَّهِ عَذَّبه اللَّهُ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(5)
.
وقال آخرون: هو اسْتِحلالُ الحرامِ فيه أو رُكُوبُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . يعنى: أن تَسْتَحِلَّ مِن الحرامِ ما حَرَّم اللَّهً عليك مِن لسانٍ أو قتلٍ، فتَظْلِمَ مَن لا يَظْلِمُك، وتَقتُلَ مَن لا يقتُلُك، فإذا فعَل ذلك فقد وجَب له عذابٌ أليمٌ
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بن". ينظر تهذيب الكمال 23/ 338.
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى المصنف.
(5)
تفسير عبد الرزاق 2/ 34. وأخرجه البيهقى في الشعب (4015) من طريق سعيد، عن قتادة.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى المصنف.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . قال: يعملُ فيه عملًا سَيِّئًا
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا أبو كريبٍ ونصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدِيُّ، قالا: ثنا المحارِبيُّ، عن سفيانَ، عن السُّدِّيِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: ما مِن رجلٍ يَهُمُّ بسيئةٍ فتُكتَبَ عليه، ولو أن رجلًا [بِعَدَنِ أَبْيَنَ]
(2)
هَمَّ أن يقتُلَ رجلًا بهذا البيتِ، لأذاقَه اللَّهُ مِن العذابِ الأليمِ
(3)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا شعبةُ، عن السُّدِّيِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ - قال مجاهدٌ: قال يزيدُ: قال لنا شعبةُ: رفَعه، وأنا لا أرفَعُه لك - في قولِ اللَّهِ:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . قال: لو أن رجلًا هَمَّ فيه بسيئةٍ وهو بِعَدَنِ أَبْينَ، لأذاقَهُ اللَّهُ عذابًا أليمًا
(4)
.
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصباحِ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن أبيه، عن الضحاكِ بنِ مزاحمٍ في قولِه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . قال: إن الرجلَ ليَهُمُّ
(1)
تفسير مجاهد ص 479.
(2)
في م: و بعد أن بين". وتقدم تعريف عدن أبين في ص 397.
(3)
تفسير سفيان ص 209، 210: ومن طريقه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب 8/ 629، 630 (4046) - والحاكم 2/ 387.
(4)
أخرجه أحمد 7/ 155 (4071)، والبزار (2024)، وأبو يعلى (5384)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 407 - والحاكم 2/ 388 من طريق يزيد بن هارون به، وأخرجه الطبراني (9078) من طريق السدى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى الفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
بالخطيئةِ بمكةَ وهو في بلدٍ آخَرَ ولم يعمَلْها، فتكتَبُ عليه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللَّهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} . قال: الإلحادُ الظلمُ في الحرمِ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك الظُّلْمِ، اسْتحلالُ الحرمِ مُتَعَمِّدًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ
(2)
، قال: قال ابن عباسٍ: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْم} . قال: الذي يريدُ اسْتِحلالَه مُتَعَمِّدًا. ويقالُ: الشِّرْكُ
(3)
.
وقال آخرون: بل ذلك احتكارُ الطعامِ بمكةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني هارونُ بنُ إدريسَ الأصَمُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المحارِبيُّ، عن أَشْعَثَ، عن حبيبِ بن أبى ثابتٍ في قولِه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. قال: هم المُحْتَكِرون الطعامَ بمكةَ
(4)
.
وقال آخرون: بل ذلك كلُّ ما كان مَنْهيًّا عنه مِن الفعلِ، حتى قولِ القائلِ: لا واللَّهِ، وبلى واللَّهِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 352 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
بعده في ت 1: "عن مجاهد".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(4)
عزاء السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عمرَ
(1)
، قال: كان له فُسْطاطان؛ أحدُهما في الحِلِّ، والآخرُ في الحرمِ، فإذا أرادَ أن يُعاتِبَ أهلَه عاتَبهم في الحِلِّ
(2)
، فسُئِل عن ذلك، فقال: كُنَّا نُحدَّثُ أن مِن الإلحادِ فيه أن يقولَ الرجلُ: كلا واللَّهِ، وبلى واللَّهِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن أبي رِبْعيٍّ، عن الأعمشِ، قال: كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ
(4)
يقولُ: لا واللَّهِ، وبلى واللَّهِ، مِن الإلحادِ فيه.
قال أبو جعفرٍ: وأَولى الأقوالِ التي ذكَرناها في تأويلِ ذلك بالصوابِ القولُ الذي ذكَرناه عن ابن مسعودٍ وابنِ عباسٍ، مِن أنه معنيٌّ بالظُّلْمِ في هذا الموضعِ كلُّ معصيةٍ للَّهِ. وذلك أن اللَّهَ عَمَّ بقولِه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} . ولم يَخْصُصْ به ظلمًا
(5)
دونَ ظلمٍ في خبرٍ ولا عقلٍ، فهو على عمومِه. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلام: ومَن يُرِدْ في المسجدِ الحرامِ بأن يَمِيلَ بظلمٍ، فيَعْصِيَ اللَّهَ فيه، نُذِقه يومَ القيامةِ مِن عذابٍ مُوجِعٍ له.
(1)
في ص، م، ت 1، ف، وابن أبي شيبة:"عمرو".
(2)
في ت 2، ف:"الآخر".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 285 (القسم الأول من الجزء الرابع) عن محمد بن جعفر به. وأخرجه أحمد بن منيع - كما في المطالب العالية (4047) - من طريق منصور به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 352 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
في م: "عمرو".
(5)
في م: "ظلم".
وقد ذُكِر عن بعضِ القرأةِ أنه كان يَقْرَأُ ذلك: (وَمَنْ يَرِدْ فِيهِ) بفتح الياءِ
(1)
، بمعنى: ومن يَرِدْه بالحادٍ. من: وَرَدْتُ المكانَ أَرِدُه. وذلك قراءةٌ لا تَجُوزُ القراءةُ عندى بها؛ لخلافِها ما عليه الحجةُ مِن القرأةِ مجمعةٌ، مع بُعدِها مِن فصيحِ كلامِ العربِ، وذلك أنَّ "يَرِدْ" فعلٌ واقعٌ، يقالُ منه: هو يَرِدُ مكانَ كذا، أو بلدةَ كذا، غدًا. ولا يقالُ: يَرِدُ في مكانِ كذا.
وقد زعَم بعضُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ أن طَيِّئًا تقولُ: رغِبتُ فيك. تريدُ: رَغِبتُ بك. وذَكر أنَّ بعضَهم أَنشَده بيتًا له
(2)
:
وأَرْغَبُ فيها عن لَقِيطٍ ورَهْطِه
…
ولَكنني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ
بمعنى: وأرغبُ بها. فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا، فإنه يجوزُ في الكلامِ، فأما القراءةُ به فغيرُ جائزةٍ؛ لِما وصفتُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مُعْلِمَه عظيمَ ما ركِب قومُه مِن قُرَيشٍ خاصَّةً دونَ غيرِهم مِن سائرِ خَلْقِه، بعبادتِهم في حَرَمِه والبيتِ الذي أَمَر إبراهيمَ خَليلَه عليه السلام ببنائِه وتطهيرِه مِن الآفاتِ والرِّيَبِ والشركِ: واذكُرْ يا محمدُ كيف ابْتَدَأْنا هذا البيتَ الذي يَعْبُدُ قومُك فيه غيرى، إذ بوَّأْنا لخليلِنا إبراهيمَ. يعنى بقولِه:{بَوَّأْنَا} : وَطَّأْنا له مكانَ البيتِ.
كما حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ قولَه:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} . قال: وضَع اللَّهُ البيتَ مع آدمَ عليه السلام حينَ أَهْبَط آدمَ إلى الأرضِ، وكان مَهْبِطُه بأرضِ الهندِ، وكان رأسُه في
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 223، والبحر المحيط 6/ 363.
(2)
سقط من: م، والبيت تقدم في 13/ 608.
السماءِ ورِجْلاه في الأرضِ، فكانت الملائكةُ تَهابُه، فنَقَص إلى ستين ذِراعًا، وإن آدم لمَّا فقَد أصواتَ الملائكةِ وتسبيحَهم، شَكا ذلك إلى اللهِ، فقال اللهُ: يا آدمُ، إنى قد أهْبَطْتُ لك بيتًا يُطافُ به كما يُطافُ حولَ عرشِى، ويُصَلَّى عندَه كما يُصلَّى حولَ عرشِى، فانْطَلِقْ إليه، فخرَج إليه، ومُدَّ له في خَطْوِه، فكان بيَن كلِّ خُطْوَتَيْن مَفازةٌ، فلم تَزَل تلك المَفاوِزُ على ذلك، حتى أتى آدمُ البيتَ، فطافَ به ومَنْ بعدَه مِن الأنبياءِ
(1)
.
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لمَّا عَهِد اللهُ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ، انْطَلَق إبراهيمُ حتى أتَى مكةَ، فقام هو وإسماعيلُ، وأَخَذا المَعاوِلَ لا يَدْرِيان أين البيتُ، فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يقالُ لها: ريحُ الخَجُوجِ. لها جَناحان ورأسٌ، في صورةِ حَيَّةٍ، فَكَنَسَتْ لهما ما حولَ الكعبةِ عن أساسِ البيتِ الأوَّلِ، واتَّبَعَاها بالمَعاوِلِ يَحْفِران، حتى وَضَعا الأساسَ، فذلك حيَن يقولُ:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}
(2)
.
و يعنى بـ "البيتِ" الكعبةَ.
{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} في عبادتِك إياىَ، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} الذي بَنَيْتَه مِن عبادةِ الأوثانِ.
كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} . قال: مِن الشركِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن عُبيدِ بن عُميرٍ، قال: مِن الآفاتِ والرِّيَبِ
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في 2/ 552.
(2)
تقدم تخريجه في 2/ 558.
(3)
تقدم تخريجه في 2/ 533.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]. قال: مِن الشركِ وعبادةِ الأوثانِ
(1)
.
وقولُه: {لِلطَّائِفِينَ} . يعني: للطائفِين به. {وَالْقَائِمِينَ} . بمعنى المُصَلِّين الذين هم قيامٌ في صلاتِهم.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنا أبو تُمَيلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} . قال: القائمون في الصلاةِ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ:{وَالْقَائِمِينَ} . قال: القائمون المُصَلُّون
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} . قال: القائمُ والراكعُ والساجدُ هو المُصَلِّي، والطائفُ هو الذي يَطوفُ به.
وقولُه: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} . يقولُ: والرُّكَّعُ السُّجودُ في صلاتِهم حولَ البيتِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا
(1)
تقدم تخريجه في 2/ 533.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 354 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 36.
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وعَهِدْنا إليه أيضًا أن {أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} . يعنى بقولِه: {وَأَذِّنْ} : فأَعْلِمْ ونادِ في الناسِ، أن حُجُّوا أيها الناسُ بيتَ اللَّهِ الحرامَ. {يَأْتُوكَ رِجَالًا}. يقولُ: فإنَّ الناسَ يَأْتون البيتَ الذي تَأْمُرُهم بِحَجِّه مُشَاةً على أرجُلِهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}. يقولُ: ورُكْبانًا على كلِّ ضامِرٍ؛ وهي الإبلُ المَهَازِيلُ، {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}. يقولُ: تَأْتى هذه الضَّوامِرُ {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . يقولُ: مِن كلِّ طريقٍ ومكانٍ ومَسْلَكٍ بعيدٍ.
وقِيلَ: {يَأْتِينَ} ، فجَمَع؛ لأنه أُرِيد بـ {كُلِّ ضَامِرٍ} ، النُّوقُ. ومعنى "الكلِّ" الجَمْعُ. فلذلك قِيلَ:{يَأْتِينَ} .
وقد زعَم الفَرَّاءُ
(1)
أنه قليلٌ في كلامِ العربِ: مَرَرْتُ على كلِّ رجلٍ قائِمِينَ. قال: وهو صوابٌ.
وقولُ اللَّهِ: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} . يُنبئُ عن صحةِ جَوازِه.
وذُكِر أَنَّ إبراهيمَ صلواتُ اللَّهَ عليه لَمَّا أمَرَه اللَّهُ بالتَّأْذِينِ بالحجِّ، قام على مَقامِه فنادَى: يأيُّها الناسُ، إنَّ اللَّهَ كَتَب عليكم الحجَّ فحُجُّوا بيتَه العتيقَ.
وقد اخْتُلِف في صفةِ تَأْذِينِ إبراهيمَ بذلك؛ فقال بعضُهم: نادَى بذلك كما حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن قابوسَ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: لمَّا فرَغ إبراهيمُ مِن بِناءِ البيتِ، قيلَ له: أذِّن في الناسِ بالحجِّ. قال: ربِّ، وما يَبْلُغُ
(1)
معاني القرآن 2/ 224.
صَوْتى؟ قال: أذِّنْ وعليَّ البَلاغُ. فنادَى إبراهيمُ: أيها الناسُ، كُتِب عليكم الحجُّ إلى البيتِ العتيقِ فحُجُّوا. قال: فسَمِعَه ما بيَن السماءِ والأرضِ، أفلا تَرَى الناسَ يَجِيئون مِن أَقْصَى الأَرضِ يُلبُّون
(1)
؟
حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضِيلِ بن غَزْوانَ الضَّبِّيُّ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لمَّا بَنَى إبراهيمُ البيتَ، أوْحَى اللَّهُ إليه أن أذِّنْ في الناسِ بالحجِّ. قال: فقال إبراهيمُ: ألا إن ربَّكم قد اتَّخذ بيتًا، وأمَرَكم أن تَحُجُّوه. فاسْتَجاب له ما سَمِعَه مِن شيءٍ؛ مِن حجرٍ وشجرٍ، أو أكَمَةٍ أو ترابٍ أو شيءٍ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضِحٍ، قال: ثنا ابن واقِدٍ، عن أبي الزُّبيرِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} . قال: قام إبراهيمُ خليلُ اللَّهِ على الحَجرِ، فنادَى: يأيُّها الناسُ كُتب عليكم الحجُّ. فَأَسْمَعَ مَن في أصْلابِ الرِّجالِ وأَرْحامِ النساءِ، فأجابَه مَن آمَن ممَّن سبَق في علمِ اللَّهِ أَن يَحُجَّ إلى يوم القيامةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} . قال: وَقَرَتْ في قلبِ كلِّ ذكرٍ وأُنثَى
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 518، والحاكم 2/ 388، والبيهقى 5/ 176 من طريق جرير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 354 إلى ابن منيع وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 260، وأخرجه الحاكم 2/ 552، والبيهقى 5/ 176، وفى الشعب (3998)، وفى الدلائل 2/ 54 من طريق عطاء به.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 260، 261.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 354 إلى المصنف.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: لمَّا فرَغ إبراهيمُ مِن بناءِ البيتِ، أَوْحَى اللَّهُ إليه أن أذِّنْ في الناسِ بالحجِّ. قال: فخرَج فنادَى في الناسِ: يأيُّها الناسُ، إن ربَّكم قد اتَّخَذ بيتًا، فحُجُّوه. فلم يَسْمَعْه يومئذٍ مِن إنسٍ ولا جِنٍّ، ولا شجرٍ ولا أَكَمَةٍ، ولا ترابٍ ولا جبلٍ، ولا ماءٍ ولا شيءٍ، إلا قال: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
(1)
.
قال: ثنا حكامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قام إبراهيمُ على المَقامِ حينَ أُمِر أن يُؤَذِّنَ في الناسِ بالحجِّ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} . قال: قام إبراهيمُ على مقامِه فقال: يأيُّها الناسُ أجِيبوا ربَّكم. فقالوا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. فمَن حَجَّ اليومَ فهو ممَّن أَجاب إبراهيمَ يومَئذٍ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عَدِيٍّ، عن داودَ، عن عكرمةَ بن خالدٍ المَخْزوميِّ، قال: لمَّا فرَغ إبراهيمُ عليه السلام مِن بناءِ البيتِ قام على المقامِ فنادَى نداءً سَمِعَه أهلُ الأرضِ: إن ربَّكم قد بنَى لكم بيتًا فحُجُّوه. قال داودُ: فأَرْجُو مَن حَجَّ اليومَ مِن إجابةِ إبراهيمَ عليه السلام
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن أبي عاصمٍ الغَنَويِّ، عن أبي الطُّفيلِ، قال: قال ابن عباسٍ: هل تَدْري كيف
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 354 إلى المصنف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9100)، والبيهقى في الشعب (4000)، من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 354. إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 355 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
كانت التَّلْبِيةُ؟ قلتُ: وكيف كانت التلبيةُ؟ قال: إن إبراهيمَ لمَّا أُمِر أن يُؤَذِّنَ في النَّاسِ بالحجِّ، خَفَضَتْ له الجبالُ رءوسَها، ورُفِعَتِ القُرى، فأذَّنَ في الناسِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} . قال إبراهيمُ: كيف أقولُ يا ربِّ؟ قال: قُلْ: يا أيها الناسُ اسْتَجِيبوا لربِّكم. قال: فوَقَرَتْ في قلبِ كلِّ مؤمنٍ
(2)
.
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سَلَمَةَ، عن مجاهدٍ، قال: قِيلَ لإبراهيمَ: أذِّنْ في الناس بالحجِّ. قال: يا ربِّ، كيف أقولُ؟ قال: قُلْ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. قال: فكانت أوَّلَ التَّلْبِيَةِ
(3)
.
وكان ابن عباسٍ يقولُ: عنَى بـ "الناسِ" في هذا الموضعِ أهلَ القِبْلةِ.
ذكرُ الرِّوايةِ بذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} : يعنى بـ "الناسِ" أهل القِبلةِ، ألم تَسْمَعْ أنه قال:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} . إلى قولِه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96، 97]. يقولُ: ومَن دخَله مِن الناسِ الذين أُمِر أن يُؤَذِّنَ فيهم وكُتِب عليهم الحجُّ، فإنه آمِنٌ، فَعَظِّموا حُرُماتِ اللَّهِ تعالى،
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (10628) عن حجاج به، وأخرجه الطيالسي (2820) - ومن طريقه البيهقى 5/ 153 - وأحمد 4/ 436 (2707)، والبيهقى في الشعب (4077). من طريق حماد به، وهو مطول في هذه المصادر.
(2)
أخرجه البيهقى في الشعب (3999) من طريق جرير به، وهو في تفسير سفيان ص 210، 211 عن منصور به، وفيه: وقرت في نفس كل مسلم.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 261، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 355 إلى عبد بن حميد.
فإنها مِن تقوى القلوبِ
(1)
.
وأما قولُه: و {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} . فإن أهلَ التأويلِ قالوا فيه نحوَ قولِنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} . قال: مُشاةً
(2)
.
قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الحجاجِ بنِ أَرْطَاةَ، قال: قال ابنُ عباسٍ: ما آسَى على شيءٍ فاتَنى، إلا ألَّا أكونَ حَجَجْتُ ماشيًا، سَمِعتُ اللهَ يقولُ:{يَأْتُوكَ رِجَالًا}
(3)
.
قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نجَيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: حجَّ إبراهيمُ وإسماعيلُ ماشِيَينْ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، عن ابنِ عباسٍ:{يَأْتُوكَ رِجَالًا} . قال: على أَرْجُلِهم
(5)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 355 إلى المصنف إلى قوله: كتب عليهم الحج.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 355 إلى المصنف.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 97، 98، والبيهقي 4/ 331 من طرق عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 355 إلى ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 98، والأزرقى فى أخبار مكة 1/ 34 من طريق سفيان به.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 36 عن معمر به.
أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه: ? {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} . قال: الإِبلِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} . قال: الإبلِ.
حدَّثنى نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدِىُّ، قال: ثنا المحُاربىُّ، عن عمرَ بن ذَرٍّ، قال: قال مجاهدٌ: كانوا لا يَرْكَبون، فأَنْزَل اللَّهُ:{يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} . قال: فأَمَرَهم بالزادِ، ورخَّص لهم في الرُّكوبِ والمَتْجَرِ
(2)
.
وقولُه: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} .
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . يَعْنى
(3)
: مكانٍ بعيدٍ (2).
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . قال: بعيدٍ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَجٍّ عَمِيقٍ} . قال: مكانٍ بعيدٍ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثله
(4)
.
وقولُه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى "المنافعِ" التي ذكَرها اللَّهُ فى هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: هى التجارةُ ومنافعُ الدنيا.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 355 إلى المصنف.
(2)
تقدم تخريجه في 3/ 483.
(3)
بعده في م: "من".
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 36.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن عاصمٍ، عن أبى رَزِينٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: هى الأسواقُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنا أبو تُمَيلةَ، عن أبى حمزةَ، عن جابرٍ، عن الحَكَمِ
(2)
، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: تجارةً.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمِ بنِ بَهْدَلَةَ، عن أبى رَزينٍ فى قوله:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: أسواقَهم
(3)
.
قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن واقدٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: التجارةَ
(4)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بَيَانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن سفيانَ، عن واقدٍ، عن سعيدٍ بنِ جبيرٍ مثله.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمَانٍ، عن سفيانَ، عن واقدٍ، عن سعيدٍ مثلَه.
حدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا شَيْبانُ
(5)
، عن عاصمِ بنِ أبى النُّجُودِ، عن أبى رَزينٍ:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: الأسواقَ.
وقال آخرونَ: هى الأجرُ في الآخرةِ، والتجارةُ في الدنيا.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 356 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
فى م: "بن".
(3)
تفسير مجاهد ص 479.
(4)
تفسير سفيان ص 211.
(5)
فى م، ت 1، ت 2، ف:"سنان". وينظر تهذيب الكمال 12/ 592.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ وسَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قالا: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: التجارةَ وما يُرْضِى اللَّهَ مِن أمرِ الدنيا والآخرةِ
(1)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: ثنا إسحاقُ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمَانٍ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: ثنا سفيانُ
(2)
، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن أبى بشرٍ، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: الأجرَ فى الآخرةِ، والتجارةَ في الدنيا.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(3)
.
وقال آخرون: بل هي العفوُ والمغفرةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمَانٍ، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن أبى جعفرٍ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 36 عن سفيان به، و هو في تفسير سفيان ص 211 بنحوه دون قوله: التجارة.
(2)
كذا في النسخ، وتقدم مثل هذا الإسناد ليس فيه ذكر سفيان، ينظر 3/ 358، 457، 473، 5/ 619.
(3)
تفسير مجاهد ص 479، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 356 إلى عبد بن حميد
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال: العفوَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى أبو تُميلةَ، عن أبى حمزةَ، عن جابرٍ، قال: قال محمدُ بنُ علىٍّ: مغفرةً
(2)
.
وأَوْلَى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عنَى بذلك: ليَشْهَدوا منافعَ لهم مِن العملِ الذى يُرْضى اللهَ، والتجارةِ. وذلك أن اللهَ عمَّ {مَنَافِعَ لَهُمْ} . جميعَ ما يَشْهَدُ له الموسمَ، ويَأْتى له مكةَ أيامَ الموسمِ؛ مِن منافعِ الدنيا والآخرةِ، ولم يَخْصُصْ مِن ذلك شيئًا مِن منافعِهم بخبرٍ ولا عقلٍ، فذلك على العمومِ في المنافعِ التي وَصَفتُ.
وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكى يَذْكُروا اسمَ اللهِ على ما رزَقَهم مِن الهدايا والبُدْنِ التي أهْدَوْها؛ من الإبلِ والبقرِ والغنمِ، {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} ، وهُنَّ أَيامُ التَّشْرِيقِ، فى قولِ بعضِ أهلِ التأويلِ، وفى قولِ بعضِهم، أيامُ العَشْرِ، وفى قولِ بعضِهم، يومُ النَّحْرِ وأيامُ التشريقِ.
وقد ذَكَرْنا اختلافَ أهلِ التأويلِ فى ذلك بالرواياتِ، وبَيَّنّا الأَوْلَى بالصوابِ منها في سورةِ "البقرة"
(3)
، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه فى هذا الموضعِ، غير أَنِّى أذكُرُ بعضَ ذلك أيضًا في هذا الموضعِ.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} : يَعْنى
(1)
ذكره البغوى في تفسيره 5/ 379.
(2)
ذكره الطوسى فى التبيان 7/ 275.
(3)
ينظر ما تقدم في 3/ 536 وما بعدها.
أيامَ التَّشريقِ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سَمِعتُ الضحاكَ فى قولِه: {أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} : يعنى أيامَ التَّشْرِيقِ، {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يعنى البُدْنَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} . قال: أيامُ العَشْرِ، والمعدوداتُ أيامُ التشريقِ
(2)
.
وقولُه: {فَكُلُوا مِنْهَا} . يقولُ: كُلُوا مِن بَهَائِمِ الأَنْعَامِ التى ذَكَرْتم اسمَ اللَّهِ عليها أيها الناسُ هُنالك.
وهذا الأمرُ مِن الله جلَّ ثناؤُه أمرُ إباحةٍ لا أمرُ إيجابٍ؛ وذلك أنه لا خلافَ بينَ جميعِ الحُجَّةِ أن ذابحَ هَدْيِه أو بَدَنَتِه هنالك، إن لم يَأْكُلْ مِن هديِه ذلك أو بَدَنَتِه، أنه لم يُضَيَّعْ له فرضًا للهِ كان واجبًا عليه، فكان معلومًا بذلك أنه غيرُ واجبٍ.
ذكرُ الرِّوايةِ عن بعضِ مَن قال ذلك مِن أهلِ العلمِ
حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن ابنِ جُريجٍ، عن عطاءٍ قولَه:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . قال: كان لا يَرَى الأكلَ منها واجبًا.
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن مجاهدٍ أنه قال: هي رخصةٌ، إن شاءَ أكَل، وإن شاء لم يَأْكُلْ، وهى كقولِه: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 356 إلى المصنف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 37 عن معمر به.
فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] يَعْنى قولَه: ? {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}
(1)
.
قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا مُغِيرةُ، عن إبراهيمَ فى قولِه:{فَكُلُوا مِنْهَا} . قال: هى رخصةٌ، فإن شاءَ أكَل، وإِن شاءَ لم يَأْكُلْ
(2)
.
قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حجاجٌ، عن عطاءٍ فى قولِه:{فَكُلُوا مِنْهَا} . قال: هى رخصةٌ، فإن شاء أكَلَها، وإن شاء لم يَأْكُلْ.
حدَّثنى علىُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن حُصينٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَكُلُوا مِنْهَا} . قال: إنما هي رخصةٌ
(3)
.
وقولُه: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير} . يقولُ: وأَطْعِموا مما تَذْبَحون أو تَنْحَرون هنالك، مِن بهيمةِ الأنعامِ، مِن هَدْيِكم وبُدْنِكم، البائسَ، وهو الذى به ضُرُّ الجوعِ والزَّمانَةِ
(4)
والحاجةِ، والفقيرَ الذى لا شيءَ له.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
(1)
أخرجه البيهقى 5/ 241 من طريق حصين به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 356 إلى عبد بن حميد
وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 412 عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 4/ 356 إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 356 إلى عبد بن حميد.
(4)
الزَّمانة: العاهة. اللسان (ز م ن).
الْفَقِيرَ}: يعنى الزَّمِنَ الفقيرَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} : الذي يَمُدُّ إليك يَدَيْه
(2)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . قال: هو القانِعُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، قال: أخبَرنى عمرُ بنُ عطاءٍ، عن عكرمةَ، قال:{الْبَائِسَ} : المضطرَّ الذى عليه البُؤْسُ، {الْفَقِيرَ}: المُتَعَفِّف
(3)
.
قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الْبَائِسَ} : الذي يَبْسُطُ يَدَيْهِ.
وقولُه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ثم لْيَقْضوا ما عليهم مِن مَناسِكِ حَجِّهم؛ مِن حلقِ شعرٍ، وأخْذِ شارِبٍ، ورَمْىِ جَمْرَةٍ، وطَوافٍ بالبيتِ.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ أبى الشَّوارِبِ، قال: ثنى يزيدُ، قال: أخبَرنا الأشعثُ بنُ سَوَّارٍ، عن
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 356 إلى المصنف.
(2)
في ف: "يده".
والأثر أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 37 عن معمر به، وأخرجه البيهقى 9/ 294 من طريق ابن أبى نجيح، عن مجاهد: وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 357 إلى عبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 357 إلى ابن أبى حاتم وابن المنذر.
نافعٍ، عن ابنِ عمرَ أنه قال:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: ما عليهم
(1)
فى الحجِّ.
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدَةَ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنى الأشعتُ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: التَّفَتُ؛ المناسكُ كلُّها
(2)
.
قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا عبدُ الملكِ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال فى قولِه:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: التفَتُ؛ حَلْقُ الرأسِ، وأخذٌ مِن الشاريَيْن، ونَتْفُ الإبِطِ، وحلْقُ العَانَةِ، وقصُّ الأَظْفارِ، والأخذُ مِن العارِضَيْنِ، ورمىُ الجِمارِ، والمَوقِفُ بعَرَفَةَ والمُزْدَلِفَةِ
(3)
.
حدَّثنا حُميدٌ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا خالدٌ، عن عكرِمةَ، قال: التفتُ؛ الشَّعَرُ والظُّفُرُ
(4)
.
حدَّثنى يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن خالدٍ، عن عكرمةَ مثلَه.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنى أبو صخرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظىِّ أنه كان يقولُ فى هذه الآيةِ:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} : رمىُ الجمِارِ، وذبحُ الذَّبيِحةِ، وأخذٌ مِن الشاربَيْن واللَّحيةِ والأَظْفارِ، والطَّوافُ بالبيتِ وبالصَّفا والمَرْوةِ
(5)
.
(1)
فى م: "هم عليه".
(2)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 84 من طريق الأشعث به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 357 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 85 من طريق عبد الملك به بنحوه، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 357 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم بنحوه.
(4)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 84 من طريق خالد به.
(5)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 84 من طريق موسى بن عقبة، عن محمد بن كعب بلفظ آخر.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ أنه قال فى هذه الآيةِ:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: هو حلقُ الرأسِ. وذكَر أشياءَ مِن الحجِّ، قال شعبةُ: لا أَحْفَظُها.
قال: ثنا ابنُ أبى عَدِيٍّ، عن شُعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: حلقُ الرأسِ، وحلقُ العانةِ، وقصُّ الأظفارِ والشاربِ
(1)
، ورمىُ الجمارِ، وقصُّ اللَّحيةِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسيُن، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه لم يقُلْ فى حديثِه: وقصُّ اللحيةِ
(3)
.
حدَّثنى نصرُ بنُ عبدِ الرحمن الأَوْدِىُّ، قال: ثنا المُحاربىُّ، قال: سمِعتُ رجلًا يسألُ ابنَ جُريجٍ عن قولِه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: الأخذُ مِن اللحيةِ ومِن الشاربِ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبطِ، وحلقُ العانةِ، ورمىُ الجمارِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال ثنا الحسيُن، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا منصورٌ، عن الحسنِ، وأخبرنا جُويبرٌ، عن الضَّحاكِ، أنهما قالا: حلقُ الرأسِ.
حُدِّثتُ عن الحسيِن، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} : يعنى: حلقَ الرأسِ.
(1)
فى م، ت 2:"وقص الشارب".
(2)
تفسير مجاهد ص 480، وأخرجه ابن أبى شيبة 4/ 84 من طريق عثمان بن الأسود، عن مجاهد بلفظ آخر، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 357 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم بنحوه.
(3)
تفسير سفيان ص 211 عن ليث، عن مجاهد بهذا اللفظ وزاد: ونتف الإبط.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: التفثُ؛ حلقُ الرأسِ، وتقليمُ الظُّفُرِ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . يقولُ: نُسُكَهم
(2)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: التفثُ؛ حُرْمُهم
(3)
.
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال: يعنى بالتفثِ وضعَ إحرامِهم؛ مِن حلقِ الرأسِ، ولُبسِ الثيابِ، وقصِّ الأظفارِ، ونحوِ ذلك
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، قال: التفثُ؛ حلقُ الشعرِ، وقصُّ الأظفارِ والأخذُ من الشاربِ، وحلقُ العانةِ، وأمرُ الحجِّ كلُّه
(5)
وقولُه: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} . يقولُ: ولْيُوفوا اللهَ بما نَذَروا مِن هَدىٍ وبدَنَةٍ وغيرِ ذلك.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} : نحرَ ما نذَروا مِن البُدنِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 37 عن معمر به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 413 عن عكرمة، عن ابن عباس.
(3)
الحُرْم: الإحرام. القاموس المحيط (ح ر م).
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 413 عن على، عن ابن عباس، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 357 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(5)
أخرجه ابن أبى شيبة 4/ 84 من طريق أبى خالد عن عطاء بنحوه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} : نذرَ الحجِّ والهَديِ، وما نذَر
(1)
الإنسانُ مِن شيءٍ يكونُ في الحجِّ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} . قال: نذر الحجِّ والهَدى، وما نذَر الإنسانُ على نفسِه من شيٍ يكونُ فى الحجِّ.
وقولُه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . يقولُ: وليطَّوَّفوا ببيتِ اللهِ الحرامِ.
واختَلَف أهلُ التأويلِ فى معنى قولِه: {الْعَتِيقِ} فى هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: قِيلَ ذلك لبيتِ اللهِ الحرامِ؛ لأن الله أعتَقَه من الجبابرةِ أن يصِلوا إلى تخريبِه وهدمِه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزُّهريِّ، أن ابنَ الزُّبيرِ قال: إنما سُمِّى البيتَ العتيقَ لأن اللهَ أعتقَه مِن الجبابرةِ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الزُّهريِّ، عن ابن الزُّبير مثلَه
(3)
.
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"ينذر".
(2)
تفسير مجاهد ص 480.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 37.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: إنما سُمِّى العتيقَ لأنه أُعتِق من الجبابرةِ
(1)
.
قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، عن قتادةَ:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: عَتَق
(2)
مِن الجبابرةِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: أعتَقَه اللهُ من الجبابرةِ. يعنى الكعبةَ
(4)
.
وقال آخرون: قيل له: عتيقٌ لأنه لم يَملِكْه أحدٌ مِن الناسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤملٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عُبيدٍ، عن مجاهدٍ، قال: إنما سُمِّى البيتَ العتيقَ لأنه ليس لأحدٍ فيه شيءٌ
(5)
.
وقال آخرون: سُمِّي بذلك لقِدمِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الْبَيْتِ
(1)
أخرجه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 3/ 87 - من طريق سفيان به، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 11 من طريق نصر بن عدى، عن مجاهد، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 357 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "أعتق".
(3)
ينظر تفسير البغوى 5/ 382، وتفسير ابن كثير 5/ 414، وهو في تفسير سفيان ص 212 من قوله وزاد: ليس لأحد فيه شيء.
(4)
تفسير مجاهد ص 480.
(5)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 37 عن سفيان به.
الْعَتِيقِ}. قال: العتيقُ القديمُ؛ لأنه قديمٌ، كما يُقالُ: السيفُ العتيقُ. لأنه أوَّلُ بيتٍ وُضِع للناسِ، بناه آدمُ، وهو أولُ مَن بناه، ثم بوَّأ اللهُ موضعَه لإبراهيمَ بعدَ الغرقِ، فبناه إبراهيمُ وإسماعيلُ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: ولكلِّ هذه الأقوالِ التي ذَكَرناها عمَّن ذكرناها عنه في قولِه: {الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} -وجهٌ صحيحٌ، غيرَ أن الذى قاله ابنُ زيدٍ أغلبُ مَعانيهِ عليه في الظاهرِ، غيرَ أن الذى رُوِيَ عن ابنِ الزُّبيرِ أُولَى بالصِّحةِ، إن كان ما حدَّثني به محمدُ ابنُ سهلٍ البخاريُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: أخبَرني الليثُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ خالدِ بنِ مُسافرٍ، عن الزُّهريِّ، عن محمدِ بنِ عُرُوةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنما سُمِّى البيتَ العتيقَ [لأن اللهَ]
(2)
أعتَقَه مِن الجبابرةِ، فلم يُظهَرْ عليه قطُّ"
(3)
- صحيحًا.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال الزُّهريُّ: بَلَغنا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سُمِّى البيتَ العتيقَ لأنَّ اللهَ أعْتَقَه". ثم ذكَر مثلَه
(4)
.
وعُنى بالطُّوافِ الذى أَمَر جلَّ ثناؤُه حاجَّ بيتِه العتيقِ به في هذه الآيةِ، طوافُ الإفاضةِ الذى يُطافُ به بعدَ التعريف؛ إما يوم النحرِ، وإمَّا بعدَه، لا خلافَ بينَ أهلِ التأويلِ في ذلك.
(1)
ينظر تفسير البغوى 5/ 382، وتفسير ابن كثير 5/ 414.
(2)
في ص، ت 2، ف:"لأنه".
(3)
أخرجه البخارى فى التاريخ الكبير 1/ 201، والترمذى (3170)، والطبراني في الكبير (262)، والحاكم 2/ 389، والبيهقى فى الدلائل 1/ 125، وفى الشعب 3/ 443 (4010)، من طريق عبد الله صالح به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 357 إلى ابن مردويه.
(4)
أخرجه الترمذى عقب حديث (3170) من طريق عقيل، عن الزهري.
ذكرُ الروايةِ عن بعضِ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرُو بنُ سعيدٍ القُرشيُّ، قال: ثنا الأنصاريُّ، عن أشعثَ، عن الحسنِ:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: طوافُ الزيارةِ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا خالدٌ، ثنا الأشعثُ، أن الحسنَ قال في قولِه:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: الطوافُ الواجبُ.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : يعنى زيارةَ البيتِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، عن حجاجٍ وعبدِ الملكِ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: طوافُ يومِ النحرِ.
حدَّثني أبو عبدِ الرحمنِ البَرقيُّ، قال: ثنا عمرُو بن أبي سَلَمَةَ، قال: سألتُ زُهيرًا عن قولِ اللهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: طوافُ الوَداعِ
(2)
.
واختَلَفَت القَرَأةُ فى قراءة هذه الحروفِ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ الكوفةِ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} بتسكينِ اللامِ في كلِّ ذلك
(3)
؛ طَلَبَ التَّخفيف، كما فعَلوا فى "هو" إذا كانت قبلَها واوٌ، فقالوا:(وهْوَ عَليمٌ بذاتِ الصُّدُورِ)[الحديد: 6] فسكَّنوا الهاءَ
(4)
. وكذلك يفعَلون في لامِ الأمرِ إذا كان
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 357 إلى المصنف وابن المنذر ثم قال: ولفظ ابن جرير هو: طواف الزيارة يوم النحر.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 12/ 52 عن المصنف.
(3)
وبالتسكين فيها كلها قرأ عاصم وحمزة والكسائي، وبالكسر فيها كلها قرأ ابن عامر، وبكسر اللام من (ثم ليقضوا) قرأ نافع وابن كثير -في رواية عنهما- وأبو عمرو، وقرءوا -نافع وابن كثير وأبو عمرو- بتسكين اللام من (وليوفوا)، (وليطوفوا). ينظر السبعة لابن مجاهد ص 434، 436.
(4)
وهي قراءة أبي عمرو ونافع -في رواية إسماعيل وقالون- والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 93.
قبلَها حرفٌ من حروفِ النَّسَقِ؛ كالواوِ والفاءِ و "ثُمَّ"، وكذلك قرأتْ عامةُ قرأةِ أهلِ البصرةِ، غيرَ أن أبا عمرِو بنَ العلاءِ كان يَكسِرُ اللامَ مِن قولِه:(ثم لِيَقْضُوا). خاصَّةً من أجلِ أن الوقوفَ على (ثُمَّ) دونَ (ليقضُوا) حسنٌ، وغيرُ جائزِ الوقوفُ على الواوِ والفاءِ. وهذا الذى اعتَلَّ به أبو عمرٍو لقراءتِه عِلَّةٌ حسنةٌ مِن جهةِ القياسِ، غيرَ أن أكثرَ القرأةِ على تَسكينِها.
وأولَى الأقوالِ بالصوابِ فى ذلك عندى أن التسكينَ فى لامِ {لْيَقْضُوا} . والكسرَ، قِراءَتانِ مَشهورَتانِ، ولُغتانِ سائِرَتانِ، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ، غيرَ أن الكسرَ فيها خاصَّةً أقيَسُ؛ لِمَا ذَكَرنا لأبي عمرٍو من العلةِ، لأن مَن قرَأ:(وهْو عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ)، (وهْو). بتسكينِ الهاءِ مع الواوِ والفاءِ، يُحرِّكُها فى قولِه:{ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61]. فذلك الواجبُ عليه أن يفعلَ فى قولِه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . فيُحرِّكُ اللامَ إلى الكسرِ مع "ثم"، وإن سَكَّنَها في قولِه:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} .
وقد ذُكِر عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلميِّ والحسنِ البصريِّ تحريكُها مع "ثم" والواوِ، وهى لغةٌ مشهورةٌ، غيرَ أن أكثرَ القرأةِ مع الواوِ والفاءِ على تسكِينها، وهى أشهرُ اللُّغتين فى العربِ وأفصحُها، فالقراءةُ بها أعجَبُ إليَّ مِن كسرِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكَ} : هذا الذي أمر به مِن قضاءِ التَّفثِ، والوفاءِ بالنُّذورِ، والطوافِ بالبيتِ العتيقِ، وهو الفرضُ الواجبُ عليكم أيُّها الناسُ فى حجِّكم، {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}. يقولُ:
ومَن يَجتنِبْ ما أمَره اللهُ باجتنابِه في حالِ إحرامِه تعظيمًا منه لحدودِ اللهِ أن يُواقِعَها وحُرَمِه أَن يَستَحِلَّها - فهو خيرٌ له عندَ ربِّه في الآخرةِ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ فى قولِه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} . قال: الحُرمةُ: مكةُ والحجُّ والعُمرةُ، وما نَهى اللهُ عنه مِن مَعاصيه كلِّها.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلهَ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} . قال: الحُرُماتُ؛ المَشعَرُ الحرامُ، والبيتُ الحرامُ، والمسجدُ الحرامُ، والبلدُ الحرامُ، هؤلاء الحُرماتُ
(2)
.
وقولُه: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وأحلَّ اللهُ لكم أيُّها الناسُ الأنعامَ أن تأكُلُوها إذا ذكَّيتموها
(3)
، فلم يحرِّمْ عليكم منها بحيرةً، ولا سائبةً، ولا وصيلةً، ولا حاميًا، ولا ما جعلتموه منها لآلهتِكم، {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. يقولُ: إلا ما يُتلى عليكم فى كتابِ الله؛ وذلك: الميتةُ، والدَّمُ، ولحمُ الخنزيرِ، وما أُهلِ لغيرِ اللهِ به، والمنخنقةُ، والموقوذةُ، والمتردِّيةُ، والنطيحةُ، وما أكَل السَّبُعُ، وما ذُبح على النُّصُبِ، فإنَّ ذلك كلَّه رجسٌ.
(1)
تفسير مجاهد ص 480، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 358 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 358 إلى المصنف.
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"ركبتموها".
كما حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} . قال: إلا الميتةَ، وما لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليه.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(1)
.
وقولُه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . يقولُ: فاتَّقوا عبادةَ الأوثانِ، وطاعةَ الشيطانِ في عبادتِها، فإنها رجسٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . يقولُ: اجتنِبوا طاعةَ الشيطانِ فى عبادةِ الأوثانِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ في قولِه:{الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . قال: عبادةَ الأوثانِ.
وقولُه: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واتَّقوا قولَ الكذِبِ والفريةَ على اللهِ بقولِكم فى الآلهةِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقولِكم للملائكةِ: هى بناتُ اللهِ. ونحوِ ذلك من القولِ، فإنَّ ذلك كذبٌ وزورٌ وشركٌ باللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 37، 38.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 358 إلى المصنف.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قَوْلَ الزُّورِ} . قال: الكذبَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} : يعنى الافتراءَ على اللهِ والتكذيبَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن وائلِ بنِ ربيعةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: تُعدَلُ شهادةُ الزورِ بالشركِ. وقرأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ، عن عاصمٍ، عن وائلِ بنِ ربيعةَ، قال: عَدَلَت شهادةُ الزورِ الشركَ. ثم قرأ هذه الآيةَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 480، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 358، 359 إلى المصنف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (15395)، وابن أبي شيبة 7/ 257، والطبراني (8569)، والبيهقي في الشعب (4862) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى المصنف والفريابي وسعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والخرائطى فى المكارم.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 259 عن أبي بكر به.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثنا سفيانُ العُصفُريُّ، عن أبيه، عن خُريمِ بن فاتكٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُدِلتْ شَهَادَةُ الزُورِ بالشِّركِ باللهِ". ثم قَرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} .
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مروانُ بن معاويةَ، عن سفيانَ العُصفريِّ، عن فاتِكِ ابنِ فَضالةَ، عن أيمنَ بنِ خُريمٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا فقال:"أيُّها النَّاسُ عُدِلت، شَهادةُ الزُّورِ بالشِّركِ باللهِ". مرَّتين، ثم قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} "
(1)
.
ويجوزُ أن يكونَ مرادًا به: اجتنِبوا أن تَرجُسوا أنتم أيُّها الناسُ من الأوثانِ بعبادتِكم إياها.
فإن قال قائلٌ: وهل من الأوثانِ ما ليس برِجسٍ حتى قيل: فاجتنبوا الرجسَ منها؟ قيل: كلُّها رجسٌ. وليس المعنَى ما ذهبتَ إليه في ذلك، وإنما معنَى الكلامِ: فاجتنبوا الرجسَ الذى يكونُ من الأوثانِ، أى عبادتَها. فالذى أمَر جلَّ ثناؤه به
(2)
بقولِه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} منها، اتقاءُ عبادِتها، وتلك العبادةُ هي الرجسُ على ما قاله ابنُ عباسٍ ومن ذكَرنا قولَه قبلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا
(1)
أخرجه أحمد 4/ 178، 233، 322 (الميمنية)، والترمذى (2299) من طريق مروان بن معاوية به، وأخرجه ابن أبي شيبة 7/ 257، 258، وأحمد 4/ 321 (الميمنية)، وأبو داود (3599)، وابن ماجه (2372)، والطبراني (4162)، والبيهقى 10/ 121، وفى الشعب (4861) من طريق سفيان العصفري به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
سقط من: م، ت 2.
خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: اجتنبوا أيُّها الناسُ عبادةَ الأوثانِ وقولَ الشركِ، مستقيمين للهِ على إخلاصِ التوحيدِ له، وإفرادِ الطاعةِ والعبادةِ له، خالصًا دونَ الأوثانِ والأصنامِ، غيرَ مشركين به شيئًا من دونِه؛ فإنه من يُشركْ باللهِ شيئًا من دونِه فمثَلُه فى بعدِه من الهدى وإصابةِ الحقِّ وهلاكِه وذَهابِه عن ربِّه، مثلُ مَن خرَّ من السماءِ، فتخطفُه الطيرُ فهلَك، أو هَوَتْ به الريحُ في مكانٍ {سَحِيقٍ}. يعني: بعيدٍ. من قولِهم: أبعدَه اللهُ وأسحَقَه. وفيه لغتان: أسحقَته الريحُ، وسحقَته. ومنه قيل للنخلةِ الطويلةِ: نخلةٌ سحوقٌ، ومنه قولُ الشاعرِ
(1)
:
كانتْ لنا جارَةٌ فَأَزعَجَها
…
قاذُورَةٌ تُسحِقُ النَّوَى قُدُما
ويُروى: تَسحَقُ.
يقولُ: فهكذا مثلُ المشركِ
(2)
باللهِ فى بُعدِه من ربِّه، ومن إصابةِ الحقِّ، كبُعدِ هذا الواقعِ من السماءِ إلى الأرضِ، أو كهلاكِ
(3)
من اختطفتْه الطيرُ منهم في الهواءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} . قال: هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لمن أشرَك باللهِ في بُعدِه من الهُدَى وهلاكِه، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .
(1)
تهذيب اللغة 4/ 24، واللسان والتاج (س ح ق).
(2)
فى ت 1، ف:"الشرك".
(3)
في ت 1، ف:"فهلاك".
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . قال: بعيدٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقيل: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} . وقد قيل قبلَه: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} . و "خرَّ" فعلٌ ماضٍ، و "تخطَفُه" مستقبلٌ، فعطَف بالمستقبل على الماضي، كما فعل ذلك في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 25]. وقد بيَّنتُ ذلك هنالك
(3)
.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذى ذكرتُ لكم أيُّها الناسُ، وأمَرتكم به؛ من اجتنابِ الرجسِ من الأوثانِ، واجتنابِ قولِ الزورِ، حنفاءَ للهِ، وتعظيمِ شعائرِ اللهِ، وهو استحسانُ البُدنِ واستسمانُها، وأداءُ مناسِك الحجِّ على ما أمرَ اللهُ جلَّ ثناؤه - من تَقوى قلوبِكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 38، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
فى م: (هناك). وينظر ما تقدم في ص 504.
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا محمدُ بنُ زيادٍ، عن محمدِ بن أبي ليلى، عن الحكمِ، عن مقسمٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} . قال: استعظامُها واستحسانُها واستسمانُها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بنِ أبى بزَّةَ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} . قال: الاستسمانُ والاستعظامُ.
وبه عن عنبسةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: والاستحسانُ.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ
(2)
الواسطيُّ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن أبى بشرٍ، وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} . قال: استعظامُ البُدنِ واستسمانُها واستحسانُها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 294 (القسم الأول من الجزء الرابع)، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 5/ 416 - من طريق ابن أبي ليلى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 359 إلى ابن المنذر.
(2)
في ت 2: "سنان".
(3)
تفسير مجاهد ص 481، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 295 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق الحكم، عن مجاهد، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا يزيدُ بن هارونَ، قال: أخبَرنا داودُ بنُ أبي هندٍ، عن محمدِ بنِ أبي موسى، قال: الوقوفُ بعرفةَ من شعائرِ اللهِ، وبجَمْعٍ
(1)
من شعائرِ اللهِ، ورميُ الجمارِ من شعائرِ اللهِ، [والبُدنُ من شعائرِ اللهِ، ومن يعظِّمْها فإنها من شعائرِ الله. فى قولِه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}]
(2)
. فمن يعظِّمْها فإنها من تقوَى القلوبِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} . قال: الشعائرُ: الجمارُ، والصفا والمروةُ من شعائرِ اللهِ، والمَشعَرُ الحرامُ والمزدَلِفةُ. قال: والشعائرُ تدخُلُ في الحرمِ، هي شعائرُ، وهي حرمٌ.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن اللهَ تعالى ذكرُه أخبَر أنَّ تعظيمَ شعائرِه، وهى ما جعَله
(4)
أعلامًا لخلقِه فيما تعبَّدهم به من مناسكِ حجِّهم من الأماكنِ التى أمرَهم بأداءِ ما افترَض عليهم منها عندَها، والأعمالِ التي ألزَمهم عملَها في حجِّهم - من تَقوى قلوبِهم، لم يخصُصْ من ذلك شيئًا، فتعظيمُ كلِّ ذلك من تقوى القلوبِ كما قال جلَّ ثناؤه، وحقٌّ على عبادِه المؤمنين به تعظيمُ جميعِ ذلك.
وقال: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ، وأنَّث ولم يقُلْ: فإنه. لأنه أُريد بذلك: فإنَّ تلك التعظيمةَ مع اجتنابِ الرجسِ من الأوثانِ من تَقوى القلوب. كما قال جلَّ ثناؤه: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 153].
وعنَى بقولِه: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} : فإنها من وجَلِ القلوبِ من
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الجمع". وجمع: هو مزدلفة. معجم البلدان 2/ 118.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 294، 295 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق داود به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 359 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في ت 1: "الله".
خشيةِ اللهِ، وحقيقةِ معرفتِها بعظمتِه وإخلاصِ توحيدِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ فى معنى "المنافعِ" التى ذكَر اللهُ في هذه الآيةِ، وأخبَر عبادَه أنَّها إلى أجلٍ مسمًّى، على نحوِ اختلافِهم في معنى "الشعائرِ" التي ذكَرها جلَّ ثناؤه في قولِه:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ؛ فقال الذين قالوا: عنَى بالشعائرِ البدنَ: معنَى ذلك: لكم أيُّها الناسُ في البدنِ منافعُ.
ثم اختلَف أيضًا الذين قالوا هذه المقالةَ فى الحالِ التي لهم فيها منافعُ، وفى الأجلِ الذى قال عزَّ ذكرُه:{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ؛ فقال بعضُهم: الحالُ التي أخبَر اللهُ جلَّ ثناؤه أنَّ لهم فيها منافع، هى الحالُ التي لم يوجبْها صاحبُها ولم يسمِّها بدَنةٌ ولم يقلِّدْها. قالوا: ومنافعُها فى هذه الحالِ شربُ ألبانِها، وركوبُ ظهورِها، وما يرزقُهم اللهُ من نَتاجِها وأولادِها. قالوا: والأجلُ المسمَّى الذي أخبَر جلَّ ثناؤه أن ذلك لعبادِه المؤمنين منها إليه، هو إلى إيجابِهم إيَّاها، فإذا أوجَبوها بطَل ذلك، ولم يكنْ لهم من ذلك شيءٌ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن ابنِ أبي ليلى، عن الحكمِ، عن مقسمٍ، عن ابنِ عباسٍ في:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: ما لم يسمَّ بُدْنًا
(1)
.
(1)
تتمة الأثر المتقدم في ص 540.
حدَّثنا عبد الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: الركوب واللبنُ والولدُ، فإذا سُمِّيَتْ بدَنةً أو هديًا ذهَب ذلك
(1)
كلُّه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ فى هذه الآيةِ:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: لكم في ظهورِها وألبانِها وأوبارِها حتى تصيرَ بُدنًا
(3)
.
قال: ثنا ابنُ أبي (1) عَدِيٍّ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ بمثلِه.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ وليثٍ، عن مجاهدٍ:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: في أشعارها وأوبارِها وألبانِها قبلَ أن تسمِّيَها بدنةً.
قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ، عن عنبسةَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: في البُدنِ؛ لحومُها وألبانُها وأشعارُها وأوبارُها وأصوافُها، قبلَ أن تسمَّى هديًا
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن
(1)
سقط من: م.
(2)
تفسير سفيان ص 212.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى المصنف وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 481.
مجاهدٍ مثلَه، وزاد فيه: وهى الأجلُ المسمَّى.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حجاجٌ، عن عطاءٍ أنه قال في قولِه:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: منافعُ فى ألبانِها وظهورِها وأوبارِها، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: إلى أن تُقلَّدَ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا جويبرٌ، عن الضحاكِ مثلَ ذلك.
حدَّثني يعقوبُ، قال: قال ابنُ عليةَ: سمِعتُ ابنِ أبي نجيحٍ يقولُ في قولِه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: إلى أن يُوجبَها بَدَنةً.
قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن قتادةَ:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . يقولُ: فى ظهورِها وألبانِها، فإذا قُلِّدت فمحِلُّها إلى البيتِ العتيقِ
(2)
.
وقال آخرون ممن قال: الشعائرُ البدنُ فى قولِه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} : والهاءُ فى قوله: {لَكُمْ فِيهَا} . من ذكرِ "الشعائرِ". ومعنَى قولِه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} : لكم في
(3)
الشعائرِ التي تعظِّمُونها للهِ منافعُ بعدَ اتخاذِ كموها للهِ بُدنًا أو هَدايا، بأن تركَبوا ظهورَها إذا احتَجتُم إلى ذلك، وتشرَبوا ألبانَها إن اضْطُرِرتم إليها. قالوا: والأجلُ المسمَّى الذى قال جلَّ ثناؤه: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . إلى أن تُنحَرَ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 419 عن قتادة.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن عطاءٍ:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: هو ركوبُ البدنِ، وشربُ لبنِها إن احتاج.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجِ، قال: قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ في قولِه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: إلى أن تُنحرَ
(1)
.
قال: له أن يحمِلَ
(2)
عليها المعيَى والمنقطعَ به، من الضرورةِ؛ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمُرُ بالبدنةِ إذا احتاج إليها سيدُها أن يَحمِلَ عليها ويركبَ [غيرَ منهوكةٍ]
(3)
. قلتُ لعطاءٍ: ما؟ قال: الرجلُ الراجلُ، والمنقطعُ به، والمتبعُ، وإن نُتِجت أن يحملَ عليها ولدَها، ولا يشربَ من لبنِها إلا فضلًا عن ولدِها، فإن كان في لبنِها فضلٌ فليشرَبْ من أهداها ومن لم يُهدِها
(4)
.
وأما الذين قالوا: معنى الشعائرِ في قولِه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} . شعائر الحجِّ؛ وهى الأماكنُ التى يُنسَكُ عندَها للهِ، فإنهم اختلَفوا أيضا في معنَى المنافعِ. التى قال اللهُ:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: لكم في هذه الشعائرِ التى تعظِّمُونها منافعُ بتجارتِكم عندَها، وبيعِكم وشرائِكم بحضرتِها،
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
فى م: "يحملها"، وفي ت 2:"يعمل"، وفي ف:"تحمل".
(3)
في النسخ: "عند منهوكه". وينظر فتح الباري 3/ 538، وشرح الزرقاني 2/ 431، والمراسيل لأبي داود 1/ 154.
(4)
أخرجه أبو داود في المراسيل ص 126 من طريق حجاج به.
وتسوِّقِكم. والأجلُ المسمَّى الخروجُ من الشعائرِ إلى غيرِها، ومن المواضعِ التي يُنسكُ عندَها إلى ما سواها، في قولِ بعضِهم.
حدَّثني الحسينُ
(1)
بن على الصُّدائيُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن سليمانَ الضبيِّ، عن عاصمِ بنِ أبي النَّجودِ، عن أبي رَزينٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} . قال: أسواقُهم، فإنه لم يذكُرْ منافعَ إلا للدنيا.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا داودُ بنُ أبي هندٍ، عن محمد بنِ أبي موسى قولَه:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: والأجلُ المسمَّى الخروجُ منه إلى غيرِه
(2)
.
وقال آخرون منهم: المنافعُ التي ذكَرها اللهُ في هذا الموضعِ العملُ للهِ بما أمَر من مناسكِ الحجِّ. قالوا: والأجلُ المسمَّى هو انقضاءُ أيامِ الحجِّ التي يُنسَكُ للهِ فيهن.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فقرَأ قولَ اللهِ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} : لكم في تلك الشعائرِ منافعُ إلى أجلٍ مسمًّى؛ إذا ذهَبت تلك الأيامُ لم ترَ أحدًا يأتى عرفةَ يقفُ فيها يبتغى الأجرَ، ولا المزدلفةَ، ولا رميَ الجمارِ، وقد ضرَبوا من البلدانِ لهذه الأيامِ التي فيها المنافعُ، وإنما منافعُها إلى تلك الأيامِ، وهى الأجلُ المسمَّى، ثم محِلُّها حينَ تنقضى تلك الأيامُ إلى البيتِ العتيقِ.
(1)
في م: "الحسن".
(2)
تتمة الأثر المتقدم في ص 541، وتمامه هذا ليس عند ابن أبي شيبة.
قال أبو جعفرٍ: وقد دلَّلنا قبلُ على أنَّ قولَ اللهِ تعالى ذكرُه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} معنيٌّ به كلُّ ما كان من عملٍ أو مكانٍ جعلَه اللهُ علمًا لمناسكِ حجِّ خلقِه، إذ لم يخصُصْ من ذلك جلَّ ثناؤه شيئًا في خبر ولا عقلٍ. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن معنى قولِه:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : لكم في هذه الشعائرِ منافعُ إلى أجلٍ مسمًّى، فما كان من هذه الشعائرِ بُدْنًا وهديًا فمنافعُها لكم، من حينِ تملِكون إلى أن أوجبتموها هَدايا وبُدنًا، وما كان منها أماكنَ يُنسَكُ للهِ عندَها، فمنافعُها التجارةُ للهِ عندَها، والعملُ لله
(1)
بما أمَر به إلى الشخوصِ عنها، وما كان منها أوقاتًا فأن
(2)
يُطاعَ اللهُ فيها بعملِ أعمالِ الحجِّ وبطلبِ المعاشِ فيها بالتجارةِ، إلى أن يطافَ بالبيتِ في بعضٍ، أو يُوافَى الحرمُ فى بعضٍ، ويُخرجَ من
(3)
الحرمِ في بعضٍ.
وقد اختلَف الذين ذكَرنا اختلافَهم في تأويلِ قولِه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . في تأويلِ قولِه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؛ فقال الذين قالوا: عَنى بالشعائرِ فى هذا الموضعِ البُدنَ: معنى ذلك: ثم محِلُّ البدنِ إلى أن تبلغَ مكةَ، وهي التي بها البيتُ العتيقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: أخبَرنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حجاجٌ، عن عطاءٍ:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : إلى مكةَ
(4)
.
(1)
ليست فى: م.
(2)
في م: "بأن".
(3)
في م: "عن".
(4)
تتمة الأثر المتقدم في ص 544.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : يعنى: محِلُّ البدنِ حينَ تسمَّى إلى البيتِ العتيقِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال:{ثُمَّ مَحِلُّهَا} حينَ تسمَّى هديًا، {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. قال: الكعبةُ أعتقَها من الجبابرِة.
فوجَّه هؤلاء تأويلَ ذلك إلى: ثم
(2)
منحرُ البدنِ والهدايا التي أوجبتموها إلى أرضِ الحرمِ. وقالوا: عنَى بالبيتِ العتيقِ أرضَ الحرمِ كلَّها. وقالوا: وذلك نظيرُ قولِه: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] والمرادُ الحرمُ كلُّه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم محِلُّكم أيُّها الناسُ من مناسكِ حجِّكم إلى البيتِ العتيقِ؛ أن تطوفوا به يومَ النحرِ بعدَ قضائِكم ما أوجَبه اللهُ عليكم في حجِّكم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، قال: أخبَرنا داودُ بنُ أبى هندٍ، عن محمدِ بن أبي موسى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قال: محلُّ هذه الشعائرِ كلِّها الطوافُ بالبيتِ
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم محلُّ منافعِ أيام الحجِّ إلى البيتِ العتيقِ
(1)
تفسير مجاهد ص 481، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 359 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "سمى".
(3)
تتمة الأثر المتقدم في ص 541، وتمامه هذا ليس عند ابن أبي شيبة.
بانقضائِها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : حينَ تنقضى تلك الأيامُ، أيامُ الحجِّ، إلى البيتِ العتيقِ.
وأولى هذه الأقوالِ عندى بالصوابِ قولُ من قال: معنَى ذلك: ثم محلُّ الشعائرِ التى لكم فيها منافعٌ إلى أجلٍ مسمًّى إلى البيتِ العتيقِ. فما كان من ذلك هَديًا أو بُدنًا، فبموافاتِه الحرمَ في الحرمِ، وما كان من نسكٍ، فبالطوافِ
(1)
بالبيتِ.
وقد بيَّنا الصوابَ من القولِ عندَنا في معنى "الشعائرِ".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} : ولكلِّ جماعةٍ سَلَفٍ فيكم من أهلِ الإيمانِ باللهِ أيُّها الناسُ جعَلنا ذبحًا يُهَرِيقون دمَه، {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} بذلك؛ لأن من البهائمِ ما ليس من الأنعامِ، كالخيلِ والبغالِ والحميرِ.
وقيل: إنما قيل للبهائمِ: بهائمُ؛ لأنها لا تتكلَّمُ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ قولِه: {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} قال أهلُ التأويلِ.
(1)
فى م، ف:"فالطواف".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} . قال: إهراقةُ
(1)
الدماءِ؛ ليَذكُروا اسمَ اللهِ عليها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
وقولُه: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فاجتنِبوا الرجسَ من الأوثانِ، واجتنِبوا قولَ الزورِ؛ فإلهُكم إلهٌ واحدٌ لا شريكَ له، فإياه فاعبُدوا، وله فأَخلِصُوا الألوهةَ
(3)
.
وقولُه: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} . يقولُ: فلإلهِكم فاخضَعوا بالطاعةِ، وله فذِلُّوا بالإقرارِ بالعبوديةِ.
وقولُه: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وبشِّرْ يا محمدُ الخاضعين للهِ بالطاعةِ، المذعنين له بالعبوديةِ، المنيبين إليه بالتوبةِ.
وقد بيَّنا معنى "الإخباتِ" بشواهدِه فيما مضى من كتابِنا هذا
(4)
.
وقد اختلف أهلُ التأويلِ في المرادِ به في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: أُريدَ به:
(1)
فى م: "إهراق".
(2)
تفسير مجاهد ص 481، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 360 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، ت 2، ت 3:"الألوهية".
(4)
ينظر ما تقدم 12/ 374، 375.
وبشِّرِ المطمئنين إلى اللهِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} . قال: المطمئنين
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} : المطمئنين إلى اللهِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} . قال: المطمئنين
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: ثنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} . قال: المتواضعين
(3)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا محمدُ بنُ مسلمٍ، عن عثمانَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أوسٍ، عن عمرِو بنِ أوسٍ، قال: المخبتون الذين لا يظلِمون، وإذا ظُلموا لم ينتصِروا
(4)
.
(1)
تفسير سفيان ص 213، وعنه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 38، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 360 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 481.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 38.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 578، والبيهقى فى الشعب (8088) من طريق محمد بن مسلم به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ عثمانَ الواسطيُّ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ
(1)
، قال: ثنا محمدُ بنُ مسلمٍ الطائفيُّ، قال: ثنى عثمانُ بنُ عبدِ اللهِ بن أوسٍ، عن عمرِو بنِ أوسٍ مثلَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} .
فهذا من نعتِ {الْمُخْبِتِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وبشِّرْ يا محمدُ المخبتين الذين تَخشَعُ قلوبُهم لذكرِ اللهِ، وتخضَعُ
(2)
مِن خشيتِه وَجَلًا مِن عقابِه، وخوفًا مِن سخَطِه.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . قال: لا تَقسُو قلوبُهم، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} . فمن شدةٍ فى أمرِ اللهِ، ونالهم مِن مكروهٍ في جَنبِه، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} المفروضةِ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأموالِ {يُنْفِقُونَ} فى الواجبِ عليهم إنفاقُها فيه، فى زكاةٍ، ونَفَقَةِ عيالٍ، ومَن وَجَبَت عليه نفقتُه، وفى سبيلِ اللهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَالْبُدْنَ} . وهي جمعُ بَدَنةٍ، وقد يقالُ لواحدِها: بُدُنٌ. وإذا قيل: بُدُنٌ. احتَمل أن يكونَ جمعًا وواحدًا، يدلُّ على أنه قد يقالُ ذلك
(1)
في ت 2: "عمرو". وينظر تهذيب الكمال 7/ 26.
(2)
في ت 2: "تخشع".
للواحدِ قولُ الراجزِ
(1)
:
* عليَّ حينَ تَملِكُ الأُمُورا *
* صومَ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا *
* وحَلقُ رَأْسِي وافيًا مضفُورَا *
* وبُدُنَا مُدَرَّعًا مَوفُورَا *
والبدنُ هو الضَّخمُ مِن كلِّ شيءٍ، ولذلك قيل لامرِئ القيسِ بنِ النُّعمانِ صاحبِ الخَوَرنقِ
(2)
والسَّدير
(3)
: البُدُنُ. لضِخَمِه واسترخاءِ لحمِه، فإنه يقالُ: قد بَدَّنَ تَبدِينًا.
فمعنى الكلامِ والإبلَ العِظامَ الأجسامِ الضِّخامِ جَعَلناها لكم أيُّها الناسُ {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . يقولُ: مِن أعلامِ أمرِ اللهِ الذي أمَركم به في مناسكِ حجِّكم، إذا قلَّدتُموها وجَلَّلْتُموها وأشعرتُموها، عُلِم بذلك وشُعِرَ أنكم فعَلتم ذلك؛ مِن الإبلِ والبقرِ.
كما حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن ابن جريجٍ، قال: قال عطاءً: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . قال: البقرةَ والبعيرَ
(4)
.
وقولُه: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . يقولُ: لكم في البُدنِ خيرٌ. وذلك الخيرُ هو الأجرُ فى الآخرةِ بنَحرِها والصدقةِ بها، وفى الدنيا الركوبُ إذا احتاجَ إلى رُكُوبِها.
(1)
التبيان 7/ 282.
(2)
الخورنق: موضع الشرب، وهى بنية بناها النعمان لبعض أولاد الأكاسرة. المعرب للجواليقى ص 174.
(3)
موضع معروف بالحيرة اتخذه المنذر الأكبر لبعض ملوك العجم، وقيل: نهر. ينظر المعرب للجواليقى ص 235، 236.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة ص 366 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 361 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . قال: أجرٌ ومنافعُ فى البُدنِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . قال: اللبنُ والركوبُ إذا احتاجَ
(3)
.
حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ بيانٍ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . قال: إذا اضطررتَ إلى بدنَتِك
(4)
ركِبتَها، وشَرِبتَ مِن
(5)
لبنِها
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} : مَن احتاجَ إلى ظَهرِ البَدَنةِ رَكِب، ومَن احتاجَ إلى لبنِها شَرِبَ.
(1)
تفسير مجاهد ص 481، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 361 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه جه ابن أبي شيبة ص 412 (القسم الأول من الجزء الرابع) من طريق الحكم وابن أبي نجيح، عن مجاهد.
(3)
تفسير سفيان ص 213 بنحو اللفظ الآتي.
(4)
في ت 1: "هديتك"، وفى ت 2:"هديك".
(5)
سقط من: م، ت 1.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 423 بنحوه، و عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 361 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فاذْكُرُوا اسمَ اللهِ على البُدنِ عندَ نَحرِكم إياها صَوَافَّ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} بمعنى: مُصطفَّةٌ، واحدُها: صافَّةٌ، قد صُفَّتْ بينَ أيدِيها.
ورُوِى عن الحسنِ ومجاهدٍ وزيدِ بنِ أسلمَ وجماعةٍ أُخَرَ معهم أنهم
(1)
قرَءوا ذلك: (صوَافِيَ). بالياءِ منصوبةً، بمعنى: خالصةً للهِ لا شريكَ له فيها، صافيةً له
(2)
.
وقرأ بعضُهم ذلك: (صوافٍ). بإسقاطِ الياءِ وتنوينِ الحرفِ، على مثالِ: عَوَارٍ، وعَوَادٍ
(3)
.
ورُوِىَ عن ابنِ مسعودٍ أنه قرَأه: (صَوَافِنَ). بمعنى: مُعقَّلةً
(4)
.
والصوابُ مِن القراءةِ فى ذلك عندى قراءةُ مَن قرأه بتَشديدِ الفاءِ ونَصبِها؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه بالمعنى الذي ذكَرناه لمَن قرأه كذلك.
ذكرُ مَن تأوَّله بتأويلِ مَن قرأَه بتَشديدِ الفاءِ ونصبِها
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن الأعمشِ، عن أبى ظَبيانَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . قال: اللهُ
(1)
في ص، ت 2:"أنه".
(2)
وهي قراءة أبي موسى الأشعرى وشقيق وسليمان التيمي، والأعرج وعمرو بن عبيد إلا أنه نوَّن الياء. ينظر المحتسب 2/ 81، والبحر المحيط 6/ 369.
(3)
وهى قراءة الحسن. البحر المحيط 6/ 369.
(4)
وهى قراءة ابن عمرو وابن عباس وإبراهيم والباقر والأعمش -واختلف عنهما- وعطاء والضحاك والكلبي. ينظر المحتسب 2/ 81، والبحر المحيط 6/ 369. وهذه القراءات الثلاثة الأخيرة شاذة.
أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهمَّ منك ولك، {صَوَافَّ}: قيامًا على ثلاثِ أرجلٍ. فقيل لابنِ عباسٍ: ما نَصنعُ بجُلُودِها؟ قال: تصَدَّقوا بها، واستَمتِعوا بها
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أيوبُ بنُ سويدٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي ظَبيانَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{صَوَافَّ} .
قال: قائمةً. قال: يقولُ: اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهمَّ منك ولك
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبى عديٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ، عن أبي ظبيانَ، عن ابنِ عباسٍ:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . قال: قِيامًا على ثلاثِ قوائمَ معقولةً، باسمِ اللهِ، اللهُ أكبرُ، اللهمَّ منك ولك
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حصينٌ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{صَوَافَّ} . قال: معقولةً إحدى يدَيها. قال: قائمةً على ثلاثِ قوائمَ.
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن على، عن ابن عباسٍ في قولِه:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . يقولُ: قِيامًا
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} : والصَّوَافُ أَن تَعْقِلَ
(1)
أخرجه البيهقى 5/ 237 من طريق الأعمش به وفيه أن ابن عباس كان يقرأ: (صوافن)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 362 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا فى الأضاحي وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير سفيان ص 213.
(3)
أخرجه الحاكم 4/ 233 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى الفريابي وأبي عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 83، وعبد بن حميد في تفسيره -كما في تغليق التعليق 3/ 92 - من طرق عن ابن عباس. وينظر تفسير ابن كثير 5/ 424.
قائمةً واحدةً، وتَصُفَّها على ثلاثٍ فتنحرَها كذلك.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا يعلى بنُ عطاءٍ، قال: أخبرَني بُجيرُ بنُ سالمٍ، قال: رأيتُ ابنُ عمرَ
(1)
وهو ينحَرُ بدنتَه. قال: فقال {صَوَافَّ} كما قال اللهُ. قال: فنحرَها وهى قائمةٌ معقولةٌ إحدى يَدَيها
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: أخبَرنا ليثٌ، عن مجاهدٍ، قال: الصَّوافُّ: إذا عُقِلَت رجلُها وقامت على ثلاثٍ
(3)
.
قال: ثنا ليثٌ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . قال: صوافَّ بينَ أوظافِها
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{صَوَافَّ} . قال: قيامٌ صوافُّ على ثلاثِ قوائمَ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . قال: بينَ وظائفِها قيامًا.
حدَّثنا ابنُ البرقيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ أيوبَ، عن
(1)
في ت 2: "عمرو".
(2)
أخرجه البيهقى 5/ 237 من طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 362 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. وينظر البخارى (1713)، ومسلم (1320)، وأحمد 8/ 27 (4459).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 82 من طريق ليث به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
الوظيف لكل ذى أربع: ما فوق الرسغ إلى مفصل الساق. اللسان (و ظ ف).
(5)
تفسير مجاهد ص 481.
خالدِ بنِ يزيدَ، عن ابنِ أبي هلالٍ، عن نافعٍ، عن عبدِ اللهِ أنه كان ينحَرُ البُدنَ وهى قائمةٌ مُستقبِلةٌ البيتَ تُصَفُّ أيدِيها بالقيودِ. قال: هى التى ذكَر اللهُ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن رجلٍ، عن أبي ظبيانَ، عن ابن عباسٍ، قال: قلتُ له: قولُ اللهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} ؟ قال: إذا أردتَ أن تنحَرَ البَدَنةَ فانحَرْها، وقلْ: اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ، اللهمَّ منك ولك. ثم سمِّ، ثم انحَرْها. قلتُ: فأقولُ ذلك للأُضحيةِ؟ قال: وللأُضحيةِ
(2)
ذكرُ من تأوَّله بتأويلِ من قرَأه: (صوَافيَ) بالياءِ
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، عن أبيه، عن الحسنِ أنه قال:(فاذكُرُوا اسمَ اللهِ عليها صوافِىَ) قال: مخلصِين.
قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ
(3)
، قال: قال الحسنُ: (صوَافِيَ): خالصةً.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، قال: قال الحسنُ: (صوَافيَ): خالصةً للهِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ،
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 389 - ومن طريقه البيهقى 9/ 287 - من طريق جرير، عن الأعمش ومنصور، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس.
(3)
بعده في ت 2: "عن قتادة".
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 38، وسقط منه ذكر الحسن، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 362 إلى أبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنبارى فى المصاحف وابن أبي حاتم. وفى تفسير عبد الرزاق ومطبوعة الدر:"صوافٍ" منونة. وينظر تفسير ابن كثير 5/ 424.
عن شقيق الضَّبىِّ: (فاذكُروا اسم الله عليها صَوَافي). قال: خالصةً.
قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا أيمنُ بنُ نابلٍ، قال: سألتُ طاوسًا عن قوله: (فاذْكُروا اسم الله عليها صَوَافِى) قال: خالصاً
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: (فاذْكُروا اسم الله عليها صَوَافي). قال: خالصةً ليس فيها شَريكٌ، كما كان المشركون يَفعلون، يجعَلون للهِ ولآلهتِهم، (صَوَافيَ) صافيةٌ للهِ تعالى
(2)
.
ذكرُ مَن تأوَّلَه بتأويل مَن قرأه: (صَوَافَنَ)
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: في حرفِ ابنِ مسعودٍ: (فاذْكُرُوا اسم الله عليها صَوافِنَ). أى: مُعقَّلةً قيامًا.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ: في حرفِ ابنِ مسعودٍ: (فاذكُرُوا اسمَ اللهِ عليها صوَافنَ). قال: أي: مُعقَّلةً قيامًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: مَن قَرَأها: (صَوافِنَ) قال: معقولةً. قال: ومَن قرأها: {صَوَافَّ} . قال: تُصفُّ بينَ يَدَيْها
(4)
.
حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 424.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 38، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى عبد بن حميد وابن الأنباري.
(4)
أخرجه البيهقى 5/ 237 من طريق عبد الرحمن به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى عبد
الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الضحاك يقولُ فى قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} يعني: صَوَافِنَ. والبَدَنةُ إذا نُحِرَت عُقلَت يدٌ واحدةٌ، فكانت على ثلاثٍ، وكذلك تُنحَرُ
(1)
.
قال أبو جعفر: وقد تقدَّم بياني
(2)
أولى هذه الأقوال بتأويل قولِه: {صَوَافَّ} . وهى المُصطفَّةُ بين أيديها، المَعقولةُ إحدى قَوائِمِها
(3)
.
وقولُه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} . يقولُ: فإِذا سَقَطَت فوقَعت جُنُوبُها إلى الأرضِ بعدَ النَّحرِ، {فَكُلُوا مِنْهَا}. وهو من قولهم: قد وَجَبت الشمسُ. إذا غابَت فسَقَطَت لتغيب
(4)
. ومنه قولُ أوس بن حجرٍ
(5)
:
ألم تُكسَفِ الشمسُ والبدرُ والـ
…
ـكواكبُ للجَبَلِ الوَاجبِ
يعنى بالواجبِ: الواقِعَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمروٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثني عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} . سقَطت إلى الأرض
(6)
.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 424.
(2)
فى م، ت 1:"بيان".
(3)
ينظر ما تقدم في ص 555.
(4)
في ص، م، ت 1، ف:"للتغيب"، وفى ت 2:"للتغييب". والمثبت من مجاز القرآن 2/ 51.
(5)
ديوانه ص 10.
(6)
تفسير مجاهد ص 481، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 362 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق في قوله:{فَإِذَا وَجَبَتْ} . قال: إذا فُرِغَت ونُحِرَت.
حدَّثني محمدُ بنُ عمارةَ، قال: ثنا عبيدُ الله بنُ موسى، قال: أخبرنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} . قال: نُحِرَت.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} . قال: إذا نُحِرَت
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} . قال: فإذا ماتت
(2)
.
وقولُه: {فَكُلُوا مِنْهَا} . وهذا مخرجُه مخرجُ الأمر، ومعناه الإباحةُ والإطلاقُ، يقولُ اللهُ: فإذا نُحِرَت فَسَقَطَت ميِّتةً بعد النحر، فقد حَلَّ لكم أكلُها. وليس بأمر إيجابٍ.
وكان إبراهيمُ النخعىُّ يقولُ فى ذلك ما حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: المشركون كانوا لا يأكلون مِن ذبائِحِهم، فرَخَّصَ للمسلمين، {فَكُلُوا
(3)
مِنْهَا}. فمن شاء أَكل، ومَن شاء لم يأكُلْ
(4)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 425 عن العوفي، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 362 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 425 عن ابن زيد.
(3)
في ص، م، ت 1، ف:"فأكلوا".
(4)
تقدم تخريجه في ص 522.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن حصينٍ، عن مجاهدٍ، قال: إن شاء أكَلَ، وإن شاء لم يأكُل، هي بمنزلة:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . يقولُ: يَأكُلُ منها ويُطعِمُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا يونسُ، عن الحسنِ، وأخبَرناه مغيرةُ، عن إبراهيمَ، وأخبَرنا حجاجٌ، عن عطاءٍ، وأخبرنا حصينٌ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَكُلُوا مِنْهَا} . قال: إن شاء أكَلَ، وإن شاء لم يأكُل. قال مجاهدٌ: هى رُخصةٌ، هى كقوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. ومثلُ قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
(1)
.
وقولُه: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . يقولُ: فأطعموا منها القانِعَ.
واختلف أهلُ التأويل فى المعنىِّ بالقانع والمُعتَرِّ؛ فقال بعضُهم: القانِعُ الذي يَمْنَعُ بما أُعطِى أو بما عنده ولا يسألُ، والمُعترُّ الذي يَتَعَرَّضُ لك أن تُطعِمَه مِن اللَّحم ولا يسألُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانعُ المُستَعْنى
(1)
تقدم تخريجه في ص 524.
بما أعطيتَه وهو في بيتِه، والمُعترُّ الذى يتعرَّضُ لك، ويَلُمُّ بك أن تُطعمه مِن اللحمِ ولا يسألُ، وهؤلاء الذين أمر أن يُطعموا مِن البُدنِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال: القانعُ جارُك الذى يقنَعُ بما أعطيته، والمُعترُّ الذى يتعرَّضُ لك ولا يسألُك
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني أبو صخرٍ، عن القُرَظِىِّ أنه كان يقولُ فى هذه الآية:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} : القانعُ الذي يقنَعُ بالشيء اليسيرِ يَرضَى به، والمُعترُّ الذى يمرُّ بجانبك لا يسألُ شيئًا، فذلك المُعترُّ
(3)
.
وقال آخرون: القانعُ الذى يقنعُ بما عندَه ولا يسألُ، والمُعترُّ الذي يَعتَريك فيسألُك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . يقولُ: القانعُ المُتَعفِّفُ، والمُعترُّ
(4)
السائلُ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ أبي الشَّوَاربِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ، قال: ثنا خُصيفٌ، قال:
(1)
أخرجه البيهقى 9/ 294 من طريق آخر عن ابن عباس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 363 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 3/ 87 - من طريق آخر عن مجاهد.
(3)
ينظر تفسير القرطبى 12/ 65، وتفسير ابن كثير 5/ 425.
(4)
بعده فى ص، م، ت 1، ف:"يقول".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 425 عن علي بن طلحة به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 362 إلى ابن أبي حاتم.
سمعتُ مجاهدًا يقولُ: القانعُ أهلُ مكةَ، والمُعترُّ الذى يَعتَريك فيسألُك
(1)
.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا عطاءٌ
(2)
، عن خُصيفٍ، عن مجاهدٍ. فذكَر مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مسلمُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا كعبُ بنُ فروخٍ، قال: سمِعتُ قتادة يحدِّثُ عن عكرمة في قوله: {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانعُ الذى يقعُدُ في بيته، والمُعترُّ الذي يسألُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: القانعُ المتعففُ الجالسُ فى بيتِه، والمعترُّ الذى يعتَريك فيَسألُك
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبد الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال:{الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانِعُ الطامِعُ بما قِبلكَ ولا يسألُك، والمُعتَرُّ الذى يَعتَرِيك ويسألُك
(4)
.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا المُحاربيُّ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ وإبرهيمَ، قالا: القانعُ الجالسُ فى بيته، والمُعترُّ الذى يسألُك
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة في {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}. قال: القائعُ الذى يقنَعُ بما في يديه، والمُعترُّ الذي يعتريك،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 72 من طريق خصيف به.
(2)
في ص، ف:"ابن"، وفى ت 1:"ابن أبي الشوارب"، وسقط من: ت 2.
(3)
ينظر تفسير البغوى 5/ 387.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 38 عن معمر به، وأخرجه البيهقى 9/ 294 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 363 إلى عبد بن حميد، وينظر ما تقدم فى ص 149.
(5)
تفسير سفيان ص 214، ومن طريقه البيهقى 9/ 294، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 72 من طريق منصور عن إبراهيم أو مجاهد.
ولكِلَيهما عليك حقٌّ يابن آدم
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانعُ الذي يجلِسُ في بيته، والمُعترُّ الذي يَعْتَريك.
وقال آخرون: القانعُ هو السائلُ، والمُعترُّ هو الذي يعتريك ولا يسألُ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا يونسُ، عن الحسنِ، قال: القانعُ الذي يَقنَعُ إليك ويسألُك، والمُعترُّ الذي يتعرَّضُ لك ولا يسألُك.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصور بن زاذان، عن الحسن فى هذه الآية:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانِعُ الذى يقنَعُ، والمُعترُّ الذى يعتريك. قال: وقال الكلبيُّ: القانِعُ الذى يسألُ
(2)
، والمُعترُّ الذى يعتريك؛ يتعرَّضُ ولا يسألُك.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأودىُّ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن سفيانَ، عن يونسَ، عن الحسن فى قوله:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانعُ الذى يَسأَلُك، والمُعترُّ الذى يتعرَّضُ لك
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن أبيه، قال: قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: القانِعُ السائلُ.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 425.
(2)
في م: "يسألك".
(3)
تفسير سفيان ص 214، وفيه: القانع المتعفف الذي لا يسأل
…
حدَّثني محمدُ بن إسماعيلَ الأحمَسِيُّ، قال: ثني غالبٌ، قال: ثنى شَريكٌ، عن قُراتِ القَزَّاز، عن سعيد بن جبير في قوله:{الْقَانِعَ} . قال: هو السائلُ. ثم قال: أما سمِعتَ قولَ الشماخ
(1)
:
لمالُ المَرءِ يُصلِحُه فَيُغنِي
…
مَفاقِرَه أَعَفٌ من القُنُوعِ
قال: من السؤال
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: أخبرنا يونسُ، عن الحسن أنه قال في قوله:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانعُ الذى يقنعُ إليك يسألُك، والمُعترُّ الذي يُريك نفسه ويتعرَّضُ لك ولا يسألُك
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشامٌ، قال: أخبرنا منصورٌ ويونسُ، عن الحسن، قال: القانعُ السائلُ، والمُعترُّ الذى يتعرضُ ولا يسألُ
(4)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرنى عبد اللهِ بنُ عيَّاشٍ
(5)
، قال: قال زيدُ بن أسلمَ: القائعُ الذى يسألُ الناس
(6)
.
وقال آخرون: القانِعُ الجارُ، والمُعترُّ الذى يَعتَريك من الناسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: سمعتُ لينًا، عن مجاهدٍ، قال:
(1)
ديوانه ص 221.
(2)
تفسير سفيان ص 214، ومن طريقه البيهقى 9/ 294، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 475 من طريق شريك به، في هذه المصادر تفسير "المعتر" دون الاستشهاد ببيت الشماخ.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 72 عن ابن علية به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 363 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه البيهقى 9/ 294 من طريق يونس ومنصور به.
(5)
فى ت 1، ت 2:"عباس". وينظر تهذيب الكمال 15/ 410.
(6)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 425.
القانِعُ جارُك وإن كان غَنيًّا، والمُعترُّ الذي يعتريك.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيحٍ، قال: قال مجاهدٌ في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: القانعُ جارُك الغَنىُّ، والمُعترُّ مَن اعترَاك من الناسِ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا مغيرةُ، عن إبراهيم في قوله:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . أنه قال: أحدُهما السائلُ، والآخرُ الجارُ
(1)
.
وقال آخرون: القانعُ الطَّوَّافُ، والمُعترُّ الصديقُ الزائرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثني أبي وشعيبُ بنُ الليثِ، عن الليثِ، عن خالدِ بن يزيدَ، عن ابنِ أبي هلالٍ، قال: قال زيدُ بنُ أسلمَ في قولِ اللهِ تعالى: {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} : فالقانعُ المسكينُ الذي يَطوفُ
(2)
، والمُعترُّ الصديقُ والضيفُ
(3)
الذى يزورُ
(4)
.
وقال آخرون: القانعُ الطامعُ، والمُعترُّ الذي يَعتَرُ بالبُدنِ
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
أخرجه البيهقى 9/ 294 من طريق هشيم به.
(2)
في ص، ت 1، ف:"يطوفه"، وفى ت 2:"يطرقه".
(3)
فى ص، م، ت 1، ت 2:"الضعيف".
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 426.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{الْقَانِعَ} . قال: الطامِعُ، {وَالْمُعْتَرَّ}: مَن يَعتَرُّ بالبُدنِ مِن غَنِيٍّ أو فقيرٍ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبَرنى عمرُ
(2)
بنُ عطاءٍ، عن عكرمة، قال: القانعُ الطامعُ
(3)
.
وقال آخرون: القانِعُ هو المسكينُ، والمُعترُّ الذى يتعرَّضُ للَّحم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال: القانعُ المسكينُ، والمُعترُّ الذى يَعترُّ للقومِ
(4)
للَحمِهم وليس بمسكينٍ، ولا يكونُ له ذبيحةٌ، يَجِيءُ إلى القومِ مِن أجل لحمهم، والبائسُ الفقيرُ هو القانِعُ
(5)
.
وقال آخرون بما حدَّثنا به ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن فُراتٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ، قال: القانِعُ الذى يَقنَعُ، والمُعترُّ الذي يَعتَرِيك
(6)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 482، وأخرجه ابن أبي شيبة 4/ 72، وابن أبي حاتم -كما في فتح البارى 3/ 536 - من طريق ابن أبي نجيح به.
(2)
فى ت 2: "عمرو". وينظر تهذيب الكمال 21/ 463.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 426.
(4)
فى م: "القوم".
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 5/ 387.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في فتح البارى 3/ 536 - من طريق سفيان به، وهو في تفسير عبد الرزاق 2/ 38 من طريق فرات به وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 363 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن يونسَ، عن الحسنِ بمثله.
قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ ومجاهدٍ:{الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . القانعُ الجالسُ في بيته، والمُعترُّ الذى يتعرَّضُ لك
(1)
.
وأولى هذه الأقوال بالصواب قولُ من قال: عُنى بالقانِع السائلُ؛ لأنه لو كان المَعنىُّ بالقانع فى هذا الموضع المُكتَفيَ بما عندَه، والمُستغنِىَ به، لقيل: وأطعموا القانعَ والسائلَ. ولم يقُلْ: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . وفي إتباعِ ذلك قوله: {وَالْمُعْتَرَّ} . الدليلُ الواضحُ على أن القانعَ معنىٌّ به السائلُ، من قولهم: قَنَعَ فلانٌ إلى فلانٍ. بمعنى. سألَه وخَضَع إليه، فهو يقنَعُ قُنُوعًا. ومنه قولُ لبيدٍ
(2)
:
وإعطائي
(3)
المَولَى على حينِ فَقرِه
…
إذا قال أَبصِرْ خَلَّتِي وَقُنُوعِى
(4)
وأما "القانِعُ" الذى هو بمعنى المُكتَفى فإنه من: قنعتُ به
(5)
، بكسر النون، أقنَعُ قَناعةً وقَنَعًا وقَنَعانًا. وأما "المُعتَرُّ" فإنه الذى يَأْتِيك مُعتَرًّا بك لتُعطِيَه وتُطعِمَه.
وقولُه: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} . يقولُ: هكذا سخَّرنا البُدنَ لكم أيُّها الناسُ، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. يقولُ: لتشكُرونى على تَسخيرها لكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ
(1)
تقدم في ص 564 حاشية (4).
(2)
شرح ديوانه ص 71.
(3)
فى النسخ: "وأعطاني"، والمثبت من الديوان.
(4)
في الديوان: "خشوعى"، ورواه أبو عبيدة فى مجاز القرآن 2/ 52 وفيه موضع الشاهد.
(5)
سقط من: م.
الْمُحْسِنِينَ (37)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: لم يَصِلْ إلى اللهِ لحومُ بُدنِكم ولا دماؤُها، ولكن ينالُه اتِّقاؤُكم إياه إن اتَّقَيتُموه فيها، فأردتُم بها وجهَه، وعَمِلتُم فيها بما نَدَبَكم إليه، وأمَرَكم به فى أمرِها، وعظَّمتم بها حُرُماتِه.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ في قول الله:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} . قال: ما أُرِيدَ به وجهُ اللهِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} . قال: إن اتَّقيتَ اللهَ في هذه البُدنِ، وعَمِلتَ فيها لله، وطَلَبتَ ما قال الله تعظيمًا لشعائر الله، ولحرماتِ اللهِ؛ فإنه قال:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} . قال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} . قال: وجَعَلتَه طيِّبًا، فذلك الذي يتقبَّلُ الله، فأما اللحوم والدماءُ، فمِن أينَ تنالُ الله؟
وقولُه: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} . يقولُ: هكذا سخَّر لكم البُدنَ، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. يقولُ: كي تُعظِّموا اللهَ {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، يعنى: على توفيقه إياكم لدينه، وللنُّسُكِ في حَجِّكم.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 363 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال: ابنُ زيدٍ في قوله: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} . قال: على ذَبحها في تلك الأيام
(1)
.
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ: وبشِّرْ يا محمدُ الذين أطاعوا اللهَ فأحسَنوا في طاعَتِهم إياه فى الدنيا بالجنة في الآخرة.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
(2)
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللهَ يَدفَعُ غائلة المشركين عن الذين آمنوا به وبرسوله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} يخونُ الله، فيخالِفُ أمرَه ونهيَه ويَعصيه، ويطيعُ الشيطانَ، {كَفُورٍ}. يقولُ: جَحُودٍ لنِعَمِه عنده، لا يعرفُ لمُنعمِها حقَّه، فيَشكُرَه عليها.
وقيل: إنه عنَى بذلك دَفعَ اللهِ كفار قريشٍ عمن كان بين أظهُرِهم مِن المؤمنين قبلَ هِجرتِهم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أَذِنَ الله للمؤمنين الذين يُقاتلون المشركين في سبيلِه بأن المشركين ظَلَمُوهم بقتالِهم.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 363 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يدفع". وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وهو المستقيم مع تفسير المصنف، والمثبت قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائى، وهو رسم مصاحفنا. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 437.
واختلفت القرأةُ فى قراءة ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينة: {أُذِنَ} . بضَمِّ الألف، {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاءِ
(1)
، بتَرك تَسمية الفاعلِ، في {أُذِنَ} ، و {يُقَاتَلُونَ} جميعًا
(2)
.
وقرأ ذلك بعضُ الكوفيين وعامةُ قرأة البصرةِ: {أُذِنَ} بتَرك تَسمية الفاعلِ، و:(يُقَاتِلُونَ) بكسر التاءِ
(3)
، بمعنى: يُقاتِلُ المأذونُ لهم في القتالِ المشركين.
وقَرأ ذلك عامةُ قرأة الكوفيِّين وبعضُ المكيِّين: (أَذِنَ) بفتح الألف، بمعنى: أذن الله. و: (يُقاتِلُونَ) بكسر التاءِ
(4)
، بمعنى: إن الذين أذن اللهُ لهم بالقتالِ، يُقاتِلون المشركين.
وهذه القراءاتُ الثلاثُ مُتقارباتُ المعانى؛ لأن الذين قرءوا {أُذِنَ} على وجهِ ما لم يُسمَّ فاعلُه، يرجعُ معناه في التأويل إلى معنى قراءةِ مَن قرأه على وَجهِ ما سُمِّى
(5)
فاعلُه، وأن مَن قرَأ (يُقاتِلُونَ)، و {يُقَاتَلُونَ} بالكسر أو الفتح، فقريبٌ معنى أحدِهما من معنى الآخر، وذلك أن من قاتَل إنسانًا، فالذى قاتله له مُقاتِلٌ، وكلُّ واحدٍ منهما مُقاتِلٌ مقاتلٌ
(6)
.
فإذ كان ذلك كذلك، فبأيَّةِ هذه القراءاتِ قرأ القارئُ فمصيبٌ الصواب، غير أن أحبَّ ذلك إلىَّ أن أقرأ به:(أَذِنَ) بفتح الألف، بمعنى: أَذِنَ اللهُ -لقُربِ ذلك من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} - أَذِنَ اللهُ في الذين لا يُحبُّهم
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
وهى قراءة نافع، وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 437.
(3)
هي قراءة أبي عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر. ينظر المصدر السابق.
(4)
وهى قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(5)
في ت 2: "يسمى".
(6)
سقط من م، ت 1، ف.
للذين يُقاتلونهم بقتالهم. فيُرَدُّ (أَذِنَ) على قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} ، وكذلك أحبُّ القراءاتِ إليَّ في:(يُقاتِلُونَ) كسرُ التاء، بمعنى: الذين يُقاتِلون من قد أخبَر اللهُ عنهم أنه لا يُحِبُّهم، فيكونُ الكلامُ مُتَّصِلًا معنى بعضِه ببعضِ.
وقد اختُلف في الذين عُنُوا بالإذن لهم بهذه الآية فى القتالِ؛ فقال بعضُهم: عُنى به نبيُّ اللهِ وأصحابُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} : يعني محمدًا وأصحابَه، إذ أُخرجوا من مكة [إلى المدينة]
(1)
. يقولُ اللهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعَل
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن مسلمٍ البَطينِ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ، قال: لما خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة، قال رجلٌ: أخْرَجوا نبيَّهم. فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}: النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه
(3)
.
حدَّثنا يحيى بنُ داود الواسطىُّ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، عن سفيانَ، عن الأعمش، عن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لمَّا خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 432 عن العوفي، عن ابن عباس، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
أخرجه الترمذى (3172) عن ابن بشار به.
من مكة قال أبو بكرٍ: أخرجوا نبيَّهم، إنا لله وإنا إليه راجِعون، ليَهْلِكُنَّ. قال ابنُ عباسٍ: فأنزل الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} . قال أبو بكرٍ: فعَرَفتُ أنه سيكونُ قتالٌ. وهى أوَّلُ آيَةٍ نَزَلت
(1)
. قال ابنُ داودَ: قال إسحاقُ
(2)
: كانوا يقرَءُون: {أُذِنَ} . [ونحن نقرأُ: (أَذِنَ)]
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا إسحاقُ، عن سفيانَ، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال أبو بكرٍ: قد علمتُ أنه يكونُ قتالٌ. وإلى هذا الموضع انتهى حديثُه ولم يزدْ
(4)
عليه.
حدَّثني محمدُ بنُ خلف العَسْقلانيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا قيسُ بنُ الربيع، عن الأعْمش، عن مسلمٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لمَّا خرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكرٍ: إنا لله وإنا إليه راجعون، أُخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والله لَيَهْلِكُنَّ جميعًا. فلمَّا نزلت:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلى قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} عرَف أبو بكرٍ أنه سيكونُ قتالٌ
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد 3/ 359 (1865)، والترمذى (3171)، والنسائي (3085)، وابن حبان (4710) من طريق إسحاق به، وأخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 39 عن سفيان به مختصرًا، وأخرجه الحاكم 3/ 7، 8، من طريق الأعمش به، وليس عند الترمذي والحاكم قول ابن عباس: هي أول آية نزلت. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 363 إلى ابن ماجه وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
فى النسخ: "ابن إسحاق". وهو إسحاق بن يوسف شيخ يحيى بن داود المتقدم.
(3)
في ص: "أَذَن ونحن نقرأ أُذِن".
(4)
فى ف: "نزد".
(5)
أخرجه الطبراني (12336) من طريق قيس بن الربيع به.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} . قال: أَذن لهم في قتالِهم
(1)
بعد [ما عفا]
(2)
عنهم عشرَ سنين. وقرَأ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} . وقال: هؤلاء المؤمنون
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ فى قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} .
وقال آخرون: بل عُنى بهذه الآية قومٌ بأعْيانِهم كانوا خَرَجوا مِن دارِ الحربِ يريدون الهجرة، فمُنِعوا مِن ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} قال: ناسٌ
(4)
مؤمنون خَرَجوا مُهاجرين من مكة إلى المدينة، فكانوا يُمْنَعون، فأذِن اللهُ للمؤمنين بقتال الكفارِ فقاتَلوهم
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن
(1)
في ت 2: "قتال".
(2)
في ت 2: "اعفاهم".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي حاتم إلى قوله: عشر سنين.
(4)
في ص، م، ت 2، ف:"أناس".
(5)
تفسير مجاهد ص 482، ومن طريقه البيهقى فى دلائل النبوة 2/ 579، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مجاهدٍ في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} . قال: ناسٌ مِن المؤمنين خَرَجوا مُهاجرين مِن مكة إلى المدينة، وكانوا يُمنَعون فأدرَكهم الكفارُ، فأذن للمؤمنين بقتال الكفار فقاتَلوهم. قال ابنُ جريجٍ: يقولُ: أَوَّلُ قتالٍ أذن اللهُ به للمؤمنين.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ
(1)
: في حرفِ ابن مسعودٍ: (أُذِنَ للذينَ يُقاتَلُونَ في سَبيل الله). قال قتادة: وهى أول آيةٍ نزَلَت في القتالِ، فأَذِنَ لهم أن يُقاتِلوا.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادة في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
(2)
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. قال: هي أوّلُ آيَةٍ أُنزلت في القتال، فأَذِن لهم أن يُقاتلوا
(3)
.
وقد كان بعضُهم يزعُمُ أن الله إنما قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} بالقتالِ من أجل أن أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانوا اسْتأذَنوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قَتْلِ الكفار إذ
(4)
آذَوْهم، واشتدُّوا عليهم بمكةَ قبل الهجرة، غَيْلَةٌ سِرًّا، فأنزل الله فى ذلك:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} . فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة، أطلَق لهم قَتْلهم
(5)
وقتالهم، فقال:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} . وهذا قولٌ ذُكِر عن الضحاك بن مُزَاحمٍ مِن وَجْهِ [غيرِ ثَبَتٍ]
(6)
.
(1)
بعده في ت 1: "في قوله".
(2)
في ص: "يقاتلون". وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح التاء. التيسير ص 128.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 39.
(4)
فى م: "إذا".
(5)
سقط من: ت 1، ت 2.
(6)
فى ت 2 "مثبت". وينظر تفسير ابن كثير 5/ 430.
وقولُه: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وإِن اللهَ على نَصْرِ المؤمنين الذين يُقاتَلون في سبيل الله لقادرٌ، وقد نَصَرهم فأعزَّهم ورَفَعَهم، وأهلك عدوَّهم، وأذَلَّهم بأيديهم.
يقولُ تعالى ذكرُه: أُذِنَ للذين يُقاتلون الذين أُخْرِجوا من ديارهم بغير حقٍّ. فـ {الَّذِينَ} الثانيةُ ردٌّ على {الَّذِينَ} الأولى. وعنى بالمُخْرَجِين مِن دُورِهم المؤمنين الذين أخرَجهم كفارُ قريشٍ مِن مكةَ. وكان إخراجُهم إياهم مِن دُورِهم
(1)
تَعْذيبَهم بعضَهم على الإيمان بالله ورسوله، وسَبَّهم بعضَهم بألسنتهم، ووَعيدَهم إياهم، حتى
(2)
اضْطَرُوهم إلى الخروج عنهم، وكان فعلُهم ذلك بهم غير
(3)
حق؛ لأنهم كانوا على باطلٍ، والمؤمنون على الحقِّ، فلذلك قال جلَّ ثناؤُه:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} .
وقولُه: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لم يُخْرَجوا مِن ديارِهم إلا بقولِهم: ربُّنا اللهُ وحدَه لا شريكَ له. فـ {أَنْ} فى موضعِ خفضٍ رَدًّا على الباء في قوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} . وقد يجوزُ أن تكون في موضع نصبٍ على وجه الاستثناء.
(1)
بعده في م: "و".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"حين".
(3)
فى م: "بغير".
وقولُه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ولولا دَفْعُ اللهِ المشركين بالمسلمين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ قوله:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} : دَفْعُ المشركين بالمسلمين.
وقال آخرون: معنى: معنى ذلك: ولولا القتالُ والجهادُ في سبيلِ اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} قال: لولا القتالُ والجهادُ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولولا دفعُ الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدَهم من التابعين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إبراهيم، عن سيفِ بنِ عمرَ
(2)
، عن أبي رَوْقٍ، عن ثابت بن عَوْسَجةَ الحَضْرَمىِّ، قال: ثني سبعةٌ وعشرون من أصحاب علىٍّ وعبد الله، منهم لاحِقُ بنُ الأَقمَرِ، والعَيْزارُ بنُ جَرُولٍ
(3)
، وعطيةُ القُرَظىُّ، أن عليًّا رضي الله عنه قال: إنما أُنزلت هذه الآية فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا دَفْعُ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
فى م: "عمرو".
(3)
في ص، ت 1:"حزول". وينظر الجرح والتعديل 7/ 37.
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}. لولا دفاعُ الله بأصحاب محمدٍ عن التابعين
(1)
{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ}
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لولا أن اللهَ يَدْفَعُ بَمَن أُوجَب قَبول شهادتِه في الحقوقِ تكونُ لبعض الناس على بعضٍ، عمن لا يجوز قبولُ شهادته [وغيره]
(3)
، فأحْيا بذلك
(4)
مال هذا، وتوفَّى بسبب ذلك
(5)
هذا إراقة دمِ هذا، وتَرَكوا المَظالمَ من أجله، لتظالمَ الناسُ فهُدِّمَت صَوامعُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، [قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ]
(3)
، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} . يقولُ: دَفْعُ بعضهم بعضًا في الشهادة و
(6)
فى الحقِّ، وفيما يكونُ من قبَل هذا، يقولُ: لولاهم لأُهْلكتْ هذه الصوامعُ وما ذُكِرَ معها
(7)
.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكرُه أخبرَ أنه لولا دِفاعُه الناسَ بعضَهم ببعضٍ، لهُدِّمَ ما ذُكر مِن دَفْعِه تعالى ذكرُه بعضهم ببعضٍ،
(1)
فى ت 1: "الناس".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
فى ت 1: "بهذا".
(5)
سقط من: م.
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
تفسير مجاهد ص 482، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
و
(1)
كَفِّه المشركين بالمسلمين عن ذلك، ومنه كَفُّه ببعضِهم التَّظالُمَ؛ كالسلطانِ الذى كَفَّ به رعيتَه عن التظالم بينَهم، ومنه كَفُّه لمَن أَجازَ شهادته بينَهم ببعضِهم
(2)
عن الذَّهاب بحقِّ مَن له قِبَلَه حَقٌّ، ونحوُ ذلك، وكلُّ ذلك دَفْعٌ منه الناسَ بعضهم
(3)
عن بعضٍ، و
(4)
لولا ذلك لتَظالَموا، فهَدَّم القاهِرون صوامعَ المَقْهُورين وبيَعَهم، وما سَمَّى جلَّ ثناؤُه. ولم يَضَعِ اللهُ تعالى دَلالةً في عقلٍ على أنه عنَى من ذلك بعضًا دونَ بعض، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبرٌ يجبُ التسليمُ له، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بَيَّنتُه قبلُ؛ لعموم ظاهرِ
(5)
ذلك جميعَ ما ذكَرنا.
وقولُه: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} اختلف أهلُ التأويل في المعنىِّ بالصوامعِ؛ فقال بعضُهم: عنَى بها صَوامعَ الرهبان.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهاب، قال: ثنا داودُ، عن رُفَيْعِ في هذه الآية:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} . قال: صوامعُ الرُّهْبانِ
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
سقط من: ص، ف، ت 1، ت 2.
(2)
في ص، ف، ت 1، ت 2:"بعضهم".
(3)
بعده فى ت 2: "ببعض".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(5)
بعده في ت 2: "التنزيل".
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الحارثُ، [قال: ثنا الحسنُ]
(1)
، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} . قال: صوامعُ الرُّهْبانِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} . قال: صَوامِعُ الرَّهْبانِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} . قال: صَوامِعُ الرَّهْبانِ.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} . وهى صَوامِعُ الصِّغارِ يَبْنونَها
(3)
.
وقال آخرون: بل هى صَوامعُ الصابئين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{صَوَامِعُ} قال: هى للصَّابِئِين.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة مثلَه
(4)
.
واختَلفتِ القرأةُ فى قراءةِ قوله: {لَهُدِّمَتْ} ؛ فقرأ ذلك عامةُ قرأة المدينة:
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
تفسير مجاهد ص 482، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره البغوى فى تفسيره 5/ 389، وابن كثير في تفسيره 5/ 432.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 39، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(لَهُدِمَتْ)
(1)
خفيفةٌ.
وقرأته عامةُ قرأةٍ أهل الكوفة والبصرة: {لَهُدِّمَتْ}
(2)
بالتشديد، بمعنى تَكْرير الهدم فيها مرةً بعدَ مرةٍ.
والتشديدُ في ذلك أعجبُ القراءتين إلىَّ؛ لأن ذلك مِن أفعال أهل الكفر كذلك
(3)
.
وأما قولُه: {وَبِيَعٌ} . فإنه يعنى بها بيعَ النصارى.
وقد اختلف أهلُ التأويل في ذلك؛ فقال بعضُهم مثل الذي قُلنا في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن رُفَيْعٍ:{وَبِيَعٌ} . قال: بِيَعُ النصارى
(4)
.
حدَّثنا ابنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{وَبِيَعٌ} : للنصارى.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبد الرزاق، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادة مثله
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ: البيعُ بِيَعُ النصارى
(6)
.
(1)
هى قراءة ابن كثير ونافع. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 438.
(2)
هي قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
فى م، ت 2:"بذلك".
(4)
تقدم أوله فى ص 580.
(5)
تقدم أوله في الصفحة السابقة.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 432.
وقال آخرون: عَنَى بالبيَعِ فى هذا الموضعِ كنائسَ اليهودِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا [محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا]
(1)
أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(2)
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال
(3)
: {وَبِيَعٌ} . قال: وكَنائسُ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {وَبِيَعٌ} قال: البيَعُ الكَنائسُ.
قولُه: {وَصَلَوَاتٌ} اختلف أهلُ التأويل في معناه؛ فقال بعضُهم: عنَى بالصلواتِ الكنائسَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَصَلَوَاتٌ} . قال: يعنى بالصلوات الكنائسَ
(5)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(2)
بعده فى ت 1، ف:"عبد".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
تقدم أوله في ص 581.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى عبد بن حميد.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ فى قولِه: {وَصَلَوَاتٌ} : كنائسُ اليهود، ويُسمُّون الكنيسة صلُوتَا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{وَصَلَوَاتٌ} : كنائسُ اليهود.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثله
(2)
.
وقال آخرون: عنَى بالصلوات مساجدَ الصابئين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، قال
(3)
: سألتُ أبا العالية عن الصلواتِ، قال: هي مساجدُ الصَّابِئِين
(4)
.
قال: ثنا عبدُ الوهاب، قال: ثنا داودُ، عن رُفَيعٍ نحوَه.
وقال آخرون: هي
(5)
مساجدُ للمسلمين ولأهل الكتاب بالطُّرُق.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 432.
(2)
تقدم أوله في ص 581.
(3)
بعده في ت 2: "سمعت الضحاك يقول".
(4)
تقدم أوله في ص 580.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"في".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، [قال: ثنا الحسنُ]
(1)
، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَصَلَوَاتٌ} . قال: مساجدُ لأهل الكتابِ ولأهلِ الإسلامِ بالطُّرُقِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَصَلَوَاتٌ} . قال: الصلواتُ صلواتُ أهل الإسلام تنقطعُ، إذا دخل العدوُّ عليهم، انقطَعَت العبادةُ، والمساجدُ تُهْدَمُ، كما صَنَع بُخْتُنَصَّرَ
(3)
.
وقولُه: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} اختُلِف في المساجد التي أُريدت بهذا القول؛ فقال بعضُهم: أُريد بذلك مساجدُ المسلمين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهاب، قال: ثنا داودُ، عن رُفَيْعٍ قوله:{وَمَسَاجِدُ} . قال: مساجدُ المسلمين.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، قال: ثنا معمرٌ، عن قتادة قولَه:{وَمَسَاجِدُ [يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} ]
(4)
. قال: المساجدُ مساجدُ
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
تقدم أوله في ص 581.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 364 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ص، ت 2.
المسلمين، يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادةَ نحوَه
(1)
.
وقال آخرون: عنَى بقولِه: {وَمَسَاجِدُ} . الصوامعَ والبيَعَ والصَّلواتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ فى قوله: {وَمَسَاجِدُ} . يقولُ: في كلِّ هذا يذكرُ اسمُ الله كثيرًا، ولم يَخُصَّ المساجدَ
(2)
.
وكان بعضُ أهل العربية من أهل البصرة يقولُ: الصلواتُ لا تُهْدَمُ، ولكن حَمَله على فعلٍ آخَرَ، كأنه قال: وتُرِكت صلواتٌ.
وقال بعضُهم: إنما يعنى مواضعَ الصلوات.
وقال بعضُهم: إنما هى صلواتٌ، وهى كنائسُ اليهود، تُدْعَى بالعبْرانيةِ صَلُوتًا. وأولى هذه الأقوال فى ذلك بالصواب قولُ مَن قال: معنى ذلك: لهُدِّمَت صَوامِعُ الرَّهْبانِ، وبِيَعُ النصارى، وصلواتُ اليهود -وهى كنائسُهم- ومساجدُ المسلمين التي يُذكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا.
وإنما قلنا: هذا القولُ أولى بتأويل ذلك؛ لأن ذلك هو المعروفُ في كلام العرب المُسْتَفِيضُ فيهم، وما خالَفه من القولِ وإن كان له وَجْهُ - فغيرُ مُسْتَعْمَلٍ فيما وَجَّهَه إليه مَن وَجَّهَه إليه.
(1)
تقدم أوله في ص 582.
(2)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 364، 365 إلى ابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وليُعِينَنَّ اللهُ مَن يُقاتِلُ فى سبيله
(1)
لتكونَ كلمتُه العُلْيَا على عدوِّه. فنَصْرُ
(2)
اللهِ عبدَه مَعونتُه إياه، ونَصْرُ العبدِ ربَّه جهادُه فى سبيله لتكون كلمتُه العُلْيا.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللهَ لَقَوِيٌّ على نَصْرِ مَن جاهد في سبيله من أهل
(3)
ولايته وطاعته، عزيزٌ في مُلْكِه. يقولُ: مَنِيعٌ في سلطانه، لا يقهَرُه قاهرٌ، ولا يَغْلِبُه غالبٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أُذن للذين يُقاتلون بأنَّهم ظُلموا، الذين إن مكَّناهم في الأرضِ أقاموا الصلاةَ. و "الذين" ههنا رَدُّ على "الذين يُقاتلون".
ويعنى بقوله: {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} : إِن [وَطَّأنا لهم]
(4)
في البلاد، فقَهَروا المشركين، وغَلَبوهم عليها، وهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقولُ: إن نَصَرْناهم على أعدائهم، وقَهَروا مشركي مكة - أطاعوا الله، فأقاموا الصلاة بحُدُودِها، {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}. يقولُ: وأعْطَوا زكاة أموالِهم مَن جعَلها الله له، {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ}. يقولُ: ودَعَوا الناسَ إلى توحيد الله، والعمل بطاعته وما يعرفه أهلُ الإيمان باللهِ، {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}. يقولُ: وَنَهَوْا عن الشرك باللهِ، والعمل بمعاصِيه، الذى يُنكِرُه أهلُ الحقِّ والإيمان باللهِ، {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
(1)
في ت 2: "سبيل الله".
(2)
في ت 2: "فنصرة".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أجل".
(4)
فى م: "وطنا". وفي ت 2: "وطاناهم".
يقولُ: واللهِ آخِرُ أُمور الخلق. يعنى: أن إليه مصيرَها في الثواب عليها والعقاب في الدارِ الآخرة.
وبنحو الذي قلنا فى تأويل ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسينُ الأشْيبُ، قال: ثنا أبو جعفرٍ عيسى بنُ ماهانَ الذي يقالُ له: الرازىُّ. عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} . قال: كان أمْرُهم بالمعروف أنهم دَعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريكَ له، ونهيُهم عن المنكر أنهم نَهَوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلِّهم فقد أمَر بالمعروف، ومن نهَى عن عبادة الأوثانِ وعبادة الشيطان فقد نهَى عن المنكر
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مسلِّيًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما ينالُه مِن أذَى المشركين باللهِ، وحاضًا له على الصبر على ما يَلحقُه منهم من السبِّ والتَّكذيب: وإن يكذِّبُك يا محمدُ هؤلاء المشركون بالله على ما أتيتهم به مِن الحقِّ والبرهان، وما تعدُهم به من العذاب على كفرهم بالله - فذلك سُنَّةُ إخوانهم من الأمم الحالية المكذِّبة رسل الله، المشركةِ باللهِ، ومنهاجُهم من قبلهم، فلا يَصُدَّنَّك ذلك، فإنَّ العذاب المهينَ مِن
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ورائهم، ونصرى إياكَ وأتباعَك عليهم آتيهم
(1)
مِن وراءِ ذلك، كما أتَى عذابى على أسلافِهم مِن الأمم الذين من قبلهم بعد الإمهال إلى بلوغ الآجال. {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} يعني مُشركي قريشٍ، {قَوْمُ نُوحٍ} وقومُ عادٍ {وَثَمُودُ}
{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} وهم قومُ شُعَيبٍ. يقولُ: كذَّب كلُّ هؤلاء رُسُلُهم، {وَكُذِّبَ مُوسَى}. فقيل:{وَكُذِّبَ مُوسَى} . ولم يَقُلْ: وقومُ موسى؛ لأن قوم موسى بنو إسرائيل، وكانت قد استجابت له ولم تكذِّبه، وإنما كذَّبه فرعونُ وقومُه من القِبْطِ. وقد قيل: إنما قيل ذلك كذلك لأنه وُلِد فيهم، كما وُلد
(2)
في أهلٍ مكةَ.
وقولُه: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} . يقول: فأمْهَلتُ لأهل الكفر بالله من هذه الأمم، فلم أعاجِلْهم بالنِّقْمة والعذاب، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ}. يقولُ: ثم أَحْلَلْتُ بهم العِقابَ بعدَ الإملاء، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. يقولُ: فانظر يا محمدُ كيف كان تغييرى ما كان بهم من نعمةٍ، وتَنكُّرى لهم عما كنتُ عليه من الإحسانِ إليهم، ألم أُبَدِّلْهم بالكثرة قلةً، وبالحياةِ مَوتاً وهَلاكًا، وبالعِمارةِ خَرابًا؟ يقولُ: فكذلك فعلى بمكذِّبيك من قريشٍ، وإن أمليتُ لهم إلى آجالهم، فإنِّي مُنْجِزُك وعْدى فيهم، كما أنجزتُ غيرَك من رسلى وعدى فى أمِمهم، فأهْلكناهم، وأنجيتُهم مِن بين أظهرهم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
(3)
وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}.
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"آتيه".
(2)
أى النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"أهلكتها"، وهى قراءة أبي عمرو وحده، والمثبت هو قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 438.
يقولُ تعالى ذكرُه: وكم يا محمدُ من قريةٍ أهلَكتُ أهلَها وهم ظالمون. يقولُ: وهم يَعبدون غيرَ مَن يَنْبغى أن يُعبدَ، ويَعصُون مَن لا يَنبغى لهم أن يَعصُوه.
وقولُه: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . يقولُ: فبادَ أهلُها، وخلَت وخوَت من سكانها، فخرِبَت وتَداعت، وتساقطتْ {عَلَى عُرُوشِهَا}. يعني: على بِنائِها وسقوفِها.
كما حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعىُّ، قال: ثنا أبو خالدٍ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاك:{فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال: خَواؤُها: خَرابُها، وعُروشُها: سُقوفُها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبد الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{خَاوِيَةٌ} . قال: خَرِبَةٌ ليس فيها أحدٌ.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةً مثلَه
(2)
.
وقولُه: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} . يقولُ تعالى: فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها
(3)
، ومن بئر عطَّلناها بإفناء أهلها، وإهلاكِ وَارِدِيها، فاندفَنت وتعطَّلَت، فلا وَارِدةَ لها ولا شَاربةَ منها، ومن قصرٍ مشيدٍ رفيعٍ بالصخور والجصِّ، قد خلا مِن سُكَّانِه، بما أذَقنا أهلَه من عذابِنا بسوءِ فِعَالِهم، فبَادُوا، وبَقِيَ قصورُهم المشيدةُ خاليةً منهم.
و "البئرُ" و "القصرُ" مخفُوضان بالعطف على "القرية".
وكان بعضُ نحويِّى الكوفة يقولُ
(4)
: هما معطوفان على "العروشِ" بالعطفِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500، 501 (2645، 2647) من طريق أبي خالد به، وينظر ما تقدم في 4/ 585.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 40، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 500 من طريق سعيد، عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أهلكتها".
(4)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 228.
عليها خفضًا، وإن لم تَحسُنْ فيهما "على"؛ لأنَّ
(1)
العروشَ أعالى البيوت، والبئرَ في الأرضِ، وكذلك القصرُ؛ لأن القرية لم تَخوِ على القَصرِ، ولكِنَّه أتبَعَ بعضَه بعضًا، كما قال:(وحورٍ عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون)
(2)
.
فمعنى الكلام على ما قال هذا الذي ذكَرنا قولَه في ذلك: فكَأيِّن من قرية أهلكناها وهي ظالمةٌ، فهى خاويةٌ على عروشِها ولها بئرٌ معطَّلةٌ وقصرٌ مشيدٌ. ولكن لمَّا لم يَكنْ مع "البئر" مرافعٌ ولا عاملٌ فيها، أتبَعها في الإعراب العروشَ، والمعنى ما وصَفتُ.
وبنحو الذي قُلنا في معنى قوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ:{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} . قال: التي قد تُركت. وقال غيرُه: لا أهلَ لها
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبد الأعلى، قال ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} . قال: عطَّلها أهلُها، ترَكُوها.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادة مثله
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ
(1)
في م: "أن".
(2)
الآيتان 22، 23 من سورة الواقعة، والشاهد على قراءة الخفض في (وحور عين). والرفع قراءة، وهما متواترتان، كما سيأتى فى موضعه من التفسير.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى المصنف وابن المنذر، كله من قول ابن عباس.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 40، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الضحاكَ يقولُ فى قوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} . قال: لا أهل لها
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويل فى معنى قوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وقصرٍ مُجَصَّصٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني مطرُ بنُ محمدٍ الضَّبىُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ مهدىٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن هلالِ بن خبَّابٍ، عن عكرمة فى قوله:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: مُجصَّصٍ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن هِلالِ بنِ خَبَّابٍ، عن عكرمة مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ إسماعيل الأحمَسىُّ، قال: ثنى غالبُ بنُ فائدٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن هلال بن خبَّابٍ، عن عكرمة مثلَه.
حدَّثني الحسينُ بنُ محمد العَنقزىُّ، قال: ثني أبي، عن أسباطَ، عن السديِّ، عن عكرمة فى قوله:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: مَجصَّصٍ.
حدَّثني مطرُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا كثيرُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ بُرقان، قال: كنتُ أمشى مع عكرمة، فرأى حائط أجرٌ مُصهرَجٍ، فوضَع يَده عليه، وقال: هذا المَشيدُ الذى قال اللهُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عبَّادُ بنُ العَوَّامِ، عن هلالِ بنِ خبَّابٍ، عن عكرمة:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: المجصَّصُ. قال عكرمةُ: والجصُّ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 12/ 74 بلفظ: متروكة.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 39 عن سفيان به
بالمدينة يُسمى الشِّيدَ.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ، قال: بالقَصَّةِ أو بالفِضَّةِ.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: بالقَصَّةِ. يعنى: بالجصِّ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبَرنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ فى قوله:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: مجصَّصٍ
(2)
.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، عن الثوريِّ، عن هلالِ بنِ خبَّابٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ فى قوله:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: مجصَّصٍ. هكذا هو في كتابي: عن سعيد بن جبيرٍ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقصرٍ رفيعٍ طويلٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . قال: كان أهلُه شيَّدُوه وحصَّنوه، فهَلَكوا وترَكوه.
(1)
تفسير مجاهد ص 482، ومن طريقه عبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 4/ 260.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 39، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى عبد بن حميد.
(3)
وصوابه: عن عكرمة. كما تقدم تخريجه في ص 180.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةً مثله
(1)
. حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . يقولُ: طويلٍ
(2)
.
وأولى القولين فى ذلك بالصواب قولُ مَن قال: عنى بالمَشيدِ المُجصَّصَ. وذلك أن الشِّيد في كلام العرب هو الجصُّ بعينه، ومنه قولُ الراجز
(3)
:
كحَيَّة
(4)
الماء بين الطَّىِّ والشِّيدِ
فالمَشيدُ إنَّما هو مفعولٌ مِن الشَّيدِ. ومنه قولُ امرئ القيس
(5)
:
وتيماء لم يترُك بها جذع نخلةٍ
…
ولا أُطُمًا
(6)
إِلَّا مَشيدًا بجَندَل
يعنى بذلك: إلَّا البناءَ بالشِّيدِ والجَندَل.
وقد يجوزُ أن يكونَ معنيًّا بـ "المشيدِ" المرفوعُ بناؤُه بالشيدِ، فيكونَ الذين قالوا: عنى بالمشيد الطَّويلَ. نحَوْا بذلك
(7)
إلى هذا التأويل. ومنه قولُ عدِىِّ ابن زيدٍ
(8)
:
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 40، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره البغوى في تفسيره 5/ 390.
(3)
هو الشماخ، والبيت في ديوانه ص 121، وهو عجز بيت من البسيط وليس من الرجز، وصدره: لا تحسبنى وإن كنت امرءًا غمرا
(4)
فى م، ت 1:"كحبة"، وفى ت 2:"لحية"، وفى ف:"لحبة"، وغير منقوطة في ص، وقال ابن قتيبة في المعانى الكبير 2/ 667: حية الماء لاسم لها ولا تضر، وينظر الحيوان 4/ 237.
(5)
ديوانه ص 25.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ف، واللسان (أج م):"أجما". والأطم والأجم: البيت الحصين المبنى بالحجارة. ينظر اللسان (أ ج م، أ ط م).
(7)
غير واضح فى ت 1، وفى ت 2:"بين لهم ذلك"، وفى ف:"يبن لهم ذلك"، وغير منقوطة في ص.
(8)
البيت فى مجاز القرآن 2/ 53، وعيون الأخبار لابن قتيبة 3/ 115، واللسان (ش ى د، ك ل س).
شادَه مَرمَرًا وجَلَّلَه كِلسًا
(1)
…
فللطَّير فى ذُرَاه وُكُورُ
(2)
وقد تأوَّله بعضُ أهل العلم بلغات العربِ
(3)
بمعنى المُزيَّن بالشَّيدِ مِن: شِدتُه أَشِيدُه. إذا زَيَّنتَه به. وذلك شَبيةٌ بمعنى من قال: مجصَّصٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} : هؤلاء المكذِّبون بآياتِ اللهِ، والجاحدُون قدرَتَه في البلاد، فينظُروا إلى مصارعِ ضُرَبَائِهِم مِن مُكَذِّبِي رُسلِ اللهِ الذين خَلَوْا مِن قَبلهم، كعادٍ وثمودَ وقوم لوطٍ وشعيبٍ، وأوطانهم ومساكنهم، فيتفكَّروا فيها، ويَعتَبروا بها، ويعلَموا بتدَبُّرِهم أمرَها وأمرَ أهلها، سنةَ اللهِ في مَن كفَر وعبَد غيرَه، وكذَّب رُسُلَه، فيُنيبُوا من عُتُوِّهم وكُفرِهم، ويكون لهم إذا تدبَّروا ذلك واعتبَروا به وأنابوا إلى الحقِّ -قلوبٌ يعقلون بها حُجج الله على خَلقِه وقدرته على ما شاء
(4)
، {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}. يقولُ: أو آذانٌ تُصغِى لسماع الحقِّ فتَعِى ذلك، وتَميزُ بينَه وبين الباطلِ.
وقولُه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} . يقولُ: فإنها لا تَعمَى أبصارُهم أن يُبصروا بها الأشخاصَ ويَرَوْها، بل يُبصِرون ذلك بأبصَارِهم، ولكن تَعمَى قلوبُهم التي في صدورِهم عن إبصارِ الحقِّ ومعرفتِه.
(1)
الكلس: ما طلى به حائط أو باطن قصر شبه الجص من غير آجُر. اللسان (ك ل س)
(2)
الوكور جمع الوكْر: عش الطائر. اللسان (و ك ر)
(3)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 53
(4)
فى م، ت 1، ت 2، ف:"بينا".
والهاءُ في قوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} هاءُ عمادٍ
(1)
، كقول القائل: إنَّه عبد الله قائمٌ. وقد ذُكر أن ذلك فى قراءة عبدِ اللهِ: (فإنَّه لا تَعْمَى الأبصارُ)
(2)
.
وقيل: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . والقلوبُ لا تكونُ إِلَّا في الصدور؛ توكيدًا للكلام. كما قيل: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167].
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويَسْتَعْجِلُك
(3)
يا محمدُ مُشركو قومِك بما تَعِدُهم من عذاب الله على شِركِهم به، وتكذيبهم إيَّاك فيما أتَيتَهم به من عندِ اللهِ في الدُّنيا، ولن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَه الذى وعدك فيهم؛ من إحلال عذابه ونقمَتِه بهم في عاجلِ الدُّنيا. ففعَل ذلك، ووفَّى لهم بما وعَدهم، فقَتَلهم يومَ بدرٍ.
واختلف أهلُ التأويل فى اليوم الذى قال جلَّ ثناؤه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . أىُّ يوم هو؟ فقال بعضُهم: هو من الأيام التي خلق الله فيها السماواتِ والأرضَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
(1)
يقصد بالعماد هنا ضمير الشأن. ينظر مصطلحات النحو الكوفى ص 47. وينظر ما سيأتي في 18/ 13، 14.
(2)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 228.
(3)
في م، ت 1، ف:"يستعجلونك".
قال: من الأيام التي خلق الله فيها السماواتِ والأرضَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} الآية. قال: هي مِثلُ قوله في {الم (1) تَنْزِيلٌ} [السجدة: 1، 2] سواءٌ هو هو، الآية
(2)
.
وقال آخرون: بل هو من أيام الآخرة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا حَكامٌ، عن عَنبسةَ، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: مقدارُ الحساب يومَ القيامةِ ألفُ سنةٍ
(3)
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلية، قال: ثنا سعيدٌ الجُريرِيُّ، عن أبي نَضرَةَ، عن سُمَيْرِ
(4)
بنِ نهارٍ، قال: قال أبو هريرةَ: يدخُلُ فقراءُ المسلمين الجنةَ قبل الأغنياءِ بنصف يوم. قلتُ: وما نصفُ يومٍ؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلتُ: بلى. قال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
(5)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 437 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير- من طريق عبد الرحمن به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر ما سيأتي في 18/ 593.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 25، 26.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 59.
(4)
ويقال فيه: شتير. ينظر تهذيب الكمال 12/ 378.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 437 عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى ابن مردويه. وأخرجه أحمد 16/ 425 (10730) من طريق شعبة عن الجريري به -وعنده شتير- مرفوعًا، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 366 إلى أحمد في الزهد.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنى عبدُ الرحمن، قال: ثنا أبو عَوانة، عن أبي بشرٍ، عن مجاهدٍ {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ}. قال: من أيام الآخرة.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفر، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، عن عكرمة أنَّه قال فى هذه الآية:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: هذه أيامُ الآخرة. وفى قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]. قال: يومُ القيامة. وقرأ: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا}
(1)
[المعارج: 6، 7].
وقد اختُلف في وجهِ صرفِ الكلام من الخبر عن استعجال الذين استَعجَلوا العذابَ إلى الخبر عن طولِ
(2)
اليوم عندَ اللهِ؛ فقال بعضُهم: إن القومَ استَعجَلوا العذابَ فى الدُّنيا، فأنزل الله:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فى أَن يُنزِلَ ما وعَدَهم من العذاب فى الدنيا. {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} من عذابهم في الدنيا والآخرة، {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فى الدُّنيا.
وقال آخرون: قيل ذلك كذلك إعلامًا من الله مُستَعجليه العذابَ أَنَّه لا يَعْجَلُ، ولكنَّه يُمهلُ إلى أجلِ أجَّلَه، وأن البَطئ عندهم قريبٌ عنده، فقال لهم: مقدارُ اليوم عندى ألفُ سنةٍ مما تَعُدُّونه أنتم أيُّها القومُ من أيامكم، وهو عندَكم بطئٌ، وهو عندِى قريبٌ.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يومًا من الثِّقلِ وما يُخافُ كألف سنةٍ.
والقولُ الثاني عندى أشبَهُ بالحقِّ في ذلك؛ وذلك أن اللهُ تعالى ذِكرُه أخبرَ عن
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 365 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"تحول"، وفي ت 2:"نحول".
استعجال المُشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب، ثم أخبَر عن مَبلَغ قدرِ اليومِ عندَه، ثم أتبَع ذلك قوله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} فأخبرَ عن إملائِه أهلَ القريةِ الظالمةِ، وتَركِه معاجَلَتَهم بالعذابِ، فبيَّن بذلك أنَّه عنَى بقولِه:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . نَفى العجلةِ عن نفسِه، ووَصفَها بالأناةِ والانتِظارِ.
وإذا كان ذلك كذلك، كان تأويلُ الكلام: وإن يومًا من الأيام التى عندَ اللهِ يومَ القيامة، يومٌ واحدٌ كألف سنةٍ من عَددِكم، وليس ذلك عندَه ببعيدٍ، وهو عندَكم بعيدٌ، فلذلك لا يَعجَلُ بعقوبة من أراد عقوبته حتى يبلُغَ غاية مدَّتِه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} . يقولُ: أمهَلتُهم، وأخَّرتُ عذابَهم، وهم بالله مُشركون، ولأمرِه مُخالفون، وذلك كان ظُلمهم الذى وصفهم الله به جلَّ ثناؤه، فلم أعْجَلْ بعذابهم، {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} ، يقولُ: ثم أخَذتُها بالعذاب، فعَذَّبتُها في الدُّنيا بإحلال عُقوبتنا بهم، {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}. يقولُ: وإلىَّ مصيرُهم أيضًا بعدَ هلاكِهم، فيَلقَون من العذابِ حينئذٍ ما لا انقطاع له. يقولُ تعالى ذكرُه: فكذلك حالُ مُستَعجليكَ بالعذابِ مِن مُشرِكي قومك، وإن أمليتُ لهم إلى آجالهم التى أجَّلتُها لهم، فإني آخِذُهم بالعذاب فقاتلُهم بالسيف، ثم إلىَّ مصيرُهم بعد ذلك فموجعُهم إذن عقوبةً على ما قدَّموا من آثامهم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لمُشركي قومك الذين يُجادِلُونكَ في الله بغير علمٍ، اتِّباعًا منهم لكلِّ شيطانٍ مَريدٍ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أُنذِرُكم عقابَ اللهِ أن ينزِلَ بكم في الدُّنيا، وعذابَه في الآخرة أن تُصلَوْه، {مُبِينٌ}. يقولُ: أُبيِّنُ لكم إنذَارى ذلك وأُظهرُه، لِتُنِيبُوا مِن شِرككم، وتَحذَروا ما أنذرُكم من ذلك، لا أملِكُ لكم غير ذلك، فأما تعجيلُ العقابِ وتأخيرُه الذي تَستَعجِلُونني به، فإلى الله، ليس ذلك إلىَّ، ولا أقدرُ عليه. ثم وصَف نِذَارتَه وبشَارتَه، ولم يَجر للبشارة ذكْرٌ، ولما ذُكِرتِ النِّذارةُ على عملٍ عُلم أنَّ البشارة على خلافه
(1)
، فقال: والذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحاتِ مِنكم أيُّها الناسُ ومِن غيركم، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}. يقولُ: لهم من الله سَترُ ذنوبهم التي سلَفت منهم في الدُّنيا عليهم في الآخرة، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. يقولُ: ورزقٌ حسنٌ في الجنَّةِ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . قال: الجنَّةُ.
وقولُه: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} . يقولُ: والذين عملوا في حُجَجنا فصَدُّوا عن اتِّباع رسولنا، والإقرار بكتابنا الذي أنزلناه.
وقال: {فِي آيَاتِنَا} . فأدخلت فيه "في"، كما يُقالُ: سعَى فلانٌ في أمرٍ فلانٍ.
واختلَف أهلُ التأويل في تأويل قوله: {مُعَاجِزِينَ} ، فقال بعضُهم: معناه: مُشاقِّين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن عثمانَ بنِ
(1)
في ت 2: "بخلاف ذلك".
عطاءٍ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ أنه قرَأَها:{مُعَاجِزِينَ} في كلِّ القرآنِ، يعني بأَلفٍ، وقال: مُشاقِّينَ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنَّهم ظنّوا أنَّهم يُعجِزُون الله فلا يقدِرُ عليهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} . قال: كذَّبوا بآياتِ اللهِ، وظنُّوا أنَّهم يُعجزُون الله، ولن يُعجزوه.
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبدُ الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثلَه
(2)
.
وهذان الوجهانِ من التأويل فى ذلك على قراءةِ مَن قرأه: {مُعَاجِزِينَ} بالأَلف، وهى قراءة عامَّةِ قرأة المدينة والكوفة
(3)
. وأما بعضُ قرأة أهل مكةَ والبصرة، فإنَّه قرأَه:(مُعَجِّزين). بتشديد الجيم بغيرِ ألفٍ
(4)
، بمعنى أنَّهم عَجَّزوا الناسَ وثَبَّطوهم عن اتباعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمانِ بالقرآنِ.
ذكرُ مَن قال ذلك كذلك من قراءتِه
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:(معجِّزين)
(5)
. قال: مُبطِّئين يُبطِّئون الناس عن اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 366 إلى المصنف.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 40، 126، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 366 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
وهى قراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 439.
(4)
وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو. المصدر السابق.
(5)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"معاجزين".
(6)
تفسير مجاهد ص 483، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 366 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
والصوابُ من القول فى ذلك أن يُقالَ: إنّهما قراءتان مشهورَتان، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرَأَةِ، مُتقاربتا المعنى، وذلك أن من عَجَّز عن آياتِ اللهِ، فقد عاجَز الله ومن مُعاجزةِ اللهِ التعجيرُ عن آيات الله، والعملُ بمعاصيه وخلافُ أمرِه، وكان من صفة القومِ الذين أنزل الله هذه الآياتِ فيهم أنهم كانوا يُبطِّئون الناس عن الإيمان بالله واتباع رسولِه، ويُغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَحسَبون أنهم يُعجِّزونه ويَغلبونه، وقد ضَمِن الله له نصرَه عليهم، فكان ذلك معاجزتَهم الله. فإذ كان ذلك كذلك، فبأىِّ القراءتين قرأ القارئ فمُصيبٌ الصواب في ذلك.
وأما المُعاجَزَةُ، فإنها المفاعَلةُ من العجز، ومعناه مغالبةُ اثنين أحدهما صاحبه، أيُّهما يُعجِرُه فيَغلبُه الآخرُ ويَقهرُه.
وأمّا التَّعجيرُ، فإنه التَّضعيفُ، وهو التَّفعيلُ من العَجزِ.
وقولُه: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . يقولُ: هؤلاء الذين هذه صفتُهم هم سكانُ جهنمَ يومَ القيامةِ، وأهلُها الذين هم أهلُها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
قيل: إِنَّ السببَ الذى من أجله أُنزِلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان
(1)
أنَّ الشيطان كان ألقَى على لسانه فى بعض ما يَتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن، ما لم
(1)
سقط من: م.
يُنزله اللهُ عليه، فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واغتمَّ به، فسلّاه مما به من ذلك بهذه الآيات.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدَّثني حجاج، عن ابن جُريج، عن أبي مَعشرٍ، عن محمدِ بنِ كعب القرظى ومحمد بن قيس، قالا: جلَس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله، فتمنَّى يومئذٍ ألا يأتيه من الله شيءٌ فينفروا الله عنه، فأنزل الله عليه:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فقرَأها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 1 - 20] ألقى عليه الشيطانُ كلمتين: تلك الغرانيق
(1)
العُلى، وإن شفاعتهن لتُرتجى
(2)
. فتكلَّم بها، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعًا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدِرُ على السجودِ، فرضُوا بما تكلَّم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يُحيى ويُميتُ، وهو الذي يَخلُقُ ويَرْزُقُ، ولكنَّ آلهتنا هذه تشفع لنا عندَه، إذ جعَلتَ لها نصيبًا، فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبريلُ عليه السلام، فعرض عليه السورةً، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "افتريت على اللهِ، وقلتُ على اللهِ ما لم يَقُلْ". فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا
(1)
في ص، م، ت 1، ف:"الغرائقة". والغرانيق ههنا الأصنام، وهى في الأصل الذكور من طير الماء، واحدها غُرْنوق وغُرْنَيق، سمى به لبياضه. وقيل: هو الكركى. والغرنوق أيضًا الشاب الناعم الأبيض، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع. النهاية 3/ 364.
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"لترجي".
نصيرًا} [الإسراء: 73 - 75]. فما زال مَعْمُومًا مهمومًا حتى نزلت
(1)
: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . قال: فسمِع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنَّ أهلَ مكة قد أسلَموا كلُّهم، فرجَعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبُّ إلينا. فوجَدوا القومَ قد ارتكَسوا حينَ نسَخ اللهُ ما ألقَى الشيطانُ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدنيِّ، عن محمد بن كعب القرظيِّ، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولِّى قومه عنه، وشقَّ عليه ما يرى مِن مُباعَدتِهم ما جاءهم به مِن عندِ اللهِ، تمنَّى فى نفسه أن يأتيه مِن اللهِ ما يقارِبُ به بينه وبين قومه، وكان يسرُّه مع حبِّه وحِرصِه عليهم أن يلينَ له بعضُ ما غلظ عليه من أمرهم حين حدَّث بذلك نفسَه، وتمنَّى وأحبَّه، فأنزَل الله:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . فلما انتهى إلى قولِ اللهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} أَلقَى الشيطان على لسانه لما كان يُحدِّث به نفسه ويتمنَّى أن يأتى به قومَه: تلك الغرانيقُ العُلى، وإنَّ شفاعتهن تُرتضى. فلما سمعت قريشٌ ذلك فرحوا وسرَّهم، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخُوا
(3)
له، والمؤمنون مصدِّقون نبيَّهم فيما جاءهم به عن ربِّهم، ولا يتَّهمونه على خطأ ولا وَهمٍ ولا زَللٍ، فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجودِ نبيِّهم تصديقًا لما جاء به، واتِّباعًا لأمره، وسجد مَن في المسجدِ من المشركين من قريشٍ وغيرهم لما سمعوا من ذكرِ آلهتهم، فلم يبق في المسجدِ مؤمنٌ
(1)
بعده في م: "عليه".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 367 إلى المصنف وسعيد بن منصور.
(3)
أصاخوا له: استمعوا وأنصتوا لصوته. التاج (ص ى خ).
ولا كافرٌ إلا سجَد، إلا الوليدُ بنُ المغيرةِ، فإنه كان شيخًا كبيرًا فلم يستطع، فأخذ بيده حَفنةٌ مِن البطحاءِ، فسجَد عليها، ثم تفرَّق الناسُ مِن المسجد، وخرَجت قريشٌ وقد سرَّهم ما سمِعوا مِن ذكرِ آلهتِهم، يقولون: قد ذكَر محمدٌ آلهتَنا بأحسنِ الذِّكر، وزعم فيما يتلو أنها الغرانيقُ العُلى، وأن شفاعتهنَّ تُرتَضى. وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أسلمت قريشٌ، فنَهضت منهم رجالٌ، وتخلف آخرون، وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، ماذا صنَعْتَ؟ لقد تَلَوْتَ على الناس ما لم آتِك به عن اللهِ، وقلت ما لم يُقَل لك. فحَزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وخاف من الله خوفًا كثيرًا
(1)
، فأنزل الله تعالى عليه -وكان به رحيمًا- يُعزِّيه ويُخفِّضُ عليه الأمر، ويُخبرُه أنه لم يكن قبله رسولٌ ولا نبىٌّ تمنَّى كما تمنَّى، ولا أحبَّ كما أحبَّ، إلا والشيطان قد ألقى في أُمنيَّتِه كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقَى الشيطانُ، وأحكم آياته. أى: فأنتَ كبعض الأنبياءِ والرُّسُلِ. فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية. فأذهب اللهُ عن نبيِّه الحزن، وأمَّنَه مِن الذي كان يخافُ، ونسخ ما أَلقَى الشيطانُ على لسانه من ذكرِ آلهتهم أنها الغرانيقُ العُلى، وأن شفاعتهن تُرتضى. يقولُ اللهُ حينَ ذكَر اللاتَ والعُزَّى ومناةَ الثالثة الأُخرى، إلى قوله:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. أى فكيف تنفعُ شفاعةُ آلهتِكم عنده؟! فلما جاءه من اللهِ ما نسخ ما كان الشيطانُ ألقَى على لسان نبيِّه، قالت قريشٌ: ندِم محمدٌ على ما كان من منزلة آلهتكم عندَ اللهِ، فغيَّر ذلك وجاء بغيرِه. وكان ذانِك
(2)
الحَرفان اللذان ألقَى الشيطانُ على لسانِ رسولِه قد وقَعا فى فَمِ كلُّ مُشركٍ، فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا
(1)
فى م: "كبيرا"، وفي ت 2:"شديدا".
(2)
في م: "ذلك".
عليه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعتُ داود، عن أبي العاليةِ، قال: قالت قريشٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما جلساؤك عبد بنى فلانٍ ومَولى بنى فلانٍ، فلو ذكرت آلهتنا بشيءٍ جالَسناك، فإنه يأتيك أشرافُ العربِ، فإذا رأَوْا جُلساءَك أشرافَ قومِك، كان أرغَبَ لهم فيك. قال: فألقى الشيطانُ في أُمنيته، فنزَلت هذه الآيةُ:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . قال: فأجرى الشيطانُ على لسانِه: تلك الغرانيقُ العلى، وشفاعتهن تُرتجي، مثلُهن لا يُنسى. قال: فسجد النبىُّ صلى الله عليه وسلم حين قرَأها، وسجَد معه المسلمون والمشركون، فلما عَلِم الذى أُجرِى على لسانِه، كبُرَ ذلك عليه، فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا أبو الوليدِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن داودَ بن أبي هندٍ، عن أبي العاليةِ، قال: قالت قريشٌ: يا محمدُ، إنما يجالِسُك الفقراءُ والمساكينُ وضُعفاءُ الناسِ، فلو ذكرت آلهتنا بخيرٍ لجالَسناك، فإِنَّ الناسَ يأتونك مِن الآفاقِ. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "النَّجم"، فلما أتَى
(3)
على هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . فألقى الشيطانُ على لسانِه: وهى الغرانِقةُ العُلى، وشفاعتهنَّ تُرتَجى. فلما فرَغ منها سجَد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون والمشركون، إلا أبا أُحيحةً سعيدَ بنَ العاصِ، أخذ كفًّا من ترابٍ وسجَد عليه،
(1)
ذكره البغوى فى تفسيره 5/ 393 عن ابن عباس ومحمد بن كعب به.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 367 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "انتهي"، وفى ت 1:"وأتى".
وقال: قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخيرٍ. حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشًا قد أسلمت، فاشتد على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطانُ على لسانِه، فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} . إلى آخرِ الآية
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} . قرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تلك الغرانيقُ العُلى، وإن شفاعتهنَّ لتُرتجى". فسجَد رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: إنه لم يَذكُرْ آلهتَكم قبل اليوم بخير. فسجد المشركون معه، فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنى عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشرٌ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: لما نزلت: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} . ثم ذكَر نحوَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . إلى قولِه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وذلك أن نبيَّ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 367، 368 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 439 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره -كما في تفسير ابن كثير- من طريق شعبة به، وأخرجه الواحدى فى أسباب النزول ص 233 من طريق عثمان بن الأسود، عن سعيد، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 366 إلى ابن مردويه وابن المنذر، وجاء موصولا من طريق سعيد، عن ابن عباس، عزاه السيوطى فى الدر المنثور إلى البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة، وينظر تخريج الكشاف 2/ 391 وما بعدها.
الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يُصلِّى، إذ نزلت عليه قصةُ آلهة العربِ، فجعَل يتلوها، فسمِعه المشركون، فقالوا: إنا نسمعُه يذكُرُ آلهتنا بخيرٍ. فدنوا منه فبينما، هو يتلُوها وهو يقولُ:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} أَلقَى الشيطانُ: إِنَّ تلكَ الغرانيقُ العُلى، منها الشفاعةُ تُرتجى. فعَلِق
(1)
يتلوها، فنزل جبريلُ عليه السلام، فنسخها، ثم قال له:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
(2)
.
حدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقول فى قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية: إن نبىَّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعَل يَتْلُو اللات والعزَّى، ويُكثِرُ تَرديدها، فسمع أهلُ مكة نبيَّ الله يذكُرُ آلهتهم، ففرِحُوا بذلك ودَنَوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيقُ العُلى، منها الشفاعةُ تُرتجي. فقرأها النبىُّ صلى الله عليه وسلم كذلك، فأنزَل اللهُ
(3)
: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} إلى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنى يونسُ، عن ابن شهابٍ أنه سألَه
(5)
عن قولِه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية. قال ابنُ شهابٍ: ثنى أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرَأ
(1)
في م: "فجعل"، وفى ف:"فغلق" وعلِق فلان يفعل كذا ظل كقولك طفِق يفعل كذا. اللسان (ع ل ق).
(2)
أخرجه ابن مردويه -كما في تخريج الكشاف 2/ 394 - من طريق محمد بن سعد به.
(3)
بعده في م، ف:"عليه".
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 367 إلى المصنف.
(5)
في م: "سئل".
عليهم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} . فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . قال: "إن شَفاعتهن تُرتجى". وسَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقِيه المشركون الذين في قلوبهم مرضٌ، فسلَّموا عليه، وفَرِحوا بذلك، فقال لهم:"إنَّما ذلك من الشيطانِ". فأنزَل اللهُ عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} حتى بلغ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}
(1)
.
فتأويلُ الكلامِ: ولم نُرْسِلْ يا محمد من قبلك من رسول إلى أمةٍ من الأممِ، ولا نبىٍّ مُحدَّثٍ ليس بمُرسلٍ، إلا إذا تمنَّى.
واختلف أهل التأويل فى معنى قوله: {تَمَنَّى} فى هذا الموضِعِ، وقد ذَكرتُ قولَ جماعةٍ ممَّن قال: ذلك التَّمَنِّى من النبىِّ صلى الله عليه وسلم ما حَدَّثَته نفسُه من محبتِه مقاربةَ قومِه [في ذكر]
(2)
آلهتهم ببعضِ ما يُحِبُّون، ومَن قال: ذلك محبةٌ منه في بعضِ الأحوال ألَّا تُذكَّرَ بسوءٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدَّث.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . يقولُ: إذا حدَّث أَلقَى الشيطانُ في
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 367 إلى المصنف وعبد بن حميد. وقال ابن كثير في تفسيره 5/ 438: قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق
…
ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها من وجه صحيح. وقال الشوكاني في فتح القدير 3/ 462: ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه، فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]. وينظر في إبطال هذه القصة: الشفا للقاضي عياض 2/ 741، وأضواء البيان 5/ 728 وما بعدها.
(2)
في ت 2: "فذكر".
حديثِه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي يسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا وَرقاءُ، جميعًا عن ابنِ نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِذَا تَمَنَّى} . قال: إذا قال
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حُدِّثت عن الحسينِ بنِ الفرجِ، قال سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} : يعنى بالتمنِّى التلاوةَ والقراءةَ
(3)
.
وهذا القولُ أشبه بتأويل الكلام بدَلالةِ قولِه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . على ذلك؛ لأن الآياتِ التي أخبَر اللهُ جل ثناؤه أنه يُحكمُها، لا شكَّ أنها آيات تنزيلِه، فمعلومٌ بذلك
(4)
أنَّ الذي ألقَى فيه الشيطانُ هو ما أخبر الله تعالى ذكرُه أنه نسَخ ذلك منه وأبطلَه، ثم أحكَمه بنسخِه ذلك منه.
فتأويلُ الكلامِ إذن: وما أرسَلنا من قبلك من رسول ولا نبىٍّ إلا إذا تَلا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في تغليق التعليق 4/ 260 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 368 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 483، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 368 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. وبعده في ص، ف:"حدثني الحارث قال حدثنا الحسن قال حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 368 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: م.
كتاب الله وقرأ، أو حدَّث، وتكلَّم، ألقى الشيطانُ في كتاب الله الذي تَلاه وقرأه، أو في حديثِه الذى حدَّث وتكلَّم، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}. يقول تعالى: فيُذهبُ اللهُ ما يُلقى الشيطانُ مِن ذلك على لسان نبيِّه ويُبطله.
كما حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} : فيُبْطِلُ اللهُ ما أَلقَى الشيطانُ.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} : نسَخ جبريلُ بأمرِ اللهِ ما ألقى الشيطانُ على لسانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأحكم اللهُ آياتِه.
وقوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . يقولُ: ثم يُخلِّصُ الله آيات كتابه من الباطل الذى
(1)
أَلقَى
(2)
الشيطانُ على لسان نبيِّه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يحدُث في خَلقِه من حدثٍ، لا يَخفَى عليه منه شيءٌ، {حَكِيمٌ} في تدبيره إياهم، وصرفِه لهم فيما شاء وأحبَّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقى الشيطانُ ثم يُحْكِمُ الله آياته؛ كي يجعل ما يُلقى الشيطانُ في أُمنيَّة نبيِّه من الباطل - كقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "تلك الغَرانيقُ العُلى، وإن شفاعتهنَّ لتُرتجي"- {فِتْنَةٌ} . يقول: اختبارًا يختبر به الذين في قلوبِهم مرضٌ من النفاقِ، وذلك الشكُّ فى صدقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحقيقةِ ما
(1)
في ص، ت 2، ف:"التي".
(2)
في ص: "يلقى".
يُخبرهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن قتادة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتمنَّى ألا يعيب الله آلهة المشركين، فألقى الشيطان في أمنيته، فقال:"إنَّ الآلهة التي تُدعَى، إن شفاعتها لتُرتجَى، وإنها للغَرانيقُ العُلى". فنسَخ اللهُ ذلك، وأحكَم آياتِه:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} حتى بلغ: {مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 19 - 23]. قال قتادةُ: لما أَلقَى الشيطانُ ما أَلقَى، قال المشركون: قد ذكر الله آلِهتَكم
(1)
بخيرٍ. ففَرِحُوا بذلك، فذلك
(2)
قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} .
حدَّثنا الحسنُ، قال أخبرَنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة بنحوِه
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريج في قولِه:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . [قال: المنافقون
(4)
.
وقوله: {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} ]
(5)
. يقولُ: وللذين قسَت قلوبُهم عن الإيمانِ باللهِ، فلا تلينُ ولا تَرعوى، وهم المشركون باللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
فى م: "آلهتهم".
(2)
في النسخ: "فذكر". والمثبت من تفسير عبد الرزاق.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 40.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 368 إلى ابن المنذر.
(5)
سقط من النسخ، وأثبتناه كنهج المصنف وليستقيم السياق.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ:{وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} . قال: المشركون
(1)
.
وقولُه: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإنَّ مشركي قومِك يا محمدُ لفى خلافٍ لله في أمرِه بعيدٍ من الحقِّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وكى يعلم أهل العلم بالله أن الذى أنزله الله من آياته التي أحكمها لرسوله، ونسخ ما أَلقَى الشيطانُ فيه، أنه الحقُّ مِن عندِ ربِّك يا محمُد، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ}. يقولُ: فيصدِّقوا به، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}. يقولُ: فتخضع للقرآن قلوبُهم، وتُذعن بالتصديق به والإقرارِ بما فيه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وإن الله لمرشدُ الذين آمنوا بالله ورسولِه إلى الحقِّ القاصدِ، والحقِّ الواضِحِ، بنسخِ ما ألقَى الشيطانُ في أُمنيةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فلا يَضُرُّهم كيدُ الشيطانِ، وإلقاؤُه الباطلَ على لسانِ نبيِّهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ: {وَلِيَعْلَمَ
(1)
تقدم أوله في الصفحة السابقة.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. قال: يعنى القرآن
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولا يزالُ الذين كفَروا باللهِ فى شكٍّ.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ فى الهاءِ التى فى قولِه {مِنْهُ} مِن ذكرِ ما هي؛ فقال بعضُهم: هي من ذكرِ قولِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم: "تلك الغرانيقُ العلى، وإن شفاعتهن لتُرتجي"
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٌ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} من قوله: "تلك الغرانيقُ العلى، وإن شفاعتَهن تُرتجي".
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} . قال: مما جاء
(2)
به إبليسُ، لا يخرُجُ من قلوبِهم، زادهم ضلالةً
(3)
.
وقال آخرون: بل هي من ذكرِ سجودِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في "النجمِ".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابُن المثنى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا أبو بشرٍ، عن
(1)
تقدم تخريجه في ص 612.
(2)
فى ص: "جاءك".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 368 إلى ابن أبي حاتم.
سعيدِ بن جُبيرٍ: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} . قال: في مريةٍ من سجودِك.
وقال آخرون: بل هي من ذكرِ القرآن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريج:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} . قال: من القرآن
(1)
.
وأولى هذه الأقوال فى ذلك بالصواب قولُ من قال: هي كنايةٌ من ذكرِ القرآنِ الذى أحكم الله آياته. وذلك أن ذلك من ذكر قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أقرب منه من ذكر قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} . والهاءُ من قوله: {أَنَّهُ} من ذكرِ القرآنِ، فإلحاق الهاءِ فى قولِه:{فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} بالهاء من قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أولى من إلحاقها بـ {مَا} التى فى قوله: {مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} مع بُعدِ ما بينهما.
وقوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ}
(2)
. يقول: لا يزال
(3)
هؤلاء الكفارُ في شكٍّ من أمرِ هذا القرآن إلى أن تأتيَهم الساعةُ بغتةً، وهى ساعةُ حشرِ الناسِ لموقفِ الحسابِ، {بَغْتَةً}. يقولُ: فجأةً، {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} .
واختلَف أهل التأويلِ فى هذا اليومِ أىُّ يومٍ هو؛ فقال بعضُهم: هو يومُ القيامِة.
(1)
تقدم تخريجه في ص 612.
(2)
بعده فى ص، ت 1، ف:"بغتة".
(3)
في ف: "تزال".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: ثنا شيخٌ من أهلِ خراسانَ من الأزدِ يُكنى أبا ساسانَ، قال: سألتُ الضحاكَ عن قولِه: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال: عذابُ يومٍ لا ليلةَ له
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابرٍ، عن عكرمة، أن يومَ القيامةِ لا ليلةً له
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنى به يومُ بدرٍ. وقالوا: إنما قيل له: {يَوْمٍ عَقِيمٍ} ؛ أنهم لم يُنظَروا إلى الليل، فكان لهم عقيمًا.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، قال:{عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . يوم بدرٍ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ:{أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال ابنُ جُريج: يومٌ ليس فيه ليلةٌ، لم يُناظروا إلى الليلِ
(4)
.
(1)
فى م، ت 2:"بعده". والأثر أخرجه ابن عدى فى الكامل 7/ 2748 من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 368 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره البغوى فى تفسيره 5/ 396، وابن كثير في تفسيره 5/ 443.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 442.
(4)
ذكره البغوى في تفسيره 5/ 396.
قال مجاهدٌ: عذابُ يومٍ عقيمٍ
(1)
.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، قال: قال مجاهدٌ: يومُ بدرٍ
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو إدريسَ، قال: أخبرنا الأعمشُ، عن رجلٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ في قولِه:{عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال: يومُ بدرٍ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ قولَه:{عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال: هو يوم بدرٍ. ذكَره عن [أبي بن]
(4)
كعبِ.
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبرَنا معمرٌ، عن قتادةَ فى قولِه:{عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال: هو يومُ بدرٍ. عن أبيِّ بنِ كعبٍ
(5)
.
وهذا القولُ الثانى أولى بتأويلِ الآيةِ؛ لأنه لاوجهَ لأن
(6)
يُقالَ: لا يزالون في مريةٍ منه حتى تأتيَهم الساعةُ بغتةً، أو تأتيهم الساعةُ؛ وذلك أَن الساعةَ هي يومُ القيامِة. فإن كان اليومُ العقيمُ أيضًا هو يومَ القيامةِ، فإنما معناه ما قلنا من تكريرِ ذكرِ الساعةِ مرتين باختلافِ الألفاظِ، وذلك ما لا معنى له. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين به أصحُّهما معنًى وأشبهُهما بالمعروفِ في الخطابِ، وهو ما ذكَرنا من
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"عظيم".
(2)
ينظر تفسير القرطبي 12/ 87.
(3)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 368 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
فى ت 2: "بن أبي".
(5)
تفسير عبد الرزاق 2/ 41، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 368 إلى ابن مردويه.
(6)
بعده في ت 2: "لا".
معناه.
فتأويل الكلام إذن: ولا يزالُ الذين كفروا في مريةٍ منه حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً، فيصيروا إلى العذاب الدائمِ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لهم، فلا يُنظَروا فيه إلى الليل، ولا يُؤخَّروا فيه إلى المساء، لكنهم يُقتلون قبل المساء.
القول في تأويل قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} .
يقول تعالى ذكره: السلطانُ والمُلكُ إذا جاءت الساعة لله وحده لا شريك له، ولا ينازعه يومئذ منازعٌ. وقد كان في الدنيا ملوكٌ يُدعون بهذا الاسم، ولا أحد يومئذٍ يُدعَى ملكًا سواه، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. يقولُ: يفصل بين خلقه المشركين به والمؤمنين؛ فالذين آمنوا بهذا القرآن، وبمن أنزَله، ومن جاء به، وعملوا بما فيه من حلالِه وحرامِه، وحدودِه وفرائضِه، فى جناتِ النعيم يومئذٍ.
والذين كفروا بالله ورسوله
(1)
، وكذّبوا بآياتِ كتابه وتنزيله، وقالوا: ليس ذلك من عند الله، إنما هو إفكٌ افتراه محمدٌ، وأعانه عليه قومٌ آخرون، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. يقولُ: فالذين هذه صفتهم لهم عند الله يوم القيامةِ {عَذَابٌ مُهِينٌ} . يعنى: عذابٌ مذلٌّ في جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)} .
يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في
(1)
في ت 2: "رسله".
رضا اللهِ وطاعتهِ وجهادِ أعدائِه، ثم قُتلوا أو ماتوا وهم كذلك، ليرزقَنَّهم اللهُ يومَ القيامةِ في جناتِه رزقًا حسنًا. يعنى بالحسنِ الكريمَ، وإنما يعنى بالرزقِ الحسنِ الثوابَ الجزيلَ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. يقولُ: وإن اللهَ لهو خيرُ من بسَط فضلَه على أهلِ طاعتهِ وأكرَمهم.
وذُكر أن هذه الآيةَ نزَلت فى قومٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اختلَفوا في حكمِ من مات فى سبيلِ اللهِ؛ فقال بعضُهم: سواءٌ المقتولُ منهم والميتُ. وقال آخرون: بل المقتولُ أفضلُ. فأنزَل اللهُ هذه الآيةَ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، يُعلِمُهم استواءَ أمرِ الميتِ فى سبيلِه والمقتولِ فيها في الثوابِ عندَه.
وقد حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنى عبدُ الرحمنِ بنُ
(1)
شُريحٍ، عن سَلامانَ بنِ عامرٍ، قال: كان فَضالة برُودِسَ
(2)
أميرًا على الأرباعِ، فخرَج بجنازتَي رجلين؛ أحدُهما قتيلٌ، والآخرُ متوفًّى، فرأى مَيلَ الناسِ مع جنازةِ القتيلِ إلى حفرتِه، فقال: أراكم أيها الناسُ تميلون مع القتيلِ، وتفضِّلونه عن أخيه المتوفَّى، فوالذي نفسي بيده، ما أبالى من أىِّ حفرتيهما بُعثتُ، اقرَءوا قولَ اللهِ تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} إلى قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف. وينظر تهذيب الكمال 17/ 167.
(2)
رودس جزيرة فى البحر المتوسط شمال الإسكندرية غزاها المسلمون في زمن معاوية رضي الله عنه. معجم البلدان 2/ 832.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 444 عن المصنف. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تفسير ابن كثير من طريق سلامان بن عامر به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 369 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: ليُدخِلَنَّ اللهُ المقتولَ فى سبيلِه من المهاجرين والميتَ منهم {مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} . وذلك المُدخَلُ هو الجنةُ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بمن يهاجرُ في سبيلِه ممن يخرُجُ من دارِه طلبَ الغنيمةِ، أو عَرَضٍ من عرضِ الدنيا، {حَلِيمٌ} عن عُصاةِ خلقِه، بتركِه معاجلتَهم بالعقوبةِ والعذابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكَ} : لهذا، لهؤلاء الذين هاجَروا في سبيلِ اللهِ ثم قُتلوا أو ماتوا، ولهم مع ذلك، أيضًا، أن الله يعِدُهم النصرَ على المشركين الذين بغَوا عليهم فأخرَجوهم من ديارِهم.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ في قولِه:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} . قال: هم المشركون بغَوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فوعَده اللهُ أن ينصُرَه، وقال في القِصاصِ أيضًا
(2)
.
وكان بعضُهم
(3)
يزعُمُ أن هذه الآيةَ نزَلت في قومٍ من المشركين لقُوا قومًا من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرمِ، وكان المسلمون يكرَهون القتالَ يومئذٍ في الأشهرِ الحرمِ، فسأل المسلمون المشركين أن يكفُّوا عن قتالِهم من أجلِ حرمةِ الشهرِ، فأبَى المشركون ذلك، وقاتَلوهم فبغَوا عليهم، وثبَت المسلمون لهم، فنُصروا عليهم،
(1)
بعده في ت 1، ف:"فأخرجوه":
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 369 إلى ابن المنذر.
(3)
هو مقاتل، وقوله هذا عزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 693 إلى ابن أبي حاتم.
فأنزل الله هذه الآيةَ: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} . بأن بُدئ بالقتال، وهو له كارهٌ، {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} .
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللهَ لذو عفوٍ وصفحٍ لمن انتصر ممَّن ظلَمه -من بعدِ ما ظلَمه الظالمُ- بحقٍّ، {غَفُورٌ} لِما
(1)
فعل ببادئِه بالظلمِ، مثلَ الذي فُعل به، غيرُ معاقبِه عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكَ} : هذا النصرُ الذي أنصرُه من بُغى عليه على الباغي؛ بأنى القادرُ على ما أشاءُ، فمن قُدرتِه أن {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}. يقولُ: يُدخِلُ ما ينقُصُ من ساعاتِ الليلِ في ساعاتِ النهارِ، فما نقَص من هذا زاد فى هذا، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: ويُدخِلُ ما انتقص من ساعاتِ النهارِ فى ساعاتِ الليلِ، فما نقَص من طولِ هذا، زاد في طولِ هذا، وبالقُدرةِ التي تفعل ذلك ينصُرُ محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه على الذين بغَوا عليهم فأخرَجوهم من ديارِهم وأموالِهم، {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}. يقولُ: وفعَل ذلك أيضًا بأنه ذو سمعٍ لما يقولون من قولٍ، لا يخفَى عليه منه شيءٌ، بصيرٌ بما يعملون، لا يغيبُ عنه منه شيءٌ، كلُّ ذلك منه بمرأًى ومسمعٍ، وهو الحافظُ لكلِّ ذلك، حتى يجازِىَ جميعَهم على ما قالوا وعمِلوا من قولٍ وعملٍ جزاءَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} .
(1)
فى ت 1: "لمن".
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ذَلِكَ} : هذا الفعلُ الذي فعلتُ، من إيلاجي الليلَ فى النهارِ، وإيلاجى النهارِ فى الليلِ؛ بأنى
(1)
أنا الحقُّ الذى لا مِثلَ لى، ولا شريكَ ولا ندَّ، وأن الذى يدعوه هؤلاء المشركون إلهًا من دونه، هو الباطلُ الذى لا يقدرُ على صنعةِ شيءٍ، بل هو المصنوعُ. يقولُ لهم تعالى ذكرُه: أفتَترُكون أيها الجُهَّالُ عبادةَ مَن منه النفعُ وبيدِه الضرُّ، وهو القادرُ على كلِّ شيءٍ
(2)
، وكلُّ شيءٍ دونَه، وتعبُدون الباطلَ الذى لا تنفعُكم عبادتُه!
وقولُه: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . يعنى بقولِه: {الْعَلِيُّ} أنَّه
(3)
ذو العلوِّ على كلِّ شيءٍ، هو فوقَ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ دونَه، {الْكَبِيرُ}. يعنى: العظيمُ، الذى كلُّ شيءٍ دونَه، ولا شيء أعظمُ منه.
وكان ابنُ جريجٍ يقولُ في قولِه: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} . ما حدَّثنا به القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جُريجٍ في قولِه: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} . قال: الشيطانُ.
واختلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ؛ فقرأته عامةُ قرأةِ المدينةِ
(4)
والحجازِ: (تَدْعُونَ). بالتاءِ على وجهِ الخطابِ
(5)
. وقرأته عامةُ قرأةِ العراقِ غيرَ عاصمٍ بالياءِ على وجهِ الخبرِ
(6)
. والياءُ أعجبُ القراءتين إلىَّ؛ لأن
(1)
في ص، م:"لأنى".
(2)
بعده فى ت 2: "بل هو المصنوع يقول لهم تعالى ذكره".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "العراق".
(5)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة لابن مجاهد ص 440.
(6)
وهى قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي، وقرأ بها حفص عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 440.
ابتداءَ الخبرِ على وجهِ الخطابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَلَمْ تَرَ} يا محمدُ، {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. يعنى: مطرًا، {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} بما ينبُتُ فيها من النباتِ، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} باستخراجِ النباتِ من الأرضِ بذلك الماءِ، وغيرِ ذلك من ابتداعِ ما شاء أن يبتدعَه، {خَبِيرٌ} بما يحدُثُ عن ذلك النبتِ من الحبِّ وبه.
وقال: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ} . فرفَعه
(1)
و
(2)
قد تقدَّمه قولُه: {أَلَمْ تَرَ} . وإنما قيل ذلك كذلك؛ لأن معنى الكلامِ الخبرُ. كأنه قيل: اعلمْ يا محمدُ أن اللهَ يُنزلُ من السماءِ ماءً فتصبحُ الأرضُ. ونظيرُ ذلك قولُ الشاعرِ
(3)
:
ألم تسألِ
(4)
الربعَ القديمَ فينطقُ
…
وهل تُخبرَنْك اليومَ بيداءُ سمْلَقُ
(5)
لأن معناه: قد سألتُه فنطَق.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: له مُلكُ ما فى السماواتِ وما في الأرضِ من شيءٍ، هم
(1)
فى م، ت 2:"فرفع".
(2)
سقط من: ت 1، ف.
(3)
هو جميل، والبيت في ديوانه ص 91.
(4)
في ص، ت 2:"يسأل".
(5)
السملق: القاع المستوى الأملس والأجرد لا شجر فيه، وهو القَرِق. اللسان (سملق).
عبيدُه ومماليكُه وخلقُه، لا شريكَ له في ذلك، ولا في شيءٍ منه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} عن كلِّ ما فى السماواتِ وما فى الأرضِ من خلقِه وهم المحتاجون إليه، {الْحَمِيدُ} عندَ عبادِه فى إفضالِه عليهم، وأياديه عندَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ألم ترَ أن اللهَ سخَّر لكم أيها الناسُ ما في الأرضِ من الدوابِّ والبهائمِ، [جعَل ذلك]
(1)
كلَّه لكم، تُصرِّفونه فيما أردتم من حوائجِكم، {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}. يقولُ: وسخَّر لكم السفنَ تجرى في البحرِ {بِأَمْرِهِ} . يعني: بقُدرته وتذليلِه إياها لكم كذلك.
واختلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي} ؛ فقرأتْه عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {وَالْفُلْكَ} . نصبًا، بمعنى: سخَّر لكم ما في الأرضِ، والفلكَ. عطفًا على {مَا} ، وعلى تكريرِ "أن": وأن الفلكَ تجرى. ورُوى عن الأعرجِ أنه قرَأ ذلك رفعًا على الابتداءِ
(2)
. والنصبُ هو القراءةُ عندَنا في ذلك؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه.
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} . يقولُ: ويُمسِكُ السماءَ بقدرتِه؛ كي لا تقعَ على الأرضِ {إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
ومعنى قولِه: {أَنْ تَقَعَ} : ألا تقعَ.
(1)
فى ص، ف:"فذلك ذلك"، وفى م:"فذلك"
(2)
وهى قراءة السلمى وطلحة وأبى حيوة والزعفرانى. ينظر البحر المحيط 6/ 387.
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . يعنى: إنه بهم لذو رأفةٍ
(1)
ورحمةٍ، فمن رأفتِه بهم ورحمتِه لهم أمسك السماءَ أن تقعَ على الأرضِ إلا بإذنِه، وسخَّر لكم ما وصَف في هذه الآيةِ تَفَضُّلًا منه عليكم بذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واللهُ الذى أنعمَ عليكم هذه النعمَ، هو الذى جعَلكم
(2)
أجسامًا أحياءً بحياةٍ أحدَثها فيكم، ولم تكونوا شيئًا، ثم هو يميتُكم من بعدِ حياتِكم، فيُفنيكم عندَ مجيء آجالِكم، ثم يُحييكم بعدَ مماتِكم عندَ بعثِكم لقيامِ الساعةِ، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}. يقولُ: إن ابنَ آدمَ لجَحودً لنعمِ اللهِ التي أنعمَ بها عليه؛ من حُسنِ خلْقِه إياه، وتسخيرِه له ما سخَّر مما في الأرضِ والبرِّ والبحرِ، وتركِه إهلاكِه بإمساكِه السماءَ أن تقعَ على الأرضِ - بعبادتِه غيرَه من الآلهةِ والأندادِ، وتركِه إفرادَه بالعبادةِ وإخلاصِ التوحيدِ له.
وقولُه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} . يقولُ: لكلِّ جماعةٍ؛ قومِ [نبيٍّ خلا]
(3)
من قبلِك، جعَلنا مألَفًا يألَفونه، ومكانًا يعتادونه لعبادتى
(4)
فيه وقضاءِ فرائضى، وعملًا يَلزَمونه.
وأصلُ المنسكِ فى كلامِ العربِ الموضعُ المعتادُ الذي يعتادُه الرجلُ ويألفُه
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"رقة".
(2)
في م: "جعل لكم"
(3)
فى م: "هي خلت".
(4)
في ص، ت 2، ف:"لعبادته".
لخيرٍ
(1)
أو شرٍّ. يقالُ: إن لفلانٍ منسكًا يعتادُه. يُرادُ: مكانًا يغشاه ويألفُه، لخيرٍ
(2)
أو شرٍّ. وإنما سُمِّيت
(3)
مناسكُ الحجِّ بذلك لترددِ الناسِ إلى الأماكنِ التي تُعملُ فيها أعمالُ الحجِّ والعُمرة.
وفيه لغتان: "مَنسِك". بكسرِ السينِ وفتحِ الميمِ، وذلك من لغةِ أهلِ الحجازِ. و "مَنسَك". بفتحِ الميمِ والسينِ جميعًا، وذلك من لغةِ أسدٍ. وقد قُرئَ باللغتين جميعًا
(4)
.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ فى المعنىِّ بقولِه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} . أىُّ المناسكِ عُنى به؟ فقال بعضُهم: عُنى به عيدُهم الذي يعتادونه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} . قال: عيدًا
(5)
.
وقال آخرون: عُنى به ذبحٌ يذبحونه، ودمٌ يُهَرِيقونه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، قال: ثنا ابنُ جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} . قال: إراقةُ الدمِ بمكةَ.
(1)
فى ت 1، ف:"بخير".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"بخير".
(3)
بعده فى ص، ت 1، ت 2، ف:"المناسك".
(4)
قرأ حمزة والكسائي (منسكا) بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها. السبعة لابن مجاهد ص 436.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في الإتقان 2/ 30 - من طريق عبد الله بن صالح به.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{هُمْ نَاسِكُوهُ} . قال: إهراقةُ دماءِ الهدي
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{مَنْسَكًا} . قال: ذبحًا وحجًّا
(2)
.
والصوابُ من القولِ فى ذلك أن يُقالَ: عُنى بذلك إراقةُ الدمِ أيامَ النحرِ بمنًى. لأن المناسكَ التى كان المشركون جادَلوا فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقةَ الدمِ في هذه الأيامِ، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقةِ الدمِاء التي هي دماءُ ذبائحِ الأنعامِ بما قد أخبرَ اللهُ عنهم في سورةِ "الأنعامِ". غيرَ أن تلك لم تكنْ مناسكَ، فأما التي هي مناسكُ، فإنما هى هدايا أو ضحايا، ولذلك قلنا: عُنى بالمنسكِ في هذا الموضعِ الذبحُ الذى هو بالصفةِ التي وصَفنا.
وقولُه: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلا ينازِعَنَّك هؤلاء المشركون بالله يا محمدُ فى ذَبْحِك ومَنْسَكِك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتةَ التي قتلها اللهُ؟ فإنك أولى بالحقِّ منهم؛ لأنك محقٌّ وهم مبطلون.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 481، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 360، 469 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 41 عن معمر به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 369 إلى ابن أبي حاتم.
مجاهدٍ: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . قال: الذَّبحِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} : فلا تتحامَ
(2)
لحمَك.
وقولُه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وادعُ يا محمدُ منازعيك من المشركين باللهِ فى نسكِك وذبحِك، إلى اتباعِ أمرِ ربِّك في ذلك، بأن لا يأكلوا إلا ما ذبحوه بعدَ اتِّباعِك، وبعد التصديقِ بما جئتَهم به من عندِ اللهِ، ويجتنبوا
(3)
الذبحَ للآلهةِ والأوثانِ، ويتبرَّءوا منها. إنك لعلى طريقٍ مستقيمٍ، غير زائلٍ عن محجةِ الحقِّ والصوابِ في نسكِك الذي جعَله لك ولأمَّتِك ربُّك. وهم الضُّلَّالُ قصدِ السبيلِ؛ لمخالفتِهم أمرَ اللهِ في ذبائحِهم، ومطاعمهم، وعبادتهم الأوثانَ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإن جادَلك يا محمدُ هؤلاء المشركون بالله فى نسكِك، فقل: اللهُ أعلمُ بما تعملون ونعملُ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنْ جَادَلُوكَ} . قال: قولُ أهلِ الشركِ: أما ما ذبَح اللهُ -
(1)
تقدم تخريجه فى الصفحة السابقة.
(2)
أي: لا تجتنبه، من قولهم: تحاماه الناس. أى: توقوه واجتنبوه. اللسان (ح م و).
(3)
في ص، م:"تتجنبوا"، وفى ت 1:"يجتنبوا"، وفي ت 2:"تجنبوا".
(4)
فى ص، م، ت 1، ت 3، ف:"الآلهة".
للميتة
(1)
-[فلا تأكُلون منه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلالٌ]
(2)
{فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} لنا أعمالُنا ولكم أعمالُكم
(3)
.
وقولُه: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والله يقضى بينَكم يومَ القيامةِ فيما كنتم فيه من أمرِ دينِكم تختلِفون، فتعلمون حينئذٍ أيها المشركون المحقَّ من المبطلِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ألم تعلمْ يا محمدُ أنَّ الله يعلمُ كلَّ ما في السماواتِ السبعِ، والأَرَضِين السبعِ، لا يَخْفَى عليهِ مِن ذلك شيءٌ، وهو حاكمٌ بينَ خلقِه يومَ القيامةِ، على علمٍ منه بجميعِ ما عمِلُوه في الدُّنيا، فمُجازٍ
(4)
المحسنَ منهم بإحسانِه، والمسيءَ بإساءتِه، {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ}. يقولُ تعالى ذكرُه: إنَّ علمَه بذلك فى كتابٍ، وهو أمُّ الكتابِ الذى كتَب فيه ربُّنا جلَّ ثناؤه قبلَ أنْ يخلُقَ خلقَه ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا مُبَشِّرُ
(5)
بنُ إسماعيلَ
(1)
فى م، والدر المنثور:"بيمينه".
(2)
سقط من النسخ، والمثبت ما يقتضيه السياق، وينظر ما تقدم في 9/ 522، 524.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 369 إلى ابن المنذر إلى قوله: فهو حلال.
وأما قوله: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. فقد عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 369 إلى ابن المنذر عن ابن جريج قوله.
(4)
فى م: "فمجازي"، وفى ت 1:"فيجازي".
(5)
فى م، ت 1:"ميسر". وينظر تهذيب الكمال 27/ 190.
الحَلَبىُّ، عن الأوزاعيِّ، عن عبدَةَ بنِ أبى لُبابةَ، قال: علِم اللهُ ما هو خالقٌ، وما الخلقُ عاملون، ثم كتَبه، ثم قال لنبيِّه:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى مُبشِّرٌ
(1)
، عن أرطاةَ بنِ المنذرِ، قال: سمِعتُ ضَمْرَةَ بن حَبيبٍ يقولُ: إِنَّ اللهَ كان على عرشِه على الماءِ، وخلقَ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، وخلَق القلمَ، فكتَب به ما هو كائنٌ من خلقِه، ثم إنَّ ذلك الكتابَ سبَّح اللهَ ومجَّده ألفَ عامٍ، قبلَ أن يُبدِى
(2)
شيئًا من الخلقِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى مُعتمِرُ بن سليمانَ، عن أبيه، عن سيَّارٍ، عن ابنِ عباسٍ أنَّه سأل كعبَ الأحبارِ عن أمِّ الكتابِ، فقال: علِم اللهُ ما هو خالقٌ وما خلقُه عاملون، فقال لعلمِه: كُنْ كِتابًا
(4)
.
وكان ابنُ جُريجٍ يقولُ في قولِه: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} . ما حدَّثنا به القاسمُ، [قال: حدَّثنا الحسينُ]
(5)
، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ:{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} . قال: قولُه: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
وإنَّما اختَرنا القولَ الذى قُلنا في ذلك؛ لأنَّ قوله: {إِنَّ ذَلِكَ} إلى قولِه:
(1)
فى م: "ميسرة"، وفى ت 1، ت 2:"ميسر".
(2)
في م، ت 2:"يبدأ".
(3)
تقدم تخريجه في 12/ 334.
(4)
تقدم تخريجه في 13/ 572.
(5)
سقط من: م.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أقربُ منه إلى قولِه: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . فكان إلحاقُ ذلك بما هو أقربُ إليه أولى منه بما بَعُدَ.
وقولُه: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . اختُلف في ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: إنَّ الحكمَ بين المختلفِينَ فى الدنيا يومَ القيامةِ على اللهِ يسيرٌ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ:{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قال: حُكمُه يومَ القيامةِ. ثم قال: بَيَّنَ ذلك: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنَّ كتابَ القلمِ الذي أمرَه اللهُ أن يكتبَ في اللوحِ المحفوظِ ما هو كائنٌ، على اللهِ يسيرٌ. يعنى: هيِّنٌ.
وهذا القولُ الثانى أولى بتأويلِ ذلك؛ وذلك أنَّ قولَه: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . إلى قولِه: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} . أقربُ، وهو له مجاورٌ، ومِن قوله:{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} مُتباعدٌ، ومع دخولِ قولِه:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} بينَهما
، فإلحاقُه بما هو أقربُ، أولى ما وُجِد للكلامِ -وهو كذلك- مَخرَجٌ في التأويلِ صحيحٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)} .
فى ص، ت 1، ت 2، ف:"بينهم".
(1)
يقولُ تعالى ذكرُه: ويعبُدُ هؤلاءِ المشركون باللهِ مِن دونِه ما لم يُنزِّلْ به جلَّ ثناؤُه لهم حُجَّةً من السماءِ فى كتابٍ من كُتبِه التي أنزَلها إلى رُسلِه، بأنَّها آلهةٌ تصلُحُ عِبادَتُها، فيعبُدُوها بأنَّ اللهَ أذِن لهم في عبادتِها. {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ}. [يقولُ: ويعبُدونَ من دُونِ اللهِ ما ليس لهم به علمٌ]
(1)
أنَّها آلهةٌ. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} . يقولُ: وما للكافرين باللهِ الذين يعبُدونَ هذه
(2)
الأوثانَ [مِن دونِ اللهِ]
(3)
من ناصرٍ ينصُرُهم يومَ القيامةِ، فينقِذَهم من عذابِ اللهِ، ويدفعَ عنهم عِقابَه إذا أراد عقابَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا تُتلى على مشركي قُريشٍ العابدين من دونِ اللهِ ما لم يُنزِّل به سُلطانًا {آيَاتُنَا} . يعني: آياتُ القرآنِ، {بَيِّنَاتٍ}. يقولُ: واضحاتٍ حُججُها وأدلتُها فيما أُنزِلت فيه، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}. يقولُ: تتبيَّنُ
(4)
في وُجُوهِهم ما يُنكره أهلُ الإيمان باللهِ من تغيُّرِها لسماعِهم القُرآنَ
(5)
.
وقولُه: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . يقولُ: يكادون يَبطِشُونَ بالذين يَتْلُون عليهم آياتِ كتابِ اللهِ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 3، ف.
(2)
في ت 2: "هؤلاء".
(3)
سقط من: م.
(4)
فى ت 1، ف:"يتبين".
(5)
في م: "بالقرآن".
لشدةِ تكرُّههم أن يَسمعُوا القرآنَ، ويُتلى عَليهم.
وبنحو ما قُلنا في تأويلِ قولِه: {يَسْطُونَ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} . يقولُ: يبطِشُون
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} . يقولُ: يَقَعُون بمن ذكَّرهم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . قال: يكادون يقعُونَ بهم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} . قال: يَبْطِشون؛ كفارُ قُريشٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في الإتقان 2/ 31 - من طريق عبد الله به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 370 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 483، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 370 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الضَّحَّاكَ يقولُ فى قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . يقولُ: يكادون يأخذونَهم بأيديهم أخذًا.
وقولُه: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} . يقولُ: أفأُنبئُكم أيُّها المشركونَ بأكرهَ إليكم مِن هؤلاءِ الذين تتكرَّهَون
(1)
قراءتَهم القرآنَ عليكم، هي النارُ وعَدها اللهُ الذين كفَروا.
وقد ذُكِر عن بعضِهم أنَّه كان يقولُ: إنَّ المشركين قالوا: واللهِ إنَّ محمدًا وأصحابَه لشرُّ خلقِ اللهِ. فقال اللهُ لهم
(2)
: أفأُنبئُكم أيُّها القائلونَ هذا القولَ بشرٍّ مِن محمدٍ صلى الله عليه وسلم [وأصحابِه]
(3)
، أنتم أيُّها المشركونَ الذين وعَدهم اللهُ النارِ.
ورُفِعتِ {النَّارُ} على الابتداءِ، ولأنَّها معرفةٌ لا تصلُحُ أن يُنعتَ بها الشرُّ وهو نَكرةٌ، وهو كما يقالُ: مررتُ برجلينِ؛ أخوك وأبوك. ولو كانت مخفوضةً كان جائزًا، وكذلك لو كان نصبًا للعائدِ مِن ذِكرِها في {وَعَدَهَا}. وأنت تَنوى بها الاتصالَ بما قبلَها. يقولُ تعالى ذكرُه: فهؤلاءِ هم شِرَارُ
(4)
الخلقِ، لا محمدٌ وأصحابُه.
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . يقولُ: وبئس المكانُ الذي يصيرُ إليه هؤلاءِ المشركون بالله يومَ القيامةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
(1)
فى ت 1، ت 2:"تكرهون"، وفى ف:"يتكرهون".
(2)
بعدها فى م: "قل".
(3)
سقط من: م، ف
(4)
فى م، ت 1، ف:"أشرار".
شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيُّها الناسُ، جُعِل للهِ
(1)
مثلٌ وذِكرٌ. ومعنى {ضُرِبَ} في هذا الموضعِ: جُعلَ. مِن قولِهم: ضرَب السلطانُ على الناسِ البَعْثَ. بمعنى: جُعِل عليهم، وضرَب الجزيةَ على النصارَى. بمعنى: جُعِل ذلك عليهم. والمثلُ: الشَّبَهُ.
يقولُ جلَّ ثناؤُه: جُعِل لى شَبَهٌ أَيُّها الناسُ. يعنى بالشَّبهِ والمثَلِ: الآلهةَ. يقولُ: جعَل لى المشركون الأصنامَ
(2)
شبهًا، فعبدُوها معى، وأشرَكُوها في عبادَتي {فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. يقولُ: فاستمِعُوا حالَ ما مثَّلُوه وجعَلوه لي في عبادتِهم إياهُ شبهًا. وصِفتُه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} . يقولُ: إِنَّ جميعَ ما تعبُدونَ من دونِ اللهِ من الآلهةِ والأصنامِ، لو جُمعتْ لم يخلُقوا ذُبابًا في صغرِه وقلَّتِه؛ لأنَّها لا تقْدِرُ على ذلك ولا تُطيقُه، ولو اجتمَع لخلقِه جميعُها. والذُّبابُ واحدٌ، وجمعُه فى القلةِ أَذِبَّةٌ، وفى الكثرةِ
(3)
ذِبَّانٌ، نظيرُ غُرابٍ، يُجمعُ فى القلةِ أغربةٌ، وفى الكثرة غِربانٌ.
وقولُه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} . يقولُ: وإِنْ يسلُبِ الآلهة والأوثانَ الذباب شيئًا ممَّا عليها؛ مِن طِيبٍ وما أشبهَه مِن شَيْءٍ {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} . يقولُ: لا تقدِرُ الآلهةُ أنْ تستنقِذَ ذلك منه.
واختُلِف في معنى قولِه: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ؛ فقال بعضُهم:
(1)
فى ت 1، ت 2، ت 3:"الله".
(2)
في م: "والأصنام".
(3)
فى ص، م، ت 1، ت 3، ف:"الكثير".
عني بالطالب الآلهةَ، وبالمطلوبِ الذُّباب.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ، قال ابنُ عباسٍ في قولِه:{ضَعُفَ الطَّالِبُ} . قال: آلهتُهم، {وَالْمَطْلُوبُ}: الذبابُ
(1)
. وكان بعضُهم يقولُ: معنى ذلك: {ضَعُفَ الطَّالِبُ} مِن بنى آدمَ إلى الصَّنمِ حاجتَه، {وَالْمَطْلُوبُ} إليه: الصنمُ أن يُعطِيَ سائلَه من بنى آدمَ ما سأَله. يقولُ: ضعُف عن ذلك وعَجَز.
والصوابُ من القولِ فى ذلك عندَنا ما ذكَرتُه عن ابنِ عباسٍ من أنَّ معناه: عجَز الطالبُ -وهو الآلهةُ- أن يَسْتَنْقِذَ
(2)
من الذبابِ ما سلَبه
(3)
إياهُ، وهو الطَّيبُ وما أشبهَه. والمطلوبُ الذبابُ.
وإنَّما قلتُ: هذا القولُ أولى بتأويلِ ذلك. لأنَّ ذلك في سياقِ الخبرِ عن الآلهةِ والذبابِ، فأن يكونَ ذلك خبرًا عمَّا هو به متصلٌ أشبَهُ من أن يكونَ خبرًا عمَّا هو عنه مُنقطِعٌ، وإِنَّما أخبَر جلَّ ثناؤُه عن الآلهةِ بما أخبرَ به عنها في هذه الآيةِ من ضَعفِها ومهانتِها؛ تقريعًا منه بذلك عبدتَها مِن مشركي قُريشٍ.
يقولُ تعالى ذكرُه: كيف يُجعَلُ لى
(4)
مثلٌ في العبادةِ، ويُشرَكُ فيها معى ما لا قدرةَ له على خلقِ ذبابٍ، وإن استذلَّه
(5)
الذبابُ فسلَبه شيئًا عليهِ لم يَقْدِرُ أنْ يمتنِعَ منه
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 370 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م، ت 1، ف:"تستنقذ".
(3)
في م: "سلبها".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م: "أخذ له".
ولا ينتصِرَ، وأنا الخالقُ ما فى السماواتِ والأرضِ، ومالكٌ جميعَ ذلك، والمحيى مَن أردتُ، والمُفْنِى
(1)
ما أردتُ ومن أردتُ؟! إِنَّ فاعلَ ذلك لا شكَّ أنَّه في غايةِ الجهلِ.
وقولُه: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . يقولُ: ما عظَّم هؤلاءِ الذين جعَلوا الآلهةَ للهِ شريكًا فى العبادةِ حقَّ عظَمتِه حينَ أشرَكوا به غيرَه، فلم يُخلِصوا له العبادةَ، ولا عرَفوه حقَّ مَعرفتِه. من قولِهم: ما عرَفتَ لِفُلانٍ قدرَه. إذا خاطبوا بذلك من قصَّر بحقِّه، وهم يُريدون تعظيمَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} إلى آخرِ الآية. قال: هذا مثلٌ ضرَبه اللهُ لآلهتِهم. وقرَأ {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . حينَ يَعبدون مع اللهِ ما لا يَنْتَصِفُ من الذبابِ ولا يَمتنعُ منه
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} . يقولُ: إن الله لقوىٌّ على خلقِ ما يشاءُ؛ من صغيرِ ما يشاءُ
(3)
خَلْقَه، وكبيرِه. {عَزِيزٌ} يقولُ: منيعٌ في مُلكِه، لا يقدرُ شيءٌ دونَه أن يسلُبَه من مُلكِه شيئًا، وليس كآلهتِكم أيُّها المشركونَ الذين تدعونَ من دونِه، الذين لا يقدرونَ على خلقِ ذبابٍ، ولا على الامتناعِ من الذبابِ إذا
(4)
استلَبها
(1)
في م: "المميت".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 370 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
بعده في م: "من".
(4)
في ت 1: "إن".
شيئًا، صعفًا ومَهانةً.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: اللهُ يختارُ من الملائكةِ رسلًا؛ كجبريلَ وميكائيلَ اللذَينِ كانا يُرسِلُهما إلى أنبيائِه ومَن شاء مِن عبادهِ {وَمِنَ النَّاسِ} ؛ كأنبيائه الذين أرسلَهم إلى عبادِه من بنى آدمَ. ومعنى الكلامِ: اللهُ يصطفِى من الملائكةِ رسلًا، ومن الناس أيضًا رسلًا.
وقد قِيل: إنَّما أُنزلتْ هذه الآيةُ لمَّا قال المشركونَ: أأُنزل
(1)
عليه الذكرُ مِن بينِنا؟ فقال اللهُ لهم: ذلك إلىَّ وبيدى دونَ خلقِى، أختارُ من شئتُ منهم للرسالةِ.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . يقولُ: إِنَّ اللهَ سميعٌ لمَا يقولُ المشركون في محمدٍ، وما جاء به مِن عندِ اللهِ، بصيرٌ بمن يختارُه لرسالتِه من خلقِه.
القولُ فى تأويلِه قولِه تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: اللهُ يعلمُ ما كان بينَ أيدِى ملائكتِه ورُسِله من قبلِ أن يخلُقَهم، {وَمَا خَلْفَهُمْ} يقولُ: ويعلمُ ما هو كائنٌ بعدَ فنائِهم، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. يقولُ: إلى اللهِ في الآخرةِ تصيرُ أمورُ الدنيا، وإليه تعودُ كما كان منه البَدءُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} .
(1)
في م: "أنزل".
يقولُ تعالى ذكرُه: يأيُّها الذين صدَّقوا اللهَ ورسولَه، {ارْكَعُوا} للهِ في صلاتِكم، {وَاسْجُدُوا} له فيها، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ}. يقولُ: وذِلُّوا لربِّكم، واخضَعوا له بالطاعةِ، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} الذى أمَركم ربُّكم بفعلِه؛ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. يقولُ: لِتُفلحوا بذلك، فتُدْرِكوا به طَلباتكم عندَ ربِّكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وجاهِدُوا المشركين فى سبيلِ اللهِ حقَّ [جهادِ اللهِ]
(1)
.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني سليمانُ بنُ بلالٍ، عن ثورِ بنِ زيدٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ في قولِه:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} : كما جاهَدتُم أَوَّلَ مرَّةٍ. فقال عمرُ: مَن أُمِر بالجهادِ؟ قال: قبيلتانِ من قُريشٍ؛ مخزومٌ وعبدُ شمسٍ. فقال عمرُ: صدَقتَ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تخافوا في اللهِ لومةَ لائمٍ. قالوا: وذلك هو حقُّ الجهادِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال:
(1)
في م، ت 1:" جهاده".
قال ابنُ عباسٍ في قولِه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} : لا تخافوا في الله لومةَ لائمٍ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: اعمَلوا بالحقِّ حقَّ عملِه. وهذا قولٌ ذكَره عن الضحاكِ بعضُ مَن في روايتِه نظرٌ.
والصوابُ من القولِ في ذلك قولُ مَن قال: عُنِى به الجهادُ في سبيلِ الله. لأنَّ المعروفَ من الجهادِ ذلك، وهو الأغلبُ على قولِ القائلِ: جاهدتُ في اللهِ. وحقُّ الجهادِ هو استفراغُ الطاقةِ فيه.
وقولُه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} . يقولُ: هو اختارَكم لدينِه، واصطَفاكم لحربِ أعدائِه، والجهادِ في سبيلِه
وقال ابنُ زيدٍ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} . قال: هو هداكم.
وقولُه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما جعَل عليكم ربُّكم في الدينِ الذى تعبَّدَكم به من ضيقٍ لا مخرجَ لكم ممَّا ابتُليتُم به فيه، بل وسَّع عليكم، فجعَل التوبةَ مِن بعضٍ مخرجًا، والكفارةَ من بعضٍ، والقِصاصَ من بعضٍ، فلا ذنبَ يُذنِبُ المؤمنُ إلَّا وله منه فى دينِ الإِسلامِ مَخرجٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ بن عبد الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنى
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 371 إلى ابن المنذر.
[يونسُ بنُ يزيدَ]
(1)
، عن ابن شهابٍ، قال: سأل عبدُ الملكِ بنُ مَرْوانَ علىَّ بنَ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ عن هذه الآيةِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . فقال علىُّ بنُ عبدِ اللهِ: الحرجُ الضيقُ، فجعَل اللهُ الكفاراتِ مخرَجًا من ذلك، سمِعتُ ابنُ عباسٍ يقولُ ذلك
(2)
.
قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى سفيانُ بنُ عيينةَ، عن عبيدِ اللهِ بنِ أبى يزيدَ
(3)
، قال: سمِعتُ ابنَ عباسٍ يُسأل عن: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . قال: ما هاهنا من هُذيلٍ أحدٌ؟ فقال رجلٌ: نعم. قال: ما تعدُّون الحرَجةَ فيكم؟ قال: الشيءُ الضيِّقُ. قال ابنُ عباسٍ: فهو كذلك
(4)
.
حدَّثنا الحسنُ بن يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، عن ابنِ عيينةَ، عن عبيدِ الله ابنِ أبي يزيدَ، قال: سمِعتُ ابنَ عباسٍ، وذكَر نحوَه، إِلَّا أَنَّه قال: فقال ابنُ عباسٍ: أهاهُنا أحدٌ من هُذيلٍ؟ فقال رجلٌ: أنا. فقال أيضًا: ما تعُدُّون الحرَجَ؟ وسائرُ الحديثِ مثلُه.
حدَّثني عمرانُ بنُ بكارٍ الكَلاعِىُّ، قال: ثنا يحيى بنُ صالحٍ، قال: ثنا يحيى بنُ حمزةَ، عن الحكمِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: سمِعتُ القاسمَ بنَ محمدٍ يحدِّثُ عن عائشةَ، قالتْ: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيةِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
(1)
فى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يونس بن زيد"، وفى م:"ابن زيد". وتقدم في 4/ 79، 204، 629.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 43/ 15 من طريق ابن وهب به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"زيد". تنظر ترجمته في تهذيب الكمال 19/ 178.
(4)
أخرجه البيهقى 10/ 113 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 371، 372 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
حَرَجٍ}. قال: "هو الضيقُ"
(1)
.
حدَّثنا حميدُ بنُ مسعدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا أبو خَلْدَةَ، قال: قال لى أبو العالية: أتدرِى ما الحرجُ؟ قلتُ: لا أدرى. قال: الضيقُ. وقرَأ هذه الآيةَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا حَمَّادُ بنُ مسعدةَ، عن عوفٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . قال: من ضيقٍ.
حدَّثنا عمرُو بنُ بَيْذَقَ، قال: ثنا مروانُ بنُ معاويةَ، عن أبي خَلدَةَ، قال: قال لي أبو العالية: هل تدرِى ما الحريجُ؟ قلتُ: لا. قال: الضيقُ، إنَّ اللهَ لم يُضيِّقْ عليكم، لم يجعَلْ عليكم في الدينِ من حرجٍ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، عن ابنِ عونٍ، عن القاسمِ أنَّه تلا هذه الآيةَ:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . قال: تدرُونَ ما الحرجُ؟ قال: الضيقُ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن يونسَ بن أبى إسحاقَ، عن أبيه، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إذا [تعانيتم في]
(2)
شيءٍ مِن القرآنِ فانظروا في الشعرِ، فإنَّ الشعرَ عربيٌّ. ثم دعا ابنُ عباسٍ أعرابيًّا، فقال: ما الحرجُ؟ قال: الضيقُ. قال: صدقتَ
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . قال: من ضيقٍ.
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 391 من طريق يحيى بن حمزة به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 4/ 371 إلى ابن مردويه.
(2)
فى م: "تعاجم".
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ مثله
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: مَا جَعَلَ عليكم في الدِّينِ
(2)
من ضيقٍ في أوقاتِ فروضِكم إذا التَبَستْ عليكم، ولكنَّه وسَّع ذلك عليكم حتى تتيقَّنوا
(3)
مَحِلَّها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغيرةَ، عن عثمانَ بنِ يَسَارٍ
(4)
، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . قال: هذا في هلالِ شهرِ رمضانَ إذا شكَّ فيه الناسُ، وفى الحجِّ إذا شكُّوا في الهلالِ، وفي الفطرِ و
(5)
الأضحَى؛ إذا التبَس عليهم، وأشباهِه
(6)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما جعَل
(7)
في الإسلامِ من ضيقٍ، بل وسَّعه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . يقولُ: ما جعَل عليكم في الإسلامِ من ضيقٍ، هو واسعٌ، وهو مثلُ قوله فى "الأنعامِ": {فَمَنْ يُرِدِ
(1)
تفسير عبد الرزاقِ 2/ 41.
(2)
بعده فى م: "من حرج".
(3)
فى م: "تيقنوا"، وفي ت 2:"تتقنوا".
(4)
فى النسخ: "بشار". وينظر التاريخ الكبير 6/ 257، والجرح والتعديل 6/ 172.
(5)
بعده فى م: "فى".
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 371 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7)
بعده في ت 1: "عليكم".
اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. يقولُ: مَن أراد أَنْ يُضِلَّه يُضَيِّق عليه صدرَه، حتى يَجْعَلَ عليه الإسلامَ ضيِّقًا، والإسلامُ واسعٌ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . يقولُ: مِن ضيقٍ. يقولُ: جعَل الدينَ واسعًا ولم يَجْعَلْه ضيقًا.
وقولُه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} . نصبُ {مِلَّةَ} بمعنى: وما جعَل عليكم له في الدينِ من حرجٍ، بل وسَّعه، كملَّةِ أبيكم. فلمَّا لم يَجْعَلْ فيها الكافَ اتصَلتْ بالفعلِ الذي قبلَها فنُصِبتْ. وقد يَحتملُ نصبُها أنْ تكونَ
(2)
على وجِه الأمرِ بها؛ لأنَّ الكلامَ قبلَه أمرٌ، فكأنَّه قِيل: اركَعوا، واسجُدوا، والزَموا ملةَ أبيكم إبراهيمَ.
وقولُه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: اللهُ
(3)
سمَّاكم يا معشرَ من آمَن بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، المسلمين مِن قبلُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قوله:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . يقولُ: اللهُ سمَّاكم
(4)
.
(1)
تقدم فى 9/ 545.
(2)
في ت 2، ف:"يكون".
(3)
سقط لفظ الجلالة من: م.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 372 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: أخبَرنى عطاءُ بنُ أبي رباحٍ أنه سمع ابنُ عباسٍ يقولُ: اللهُ سمَّاكم المسلمين مِن قبلُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، وحدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، جميعًا عن معمرٍ، عن قتادةَ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . قال: اللهُ سمَّاكم المسلمين مِن قبلُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى. وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . قال: اللهُ سمَّاكم
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ فى قولِه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: اللهُ سمَّاكم المسلمين
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: إبراهيمُ سمَّاكم المسلمين. وقالوا: هو كنايةٌ من
(4)
ذكرِ إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 372 إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 483.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 5/ 452.
(4)
فى م، ت 1:"عن".
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . قال: ألَا ترى قولَ إبراهيمَ: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]. قال: هذا قولُ إبراهيمَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . ولم يذكُرِ اللهُ بالإسلامِ والإيمانِ غيرَ هذه الأمةِ، ذُكِرَتْ بالإيمانِ والإسلامِ جميعًا، ولم نسمَعْ
(1)
بأمةٍ ذُكرت إلَّا بالإيمانِ
(2)
.
ولا وجهَ لمَا قال ابنُ زيدٍ من ذلك؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ إبراهيمَ لم يُسَمِّ أمةَ محمدٍ مسلمينَ فى القرآنِ؛ لأنَّ القرآنَ أُنزِل مِن بعده بدهرٍ طويلٍ. وقد قال اللهُ تعالى ذكرُه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} . ولكنَّ الذى سمَّانا مسلمينَ من قبلِ نزولِ القرآنِ وفى القرآنِ، اللهُ الذي لم يزَلْ ولا يزالُ.
وأمَّا قوله: {مِنْ قَبْلُ} . فإن معناهُ: من قبلِ
(3)
هذا القرآنِ، في الكتبِ التي نزلت قبلَه، {وَفِي هَذَا}. يقولُ: وفى هذا الكتابِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
في ت 2: "يسمع".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 372 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
بعده في م: "نزول".
قولَه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} : القرآنِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابنُ جريجٍ، قال مجاهدٌ:{مِنْ قَبْلُ} . قال: فى الكتبِ كلِّها والذِّكرِ، {وَفِي هَذَا}. يعني: القرآن.
وقولُه: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: اجتباكم اللهُ وسمَّاكم أيُّها المؤمنون باللهِ وآياتهِ من أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مسلمينَ؛ ليكونَ محمدٌ رسولُ اللهِ شهيدًا عليكم يومَ القيامةِ بأنَّه قد بلَّغكم ما أُرسِل بِه إليكم، وتكونوا أنتم شهداءَ حينئذٍ على الرسلِ أجمعين أنَّهم قد بلَّغوا أُمَمهم ما أُرسِلُوا به إليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} . قال: اللهُ سمَّاكم المسلمينَ من قبلُ. {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} أَنَّه
(2)
بلَّغكم. {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أنَّ رُسلَهم قد بلَّغتهم
(3)
.
وبه عن قتادةَ، قال: أُعطيت هذه الأمةُ ما لم يُعطَه إلَّا نبيٌّ، كان يقالُ للنبيِّ:
(1)
تفسير مجاهد ص 483، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 372 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "بأنه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 42 عن معمر به، دون قوله: الله سماكم المسلمين من قبل. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 372 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
اذهبْ فليس عليك حرجٌ. وقال اللهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وكان يقالُ للنبيِّ: أنت شهيدٌ على قومِك. وقال اللهُ: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . وكان يقالُ للنبيِّ: سلْ تُعطَه، وقال اللهُ:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن قتادةَ، قال: أُعطِيتْ هذه الأمةُ ثلاثًا لم يعطَها إلَّا نبىٌّ؛ كان يقالُ للنبيِّ: اذهبْ فليس عليك حرجٌ. فقال اللهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . قال: وكان يقالُ للنبىِّ: أنت شهيدٌ على قومِك. وقال الله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . وكان يقالُ للنبىِّ: سلْ تُعْطَه. وقال اللهُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . يقولُ: فأدُّوا الصلاةَ المفروضةَ للهِ عليكم بحدودِها، وآتُوا الزكاةَ الواجبةَ عليكم في أموالِكم، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}. يقولُ: وثِقُوا باللهِ، وتَوَكَّلوا عليه فى أمورِكم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى}: فنِعمَ الولىُّ اللهُ لمَن فعَل ذلك منكم، فأقام الصلاةَ، وأتى الزكاةَ، وجاهَد في سبيلِه حقَّ جهادِه، واعتصَم به، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ}. يقولُ: ونِعَم الناصرُ هو له على مَن بَغاه سوءًا.
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 41، 42.