الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسيرُ سورةِ النَّملِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(3)}.
قال أبو جعفرٍ: وقد بيَّنا القولَ فيما مضى من كتابِنا هذا، فيما كان من حروفِ المعجمِ في فواتحِ السورِ، فقولُه:{طس} مِن ذلك. وقد رُوِى عن ابن عباسٍ أَنَّ قولَه: {طس} . قَسَمٌ أقسَمه اللهُ، هو من أسماءِ اللهِ.
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
.
فالواجبُ على هذا القولِ أن يكونَ معناه: والسميعِ اللطيفِ، إنَّ هذه الآياتِ التي أنزَلتُها إليك يا محمدُ، لآياتُ القرآنِ، وآياتُ {كِتَابٍ مُبِينٍ} ، يقولُ: يبينُ لمن تدَبَّره وفكَّر فيه بفَهمٍ، أنه من عندِ اللهِ، أنزَله إليك، لم تتخرَّصْه أنت ولم تتقوَّلْه، ولا أحدٌ سواك من خَلقِ اللهِ؛ لأنه لا يقدرُ أحدٌ من الخلْقِ أنْ يأتيَ بمثلِه، ولو
(1)
بعده في ت 2: "قوله".
والأثر تقدم تخريجه في 1/ 207، 17/ 542.
تظاهرَ عليه الجنُّ والإنسُ.
وخُفِض قولُه: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} . عطفًا به على "القرآنِ".
وقولُه: {هُدًى} . من صفةِ "القرآن". يقولُ: هذه آياتُ القرآنِ بيانٌ مِن اللهِ، بيَّن
(1)
به طريقَ الحقِّ وسبلَ
(2)
السلامِ، {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. يقولُ: وبشارةٌ لمن آمَن به وصدَّق بما أُنزِل فيه، بالفوزِ العظيمِ في المعادِ.
وفي قولِه: {هُدًى وَبُشْرَى} . وجهان من العربيةِ؛ الرفعُ على الابتداءِ، بمعنى: هو هدًى وبُشرى. والنصبُ على القطعِ من: {آيَاتُ الْقُرْآنِ} . فيكونُ معناه: تلك آياتُ القرآنِ الهُدَى
(3)
والبشْرى للمؤمنين. ثم أُسقِطت الألفُ واللامُ من "الهدى" و "البشرى"، فصارا نكرةً، وهما صفةٌ للمعرفةِ، فنُصِبا.
وقولُه: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} . يقولُ: هو هدًى وبشرى لمن آمَن بها، وأقام الصلاةَ المفروضةَ بحدودِها.
وقولُه: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . يقولُ: ويؤدّون
(4)
الزكاة المفروضةَ. وقيل: معناه: ويطهِّرون أجسادَهم من دنسِ المعاصى. وقد بيَّنا ذلك فيما مضَى بما أغنَى عن إعادِته في هذا الموضعِ
(5)
.
{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . يقولُ: وهم مع إقامتِهم الصلاةَ المفروضةَ
(6)
، وإيتائِهم الزكاةَ الواجبةَ، بالمعادِ إلى اللهِ بعد المماتِ يُوقنون، فيذِلُّون في طاعةِ اللهِ؛
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(2)
في م، ت 1:"سبيل".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
في ت 2: "يؤتون".
(5)
ينظر ما تقدم في 1/ 611، 612، 2/ 198.
(6)
سقط من: م، ت 1، ف.
رجاءَ جزيلِ ثوابِه، وخوفَ عظيمِ عقابِه، وليسوا كالذين يُكذِّبون بالبعثِ ولا يبالُون؛ أحسَنوا أم أساءوا، وأطاعوا أم عَصَوا
(1)
؛ لأنهم إنْ أحسنوا لم يرجُوا ثوابًا، وإنْ أساءوا لم يخافوا عقابًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: إِنَّ الذين لا يُصدِّقون بالدارِ الآخرةِ، وقيامِ الساعةِ، وبالمعادِ إلى اللهِ بعدَ المماتِ، والثوابِ والعقابِ، {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ}. يقولُ: حبَّبنا إليهم قبيحَ أعمالِهم، وسهَّلْنا ذلك عليهم، {فَهُمْ يَعْمَهُونَ}. يقولُ: فهم في ضلالِ أعمالِهم القبيحةِ التي زيَّنَّاها لهم، يتردَّدون حيارَى، يحسَبون أنَّهم يحسِنون.
وقولُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: هؤلاء الذين لا يُؤمنون بالآخرةِ لهم سوءُ العذابِ في الدنيا، وهم الذين قُتِلوا ببدرٍ من مشركي قريشٍ، {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. يقولُ: وهم يومَ القيامةِ هم الأوضَعون تجارةً، والأَوكَسُونها
(2)
؛ باشترائِهم الضلالَة بالهدَى، {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"عصوه".
(2)
في م: "الأوكسوها".
يقولُ تعالى ذِكرُه: وإنَّك يا محمدُ، لَتُحَفَّظُ القرآنَ وتُعَلَّمُه، {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}. يقولُ: من عندِ حكيمٍ بتدبيرِ خلْقِه، عليمٍ بأنباءِ خلْقِه ومصالِحهم، والكائنِ من أمورِهم، والماضى من أخبارِهم، والحادثِ منها، {إِذْ قَالَ مُوسَى} . و {إِذْ} من صلةِ {عَلِيمٍ} .
ومعنى الكلامِ: عليمٌ حينَ قال موسى لأهلِه وهو في مسيرِه من مَدْيَنَ إلى مصرَ، وقد آذاهم بَرْدُ ليلهم لما أصلَدَ زَنْدُه
(1)
: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} . أي: أبصرتُ نارًا أو أحْسَستُها، فامكُثوا مكانَكم، {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ}. يعنى: من النارِ. والهاءُ والألفُ مِن ذِكرِ "النارِ".
{أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} . واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ: (بِشِهابِ قَبَسٍ). بإضافةِ "الشهابِ" إلى "القَبَسِ"، وتركِ التنوينِ
(2)
، بمعنى: أو آتيكم بشُعلةِ نارٍ أقتبسُها منها.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأة أهلِ الكوفةِ: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوينِ "الشهابِ"، وتركِ إضافتِه إلى "القَبْسِ"
(3)
، يعنى: أو آتيكم بشهابٍ مقَتبَسٍ.
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأةِ الأمصارِ، متقاربتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وكان بعضُ نحويّى البصرة يقولُ: إذا جعلَ "القبسَ" بدلًا من "الشِّهابِ"، فالتنوينُ في "الشهابِ"، وإِنْ أضاف "الشهابَ" إلى "القبسِ"، لم ينوَّنِ "الشهابَ".
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(4)
: إذا أُضيف الشهابُ إلى القبسِ، فهو بمنزلةِ
(1)
الزند: هو العود الذي يقدح به النار. وأصلد زنده، أي: صوَّت ولم يخرج نارًا. التاج (ز ن د، ص ل د).
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 478.
(3)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(4)
هو الفراء، ينظر معاني القرآن 2/ 286.
قولِه: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109]. مما يضافُ إلى نفسِه إذا اختلَف اسماه ولفظاه، تَوَهُّمًا بالثانى أنه غيرُ الأَوَّلِ. قال: ومثلُه: حَبَّةُ الخضراءِ، وليلةُ القَمْراءِ، ويومُ الخميسِ، وما أشبَهَه.
وقال آخرُ منهم: إنْ كان "الشهابُ" هو "القَبَسَ" لم تجزِ الإضافةُ؛ لأنَّ "القَبَسَ" نعتٌ، ولا يُضافُ الاسمُ إلى نعتِه إلا في قليلٍ من الكلامِ، وقد جاء:{وَلَدَارُ الْآخِرَةُ} ، {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} [الأنعام: 32].
والصوابُ من القولِ في ذلك أنَّ "الشهابَ" إذا أُريدَ به أنه غيرُ "القبَسِ"، فالقراءةُ فيه بالإضافةِ؛ لأنَّ معنى الكلامِ حينئذٍ ما بَيَّنَا من أنه شُعْلَةُ قَبَسٍ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
في كَفَّهِ صَعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ
…
فيها سنانٌ كشُعْلَةِ القَبَسِ
وإذا أُريد بالشهابِ أنه هو "القبَسُ"، أو أنه نعتٌ له، فالصوابُ في "الشهابِ" التنوينُ؛ لأنَّ الصحيحَ في كلام العربِ تركُ إضافةِ الاسمِ إلى نعتِه، وإلى نفسِه، بل الإضافاتُ في كلامِها المعروفةُ
(2)
إضافةُ الشيءِ إلى غيرِ نفسِه، وغيرِ نعتِه.
وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . يقولُ: كي تصطَلوا بها من البردِ.
[كما حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: حدَّثنا عمرٌو، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السديِّ: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}. قال: من البردِ]
(3)
.
وقولُه: {فَلَمَّا جَاءَهَا} . يقولُ: فلما جاء موسى النارَ التي آنسَها، {نُودِيَ أَنْ
(1)
هو أبو زبيد الطائى، والبيت في شعره (مجموع) ص 105.
(2)
في م: "المعروف".
(3)
سقط من: م.
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 400، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2843، 2973 من طريق عمرو به.
بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}.
كما حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . يقولُ: قُدِّس
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بقولِه: {مَنْ فِي النَّارِ} ؛ فقال بعضُهم: عنى جل جلاله بذلك نفسَه، وهو الذي كان في النارِ، وكانت النارُ نُورَه تعالى ذِكرُه، في قولِ جماعةٍ من أهلِ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} : يعنى نفسَه. قال: كان نورُ ربِّ العالمين في الشجرةِ
(2)
.
حدَّثني إسماعيلُ بنُ الهيثمِ أبو العاليةِ العبديُّ، قال: ثنا أبو قُتيبةَ، عن ورقاءَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ في قولِ اللهِ:{بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . قال: ناداه وهو في النارِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ
(4)
، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن الحسنِ في قولِه:{نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال: هو النورُ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2845 من طريق أبي صالح به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2845 عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى ابن مردويه.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2846 من طريق ورقاء به، وعنده: ناداه وهو في النور. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى ابن المنذر.
(4)
بعده في ت 2: "قال: ثني حجاج".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 عن معمر به.
قال معمرٌ قال قتادةُ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . قال: نورُ اللهِ بُورك
(1)
.
قال: ثنا الحسينُ
(2)
، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال الحسنُ البصريُّ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بورِكَتِ النارُ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الأشْيبُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} : بورِكت النارُ. قال: كذلك قال ابن عباسٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . قال: بُورِكَتِ النارُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال مجاهدٌ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . قال: بورِكَتِ النارُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ سنانٍ القزَّازُ، قال: ثنا مكِّيُّ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا موسى، عن محمدِ بن كعبٍ في قولِه:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . قال: نورُ الرحمنِ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 عن معمر به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الحسن".
(3)
تفسير مجاهد ص 516، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2845، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
والنورُ هو اللهُ، سبحانَ اللهِ ربِّ العالمين
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى النارِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: معناه النورُ، كما ذكَرتُ عمن ذكَرتُ ذلك عنه.
وقال آخرون: معناه النارُ لا النورُ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ أنه قال: حِجابُ العزّةِ، وحجابُ الملكِ، وحجابُ السلطانِ، وحجابُ النارِ، وهى تلك النارُ التي نُودىَ منها. قال: وحجابُ النورِ، وحجابُ الغَمامِ، وحجابُ الماءِ
(2)
.
وإنما قيل: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} . ولم يقلْ: بُورك في من في النار. على لغةِ الذين يقولون: باركَك اللهُ. والعربُ تقولُ: باركَك اللهُ، وبارَك فيك.
وقولُه: {وَمَنْ حَوْلَهَا} . يقولُ: ومَن حولَ النارِ. وقيل: عنَى بمن حولَها الملائكةَ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2846 من طريق مكى بن إبراهيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 116 من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن مجبر، عن سعيد.
أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال: يعنى الملائكةَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن الحسنِ مثلَه
(2)
.
وقال آخرون: هو موسى والملائكةُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ القزَّازُ، قال: ثنا مكِّيُّ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا موسى، عن محمدِ بن كعبٍ:{وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال: موسى النبيُّ والملائكةُ. ثم قال: يا مُوسَى، إنى أنا اللهُ الْعَزِيزُ الحَكيمُ
(3)
.
وقولُه: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . [يقولُ: وتنزيهًا للهِ ربِّ العالمين]
(4)
مما يصفُه به الظالمون.
يقولُ تعالى ذِكرُه مخبرًا عن قيلِه لموسى: إنه أنا اللهُ العزيزُ في نقمتِه من أعدائِه، الحكيمُ في تدبيرِه في خلقِه.
والهاءُ التي في قولِه: {إِنَّهُ} هاءُ عمادٍ، وهو اسمٌ لا يظهرُ في قولِ بعضِ أهلِ العربيةِ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2846 من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى ابن مردويه.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 عن معمر عن الحسن.
(3)
تقدم تخريجه ص 11.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(5)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 287.
وكان بعضُ نحويِّى الكوفةِ يقولُ: هي الهاءُ المجهولةُ، ومعناها: إنَّ الأمرَ والشأنَ، أنا اللهُ.
وقولُه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} . وفى الكلامِ محذوفٌ تُرِك ذكرُه؛ استغناءً بما ذُكِر عما حُذِف، وهو: فألقاها، فصارت حيةً تهتزُّ، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ}. يقولُ: كأنها حيةٌ عظيمةٌ. والجانُّ جنسٌ من الحياتِ معروفٌ.
وقال ابن جُرَيْجٍ في ذلك ما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جُرَيجٍ: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} . قال: حينَ تحوَّلت حيةً تسعى
(1)
.
وهذا الجنسُ من الحياتِ عَنى الراجزُ بقولِه
(2)
:
يَرْفَعْنَ
(3)
باللَّيْلِ إِذَا مَا أَسْدَفا
(4)
أعناقَ جِنَّانٍ وَهامًا رُجَّفَا
وَعَنَقًا باقي
(5)
الرَّسِيمِ خَيْطَفا
وقولُه: {وَلَّى مُدْبِرًا} . يقولُ تعالى ذِكرُه: ولَّى موسى هاربًا خوفًا منها، {وَلَمْ يُعَقِّبْ}. يقولُ: ولم يرجِعْ من قولِهم: عَقَّب فلانٌ. إذا رجَع على عقِبهِ إلى حيثُ بدَأ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
هو حذيفة بن بدر الخطفى جد جرير بن عطية، والرجز في الحيوان 6/ 173، والبيان والتبيين 1/ 366، وخزانة الأدب 1/ 75.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"يرفلن".
(4)
في ص: "أسرفا"، وفى ت 1، ف:"أرجفا"، وفي ت 2:"أشرفا".
(5)
في م: "بعد".
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَمْ يُعَقِّبْ} . قال: لم يرجِعْ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: لم يلتفِتْ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} . قال: لم يرجِعْ
(3)
، لما ألقَى العصا صارت حيةً، فرُعِب منها وجزِع، فقال اللهُ:{إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} . قال: فلم يرعوِ لذلك. قال: فقال اللهُ له: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]. قال: فلم يقفْ أيضًا على شيءٍ من هذا حتى قال: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21]. قال: فالتفَت فإذا هي عصًا كما كانت، فرجَع فأخَذها، ثم قوِى بعدَ ذلك عليها
(4)
، حتى صار يُرسلُها على فرعونَ ويأخُذُها
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 516، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2848، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2848 من طريق سعيد، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 102 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
بعده في ص، م، ف:"يا موسى قال".
(4)
سقط من: م.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2849 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
وقوله: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} .
يقولُ تعالى ذكره: فناداه ربُّه: يا موسى، لا تَخَفْ مِن هذه الحيةِ، {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}. يقولُ: إنى لا يخافُ عندى رسلى وأنبيائى الذين أَخْتَصُّهم بالنبوةِ، إلا من ظلَم منهم، فعمِل بغيرِ الذي أُذِن له في العمل به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال قولَه:{يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} . قال: لا يُخيفُ اللهُ الأنبياءَ إلا بذنبٍ يُصِيبُه أحدُهم، فإنْ أصَابه أخافه يَأْخُذَه منه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو
(2)
عبدِ اللهِ الفَزاريُّ، عن عبدِ اللهِ بن المباركِ، عن أبي بكرٍ، عن الحسنِ، قال قولَه:{يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} . قال: إنى إنما أخَفْتُك لقتلِك النفسَ. قال: وقال الحسنُ: كانت الأنبياءُ تُذنِبُ فتُعاقَبُ، [ثم تُذنبُ واللهِ فتعاقَبُ]
(3)
.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ {إِلَّا} في هذا الموضعِ، وهو استثناءٌ، إِلَّا مع وعدِ اللهِ الغُفْرانَ المُسْتَثْنَى من قولِه:{إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} . [بقولِه: {فَإِنِّي]
(4)
غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وحكمُ الاستثناءِ أن يكونَ ما بعدَه بخلافِ معنى ما قبلَه، وذلك أن يكونَ ما بعدَه - إن كان ما قبلَه منفيًّا - مُثْبَتًا، كقولِه: ما قام إلا زيدٌ.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 146.
(2)
سقط من: م، وهو محمد بن عيينة الفزارى، ينظر تهذيب الكمال 26/ 264.
(3)
سقط من: م.
والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 161.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"يقول وإني".
فـ"زيدٌ" مثبَتٌ له القيامُ؛ لأنه مُسْتَثْنًى مما قبلَ "إلا"، وما قبلَ "إلا" منفيٌّ عنه القيامُ، و
(1)
أن يكونَ ما بعَده - إن كان ما قبلَه مثبَتًا - منفيًّا، كقولِهم: قام القومُ إلا زيدًا. فـ "زيدٌ" منفيٌّ عنه القيامُ، ومعناه: إن زيدًا لم يَقُمْ. والقومُ مثبَتٌ لهم القيامُ.
و
(1)
{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} ، فقد أمَّنه اللهُ بوعدِه الغفرانَ والرحمةَ، وأَدْخَله في عِدادِ مَن لا يَخافُ لديه من المرسَلين؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: أُدْخِلَت "إلا" في هذا الموضعِ؛ لأن "إلا" تَدْخُلُ في مثلِ هذا الكلامِ، كمثلِ قولِ العربِ: ما أشْتَكِى إلا خيرًا. فلم يَجْعَلْ قولَه: إلا خيرًا، على الشكوى، ولكنه علِم أنه إذا قال: ما أشْتَكِى شيئًا. أنه يَذْكُرُ عن نفسِه خيرًا، كأنه قال: ما أَذْكُرُ إلا خيرًا.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(2)
: يقولُ القائلُ: كيف صُيِّر خائفًا من ظلَم، ثم بَدَّل حسنًا بعدَ سوءٍ، وهو مغفورٌ له؟ فأقولُ له: في هذه الآيةِ وجهان؛ أحدُهما، أن يقولَ: إن الرسلَ معصومةٌ
(3)
، مغفورٌ لها، آمِنةٌ يومَ القيامةِ، ومَن خلَط عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا فهو يَخافُ ويَرْجو. فهذا وجه. والآخرُ، أن يجعل الاستثناءَ من الذين تُركوا في الكلمةِ؛ لأن المعنى: لا يخافُ لديَّ المُرْسَلون، إنما الخوفُ على مَن سِواهم. ثم اسْتَثْنَى فقال:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} . يقولُ: كان مُشْرِكًا فتابَ مِن الشِّرْكِ، وعمِل حُسْنًا، فذلك مغفورٌ له، وليس بخائفٍ
(4)
.
قال: وقد قال بعضُ النحويِّين
(5)
: إن "إلَّا" في اللغةِ بمنزلةِ "الواوِ"، وإنما معنى هذه الآيةِ: لا يخافُ لديَّ المُرسَلون، ولا مَن ظلَم ثم بدَّل حُسْنًا. قال:
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف.
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 287.
(3)
في ت 1، ت 2:"معصومون".
(4)
في ت 1، ت 2:"يخاف".
(5)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 60. وينظر ما تقدم في 2/ 688.
وجعَلوا مثلَه كقولِ اللهِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
(1)
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]. قال: ولم أجِدِ العربيةَ تَحتملُ ما قالوا؛ لأنى لا أجيزُ: قامَ الناسُ إلا عبدَ اللهِ، وعبدُ اللهِ قائمٌ، إنما معنى الاستثناءِ أن يخرجَ الاسمُ الذي بعدَ "إلا" من معنى الأسماءِ التي قبلَ "إلا"، وقد أراه جائزًا أن يقولَ: لى عليك ألفٌ سِوى ألفٍ آخرَ. فإن وضعتَ "إلا" في هذا الموضعِ صَلَحَت، وكانت "إلا" في تأويلِ ما قالوا، فأما مُجرَّدةً قد اسُتثْنِى قليلُها من كثيرِها فلا، ولكن مثلُه مما يكونُ معنى "إلا" كمعنى "الواوِ" وليست بها، قولُه:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] هو في المعنى: والذي شاء ربُّك مِن الزيادةِ. فلا تُجعَلُ "إلا" بمنزلةِ "الواوِ"، ولكن بمنزلةِ "سِوى"، فإذا كانت "سوى" في موضعِ "إِلَّا" صَلَحَت بمعنى "الواوِ"؛ لأنك تقولُ: عندى مالٌ كثيرٌ سوى هذا. أي: وهذا عندى. كأنك قلتَ: عندى مالٌ كثيرٌ، وهذا أيضًا عندى. وهو في "سِوى" أبعدُ منه في "إلا"؛ لأنك تقولُ: عندى سوى هذا. ولا تقولُ: عندى إلا هذا.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في قولِه: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ} . عندى غيرُ ما قاله هؤلاء الذين حكَينا قولَهِم مِن أهلِ العربيةِ، بل هو القولُ الذي قالَه الحسنُ البصريُّ وابنُ جُرَيجٍ، ومَن قال قولَهما؛ وهو أن قولَه:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} استثناءٌ صحيحٌ مِن قولِه: {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} . إلا مَن ظلَم منهم فأتَى ذَنْبًا، فإنه خائفٌ لدَيه مِن عُقُوبَتِه.
وقد بيَّن الحسنُ رحمه الله معنى قيلِ اللهِ موسى ذلك، وهو قولُه: قال: إنى إنما أَخَفْتُك لَقَتْلِك النفسَ.
(1)
في ص، ت 2:"ولا".
فإن قال قائلٌ: فما وجهُ قِيلِه إن كان قولُه: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} استثناءً صحيحًا، وخارجًا من عدادِ مَن لا يخافُ لديه مِن المرسلين؟ وكيف يكونُ خائفًا من كان قد وُعِد الغفرانَ والرحمةَ؟
قيل: إن قولَه: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} . كلامٌ آخرُ بعدَ الأَوَّلِ، وقد تناهَى الخبرُ عن الرسلِ ممَّن ظلَم منهم ومن لم يظلِمْ عندَ قولِه:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} . ثم ابتَدأ الخبرَ عمَّن ظلَم مِن الرسلِ، وسائرِ الناسِ غيرِهم. وقيل: فمَن ظلم ثم بدَّل حُسْنًا بعدَ سُوءٍ فإني له غفورٌ رحيمٌ.
فإن قال قائلٌ: فعلامَ تَعْطِفُ، إن كان الأمرُ كما قلتَ، بـ {ثُمَّ} ، إن لم يَكُنْ عطفًا على قولِه:{ظَلَمَ} ؟
قيل: على متروكٍ اسْتُغْنِى بدلالةِ قولِه: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} عليه عن
(1)
إظْهارِه، إذ كان قد جرَى قبلَ ذلك مِن الكلامِ نظيرُه، وهو: فمَن ظلَم مِن الخلقِ. وأما الذين ذكَرنا قولَهم مِن أهلِ العربيةِ، فقد قالوا على مذهبِ العربيةِ، غيرَ أنهم أغفَلوا معنى الكلمةِ، وحمَلوها على غيرِ وَجْهِها من التأويلِ، وإنما ينبغى أن يُحمَلَ الكلامُ على وجهِه مِن التأويلِ، ويُلْتَمَسَ له على ذلك الوجهِ للإعرابِ في الصحةِ، مَخْرَجٌ، لا على إحالةِ الكلمةِ عن معناها ووَجْهها الصحيحِ مِن التأويلِ.
وقولُه: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فمَن أتَى ظُلْمًا مِن خلقِ اللهِ، ورَكِب مأثمًا، {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا}. يقولُ: ثم تابَ مِن ظُلْمِه ذلك، وركوبِه المأثمَ، {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
(2)
}. يقولُ: فإني ساترٌ على ذنبِه وظلمِه ذلك،
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"و".
(2)
سقط من: م.
بعَفْوى عنه، وتركِي عقوبتَه عليه، رحيمٌ به أن أُعاقِبَه بعدَ تَبْديلِه الحُسْنَ بعده
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} : ثم تابَ مِن بعدِ إساءتِه، {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قِيلِه لنبيِّه موسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} . ذُكِر أنه تعالى ذكرُه أمَره أن يُدْخِلَ كفَّه في جيبِه، وإنما أمرَه بإدخالِه في جيبِه؛ لأن الذي كان عليه يومَئِذٍ مِدْرَعةٌ مِن صوفٍ؛ قال بعضُهم: لم يَكُنْ لها كُمٌّ. وقال بعضُهم: كان كُمُّها إلى بعضِ يَدِه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} . قال: الكَفُّ قطُّ
(3)
، {فِي جَيْبِكَ}. قال:
(1)
في م: "بضده".
(2)
تقدم تخريجه في ص 15.
(3)
في م: "فقط".
كانت مِدْرَعةٌ إلى بعضِ يَدِه، ولو كان لها كُمٌّ أَمَره أن يُدْخِلَ يَدَه في كُمِّه
(1)
.
قال: ثني حجاجٌ، عن يونسَ بن أبى إسحاقَ، عن أبيه، عن عمرِو بن ميمونٍ، قال: قال ابن مسعودٍ: إن موسى أتَى فرعونَ حينَ أتاه في زُرْمانِقَةٍ. يعنى: جُبَّةَ صوفٍ
(2)
.
وقولُه: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} . [يقولُ: تخرُجِ اليدُ بيضاءَ]
(3)
بغيرِ لون موسى، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}. يقولُ: مِن غير بَرَصٍ، {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}. يقولُ تعالى ذكرُه: أَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبك تخرُجْ بيضاءَ مِن غيرِ سُوءٍ، فهي آيةٌ في تسعِ آياتٍ، مُرْسَلٌ أنت بِهِنَّ [إلى فرعونَ. وتَرَك ذكرَ "مُرْسَلٍ"؛ لدلالةِ قولِه]
(3)
: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} . على أن ذلك معناه، كما قال الشاعرُ
(4)
:
رَأَتْنى بحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مَخافَةً
…
وفى الحبلِ رَوْعاءُ الفُؤادِ فَرُوقُ
ومعنى الكلامِ: رأتْنى مُقْبِلًا بحَبْلَيها. فتَرَك ذكرَ "مُقْبِلٍ"؛ استغناءً بمعرفةِ السامِعين معناه في ذلك، إذ قال: رأتْنى بحَبْليها. ونظائرُ ذلك في كلامِ العربِ كثيرةٌ.
والآياتُ التسعُ هُنَّ الآياتُ التي بَيَّنَّاهن فيما مَضَى
(5)
.
وقد حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} . قال: هي التي ذكَر اللهُ في القرآنِ؛ العصا، واليَدُ، والجرَادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والطُّوفانُ، والدَّمُ، والحَجَرُ، والطَّمْسُ الذي أصابَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2850 من طريق حجاج به.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 71.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
تقدم تخريجه في 5/ 684.
(5)
ينظر ما تقدم في 15/ 99 وما بعدها.
آل فرعونَ في أموالِهم
(1)
.
وقولُه: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} . يقول: إن فرعونَ وقومَه مِن القِبْطِ كانوا {قَوْمًا فَاسِقِينَ} . يعني: كافرِين باللهِ.
وقد بَيَّنَّا معنى "الفِسْقِ" فيما مضَى
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما جاءت فرعونَ وقومَه {آيَاتُنَا} . يعنى: أَدِلَّتُنا وحُجَجُنا، على حقيقةِ ما دَعاهم إليه موسى وصحتِه، وهى الآياتُ التسعُ التي ذكَرناها قبلُ.
وقولُه: {مُبْصِرَةً} . يقولُ: يُبْصِرُ بها مَن نظَر إليها ورَآها حقيقةَ ما دلَّت عليه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} . قال: بَيِّنَةً، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}. يقولُ: قال فرعونُ وقومُه: هذا الذي جاءَنا به موسى {سِحْرٌ مُبِينٌ} . يقولُ: يَبينُ [للنَّاظِرِ إليه]
(3)
أنه سِحْرٌ.
وقولُه: {وَجَحَدُوا بِهَا} . يقولُ: وكذَّبوا بالآياتِ التِّسْعِ أن تكونَ مِن عندِ اللهِ.
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 72.
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 434.
(3)
في م: "للناظرين له".
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{وَجَحَدُوا بِهَا} . قال: الجُحُودُ التكذيبُ بها.
وقولُه: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} . يقولُ: وأَيْقَنَتْها قلوبُهم، وعَلِموا يَقِينًا أنها مِن عندِ اللهِ، فعانَدوا بعدَ تَبَيُّنِهم
(1)
الحقَّ، ومعرفتِهم به.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ:{وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} . قال: يقينُهم في قلوبِهم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} . قال: اسْتَيْقَنوا أن الآياتِ مِنَ اللهِ حَقٌّ، فلِمَ جَحَدوا بها؟ قال:{ظُلْمًا وَعُلُوًّا}
(2)
.
وقولُه: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} . يعنى بالظُّلْمِ الاعتداءَ، والعُلُوِّ الكِبْرَ. كأنه قيل: اعتداءً وتَكَبُّرًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ في قولِه:{ظُلْمًا وَعُلُوًّا} . قال: تَعَظُّمًا واسْتِكْبارًا.
ومعنى ذلك: وجَحَدوا بالآياتِ التسعِ ظُلْمًا وعُلُوًّا، واسْتَيْقَنَتْها أنفسُهم أنها من عندِ اللهِ، فعانَدوا الحقَّ بعدَ وُضُوحِه لهم، فهو من المُؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ.
(1)
في ت 1، ت 2:"يقينهم".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2853 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
وقولُه: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فانظُرْ يا محمدُ بعَيْنِ قلبِك كيف كان عاقبةُ تكْذِيبِ هؤلاء الذين جحَدوا آياتِنا حينَ جاءتْهم مُبْصِرةً، وماذا حَلَّ بهم مِن إفْسادِهم في الأرضِ، ومعصيتِهم فيها ربَّهم، وأعْقَبَهم ما فعَلوا، فإن ذلك أخرَجهم من جناتٍ وعيونٍ، وزُرُوعٍ ومَقَامٍ كريمٍ، إلى هَلاكٍ في العاجلِ بالغَرَقِ، وفى الآجلِ إلى عذابٍ دائمٍ، {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75]. يقولُ: وكذلك يا محمدُ سُنَّتي في الذين كذَّبوا بما جئْتَهم به مِن الآياتِ، على حقيقةِ ما تَدْعُوهم إليه مِن الحقِّ مِن قومِك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد آتَينا داودَ وسليمانَ عِلْمًا. وذلك علمُ كلامِ الطيرِ والدَّوَابِّ، وغيرِ ذلك مما خَصَّهم اللهُ بعلمِه، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: وقال داودُ وسليمانُ: الحمدُ للهِ الذي فَضَّلَنا بما حَصَّنا به مِن العلمِ الذي آتاناه دونَ سائرِ خلقِه من بني آدمَ في زمانِنا هذا، على كثيرٍ من عبادِه المؤمنين به في دَهْرِنا هذا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وورِث سليمانُ أباه داودَ العلمَ الذي كان [اللهُ آتاه]
(1)
في حياتِه، والمُلْكَ الذي كان خَصَّه به على سائرِ قومِه، فجعَله له بعدَ أبيه داودَ دونَ سائرِ ولدِ أبيه، {وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} .
(1)
في م: "آتاه الله".
[يقولُ: وقال سليمانُ لقومِه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}]
(1)
. يعنى: فُهِّمْنا كلامَها، وجعَل ذلك من الطيرِ كمنطقِ الرجلِ مِن بني آدمَ، إذ فَهِمه عنها.
وقد حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدِ بن كعبٍ:{وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} . قال: بلَغنا أن سليمانَ كان عسكرُه مائةَ فرسخٍ؛ خمسةٌ وعشرون منها للإنسِ، وخمسةٌ وعشرون للجِنِّ، وخمسةٌ وعشرون للوَحْشِ، وخمسةٌ وعشرون للطيرِ، وكان له ألفُ بيتٍ مِن قَواريرَ على الخُشُبِ، فيها ثلاثُمائةِ صَريحةٍ، وسبعمائةِ سُرِّيَّةٍ، فأمَر الريحَ العاصفَ فرفَعتْه، وأمَر الرُّخاءَ فَسَيَّرتْه، فأوحَى اللهُ إليه وهو يسيرُ بيَن السماءِ والأرضِ: إنى قد زِدتُ
(2)
؛ أنه لا يتكلَّمُ أحدٌ من الخلائقِ بشيءٍ إلا جاءتِ الريحُ [فأخبَرتْك به]
(3)
.
وقولُه: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: وأُعْطِينا ووُهَبَ لنا من كُلِّ شيءٍ من الخيراتِ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} . يقولُ: إن هذا الذي أُوتِينا مِن الخيراتِ، لهو الفضلُ على جميعٍ أهلِ دَهْرِنا، {الْمُبِينُ}. يقولُ: الذي يَبِينُ لمَن تأمَّله وتَدبَّرَه أنه فضلٌ أُعْطِيناه على مَن سِوانا من الناسِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وجُمِع لسليمانَ جنودُه من الجنِّ والإنسِ والطيرِ في مَسِيرٍ
(1)
سقط من: ت 1، ف.
(2)
في م: "أردت". وبعده في مصدري التخريج: "في ملكك".
(3)
في ص، م، ت 2، ف:"فأخبرته".
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 487، وأخرجه الحاكم 2/ 589 من طريق حجاج به.
له فهم يُوزَعون.
واختَلف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فهم يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخِرِهم حتى يَجْتَمِعوا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ، قال: جُعِل على كلِّ صِنْفٍ وزَعَةٌ
(1)
، يَرُدُّ أُولَاها على أُخْراها؛ لئلا يَتَقدَّموا في المَسِيرِ، كما تصنعُ الملوكُ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال:[ثنا الحسينُ، قال]
(3)
: ثنا أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} . قال: يردُّ أوَّلُهم على آخرِهم
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فهم يُساقُون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} . قال: {يُوزَعُونَ} : يُساقُون
(5)
.
وقال آخرون: بل معناه: فهم يَتَقدَّمون.
(1)
في م: "من". والوزعة: جمع وازع، وهو الحابس العسكر الموكل بالصفوف، يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر. اللسان (و ز ع).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 104 إلى المصنف.
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 104 إلى عبد بن حميد.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 74.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ: {يُوزَعُونَ} : يتقدَّمون
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: يُرَدُّ أَوَّلُهم على آخِرهم. وذلك أن الوازِعَ في كلامِ العربِ هو الكافُّ، يقالُ منه: وَزَعَ فلانٌ فلانًا عن الظلمِ. إذا كَفَّه عنه، كما قال الشاعرُ
(2)
:
ألم يَزَعِ الهَوَى إِذْ لم يُؤَاتِ؟
…
بلى وسَلَوْتُ عن طَلَبِ الفَتاةِ
(3)
وقولُ الآخرِ
(4)
:
على حينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبَا
…
وقُلْتُ أَلَمَّا تصْحُ
(5)
والشَّيْبُ وَازِعُ
وإنما قيل للذين يدفَعون الناسَ عن الوُلاةِ والأمراءِ: وَزَعَةٌ. لِكَفِّهم إيَّاهم عنهم
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)} .
يعني تعالي ذكرُه بقولِه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} : حتى إِذا أَتَى سليمانُ وجنودُه على وادى النملِ، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2857 عن معمر به.
(2)
التبيان 8/ 75.
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"العتات"، وفى ت 2:"العتاب"، وفى التبيان:"العتاة".
(4)
هو النابغة الذبياني، والبيت في ديوانه ص 44.
(5)
في م: "أصح".
(6)
في ص، م، ت 1، ف:"عنه".
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}. يقولُ: لا يَكْسِرنَّكم ويَقْتُلَنَّكم سليمانُ وجنودُه، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. يقولُ: وهم لا يعلَمون أنهم يَحْطِمُونكم.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ ويحيى، قالا: ثنا سفيانُ، عن الأعْمشِ، عن رجلٍ يقالُ له: الحَكَمُ. عن نوفٍ في قولِه: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ} . قال: كان نملُ سليمانَ بن داودَ مثلَ الذِّئابِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فتبسَّم سليمانُ ضاحكًا من قولِ النملةِ التي قالت ما قالت، وقال:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} . يعنى بقولِه: {أَوْزِعْنِي} : أَلْهِمْنى.
وبنحوِ ذلك
(2)
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
تفسير سفيان ص 232، ومن طريقه البخارى في التاريخ الكبير 1/ 60، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2857 من طريق الأعمش به، وأخرجه البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان، عن الأعمش، عن الحكم قوله، وأخرجه عن وكيع، عن الأعمش، عن محمد بن الحكم، عن نوف، وعن عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن الوليد بن الحكم، عن نوف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 104 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
وقوله: مثل الذئاب. كان في المطبوعة: مثل الذباب. وهما روايتان كما ذكر السيوطي، وذكر ابن كثير في تفسيره 5/ 194 بلفظ: أمثال الذئاب. ثم قال: هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت، وإنما هو بالباء الموحدة، وذلك تصحيف.
(2)
في م، ت 2، ف:"الذي قلنا في ذلك"، وفى ت 1، ت 3:"الذي قلنا".
في قولِه: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} . يقولُ: اجْعَلْنى
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} . قال: في كلامِ العربِ، تقولُ: أوزَع فلانٌ بفلانٍ. يقولُ: حرَّضه عليه. وقال ابن زيدٍ: {أَوْزِعْنِي} : أَلْهِمْنى وحرِّضْنى على أن أَشْكُرَ نعمتَك التي أَنْعَمْتَ عليَّ وعلى والديَّ
(2)
.
وقولُه: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} . يقولُ: وأَوْزِعْنى أَن أَعْمَلَ بطاعتِك وما ترضاه، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}. يقولُ: وأَدْخِلْنى برحمتِك مع عبادِك الصالحين الذين اختَرتَهم لرسالتِك، وانتخَبتَهم لوَحْيِك. يقولُ: أَدْخِلْنى من الجنةِ مداخلهَم.
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} . قال: مع عبادِك الصالحين؛ الأنبياءِ والمؤمنين
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} .
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2858 من طريق أبي صالح به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2858 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"المؤمنون".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2859 من طريق أصبغ عن ابن زيد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 104 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(1)
يقولُ تعالى ذكرُه: وتفقَّدَ سليمانُ الطيرَ، فقال: ما لي لا أرَى الهُدْهُدَ؟ وكان سببُ تفقُّدِه الطيرَ وسؤالِه عن الهدهدِ خاصةً مِن بين الطيرِ ما حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ عِمرانَ، عن أبي مِجْلَزٍ، قال: جلَس ابن عباسٍ إلى عبدِ اللهِ بن سَلَامٍ، فسأَله عن الهدهدِ لم تفقَّده سليمانُ من بين الطيرِ؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: إن سليمانَ نزَل منزِلَةً في مسيرٍ له، فلم يَدْرِ ما بُعْدُ الماءِ، فقيل له: مَن يَعْلَمُ بُعْدَ الماءِ؟ قالوا: الهدهدُ. فذاك حينَ تفقَّده
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا عمرانُ بن حُدَيرٍ، عن أبي مجلزٍ، عن ابن عباسٍ وعبدِ اللهِ بن سلامٍ بنحوِه.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كان سليمانُ بن داودَ يُوضَعُ له ستُّمائةِ ألفِ
(2)
كرسيٍّ، ثم يجِيءُ أشرافُ الإنسِ فيَجْلسِون مما يليه، ثم تَجيءُ أشرافُ الجنِّ فيَجْلِسون مما يلى الإنسَ. قال: ثم يَدْعو الطيرَ فتُظِلُّهم، ثم يدعو الريحَ فتحمِلُهم. قال: فيسيرُ في الغَداةِ الواحدةِ مسيرةَ شهرٍ. قال: فبينا هو في مسيرِه إذ احتاج إلى الماءِ وهو في فلاةٍ من الأرضِ. قال: فدعا الهدهدَ، فجاءه فنقَر الأرضَ، فيُصيبُ موضعَ الماءِ. قال: ثم تجئُ الشياطينُ، فيَسْلَخونه كما يُسْلَخُ الإهابُ. قال: ثم يَسْتَخْرجون الماءَ. فقال له نافعُ بنُ الأزرقِ: [قِفْ يا وقَّافُ]
(3)
، أرأيتَ قولَك: الهدهدُ يَجِيءُ فيَنْقُرُ الأَرضَ فيُصِيبُ الماءَ. كيف يُبْصِرُ هذا ولا يُبْصِرُ الفخَّ يجئُ حتى يقَعَ في عنقِه! قال: فقال له ابن عباسٍ: ويحَك إن القدَرَ إِذا جاء حال دونَ البصرِ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 566، 567 من طريق عمران به مطولًا.
(2)
سقط من: النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
في تاريخ دمشق: "يا وصاف".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 536، والحاكم 2/ 405، وابن عساكر في تاريخه 22/ 266، 267 من طريق أبي معاوية به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2860 من طريق سعيد بن جبير به، وعزاه =
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: كان سليمانُ بنُ داودَ إِذا خرَج مِن بيتِه إلى مجلسِه عكَفت عليه الطيرُ، وقام له الجنُّ والإنسُ حتى يَجْلِسَ على سريرِه، حتى إذا كان ذاتَ غَداةٍ في بعضِ زمانِه، غدا إلى مجلسِه الذي كان يَجْلِسُ فيه، فتفَقَّد الطيرَ. وكان فيما يَزْعُمون يأتيه نُوَبًا، من كل صنفٍ مِن الطيرِ طائرٌ، فنظَر فرأى مِن أصنافِ الطيرِ كلِّها قد حضَره إلا الهدهدَ، فقال: ما لي لا أرى الهدهدَ
(1)
؟
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: أولُ ما فقَد سليمانُ الهدهدَ نزَل بوادٍ، فسأَل الإنسَ عن مائِه، فقالوا: ما نَعْلَمُ له ماءً، فإِن يَكُنْ أَحدٌ مِن جنودِك يَعْلَمُ له ماءً فالجنُّ. فدعا الجنَّ فسأَلهم، فقالوا: ما نَعْلَمُ له ماءً، وإن يَكُنْ أحدٌ من جنودِك يَعْلَمُ له ماءً فالطيرُ. فدعا الطيرَ فسأَلهم، فقالوا: ما نَعْلَمُ له ماءً، وإن يَكُنْ أحدٌ من جنودِك يَعْلَمُه فالهدهدُ. فلم يَجِدْه، قال: فذاك أول ما فقَد الهدهدَ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} . قال: تَفَقَّد الهدهدَ مِن أجلِ أنه كان يَدُلُّه على الماءِ إذا ركِب، وإن سليمانَ ركب ذاتَ يومٍ، فقال: أين الهدهدُ ليدُلَّنا على الماءِ؟ فلم يَجِدْه، فمن أجلِ ذلك تَفَقَّده، فقال ابن عباسٍ: إن الهدهدَ كان يَنْفَعُه الحذَرُ ما لم يَبْلُغ الأجلَ، فلما بلَغ الأجلَ لم يَنْفَعه الحذرُ، وحال القدَرُ دونَ البصرِ
(2)
.
= السيوطي في الدر المنثور 5/ 104 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2856 من طريق سلمة به إلى قوله: على سريره. مطولا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2859، والحاكم 2/ 405، وابن عساكر في تاريخه 22/ 267 من طريق عكرمة، عن ابن عباس بنحوه.
فقد اختلَف عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ والقائلون بقولِه، ووهبُ بنُ منبِّهٍ، فقال عبدُ اللهِ: كان سببُ تفقُّدِه الهدهدَ وسؤالِه عنه، ليَسْتَخبِرَه عن بُعدِ الماءِ في الوادى الذي نزَل به في مَسيرِه. وقال وهبُ بنُ منبِّهٍ: كان تَفَقُدُه إياه وسؤالُه عنه لإخلالِه بالنَّوْبةِ التي كان يَنُوبُها. واللهُ أعلمُ بأيِّ ذلك كان؛ إذ لم يأتِنا بأيِّ ذلك كان؛ في
(1)
تنزيلٍ، ولا خبرٍ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صحيحٍ. فالصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إن الله أخبَر عن سليمانَ أنه تَفَقَّد الطيرَ؛ إما للنَّوبةِ التي كانت عليها وأخلَّت بها، وإما لحاجةٍ كانت إليها عن بعدِ الماءِ.
وقولُه: {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} . يعنى بقولِه: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} : أخطأهُ بصرى، فلا أراه وقد حضَر، أم هو غائبٌ فيما غاب من سائرِ أجناسِ الخلقِ فلم يَحْضُرُ؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبِّهٍ:{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} : أخطأَه بصرى في الطيرِ، أم غاب فلم يَحْضُرْ
(2)
؟
وقولُه: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . يقولُ: فلما أُخْبِر سليمانُ عن الهدهدِ لم يَحْضُرْ، وأنه غائبٌ غيرُ شاهدٍ، أَقْسَم:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} .
وكان تَعذيبُه الطيرَ فيما ذُكِر عنه إذا عذَّبها، أن يَنْتِفَ رِيشَها.
(1)
سقط من: م.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 196.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا الحمّانيُّ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: نَتْفُ ريشِه
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن عطيَّةَ
(2)
، عن شريكٍ، عن عطاءٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} : عذابُه نَتْفُه وتَشْمِيسُه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: نَتْفُ ريشِه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: نتفُ ريشِه كلِّه
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: نَتْفُ ريشِ الهدهدِ. كلِّه، فلا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2862، والحاكم 2/ 405 من طريق الأعمش به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ت 2: "علية". وتقدم في 2/ 84، 86، 89، 3/ 746، 5/ 353.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 489، 490 من طريق عطاء بن السائب به السائب به مطولًا.
(4)
بعده في م ت 1، ت 3، ف:"وتشميسه".
(5)
تفسير مجاهد ص 518، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
يَعْفُو
(1)
سنةً.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن مَعْمرٍ، عن قتادةَ، قال: نتفُ ريشِه
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . يقولُ: نَتْفُ ريشِه
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثني ابن إسحاقَ، عن يزيدَ بن رُومانَ، أنه حدَّث أن عذابَه الذي كان يُعَذِّبُ به الطيرَ، نَتْفُ جناحِه
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قيل لبعضِ أهلِ العلمِ: هذا الذبحُ، فما العذابُ الشديدُ؟ قال: يَنْتِفُ ريشَه، يُتْركُه بِضْعَةً تنزو
(5)
.
حدَّثنا سعيدُ بنُ الربيعِ الرازيُّ، قال: ثنا سفيانُ، [عن عمرِو بن دينارٍ]
(6)
، عن ابن عباسٍ في قولِه:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال: نَتْفُه
(7)
.
حدَّثني سعيدُ بنُ الربيعِ، قال: ثنا سفيانُ]
(8)
، عن [حُصينٍ، عن ابن شدَّادٍ]
(9)
،
(1)
أي: ينمو ويكثر. ينظر التاج (ع ف و).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79 عن معمر به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2862 من طريق يزيد بن زريع عن قتادة، وسقط منه ذكر سعيد، وفيه زيادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2863 من طريق أبي معاذ به.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2862 من طريق سلمة به.
(5)
أي يتركه قطعة لحم تقفز، لا يستطيع الطيران.
(6)
في م: "بشار".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 80، عن سفيان به.
(8)
سقط من: ت 1، ف.
(9)
في النسخ: "حسين بن أبي شداد". وسيأتي على الصواب في الصفحة التالية، وكذا جاء في مصدرى التخريج. وينظر تهذيب الكمال 6/ 520.
قال: نتفُه وتشميسُه، {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ}. يقولُ: أو لأقتُلَنَّهُ
(1)
.
كما حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} . يقولُ: أو لأقتُلنَّه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عَبَّادُ بنُ العَوَّامِ، عن حُصَينٍ، عن عبدِ اللهِ بن شدادٍ:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} الآية. قال: فتَلَقَّاه الطيرُ فأخبَره، فقال: ألم يَسْتَثْنِ
(3)
؟
وقولُه: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . يقولُ: أو ليَأْتِينِّي بحجةٍ يَبِينُ لسامعِها صحتُها وحقيقتُها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليُّ بنُ الحسنِ
(4)
الأزديُّ، قال: ثنا المعافَى بنُ عمرانَ، عن سفيانَ، عن عمَّارِ الدُّهنيِّ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كلُّ سلطانٍ في القرآنِ فهو حجةٌ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . يقولُ: ببينةٍ أعذِرُه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 79، 80، عن سفيان به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2862 من طريق حصين به.
(2)
تقدم أوله في ص 34.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 536 - 538، وتفسير مجاهد ص 516 مطولا، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2863، من طريق حصين به بمعناه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى الفريابي وسعيد بن منصور.
(4)
في النسخ: "الحسين". وتقدم في 10/ 591، 12/ 354، 17/ 320.
(5)
تمام الأثر المتقدم في 17/ 320.
بها
(1)
، وهو مثلُ قولِه:{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 35].
يقولُ: بغيرِ بيِّنةٍ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن رجلٍ، عن عكرِمةَ، قال: كلُّ شيءٍ في القرآنِ سلطانٌ، فهو حجةٌ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ يَزِيدَ، عَن قَبَاثِ بن رَزِينٍ، أنه سمِع عكرمةَ يقولُ: سمِعتُ ابنَ عباسٍ يقولُ: كلُّ سلطانٍ في القرآنِ فهو حجةٌ، كان للهدهدِ سلطانٌ
(3)
!
حدَّثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . قال بعذرٍ بيِّنٍ
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبِّهٍ:{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . أي: بحجةٍ؛ عذرٍ له في غَيبتِه.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قولِه: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . يقولُ ببيِّنةٍ، وهو قولُ اللهِ:{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} : [غافر: 35] بغيرِ بيِّنةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . قال: بعذرٍ أعذِرُه فيه.
(1)
في ص، ت 2، ف:"لها".
(2)
تقدم تخريجه في 7/ 619.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2863 من طريق قباث به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 80 عن معمر به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} : فمكَث سليمانُ غير طويلٍ، من حينَ سأَل عن الهدهدِ، حتى جاء الهدهدُ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {فَمَكَثَ} ، فقرَأت ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ سوى عاصمٍ:(فَمَكُثَ) بضمِّ الكافِ. وقرأه عاصمٌ بفتحِها
(1)
. وكلتا القراءتينِ عندَنا صوابٌ؛ لأنهما لغتان مشهورتان، وإن كان الضمُّ فيها أعجبَ إليَّ؛ لأنها أشهرُ اللغتين وأفصحُهما.
وقولُه: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} . يقولُ: فقال الهدهدُ حينَ سأَله سليمانُ عن تخلُّفِه وغَيبته: أحطْتُ بعلمِ ما لم تُحِطْ به أنت يا سليمانُ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} . قال: ما لم تَعْلَمْ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبِّهٍ:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} : ثم جاء الهدهدُ، فقال له سليمانُ: ما خلَّفك عن نَوْبتِك؟ قال: أحَطْتُ بما لم تُحِطْ به.
وقولُه: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . يقولُ: وجئتُك مِن سبأِ بخبرٍ يقينٍ.
وهو ما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبِّهٍ:{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} : أي: أَدْرَكْتُ مُلْكًا لم يَبْلُغْه مُلْكُك.
(1)
ينظر السبعة لابن مجاهد ص 479، 480.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {مِنْ سَبَإ} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ: {مِنْ سَبَإٍ} بالإجراءِ
(1)
، لمعنى أنه رجلٌ اسمُه سبأٌ. وقرَأه بعضُ قرأَةِ أهلِ مكةَ والبصرةِ:(مِن سَبَأَ). بتركِ الإجراءِ
(2)
، على أنه اسمُ قبيلةٍ، أو لامرأةٍ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرأةِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ. والإجراءُ في "سبأ"، وغيرُ الإجراءِ صوابٌ؛ لأن "سبأ" إن كان رجلًا كما جاء به الأثرُ، فإنه إذا أريد به اسمُ الرجلِ أُجْرِى، وإن أريدَ به اسمُ القبيلةِ لم يُجْرَ، كما قال الشاعرُ في إجرائِه
(3)
:
الواردون وتَيْمٌ
(4)
في ذَرَا سبأ
…
قد عَضَّ أعناقَهم جِلْدُ الجواميسِ
يُروى: ذَرَا، وذُرَى.
وقد حُدِّثتُ عن الفرَّاءِ، عن الرؤاسيِّ، أنه سأَل أبا عمرِو بن العلاءِ: كيف لم تُجْرِ "سبأ"؟ قال: لستُ أدرى ما هو
(5)
.
فكأنَّ أبا عمرٍو ترَك إجراءَه إذ لم يَدْرِ ما هو، كما تَفْعَلُ العربُ بالأسماءِ المجهولةِ التي لا تعرِفُها، من تركِ الإجراءِ. حُكِى عن بعضِهم
(6)
: هذا أبو صُعرورَ
(7)
قد جاء. فترَك إجراءَه، إذ لم يَعْرِفُه في أسمائِهم. وإن كان "سبأ" جبلًا فأُجرِى؛ فلأنَّه يُرادُ به الجبلُ بعينِه، وإن لم يُجْرَ فلأنَّه يُجْعَلُ اسمًا للجبلِ وما حولَه من البقعةِ.
(1)
هي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وأبي جعفر ويعقوب وخلف. ينظر النشر 2/ 253.
(2)
هي قراءة ابن كثير في رواية البزى، وأبي عمرو، وروى قنبل عن ابن كثير إسكان الهمزة. المصدر السابق.
(3)
تقدم تخريجه في 14/ 244.
(4)
في ت 1، ت 2، ف:"هم". وينظر معاني القرآن للفراء 2/ 289.
(5)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 289.
(6)
هو أبو السفاح السلولي، حكاه عنه الفراء في معاني القرآن 2/ 290.
(7)
في النسخ: "معرور". والمثبت من معاني القرآن، قال الفراء: الصعرور: شبيه بالصمغ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ الهدهدِ لسليمانَ، مخبِرًا بعذرِه في مغيبِه عنه:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} . يعنى: تَمْلِكُ سبأً. وإنما صار هذا الخبرُ للهدهدِ عُذْرًا وحُجَّةً عندَ سليمانَ، ذرَأ به عنه ما كان أوعَدَه
(1)
به؛ لأن سليمانَ كان لا يرى أن في الأرضِ أحدًا له مملكةٌ معه، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلًا حُبِّب إليه الجهادُ والغزوُ، فلما دلَّه الهدهدُ على مُلْكٍ بموضعٍ مِن الأرضِ هو لغيرِه، وقومٍ كفرةٍ يعْبُدون غيرَ اللهِ، له في جهادِهم وغزوِهم الأجرُ الجزيلُ والثوابُ العظيمُ في الآجلِ، وضمُّ مملكةٍ لغيرِه إلى ملكِه - حُقَّت للهدهدِ المعذرةُ، وصحَّت له الحجةُ في مغَيبِه عن سليمانَ.
وقولُه: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: وأُوتيَت من كلِّ شيءٍ يُؤْتاه الملِكُ في عاجلِ الدنيا، مما يكونُ عندَهم من العتادِ والآلةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن أبي عُبَيدةَ الباجيِّ، عن الحسنِ قولَه:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} . يعنى: مِن كلِّ أمرِ الدنيا.
وقولُه: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . يقولُ: ولها كرسيٌّ عظيمٌ. وعَنَى بالعظيمِ
(1)
في م: "أوعد".
في هذا الموضعِ العظيمَ في قَدْرِه، وعِظَمَ خطرِه، لا عِظَمَه في الكِبَرِ والسَّعةِ.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . قال: سريرٌ كريمٌ. قال: حَسَنُ الصَّنعةِ، وعرشُها: سريرٌ من ذهبٍ، قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤٍ
(1)
.
قال: ثني حجاجٌ، عن أبي عُبَيدةَ الباجيِّ، عن الحسنِ قولَه:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . يعني: سريرٌ عظيمٌ.
وقولُه: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . يقولُ: وجَدتُ هذه المرأةَ مَلِكة سبأِ وقومَها من سبأِ، يَسْجُدون للشمسِ فيَعْبُدُونها من دونِ اللهِ.
وقولُه: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} . يقولُ: وحسَّن لهم إبليسُ عبادتَهم الشمسَ وسجودَهم لها من دونِ اللهِ، وحبَّب ذلك إليهم، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}. يقولُ: فمنَعهم بتزيينهِ ذلك لهم أن يَتَّبِعوا الطريقَ المستقيمَ، وهو دينُ اللهِ الذي بعَث به أنبياءَه، ومعناه: فصدَّهم
(2)
عن سبيلِ الحقِّ، {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}. يقولُ: فهم لما قد زَيَّن لهم الشيطانُ ما زيَّن؛ من السجودِ للشمسِ من دونِ الله والكفر به، لا يَهْتَدون لسبيلِ الحقِّ، ولا يَسْلُكونه، ولكنَّهم في ضلالِهم الذي هم فيه يتردَّدون.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 106 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في ت 1: "فصرفهم"، وفى ف:"فصيرهم".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} .
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ؛ فقرَأ بعضُ المكيِّين وبعضُ المدنيِّين والكوفيِّين: (ألَا) بالتخفيفِ
(1)
، بمعنى: ألَا يا هؤلاء اسجُدوا. فأضمَروا "هؤلاء" اكتفاءً بدلالةِ "يا" عليها.
وذكر بعضُهم
(2)
سماعًا من العربِ: ألَا يا ارْحَمْنَا، أَلَا يا تَصَدَّقْ علينا.
واستشهدَ أيضًا ببيتِ الأخطلِ
(3)
:
ألا يا اسْلَمي يا هندُ هندَ بنى بدرِ
…
وإن كان حيَّانا عِدًى آخِرَ الدهرِ
فعلى هذه القراءةِ، اسجُدوا في هذا الموضعِ جزمٌ، ولا موضع لقولِه:"ألَا" في الإعرابِ.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ والبصرةِ: {أَلَّا يَسْجُدُوا} بتشديدِ {أَلَّا}
(4)
، بمعنى: وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم لئلَّا يَسْجُدُوا اللهِ. {أَلَّا} في موضعِ نصبٍ، لما ذكَرتُ من معناه أنه "لئلا"، {يَسْجُدُوا} في موضعِ نصبٍ بـ"أن".
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان مُستفِيضَتان في قرأةِ الأمصارِ، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القَرَأةِ، مع صحةِ معنيَيْهما.
(1)
هي قراءة أبى جعفر والكسائي ورويس عن يعقوب. النشر 2/ 253.
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 290 وفيه: ألا يا ارحمانا، ألا يا تصدقا علينا. قال: يعنيني وزميلي.
(3)
شرح ديوانه ص 150.
(4)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة وروح وخلف. ينظر النشر 2/ 253.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ "يا" في قراءةِ من قرَأه على وجهِ الأمرِ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: من قرَأ ذلك كذلك، فكأنه جعله أمرًا، كأنه قال لهم: اسجُدوا. وزاد "يا" بينهما
(1)
التي تكونُ للتنبيهِ، ثم أَذْهَبَ أَلِفَ الوصلِ التي في "اسجدوا"، وأُذهِبت الألفُ التي في "يا" لأنها ساكنةٌ لقِيَت السينَ، فصارت "ألا يَسْجُدوا".
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: هذه "يا" التي تَدْخُلُ للنداءِ، يُكتَفى بها من الاسمِ، ويُكتَفى بالاسمِ منها، فتقولُ: يا أقبِلْ. و: زيدُ أقْبِلْ. وما سقَط من السواكنِ فعلى هذا.
ويعنى بقولِه: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} : يُخْرِجُ المخبوءَ، {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ من غيثٍ في السماءِ، ونباتٍ في الأرضِ، ونحوِ ذلك.
وبالذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختلَفت عبارتُهم
(2)
عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا ابن المبارَكِ، عن ابن جريجٍ، قراءةً عن مجاهدٍ:{يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} . قال: الغيثَ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يُخْرِجُ الْخَبْءَ} . قال: الغيثَ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: خبءُ السماءِ والأرضِ ما جعَل اللهُ
(1)
بعده في ص، ت 1، ف:"يا"، وبعده في ت 2:"فأما".
(2)
في ت 2: "عباراتهم".
(3)
تفسير مجاهد ص 518. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2868.
فيهما
(1)
من الأرزاقِ؛ والمطرُ من السماءِ، والنباتُ من الأرضِ، كانتا رَتْقًا؛ لا تُمطِرُ هذه، ولا تُنْبِتُ هذه، ففتَق السماءَ وأنزَل منها المطرَ، وأخرَج النباتَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ
(3)
، [قال: ثنا عيسى بنُ يونسَ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن حكيمِ بن جابرٍ]
(4)
في قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : يَعْلَمُ كلَّ خفيةٍ في السماواتِ والأرضِ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمارةَ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا أسامةُ بنُ زيدٍ، عن معاذِ بن عبدِ اللهِ، قال: رأَيتُ ابنَ عباسٍ على بغلةٍ يَسْأَلُ تبعًا ابنَ امرأةِ كعبٍ: هل سأَلتَ كعبًا عن البذرِ، تُنبِتُ الأرضُ العامَ لم يُصَبِ العامَ الآخَرَ؟ قال: سمِعتُ كعبًا يقولُ: البذرُ يَنزِلُ من السماءِ، ويَخْرُجُ من الأرضِ. قال: صدَقتَ
(6)
.
قال أبو جعفرٍ: إنما هو تُبَيعٌ، ولكن هكذا قال محمدٌ.
وقيل: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : [معناه يُخْرِجُ الحَبءَ مِن السماواتِ والأرضِ]
(7)
؛ لأن العربَ تَضَعُ "من" مكانَ "في"، و "في" مكانَ "من" في الاستخراجِ.
(1)
في م، وتفسير ابن أبي حاتم:"فيها"، وفي ت 1:"فيهن".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2868، 2869 من طريق أصبغ، عن ابن زيد إلى قوله: والنبات من الأرض.
(3)
بعده في ت 1: "قال حدثني حجاج".
(4)
في ت 2: "قال حدثني حجاج عن ابن جريج".
(5)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (749) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 106 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر، بلفظ: يخرج الخبء: المطر.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 275 (1476)، وأبو الشيخ في العظمة (717)، وابن عساكر في تاريخه 11/ 31، والمزى في تهذيب الكمال 4/ 315 من طريق أسامة بن زيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 165 إلى البيهقي في الأسماء والصفات.
(7)
سقط من: م.
{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} . يقولُ: ويَعْلَمُ السرَّ من أمورٍ خَلْقِه، هؤلاء الذين زيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم، والعلانيةَ منها. وذلك على قراءةِ من قرَأ {أَلَّا} بالتشديدِ. وأما على قراءةِ من قَرأه بالتخفيفِ فإن معناه: ويعلمُ ما يُسِرُّه خلقُه الذين أمَرَهم بالسجودِ بقولِه: ألَا يا هؤلاء اسجُدوا. وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ أُبَيٍّ: (أَلَا تَسْجُدون
(1)
للهِ الذي يَعْلَمُ سرَّكم وما تُعْلِنون)
(2)
.
وقولُه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: اللهُ الذي لا تَصْلُحُ العبادةُ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا معبودَ سواه تَصْلُحُ له العبادةُ، فأَخْلِصوا له العبادةَ، وأَفرِدوه بالطاعةِ، ولا تُشْرِكوا به شيئًا.
{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . يعنى بذلك: مالكُ العرشِ العظيمِ، الذي كلُّ عرشٍ وإن عظُم فدونَه، لا يُشبِهُه عرشُ مَلكةِ سبأٍ ولا غيرُه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} إلى قولِه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} : هذا كلُّه كلامُ الهدهدِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ بنحوِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال سليمانُ للهدهدِ: سنَنْظُرُ فيما اعتذَرتَ به من العذرِ، واحتجَجتَ به من الحجةِ لغَيبتِك عنا، وفيما جئْتَنا به من الخبرِ، {أَصَدَقْتَ} في
(1)
في م: "تسجدوا".
(2)
في معاني القرآن للفراء 2/ 290، وتفسير القرطبي 13/ 186، والبحر المحيط 7/ 68.
ذلك كلِّه، {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، فيه
{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} .
فاختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: اذهبْ بكتابي هذا، فألقِه إليهم، فانظُرْ ماذا يَرْجِعون، ثم تولَّ عنهم مُنصرِفًا إليَّ. فقال: هو من المؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: فأجابه سليمانُ؛ يعنى أجاب الهدهدَ لما فرَغ: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} . وانظُرْ ماذا يرجعون، ثم تولَّ عنهم منصرِفًا إليَّ. وقال: وكانت لها كَوَّةٌ مستقبلةٌ الشمسَ، ساعةَ تَطْلُعُ الشمسُ تَطْلُعُ فيها فتَسْجُدُ لها، فجاء الهدهدُ حتى وقَع فيها فسدَّها، واستَبْطَأتِ الشمسَ فقامت تَنْظُرُ، فرمَى بالصحيفةِ إليها من تحتِ جناحِه، وطار حتى قامت تَنْظُرُ الشمسِ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: فهذا القولُ من قولِ ابن زيدٍ يَدُلُّ على أن الهدهدَ تولَّى إلى سليمانَ راجعًا بعد إلقائِه الكتابَ، وأنَّ نظرَه إلى المرأةِ ما الذي تَرْجِعُ وتَفْعَلُ كان قبلَ إلقائِه كتابَ سليمانَ إليها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: اذهَبْ بكتابي هذا فأَلْقِه إليهم ثم تولَّ عنهم، فكنْ قريبًا منهم، وانظُرْ ماذا يَرْجِعون. قالوا: وفعَل الهدهدُ، وسمِع مراجعةَ المرأةِ أهلَ مملكتِها وقولَها لهم:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وما بعدَ ذلك من مراجعة بعضِهم بعضًا.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 158.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قولَه:{فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} . أي: كُنْ قريبا، {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}
(1)
.
وهذا القولُ أَشْبَهُ بتأويل الآية؛ لأن مراجعةَ المرأةِ قومها كانت بعد أن أُلقى إليها الكتاب، ولم يَكُن الهدهد ليَنْصَرِفَ وقد أمر بأن يَنْظُرَ إلى مراجعة [القوم بينهم ما يتراجعونه]
(2)
، قبل أن يَفْعَلَ ما أمره به سليمان.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} .
يقول تعالى ذكره: فذهَب الهدهدُ بكتاب سليمان إليها، فألقاه إليها، فلما قرأته قالت لقومها:{يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن مُنَبِّهٍ، قال: كتب [سليمانُ؛ يعنى]
(3)
مع الهدهد: بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان بن داود إلى بلقيس بنتِ ذى شرحٍ وقومها، أما بعد، فلا تَعْلُوا عليَّ، وأتونى مسلمين. قال
(4)
: فأخَذ الهدهد الكتاب برجله فانطلق به حتى أتاها،
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 191.
(2)
في ت 2: "المرأة وقومها فيما يتراجعون بينهم".
(3)
في م، ت 2، ف:"يعني سليمان بن داود".
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
وكانت لها كَوَّةٌ في بيتِها، إذا طلعت الشمس نظرت إليها فسجدت لها، فأتى الهدهدُ الكَوَّةَ فسدَّها بجناحَيْه، حتى ارتفعت الشمسُ ولم تَعْلَمْ، ثم أَلقَى الكتابَ من الكَوَّةِ، فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه فأخَذَتْه
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادةَ، قال: بلغنى
(2)
أنها امرأة يقال لها: بلقيس - أَحْسَبُه قَالَ: ابنةُ شَرَاحِيلَ - أحدُ أبويها من الجنِّ، مُؤَخَّرُ أحد قدميها كحافرِ الدابة، وكانت في بيت مملكة، وكان أولو مشورتها ثلاثمائةٍ واثنى عشر، كل رجل منهم على عشرة آلافٍ، وكانت بأرض يقال لها: مأرِب. من صنعاء على ثلاثة أيام، فلما جاء الهدهد بخبرها إلى سليمان بن داودَ، كتب الكتابَ وبعث به مع الهدهدِ، فجاء الهدهد وقد غلَّقت الأبواب، وكانت تُغَلِّقُ أبوابها وتضعُ مفاتيحها تحتَ رأسها، فجاء الهدهد فدخل من كَوَّةٍ، فألقَى الصحيفة عليها
(3)
فقرأتها، فإذا فيها:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} . وكذلك كانت تكتُب الأنبياء لا تُطْنِبُ، إنما تَكْتُبُ جَمْلًا
(4)
.
قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريج، قال: لم يَزِدْ سليمان على ما قصَّ الله في كتابه: [{إِنَّهُ]، {وَإِنَّهُ}
(5)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 158 مطولا.
(2)
في ت 2: "بلغها".
(3)
في ت 2: "إليها".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 80 عن معمر به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2870 من طريق سعيد عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 106 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في ت 1، ت 2، ف:"ايه وايه".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 106 إلى ابن المنذر.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيد، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} له فمضَى الهدهدُ بالكتاب حتى إذا حاذَى الملكةَ وهى على عرشها، ألقى إليها الكتاب
(1)
.
وقوله: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} والملاُ: أشراف قومها. يقول تعالى ذكرُه: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} .
واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم؛ فقال بعضُهم: وصفته بذلك لأنَّه كان مختومًا.
وقال آخرون: وصَفتْه بذلك لأنَّه كان من ملك، فوصفته بالكرم صاحبه. وممن قال ذلك ابن زيدٍ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} . قال: هو كتاب سليمانَ حيثُ كتب إليها.
وقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} كُسرت "إن" الأولى والثانية على الردِّ على {إِنِّي} من قوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} . ومعنى الكلامِ: قالت: يأيُّها الملأُ، إنى أُلقِي إليَّ [من سليمانَ، وإنه]
(2)
.
وقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} . يقولُ: أُلْقى إليَّ كتابٌ كريمٌ: أَلَّا تعلوا عليّ.
ففى "أنْ" وجهانِ من العربية؛ إن جُعِلت بدلًا من "الكتابِ"، كانت رفعا بما
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2870 من طريق أبي معاذ به.
(2)
في م: "كتاب وإنه من سليمان".
رفع
(1)
به "الكتاب"، و
(2)
بدلًا منه. وإن جعل معنى الكلامِ: إني أُلقى إليَّ كتابٌ كريمٌ ألَّا تعلوا عليّ. كانت نصبًا بتعلُّقِ "الكتاب" بها.
وعَنَى بقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} : ألَّا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه.
كما حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} : ألَّا تَمْتَنِعوا من الذي دعوتكم إليه، إن امتنعتم جاهدتكم، فقلت لابنِ زيدٍ:{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} أَلَّا تتكبَّروا عليَّ؟ قال: نعم
(3)
.
قال: وقال ابن زيد: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} : ذلك في كتاب سليمانَ إليها.
وقوله: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . يقولُ: وأَقْبِلوا إليَّ مُذعنين للَّه بالوحدانية والطاعة.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} .
يقول تعالى ذكرُه: قالت ملكة سبأ لأشرافِ قومِها: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} . تقولُ: أشيرُوا عليَّ في أمرى الذي قد
(4)
حضرني من أمر صاحب هذا الكتابِ الذي ألْقِيَ إليَّ. فجعلت المشورة فُتيا.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"وقع".
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2874 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
وقوله: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} : تقول: ما كُنْتُ قاضيةً أمرًا في ذلك حتى تَشْهَدونِ فَأُشاوِرَكم فيه.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ: دعت قومها فشاورتهم
(1)
: أيُّها المَلأُ {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} . فقال: في الكلام: ما كنتُ لأقطع أمرًا دونك، ولا كنتُ لأقضِىَ أمرًا. فلذلك قالت:{مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} بمعنى: قاضيةً.
وقوله: {قَالُوا نَحْنُ أَولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} . يقول تعالى ذكره: قال الملأُ من قوم ملكة سبأ إذ شاورتهم في أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو
(2)
القوة على القتال، والبأس الشديد في الحرب
(3)
، والأمر أيتها الملكةُ إليكِ في القتال وفي تركه، فانظُرِى من الرأي ما تَرَيْنَ، فَمُرِينا نَأْتِيرُ لأمرِكِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} : عرضوا لها القتال، يُقاتِلون لها، والأمرُ إليكِ بعد هذا، فانظُرِى ماذا تَأْمُرين
(4)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
(1)
في م، ت 1، ف:"تشاورهم".
(2)
في ت 1، ت 2:"ذو".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"الحروب".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2875 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
مجاهد، قال: كان مع ملكةِ سبأ اثنا عشر ألفَ قَيْوِلٍ
(1)
، مع كلِّ قَيْوِلٍ مائة ألفٍ
(2)
.
حدثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس، قال: كان مع بِلقيسَ مائة ألفِ قَيْلٍ، مع كلِّ قَيْلٍ مائة ألفٍ
(3)
.
قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمشُ، قال: سمعتُ مجاهدا يقولُ: كانت تحتَ يد ملكة سبأ اثنا عشر ألفَ قَيْوِلٍ - والقَيْوِلُ بلسانهم الملك - تحتَ يد كلِّ ملِك مائة ألف مقاتل.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} .
يقول تعالى ذكره: قالت صاحبة سبأ للملأ من قومها إذ عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمانَ، إن أمرتهم بذلك -:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} عَنْوَةً وغَلَبَةً {أَفْسَدُوهَا} . يقولُ: خَرَّبوها، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةٌ} ؛ وذلك باستعبادِهم الأحرار واسترقاقهم إياهم. وتناهى الخبرُ منها عن الملوكِ في هذا الموضع، فقال الله:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} . يقول تعالى ذكرُه: وكما قالت صاحبة سبأ، تَفْعَلُ الملوكُ إذا دخلوا قريةً عَنوَةً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
القَيْوِل: هو القيل: وهو الملك النافذ القول والأمر. النهاية 4/ 122.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2875 من طريق الأعمش به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 107 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2871 من طريق سفيان به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر في قوله: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَةً} .
قال أبو بكر: هذا عَنْوَةً.
حدثنا أبو هشام الرفاعيُّ، قال: ثنا أبو بكرٍ، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم، ابن عباس في قوله:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} . قال: إذا دخَلوها عَنْوَةً خَرَّبوها
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباس: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} . قال ابن عباس: يقولُ اللهُ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
(2)
.
ذكر أنها قالت:
إنى مرسلةٌ إلى سليمان. لتَخْتَبِرَه بذلك وتعرفَه به، أملكٌ هو أم نبيٌّ؟ وقالت: إن يَكُنْ نبيًّا لم يَقْبَلِ الهدية، ولم يُرْضِه منا إلا أن نَتَّبِعَه على دينه، وإن يَكُنْ مِلِكًا قَبِل الهدية وانصرَف.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2876 من طريق أبى هشام الرفاعى. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 107 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2877 من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قالت:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} . قال: وبَعثت إليه بوصائف ووُصفاءَ، وألبستهم لباسًا واحدا، حتى لا يُعْرَفُ ذَكرٌ من أنثى. فقالت: إن زَيَّل بينَهم حتى يَعرِفَ الذَّكَرَ مِن الأُنثى، ثم ردَّ الهدية فإنه نبيٌّ، وينبغي لنا أن نَتْرُكَ مُلْكَنا ونَتَّبِعَ دِينَه ونَلْحَقَ به
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قوله:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} . قال: بجَوَارٍ لِباسُهُنَّ لباسُ العِلمانِ، وغِلمانٍ لباسُهم لباسُ الجَواري
(2)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال قولها:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} . قال: مائتَيْ غلامٍ ومائتى جاريةٍ
(3)
.
قال ابن جُرَيجٍ، قال مجاهد قوله:{وبِهَدِيَّةٍ} . قال: جَوَارِ ألبَستهنَّ لباسَ الغِلْمَانِ، وغِلْمانٍ ألبستهم لباس الجوارى.
قال ابن جريج، قال: قالت: فإن خلَّص الجواريَ مِن الغلمان ورد الهديةَ، فإنه نبيٌّ، وينبغي لنا أن نَتَّبِعَه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2880 عن محمد بن سعد به.
(2)
تفسير مجاهد ص 518، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2877، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 160، والقرطبي في تفسيره 13/ 196 من قول مجاهد.
قال ابن جُرَيجٍ، قال مجاهدٌ: فخلَّص سليمان بعضهم من بعضٍ، ولم يَقْبَلْ هديَّتَها.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن ثابت البنانيِّ، قال: أهدَت له صفائحَ الذهب، في أوعية الدِّيباجِ، فلما بلغ ذلك سليمانَ، أمر الجنَّ فموّهوا له الآجرَّ بالذهبِ، ثم أمر به فأُلقى في الطريق، فلما جاءوا فرأوه مُلْقى، ما يُلْتَفتُ إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به
(1)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} الآية. وقالت: إن هذا الرجل إن كان إنما هِمَّتُه الدنيا فسنُرْضِيه، وإن كان إنما يُرِيدُ الدين، فلن يَقْبَلَ غيرَه:{وَإِنِّي مُرْسِلَةً إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .
حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: كانت بِلقيس امرأة لبيبةً أديبةً في بيتِ مُلْكٍ، لم [تَملكْ إلا لبقايا]
(2)
مَن مَضى من أهلها، إنه قد سيست وساست حتى أَحْكَمَها ذلك، وكان دينها ودين قومها - فيما ذُكِر - الزِّنديقيةَ، فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كُتُبِ الملوكِ التي كانت قبلها، فبعثت إلى المَقاوِلةِ من أهل اليمن، فقالت لهم:{يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} . إلى قوله: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} . ثم قالت: إنه قد جاءني كتابٌ لم يَأْتِنى مثلُه من مَلِكٍ من
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 81 عن معمر به، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2879، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 107، 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ت 1 ت 2: "يملك إلا البقايا".
الملوكِ قبلَه، فإن يَكُنِ الرجلُ نبيًّا مرسلًا، فلا طاقة لنا به ولا قوَّةَ، وإن يَكُنِ الرجلُ مَلِكًا يُكاثِرُ، فليس بأعزَّ منا ولا أعدَّ. فهيَّأت هدايا مما تُهدى للملوك مما يضنُّون
(1)
به، فقالت: إن يَكُنْ ملِكًا فسيقبلُ الهدية ويرغب في المالِ، وإن يَكُنْ نبيًّا فليس له في الدنيا حاجة، وليس إياها يُرِيدُ، إنما يُرِيدُ أن نَدْخُلَ معه في دينه، ونَتَّبِعَه على أمرِه. أو كما قالت
(2)
.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} : بَعَثَت بوصائف ووُصفاءَ، لباسهم لباس واحدٌ، فقالت: إن زَيَّل بينَهم حتى يَعرِفَ الذَّكَرَ من الأنثى، ثم ردَّ الهدية، فهو نبيٌّ، ويَنْبَغى لنا أن نَتَّبِعَه، ونَدْخُلَ في دينه. فزيَّل سليمان بين الغلمان والجوارى، وردَّ الهدية، فقال:{أَتَمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُم} .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ: كان في الهدايا التي بعَثت بها وصائفُ ووُصفاءُ يَخْتَلِفون في ثيابهم؛ ليميز الغلمان من الجوارى. قال: فدعا بماء، فجعل الجوارى يَتَوضَّأْنَ مِن المِرْفَقِ إلى أسفل، وجعَل الغلمانُ يَتَوَضَّئُون من المِرفَقِ إلى فوقَ. قال: وكان أبي يُحدِّثنا هذا الحديث.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا مروان بن معاويةَ، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالحٍ:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} . قال: أرسلت بلبنة من ذهبٍ، وقالت: إن
(1)
في ص، ت 2:"يصبون"، وفى م:"يفتنون"، وفى ت 1:"يصبنون". وينظر مصدر التخريج.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 90/ 2870، 2871، 2879، 2880 من طريق سلمة، عن يزيد بن رومان قوله.
كان يُرِيدُ الدنيا علِمْتُه، وإن كان يُرِيدُ الآخرة علِمْتُه
(1)
.
وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} : تقولُ: فَأَنْظُرُ بِأَيِّ شَيْءٍ مِن خبرِه وفِعلِه في هديتى التي أرسلها إليه يَرْجِعُ رُسُلى؟ أبقَبول وانصراف عنا، أم بردِّ الهديةِ والثباتِ على مطالبتنا باتباعه
(2)
على دينه؟
وأُسقطت الألفُ من "ما" في قولِه: {بِمَ} ، وأصله "بما"؛ لأنَّ العرب إذا كانت "ما" بمعنى:"أيٍّ" ثم وصَلوها بحرف خافضٍ، أسقطوا ألفَها؛ تفريقا بينَ الاستفهام [وغيرِه]
(3)
، كما قال جلّ ثناؤُه:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1}. و: {قَالُوا فيمَ كُنتُمْ} [النساء: 97]. وربما أثبَتوا فيها الألفَ، كما قال الشاعر
(4)
:
علامَا قام يَشْتُمُنا
(5)
لئيمٌ
…
كخِنزِيرٍ تَمَرَّغ في رمادِ
(6)
وقالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم} . وإنما أرسلت إلى سليمان وحده، على النحو الذي بينا في قوله:{عَلَى خَوْفٍ مِن فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ}
(7)
[يونس: 83].
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتَمِدُّونَنِ بِمَالٍ} . إن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} . فجعَل الخبر في مجيء سليمان عن واحد، وقد قال قبلَ ذلك:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ؟ فإن كان الرسول كان واحدًا، فكيف قيل:{بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ؟ وإن كانوا جماعةً، فكيف قيل: {فَلَمَّا جَاءَ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"علمت". والأثر أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 539، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2879 من طريق إسماعيل به بنحوه.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"واتباعه".
(3)
سقط من ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
هو حسان بن ثابت، والبيت في ديوانه ص 324، وفيه: ففيم يقول. بدلا من: علاما قام. قال البغدادي في الخزانة 6/ 102: وعليه لا شاهد فيه. ورواية المصنف هي رواية الفراء في معاني القرآن 2/ 292 عن المفضل.
(5)
في م: "يشتمني".
(6)
في م: "تراب".
(7)
ينظر ما تقدم في 12/ 246 - 250.
سُلَيْمَانَ}؟
قيل: هذا نظير ما قد بيَّنا قبل
(1)
من إظهار العرب الخبرَ في أمرٍ كان من واحدٍ، على وجه الخبر عن جماعةٍ، إذا لم يَقْصِد قَصْدَ الخبر عن شخص واحدٍ بعينه، مشارٍ إليه بعينه، فسُمِّي في الخبر. وقد قيل: إن الرسول الذي وجهته ملكة سبأ إلى سليمان، كان [امرأةً واحدةً]
(2)
، فلذلك قال:{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} . يُرادُ به: فلما جاء الرسول سليمانَ. واستدلَّ قائلو ذلك على صحة ما قالوا من ذلك بقول سليمانَ للرسول: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (فلما جاءوا سليمانَ) على الجمع
(3)
، وذلك للفظ قوله:{بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} . فصلح الجمعُ للفظ والتوحيد للمعنى.
وقوله: {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} . يقولُ: قال سليمان لما جاء الرسولُ مِن قِبَلِ المرأة بهداياها: أتمدُّونني بمالٍ؟
واختلفت القرأة في قراءةِ ذلك؛ فقرأه بعضُ قرأةِ أهل المدينة: (أتُمِدونَنِي) بنونين وإثباتِ الياء. وقرأه بعضُ الكوفيِّين مثل ذلك، غير أنه حذف الياءَ من آخِرِ ذلك، وكسر النونَ الأخيرةَ. وقرأه بعضُ قرأةِ البصرة بنونين وإثباتِ الياء في الوصلِ وحَذْفِها في الوقفِ. وقرأه بعضُ قرَأةِ الكوفة بتشديد النونِ وإثباتِ الياء
(4)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 332 - 335.
(2)
في م: "أمرًا واحدًا". وينظر معاني القرآن للفراء 2/ 293.
(3)
معاني القرآن للفراء 2/ 293، والبحر المحيط 7/ 74.
(4)
قرأ ابن كثير بنونين وإثبات الياء، وقرأ بحذف الياء مع إثبات النونين ابن عامر وعاصم والكسائي، وأثبت الياء في الوصل فقط مع إثبات النونين كل من نافع وأبي عمرو. وأما حمزة فقرأ بنون واحدة مشددة مع إثبات الياء. السبعة ص 482، والتيسير ص 138.
وكلُّ هذه القراءاتِ متقاربات، وجميعها صوابٌ؛ لأنها معروفة في لغاتِ العرب مشهورة في منطقها.
وقوله: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم} . يقولُ: فما آتَانِيَ اللَّهُ من المالِ والدنيا أكثر مما أعطاكم منها وأفضل.
{بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} . يقولُ: ما أفرح بهديتكم التي أَهْدَيْتُم إليَّ، بل أنتم تَفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم؛ لأنكم أهلُ مفاخرة بالدنيا ومكاثرةٍ بها، وليست الدنيا وأموالها من حاجتي؛ لأن الله تعالى ذكره قد مكَّنني منها، وملَّكنى فيها ما لم يُملك أحدًا.
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} . وهذا قول سليمان لرسول المرأةِ: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُم بِهَا} : لا طاقة لهم بها، ولا قدرةَ لهم على دَفْعِهم عما أرادوا منهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلمِ، عن والخيلُ وهبِ بن منبِّه، قال: لما أتتِ الهدايا سليمانَ، فيها الوصائفُ والوُصفاء، والخيل العِرابُ، وأصناف من أصناف الدنيا، قال للرسل الذين جاءوا به:{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)} ؛ لأنَّه لا حاجةَ لي بهديتكم، وليس رأيى فيه كرأيكم، فارجعوا إليها بما جئتم به من عندِها، {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُم بِهَا}
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2880، 2881 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان قوله.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميد، قال: ثنا مروان بن معاويةَ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:{فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا} . قال: لا طاقةَ لهم بها
(1)
.
وقوله: {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مَّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} . يقولُ: ولتُخرِجَنَّ مَن أرسَلكم، من أرضهم أذلةً وهم صاغرون، إن لم يأتونى مسلمين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن مُنَبِّه:{وَلَنُخْرِجَنَّهُم مَّنْهَا أَذِلَّةٌ وَهُمْ صَاغِرُونَ} : أو لتَأْتِيَنى مسلمة هي وقومُها
(2)
.
اختلف أهل العلم في الحينِ
(3)
الذي قال فيه سليمان: {يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2882 من طريق إسماعيل بن أبي خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2882 من طريق سلمة عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان من قوله.
(3)
في ت 2: "الجن".
بِعَرشِهَا}؛ فقال بعضُهم: قال ذلك حينَ أتاه الهدهد بنبأ صاحبةِ سبأ وقال له: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]. وأخبره أن لها عرضًا عظيما، فقال له سليمانُ عليه السلام:{سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]. فكان اختبارُه صِدْقَه من كذبه بأن قال لهم: أيكم يَأتيني بعرش هذه المرأةِ قبل أن يأتونى مسلمين؟ وقالوا: إنما كتَب سليمانُ الكتابَ مع الهدهد إلى المرأة بعد ما صحَّ عندَه صدق الهدهد بمجيء العالم بعرشها إليه، على ما وصفه به الهدهد. قالوا: ولولا ذلك كان مُحالًا أن يَكْتُبَ معه كتابًا إلى مَن لا يَدْرى؛ هل هو في الدنيا أم لا؟ قالوا: وأُخرى، أنه لو كان كتب مع الهدهدِ كتابًا إلى المرأة قبلَ مجئ عرشها إليه وقبل عليه صدق الهدهد بذلك، لم يَكُنْ لقوله له:{سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . معنًى؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ
(1)
بخبره الثاني، من إبلاغه إياها الكتابَ، أو ترك إبلاغه إياها ذلك - إلا نحو الذي علم بخبره الأولِ حينَ قال له:{وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . قالوا: وإذ
(2)
لم يكن في الكتاب معه
(3)
امتحانُ صدقه من كذبه، وكان محالًا أن يقول نبيُّ الله قولا لا معنى له، وقد قال له:{سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} - عُلم أن الذي امتحن به صدقَ الهدهد من كذبه، هو مصيرُ عرشِ المرأةِ إليه، على ما أخبره به الهدهد، الشاهد على صدقه، ثم كان الكتاب معه بعد ذلك إليها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
في م: "يلم".
(2)
في م: "إن".
(3)
في م: "معهم".
أبيه، عن ابن عباس، قال: إن سليمانَ أُوتى مُلكًا، وكان لا يعلم أن أحدًا أُوتِيَ مُلكًا غيرَه، فلما فقد الهدهد سأَله: من أين جئتَ؟ ووعده وعيدًا شديدا بالقتل والعذابِ، قال:{وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . قال له سليمان: ما هذا النبأ؟ قال الهدهدُ: {إنِّي وَجَدتُ امْرَأَةً} بسبأ {تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. فلما أخبَر الهدهد سليمان أنه وجد سلطانًا، أنكر أن يَكُونَ لأحدٍ في الأرض سلطان غيره، فقال لمن عنده من الجن والإنسِ:{يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)} . قال سليمان: أُريدُ أعجَلَ من ذلك. {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مَّنَ الْكِتَابِ} وهو رجل من الإنس عنده علم من الكتابِ فيه اسم الله الأكبرُ الذي إذا دُعِيَ به أجاب: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . فدعا بالاسم، وهو عنده قائمٌ، فاحتمل العرش احتمالا حتى وُضِع بين يدَى سليمانَ، والله صنَع ذلك، فلما أتى سليمان بالعرشِ وهم مشركون يَسْجُدون للشمس والقمر، أخبره الهدهد بذلك، فكتب معه كتابًا ثم بعثه إليهم، حتى إذا جاء الهدهد الملكة ألقى إليها الكتابَ {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} إلى:{وَأتُونِي مُسْلِمِينَ} . فقالت لقومها ما قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} . قال: وبعَثت إليه بوصائفَ ووُصفاءَ، وألبستهم لباسا واحدا، حتى لا يُعْرَفُ ذكر من أنثى، فقالت: إن زَيَّل بينَهم حتى يَعْرِفَ الذكر من الأنثى، ثم ردَّ الهدية، فإنه نبى، ويَنْبَغى لنا أن نَتْرُكَ مُلْكَنا ونَتَّبِعَ دينَه ونَلْحَقَ به. فردَّ سليمان الهدية وزيَّل بينَهم، فقال: هؤلاء غِلمان، وهؤلاء جَوَارٍ. وقال:{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}
إلى آخر الآية
(1)
.
حدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُم} الآية. قال: فأنكر سليمان أن يكونَ لأحدٍ على الأرض سلطانٌ غيره، قال لمن حوله من الجن والإنس:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرشِهَا} الآية.
وقال آخرون: بل إنما اختبر صدق الهدهد سليمان بالكتاب، وإنما سأَل مَن عنده إحضاره عرشَ المرأةِ بعدما خرجت رسلُها من عنده، وبعد أن أقبلت المرأة إليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبِّهٍ قال: لما رجعت إليها الرسلُ بما قال سليمان، قالت: قد واللهِ عرَفتُ، ما هذا يملك، وما لنا به طاقةٌ، وما نَصْنَعُ بمكاثرتِه شيئًا. وبعثت إليه: إني قادمةٌ عليك بملوك قومى حتى أَنْظُرَ ما أمرُك، وما تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بسرير مُلكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مُفَصَّصٍ بالياقوتِ والزَّبَرْجَدِ واللؤلؤ، فجُعِل في سبعة أبياتٍ، بعضُها في بعض، ثم أقفلت على
(2)
الأبواب، وكانت إنما تخدمُها النساءُ، معها ستُّمائةِ امرأة تخدمها، ثم قالت لمن خلَّفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك وسرير ملكى، فلا يَخْلُصْ إليه أحدٌ من عبادِ اللَّهِ، ولا يَرَيَنَّه حتى آتيَك. ثم شخَصت إلى سليمان في اثنى عشَرَ ألفَ قَيْل معها من ملوكِ اليمن، تحت يد كلِّ قَيْلٍ منهم أُلوفٌ كثيرةٌ، فجعل سليمانُ يَبْعَثُ الجنَّ فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كلّ يوم وليلةٍ، حتى إذا دنَت جمع من عنده من الجنِّ والإنسِ ممن تحت يده،
(1)
تقدم طرف منه في ص 53.
(2)
هكذا هو لفظ المصنف هنا وفى التاريخ، وفى م، وتفسير ابن أبي حاتم:"عليه".
(1)
.
وتأويل الكلامِ: قال سليمانُ لأشرافِ مَن حضره من جنده من الجنِّ والإنسِ: {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} . يعنى سريرها.
كما حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرشِهَا} . قال: سريرٌ في أريكةٍ
(2)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد، قال: عرشها: سرير في أريكة.
قال ابن جريج: سريرٌ من ذهب، قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلمِ، عن وهب بن منبه:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرشِهَا} : بسريرها.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} . قال: مجلسها
(3)
.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله خص سليمان مسألة الملأ من جنده إحضار عرش هذه المرأة من بين أملاكها قبل إسلامها؛ فقال بعضُهم: إنما فعَل ذلك لأنَّه أعجبه حين وصف له الهدهد صفته، وخشِى أن تُسْلِمَ فَيَحْرُمَ عليه مالها،
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 494، 495 مطولا، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2883 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قوله.
(2)
تفسير مجاهد ص 518 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2883، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2866، 2867 من طريق أصبغ، عن ابن زيد، عن أبيه.
فأراد أن يَأْخُذَ سريرَها ذلك قبلَ أَن يَحْرُمَ عليه أخذُه بإسلامِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: أخبرَ سليمان الهدهد أنها قد خرجت لتأتيه، وأُخبر بعرشها فأعجبه، كان من ذهبٍ، وقوائمه من جوهرٍ مُكلَّل باللؤلؤ، فعرف أنهم إن جاءوه مسلمين لم تَحِلَّ له
(1)
أموالهم، فقال للجنِّ:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)}
(2)
.
وقال آخرون: بل فعَل ذلك سليمانُ ليُعايِنَها
(3)
به، ويَخْتَبِرَ به عقلَها: هل تُثْبِتُه إذا رأته أم تُنكِرُه؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد: أعلم الله سليمان أنها ستَأْتِيه، فقال:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)} . حتى يعاينها]
(3)
، وكانت الملوك يتعاينون
(4)
بالعلم
(5)
.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: قبل أن يأتونى مستسلمين طَوعًا.
(1)
في م، ت 2:"لهم".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 81، 80 عن معمر به مطولًا، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2882، 2883 من طريق سعيد، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م، ت 1، ت 2:"يعاتبها".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"يتعاتبون".
(5)
ينظر التبيان 8/ 85.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . يقولُ: طائعين
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قبل أن يأتونى مسلمين الإسلام الذي هو دينُ الله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)} : بحرمة الإسلامِ، فيمنعَهم وأموالهم. يعنى: الإسلام يمنعهم
(2)
.
قال أبو جعفر: وأَولَى الأقوال بالصوابِ في السبب الذي من أجله خصَّ سليمانُ بسؤالِه الملأ من جنده بإحضاره عرشَ هذه المرأةِ، دون سائرِ مُلْكِها عندنا؛ ليجعَلَ ذلك حجة عليها في نبوَّتِه، ويُعرِّفَها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلَّفته في بيتٍ في جوف أبياتٍ بعضُها في جوف بعض، مُغْلَقٍ مُقْفَل عليها
(3)
، فأخرجه ذلك كلِّه بغيرِ فتح أغلاق وأقفالٍ، حتى أوصله إلى وليِّه من خلقه وسلَّمه من إليه، فكان لها في ذلك أعظم حجةٍ على حقيقة ما دعاها إليه سليمان، وعلى صدقِ سليمان فيما أعلمها من نبوّته.
فأما الذي هو أولى التأويلين في قوله: {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . بتأويله،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 202.
(3)
في ت 1: "عليه".
قولُ ابن عباسٍ الذي ذكرناه قبلُ، من أن معناه: طائعين؛ لأن المرأة لم تأتِ سليمان إذ أتته مسلمةً، وإنما أسلمت بعدَ مَقْدَمِها عليه، وبعد محاورة جرت بينهما ومساءلة
(1)
.
وقوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مَّنَ الْجِنِّ} . يقول تعالى ذكره: قال رئيسٌ من الجنِّ، مارد قويٌّ. وللعرب فيه لغتان: عِفْرِيتٌ، وعِفرِيَةٌ؛ فمن قال: عِفْرِيَةٌ. جمعه عَفارِىَ، ومن قال: عِفْرِيتٌ. جمعه عَفَارِيتَ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهدٌ:{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} . قال: ماردٌ من الجنِّ، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}
(2)
.
حدثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة وغيره مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن بعضِ أصحابه:{قَالَ عِفْرِيتٌ} . قال: داهيةٌ
(3)
.
قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمانَ، عن
(1)
في ص، ت 1، ت: 2 "مسألة"، وفى ف:"مسلمة".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2884 من طريق حجاج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 81 عن معمر عن الكلبي.
شعيب الجبائيِّ
(1)
، قال: العِفريتُ الذي ذكره الله اسمه كوزن
(2)
.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أهل العلم:{قَالَ عِفْرِيتٌ} : اسمه كوزنُ
(3)
.
وقوله: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} . يقول: أنا أتيك بعرشها قبل أن تقومَ من مَقعَدِك هذا. وكان فيما ذُكر قاعدًا للقضاء بين الناس، فقال: أنا آتيك به قبلَ أن تقوم من مجلسك هذا الذي جلست فيه للحكم بين الناس. وذكر أنه كان يَقْعُدُ إلى انتصاف النهار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله
(4)
.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وغيره مثلَه. قال: وكان يَقضى، قال: قبل أن تَقومَ من مجلسك الذي تَقْضِى فيه
(5)
.
(1)
في م: "الجبئى".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"كودن".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2884 من طريق ابن جريج به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2884 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان وعنده: كوزي.
(4)
تفسير مجاهد ص 518، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2884، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 82 عن معمر به.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن مُنَبِّهٍ:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} : يعني مجلسه
(1)
.
وقوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} : على ما فيه من الجواهرِ، ولا أخونُ فيه.
وقد قيل: أمينٌ على فرج المرأة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس في قوله:{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} . يقولُ: قوي على حمله، أمين على فَرْج هذه
(2)
.
وقوله: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} . يقول جل ثناؤه: قال الذي عنده علم من كتاب الله، وكان رجلا فيما ذُكر من بني آدم، فقال بعضُهم: اسمُه بليخا
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن عَثْمةَ، قال: ثنا شعبةُ، عن بشرٍ، عن
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 76.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2885 من طريق أبي صالح به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 108 إلى ابن المنذر بنحوه.
(3)
في ت 1، والدر المنثور 5/ 109، وروح المعاني 9/ 205 "تمليخا"، وكذا في بعض نسخ القرطبي 13/ 205، وفى بعضها:"يمليخا"، وفى البحر المحيط 7/ 76:"مليخا". والمثبت موافق لتفسير ابن كثير 6/ 202.
قتادةَ في قوله: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مَّنَ الْكِتَابِ} . قال: كان اسمُه بليخًا
(1)
.
حدَّثنا يحيى بن داود الواسطيُّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ في قوله:{الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} : رجلٌ مِن الإِنسِ
(2)
.
حدثنا ابن عرفة، قال: ثنا مروان بن معاوية الفزارى، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قولِ اللَّهِ:{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ} ، قال: أنا أَنْظُرُ في كتاب ربِّي، ثم آتيك به {قبلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}. قال: فتكلَّم ذلك العالمُ بكلامٍ، دخل العرش تحتَ الأرضِ حتى خرج إليهم
(3)
.
حدثنا ابن عرفة، قال: ثني عمار
(4)
بن محمد، عن عثمان بن مطر، عن الزهرى، قال: دعا الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كلَّ شيءٍ، إلها واحدًا، لا إلهَ إلَّا أنت، ائتنى بعرشها. قال: فمثَل بين يديه
(5)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادةَ:{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: رجلٌ مِن بني آدمَ - أَحْسَبُه قال: من بنى
(1)
في ت 1، والدر المنثور:"تمليخا".
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 202، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2885 من طريق أبي أسامة به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2887 من طريق الحسن بن عرفة به، وأخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 180، وابن أبي شيبة 11/ 538 من طريق العلاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في م: "حماد". وينظر تهذيب الكمال 21/ 204.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2886 من طريق الحسن بن عرفة به.
إسرائيلَ - كان يَعْلَمُ اسمَ اللَّهِ الذي إذا دعى به أجاب
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قوله:{الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} . قال: الاسم الذي إذا دُعِى به أجاب، وهو: يا ذا الجلال والإكرام
(2)
.
حدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ: قال سليمان لمن حوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)} . فقال عِفريت: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} . قال سليمانُ: أُريدُ أعجَلَ من ذلك. فقال رجلٌ من الإنسِ {عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} . يعنى اسم الله الذي إذا دُعِى به أجاب
(3)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)} : لا آتيك بغيرِه. أقولُ: غيره؛ أُمَثِّلُه لك. قال: وخرج يومئذ رجلٌ عابد في جزيرة من
(4)
البحر، فلما سمع العفريت، قال:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . قال: ثم دعا باسم مِن أسماء الله، فإذا هو يُحمل بين عينيه
(5)
. وقرأ: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 82 في تفسيره عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2886 من طريق سعيد عن قتادة.
(2)
تفسير مجاهد ص 519 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2886، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 202.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(5)
في ت 1: "يديه".
فَضْلِ رَبِّي}. حتى بلَغ: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال رجلٌ من الإنس. قال: وقال مجاهد: {الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} علم اسم اللهِ.
وقال آخرون: الذي عنده علم من الكتاب كان آصَفَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قال عفريت لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)} . فزعموا أن سليمان بن داود قال: أَبْتَغِي أعجل من هذا. فقال أصَفُ بن برخيا - وكان صِدِّيقًا يَعْلَمُ الاسم الأعظم الذي إذا دُعِى الله به أجاب، وإذا سُئل به أَعْطَى -:{أَنَا} يا نبى الله {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}
(2)
.
وقوله: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: أنا آتيك به قبل أن يَصِلَ إليك من كان منك على مدِّ بصرِك
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى إبراهيمُ، قال: ثنا إسماعيل بن أبي
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 205 بنحوه.
(2)
أخرجه أوله ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2886 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، وأخرجه آخره في 9/ 2887 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق.
(3)
في م: "البصر".
خالد، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ:{قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . قال: من قبل أَن يَرْجِعَ إليك أقصى من ترى .. فذلك قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}
(1)
.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، قال: قال: غيرُ
(2)
قتادة: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} : قبل أن يَأْتيك الشخصُ من مدِّ البصرِ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من قبل أن يَبْلُغَ طرفُك مداه وغايته.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:{قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} : تمدُّ عينيك، فلا ينتهى طرفك إلى مداه حتى أُمَثِّلَه بين يديك. قال: ذلك أريدُ
(4)
.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عَثَّامٌ، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: أُخبرتُ أنه قال: ارفَعْ طَرْفَك من حيثُ يَجيءُ. فلم يَرْجِعْ إِليه طَرْفُه حتى وضَع العرش بين يديه
(5)
.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن عطاء، عن مجاهد في قوله:{قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . قال: مَدُّ بصره
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2888 من طريق إسماعيل بن أبي خالد به.
(2)
في ت 2: "عن".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 82 عن معمر، عن الكلبي.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2887 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 138، 539، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2888 من طريق إسماعيل به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى ابن المنذر.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2888 من طريق عطاء به مطولًا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{قبل أن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . قال: إذا مدَّ البصر حتى يُرَدَّ الطَّرْفُ خاسفًا
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:{قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . قال: إذا مدَّ البصر حتى يَحْسُرَ الطرفُ.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: قبل أن يَرْجِعَ إليك طرفك من أقصى أثرِه. وذلك أن معنى قوله: {يَرْتَدَّ إِلَيْكَ} : ترجع إليك، و
(2)
البصر إذا فتحت العين غير راجعٍ، بل إنما يمتد ماضيًا إلى أن يتناهى ما امتَدَّ نورُه. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله إنما أخبرنا عن قائل ذلك:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ} . لم يَكُنْ لنا أن نَقُولَ: [إنه قال]
(3)
: أنا آتيك به قبل أن يَرْتدَّ راجعا إليك طَرْفُك من عند منتهاه.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} . يقولُ: فلما رأى سليمانُ عرش ملكةِ سبأ مستقرا عنده.
وفي الكلام متروك استغنى بدَلالة ما ظهر عما تُرِك، وهو: فدعا اللَّهَ فأُتى به فلما رآه سليمان مستقرًا عندَه.
وذكر أن العالمَ دعا الله، فغار العرش في المكان الذي كان به، ثم نبَع من تحت الأرض بين يدى سليمانَ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2888 من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: ذكروا أن آصف بن بَرْخيا توضَّأ، ثم ركع ركعتين، ثم قال: يا نبيَّ اللهِ، امدُدْ عينيك حتى ينتهى طَرْفُك. فمدَّ سليمان عينيه يَنْظُرُ إليه نحو اليمنِ، ودعا أصفُ، فانخرق بالعرش مكانه الذي هو فيه، ثم نبع بين يَدَى سليمانَ، فلما رآه سليمان مستقرا عنده قال:{هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُونِى} الآية
(1)
.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نبع عرشُها من تحتِ الأرضِ
(2)
.
وقوله: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي} . يقول: هذا البصر والتمكُّن والملكُ والسلطانُ الذي أنا فيه، حتى حُمِل إليَّ عرشُ هذه في قدرِ ارتداد الطرف من مَأرِبَ إلى الشام - من فضل ربى الذي أفضَلَه عليَّ، وعطائه الذي جاد به عليَّ، {لِيَبْلُوَنِي}. يقولُ: ليَخْتَبِرَني ويمتحننى، أَأَشْكُرُ ذلك من فضله
(3)
عليَّ، أم أَكْفُرُ نعمته على بتركِ الشكر له.
وقد قيل: إن معناه: أأَشْكُرُ على عرش هذه المرأة إذ أُتيت به، أم أَكْفُرُ إذ رأيتُ من هو دوني في الدنيا أَعْلَمَ منى؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٌ، قال: أخبرني عطاء
(1)
جزء من أثر تقدم في ص 71.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2896، 2897 من طريق سعيد بن جبير به.
(3)
في م، ف:"فعله".
الخراسانيُّ، عن ابن عباس في قوله:{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} على السرير إذ أُتِيتُ به، {أَمْ أَكْفُرُ} إِذ رَأَيْتُ مَن هو دوني في الدنيا أَعْلَمَ منى
(1)
؟
وقوله: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} . يقولُ: ومَن شكر نعمة الله عليه، وفضله عليه، فإنما يَشْكُرُ طلب نفع نفسِه؛ لأنَّه ليس يَنْفَعُ بذلك غير نفسه؛ لأنَّه لا حاجة الله إلى أحد من خلقه، وإنما دعاهم إلى شكره تعريضًا منه لهم للنفع، لا لاجتلابٍ منه بشكرهم إياه نفعًا إلى نفسه، ولا دفعِ ضَرٍّ عنها.
{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} . يقولُ: ومَن كفر نعمه وإحسانه إليه وفضله عليه، لنفسه، ظلم، وحظَّها بخَس، والله غنيٌّ عن شكره، لا حاجة به إليه، لا يضرُّه كفرُ مَن كفر به من خلقه، كريمٌ، ومن كرمه إفضاله على مَن يَكْفُرُ نِعمَه ويَجْعَلُها وُصْلةٌ يَتَوَصَّلُ بها إلى معاصيه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)} .
يقول تعالى ذكره: قال سليمان لما أتَى عرشُ بِلْقِيسَ صاحبة سبأ، وقَدِمت هي عليه - لجندِه: غَيِّروا لهذه المرأة سريرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى المصنف وابن المنذر من قول ابن جريج.
قوله: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} . قال: غَيِّروا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس: فلما أتته {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} . قال: وتنكير العرش أنه زيد فيه ونقص
(2)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} . قال: غَيِّروه
(3)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ نحوه.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} . قال: مجلسها الذي تجلسُ فيه.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقول في قوله: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} : أمرهم أن يزيدوا فيه وينقُصوا منه.
وقوله: {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} . يقولُ: نَنْظُرْ أَتَعْقِلُ فَتُثْبِتَ عرشها أنه هو الذي لها؟ {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} . يقولُ: من الذين لا يعقلون، فلا تُثبتُ عرشها.
وقيل: إن سليمان إنما نكَّر لها عرشها وأمر بالصَّرْح أَن يُعْمَلَ لها؛ من أجل أنَّ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسير 2/ 82 عن معمر، عن قتادة بلفظ: نكرته أن يزاد فيه أو ينقص منه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 519، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2890.
الشياطين كانوا أخبروه أنه لا عقل لها، وأن رجلها كحافرِ حمارٍ، فأراد أن يَعْرِفَ صحة ما قيل له من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: {أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} قَالَ أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس:{نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} . قال: زِيد في عرشها ونُقص منه؛ ليَنْظُر إلى عقلها، فوجدت ثابتةَ العقل
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:{نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} : أَتَعْرِفُه؟
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قوله:{نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} . قال: تَعْرِفُهُ
(2)
؟
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبِّهٍ:{أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} أَي: أَتَعْقِلُ أَم تَكونُ من الذين لا يعقلون؟ ففعل ذلك ليَنْظُرَ أَتَعْرِفُه أم لا تَعْرِفُه؟
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2890 عن محمد بن سعد به بنحوه.
(2)
تفسير مجاهد ص 519.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2891 من طريق سلمة عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان من قوله.
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)} .
يقول تعالى ذكره: فلما جاءت صاحبة سبأ سليمان أخرج لها عرشها، فقال لها:{أَهَكَذَا عَرْشُكِ} ؟ قالت وشبَّهته به: {كَأَنَّهُ هُوَ} .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبهٍ، قال: لما انتهت إلى سليمان وكلَّمته أخرج لها عرشها، ثم قال:{أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة:{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} . قال: شبهته، وكانت قد تركته خلفها
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ: كان أبى يُحَدِّثُنا هذا الحديث كله، يعنى حديث سليمان وهذه المرأة:{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} : شكَّت.
وقوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} . يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل سليمان:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 19/ 2891 من طريق سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان قوله.
(2)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 82 في تفسيره عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2892 من طريق سعيد عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
وقال سليمانُ: وأوتينا العلم - من قبل هذه المرأة - بالله، وبقدرته على ما يشاءُ، وكنا مسلمين لله من قبلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} . قال: سليمان يقولُه
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} .
يقول تعالى ذكره: ومنع هذه المرأة صاحبة سبأ ما كانت تعبد من دونِ اللهِ، وذلك عبادتها الشمس، أن تَعْبُدَ الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
تفسير مجاهد ص 519، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2892.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: كفرُها بقضاء اللَّهِ غير الوثن
(1)
، أن تهتدى للحق
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد:{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال: كفرها بقضاء الله صدَّها أن تهتدى للحقِّ.
ولو قيل: معنى ذلك: وصدّها سليمانُ ما كانت تعبدُ مِن دونِ اللهِ. بمعنى: منعها وحال بينها وبينه كان وجهًا حسنًا. ولو قيل أيضًا: وصدَّها الله ذلك بتوفيقها للإسلام. كان أيضًا وجها صحيحًا.
وقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} . يقول: إن هذه المرأة كانت كافرةً من قوم كافرين.
وكُسرت الألفُ من قوله: {إِنَّهَا} على الابتداءِ.
ومن تأول قوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} التأويل الذي تأوَّلنا، كانت {مَا} من قوله:{مَا كَانَتْ تَعْبُدُ} . في موضع رفع بـ "الصد"؛ لأن المعنى فيه: لم يَصدُّها عن عبادة الله جهلُها وأنها لا تَعقِلُ، إنما صَدَّها عن عبادةِ اللَّهِ عبادتُها الشمس والقمر، وكان ذلك من دين قومها وآبائها، فاتبعت فيه آثارهم. ومَن تأوَّله على الوجهين الآخرين، كانت {مَا} في موضع نصب.
القول في تأويل قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ
(1)
بعده في تفسير مجاهد: "صدها".
(2)
تفسير مجاهد ص 519، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2892.
سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}.
ذُكر أن سليمان لما أقبلت
(1)
صاحبةُ سبأ تريدُه، أمر الشياطين
(2)
فبنوا له صَرْحًا، وهو كهيئة السطح، من قوارير، وأجرى من تحته الماء؛ ليختبر عقلها بذلك وفهمها، على نحو الذي كانت فعلت هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاءَ، ليميز بين الذكور منهم والإناث، معاتبةً بذلك كذلك.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبِّهٍ، قال: أمر سليمانُ بالصَّرح، وقد عملته له الشياطينُ من زجاجٍ كأنه الماء بياضًا، ثم أرسل الماء تحته، ثم وُضع له فيه سريره، فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجنُّ والإنسُ، ثم قال: ادخُلى الصرح. ليريها مُلكًا هو أعزُّ من ملكها، وسلطانًا هو أعظم من سلطانِها، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} لا تشكُّ أنه ماءٌ تخوضه، قيل لها: ادخُلى، {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} . فلما وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة الله، وعابها في عبادتها الشمس من
(3)
دونِ اللهِ، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجدًا إعظامًا لما قالت، وسجد معه الناسُ، وسُقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع سليمان رأسه قال: ويحك، ماذا قلت؟ قال: وأُنسِيَتْ ما قالت، فقالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وأسلمت فحسُن إسلامها
(4)
.
وقيل: إن سليمان إنما أمر ببناء الصَّرْح على ما وصفه الله؛ لأن الجنَّ خافت من سليمان أن يتزوَّجها، فأرادوا أن يُزَهِّدوه فيها، فقالوا: إن رِجلَها رجلُ حمارٍ، وإن
(1)
بعده في ت 2: "عليه".
(2)
في ت 2: "الشيطان".
(3)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 205.
أمَّها كانت من الجنِّ. فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجنُّ من ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةٌ
(1)
، عن أبي معشرٍ، عن محمد بن كعبٍ القُرظيِّ، قال: قالت الجنُّ لسليمانَ تزهِّدُه في بلقيس: إن رِجلَها رِجلُ حمارٍ، وإن أمَّها كانت من الجنِّ. فأمر سليمانُ بالصرح فعُمل، فسجن فيه دوابَّ البحر؛ الحيتان والضفادع، فلما بصُرَت بالصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابًا يقتلُنى به إلا الغرق؟ فَحَسِبَتْهُ لُجَّةً، وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها. قال: فإذا
(2)
أحسنُ الناس ساقًا وقدمًا. قال: فضنَّ
(3)
سليمانُ بساقها عن الموسى. قال: فاتُّخِذَت النُّورَةُ
(4)
بذلك السبب
(5)
.
وجائزٌ عندى أن يكون سليمانُ أمر باتخاذ الصرح للأمرين؛ الذي قاله وهبٌ، والذي قاله محمدُ بن كعب القُرَظيُّ؛ ليختبر عقلها، وينظر إلى ساقها وقدمها، ليعرف
(6)
صحة ما قيل له فيها.
وكان مجاهدٌ يقولُ فيما ذُكر عنه في معنى "الصرح"، ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{الصَّرْحَ} . قال: بركةً من ماءٍ، ضرب عليها سليمانُ قوارير؛ ألبَسَها. قال: وكانت بِلْقِيسُ هَلْباءَ
(7)
شَعْراءَ، قدمُها كحافرِ الحمار، وكانت أمها جنِّيَّةٌ
(8)
.
(1)
بعده في ت 1: "عن ابن إسحاق".
(2)
بعده في ت 1: "هي".
(3)
في ص، ت 1:"فظن".
(4)
النورة: أخلاط من أملاح الكالسيوم والباريون، تستعمل لإزالة الشعر. الوسيط (ن و ر).
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 204.
(6)
في ص: "ليتعرف".
(7)
الهلباء: كثيرة الشعر. اللسان (هـ ل ب).
(8)
تفسير مجاهد ص 519، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2893، وأخرجه ابن أبي شيبة =
حدَّثني أحمد بن الوليدِ الرَّمْلِيُّ، قال: ثنى هشامُ بنُ عمارٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، عن النضر بن أنسٍ، عن بشرِ بن نَهيكٍ، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان أحَدُ أَبَوَى صاحبةِ سَبأَ جِنِّيًّا"
(1)
.
قال: ثنا صفوانُ بن صالحٍ، قال: ثنى الوليدُ، عن سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، عن بشير بن نهيكٍ، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر النضر بن أنسٍ
(2)
.
وقوله: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} . يقولُ: فلما رأت المرأةُ الصَّرْحَ حسبته - لبياضه واضطراب دوابِّ الماءِ تحته - لجة بحرٍ، وكشَفَت عن ساقيها؛ لتخوضه إلى سليمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة:{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} . قال: وكان من قوارير، وكان الماءُ من خلفه، فحسبته لجةً
(3)
.
= 11/ 139، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2894، 2895 من طرق عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى الفريابى وابن حميد وابن المنذر.
(1)
أخرجه ابن عدى 3/ 1209 من طريق هشام بن عمار به.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1108) من طريق سعيد بن بشير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 105 إلى ابن مردويه وابن عساكر، وهو في تاريخ ابن عساكر 69/ 67 بدون إسناد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 82 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2893 من طريق سعيد، عن قتادة نحوه.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ قولَه:{حَسِبَتْهُ لُجَّةً} . قال: بحرًا.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا ابن سواءٍ
(1)
، قال: ثنا روحُ بنُ القاسمِ، عن عطاءِ بن السائب، عن مجاهدٍ في قوله:{وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} : فإذا هما شعراوان، فقال: ألا شيءَ يُذْهب هذا؟ قالوا: الموسَى. قال: لا، الموسَى له أثرٌ. فأمر بالنُّورَةِ فصنعت
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا حفصٌ، عن عمران بن سليمان، عن عكرمة وأبى صالحٍ، قالا: لما تزوَّج سليمانُ بِلقيس قالت له: لم تَمسَّنى حديدةٌ قطُّ. قال سليمانُ للشياطين: انظُروا ما يُذْهِبُ الشعرَ؟ قالوا: النُّورةُ. فكان أوّلَ من صنع النُّورة
(3)
.
وقوله: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال سليمانُ لها: إن هذا ليس ببحرٍ، {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ [مِنْ قَوَارِيرَ} ]
(4)
. يقول: إنما هو بناءٌ مبنيٌّ مُشيَّدٌ من قوارير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
(1)
في النسخ: "سوار"، والمثبت هو الصواب. ينظر تهذيب الكمال 25/ 328.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2896 من طريق زائدة، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس.
(3)
ذكره ابن عساكر 69/ 78 عن عكرمة وحده، وذكره البغوي في تفسيره 6/ 168، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 112 إلى ابن عساكر عن عكرمة وحده.
(4)
سقط من: ص، ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:[{قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ]
(1)
مُمَرَّدٌ}. قال: مُشَيَّدٌ.
وقوله: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} الآية. يقول تعالى ذكره: قالت المرأة صاحبة سبأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} في عبادتى الشمس، وسجودى لما دونَك، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ}. تقولُ: وانقدتُ مع سليمانَ، مُذعِنةً للَّهِ بالتوحيدِ، مُفرِدةً له بالألوهة والربوبية، دون كلِّ من سواه.
وكان ابن زيد يقولُ في ذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} . {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} : فعرفت أنها قد غُلبت، فقالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)} .
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا بأن
(2)
اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}. يقولُ: فلما أتاهم صالحٌ داعيًا لهم إلى الله، صار قومه من ثمود فيما دعاهم إليه فريقين يَخْتَصِمون؛ ففريقٌ مصدِّقٌ صالحًا مؤمنٌ به، وفريق مكذِّبٌ به، كافرٌ بما جاء به.
(1)
سقط من: م، ت 1، ف.
(2)
في م، ت 2:"أن".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} . قال: مؤمنٌ وكافرٌ؛ قولهم: صالحٌ مُرسَلٌ. وقولُهم: صالحٌ ليس بمُرسَلٍ، ويعنى بقوله:{يَخْتَصِمُونَ} : يختلفون
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} . قال: مؤمنٌ وكافرٌ
(1)
.
وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال صالحٌ لقومه: يا قوم، لأيِّ شيءٍ تستَعْجِلون بعذابِ اللهِ قبل الرحمةِ؟
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} . قال: السيئةُ العذابُ، {قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: قبل الرحمة
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 520، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2898، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
مجاهدٍ: {قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} . [قال: بالعذابِ]
(1)
، {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، قال: العافية
(2)
.
وقوله: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . يقول: هلَّا تتوبون إلى الله من كفركم، فيَغْفِرَ لكم ربكم عظيمَ جُرمِكم، ويصفح لكم عن عقوبته إياكم على ما قد أتيتُم من عظيم الخطيئة.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . يقول: ليرحمكم ربُّكم باستغفاركم إياه من كفركم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)} .
يقولُ تعالى ذكره: قالت ثمودُ لرسولها صالح: {طَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} . أي: تشاءمنا بك وبمن معك من أتباعنا، وزجَرْنا الطير، بأنا سيُصيبُنا [بك وبهم]
(3)
المكارهُ والمصائبُ. فأجابهم صالحٌ فقال لهم: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . أي: ما زجَرْتم من الطير لما يُصِيبُكم من المكاره عند الله علمُه، لا يُدْرَى أيُّ ذلك كائنٌ؛ أما تظنون من المصائب والمكاره، أم ما لا ترجُونه من العافية والرجاء والمحابِّ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2898 من طريق حجاج به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"بدونهم".
ذكر من قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . يقولُ: مصائبكم
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ عن قتادة قوله:{طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} : علمكم عندَ اللهِ
(2)
.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} . يقولُ: بل أنتم قوم تختبرون
(3)
، يختبِرُكم ربُّكم إذ أرسلنى إليكم؛ أَتُطيعونه فتعملون بما أمركم به، فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصُونه فتعملون
(4)
بخلافه فيحِلَّ بكم عقابُه؟
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)} .
يقول تعالى ذكره
(5)
: وكان في مدينة قوم
(6)
صالحٍ، وهى حجر ثمود، تسعةُ أنفسٍ يُفْسِدون في الأرضِ ولا يُصْلِحون. وكان إفسادُهم في الأرضِ كُفرهم بالله ومعصيتهم إياه، وإنما خصَّ الله جلَّ ثناؤُه هؤلاء التسعة الرهط بالخبر عنهم أنهم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2899 من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 112 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 82، 83 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2898 من طريق سعيد، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ت 1: "تخيرون"، وفى ت 2:"تخبرون".
(4)
في ت 2: "فتعلمون".
(5)
بعده في ت 2: "وكان في المدينة أي".
(6)
سقط من: م، ت 1، ف.
كانوا يُفسدون في الأرضِ ولا يُصْلِحون، وإن كان أهلُ الكفرِ كلُّهم [في الأرضِ]
(1)
مفسدين؛ لأن هؤلاء التسعة هم الذين سَعَوْا - فيما بلغنا - في عقر الناقة وتعاونوا
(2)
عليه، وتحالفوا على قتل صالحٍ من بين قومهم
(3)
ثمود. وقد ذكرنا قصصهم وأخبارهم فيما مضى من كتابنا هذا
(4)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{تِسْعَةُ رَهْطٍ} . قال: من قومِ صالحٍ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه:، عن ابن عباس قوله:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} : هم الذين عقروا الناقةَ، وقالوا حين عقروها: نُبَيِّتُ صالحًا وأهله فنقتُلُهم، ثم نقولُ لأولياء صالحٍ: ما شهدنا من هذا شيئًا، وما لنا به
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ف.
(2)
في ت 2: "فعاونوا".
(3)
في م، ت 1، ف:"قوم"، وفى ت 2:"قومه".
(4)
ينظر ما تقدم في 10/ 282 وما بعدها، 12/ 452 وما بعدها، 14/ 103 وما بعدها.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2900 من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 112 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
علمٌ. فدمَّرهم الله أجمعين
(1)
.
وقوله: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} . يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء التسعةُ الرهط الذين يُفْسِدون في أرضِ حِجْرِ ثمود ولا يُصلحون: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} : تحالفوا بالله: أيُّها القوم، ليحلف بعضُكم لبعضٍ: لنُبيِّتَنَّ
(2)
صالحًا وأهله فلنقتُلَنَّه، ثم لنقولَنَّ لوليِّه
(3)
: ما شهدْنا مَهْلِكَ أَهلِه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} . قال: تحالفوا على إهلاكه فلم يصلوا إليه، حتى هلكوا وقومُهم أجمعون
(4)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوه.
ويتوجه قوله: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} . إلى وجهين؛ أحدهما، النصب على وجه الخبر، كأنه قيل: قالوا مُتقاسمين. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2900، 2902 عن محمد بن سعد به.
(2)
في ت 2: "ليبيتن".
(3)
في ت:2 "لولى دمه".
(4)
تفسير مجاهد ص 520 من طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره، 9/ 2901، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 112 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
يُصْلِحون، تقاسموا بالله)
(1)
. وليس فيها {قَالُوا} . فذلك من قراءته يَدلُّ على وجه النصب في {تَقَاسَمُوا} ، على ما وصفتُ. والوجه الآخرُ، الجزم
(2)
. كأنهم قال بعضُهم لبعض: أَقسموا بالله. فعلى هذا الوجه الثاني تَصْلُحُ قراءة
(3)
: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالتاء والنونِ؛ لأن القائل لهم: تقاسموا. وإن كان هو الآمر، فهو في من أقسم، كما يقالُ في الكلام انهضوا بنا نَمضِ إلى فلانٍ. وانهضوا تمضُوا
(4)
إليه. وعلى الوجه الأول الذي هو وجهُ النصب، القراءة فيه بالنون أفصحُ؛ لأن معناه: قالوا متقاسمين: لَنُبَيِّتنَّه. وقد تجوز الياءُ على هذا الوجه، كما يقالُ في الكلام: قالوا: لنُكرِمَنَّ أباك، ولَيُكرِمُنَّ
(5)
أباك. وبالنونِ قرأ ذلك قرأةُ المدينة وعامة قرأةِ البصرة وبعضُ الكوفيِّين. وأما الأغلب على قرأةِ أهل الكوفة، فقراءتُه بالتاءِ وضمِّ التاءين جميعًا. وأما بعضُ المكيِّين فقرأه بالياء
(6)
.
وأعجبُ القراءاتِ في ذلك إليَّ النونُ؛ لأن ذلك أفصحُ الكلام على
(7)
الوجهين اللَّذين بيَّنتُ من النصب والجزم، وإن كان كل ذلك صحيحًا غير فاسدٍ؛ لما وصفتُ، وأكرهُها إليَّ [القراءة بها]
(8)
الياءُ؛ لقلة قارئ ذلك كذلك
(1)
معاني القرآن للفراء 2/ 296، وهى قراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(2)
في ت 2: "بجزم".
(3)
في ت 1، ت 2، ف:"قراءته".
(4)
في م: "نمضى"، وفى ت 1:"فمضوا"، وفى ف:"يمضوا".
(5)
في ص، ت 2:"لتكرمن".
(6)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالنون جميعا، وقرأ حمزة والكسائى:(لتبيتنه ثم لتقولن) بالتاء جميعا، وقرأ مجاهد:(ليبيتنه ثم ليقولن). وهذه الأخيرة شاذة. السبعة لابن مجاهد ص 483، ومختصر الشواذ لابن خالويه ص 111.
(7)
في ت 2: "في".
(8)
في ت 1: "قراءة".
وقوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} . قال: ليُبَيِّتُنَّ
(1)
صالحًا، ثم يَفْتِكوا
(2)
به.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: قال التسعةُ الذين عقروا الناقةَ: هلمَّ فلنَقْتُلْ صالحًا، فإن كان صادقًا - يعنى فيما وعدهم من العذابِ بعد الثلاثِ - عَجَّلْناه قبلَه، وإن كان كاذبًا، نكون قد ألحقناه بناقتِه. فأتوه ليلًا ليُبَيِّتوه في أهلِه، فدمغتهم
(3)
الملائكةُ بالحجارة، فلما أبطَئوا
(4)
على أصحابهم، أتوا منزِلَ صالحٍ، فوجدوهم مُشَدَّخين
(5)
قد رُضِخوا
(6)
بالحجارة
(7)
.
وقوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} : [نقولُ لوليِّه: إنا لصادِقون]
(8)
أنَّا ما شهدنا مَهْلِكَ أهلِه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)} .
يقولُ تعالى ذكره: وغدَر هؤلاء التسعةُ الرهط الذين يُفسدون في الأرض بصالح، بمصيرهم
(9)
إليه ليلًا ليقتلوه وأهله، وصالحٌ لا يَشْعُرُ بذلك، {وَمَكَرْنَا
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"لنبيتن".
(2)
قوله: يفتكوا. بحذف النون دون نصب أو جزم لغة معروفة صحيحة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا". قال الإمام النووى: "ولا تؤمنوا"، بحذف النون من آخره وهى لغة معروفة صحيحة. صحيح مسلم بشرح النووى 2/ 36.
(3)
يقال: دمغه دمغا، إذا أصاب دماغه فقتله. اللسان (د م غ).
(4)
في ت 2: "بطئوا".
(5)
في م، ف:"مشدوخين"، والشَّدْخُ: كسرك الشئ الأجوف كالرأس ونحوه. اللسان (ش د خ).
(6)
الرَّضْخ: كسر الرأس. اللسان (ر ض خ).
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2900 من طريق سلمة به.
(8)
سقط من: ت 2.
(9)
في ص، ت 1، ف:"لمصيرهم"، وفى ت 2:"لمصيرهم".
مَكْرًا}. يقولُ: فأَخَذْناهم بعقوبتِنا إياهم، وتعجيلنا للعذاب لهم، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بمكرنا.
وقد بيَّنا فيما مضى معنى مكْرِ الله بمن مكر به، وما وجهُ ذلك، وأنه أَخْذُه من أخذه منهم على غِرَّةٍ، أو استدراجه من استدرج منهم على كفره به ومعصيته إياه، ثم إحلاله العقوبة به على غِرَّةٍ وغفلةٍ
(1)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن رجلٍ، عن عليٍّ، قال: المكرُ غَدرُ، والغَدرُ كفرٌ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} . قال: احتالوا لأمرهم، واحتال الله لهم مكروا بصالح مكرًا، ومكرنا بهم مكرًا، وهم لا يشعرون بمكرنا، وشعرنا بمكرهم، قالوا: زعَم صالحٌ أنه يَفْرُغُ منا إلى ثلاثٍ، فنحن نَفْرُغُ منه وأهله قبل ثلاثٍ. وكان مسجدٌ له في الحجر في شِعْبٍ ثَمَّ يُصَلِّي فيه، فخرجوا إلى كهفٍ، وقالوا: إذا جاء يُصَلِّي قتَلْناه، ثم رجَعْنا إذا فرَغْنا منه إلى أهله ففرَغْنا منهم. وقرأ قولَ الله تبارك وتعالى:{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . فبعث الله صخرةً من الهَضْبِ
(2)
حِيالَهم، فخَشُوا أَن تَشْدَخَهم، فبادروا الغار
(3)
، فطَبَّقت
(4)
الصخرةُ عليهم فم ذلك الغارِ، فلا يَدْرِى قومُهم أين هم،
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 312 - 316.
(2)
الهضب: الجبل المنبسط ينبسط على الأرض، وقيل: هو الجبل الممتنع المنفرد. اللسان (هـ ض ب).
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(4)
طبَّق: غطى. اللسان (ط ب ق).
ولا يدرُون ما فُعِل بقومِهم، فعذَّب الله تبارك وتعالى هؤلاء ههنا، وهؤلاء ههنا، وأنجى الله صالحًا ومن معه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} . قال: فسلَّط الله عليهم صخرةً فقتلتهم
(2)
.
وقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} . يقول تعالى ذكره: فانظُر يا محمدُ بعين قلبك [إلى عاقبة غَدْرِ ثمود بنبيِّهم صالحٍ]
(3)
، كيف كانت؟ وما الذي أورثها اعتداؤُهم وطغيانهم وتكذيبهم؟ فإن ذلك سُنتُنا في من كذَّب رسلنا، وطغى علينا من سائر الخلقِ، فَحَذِّرْ قومك من قريشٍ أن ينالهم بتكذيبهم إياك ما نال ثمود بتكذيبهم صالحًا من المَثُلاتِ
(4)
.
وقوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} . يقولُ: أنا دمَّرنا التسعة الرهط الذين يُفسدون في الأرضِ من قومِ صالحٍ وقومهم من ثمود أجمعين، فلم تُبق منهم أحدًا.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {أَنَّا} ؛ فقرأ بكسرها عامةُ قرأَةِ الحجاز والبصرة على الابتداء، وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة:{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} . بفتح الألف
(5)
. وإذا فُتحت كان في {أَنَّا} وجهان من الإعراب؛ أحدهما، الرفعُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2903 - 2904 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 83 - ومن طريقه ابن أبي حاتم 9/ 2902 - عن معمر به، وأخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره 9/ 2902 من طريق سعيد، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ت 2: "كيف كان عاقبة مكرهم".
(4)
المثلة، بفتح الميم وضم الثاء: العقوبة، والجمع المثلات. اللسان (م ث ل).
(5)
قرأها عاصم وحمزة والكسائي بالفتح، وقرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالكسر، السبعة لابن مجاهد ص 484.
على ردِّها على "العاقبة"، على الإتباع لها. والآخرُ، النصبُ على الردِّ على موضع {كَيْفَ} ؛ لأنها في موضع نصبٍ إن شئت، وإن شئت على تكرير {كَانَ} عليها، على وجه: فانظُرْ كيف كان عاقبةُ مكرهم؟ كان عاقبةُ مكرهم تدميرنا إياهم.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القول في ذلك عندى أن يُقال: إنهما قراءتانِ مشهورتان في قرأَةِ الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} : فتلك مساكنُهم خاويةً خاليةً منهم، ليس فيها منهم أحدٌ، قد أهلكهم الله فأبادهم، {بِمَا ظَلَمُوا}. يقولُ: بظلمهم أنفسهم، بشركهم بالله وتكذيبهم رسولهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. يقول تعالى ذكره: إن في فعلنا بثمود ما قصصنا عليك يا محمدُ من القصة، لَعِظَةً لمن يَعْلَمُ فِعلَنا ما فعلنا، من قومك الذين يُكَذِّبونك فيما جئتهم به من عند ربِّك، وعبرةً، {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
يقولُ: وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحلَلْناه بثمود، رسولنا صالحًا والمؤمنين به، {وَكَانُوا يَتَّقُونَ}. يقولُ: وكانوا يَتَّقون بإيمانهم وبتصديقهم صالحًا، الذي حلَّ بقومهم من ثمود، ما حلَّ بهم من عذاب الله، فكذلك نُنْجِيك يا محمد تُبَاعَك
(1)
عندَ إحلالنا عقوبتنا بمُشرِكى قومِك من بين أظهرهم.
وذُكِر أن صالحًا لما أحل الله بقومه ما أحلَّ، خرج هو والمؤمنون به إلى الشامِ،
(1)
في م، ت 2:"أتباعك".
فنزل رملة فلسطين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)} .
يقول تعالى ذكره: وأرسلنا لوطًا إلى قومه، إذ قال لهم: يا قومِ، {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشةٌ؛ لعلمكم بأنه لم يسبقكم إلى ما تفعلون من ذلك أحدٌ؟
وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} . [يقولُ: أئنَّكم لتأتون الرجال شهوة]
(1)
منكم بذلك من دونِ
(2)
فروج النساء التي أباحَها الله لكم بالنكاح!
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . يقول: ما [ذلك منكم إلا أنكم]
(3)
قومٌ سفهاءُ جهلةٌ بعظم
(4)
حقِّ الله عليكم، فخالفتم لذلك أمره، وعصيتم رسوله.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)} .
يقول تعالى ذكرُه: فلم يَكُنْ لقوم لوط جوابٌ له، إذ نهاهم عما أمره
(5)
الله بنهيهم عنه من إتيان الرجال، إلا قيلُ بعضهم لبعض:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . عما نَفْعَلُه نحن من إتيانِ الذُّكْرانِ في أدبارهم.
(1)
سقط من النسخ، والمثبت ما يقتضيه السياق.
(2)
بعده في ت 1: "النساء يعنى".
(3)
في ت 2: "هذا الذي تفعلونه إلا فعل".
(4)
في ت 2: "بعظيم".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أمرهم".
كما حدَّثنا الحسنُ، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: سَمِعْتُ الحسن بن عُمارة يَذْكُرُ عن الحكم، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قوله:{أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: من إتيان الرجال والنساء في أدبارهن
(1)
.
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: مِن أدبار الرجال وأدبار النساء؛ استهزاءً بهم
(2)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: يَتَطَهَّرون من أدبار الرجال والنساءِ؛ استهزاء بهم، يقولون ذلك.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة أنه تلا:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . قال: عابوهم بغير عيبٍ، أي: إنهم يَتَطَهَّرون من أعمالِ السُّوءِ
(3)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)} .
يقول تعالى ذكره: فأنجينا لوطًا وأهله سوى امرأته من عذابنا، حينَ أحْلَلْناه بهم، ثمَّ {قَدَّرْنَاهَا}. يقول: فإنَّ امرأته قدَّرناها: جعَلْناها بتقديرنا {مِنَ الْغَابِرِينَ} : من الباقين،
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} . وهو إمطارُ الله عليهم من
(1)
تقدم تخريجه في 10/ 307.
(2)
تفسير مجاهد ص 520، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1518، وينظر ما تقدم في 10/ 307.
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 307.
السماء حجارةً من سِجِّيلٍ، {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}. يقولُ: فساء ذلك المطرُ مطرُ القوم الذين أنذرهم الله عقابه، على معصيتهم إياه، وخوَّفهم بأسه، بإرسال الرسول إليهم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} على نعمه علينا، وتوفيقه إيَّانا لما وفَّقنا من الهداية، {وَسَلَامٌ}. يقولُ: وأَمَنَةٌ منه من عقابِه الذي عاقب به قوم لوطٍ
(1)
وصالح
(2)
. الذين اصطفاهم. يقولُ: الذين اجتباهم لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه، دونَ المشركين به، الجاحدين نُبوَّةَ نبيِّه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا طَلْقٌ - يعنى ابنَ غَنَّامٍ
(3)
- عن ابن ظُهَيرٍ
(4)
، عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عباسٍ:{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . قال: أصحاب محمدٍ، اصْطَفاهم الله لنبيه
(5)
.
(1)
بعده في م: "قوم".
(2)
بعده في م: "على".
(3)
في ص، ف:"عنام". وينظر تهذيب الكمال 13/ 456.
(4)
في ت 1: "ظهيرة". وينظر تهذيب الكمال 7/ 99.
(5)
أخرجه البزار (2243 - كشف) من طريق طلق بن غنام به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2906 من طريق الحكم بن ظهير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 113 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا عليُّ بن سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بن مسلمٍ، قال: قلتُ لعبدِ اللهِ بن المبارك: أرأيتَ قولَ اللهِ: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . مَن هؤلاء؟ فحدَّثنى عن سفيان الثوريِّ، قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الذين زيَّنا لهم أعمالهم من قومك، فهم يَعْمَهُون: الله الذي أنعم على أوليائه هذه النِّعم التي قصَّها عليكم في هذه السورة، وأهلك أعداءه بالذي أهلكهم به من صنوف العذابِ التي ذكرها لكم فيها - خيرٌ، أمَّا تُشْرِكون من أوثانكم التي لا تَنْفَعُكم ولا تَضُرُّكم، ولا تَدْفَعُ عن أنفسها ولا عن أوليائها سُوءًا، ولا تجلبُ إليها ولا إليهم
(2)
نفعًا. يقولُ: إِنَّ هذا الأمر ما
(3)
يُشكلُ على مَن له عقلٌ، فكيف تَسْتَجِيزون أنْ تُشْرِكوا عبادةَ مَن لا نفع عنده لكم، ولا دفع ضرٍّ عنكم في عبادة من بيده النفعُ والضرُّ، وله كل شيءٍ.
ثم ابتدأ تعالى ذكره تعديدَ نعمه عليهم وأياديه عندهم، وتعريفهم بقلة شكرهم إياه، على ما أولاهم من ذلك، فقال:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 113 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ت 1: "إليكم".
(3)
في م: "لا".
يقولُ تعالى ذكره للمشركين به من قريش: أعبادةُ ما تَعْبُدون مِن أوثانكم التي لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، خيرٌ أم عبادةُ من خلق السماوات والأرضَ؟ {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعنى: مطرًا. وقد يجوزُ أن يكونَ مُريدًا به العيونَ التي فجرها في الأرضِ؛ لأن كلَّ ذلك من خلقِه، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ}. يعنى: بالماءِ الذي أُنزل من السماءِ {حَدَائِقَ} . وهى جمعُ حديقةٍ، والحديقةُ البُستانُ عليه حائطٌ مُحَوَّطٌ، وإن لم يَكُن عليه حائطٌ لم يَكُن حديقةً.
وقوله: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} . يقولُ: ذات منظرٍ حسنٍ. وقيل: {ذَاتَ} كله بالتوحيد. وقد قيل: {حَدَائِقَ} . كما قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]. وقد بيَّنتُ ذلك فيما مضى
(1)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} . قال: البهجة الفُقَّاحُ
(2)
مما يأكلُ الناسُ والأنعامُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، عن مجاهد قوله:{حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} . قال: مِن كلِّ شيءٍ يأكله
(4)
الناسُ
(1)
ينظر ما تقدم في 16/ 17، 18.
(2)
التفقُّح: التفتُّح، وفقح الورد إذا تفتَّح، والفُقَّاحُ: عُشْبَة نحو الأقحوان في النبات والمنبت، واحدته فُقَّاحة. اللسان (ف ق ح).
(3)
تفسير مجاهد ص 520، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2907، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 113 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وابن حميد وابن المنذر.
(4)
في م، ف:"تأكله".
والأنعامُ.
وقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} . يقول تعالى ذكرُه: أنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء لكم هذه الحدائق، إذ
(1)
لم يَكُن لكم - لولا أنه أنزل عليكم الماء من السماء - طاقةٌ أن تُنْبِتُوا شجر هذه الحدائق، ولم تكونوا قادرين على إنبات
(2)
ذلك؛ لأنه لا يصلُحُ ذلك إلا بالماء.
وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذكره: أمعبودٌ مع اللهِ أَيُّها الجَهَلَةُ خلق ذلك، وأنزلَ مِن السماءِ الماء فأنبت به لكم الحدائق؟
فقوله: {أَإِلَهٌ} مردودٌ على تأويل: أمع الله إلهٌ؟
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: بل هؤلاء المشركون قوم ضُلَّالٌ، يَعْدِلون عن الحقِّ، ويَجُورُون
(3)
عليه على عَمْدٍ منهم لذلك، مع علمهم بأنهم على خطأ وضلالٍ، ولم يعدلوا عن جهلٍ منهم بأنَّ مَن لا يقدرُ على نفعٍ ولا ضرٍّ خيرٌ ممن خلق السماوات والأرضَ، وفعل هذه الأفعال، ولكنهم عَدَلوا على علمٍ منهم ومعرفة؛ اقتفاءً منهم سُنَّةَ مَن مضى قبلهم من آبائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أعبادةُ ما تُشْرِكون أيُّها الناسُ بربِّكم خيرٌ، وهو لا يضُرُّ ولا ينفعُ، أم الذي جعَل الأرضَ لكم قرارًا تَسْتقرون عليها لا تميدُ بكم؟
(1)
في ص، ت 1، ف:"إن".
(2)
في م: "ذهاب"، وفي ت 2:"إتيان".
(3)
في ت 2: "يجوزون".
{وَجَعَلَ} لكم {خِلَالَهَا أَنْهَارًا} . يقولُ: بينها
(1)
أنهارًا، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} وهى ثوابت الجبالِ، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}: بين العذبِ والمِلْحِ، أن يُفْسِدَ أحدُهما صاحبه، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}. [يقولُ: أإلهٌ مع الله]
(2)
سواه فعل هذه الأشياءَ، فأشْرَكتُموه في عبادتكم إيَّاه؟
وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقول تعالى ذكره: بل أكثرُ هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْرَ عَظَمَةِ اللهِ، وما عليهم مِن الضرِّ في إشراكهم في عبادة الله غيره، وما لهم من النفع في إفرادِهم الله بالألوهة، وإخلاصهم له العبادة، وبراءتهم من كلِّ معبود سواه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} .
يقول تعالى ذكره: أما تُشركون بالله خيرٌ، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشفُ السُّوءَ
(3)
النازل به عنه؟
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ قوله:{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} . قال: الضُّرَّ
(4)
.
وقولُه: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} . يقولُ: ويستخلِفُ بعد أُمرائكم في الأرض منكم خُلَفَاءَ أحياءً يخلفونهم.
وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . يقولُ: أإله مع الله سواه يفعلُ هذه الأشياء بكم،
(1)
في ت 1، ت 2، ف:"منها".
(2)
سقط من: م، ت 1، ف.
(3)
بعده في ت 1، ت 2، ف:"كما".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 113 إلى المصنف وابن المنذر.
ويُنْعِمُ عليكم هذه النِّعم؟
وقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . يقولُ: تَذَكُّرًا
(1)
قليلًا من عظمة الله وأياديه عندكم، تذكَّرون وتَعْتَبِرون حُجَجَ الله عليكم يسيرًا، فلذلك أشْرَكتُم بالله غيره في عبادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا
(2)
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)}.
يقول تعالى ذكره: أمّا تُشركون بالله خيرٌ، أم الذي يَهْدِيكُم في ظُلُماتِ البَرِّ والبحر إذا أضْلَلْتُم
(3)
فيهما الطريق، فأظلمت عليكم السُّبُلُ فيهما؟
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ قوله:{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : وظُلمات
(4)
البرِّ: ضَلالةُ الطريقِ، والبحرِ: ضَلالةُ طريقه، وموجُه، وما يكونُ فيه
(5)
.
قولُه: (ومَن يُرْسِلُ الرياحَ نُشْرًا بينَ يَدَى رَحْمَتِهِ). يقولُ: والذي يرسلُ الرياحَ نُشْرًا لِمَوَتانِ الأرض، {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}. يعنى: قدَّام الغيث الذي يُحْيِى مَواتَ الأَرضِ.
(1)
في ت 1، ت 2:"يذكر".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ف:"نشرا". وتنظر هذه القراءات في 10/ 252، 253.
(3)
في م: "ضللتم".
(4)
في ص: "الظلمات"، وفى م:"الظلمات في".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 113 إلى المصنف وابن المنذر.
وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إلهٌ مع الله سوى الله يفعلُ بكم شيئًا من ذلك فتعبُدوه مِن دونِه، أو تُشْرِكوه في عبادتِكم إياه؟ {تَعَالَى اللَّهُ}. يقولُ: للهِ العُلُوُّ والرِّفْعَةُ عن شركِكم الذي تشركون به، وعبادتكم معه ما تعبدون.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} .
يقول تعالى ذكره: أما تُشْرِكون أيُّها القومُ خيرٌ، أم الذي يبدأُ الخلق ثم يُعِيدُه، فيُنْشِئَه من غيرِ أصلٍ، ويَبْتَدِعَه
(1)
ثم يُفْنِيَه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يُفْنيه، والذي يرزقكم من السماء والأرضِ، فيُنْزِلَ مِن هذه الغيثَ، ويُنْبِتَ مِن هذه النبات لأقواتِكم وأقواتِ أَنْعامِكم، أإلهٌ مع الله سوى الله يفعل ذلك؟ وإن زعموا أن إلهًا غير الله يفعل ذلك أو
(2)
شيئًا منه، فقل لهم يا محمدُ:{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} .
أي: حُجَّتكم على أن شيئًا سوى الله يفعل ذلك، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم.
و"من" التي في {أَمَّنْ} [و "ما"]
(3)
مبتدأٌ، في
(4)
قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، والآياتُ بعدها إلى قوله:{وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . بمعنى "الذي"، لا بمعنى الاستفهام؛ وذلك أن الاستفهام لا يدخلُ على الاستفهام.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {(64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ
(1)
في ت 2: "يبدعه".
(2)
في ص، ت 2، ف:"و".
(3)
سقط من: ت 2، وفى ص، ت 1، ف:"من".
(4)
سقط من: ص ت 1، ت 2، ف.
هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}.
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لسائليك من المشركين عن الساعة متى هي قائمةٌ؟ لا يعلمُ مَن في السماوات والأرض الغيب الذي قد استأثر الله بعلمه وحَجَب عنه خلقه - غيرُه، والساعةُ من ذلك، {وَمَا يَشْعُرُونَ}. يقول: وما يدرى من في السماواتِ والأرض من خلقه، متى هم مبعوثون مِن قُبُورِهم لقيام الساعة؟
وقد حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبرنا داودُ بن أبى هندٍ، عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، قال: قالت عائشةُ: مَن زَعَم أنه يُخْبِرُ الناسَ بما يكون في غدٍ، فقد أعظم على الله الفِرْيَةَ، والله يقولُ:{لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
(1)
.
واختلف أهل العربية في وَجْهِ رفعِ {اللَّهُ} ؛ فقال بعض البصريِّين: هو
(2)
كما تقولُ
(3)
: {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]. وفي حرف ابن مسعودٍ: (قليلًا)
(4)
بدلًا من الأوَّلِ؛ لأنك نَفَيْتَه عنه، وجعلته للآخرِ.
وقال بعض الكوفيِّين
(5)
: إن شئتَ أن تَتَوَهَّم في {مَنْ} المجهول، فتكونَ معطوفة على
(6)
: قُلْ لا يعلم أحدٌ الغيب إلا الله. قال: ويجوز أن تكون {مَنْ}
(1)
تقدم تخريجه في 8/ 571.
(2)
سقط: ت 1، ف.
(3)
في ص، ت 2:"يقول".
(4)
وهى قراءة أُبى وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، وابن عامر من السبعة. البحر المحيط 3/ 285، وينظر ما تقدم في 7/ 208.
(5)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 298، 299.
(6)
في ت 1، ت 2، ف:"عليه".
معرفةً، ونزَل
(1)
ما بعدَ {إِلَّا} عليه، فيكونَ عَطْفًا، ولا يكونَ بدلًا؛ لأن الأوَّلَ مَنْفِيٌّ، والثانيَ مُثْبَتٌ، فيكونَ في النَّسَقِ، كما تقولُ: قامَ زيدٌ إلا عمرٌو. فيكونُ الثاني عطفًا على الأوَّلِ، والتأويلُ جَحْدٌ، ولا يكونُ أن يكونَ الخبرُ جَحْدًا، أو
(2)
الجحدُ خبرًا. قال: وكذلك {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]. و (قليلًا). مَن نَصَب فعلى الاستثناءِ في
(3)
عبادتِكم إيَّاه، ومَن رفَع فعلى العطفِ، ولا يكونُ
(4)
بدلًا
(5)
.
وقولُه: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} . اختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ سِوى أبى جعفرٍ وعامةِ قرأةِ أهلِ الكوفةِ: {بَلِ ادَّارَكَ} بكسر اللامِ مِن {بَلِ} ، وتَشْدِيدِ الدالِ مِن {ادَّارَكَ}
(6)
، بمعنى: بل تَدارَكَ علمُهم. أي: تتابع علمُهم بالآخرةِ، هل هي كائنةٌ أم لا؟ ثم أُدغمت التاءُ في الدالِ، كما قيل:{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]. وقد بَيَّنا ذلك فيما مضَى بما فيه الكفايةُ مِن إعادتِه
(7)
.
وقرأَته عامةُ قرأةِ أهلِ مكةَ: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ}
(8)
. بسكونِ الدالِ وفتحِ الألفِ، بمعنى: هل أدْرَك علمُهم علمَ الآخرةِ.
وكان أبو عمرِو بنُ العلاءِ يُنكِرُ - فيما ذُكر عنه - قراءةَ مَن قرَأ: (بَلْ أَدْرَكَ)
(9)
(1)
في ت 1، ت 2:"ترك"
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"و".
(3)
في ت 1: "من".
(4)
بعده في ت 1: "هذا"، وبعده في ف:"هنا".
(5)
ينظر معاني القرآن 2/ 298، 299.
(6)
هي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائى وخلف. النشر 2/ 254.
(7)
ينظر ما تقدم في 2/ 119.
(8)
هي قراءة أبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب. المصدر السابق.
(9)
وبها قرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن وقتادة. المحتسب 2/ 92. وينظر البحر المحيط 7/ 92.
ويقولُ: إن "بل" إيجابٌ، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ. ومعنى الكلام إذا قُرِئ كذلك:(بل آدْرَكَ): لم يَكُنْ ذلك، لم يُدْرِكْ علمُهم في الآخرةِ. وبالاستفهامِ قرَأ ذلك ابن مُحَيْصِنٍ على الوجهِ الذي ذكرتُ أن أبا عمرٍو أنكَره.
وبنحوِ الذي ذَكَرتُ عن المكيِّين أنهم قرءوه، ذُكر عن مجاهدٍ أنه قَرأه، غيرَ أنه كان يقرأُ في موضعِ "بل":(أم).
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الله بنُ موسى، قال: ثنا عثمانُ
(1)
بنُ الأسودِ، عن مجاهدٍ أنه قرَأ:(أَمْ أَدْرَكَ عِلْمُهم)
(2)
.
وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقرؤُه
(3)
بإثباتِ ياءٍ في "بل" ثم يبتدئُ: (أدّارك)؟ بفتحِ ألفِها، على وجهِ الاستفهامِ، وتشديدِ الدالِ
(4)
.
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي حمزةَ، عن ابن عباسٍ في هذه الآيةِ: ([بلَى أدَّارَكَ]
(5)
عِلْمُهم في الآخِرَةِ) أي: لم يُدرك
(6)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي حمزةَ، قال: سمعتُ ابنَ عباسٍ يقرأُ: (بَلَى أَدَّارَكَ علْمُهم في الآخرةِ) إنما هو
(1)
في ت 2: "عمار".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2914 من طريق عثمان بن الأسود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. وينظر البحر المحيط 7/ 92.
(3)
في م، ف:"يقرأ".
(4)
معاني القرآن للفراء، 2/ 299، وتفسير القرطبي 13/ 226.
(5)
في ت 2، ومصدرى التخريج:"بل آدرك". والمثبت موافق لنص المصنف قبله، ولما نص عليه الفراء والقرطبى في الموضعين السابقين.
(6)
أخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 180 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
استفهامٌ أنه لم يُدْرِكْ.
وكأن ابنَ عباسٍ وجَّه ذلك إلى أن مَخْرَجَه مَخرجَ الاستهزاءِ بالمكذِّبين بالبعثِ.
والصوابُ مِن القراءاتِ عندَنا في ذلك القراءتان اللتان ذكَرتُ إحداهما عن قرأَةِ أهلِ مكةِ والبصرةِ، وهى:(بَلْ أَدْرَكَ علمُهم) بسكونِ لامِ "بل" وفتحِ ألفِ "أدْرَك" وتخفيف دالِها. والأخرى منهما عن قرأةِ الكوفةِ، وهى:{بَلِ ادَّارَكَ} بكسرِ اللامِ وتشديدِ الدال مِن {ادَّارَكَ} ؛ لأنهما القراءتان المعروفتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ عندَنا، فأما القراءةُ التي ذكرتُ عن ابن عباسٍ، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعرابِ، فخلافٌ لِما عليه مصاحفُ المسلمين، وذلك أن في "بلى" زيادةً ياءٍ في قراءتِه
(1)
ليست في المصاحفِ، وهى مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحدٌ مِن قرأة الأمصار، وأما القراءةُ التي ذكرتُ عن ابن مُحَيْصِنٍ، فإن الذي قال فيها أبو عمرٍو قولٌ صحيحٌ؛ لأن العربَ تُحَقِّقُ بـ "بل" ما بعدَها لا تَنْفِيه، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ لا إثباتٌ، وذلك أن الله قد أخبرَ عن المشركين أنهم مِن الساعةِ في شَكٍّ، فقال:{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} .
واختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: بل أدرَك علمُهم في الآخرةِ، فأيْقَنوها إذ عايَنوها، حينَ لم ينفعْهم يقينُهم بها، إذْ كانوا بها في الدنيا مُكَذِّبين.
(1)
في م: "قراءاته".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: قال عطاءٌ الخُراسانيُّ، عن ابن عباسٍ:(بل أَدْرَكَ عِلْمُهم). قال: بصرُهم في الآخرةِ حينَ لم ينفعْهم العلمُ والبصرُ
(1)
.
وقال آخرون: بل معناه: بل غابَ علمُهم في الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:(بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرةِ). يقولُ: غابَ علمُهم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولهِ: {بَلِ ادَّارَكَ
(3)
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ}. قال: يقولُ: ضَلَّ علمُهم في الآخرةِ، فليس لهم فيها علمٌ
(4)
، هم منها عَمُون.
وقال آخرون: معنى ذلك: لم يَبْلُغْ لهم فيها علمٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ الوارثِ بنُ عبدِ الصمدِ، قال: ثنى أبي، عن جَدِّى، قال: ثنا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2914 من طريق ابن جريج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2914 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى ابن المنذر.
(3)
في ت 1، ت 2:"أدرك".
(4)
بعده في ت 1: "بل"
الحسينُ، عن قتادةَ في قولِه:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} . قال: كان يقرؤُها: (بل أدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرةِ). قال: لم يبلُغْ لهم فيها علمٌ، ولا يَصِلُ إليها منهم رغبةٌ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: بل أدْرَك: أم أدْرَك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:(بل أدْرَكَ عِلْمُهُم). قال: أم أدْرَك
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عثمانُ، عن مجاهدٍ:(بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ) قال: أم أدرَك علمُهم؟ مِن أين يُدْرِكُ علمُهم؟
(3)
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُريَجٍ، عن مجاهدٍ بنحوهِ.
قال أبو جعفرٍ: وأَولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ، على قراءةِ مَن قرَأ:(بَلْ أَدْرَكَ). القولُ الذي ذكَرناه عن عطاءٍ الخُرساني، عن ابن عباسٍ، وهو أن معناه إذا قُرِئ كذلك: بل
(4)
وما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون، بل أدرَك علمهم نفسَ وقتِ ذلك في الآخرةِ، حينَ يُبْعَثُون، فلا ينفعُهم علمهم به حينَئِذٍ، فأما في الدنيا فإنهم منها في شكٍّ، بل هم منها عَمُون.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2915 من طريق شيبان، عن قتادة
(2)
ينظر ما تقدم ص 107.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2914 من طريق عثمان به بنحوه.
(4)
سقط من: م.
وإنما قلتُ: هذا القولُ أُولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ، على القراءةِ التي ذَكَرتُ؛ لأن ذلك أظهرُ معانِيه. وإذ
(1)
كان ذلك معناه، كان في الكلامِ محذوفٌ قد اسْتُغْنِيَ بدلالةِ ما ظهَر منه عنه. وذلك أن معنى الكلامِ: وما يَشعُرون أيَّانَ يُبعثون، بل يَشعُرون ذلك في الآخرة، فالكلامُ إذا كان ذلك معناه: وما يشعرُون أيَّان يُبْعَثون، بل أدرَك علمُهم ذلك
(2)
في الآخرةِ، بل هم في الدنيا في شكٍّ منها.
وأمَّا على قراءةِ مَن قرَأه: {بَلِ ادَّارَكَ} . بكسرِ اللامِ وتشديدِ الدالِ، فالقولُ الذي ذكرنا عن مجاهد، وهو أن يكون معنى "بل": أم. والعربُ تَضَعُ "أم" موضعَ بل"، وموضعَ "بل" "أم". إذا كان في أول الكلام استفهامٌ، كما قال الشاعرُ
(3)
:
فواللهِ ما أَدْرِى أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ
…
أم النومُ أم كلٌّ إلى حَبِيبُ
يعنى بذلك: بل كلٌّ إلى حبيبٌ. فيكونُ تأويلُ الكلامِ: وما يشعُرون أيَّانَ يُبْعَثون، بل تَدارَك علمُهم في الآخرةِ. بمعنى: تَتابَع علمُهم في الآخرةِ. أي: بعلمٍ الآخرةِ. أي: لم يَتَابَعْ بذلك ولم يعلَموه، بل غابَ علمُهم عنه، وضَلَّ فلم يَبْلُغوه ولم يُدْرِكوه.
وقولُه: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} . يقولُ: بل هؤلاء المُشرِكون الذين يَسْأَلُونك عن الساعةِ في شكٍّ مِن قيامِها، لا يُوقنون بها ولا يُصَدِّقون بأنهم مَبْعوثون من بعدِ الموتِ، {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}. يقولُ: بل هم مِن العلمِ بقيامِها عَمُون.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)} .
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"إن".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"بذلك".
(3)
تقدم تخريجه في 2/ 413.
يقولُ تعالى ذكرُه: قال الذين كفَروا باللهِ: أئنا لمُخْرَجون مِن قبورِنا أحياءً كهَيْئتِنا، مِن بعدِ مَماتِنا، بعدَ أن كُنَّا فيها ترابًا قد بَلِينا؟
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: لقد وُعِدْنا هذا مِن قبلِ محمدٍ؛ واعِدون وعَدوا ذلك آباءَنا، فلم نَرَ لذلك حقيقةً، ولم نَتَبَيَّنْ له صحةً، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. يقولُ: قالوا: ما هذا الوعدُ إلا ما سَطَّر الأولون من الأكاذيب في كُتُبِهم، فأثْبَتوه فيها وتحدَّثوا به، مِن غيرِ أن يكونَ له صحةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لهؤلاء المُكذِّبين ما جئتَهم به مِن الأنباءِ مِن عندِ ربِّك: سِيروا في الأرضِ، فانظُروا إلى ديارِ مَن كان قبلكم مِن المُكذِّبين رسلَ اللهِ ومساكنِهم، كيف هي؟ ألم يُخْرِبُها الله، ويُهْلِكُ أهلها بتَكْذيبِهم رُسُلَهم، ورَدِّهم عليهم نصائحَهم، فخَلَتْ منهم الديارُ، وتَعَفَّت
(1)
منهم الرسومُ والآثارُ، فإن ذلك كان عاقبةَ إجْرامِهم، وذلك سُنَّةُ ربِّكم في كلِّ مَن سلَك سبيلَهم، في تَكْذيبِ رُسُلِ ربِّهم، واللهُ فاعلٌ ذلك بكم إن أنتم لم تُبادِروا الإنابةَ مِن كفرِكم، وتَكذيبِكم رسولَ ربِّكم.
وقولُه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه
محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولا تحزنْ على إدْبارِ هؤلاء المشركين عنك، وتَكْذيبِهم لك، {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}. يقولُ: ولا يَضِقُ صدرُك مِن مَكْرِهم بك، فإن الله ناصرك عليهم، ومُهْلِكُهم قَتْلًا بالسيفِ.
(1)
في ت 2: "بقيت".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)} .
يقول تعالى ذكرُه: ويقولُ مُشْرِكو قومك يا محمدُ، المُكَذِّبوك فيما أتيتَهم به من عند ربِّك: متى يكونُ هذا الوعدُ الذي تعِدُناه مِن العذابِ الذي هو بِنا فيما تقولُ حالٌّ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تَعِدونَنا به؟ {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ}. يقولُ جل جلاله: قلْ لهم يا محمدُ: عسى أن يكونَ اقتَرب لكم ودَنا {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} مِن عذابِ اللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} . يقولُ: اقتَرب لكم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . يقولُ: اقْتَرَب لكم بعضُ الذي تَسْتَعْجِلون.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} . قال: {رَدِفَ} : أعْجَل لكم
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 35 من طريق عبد الله به، عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 521، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2917 بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . قال: أزِفَ
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {رَدِفَ لَكُمْ} : اقْتَرب لكم
(2)
.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ اللامِ في قولِه: {رَدِفَ لَكُمْ} . وكلامُ العربِ المعروفُ: ردِفه أمرٌ، وأرْدفه. كما يقالُ: تبِعه وأتْبَعه؛ فقال بعضُ نحويي البصرةِ: أدْخل اللامَ في ذلك، فأضاف بها الفعلَ، كما يقالُ:{لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]. و {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154].
وقال بعضُ نحويى الكوفةِ
(3)
: أدْخَل اللامَ في ذلك للمعنى؛ لأن معناه: دنا لهم. كما قال الشاعرُ:
* فقلتُ لها الحاجاتُ يَطْرَحْنَ بالفتى *
فأدْخَل الياءَ في "يَطْرَحْنَ"، وإنما يقالُ: طرَحَتْه؛ لأن معنى الطرحِ الرميُ، فأدْخَل الياءَ للمعنى، إذ كان معني ذلك: يَرْمِين بالفتى.
وهذا القولُ الثاني هو أوْلاهما عندى بالصوابِ، وقد مضَى البيانُ عن نظائرِه في غيرِ موضعٍ مِن الكتابِ، بما أغْنَى عن تِكرارِه في هذا الموضعِ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2917 من طريق حجاج به.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2917 معلقًا، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 218.
(3)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 299.
(4)
ينظر ما تقدم في 10/ 467، ومعاني القرآن 2/ 299، 300.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {تَسْتَعْجِلُونَ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . قال: مِن العذابِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن ربَّك يا محمدُ لذو فضلٍ على الناسِ، بتركِه معاجلتَهم بالعقوبةِ، على معصيتِهم إياه وكفرِهم به، وذو إحسانٍ إليهم، في ذلك وفي غيرِه من نعمِه عندَهم، ولكن أكثرَهم لا يَشْكُرونه على ذلك؛ مِن إحسانِه وفضله عليهم، فيُخلصوا له العبادةَ، ولكنهم يُشْرِكون معه في العبادةِ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم، ومَن لا فضلَ له عندَهم ولا إحسانَ.
وقولُه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} . يقولُ: وإِن رَبَّك لَيعْلمُ ضمائرَ صدورِ خلقِه، ومكنونَ أنفسِهم، وخَفِيَّ أسرارِهم، وعلانيةَ أمورِهم الظاهرةِ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن ذلك، وهو مُحْصِيها عليهم، حتى يُجازِىَ جميعَهم بالإحسانِ إحسانًا، وبالإساءةِ جزاءَها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ: {وَإِنَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى المصنف وابن المنذر.
رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}. قال: السرَّ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما مِن مكتومِ سرٍّ، وخفيِّ أمرٍ، يَغِيبُ عن أبصارِ الناظرين في السماءِ والأرضِ، {إِلَّا فِي كِتَابٍ} . وهو أمُّ الكتابِ الذي أثْبَت ربُّنا فيه كلَّ ما هو كائنٌ مِن لَدُنِ ابْتَدَأ خلْقَ خلقِه إلى يومِ القيامةِ.
ويعنى بقولِه: {مُبِينٍ} . أنه يَبِينُ لمن نظَر إليه وقرَأه ما فيه مما أثْبَت فيه ربُّنا جلَّ ثناؤُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . يقولُ: ما مِن شيءٍ في السماءِ والأرضِ؛ سرٌّ ولا علانيةٌ، إلا يَعْلَمُه
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن هذا القرآنَ الذي أنْزَلْتُه إليك يا محمدُ، يَقُصُّ على بني إسرائيلَ الحقَّ في أكثرِ الأشياءِ التي اخْتَلَفوا فيها، وذلك كالذى اخْتَلَفوا فيه مِن أمرِ عيسى؛ فقالتِ اليهودُ فيه ما قالت، وقالتِ النصارى فيه ما قالت، وتبَرَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2919 عن محمد بن سعد به.
لاختلافِهم فيه هؤلاء مِن هؤلاء، وهؤلاء مِن هؤلاء، وغيرِ ذلك مِن الأمورِ التي اخْتَلَفوا فيها. فقال جلَّ ثناؤُه لهم: إن هذا القرآنَ يَقُصُّ عليكم الحقَّ فيما اخْتَلَفْتُم
(1)
، فاتَّبِعُوه، وأقِرُّوا لما فيه؛ فإنه يَقُصُّ عليكم بالحقِّ، ويَهْدِيكم إلى سبيلِ الرَّشادِ.
القولَ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن هذا القرآنَ {لَهُدًى} . يقولُ: لَبيانٌ مِن اللهِ، بَيَّنَ به الحقَّ فيما اخْتَلَف فيه خلقُه مِن أمورِ دينِهم، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. يقولُ: ورحمةٌ لمن صدَّق به وعمِل بما فيه،
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} . يقولُ: إن ربَّكَ يَقْضِى بينَ المختلِفين مِن بني إسرائيلَ {بِحُكْمِهِ} ، فيهم، فيَنْتَقِمُ مِن المُبْطِلِ منهم، ويُجازِى المحسنَ منهم المحِقَّ
(2)
بجزائِه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. يقولُ: وربُّك العزيزُ في انتقامِه مِن المُبْطِلِ منهم ومِن غيرِهم، لا يَقْدِرُ أحدٌ على منعِه مِن الانتقامِ منه إذا انْتَقَم، العليمُ بالمحقِّ المحسنِ من هؤلاء المختلِفين مِن بني إسرائيلَ فيما اخْتَلَفوا فيه، ومِن غيرِهم، مِن المُبطِلِ الضالِّ عن الهدى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ففَوِّضْ إلى اللهِ يا محمدُ أمورَك، وثِقْ به فيها؛ فإنه كافِيك، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} لمن تأمَّله وفكَّر
(3)
فيه بعقلٍّ، وتدَبَّره
(1)
بعده في م: "فيه".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"الحق".
(3)
بعده في م: "ما".
بفهمٍ، أنه الحقُّ دونَ ما عليه اليهودُ والنصارى المختلفون مِن بني إسرائيلَ، ودونَ ما عليه أهلُ الأوثانِ المُكَذِّبوك فيما أتَيْتَهم به مِن الحقِّ. يقولُ: فلا يَحْزُنْك تكذيبُ مَن كذَّبك، وخِلافُ مَن خالَفك، وامْضِ لأمرِ ربِّك الذي بعَثَك به.
وقولُه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} . يقولُ: إنك يا محمدٌ لا تَقْدِرُ أن تُفْهِمَ الحقَّ مَن طبَع اللهُ على قلبِه فأماته؛ لأن الله قد ختَم عليه ألا يَفْهَمَه، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}. يقولُ: ولا تَقْدِرُ أن تُسْمِعَ ذلك مَن أصَمَّ اللهُ عن سماعِه سَمْعَه، {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}. يقولُ: إذا هم أدْبَروا مُعْرِضِين عنه، لا يَسْمَعون له؛ لغَلَبَةِ دِينِ الكفرِ على قلوبِهم، ولا يُصغون للحقِّ ولا يَتَدَبَّرونه، ولا يُنْصِتون لقائلِه، ولكنهم يُعْرِضون عنه، ويُنكِرون القولَ به والاستماعَ له.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} .
اختَلَف القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَتْه عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكوفيين: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي} . بالباءِ والألفِ، وإضافتِه إلى {الْعُمْيِ}
(1)
بمعنى: لستَ يا محمدُ بهادِى مَن عمِى عن الحقِّ عن ضلالتِه.
وقرأَتْه عامةُ قرأةِ الكوفِة: (وما أنت تَهْدِى العُمْيَ). بالتاءِ. ونصبِ "العُمْى"
(2)
بمعنى: ولسْتَ تَهْدِيهم عن ضلالتِهم، ولكنَّ الله يَهْدِيهم إن شاء
(3)
.
(1)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 486.
(2)
هي قراءة حمزة. ينظر المصدر السابق.
(3)
بعده في ص، ف:"الله".
والقولُ في ذلك عندى أنهما قراءتان مُتَقارِبتا المعنى، مشهورتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيتهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ. وتأويلُ الكلامِ ما وصَفْتُ: وما أنت يا محمدُ بهادى مَن أعْماه اللهُ عن الهدى والرشادِ، فجعَل على بَصَرِه غِشاوةً عن
(1)
أن يَتَبيَّنَ سبيل الرشادِ عن ضلالته التي هو فيها، إلى طريقِ الرشادِ وسبيلِ الرشادِ.
وقولُه: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} . يقولُ: ما تَقْدِرُ أَن تُفْهِمَ الحقَّ وتوعيَه سَمْعَ
(1)
أحدٍ، إلا سَمْعَ مَن يُصَدِّقُ {بِآيَاتِنَا}. يعنى: بأدلتِه وحججِه وآيِ تنزيلِه، {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} . فإن أولئك يَسْمَعون. منك ما تقولُ ويَتَدَبَّرونه، ويُفَكِّرون
(2)
فيه، ويَعْمَلُون به، فهم الذين يَسْمَعون.
ذكرُ مَن قال مثلَ الذي قلنا في قولِه تعالى: {وَقَعَ}
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: قولَه: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} . قال: حَقَّ عليهم
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} . يقولُ: إذا وجَب القولُ عليهم
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
سقط من: م.
(2)
في ف: "يتفكرون".
(3)
كذا السياق في جميع النسخ، والظاهر أنه سقط تأويل المصنف لبداية الآية من النسخ التي بين أيدينا.
(4)
تفسير مجاهد ص 521، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2922، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى الفريابي.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى المصنف وعبد بن حميد.
{وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} . قال: حقَّ العذابُ. قال ابن جريجٍ: القولُ: العذابُ.
ذكرُ مَن قال قولَنا في معنى {الْقَوْلُ}
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} : والقولُ: الغَضبُ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشامٍ، عن حفصةَ، قالت: سألتُ أبا العاليةِ عن قولِه: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} . فقال: أَوْحَى اللهُ إلى نوحٍ أنه لن يُؤْمِنَ مِن قومِك إلا مَن قد آمَن. قالت
(2)
: فكأنما كان على وجهى غطاءٌ فكُشِف
(3)
.
وقال جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ: خروجُ هذه الدابةِ التي ذكَرَها حينَ لا يَأْمُرُ النَّاسُ بمعروفٍ ولا يَنْهَوْن عن منكر.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا الأشْجَعيُّ، عن سفيانَ، عن عمرِو بن قيسٍ، عن عطيةَ العوفيِّ، عن ابن عمرَ في قولِه
(4)
: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} . قال: هو حينَ لا يَأْمُرون بمعروفٍ، ولا يَنْهَوْن عن منكرٍ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2927 من طريق سعيد به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ف:"قال".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 83، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2922 من طريق هشام به، مقتصرين على أوله، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى عبد بن حميد.
(4)
سقط من: ص، ت 2، ف.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 85، ونعيم بن حماد في كتاب الفتن (1867)، وابن أبي الدنيا في =
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا محمدُ بنُ الحسنِ أبو الحسنِ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ المُلائِيُّ، عن عطيةَ، عن ابن عمرَ في قولِه:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} . قال: ذاك إذا تُرِك الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بن قيسٍ، عن عطيةَ، عن ابن عمرَ في قولِه:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} . قال: حينَ لا يَأْمُرون بالمعروفِ ولا يَنْهَوْن عن المنكرِ.
[حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه]
(2)
. حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو المقدسيُّ، قال: ثنا أشعثُ بنُ عبدِ اللهِ السَّجِسْتانيُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن عطيةَ في قولِه:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} . قال: إذا لم يَعْرفوا معروفًا ولم يُنْكِروا منكرًا.
وذُكِر أن الأرضَ التي تَخْرُجُ منها الدابةُ مكةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا الأشْجَعيُّ، عن فُضَيلِ بن مرزوقٍ، عن عطيةَ، عن
= الأمر بالمعروف (30) من طريق سفيان الثورى به.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2921 من طريق محمد بن الحسن به. وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 328، 329، والحاكم 4/ 485 من طريق عطية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى ابن المبارك في الزهد والفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه.
(2)
سقط من: ص، م، ت 2، ف.
والأثر تفسير مجاهد ص 521.
ابن عمرَ، قال: تَخْرُجُ الدابةُ مِن صَدْعٍ في الصفا كجَرْيِ الفرسِ ثلاثةَ أيامٍ، وما خرَج ثلثُها
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بَشيرٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، عن الفُرَاتِ القَزَّازِ، عن عامرِ بن واثلةَ
(2)
أبي الطُّفَيلِ، عن حذيفةَ بن أسِيدٍ
(3)
الغِفاريِّ قال: إن الدابةَ حينَ تَخْرُجُ يَراها بعضُ الناسِ فيقولون: واللهِ لقد رأيْنا الدابةَ. حتى يَبْلُغَ ذلك الإمامَ، فيَطْلُبَ فلا يَقْدِرَ على شيءٍ. قال: ثم تَخْرُجُ فيراها الناسُ، فيقولون: والله لقد رأيْناها، فيَبْلُغُ ذلك الإمامَ، فيَطْلُبُ فلا يَرَى شيئًا، فيقولُ: أما إنى [إن أخذتُ]
(4)
الذي يَذْكُرُها. قال: حتى يَعِدَ فيها القتلَ، قال: فتَخْرُجُ، فإذا رأها الناسُ دخَلوا المسجدَ يُصَلُّون، فتجيءُ إليهم فتقولُ: الآن تُصَلُّون! فتَخْطِمُ الكافرَ، وتَمْسَحُ على جبين المسلمِ غُرَّةً. قال: فيَعِيشُ الناسُ زمانًا، يقول هذا: يا مؤمنُ، ويقولُ
(5)
هذا: يا كافرُ
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عثمانُ بنُ مطرٍ، عن واصلٍ مولى أبي عُيَيْنَةَ، عن أبي الطُّفَيْلِ، عن حذيفةَ، وأبو
(7)
سفيانَ، ثنا عن معمرٍ، عن قيسِ بن
(1)
أخرجه البغوي في تفسيره 6/ 179 من طريق المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 67، والبغوى في الجعديات (2091)، ونعيم بن حماد في الفتن (1859)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2925 من طريق فضيل بن مرزوق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 117 إلى ابن المنذر.
(2)
في ت 2: "وائلة".
(3)
في ت 1: "أسد".
(4)
في م: "إذا حدث"، وفي ت 1:"لن أجد".
(5)
سقط من: م، ت 2.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 117 إلى ابن أبي شيبة بنحوه.
(7)
في م: "أبى". وينظر تهذيب الكمال 25/ 109.
سعدٍ، عن أبي الطُّفَيْلِ، عن حذيفةَ بن أسِيدٍ في قولِه:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} . قال: للدابة ثلاثُ خَرَجاتٍ؛ خرْجةٌ في بعضِ البَوادِى ثم تَكْمُنُ، وخَرْجةٌ في بعضِ القُرَى، حتى
(1)
يُهَرِيقَ فيها الأمراءُ الدماءَ، ثم تَكْمُنُ، فبينا الناسُ عندَ أشرفِ
(2)
المساجدِ وأعظمِها وأفضلِها، إذ ارْتَفَعَت بهم الأرضُ، فانْطَلَق الناسُ هُرَّابًا، وتَبَقَّى طائفةٌ مِن المؤمنين، ويقولون: إنه لا يُنْجِينا مِن اللهِ شيءٌ. فتَخْرُجُ عليهم الدابةُ تَجْلُو وجوهَهم مثلَ الكوكبِ الدُّرِّيِّ، ثم تَنْطَلِقُ فلا يُدْرِكُها طالبٌ، ولا يَفوتُها هاربٌ، وتأْتى الرجلَ يُصَلِّي فتقولُ: واللهِ ما كنتَ من أهلِ الصلاةِ. فيَلْتَفِتُ إليها فتَخْطِمُه، قال: تَجْلو وجهَ المؤمنِ، وتَخْطِمُ الكافرَ. قلنا: فما للناسِ يومَئذٍ؟ قال: جِيرانٌ في الرِّباعِ، وشركاءُ في الأموالِ، وأصحابٌ في الأسْفارِ
(3)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ
(4)
، عن الوليدِ بن جُمَيْعٍ، عن عبدِ الملكِ
(5)
بن المغيرةِ، عن عبدِ الرحمنِ بن البَيْلمانيِّ، عن ابن عمرَ: يَبِيتُ الناسُ يَسِيرون إلى جَمْعٍ
(6)
، وتبيتُ دابةُ الأرضِ تُسايرُهم، فيُصبحون وقد خَطَمَتْهم مِن
(1)
في م: "حين".
(2)
في ص، ت 2، ف:"أشراف".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 84 عن معمر به، وأخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1851)، والحاكم 4/ 484، 485 من طريق قيس بن سعد به، وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 66، 67، والبخاري في تاريخه 5/ 391، 392 من طريق أبي الطفيل به، وأخرجه الطيالسي (1165)، ونعيم بن حماد في الفتن (1851)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2923، والحاكم 4/ 484 من طريق أبي الطفيل به مرفوعًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 116 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث.
(4)
بعده في ت 2: "قال حدَّثني على". ينظر تهذيب الكمال 26/ 293، 31/ 35.
(5)
في ت 2: "الله". ينظر تهذيب الكمال 18/ 421.
(6)
جمع: المزدلفة. النهاية 1/ 296.
رأسِها وذَنَبِها، فما مِن
(1)
مؤمنٍ إلا مَسَحَتْه، ولا مِن كافرٍ ولا منافقٍ إلا تَخْبِطُه
(2)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا الجُرَيْرِيُّ
(3)
، عن حَيَّانَ بن عُمَيرٍ، عن حسانَ بن حِمَّصَةَ، قال: سمعتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو
(4)
يقولُ: لو شئتُ لانْتَعَلْتُ بنَعْلَيَّ هاتين، فلم أمَسَّ الأرضَ قاعدًا حتى أقِفَ على الأحْجارِ التي تخرُجُ الدابةُ مِن بينِها، ولكأني بها قد خرَجَت في عَقِبِ رَكْبٍ مِن الحاجِّ، قال: فما حَجَجْتُ قَطُّ إِلا خِفْتُ تخرُجُ بِعَقِبِنا
(5)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الآمُلِيُّ، قال: ثنا أبو أُسامةَ، عن هشامٍ، عن قيسِ بن سعدٍ، عن عطاءٍ، قال: رأيتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو، وكان منزلُه قريبًا مِن الصَّفا، رفَع قَدَمَهُ وهو قائمٌ، وقال: لو شئتُ لم أضَعُها حتى أضَعَها على المكانِ الذي تخرُجُ منه الدابةُ.
حدَّثنا عصام بن روادِ بن الجراحِ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ الثَّوْرِيُّ، قال: ثنا منصورُ بنُ المُعْتَمِر، عن رِبْعِيِّ بن حِراشٍ
(6)
، قال: سمعتُ حُذيفةَ
(1)
سقط من: ص، ت 2، ف.
(2)
في ت 1: "تخطمه".
والأثر أخرجه الحاكم 4/ 485 من طريق ابن فضيل به، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 180، ونعيم بن حماد في الفتن (1865) من طريق الوليد بن جميع به.
(3)
في م: "الخيبري"، وفي ص:"الحبيري"، وفي ت 1:"الجبيرى"، وفى ت 2:"الحميري". وينظر تهذيب الكمال 10/ 338.
(4)
في ت 1: "عمر".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 15/ 67، 181 من طريق عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن عمرو بنحوه.
(6)
في ت 1، ت 2:"خراش". وينظر تهذيب الكمال 9/ 54.
ابنَ اليَمانِ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقولُ
(1)
وذكَر الدابةَ، فقال حُذَيفةُ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، مِن أين تخرُجُ؟ قال: "مِن أعظمِ المساجدِ حرمةً على اللهِ، بينَما عيسى يَطُوفُ بالبيتِ ومعه المسلمون، إذ تضطرِبُ الأرضُ تحتَهم، تُحَرِّكُ القِنْديلَ، ويَنْشَقُّ الصَّفا مما يَلِى المَسْعَى، وتخرجُ الدَّابةُ مِن الصَّفا، أولَ ما يَبْدُو رأسُها مُلَمَّعَةً ذاتَ وَبَرٍ ورِيشٍ، لن
(2)
يُدْرِكَها طالبٌ، ولن
(3)
يَفُوتَها هارِبٌ، تَسِمُ الناسَ؛ مؤمنٌ وكافرٌ، أما المؤمنُ فتتركُ وَجْهَه كأنه كوكبٌ دُرَّيٌّ، وتكتبُ بينَ عينَيه: مؤمنٌ
(4)
، وأما الكافرُ فتَنْكُتُ بينَ عينَيه نُكْتَةً سوداءَ: كافرٌ
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو الحسينِ، عن حمادِ بن سَلَمةَ، عن عليّ بن زيدِ بن جُدْعَانَ، عن أوسِ بن خالدٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تخرُجُ الدَّابَّةُ معها خاتمُ سليمانَ، وعَصا موسى، فتَجْلُو وَجْهَ المؤمِنِ بالعصَا، وتَخْتِمُ
(6)
أنْفَ الكافرِ بالخاتمِ، حتى إن أهلَ البيتِ ليَجْتَمِعون، فيقولُ هذا: يا مؤمنُ. ويقولُ هذا: يا كافرُ"
(7)
.
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
في م، ت 1، ف:"لم".
(3)
في ت 1، ف:"لم".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ف.
(5)
أخرجه البغوي في تفسيره 6/ 179 من طريق المصنف، وذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 2/ 20 عن المصنف.
(6)
في ف: "تخطم". وهما روايتان.
(7)
أخرجه الطيالسي (2687)، ونعيم بن حماد (1860، 1861)، وأحمد (7937، 10361)، وابن ماجه (4066)، والترمذى (3187)، وابن أبي حاتم في تفسيره، 9/ 2923، والحاكم 4/ 485 من طريق حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 116 إلى عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في البعث.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سُفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ، قال: هي دابةٌ ذاتُ زَغَبٍ وريشٍ، ولها أربعُ قوائمَ، تخرُجُ مِن بعضِ أوْديةِ تِهامَةَ
(1)
.
قال: و
(2)
قال عبدُ اللِه بنُ عمرَ: إنها تَنْكُتُ في وَجْهِ الكافِرِ نُكْتَةً سوداءَ، فتَفْشُو في وَجْهِه، فيَسْوَدُّ وَجْهُه، وتَنْكُتُ في وَجْهِ المؤمنِ نُكْتةً بيضاءَ، فتَفْشُو في وَجْهِه، حتى يَبْيَضَّ وجهُه، فيجلِسُ أهلُ البيتِ على المائدةِ، فيعرِفون المؤمنَ مِن الكافرِ، ويَتبايَعون في الأسواقِ، فيعرِفون المؤمنَ مِن الكافرِ
(3)
.
حدَّثني ابن عبدِ الرحيمِ
(4)
البَرْقيُّ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: ثنا ابن لَهيعةَ ويحيى بنُ أيوبَ، قالا: ثنا ابن الهادِ، عن عمرَ
(5)
بن الحكمِ، أنه سمعَ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو يقولُ: تخرجُ الدابةُ مِن شِعْبٍ، فيَمَسُّ رأسُها السَّحابَ، ورِجْلاها في الأرضِ ما خرَجَتا، فتَمُرُّ بالإنسانِ يصلِّى، فتقولُ: ما الصلاةُ مِن حاجتِك. فتَخْطِمُه
(6)
.
حدَّثنا صالحُ بنُ مِسْمارٍ، قال: ثنا ابن أبي فُدَيكٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ عياضٍ، عن محمدِ بن إسحاقَ، أنه بلَغه عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، قال: تخرجُ دابةُ الأرضِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 84 - ومن طريقه نعيم بن حماد في الفتن (1862)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2920 - عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: م، ف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 84 - وعنه نعيم بن حماد في الفتن (1862) - عن معمر به، وعندهما عبد الله بن عمرو.
(4)
في ت 2: "الكريم".
(5)
في ت 2: "عمرو".
(6)
أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1852) من طريق ابن الهاد به.
ومعها خاتمُ سليمانَ، وعصا موسى، فأما الكافرُ فتَخْتِمُ بينَ عينَيه بخاتمِ سليمانَ، وأما المؤمنُ فتَمْسَحُ وجْهَه بعَصا موسى فيَبيضُّ.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {تُكَلِّمُهُمْ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {تُكَلِّمُهُمْ} بضَمِّ التاءِ وتشديدِ اللامِ، بمعنى: تُخبرُهم وتحدِّثُهم.
وقرَأه أبو زُرْعةَ بنُ عمرٍو: {تُكَلِّمُهُمْ} بفتحِ التاءِ وتخفيفِ اللامِ، بمعنى: تَسِمُهم
(1)
.
والقراءةُ التي لا أستجيزُ غيرَها في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} . قال: تحدِّثُهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} : وهى في بعض القراءةِ: (تحدِّثُهم أن الناسَ كانوا بآياتِنا لا يوقِنون)
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن
(1)
وهى قراءة ابن عباس وابن جبير والجحدري ومجاهد وأبى حيوة وابن أبي عبلة. البحر المحيط 7/ 97.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2926 من طريق أبي صالح به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى عبد بن حميد. وهذه القراءة قراءة يحيى بن سلام. البحر المحيط 7/ 97.
عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{تُكَلِّمُهُمْ} . قال: كلامُها: (تُنَبَّئُهم أن الناس كانوا بآياتِنا لا يُوقِنون)
(1)
.
وقولُه: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} . اختَلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقَرأتْه عامةُ قرأةِ الحجازِ والبصرةِ والشامِ: (إِنَّ النَّاسَ) بكسرِ الألفِ مِن "إن"
(2)
على وَجْهِ الابتداءِ بالخبرِ عن الناسِ أنهم كانوا بآياتِ اللهِ لا يُوقِنُون. وهى وإن كُسرت في قراءةِ هؤلاء، فإن الكلامَ لها مُتَناوِلٌ.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفة وبعضُ أهل البصرة: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا} بفتحِ {أَنَّ}
(3)
. بمعنى: تُكلِّمُهم بأن الناسَ. فيكونُ حينَئذٍ نصبًا بوقوعِ الكلامِ عليها.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قِراءتان
(4)
مُتقارِبتا المعنى، مُسْتفيضتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمُصِيبٌ
(5)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ نَجْمَعُ مِن كلِّ قرنٍ وملةٍ {فَوْجًا} . يعنى: جماعةً منهم وزُمْرةً، {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا}. يقولُ: ممَّن يُكَذِّبُ بأدلتِنا وحُجَجِنا، فهو
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 115 إلى المصنف. وبها قرأ أيضا أُبيّ. البحر المحيط 7/ 97.
(2)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. إتحاف فضلاء البشر ص 208.
(3)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائى ويعقوب وخلف. المصدر السابق.
(4)
بعده في ف: "معروفتان".
(5)
بعده في ت 2: "الصواب في قراءته".
يَحْبِسُ أوَّلَهم على آخرِهم؛ ليَجْتَمِعَ جميعُهم، ثم يُساقُون إلى النارِ.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} . يعنى: الشِّيعةَ عندَ الحشْرِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} . قال: زُمرةً
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيج، عن مجاهدٍ قولَه:{نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} . قال: زُمرةً زُمرةً، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} . قال: يقولُ: فهم يُدْفَعون
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولهِ:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} . قال: يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخرِهم
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 521، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2927، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2927، من طريق أبي صالح به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2856 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
قال: وَزَعةٌ تَرُدُّ أُولَاهم على أُخْرَاهم
(1)
وقد بَيَّنْتُ معنى قولِه: {يُوزَعُونَ} . فيما مضَى قبلُ بشواهدِه، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
وقولُه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} . يقولُ تعالى ذكرُه: حتى إذا جاء مِن كلِّ أمةٍ فوجٌ ممن يُكذِّبُ بآياتِنا، فاجْتَمَعوا، قال اللهُ لهم
(3)
: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} أي: بحُجَجِى وأدِلَّتى، {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}. يقولُ: ولم تَعْرِفوها حقَّ مَعْرِفتِها، {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيها
(4)
؛ مِن تكذيبٍ أو تصديقٍ؟
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ووجَب السَّخَطُ والغَضَبُ مِن اللهِ على المكذِّبين بآياتِه {بِمَا ظَلَمُوا} . يَعْنى: بتَكْذيبِهم بآياتِ اللهِ، يومَ يُحْشَرون، {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ}. يقولُ: فهم لا يَنْطِقون بحُجَّةٍ يَدْفَعون بها عن أنفسِهم عظيمَ ما حلَّ بهم، ووقَع عليهم مِن القولِ.
وقولُه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ألم يرَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2927، من طريق يزيد به.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 28، 29.
(3)
سقط من: م، ف.
(4)
سقط من: م.
هؤلاء المكذِّبون بآياتِنا تَصْرِيفَنا الليلَ والنهارَ، ومُخالَفَتنا بينَهما؛ بتصْييرِنا هذا سَكَنًا لهم يَسْكُنون فيه ويَهْدَءُون، لراحةِ
(1)
أبدانِهم مِن تَعَبِ التصرُّفِ والتقلُّبِ نهارًا، وهذا مُضِيئًا يُبْصِرون فيه الأشياءَ ويُعاينونها، فيتَقلَّبون فيه لمعايشِهم، فيتَفَكَّروا في ذلك ويَتَدبَّروا، ويَعْلَموا أن مُصَرِّفَ ذلك كذلك هو الإلهُ الذي لا يُعْجِزُه شيءٌ، ولا يَتَعذَّرُ عليه إماتةُ الأحياءِ، وإحياءُ الأمواتِ بعدَ المماتِ، كما لم يتَعذَّرْ عليه الذَّهابُ بالنهارِ والمَجيءُ بالليلِ، والمَجئُ بالنهارِ والذَّهابُ بالليلِ، مع اختلافِ أحْوالِهما، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: إن في تَصْييرِنا الليلَ سَكنًا والنهارَ مُبْصِرًا، لدَلالةً لقومٍ يُؤمنون باللهِ، على قدرتِه على ما آمنوا به مِن البَعْثِ بعدَ الموتِ، وحجةً لهم على توحيدِ اللهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} .
اختَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} . وقد ذكَرْنا اختلافَهم فيما مضى، وبيَّنا الصوابَ مِنَ القولِ في ذلك عندَنا بشَواهدِه
(2)
، غيرَ أنَّا نَذْكرُ في هذا الموضعِ بعضَ ما لم يُذْكرْ هناك من الأخبارِ؛ فقال بعضُهم: هو قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه.
ذِكْرُ بعضِ مَن لمْ يُذْكرْ فيما مضَى قبلُ من الخبرِ عن ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن
(1)
في م: "راحة".
(2)
ينظر ما تقدم في 9/ 339، 340، 15/ 415 - 419.
مجاهدٍ قولَه: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} . قال: كهيئةِ البُوقِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ، قال: الصُّورُ البُوقُ. قال: هو البوقُ، صاحبُه آخذٌ به، يَقْبِضُ قَبْضَتَينْ بكَفَّيْه على طَرَفِ القرنِ، بينَ طرَفِه وبينَ فِيهِ قَدْرُ قَبْضَةٍ
(2)
أو نحوها، قد برَك على رُكْبَةِ إحدى رجليْه، فأشار، فبرَك على رُكْبةِ يَسارِه مُقْعِيًا على قَدَمِهَا، عَقِبُها تحتَ فَخِذِه وألْيَتِه، وأطرافُ أصابِعِها في الترابِ
(3)
.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرِ بن عبدِ اللهِ، قال: الصُّورُ كهيئةِ القَرْنِ، قد حَجَن
(4)
إحدى رُكْبَتَيْه إلى السماءِ، وخفَض الأخرى، لم يُلقِ جفونَ عَينيْه
(5)
على غُمْضٍ
(6)
منذُ خلَق اللهُ السماواتِ، مَسْتعِدًا مُسْتَجِدًّا، قد وضَع الصُّورَ على فِيهِ يَنْتَظُرُ متى يُؤْمَرُ أَن يَنْفُخَ فِيه.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المحاربيُّ، عن إسماعيلَ بن
(7)
رافعٍ المدنيِّ، عن يزيدَ بن زيادٍ - قال أبو جعفرٍ: والصوابُ يزيدُ بنُ أبي زيادٍ - عن محمدِ بن كعبٍ القُرَضَى، عن رجلٍ مِن الأنصارِ، عن أبي هريرةَ، أنه قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، ما الصُّورُ؟ قال:"قَرْنٌ". قال: وكيف هو؟ قال:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2929 من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 22 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
(2)
في ت 2: "قبضته".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2929 من طريق حجاج به.
(4)
في م: "رفع".
(5)
في م: "عينه".
(6)
الغمض: النوم. اللسان (غ م ض).
(7)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"أبي".
"قرنٌ عظيمٌ يُنْفَخُ فِيه ثلاثُ نَفَحَاتٍ؛ الأُولى، نَفْحَةُ الفَزَعِ، والثانيةُ، نفخةُ الصَّعْقِ، والثالثةُ، نَفْخةُ القيامِ للهِ ربِّ العالمين، يَأْمُرُ الله إسرافيلَ بالنفخةِ الأولى، فيقولُ: انْفُخُ نفخةَ الفَزَعِ. فيَنْفُخُ نفخةَ الفَزَعِ، فيَفْزَعُ أهلُ السماواتِ وأهلُ الأَرضِ، إلا مَن شاء اللهُ، ويَأْمُرُه اللهُ فيَمُدُّ بها ويُطَوَّلُها، فلا يَفْتُرُ، وهى التي يقولُ اللهُ: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15]. فيُسَيرُ اللهُ الجبالَ، فتكونُ سرَابًا، وتُرَجُّ الأرضُ بأهلِها رَجًّا، وهى التي يقولُ اللهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 6 - 8]. فتكونُ الأرضُ كالسفينةِ المُوثقَةِ في البحرِ، تَضْرِبُها الأمواجُ، تَكَفَّأُ بأهلِها، أو كالقِنْديلِ المُعَلَّقِ بالوَتَرِ، تَرَجَّحُه الأرْياحُ، فتَمِيدُ الناسُ على ظهرِها، فتَذْهَلُ المَراضِعُ، وتَضَعُ الحَواملُ، وتَشِيبُ الوِلْدانُ، وتَطيرُ الشياطينُ هاربةً، حتى تَأْتىَ الأقْطارَ، فتَتَلَقَّاها الملائكةُ، فتَضْرِبُ، وجوهَها، فتَرْجِعُ، ويُوَلِّي الناسُ مُدْبِرين، يُنادِى بعضُهم بعضًا، وهو الذي يقولُ اللهُ: {يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 32، 33]. فبينَما هم على ذلك إذ تصَدَّعَتِ الأرضُ مِن قُطْرِ إلى قُطْرٍ، فرَأَوْا أمرًا عظيمًا، فأخَذَهم لذلك مِن الكربِ ما اللهُ أعلمُ به، ثم نظَروا إلى السماء، فإذا هي كالمُهْلِ، ثم خُسِف شمسُها وقمرُها، وانْتَثَرَتْ نُجُومُها، ثم كُشِطَت عنهم". قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والأمواتُ لا يَعْلَمون بشيءٍ مِن ذلك". فقال أبو هريرةَ: يا رسولَ اللهِ، فمَن اسْتَثْنَى اللهُ حينَ يقولُ:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ؟ قال: "أولئك الشهداءُ، وإنما يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأحياءِ، أولئك أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرْزَقون، وقاهم اللهُ فَزَعَ ذلك اليومِ وآمَنهم، وهو عذابُ اللهِ يَبْعَثُه على شِرارِ خلقِه"
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2928 - 2931 من طريق إسماعيل بن رافع، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة به، وينظر تخريجه فيما تقدم في 3/ 613.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، [قال: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ]
(1)
، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ رافعٍ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظِيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى لما فرَغ مِن السماواتِ والأرضِ خلق الصُّورَ، فأعْطاه مَلَكًا، فهو واضعُه على فِيه، شاخصٌ ببصرهِ إلى العرشِ يَنْتَظِرُ متى يُؤْمَرُ". قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، وما الصُّورُ؟ قال:"قرنٌ". قال: قلتُ: فكيف هو؟ قال: "عظيمٌ، والذي نفسي بيدِه، إن عِظَمَ دائرةٍ فيه
(2)
لكعرضِ السماواتِ والأرضِ، يَأْمُرُه فَيَنْفُخُ نفخةَ الفزعِ، فيَفْرَعُ أهلُ السماواتِ والأرضِ إلا منَ شاء اللهُ"
(3)
. ثم ذَكَر
(4)
باقيَ الحديثِ نحو حديثِ أبي كُرَيْبٍ، عن المُحارِبيِّ، غيرَ أنه قال في حديثِه:"كالسفينةِ المُرْفَأةِ في البحرِ".
وقال آخرون: [بل معنى ذلك: ونُفِخ في صورِ الخلْقِ]
(5)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} . أي: في الخلْقِ
(6)
.
قولُه: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} يقولُ: ففزِع مَن في
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ف.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"دارة". والدائرة والدارة: ما أحاط بالشيء. اللسان (د و ر).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2928 من طريق إسماعيل بن رافع به.
(4)
في ص، ت 2، ف:"ذكرنا".
(5)
في ت 2: "بمعنى ذلك، يقول: ففزع من في السماوات ومن في الأرض، نفخ في الصور الخلق".
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2929 من طريق يزيد به.
السماواتِ من الملائكةِ، ومَن في الأرضِ مِن الجنِّ والإنسِ والشياطينِ، مِن هَوْلِ ما يُعاينون ذلك اليومَ.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فَفَزِعَ} ، فجعل "فزِع"، وهى "فَعَل" مردودةً على {يُنْفَخُ} ، وهى "يَفْعَلُ"؟
قيل: العربُ تَفْعَلُ ذلك في المواضعِ التي تَصْلُحُ فيها "إذا"؛ لأن "إذا" يَصْلُحُ معها "فعل" و"يَفْعَلُ"، كقولِك: أزُورُك إذا زُرْتَنى. و: أَزُورُكَ إِذا تَزُورُني. فإذا وُضِع مكانَ "إذا"
(1)
"يوم"، أُجْرِى مُجرَى "إذا".
فإن قيل: فأين جوابُ قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} ؟
قيل: جائزٌ أن يكونَ مُضْمَرًا مع الواوِ، كأنه قيل: ووقَع القولُ عليهم بما ظلَموا فهم لا ينطِقون، وذلك يومَ يُنْفَخُ في الصورِ. وجائزٌ أن يكونَ متروكًا، اكْتُفِى بدَلالةِ الكلامِ عليه منه، كما قيل:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 165] فتُرِك جوابُه.
وقولُه: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . قيل: إن الذين اسْتَثْناهم اللهُ في هذا الموضعِ مِن أن يَنالَهم الفزعُ يومَئذِ، الشهداءُ، وذلك أنهم أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرْزَقون، وإن كانوا في عِدادِ الموتى عندَ أهلِ الدنيا. وبذلك جاء الأثرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقد ذكَرْناه في الخبرِ الماضي.
وحدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيْمٌ، قال: أخبَرنا العَوَّامُ، عمَّن حدَّثه، عن أبي هريرةَ، أنه قرَأ هذه الآيةَ:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . قال: هم الشهداءُ
(2)
.
وقولُه: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . يقولُ: وكلٌّ أَتَوْه صاغِرِين.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3، ف:"كذا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى سعيد بن منصور.
وبمثلِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . يقولُ: صَاغِرِين
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} قال: صاغرين
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قولِه: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . قال: الداخرُ: الصاغرُ الراغمُ. قال: لأن المرءَ الذي يَفْزَعُ، إذا فزِع إنما هِمَّتُه الهربُ مِن الأمرِ الذي فزِع منه. قال: فلما نُفِخ في الصورِ فزِعوا، فلم يَكُنْ لهم مِن اللهِ مَنْجًى
(3)
.
واختَلَفَت القرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ: (وكلٌّ آتُوه). بمدِّ الألفِ مِن (آتُوه). على مثالِ "فاعِلوه"
(4)
، سوى ابن مسعودٍ، فإنه قرَأه:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ} . على مثالِ "فعَلُوه". واتَّبعه على القراءةِ به المتأخرون؛ الأعمشُ وحمزةُ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2932 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 86 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2932، 2933 من طريق أصبغ، عن ابن زيد. وفيه الراهب بدلا من الراغم.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وأبى بكر والكسائي، وأبى جعفر ويعقوب. النشر 2/ 254.
(5)
هي أيضا قراءة خلف وحفص. المصدر السابق.
واعْتلَّ الذين قرَءوا ذلك على مثالِ "فاعِلُوه" بإجماعِ القرأةِ على قولِه: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} [مريم: 95]. قالوا: فكذلك قولُه: (آتُوه) في الجمعِ. وأما الذين قرَءوا على قراءةِ عبدِ اللهِ، فإنهم ردُّوه على قولِه:{فَفَزِعَ} . كأنهم وجَّهوا معنى الكلامِ إلى: ويومَ يُنْفَخُ في الصورِ ففزِع من في السماواتِ ومن في الأرضِ، وأتَوه كلُّهم داخرين. كما يقالُ في الكلامِ:[رآني ففَرَّ]
(1)
وعاد وهو صاغرٌ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مُسْتَفِيضتان في قرأةِ الأمصارِ، مُتقارِبتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
(2)
(88)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وتَرَى الجبالَ يا محمدُ يومَئِذٍ تَحْسَبُها قائمةً، وهى تَمرُّ.
كالذى حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} . يقولُ: قائمةً
(3)
.
وإنما قيل: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ؛ لأنها تُجمَعُ، ثم تَسيرُ، فيَحْسَبُ رائيها لكثرتِها أنها واقفةٌ، وهي تَسِيرُ سيرًا حثيثًا، كما قال الجَعْدِيُّ
(4)
:
(1)
في م: "رأى وفر".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يفعلون". وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. وبالتاء قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 487.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2933 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى ابن المنذر.
(4)
ديوانه ص 187.
بأَرْعَنَ
(1)
مثل الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم
…
وُقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ
(2)
قولُه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} : وأَوْثَقِ خلقَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . يقولُ: أَحْكَم كلَّ شيءٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . يقولُ: أَحْسَن كلَّ شيءٍ خلقه وأوْثَقه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . قال: أَتْرَصَ
(5)
كلَّ شيءٍ وسوَّى
(6)
.
(1)
الأرعن: الجيش العظيم وهو المضطرب لكثرته. اللسان (ر ع ن).
(2)
والهملجة والهملاج: حسن سير الدابة في سرعة اللسان (هملج).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2933، من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2934، عن محمد بن سعد به.
(5)
في م: "أوثق" وأترص: أحكم. يقال: أترصه هو وترَصه وترَّصه: أحكمه وقوَّمه. والتريص: المحكم. اللسان (ت ر ص).
(6)
تفسير مجاهد ص 521، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2934، وأخرجه ابن أبي حاتم أيضًا في 9/ 2933 من طريق ليث، عن مجاهد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{أَتْقَنَ} : أَتْرَصَ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ [قولَه:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . قال: أحسنَ كلَّ شيءٍ
(1)
.
وقولُه]
(2)
: (إنَّهُ خَبِيرٌ بما يفعلُون). يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله ذو علمٍ وخبرةٍ بما يَفْعَلُ عبادُه مِن خيرٍ وشرٍّ، وطاعةٍ له ومعصيةٍ، وهو مُجازى جميعِهم على جميعٍ ذلك؛ على الخيرِ الخيرَ، وعلى الشرِّ الشرَّ نظيرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: مَن جاء الله بتوحيدِه والإيمانِ به، وقولِ: لا إلهَ إلا اللهُ. مُوقِنًا به قلبُه، فله مِن هذه الحسنةِ عندَ اللهِ خيرٌ يومَ القيامةِ، وذلك الخيرُ أن يُثِيبَه اللهُ منها الجنةَ، ويُؤَمِّنَه مِن فَزَعِ الصَّيْحةِ الكبرى، وهى النفخُ في الصورِ.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . يقولُ: ومَن جاء بالشركِ به يومَ يَلْقاه، وجُحودِ وَحْدانيتِه، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ} في نارِ جهنمَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ خَلَفٍ العَسْقَلانيُّ، قال: ثنى الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ، قال: ثنا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من النسخ، والمثبت ما يستقيم به السياق، ومستفاد أيضًا من الدر المنثور.
يحيى بنُ أيوبَ البَجَليُّ، قال: سمِعْتُ أبا زرعةَ، قال: قال أبو هريرةَ - قال يحيى: أحْسَبُه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} . قال: وهى لا إلهَ إلا اللهُ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . قال: وهى الشرْكُ
(1)
.
حدَّثنا موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقيُّ، قال: ثنا أبو يحيى الحِمَّانيُّ، عن النضرِ بن عربيٍّ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} . قال: مَن جاء بـ: لا إله إلا اللهُ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . قال: بالشركِ.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . يقولُ: مَن جاء بـ: لا إلهَ إلا اللهُ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . وهو الشركُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: بالشركِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: كلمةِ الإخلاصِ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} .
(1)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1507) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين به، وأخرج آخره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2935 من طريق يحيى بن أيوب به، وذكر أوله في 9/ 2934 عن أبي هريرة موقوفا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر. عن أبي هريرة موقوفا.
(2)
تقدم تخريجه في 10/ 41.
قال: الشركِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه
(2)
.
قال ابن جريجٍ: وسمعْتُ عطاءً يقولُ فيها: الشركِ. يعنى في قولِه: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن أبي المُحَجَّل، عن أبي مَعْشَرٍ، عن إبراهيمَ، قال: كان يَحْلِفُ ما يَسْتَثْنى، أن {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}. قال: لا إلهَ إلا اللهُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}. قال: الشركِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا موسى بنُ عُبيدةَ، عن محمدِ بن كعبٍ:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . قال: الشركِ
(5)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا حفصٌ، قال: ثنا سعدُ
(6)
بنُ سعيدٍ، عن عليّ بن
(1)
تفسير مجاهد ص 521، وأخرج أوله الطبراني في الدعاء (1510) من طريق أبي عاصم به، وأخرجه أيضًا (1509) من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 118 إلى الفريابي وعبد بن حميد. وينظر ما تقدم في 10/ 41.
(2)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1512) من طريق ابن جريج به، وأخرجه أيضًا (1511) من طريق ليث عن مجاهد.
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 40.
(4)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1526) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء.
(5)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1527) من طريق موسى بن عبيدة به.
(6)
في م: "سعيد".
الحسينِ - وكان رجلًا غَزَّاءً - قال: بينا هو في بعض خَلَواتِه، حتى رفَع صوتَه: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، يُحْيى ويُمِيتُ، بيدِه الخيرُ، وهو على كلَّ شيءٍ قديرٌ. قال: فردَّ عليه رجلٌ: ما تقولُ يا عبدَ اللهِ؟ قال: أقولُ ما تَسْمَعُ. قال: أما إنها الكلمةُ التي قال اللهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: الإخلاصِ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: الشركِ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . يعنى: الشركِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن الحسنِ: ومن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ. يقولُ: الشركِ
(4)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . قال: السيئةُ الشركُ، الكفرُ
(5)
.
حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ العَدَنيُّ،
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 244، وابن كثير في تفسيره 6/ 227 مختصرا.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2934، 2935 معلقًا.
(3)
في ت 2: "الإخلاص".
والأثر تقدم تخريجه في 10/ 41.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 86 عن معمر به، وهو في تفسير مجاهد ص 521 من طريق حبيب بن الشهيد عن الحسن، وتقدم في 10/ 41.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 227.
قال: ثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ قولَه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} . قال: شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} . قال: السيئةُ الشركُ
(1)
. قال الحكمُ: قال عكرمةُ: كلُّ شيءٍ في القرآنِ السيئةُ فهو الشركُ.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا: فمنها وصل إليه الخيرُ. يعنى ابن عباسٍ بذلك: مِن الحسنةِ وصَل إلى الذي جاء بها، الخيرُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ عُبادةَ، قال: ثنا [حبيبُ بنُ]
(3)
الشهيدِ، عن الحسنِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . قال: له منها.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن الحسنِ قال: مَن جاء بـ: لا إلهَ إلا اللهُ، فلهُ
(4)
منها خيرٌ
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . يقولُ: له منها حظٌّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ: {مَنْ جَاءَ
(1)
أخرج أوله الطبراني في الدعاء (1530، 1531) من طريقين عن عكرمة.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2935 من طريق عطاء عن ابن عباس.
(3)
في النسخ: "حسين". وتقدم في 7/ 89. وينظر تهذيب الكمال 6/ 95.
(4)
بعده في م، ت 1، ف:"خير".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 86 عن معمر به.
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}. قال: له منها خيرٌ، فأما أن يكون له
(1)
خيرٌ من الإيمانِ فلا، ولكن منها
(2)
خيرٌ: يُصِيبُ منها خيرًا
(3)
.
حدَّثنا سعدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحكمُ، عن عكرمةَ قولَه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . قال: ليس شيءٌ خيرًا من لا إلهَ إلا الله، ولكن له مِنها خيرٌ
(4)
.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . قال: أعطَاه اللهُ بالواحدةِ عشرًا، فهذا خيرٌ منها
(5)
.
واختلفتِ القرآةُ في قراءةِ قولِه: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} . فقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ البصرةِ: (وَهُمْ مِن فَزَعِ يَوْمِئِذٍ آمَنُون) بإضافةِ (فَزَعِ) إلى "اليومِ"
(6)
. وقرَأ ذلك جماعةُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ: {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} . بتنوين {فَزَعٍ}
(7)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنّهما قراءتان مشهورتانِ في قرَأةِ الأمصارِ، متقاربَتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ، غيرَ أَنَّ الإِضافةَ أعجبُ
(1)
سقط من: م: ت 1، ف.
(2)
بعده في ت 2: "قال له منها".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 244.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2935 معلقًا.
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 183، 184، والقرطبي في تفسيره 13/ 244.
(6)
وهى قراءة ابن كثير وأبى عمرو ونافع وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 487.
(7)
وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
إليَّ؛ لأنَّه فَزَعٌ معلومٌ. وإذا كان ذلك كذلك كان معرفةً، على أن ذلك في سياقِ قولِه:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . فإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه عُنِى بقولِه:{وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} . مِن الفَزَعِ الذي قد جَرَى ذكرُه قبلَه. وإذا كان
(1)
كذلك، كان لا شكَّ أنه مَعْرفةٌ، وأَنَّ الإضافةَ إذا كان مَعْرفةً، به أولى مِن تركِ الإضافةِ، وأُخرى، أنَّ ذلك إذا أُضِيفَ فهو أبينُ أنَّه خبرٌ عن أمانِه مِن كلِّ أهوالِ ذلك اليومِ، منه إذا لم يُضَفْ ذلك، وذلك أنه إذا لم يُضَفْ كان الأغلبَ عليه أنه جعَل الأمانَ من فزعِ بعضِ أهوالِه.
وقولُه: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يُقالُ لهم: هل تُجزونَ أَيُّها المشركون إلا ما كنتم تَعْمَلون، إذ كَبَّكمُ اللهُ لوجوهِكم في النارِ، وإلَّا جزاءَ ما كنتم تَعْمَلون في الدنيا بما يُسْخِطُ ربَّكم.
وتَرَك: يقالُ لهم. اكتفاءً بدلالةِ الكلامِ عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، قُلْ:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} . وهى مكةُ، الذي حرَّمها على خلقِه أن يَسْفِكُوا فيها دمًا حرامًا، أو يَظْلِموا فيها أحدًا، أو يُصادَ صيدُها، أو يُخْتَلَى خَلاها، دونَ الأوثانِ التي تعبدُونها أيها المشركون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
بعده في م: "ذلك".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} : يعنى مكةَ
(1)
.
وقولُه: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} . يقولُ: ولربِّ هذه البلدةِ الأشياءُ كلُّها مِلْكًا، فإيَّاه أُمِرْتُ أن أعبدَ، لا مَن لا يملكُ شيئًا.
وإنما قال جلَّ ثناؤه: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} . فخصَّها بالذِّكرِ دونَ سائرِ البلدانِ، وهو ربُّ البلادِ كلِّها؛ لأنَّه أراد تعريفَ المشركين مِن قومِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الذين هم أهلُ مكةَ - بذلك نعمتَه عليهم، وإحسانَه إليهم، وأنَّ الذي يَنْبَغى لهم أن يَعبدُوه هو الذي حرَّم بلَدَهم، فمنَع الناسَ منهم، وهم في سائرِ البلادِ يأكل بعضُهم بعضًا، ويَقْتلُ بعضُهم بعضًا، لا مَن لم تَجْرِ له عليهم نعمةٌ، ولا يَقْدرُ لهم على نفع ولا ضرٍّ.
وقولُه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . يقولُ: وأَمرنى ربِّي أَن أُسْلِمَ وجْهِى له حنيفًا، فأكونَ من المسلمين الذين دانُوا بدينِ خليلِه إبراهيمَ وجدِّكم أيها المشركون، لا من خالف دينَ جدِّه المحقِّ، ودان دينَ إبليسَ عدوِّ اللهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قلْ: إنما أُمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدةِ، وأنْ أكونَ من المسلمين، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى}. يقولُ: فمَن اتَّبَعَنى وآمَن بي وبما
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 119 إلى عبد بن حميد.
جئتُ به، فسلَك طريقَ الرشادِ، {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}. يقولُ: فإِنما يَسْلُكُ سبيلَ الصوابِ، باتِّباعِه إيَّاى، وإيمانِه بى، وبما جئتُ به - لنفسِه؛ لأنه بإيمانِه بي، وبما جئتُ به، يأمنُ نقمتَه في الدنيا، وعذابَه في الآخرةِ.
وقولُه: {وَمَنْ ضَلَّ} . يقولُ: ومَن جار عن قصدِ السبيلِ، بتكذيبِه بي، وبما جئتُ به مِن عندِ اللهِ، {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: فقلْ يا محمدُ لِمَن ضلَّ عن قصدِ السبيلِ، وكذَّبك، ولم يصدِّقْ بما جئتَ به مِن عندى إنما أنا ممَّن يُنْذِرُ قومَه عذابَ اللهِ وسخَطَه، [على مَعْصيتِهم إيَّاه، وقد أنذَرْتُكم ذلك معشرَ كفارِ قُريشٍ، فإنْ قَبِلْتُم وانتَهَيْتُم عما يكرَهُه اللهُ مِنكم من الشركِ به]
(1)
، فحظوظَ أنفسِكم تُصيبون، وإن رَدَدْتُم وكذَّبْتُم، فعلى أنفسِكم جَنَيْتُم، وقد بلَّغتُكم ما أُمِرتُ بإبلاغه إيَّاكم، ونصحتُ لكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: و
(2)
قلْ يا محمدُ لهؤلاءِ القائلين لك من مشركي قومِك: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ؟ [النمل: 71]: الحمدُ للهِ على نعمتِه علينا، بتوفيقِه إيَّانا للحقِّ الذي أنتم عنه عَمُون، سيُريكم ربُّكم آياتِ عذابه وسَخَطِه، فتَعْرِفون بها حقيقةَ نُصْحى كان لكم، ويَتَبَيَّنُ صدقُ ما دعَوْتُكم إليه من الرشادِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدٌ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} . قال: في أنفسِكم، وفي السماءِ والأرضِ والرزقِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} . قال: في أنفسِكم والسماءِ والأرضِ والرزقِ.
وقولُه: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما ربُّك يا محمدُ بغافلٍ عمَّا يَعملُ هؤلاءِ المشركون، ولكن لهم أَجَلٌ هم بالِغُوه، فإذا بلَغوه، فلا يَسْتَأْخِرون ساعةً ولا يَسْتَقدمون. يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه: فلا يَحْزُنك تكْذيبُهم إيَّاك، فإنى مِن وراءِ إهلاكِهم، وإنى لهم بالمرصادِ، فأيْقِنْ لنفسِك بالنصرِ، ولعدوِّك بالذلِّ والخِزْى.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "النملِ"
[وللهِ الحمدُ والمِنَّةُ، وبه الثِّقةُ والعِصمةُ]
(2)
(1)
تفسير مجاهد ص 521، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره، 9/ 2937، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 119 إلى الفريابي وابن أبي شيبة.
(2)
في ف: "وهو آخر الجزء الثالث يتلوه في أول الجزء الرابع أول سورة القصص، وكان الفراغ منه يوم الأربعاء المبارك سلخ شوال المبارك سنة 1147 ألف ومائة وسبعة وأربعين على يد أفقر العباد إلى الله تعالى سلامة بن الحاج سلامة بن الحاج حجازى ضيف الله السندنهورى، غفر الله له ولوالديه ولمالكه ولمن نظر فيه عيبا وأصلحه والجميع المسلمين آمين آمين آمين والحمد لله رب العالمين، تم". وهذا آخر الموجود عندنا من هذه. النسخة.
تفسيرُ سورةِ القصصِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه جل ثناؤُه وتقدَّست أسماؤُه: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ: قد بَيَّنا فيما مضَى قبلُ تأويلَ قولِ اللهِ عز وجل: {طسم} . وذكَرنا اختلافَ أهلِ التأويلِ في تأويلِه
(1)
.
وأما قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} . فإنه يَعنى: هذه آياتُ الكتابِ الذي أنزَلتُه إليك يا محمدُ، المُبِينُ أنه من عندِ اللهِ، وأنك لم تَتَقَوَّلْه ولم تَتَخَرَّصْه.
وكان قتادةُ فيما ذُكِر عنه يقولُ في ذلك ما حدَّثني بشرُ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} . يَعنى: مُبِينٌ واللهِ بركتَه ورُشده وهداه
(2)
.
وقولُه: {نَتْلُو عَلَيْكَ} . يقولُ: نَقْرأُ عليك ونَقُصُّ في هذا القرآنِ من خبرِ موسى وفرعونَ بالحقِّ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: في هذا القرآنِ نَبَؤُهم
(3)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 17/ 542.
(2)
تقدم تخريجه في 13/ 6. وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2748 من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2938 من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد.
وقولُه: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: لقومٍ يُصَدِّقون بهذا الكتابِ؛ ليَعْلَموا أن ما نَتْلُو عليك من نَبئهم فيه نَبَؤُهم، وتَطْمَئِنَّ نفوسُهم بأن سُنَّتَنا في من خالَفَك وعاداك من المشركين سنّتُنا في من عادَى موسى ومن آمن به من بنى إسرائيلَ، من فرعونَ وقومِه؛ أن نُهْلِكَهم كما أهْلَكناهم، ونُنْجِيَهم منهم كما أنجيناهم منهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(4)}
يقولُ تعالى ذكرُه: إن فرعونَ تَجَبَّر في أرضِ مصرَ وتَكَبَّر، وعلا أهلَها وقهَرَهم، حتى أقَرُّوا له بالعُبُودةِ.
كما حدَّثنا موسى
(1)
بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بن حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: تَجَبَّر في الأرضِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} . أي: بغَى في الأرضِ
(3)
.
وقولُه: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} . يعنى بالشِّيَعِ الفِرَقَ. يقولُ: وجعَل أهلَها فِرَقًا متفرِّقين.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَجَعَلَ
(1)
في النسخ: "محمد". وهذا إسناد دائر.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 388 بإسناد السدى المعروف مطولا، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2938، 2939 من طريق عمرو بن حماد به، وسيفرق المصنف أجزاء منه فيما سيأتي.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2939 من طريق يزيد به.
أَهْلَهَا شِيَعًا}. أي: فِرَقًا؛ يُذَبِّحُ طائفةً منهم، ويَسْتَحْيِي طائفةً، ويُعَذِّبُ طائفةً، ويَسْتَعْبِدُ طائفةً، قال الله عز وجل:{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ هارون، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: كان من شأنِ فرعونَ أنه رأى رؤيا في منامِه، أن نارًا أَقْبَلتْ من بيتِ المقدسِ حتى اشتَمَلتْ على بُيوتِ مصرَ، فأحرَقَتِ القِبْطَ، وتركت بني إسرائيلَ، وأحرَقت بيوتَ مصرَ، فدَعا السحرةَ والكهنةَ والقافَةَ والحازَةَ، فسألهم عن رُؤياه، فقالوا له: يَخْرُجُ من هذا البلدِ الذي جاء بنو إسرائيلَ منه - يَعْنُون بيتَ المقدس - رجلٌ يكونُ على وجْهِه هلاكُ مصرَ. فأَمَر ببنى إسرائيلَ ألَّا يُولَدَ لهم غلامٌ إلا ذبَحوه، ولا تُولَدَ لهم جاريةٌ إلا تُركَت، وقال للقِبْطِ: انظُروا مَمْلُوكِيكم الذين يَعْمَلون خارجًا فأدْخِلوهم، واجْعَلوا بني إسرائيلَ يَلُون تلك الأعمالَ القذرة. فجعَل بني إسرائيلَ في أعمالِ غِلمانِهم، وأدْخَلوا غلمانَهم، فذلك حينَ يقولُ اللهُ:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} . يعنى بنى إسرائيلَ، حينَ جعَلهم في الأعمالِ القذرةِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} . قال: فَرَّق بينَهم
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2939 من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد.
(2)
جزء من الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(3)
تفسير مجاهد ص 522، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2939، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} . قال: فِرَقًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قولِه: وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا. قال: الشِّيَعُ الفِرَقُ
(1)
.
وقولُه: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} . ذُكِر أن استضعافَه إياها كان استعبادَه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ: يَسْتَعْبِدُ طائفةً منهم، ويُذَبِّحُ طائفةً، ويُقَتِّلُ طائفةً، ويَسْتَحْيِي طائفةً
(2)
.
وقولُه: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . يقولُ: إنه كان ممن يُفْسِدُ في الأرضِ؛ بقتلِه من لا يَسْتَحِقُّ منه القتلَ، واستعبادِه من ليس له استعبادُه، وتَجَبُّرِه في الأرضِ على أهلِها، وتَكَبُّرِه على عبادةِ ربِّه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}
وقوله: {وَنُرِيدُ} . عطفٌ على قولِه: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} . ومعنى الكلامِ: إن فرعونَ علا في الأرضِ، وجعَل أهلَها من بني إسرائيلَ فِرَقًا، يَسْتَضْعِفُ طائفةً منهم، ونحن نُرِيدُ أن نَمُنَّ على الذين استَضْعَفهم فرعونُ في الأرضِ من بنى إسرائيلَ، ونَجْعَلَهم أئمةً.
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2939 معلقا.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 87 عن معمر به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} . قال: بنو إسرائيلَ
(1)
.
وقولُه: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} . أي
(2)
: وُلاةً وملوكًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} . أي: ولاةَ الأمرِ
(3)
.
وقولُه: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} . يقولُ: ونَجْعَلَهم وُرّاثَ آلِ فرعونَ، يَرثُون الأرضَ مِن بعدِ مَهْلِكهم
(4)
.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} . أي: يَرِثُون الأرضَ بعدَ فرعونَ وقومِه
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ص، ت 1، وفي ت 2:"قال".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2941 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد.
(4)
في ت 2: "هُلكهم". وهما بمعنى.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2941 من طريق يزيد به.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} . يقولُ: يَرِثون الأرضَ بعدَ فرعونَ
(1)
.
وقولُه: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: ونُوَطِّئَ لهم في أرضِ الشامِ ومصرَ، {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} . كانوا قد أُخبروا أن هلاكَهم على يدِ رجلٍ من بني إسرائيلَ، فكانوا مِن ذلك على وَجلٍ منهم؛ ولذلك كان فرعونُ يُذَبِّحُ أبناءهم، ويَستَحْيى نساءَهم، فأَرَى اللهُ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما
(2)
من بنى إسرائيلَ، على يدِ موسى بن عِمرانَ نبيِّه، ما كانوا يَحْذَرُونه منهم؛ من هلاكِهم، وخرابِ منازلِهم ودُورِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} : شيئًا ما حَذِر القومُ. قال: وذُكِر لنا أن حازيًا حَزَا لعدوِّ اللهِ فرعونَ، فقال: يُولَدُ في هذا العامِ غلامٌ من بني إسرائيلَ، يَسْلُبُك ملكَك. فتَتَبَّعَ أبناءَهم ذلك العامَ، يُقَتِّلُ أبناءَهم، ويَستَحْيى نساءَهم؛ حَذرًا مما قال له الحازِى
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ، قال: كان لفرعونَ رجلٌ ينْظُرُ له ويُخبِرُه - كأنه
(4)
يعني أنه
(5)
كاهنٌ - فقال له: إنه يُولَدُ في هذا العامِ غلامٌ يَذْهَبُ مُلْكِكم. فكان فرعونُ يُذَبِّحُ أبناءَهم، ويَسْتَحْيى
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 87 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1:"جنوده".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2940 من طريق يزيد به.
(4)
سقط من: م.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"كأنه".
نساءَهم حذرًا. فذلك قولُه: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}
(1)
.
واختَلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قَرَأةِ الحجازِ والبصرةِ وبعضُ الكُوفيين: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} . بمعنى: ونُرِيَ نحن. بالنونِ عطفًا بذلك على قولِه: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ}
(2)
.
وقرأ ذلك عامَّةُ قَرَأَةِ الكُوفَةِ: (ويَرَى فِرْعَوْنُ). على أن الفعلَ لفرعونَ، بمعنى: ويُعاينَ فرعونُ. بالياءِ من "يَرَى"، ورَفْعِ "فرعونَ" و"هامان" و"الجنودِ"
(3)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قرأةِ الأمصارِ، متقاربَتا المعنى، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القَرَأَةِ، فبأيَّتهما قرأ القارئُ فهو مصيبٌ؛ لأنه معلومٌ أن فرعونَ لم يكنْ لِيَرَى من موسى ما رأى إلا بأن يُرِيَه اللهُ عز وجل منه، ولم يكنْ لِيُريَه اللهُ تعالى ذكرُه ذلك منه إلا رآه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأوْحيْنا إلى أُمِّ موسى حينَ ولَدت موسى أن أرْضِعيه.
وكان قتادةُ يقولُ في معنى ذلك: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} : قذَفنا في قلبِها. حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 87 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
وبها قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو. السبعة لابن مجاهد ص 492.
(3)
وبها قرأ حمزة والكسائي. المصدر السابق.
مُوسَى}: وحيًا جاءَها من اللهِ، فقَذَف في قلبِها - وليس يوحي نبوةٍ - أن أرْضِعى موسى، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} الآية
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو سفيانَ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} . قال: قذَف في نفسِها
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: أمرَ فرعونُ أن يُذْبَحَ مَن وُلِد من بنى إسرائيلَ سنةً، ويُترْكوا سنةً، فلما كان في السنةِ التي يَذْبَحون فيها حمَلت بموسى، فلما أرادت وضعَه، حَزنت من شأنِه، فأَوْحَى اللهُ إليها:{أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}
(3)
.
واختَلَف أهلُ التأويلِ في الحالِ التي أُمِرَتْ أُمُّ موسى أن تُلْقِيَ موسى في اليَمِّ؛ فقال بعضُهم: أُمِرَتْ أن تُلْقِيَه فيه بعدَ ميلادِه بأربعةِ أشهرٍ، وذلك حالَ طلبِه من الرَّضاع أكثرَ مما يَطْلُبُ الصبيُّ بعد حالِ سقوطِه من بطنِ أمِّه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ قولَه:{أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} . قال: إذا بلَغ أربعةَ أشهرٍ وصاح، وابْتَغَى من الرَّضاعِ أكثرَ من ذلك، {فَأَلْقِيهِ} حينَئذٍ {فِي الْيَمِّ}. فذلك قولِه:{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2941 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 87 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 120 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
تقدم أوله في ص 150، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2940 من طريق عمرو به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرِ بن عبدِ اللهِ، قال: لم يَقُلْ لها: إذا وَلَدتيه فألْقِيه في اليَمِّ. إنما قال لها: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} . بذلك أُمِرَت. قال: جعَلَتْه في بستانٍ، فكانت تَأتِيه كلَّ يومٍ فتُرْضِعُه، وتَأتِيه كلَّ ليلةٍ فَتُرْضِعُه، فيَكْفِيه ذلك.
وقال آخرون: بل أُمِرَت أن تُلْقِيَه في اليَمِّ بعدَ وِلادِها إياه وبعدَ رَضاعِها.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لما وضَعتْه أرْضَعتُه، ثم دعَت له نجارًا، فجعَل له تابوتًا، وجعَل مِفتاحَ التابوتِ من داخلٍ، وجعَلَتْه فيه، وألقَتْه في اليَمِّ
(1)
.
وأَولَى قولٍ قيل في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أمَر أمَّ موسى أن تُرْضِعَه، فإذا خافت عليه من عدوِّ اللهِ فرعونَ وجندِه أَن تُلْقِيَه في اليَمِّ. وجائزٌ أن تكونَ خافَتْهم عليه بعدَ أشهرٍ من وِلادِها إياه. وأيُّ ذلك كان، فقد فعَلَت ما أَوْحَى اللهُ إليها فيه، ولا خبرَ قامت به حجةٌ، ولا [في فطرةِ]
(2)
العقلِ بيانُ
(3)
أيِّ ذلك كان من أيٍّ، فأولى الأقوالِ في ذلك بالصحةِ أن يقالَ كما قال جلَّ ثناؤُه.
واليَمُّ الذي أُمِرَت أن تُلْقيَه فيه هو النيلُ.
كما حدَّثنا موسى قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} . قال: هو البحرُ، وهو النيلُ
(4)
.
(1)
تقدم أوله في ص 150.
(2)
في م: "فطرة في".
(3)
في م: "لبيان".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2942 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
وقد بَيَّنَّا ذلك بشواهدِه، وذِكرِ الروايةِ فيه فيما مضَى، بما أَغنَى عن إعادته
(1)
.
وقوله: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} . يقولُ: لا تَخافي على ولدِك من فرعونَ وجندِه أن يَقْتُلوه، ولا تَحْزَنى لفِراقِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} . قال: لا تَخافى عليه البحرَ، ولا تحزَنى لفِراقِه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}
(2)
.
وقولُه: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . يقولُ: إنا رادُّو ولدِك إليك للرَّضاعِ؛ لتكُونى أنت تُرْضِعينه، وباعِثوه رسولًا إلى من تَخافِينه عليه أن يَقْتُلَه. وفعَل اللهُ ذلك بها وبه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} : وباعثوه رسولًا إلى هذه الطاغيةِ، وجاعلو هلاكِه ونجاةِ بني إسرائيلَ مما هم فيه من البلاء على يديه
(3)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 16/ 58.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2942 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2943 من طريق سلمة به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} : فأصابوه وأخَذوه. وأصلُه من اللُّقَطَةِ، وهو ما وُجِد ضالًّا فأُخِذَ. والعربُ تقولُ لما وَرَدت عليه فجأةً من غيرِ طلبٍ
(1)
له ولا إرادةٍ: أَصَبْتُه التقاطًا. ولَقِيتُ فلانًا التقاطًا. ومنه قولُ الراجزِ
(2)
:
ومَنْهَلٍ وَرَدْتُه الْتِقاطَا
لَمْ أَلْقَ إِذْ ورَدْتُه فُرَّاطًا
(3)
يعني فجأةً.
واختَلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بقولِه: {آلُ فِرْعَوْنَ} في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بذلك جوارِى امرأةِ فرعونَ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: أَقْبَل الموجُ بالتابوتِ، يَرْفَعُه مرةً ويَخْفِضُه أخرى، حتى أَدْخَله بين أشجارٍ عند بيتِ فرعونَ، فخرَج جوارى آسية امرأة فرعونَ يَغْتَسِلْن
(4)
، فوجَدْن التابوتَ، فَأَدخَلْنه إلى آسيةَ. وظَنَنَّ أن فيه مالًا، فلما نظَرت إليه آسيةُ، وقَعَت عليها رحمتُه، فأَحَبَّته، فلما أخْبَرت به فرعونَ أراد أن يَذْبَحَه، فلم تَزَلْ آسيةُ تُكَلِّمُه، حتى ترَكه لها، قال: إني
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"طالب".
(2)
هو نِقادة الأسدى. والرجز في العين 5/ 101، والتمهيد 20/ 256، ومعجم ما استعجم 3/ 779، وتفسير القرطبي، 13/ 252، واللسان (ف ر ط، ل ق ط).
(3)
فُرّاط القَطا: متقدِّماتها إلى الوادي والماء. (ف ر ط).
(4)
في النسخ: "يغسلن". والمثبت مما تقدم في 1/ 666.
أخافُ أن يكونَ هذا من بنى إسرائيلَ، وأن يكونَ هذا الذي على يديه هلاكُنا. فذلك قولُ اللهِ:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِى به ابنةُ فرعونَ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدُ بن قيسٍ، قال: كانت بنتُ فرعونَ برصاءَ، فجاءت إلى النيلِ، فإذا التابوتُ في النيلِ تَخْفِقُه الأمواجُ، فأَخَذَتْه بنتُ فرعونَ، فلما فتَحتِ التابوتَ إذا هي بصبيٍّ، فلما اطَّلَعت في وجهِه بَرَأت من البرصِ، فجاءت به إلى أمِّها فقالت: إن هذا الصبيَّ مباركٌ، لَمَّا نظَرتُ إليه بَرِئتُ. فقال فرعونُ: هذا من صبيانِ بني إسرائيلَ، هَلُمَّ حتى أقْتُلَه. فقالت:{قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} .
وقال آخرون: عُنِى به أعوان فرعونَ.
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: أصبَح فرعونُ في مجلسٍ له كان يَجْلِسُه على شَفِيرِ النيلِ كلَّ غَداةٍ، فبَيْنا هو جالسٌ، إذ مَرَّ النيلُ بالتابوتِ يَقْذِفُ به، وآسيةُ بنتُ مُزاحمٍ امرأتُه جالسةٌ إلى جنبِه، فقالت: إن هذا لشيءٌ في البحرِ، فأْتُونى به. فخرَج إليه أعوانُه حتى جاءوا به، ففتَح التابوتَ، فإذا فيه صبيٌّ في مَهْدِه، فأَلْقَى اللهُ عليه محبَّتَه، وعطَف عليه نفسَه، قالت امرأتُه آسِيةُ:{لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}
(2)
.
(1)
تقدم أوله في ص 150، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 119 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
تقدم تخريجه في 16/ 57.
ولا قولَ في ذلك عندَنا أولى بالصوابِ مما قال الله عز وجل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} .
وقد بيَّنَّا معنى "الآلِ" فيما مضَى، بما فيه الكفايةُ من إعادته هاهنا
(1)
.
وقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . فيقولُ القائلُ: لِيَكونَ موسى لآلِ فرعونَ عدوًّا وحزنًا الْتَقَطوه، فيقالُ:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . قيل: إنهم حينَ الْتَقَطوه لم يَلْتَقِطوه لذلك؛ بل لِمَا تَقَدَّم ذكرُه.
ولكنه إن شاء اللهُ كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ في قولِه:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . قال: ليَكونَ لهم في عاقبةِ أمرِه عدوًّا وحزَنًا؛ لِما أراد اللهُ به، وليس لذلك أخَذوه
(2)
.
ولكنَّ امرأةَ فرعونَ قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} . فكان قولُ اللهِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . لِمَا هو كائنٌ في عاقبةِ أمرِه لهم، وهو كقولِ القائلِ لآخرَ إذا قَرَّعه بالفعلِ
(3)
- كأنْ فعَله وهو يَحسَبُ
(4)
محسنًا في فعلِه، فأدّاه فعلُه ذلك إلى مَساءةٍ مُنَدِّمًا له على فعلِه: فعَلتَ هذا لضُرِّ نفسِك، ولتَضُرَّ به نفسَك فعَلتَ. وقد كان الفاعلُ في حال فعلِه ذلك عندَ نفسِه يَفْعَلُه راجِيًا نَفْعَه، غيرَ أن العاقبةَ جاءَت بخلافِ ما كان يَرْجُو. فكذلك قولُه:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . إنما هو: فالتَقطه آلُ فرعونَ، ظنًّا منهم أنهم مُحْسِنون إلى أنفسِهم؛ ليكونَ قرةَ عينٍ لهم، فكانت عاقبةُ الْتِقاطِهم إياه منه
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 641.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2944 من طريق سلمة به.
(3)
في م: "لفعل".
(4)
في ص، ت 1:"يحسبه".
هلاكَهم على يديه.
وقولُه: {عَدُوًّا وَحَزَنًا} . يقولُ: يَكونُ لهم عدوًّا في دينِهم، وحَزَنًا على ما ينالُهم منه من المكروهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} : عدوًّا لهم في دينِهم، وحَزَنًا لما يَأْتِيهم
(1)
.
واختَلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامَّةُ قَرَأَةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ أهلِ الكوفةِ: {وَحَزَنًا} . بفتحِ الحاءِ والزايِ. وقَرَأته عامةُ قَرَأةِ الكوفةِ: (وَحُزْنا). بضمِّ الحاءِ وتسكينِ الزايِ
(2)
.
والحَزَنُ بفتحِ الحاءِ والزايِ، مصدرٌ من: حَزِنتُ حَزَنًا، والحُزْنُ بضمِّ الحاءِ وتسكينِ الزايِ، الاسمُ؛ كالعَدَمِ والعُدْمِ، ونحوِه.
والصوابُ من القول في ذلك أنهما قراءتان متقارِبَتا المعنى، وهما - على اختلافِ اللفظِ فيهما - بمنزلةِ العَدَمِ والعُدْمِ، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا بربِّهم آثِمين؛ فلذلك كان لهم موسى عدوًّا وحَزَنًا.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
قرأ حمزة والكسائي بضم الحاء وإسكان الزاى، وقرأ الباقون بفتحهما. الكشف 2/ 172.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقالتِ امرأةُ فرعونَ له: هذا قُرَّةُ عينٍ لى ولك يا فرعونُ.
فـ {قُرَّتُ عَيْنٍ} مرفوعةٌ بمضْمَرٍ هو "هذا"، أو "هو".
وقولُه: {لَا تَقْتُلُوهُ} . مسألةٌ من امرأةِ فرعونُ
(1)
ألَّا يَقْتُلَه. وذُكِر أن المرأةَ لما قالت هذا القول لفرعونَ، قال فرعونُ: أمّا لكِ فنَعَم، وأمّا لى فلا. فكان كذلك.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدِ بن قيسٍ، قال: قالت امرأةُ فرعونَ: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} . قال فرعونُ: قرةُ عينٍ لكِ، أما لي فلا. قال محمدُ بنُ قيسٍ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لو قال فرعونُ: قرةُ عينٍ لى ولكِ. كان لهما جميعًا"
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: اتَّخَذه فرعونُ ولدًا، ودُعِى على أنه ابن فرعونَ، فلما تَحَرَّك الغلامُ، أرَتْه أمُّه آسيةُ صبيًّا، فبينما هي تُرَقِّصُه وتَلْعَبُ به، إذ ناوَلَتْه فرعونَ، وقالت: خُذْه، قرةُ عينٍ لى ولك. قال فرعونُ: هو قرةُ عينٍ لكِ، و
(3)
لا لى. قال عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ: لو أنه قال: وهو لى قرةُ عينٍ. إذَن لآمَن به، ولكنه أبَى
(4)
.
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى المصنف.
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} : تَعْنِى بذلك موسى
(1)
.
حدَّثنا العباسُ بن الوليدِ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا القاسمُ بنُ أبي أيوبَ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما أتَت بموسى امرأةُ فرعونَ فرعونَ قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ. قال فرعونُ: يكونُ لكِ، فأما لى فلا حاجةَ لي فيه. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والذي يُحْلَفُ به، لو أَقَرَّ
فرعونُ أن يكونَ له قرةَ عينٍ كما أقَرَّت، لهداه اللهٌ به كما هَدى به امرأتَه، ولكنَّ الله حَرَمَه ذلك"
(2)
.
وقولُه: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} . ذُكِر أن امرأةَ فرعونَ قالت هذا القولَ حينَ همَّ بقتلِه. قال بعضُهم: حينَ أُتى به يومَ التَقَطه من اليَمِّ. وقال بعضُهم: بل
(3)
يومَ نتَف من لحيتِه، أو ضرَبه بعصًا كانت في يدِه.
ذكرُ من قال: قالت ذلك يومَ نتَف لحيتَه
حدَّثنا موسى قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما أُتِي فرعونُ به صبيًّا، أخَذه إليه، فأخَذ موسى بلحيتِه فنتَفها، قال فرعونُ: عليَّ بالذبّاحين
(4)
، هو هذا. قالت آسيةُ:{لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} . إنما هو صبيٌّ لا يَعْقِلُ، وإنما صنَع هذا من صِباه
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(3)
سقط من: م، ت 2.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"الذباحين".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} . قال: أُلْقِيَت عليه رحمتُها حينَ أبصَرتْه
(1)
.
وقولُه: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: وهم لا يَشْعُرون أن هلاكَهم على يديه
(2)
.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال: وهم لا يَشْعُرون أن هَلَكَتَهم على يديه
(2)
وفى زمانِه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ
(3)
، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال: أن هلاكَهم على يديه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال: آلُ فرعونَ أنه لهم عدوٌّ
(5)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهم لا يَشْعُرون بما هو كائنٌ من أمرِهم وأمرِه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاقَ، قال: قالت امرأةُ فرعونَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945 من طريق يزيد به.
(2)
في م: "يده".
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 87 عن معمر به.
(5)
تفسير مجاهد ص 525. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945.
آسِيةُ: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . يقولُ اللَّهُ: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . أي: بما هو كائنٌ
(1)
مما أراد اللَّهُ به
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى قولِه: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : وبنو إسرائيلَ لا يَشْعُرُون أَنَّا الْتَقَطناه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدِ بن قيسٍ:{لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال: يقولُ: لا يَدْرِى
(3)
بنو إسرائيلَ أَنَّا الْتَقَطناه.
والصوابُ من القولِ في ذلك قولُ من قال: معنى ذلك: وفرعونُ وآلُه لا يَشْعُرون بما هو كائنٌ من هلاكِهم على يديه.
وإنما قلنا: ذلك أَولى التأويلاتِ به؛ لأنه عَقِيبَ قولِه: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} . وإذا كان ذلك عَقِيبَه
(4)
، فهو بأن يكونَ بيانًا عن القولِ الذي هو عَقِيبَه
(4)
أحقُّ من أن يكونَ بيانًا عن غيرِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)} .
(1)
في م: "بما".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2945 من طريق سلمة به.
(3)
في م، ت 1:"تدري".
(4)
في م، ت 2:"عقبه".
اختَلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي عَنَى اللَّهُ أنه أصبَح منه فؤادُ أمِّ موسى فارغًا؛ فقال بعضُهم: الذي عنَى جلَّ ثناؤُه أنه أصبَح منه فؤادُ أمِّ موسى فارغًا، كلُّ شيءٍ سوَى ذكرِ ابنِها موسى.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ العلاءِ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن مجاهدٍ وحسانَ أبى الأشْرَسِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: فرَغ من كلِّ شيءٍ إلا من ذكرِ موسى.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن حسانَ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: فارغًا من كلِّ شيءٍ إلا من ذكرِ موسى
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ
(2)
، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن رجلٍ، عن ابن عباسٍ:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال
(3)
: من كلِّ شيءٍ إلا من هَمَّ موسى
(4)
.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: يقولُ: لا تَذْكُرُ إِلَّا موسى.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2946، والحاكم 2/ 406 من طريق عبدُ الرحمنِ بن مهدي به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "عبد اللَّه". وهو عبيد اللَّه بن موسى، تقدم مرارا.
(3)
بعده في م: "فارغًا".
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 25 من طريق أبي إسحاقَ، عن ابن عباسٍ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهُ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: مِن كُلِّ شيءٍ غيرَ ذكرِ موسى
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: فرَغ من كلِّ شيءٍ إلا من ذكرِ موسى.
حدَّثني عبدُ الجبارِ بنُ يحيى الرَّمْليُّ، قال: ثنا ضَمْرَةُ بنُ ربيعةَ، عن ابن شَوْذَبٍ، عن مَطَرٍ في قولِه:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: فارغًا من كلِّ شيءٍ إِلا مِن هَمِّ موسى.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . أي: لاغيًا من كلِّ شيءٍ إلا مِن ذكرِ موسى
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدٌ، قال: سَمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: فرَغ من كلِّ شيءٍ غيرَ ذكرِ موسى
(3)
.
وقال آخرون: بل عنَى أن فؤادَها أصبَح فارغًا من الوحيِ الذي كان اللَّهُ أوحاه إليها، إذ أمَرها أن تُلْقِيَه في اليمِّ؛ فقال:{وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . قال: فحَزِنَت ونَسِيَتْ عهدَ اللَّهِ إليها، فقال اللَّهُ عز وجل:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} من وحيِنا الذي أوحَيناه إليها.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2946 من طريق يزيدُ به.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 233.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . قال: فارغًا من الوحيِ الذي أَوْحَى اللَّهُ إليها، حينَ أمَرها أن تُلْقِيَه في البحرِ ولا تخافَ ولا تَحْزَنَ. قال: فجاءَها الشيطانُ فقال: يا أمَّ موسى، كَرِهْتِ أَن يَقْتُلَ فرعونُ موسى، فيَكونَ لكِ أجرُه وثوابُه، وتَوَلَّيتِ قتلَه، فألقيتِيه في البحرِ وغَرَّقتيه! فقال اللَّهُ:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} من الوحيِ الذي أُوحِى
(1)
إليها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرِ بن عبدِ اللهِ، قال: ثنى الحسنُ، قال: أصبَح فارغًا من العهدِ الذي عَهِدْنا إليها، والوعدِ الذي وعَدناها أن نَرُدَّ عليها ابنَها، فنَسِيت ذلك كلَّه، حتى كادَتْ أَن تُبْدِيَ به لولا أن ربَطنا على قلبِها
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابن إسحاقَ: قد كانت أمُّ موسى تَرْفَعُ له حينَ قذَفَته في البحرِ؛ هل تَسْمَعُ له بذكرٍ، حتى أتاها الخبرُ بأن فرعونَ أصاب الغداةَ صبيًّا في النيلِ في التابوتِ، فعرَفت الصفةَ، ورأت أنه وقَع في يدى عدوِّه الذي فَرَّت به منه، وأصبَح فؤادُها فارغًا من عهدِ اللَّهُ إليها فيه، قد أنساها عظيمُ البلاءِ ما كان من العهدِ عندَها من اللَّهِ فيه
(3)
.
وقال بعضُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ
(4)
: معنى ذلك: وأصبَح فؤادُ أمِّ موسى
(1)
في م، ت 2:"أوحاه".
(2)
ينظر التبيان 8/ 117.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2946 من طريق سلمة به.
(4)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 98.
فارغًا من الحُزْنِ؛ لعلمِها بأنه لم يَغْرَقْ. قال: وهو من قولِهم: دمٌ فَرْغٌ. أي: لا قَوَدَ ولا دِيَةَ. وهذا قولٌ لا معنَى له؛ لخلافِه قولَ جميعِ أهلِ التأويلِ.
قال أبو جعفرٍ: وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ عندى قولُ من قال: معناه: وأصبَح فؤادُ أمِّ موسى فارغًا من كلِّ شيءٍ إلا من هَمِّ موسى.
وإنما قلْنا: ذلك أَولى الأقوالِ فيه بالصوابِ؛ لدلالَةِ قولِه: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} . ولو كان عنَى بذلك فراغَ قلبِها من الوحيِ، لم يُعْقِبْ بقولِه:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} . لأنها إن كانت قارَبَت أن تُبْدِي الوحىَ، فلم تَكَدْ أن تُبْدِيَه إلا لكثرةِ ذكرِها إياه ووُلُوعِها به، ومحالٌ أن تكونَ به وَلِعةً إلا وهى ذاكرةٌ. وإذا كان ذلك كذلك، بطَل القولُ بأنها كانت فارغةَ القلبِ مما أُوحِى إليها. وأُخرى، أن اللَّهَ تعالى ذكرُه أخبَرَ عنها أنها أصبَحت فارغةَ القلبِ، ولم يَخْصُصْ فراغَ قلبِها من شيءٍ دونَ شيءٍ، فذلك على العمومِ، إلا ما قامَت حُجتُه أن قلبَها لم يَفْرُغُ منه.
وقد ذُكِر عن فَضَالةَ بن عُبيدٍ أنه كان يَقْرَؤُه: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فازعًا). من الفَزَعِ
(1)
.
وقولُه: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} . اختَلَفَ أهلُ التأويلِ في المعنَى الذي عادت عليه الهاءُ في قولِه: {بِهِ} ؛ فقال بعضُهم: هي من ذكرِ موسى، وعليه عادت.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن مجاهدٍ،
(1)
الأضداد لابن الأنبارى ص 297، ومعاني القرآن للفراء 2/ 303.
وحسانَ أبى الأَشْرَسِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} : أن تقولَ: يا ابناه.
قال: ثني يحيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن حسانَ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} : أن تقولَ: يا ابناه.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن حسانَ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} . أن تقولَ: يا بُنَيَّاه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} . أي: لَتُبْدِى به أنه ابنُها؛ من شدةِ وَجْدِها
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لما جاءت أمُّه أخَذ منها، يعنى الرَّضاعَ، فكادت أن تقولَ: هو ابني. فعصَمها اللَّهُ، فذلك قولُ اللهِ:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}
(3)
.
وقال آخرون: بما أَوْحَيْناه إليها. أي: تَظْفَرُ
(4)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك ما قاله الذين ذكَرنا قولَهم أنهم قالوا: إن كادت لَتقولُ: يا بُنَيَّاه. لإجماعِ الحجةِ مِن أهلِ التأويلِ على ذلك، وأنه عَقِيبَ قولِه:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} . فلأن يكونَ - لو لم يكنْ ممن ذكَرنا في ذلك
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2947، والحاكم 2/ 406 من طريق عبدُ الرحمنِ بن مهدي به.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2947 من طريق يزيد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2947 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
(4)
في ت 1: "يظفر".
إجماعٌ على ذلك - من ذكرِ موسى؛ لقربِه منه، أشبهَ من أن يكونَ من ذكرِ الوحيِ.
وقال بعضُهم: بل معنى ذلك: إن كادت لَتُبْدِي بموسى فتقولُ: هو ابني.
قال: وذلك أن صدرَها ضاق إذ نُسِب إلى فرعونَ، وقيل: ابن فرعونَ.
وعنى بقولِه: {لَتُبْدِي بِهِ} : لَتُظْهِرُه وتُخْبِرُ به.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدٌ، قال: سَمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} : لَتُشْعِرُ به.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} . قال: لَتُعْلِنُ بأمرِه، {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وقولُه: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} . يقولُ: لولا أن عصَمناها من ذلك، بتَثْبِيتِناها وتَوفِيقِناها للسكوتِ عنه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال اللَّهُ: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي: بالإيمانِ؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2947 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 88 عن معمر عن قتادةَ.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: كادت تقولُ: هو ابنى. فعصَمها اللَّهُ، فذلك قولُ اللهِ:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}
(1)
.
وقولُه: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: عصَمناها من إظهارِ ذلك وقيلِه بلسانِها، وثَبَّتناها للعهدِ الذي عهِدنا إليها؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بوعدِ اللَّهِ، الموقِنين به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقالت أمُّ موسى لأختِ موسى حينَ الْقَتْه في اليَمِّ: {قُصِّيهِ} . يقولُ: قُصِّي أثرَ موسى؛ اتَّبِعى أثرَه. يُقالُ
(2)
: قَصَصْتُ آثارَ القومِ. إذا اتَّبعتَ آثارَهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} . قال: اتَّبِعى أثرَه كيف يُصْنَعُ به
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2947 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
(2)
في م: "يقولُ".
(3)
تفسير مجاهد ص 525. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وليس هذا الجزء عنده.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{قُصِّيهِ} . أي: قُصَّى أثرَه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} . قال: اتَّبِعى أثرَه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} . أي: انْظُرِى ماذا يَفْعَلُون به
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} . يعنى: قُصِّى أثرَه
(3)
.
حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا القاسمُ بنُ أبي أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} . أي: قُصِّي أثرَه واطْلُبِيه، هل تَسْمَعِين له ذكرًا؟ أحيٌّ ابنى أو قد أكَلَتْه دوابُّ البحرِ وحيتانُه؟ ونَسِيَتِ الذي كان اللهُ وعَدَها
(4)
.
وقولُه: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فقَصَّت أختُ موسى أثرَه، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}. يقولُ: فبَصُرَت بموسى عن بُعدٍ، لم تَدْنُ منه، ولم تَقرَبْ؛ لئلا يُعْلَمَ أنها منه بسَبيلٍ.
يقالُ منه: بَصُرْتُ به وأبْصَرْتُه. لغتان مشهورتان. وأبْصَرتُ عن جُنُبٍ وعن جَنابةٍ. كما قال الشاعرُ
(5)
:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2948 من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 88 عن معمرٍ، عن قتادةَ.
(3)
تقدم أوله في ص 150.
(4)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(5)
هو الأعشى، والبيت في ديوانه ص 65.
أَتَيْتُ حُرَيْثًا زائرًا عن جَنابةٍ
…
فكان حُرَيْثٌ عن عَطائىَ جامِدًا
(1)
يعنى بقولِه: عن جَنَابةٍ: عن بُعدٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{عَنْ جُنُبٍ} . قال: بُعدٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{عَنْ جُنُبٍ} . قال: عن بُعدٍ.
قال ابن جُرَيجٍ: {عَنْ جُنُبٍ} . قال: هي على الجُدِّ
(3)
في الأرضِ، وموسى يَجْرِى به النيلُ، وهما مُتَحاذيان كذلك، تَنظُرُ إليه نظرةً، وإلى الناسِ نظرةً، وقد جُعِل في تابوتٍ مُقيَّرٍ ظَهْرُه وبطنُه، وأَقْفَلَتَه عليه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال:[حدَّثنا أبو]
(4)
سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} . يقولُ: بَصُرَت به وهى مُحَاذِيتُه لم تأْتِه
(5)
.
(1)
في م: "جاحدا".
(2)
تفسير مجاهد ص 525، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2948، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م، ت 1، ت 2:"الحد". والجد: شاطئ النهر. اللسان (ج د د)
(4)
في م: "ثني حجاج عن أبي".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 88 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2948 - عن معمرٍ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: ثنى القاسمُ بنُ أبي أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} : والجُنُبُ: أَن يَسْمُوَ بصرُ الإنسانِ إلى الشيءِ البعيدِ، وهو إلى جَنْبِهِ لا يَشْعُرُ به
(1)
.
وقولُه: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . يقولُ: وقومُ فرعونَ لا يَشْعُرون بأختِ موسى أنها أختُه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال: آلُ فرعونَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَنَّها أختُه. قال: جعَلت تَنْظُرُ إليه كأَنَّها لا تُريدُه
(3)
.
(1)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(2)
تفسير مجاهد ص 525، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وليس هذا الجزء عنده.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949 من طريق يزيد به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 88 عن معمر، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيَّ:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : أَنَّها أختُه
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . أي: لا يَعْرِفون أنها منه بسبيلٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَنَعْنا موسى المراضعَ أن يَرْتَضِعَ منهن من قَبْلِ أمِّه. ذُكِر أن [أختًا لموسى]
(3)
هي التي قالت لآلِ فرعونَ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} .
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: أرادوا له المُرْضِعاتِ، فلم يأخُذُ مِن أحدٍ من النساءِ، وجعَل النساءُ يَطْلُبن ذلك ليَنزِلْنَ عندَ فرعونَ في الرَّضَاعِ، فأبى أن يأخذَ، فذلك قولُه:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ} . أختُه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} . فلما جاءت أمُّه أخَذ منها (1).
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949 من طريق سلمة به.
(3)
في ت 2: "أخت موسى".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . قال: لا يَقْبَلُ ثَدْيَ امْرَأَةٍ حتى يَرْجِعَ إلى أمَّهِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن حسانَ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . قال: كان لا يؤتَى بمُرْضِعٍ فيَقْبلُها
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . قال: لا يَرْضَعُ ثَدْيَ امْرَأَةٍ حتى يرجعَ إلى أمِّه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . قال: فجعَل لا يُؤْتَى بامرأةٍ إلا لم يأخُذْ ثَدْيَها. قال: فقالت أختُه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: جَمَعوا
(4)
المراضِعَ حينَ ألْقَى اللَّهُ مَحبَّتَهم عليه، فلا يُؤتَى بامرأةٍ فيَقْبَلُ ثديَها، فيُرْمِضُهم ذلك
(5)
، فيُؤْتَى
(1)
تفسير مجاهد ص 525. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949، والحاكم 2/ 406، 407 من طريق عبد الرحمنِ بن مهدى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121 إلى الفريابي.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 88 عن معمر عن قتادةَ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "اجمعوا".
(5)
الرَّمَض: حرْقةُ الغيظ. اللسان (ر م ض).
بمُرْضِعٍ بعد مُرضِعٍ، فلا يَقْبَلُ شيئًا منهن، فقالت لهم أختُه حينَ رأت مِن وَجْدِهم به، وحِرْصِهم عليه:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}
(1)
.
ويعنى بقولِه: {يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} : يَضْمَنونه لكم.
وقولُه: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} . ذُكِر أنها أُخِذت فقيل: قد عَرَفْتِه؟ فقالت: إنما عَنَيتُ أنَّهم للملِكِ ناصِحون.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ، قال: لما قالت أختُه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} . أَخَذُوها وقالوا: إنكِ قد عَرَفتِ هذا الغلامَ، فدُلِّينا على أهلِه. فقالت: ما أَعْرِفُه، ولكني إنما قلتُ: هم للمَلِكِ ناصِحُون
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيْجٍ قولَه:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} . قال: فعَلِقوها
(3)
حينَ قالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} . قالوا: قد عرَفتِه؟ قالت: إنَّما أردتُ: هم للمَلِكِ ناصحُون
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} .
أي: لمنزِلتِه عندَكم، وحِرْصِكم على مَسرَّةِ الملكِ. قالوا: هاتِي
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2949 من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2950 من طريق عمرو به. وتقدم أوله في ص 150.
(3)
علقوها: لزموها. اللسان (ل ز م).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 121، 122 إلى المصنف وابن المنذر.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2950 من طريق سلمة به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فرَدَدْنا موسى إلى أمَّه بعدَ أن الْتَقَطه آلُ فرعونَ؛ لتقرَّ عينُها بابنِها إذ رجَع إليها سليمًا مِن قِبَلِ
(1)
فرعونَ، ولا تحزَنَ على فراقِه إيَّاها، ولِتَعلَمَ أنَّ وَعْدَ اللَّهُ الذي وَعَدَها، إذ قال لها:{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} الآية [القصص: 7]{حَقٌّ} .
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} فقرَأ حتى بلَغ: {لَا يَعْلَمُونَ} : وعَدها أنه رادُّه إليها، وجاعِلُه من المرسَلين، ففعَل اللَّهُ ذلك بها
(2)
.
وقولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولكنَّ أكثرَ المشركين لا يَعْلَمون أن وعدَ اللهِ حقٌّ، لا يُصَدِّقون بأن ذلك كذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولَما بَلَغَ موسى {أَشُدَّهُ} . يعنى: حالَ شَدَّةِ بدنِه وقُواه، وانْتَهى ذلك منه.
وقد بيَّنا معنى "الأشُدِّ" فيما مضَى بشواهدِه، فأغنَى ذلك عن إعادتِه في
(1)
في م: "قتل".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2951 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
هذا الموضعِ
(1)
.
وقولُه: {وَاسْتَوَى} . يقولُ: تناهَى شَبَابُه، وتمَّ خَلْقُه واسْتَحْكُم.
وقد اختُلِف في مبلغِ عددِ سِنِى الاستواءِ؛ فقال بعضُهم: يكونُ ذلك في أربعين سنةً.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَاسْتَوَى} . قال: أربعين سنةً
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} . قال: ثلاثًا وثلاثين سنةً. قولَه: {وَاسْتَوَى} . قال: بلَغ أربعين سنةً
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} . قال: بضعًا وثلاثين سنةً
(4)
.
قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} . قال: ثلاثًا وثلاثين سنةً
(4)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 9/ 663، 13/ 66.
(2)
تفسير سفيان ص 139، وتقدم في 13/ 67.
(3)
تفسير مجاهد ص 525، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
تقدم تخريجه في 13/ 67.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ:{أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} . قال: أربعين سنةً، و {أَشُدَّهُ}: ثلاثًا وثلاثين سنةً
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} . قال: كان أبي يقولُ: الأشُدُّ الجَلَدُ، والاستواءُ أربعون سنةً
(2)
.
وقال بعضُهم: يكونُ ذلك في ثلاثين سنةً.
وقولُه: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} . يعنى بالحكمِ: الفَهْمَ بالدينِ والمَعْرفةَ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} . قال: الفِقهَ والعقلَ والعملَ قبلَ النُّبوّةِ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} . قال: الفقهَ والعملَ قبلَ النُّبوَةِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ، آتاه اللَّهُ حكمًا وعِلْمًا؛ فقهًا في دينِه ودينِ آبائِه، وعِلْمًا بما في دينِه وشرائعِه وحدودِه
(4)
.
وقولُه: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكما جَزَيْنا
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 88،89 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكرُه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2951 معلقًا.
(3)
تفسير مجاهد 525، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 7/ 2119، 9/ 2952، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122، إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر، وتقدم في 13/ 68 من طريق شبل عن ابن أبي نجيحٍ.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2951، 2952 من طريق سلمة به.
موسى على طاعتِه إيَّانا و إحسانِه، بصبرِه على أمْرِنا، كذلك نَجْزِى كلَّ مَن أَحسَن مِن رُسُلِنا وعبادِنا، فصَبَر على أمرنا وأطاعَنا، وانتَهى عما نَهيناه عنه.
يقولُ تعالى ذكرُه: ودخَل موسى المدينةَ؛ مدينةَ منفٍ مِن مصرَ، {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} ، وذلك عندَ القائلةِ نصفَ النهارِ.
واختَلف أهلُ التأويلِ في السببِ الذي من أجلهِ دخَل موسى هذه المدينةَ في هذا الوقتِ؛ فقال بعضُهم: دخَلها متَّبِعًا أثرَ فِرعونَ؛ لأن فرعونَ رَكِب وموسى غيرُ شاهدٍ، فلما حضَر عَلِم برُكوبِه، فرَكِب واتَّبع أثرَه، وأدْرَكه المقِيلُ في هذه المدينةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: كان موسى حينَ كَبِر يركبُ مَراكِبَ فرعونَ، ويَلْبَسُ مثلَ ما يَلْبَسُ، وكان إنَّما يُدعَى موسى بنَ فرعونَ، ثم إن فرعونَ ركِب مركبًا وليس عندَه موسى، فلمَّا جاء موسى قيل له: إن فرعونَ قد ركِب. فرَكِب في أثَرِه، فأدرَكه المَقِيلُ بأَرضٍ يُقالُ لها: مَنْفٌ. فدخَلها نصفَ النهارِ، وقد تَغَلَّقت أسواقُها، وليس في طُرُقِها أحدٌ، وهي التي يقولُ اللهُ:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2952 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
وقال آخرون: بل دخَلها مُستَخْفِيًا من فرعونَ وقومِه؛ لأنَّه كان قد خالَفهم في دينِهم، وعاب ما كانوا عليه.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لمَّا بلَغ موسى أشُدَّه واسْتَوى، آتاه اللَّهُ حُكْمًا وعلمًا، فكانت له من بني إسرائيلَ شيعةٌ يسمَعون منه ويطيعونه، ويجتمِعون إليه، فلما اسْتَدَّ رأْيُه، وعرَف ما هو عليه من الحقِّ، رأى فِراقَ فرعونَ وقومِه على ما هم عليه حقًّا في دينِه، فتَكَلَّم وعادَى وأنكَر، حتى ذُكرَ ذلك منه، وحتى أخافُوه وخَافَهم، حتى كان لا يدخُلُ قريةَ فرعونَ إِلا خائفًا مُستَخْفيًا، فدخَلَها يومًا على حينِ غفلةٍ من أهلِها
(1)
.
وقال آخرون: بل كان فرعونُ قد أمَر بإخراجِه من مدينتِه، حينَ عَلَاه بالعصا، فلم يدخُلْها إلا بعدَ أن كَبِر وبلَغ أَشُدَّه. قالوا: ومعنى الكلامِ: ودخَل المدينةَ على حينَ غفلةٍ من أهلِها لذكرِ موسى. . أي. أي: من بعدِ نِسْيانِهم خبرَه وأمرَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} . قال: ليس غفلةٌ من ساعةٍ، ولكن غفلةٌ مِن ذكرِ موسى وأمْرِه. وقال فرعونُ لامرأتِه: أخْرِجيه عنِّى - حينَ ضرَب رأسَه بالعصا - هذا الذي قُتِلتْ فيه بنو إسرائيلَ. فقالت: هو صغيرٌ، وهو كذا، هاتِ جمرًا. فأُتىَ بجمرٍ، فأخَذ جمرةً، فطرَحها في فِيهِ، فصارت عُقْدةً في لسانِه، فكانت تلك العقدةَ
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 196، وينظر تفسير القرطبي 13/ 260.
التي قال اللَّهُ: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28]. قال: أَخْرِجيه عنِّي. فأُخرِج، فلم يدخُلْ عليهم حتى كَبِر، فدخَل على حينَ غفلةٍ من ذِكْرِه
(1)
.
وأولَى الأقوالِ في ذلك بالصحةِ أن يُقالَ كما قال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه: ولما بلَغ أشُدَّه واسْتَوى، دخَل المدينةَ على حينَ غفلةٍ من أهلِها.
واختَلفوا في الوقتِ الذي عُنِى بقولِه: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} ؛ فقال بعضُهم: ذلك نصفُ النهارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن محمد بن المُنكَدرِ، عن عطاءِ بن يسارٍ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} . قال: نصفَ النهارِ
(2)
.
قال ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، عن ابن عباسٍ، قال: يقولون: في القائلةِ. قال: وبينَ المغربِ والعشاءِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} . قال: دخَلها بعدَ ما بلَغ أشُدَّه، عندَ القائلةِ نصفَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2953 من طريق ابن وهب به مختصرًا، وينظر تفسير القرطبي 13/ 260.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2953 من طريق حجاج به، وعزاه السيوطي في الدر 5/ 122 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2953 من طريق حجاج.
النهارِ
(1)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: دخَلها نصفَ النهارِ
(2)
.
وقولُه: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} . يقولُ: هذا من أهلِ دينِ موسى من بني إسرائيلَ، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}: من القِبطِ من قومِ فرعونَ، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ}. يقولُ: فَاسْتَغاثَه الذي هو مِن أهلِ دينِ موسى {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} من القِبط، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}. يقولُ: فلَكَزه ولَهَزه فِي صَدْرِهِ بِجُمْعِ كَفِّه.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا حفصٌ، عن الأعمشِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: أساء موسى من حيثُ أساء وهو شديدُ الغَضَبِ شديدُ القُوَّةِ، فمرَّ برجلٍ من القِبطِ، قد تَسَخَّر رجلًا مِن المسلمين. قال: فلمَّا رأى موسى اسْتَغاث به. قال: يا موسى. فَقال موسى: خلِّ سبيلَه. فقال: قد هَمَمْتُ أن أحملَه عليك. فوَكَزه موسى، فقَضَى عليه، قال: حتى إذا كان الغدُ نصفَ النهارِ، خرَج ينظُرُ الخبرَ. قال: فإذا ذاك الرجلُ قد أخَذه آخرُ في مثلِ حَدِّه. قال: فقال: يا موسى. قال: فاشْتَدَّ غَضَبُ موسى. قال: فأهْوى. قال: فخافَ أن يكونَ إيَّاه يريدُ. قال: فقال:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2953 من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 عن معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تقدم أوله في ص 150.
{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} [القصص: 19]. قال: فقال الرجلُ: ألا أراك يا موسى أنتَ الذي قَتَلت؟
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عَنَّامُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا الأعمشُ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ:{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} قال: رجلٌ من بنى إسرائيلَ يقاتلُ خبَّازًا لفرعونَ، فاسْتَغاثه، فوَكَزه موسى، فقضَى عليه، فلمَّا كان مِن الغَدِ، اسْتَصْرَخ به فوجَده يقاتلُ آخرَ، فأغَاثَه
(1)
، فقال:{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} . فعَرَفوا أنَّه موسى، فخرَج منها خائفًا يترقَّبُ، قال عَثَّامٌ: أو نحوُ هذا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} . أمَّا الذي من شيعتِه فمِن بني إسرائيلَ، وأمَّا الذي من عدوِّه فقِبطيٌّ مِن آلِ فرعونَ
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} . يقولُ: مِن القِبطِ، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}
(4)
.
حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرنا يزيدُ، [قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ]
(5)
، قال: ثنا القاسمُ بنُ أبي أيوبَ، قال: ثني سعيدُ بنُ جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"فاستغاثه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2955 من طريق عثام بن علي به مختصرًا.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2954 - عن معمر، عن قتادة.
(4)
تقدم أوله في ص 150.
(5)
سقط من: ت 2.
بلَغ موسى أشُدَّه، وكان من الرجالِ، لم يكنْ أحدٌ مِن آلِ فرعونَ يخلُصُ إلى أحدٍ مِن بني إسرائيلَ معه بظلمٍ ولا سُخْرةٍ، حتى امتَنَعوا كلَّ الامْتناعِ، فبَيْنا هو يمشى ذاتَ يومٍ في ناحيةِ المدينةِ، إذا هو برجُلَين يقْتَتلان؛ أحدُهما من بني إسرائيلَ، والآخرُ من آلِ فرعونَ، فاسْتَغاثَه الإسرائيليُّ على الفِرْعَونيِّ، فغَضِب موسى واشْتَدَّ غَضَبُه؛ لأنَّه تناوَله وهو يعلمُ منزلةَ موسى من بنى إسرائيلَ، وحِفْظَه لهم، ولا يعلمُ الناسُ إلا أنَّما ذلك من قِبَلِ الرَّضاعةِ من أمَّ موسى، إلا أن يكونَ اللهُ أطْلَع موسى من ذلك على علمِ ما لم يُطلِعْ عليه غيرَه، فوكَز موسى الفِرعَونيَّ فقَتَله، ولم يَرَهما أحدٌ إِلَّا اللهُ والإسرائيليُّ، فقال موسى حينَ قتلَ الرجلَ:{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الآية
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} : مسلمٌ، وهذا من أهلِ دينِ فرعونَ، كافرٌ، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} . وكان موسى قد أُوتِىَ بسطةً في الخَلْقِ، وشِدَّةً في البطْشِ، فضَبَّ
(2)
، بعدوِّهما، فنازَعَه، فوكَزه موسى وكْزةً قتَلَه منها، وهو لا يريدُ قَتْلَه، فقال:{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} . قال: من قومِه من بني إسرائيلَ، وكان فرعونُ مِن فارسَ مِن إِصْطَخْرَ
(4)
.
(1)
جزء من حديث الفتون الطويل وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(2)
في م: "فعضب"، وسقط من: ت 1، ت 2. وضب بكذا: اشتد حرصه عليه وطلبه له. الوسيط (ض ب ب).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2954، 2955 من طريق سلمة به.
(4)
تفسير مجاهد ص 525، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وليس هذا اللفظ عنده.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرِ بن عبدِ اللهِ، عن أصحابِه:{هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} : إسرائيليٌّ، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}: قبْطيٌّ، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} .
وبنحوِ الذي قُلنا أيضًا قالوا في معنى قولِه: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَوَكَزَهُ مُوسَى} . قال: بجُمْعِ كَفِّه
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: فوكزَه موسى نبيُّ اللَّهِ، ولم يتعَمَّدْ قَتْلَه
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: قتَلَه وهو لا يريدُ قَتْلَه
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد 525، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2955، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2955 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2954، 2955 من طريق سلمة به.
وقولُه: {فَقَضَى عَلَيْهِ} . يقولُ: ففرَغ من قَتْلِه.
وقد بيَّنتُ فيما مضَى أن معنى القضاءِ الفَراعُ، بما أغنَى عن إعادتِه ههنا
(1)
.
ذِكْرُ أنَّه قَتَلَه ثم دَفَنَه في الرَّملِ
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرِ بن عبدِ اللَّهِ، عن أصحابهِ:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} : ثم دفَنه في الرَّملِ.
وقولُه: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} . يقولُ تعالى ذِكْرُه: قال موسى حينَ قتَل القتيلَ: هذا القَتْلُ مِن تَسبُّبِ الشيطانِ لى؛ بأن هيَّجَ غَضَبى حتى ضرَبتُ هذا فهَلَك من ضَرْبتي، {إِنَّهُ عَدُوٌّ}. يقولُ: إِن الشيطانَ عدوٌّ لابنِ آدمَ {مُضِلٌّ} له عن سبيلِ الرَّشادِ؛ بتَزيينِه له القبيحَ من الأعمالِ، وتحسينِه ذلك له، هو {مُبِينٌ} . يعنى أنه يُبينُ عداوتَه لهم قديمًا، وإضْلالَه إيَّاهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)} .
يقولُ تعالَى ذكرُه مُخبرًا عن ندَم موسَى على ما كان مِن قَتْلِه النفسَ التي قتَلها، وتوبَتِه إليه منه، ومسألتِه غُفْرانَه من ذلك: ربِّ إني ظَلَمْتُ نفسى بقتلِ النفسِ التي لم تأْمُرْنى بقَتْلِها، فاعفُ عن ذَنْبي ذلك، واسْتُرْه عليَّ، ولا تؤاخِذْنى به، فتعاقِبَني عليه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 466.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، قال: قال ابن جُرَيجٍ في قولِه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} . قال: بقَتْلى، مِن أجلِ أنَّه لا ينبَغى لنبيٍّ أن يقتُلَ حتى يُؤمرَ. ولم يُؤْمرْ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ، قال: عرَف المخَرَجَ، فقال:{ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ}
(2)
.
وقولُه: {فَغَفَرَ لَهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فعفا اللَّهُ لموسى عن ذنبِه، ولم يُعاقبْه به، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. يقولُ: إن اللَّهَ هو الساترُ على المُنيبِين إليه من ذنوبِهم؛ على ذنوبِهم، المتفضِّلُ عليهم بالعفوِ عنها، الرحيمُ للناسِ أن يعاقبَهم على ذنوبِهم، بعدَ ما تابوا منها.
وقولُه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى: ربِّ بإنعامِك عليَّ؛ بعفوِك عن قتلِ هذه النفسِ، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}. يعنى: المُشركين. كأنّه أقسَم بذلك. وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ: (فَلا تَجْعَلْنِي ظَهيرًا للمُجْرِمِينَ)
(3)
. كأَنَّه على هذه القراءةِ دعا ربَّه، فقال: اللهمَّ لن أكونَ لهم ظَهيرًا. ولم يَسْتَثْنِ عليه السلام حينَ قال: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} . فابتُلِيَ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 122 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2955 من طريق شيبان، عن أبي هلال، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر 5/ 122، 123 إلى ابن المنذر.
(3)
معاني القرآن للفراء 2/ 304، ومختصر الشواذ لابن خالويه ص 114.
وكان قَتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} . يقولُ: فلن أُعينَ بعدَها ظالمًا
(1)
على فَجْرِه
(2)
، قال: وقَلَّما قالها رجلٌ إِلَّا ابتُلِيَ. قال: فابتُلِىَ كما تسمَعون
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأصبَح موسى في مدينةِ فرعونَ خائفًا من جنايتِه التي جَنَاها، وقَتْلِه النفسَ التي قتَلها، أن يُؤخذَ فيُقتلَ بها، {يَتَرَقَّبُ}. يقولُ: يترقَّبُ الأخبارَ. أي: ينتظرُ ما الذي يتحدَّثُ به الناسُ، مما هُم صانِعون في أمرِه وأمرِ قَتيلِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا القاسمُ بنُ أبي أيوبَ، قال: ثنى سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} الأخبارَ
(4)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(2)
في م، ت 1، وتفسير عبد الرزاق:"فجرة"، وفى ت 2:"فخره".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89، 90 - ومن طريق ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2956 - عن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 123 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في م: "قال".
والأثر جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}. قال]
(1)
: خائفًا من قتلِه النفسَ، يترقبُ أن يؤخذَ
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} . قال: خائفًا أن يُؤخذَ
(3)
.
وقولُه: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فرأى موسى لما دخلَ المدينةَ على خوفٍ مُترقِّبًا الأخبارَ عن أمرِه وأمرِ القتيلِ
(4)
، الإسرائيليَّ الذي اسْتَنْصَره بالأمسِ على الفِرعَونيِّ. يُقاتلُ فرعَونيًّا آخرَ، فرآه الإسرائيليُّ، فاسْتَصْرَخه على الفِرعَونيِّ، يقولُ: فاسْتَغاثه أيضًا على الفِرعَونيِّ، وأَصْلُه من الصُّراخِ، كما يُقالُ:[يا لَبَني]
(5)
فلانٍ، يا صباحاه. قال له موسى:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال موسى للإسرائيليِّ الذي اسْتَصْرَخه، وقد صادَفَ موسى نادمًا على ما سلَف منه مِن قتلِه بالأمسِ القتيلَ، وهو يسْتَصْرِخُه اليومَ على آخرَ: إِنَّكَ أَيُّها المُستَصْرِخُ {لَغَوِيٌّ} . يقولُ: إنَّك لذو غَوَايَةٍ، {مُبِينٌ}. يقولُ: قد أبنتَ غَوَايتَك؛ بقتالِك أمسِ رجلًا، واليومَ آخرَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني العباسُ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بن زيدٍ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أُتِىَ فرعونُ، فقيل له: إن بني
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2957 عن معمر به قتادة.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2957 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
(4)
بعده في م: "فإذا".
(5)
في م: "قال بنو".
إسرائيلَ قد قتَلوا رجلًا من آلِ فرعونَ، فخُذْ لنا بحقِّنا، ولا تُرخِّصْ لهم في ذلك. فقال: ابْغونِى قاتلَه ومَن يشهدُ عليه، لا يستقيمُ أَن نَقْضِيَ بغيرِ بيِّنةٍ ولا ثَبَتٍ
(1)
. فاطلُبوا ذلك. فبينما هم يطوفون لا يجِدون شيئًا، إذ مرَّ موسى من الغدِ، فرأى ذلك الإسرائيليَّ يقاتلُ فرعونيًّا، فاسْتَغاثَه الإسرائيليُّ على الفِرعَونيِّ، فصادَفَ موسى وقد نَدِم على ما كان منه بالأمسِ، وكَرِه الذي رأى، فغَضِب موسى، فمدَّ يدَه وهو يريدُ أن يبطِشَ بالفِرعونيِّ، فقال للإسرائيليِّ لِمَا فعَل بالأمسِ واليومِ:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . فنظَر الإسرائيليُّ إلى موسى بعدَ ما قال هذا، فإذا هو غضبانُ كغضَبِه بالأمسِ إذ قتَلَ فيه الفِرعَونيَّ، فخافَ أن يكونَ بعدَ ما قال له:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} إِيَّاه أرادَ، ولم يكنْ أرادَه، إنَّما أرادَ الفِرْعونيَّ، فخاف الإسرائيليُّ، [فحاجَز الفرعونيَّ]
(2)
، فقال:{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} . وإنَّما قال ذلك مخافةَ أن يكونَ إيَّاه أرَاد موسى لِيَقْتُلَه، فتَتارَكا
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ]. قال: الاستنصارُ والاسْتِصْراخُ واحدٌ
(4)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ]
(5)
. يقولُ: يستَغيثُه
(6)
.
(1)
الثبت: الحجة والبينة. اللسان (ث ب ت).
(2)
في م: "فحاجه".
(3)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69، وليس هذا اللفظ عند عبد الرزاق.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 123 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر، وليس هذا اللفظ عند عبد الرزاق.
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"يستعينه".
والأثر تقدم أوله في ص 150.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما قَتَل موسى القتيلَ، خرَج فَلحِق بمنزلِه من مصرَ، وتحدَّث الناسُ بشأنِه، وقيل: قتَل موسى رجلًا. حتى انتَهى ذلك إلى فرعونَ، فأصبَحَ موسى غاديًا الغَدَ، وإذا صاحبُه بالأمسِ معانِقٌ رجلًا آخرَ من عدوِّه، فقال له موسى:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أمسِ رجلًا، واليومَ آخرَ!
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا حفصٌ، عن الأعمشِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ والشَّيْبانيِّ، عن عكرِمةَ، قال: الذي اسْتَنصَره هو الذي اسْتَصْرَخه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا أن أرادَ موسى أن يبطِشَ بالفرعونيِّ الذي هو عدوٌّ له وللإسرائيليِّ، قال الإسرائيليُّ لموسى وظنَّ أنه إيَّاه يريدُ:{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} ؟
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ:{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} . قال: خافَه الذي من شيعتِه حينَ قال له موسى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2957 من طريق حفص، عن الشيباني، عن عكرمة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 123 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 عن معمر، عن قتادة بنحوه.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال موسى للإسرائيليِّ:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . ثم أقبَلَ لينصُرَه، فلما نظَر إلى موسى قد أقبَل نحوَه، ليبطِشَ بالرجل الذي يقاتلُ الإسرائيليَّ، قال الإسرائيليُّ، وفَرِق من موسى أن يبطشَ به؛ من أَجْلِ أنه أغْلَظ له الكلامَ:{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} . فتركه موسى
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكر بن عبد الله، عن أصحابه، قال: نَدِم بعد أن قتل القتيلَ، فقال:{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} . قال: ثم اسْتَنصَره بعد ذلك الإسرائيليُّ على قِبْطيٍّ آخر، فقال له موسى:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . فلمَّا أراد أن يبطش بالقِبْطيِّ، ظَنَّ الإسرائيليُّ أنه إيَّاه يريدُ، فقال:{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} ؟
قال: وقال ابن جُريجٍ، أو ابن أبي نجيحٍ - الطبريُّ يَشكُّ، وهو في الكتابِ ابن أبي نجيحَ -:
(2)
إنَّ موسى لما أصبَح، أصبَحَ نادمًا تائبًا، يودُّ أن لم يبطشْ بواحدٍ منهما، وقد قال للإسرائيليِّ:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . فعَلم الإسرائيليُّ أنَّ موسى غيرُ ناصرِه، فلمَّا أرادَ الإسرائيليُّ أن يبطِشَ بالقبْطيِّ نهاه موسى، ففَرِق الإسرائيليُّ من موسى، فقال:{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} ؟ فسعَى بها القِبْطيُّ.
وقولُه: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2958 من طريق عمرو بن حماد به مختصرًا، وتقدم أوله في ص 150.
(2)
بعده في م: "أن".
(تعليق الشاملة): موضع هذه الحاشية ليس في المطبوع أصلا، وتم تعيينه بمراجعة مطبوعة الحلبي 20/ 49
عن قيل الإسرائيليِّ لموسى: {إِنْ تُرِيدُ} : ما تريدُ إلَّا أن تكون جبَّارًا في الأرض.
وكان من فِعْل الجبابرة قتلُ النفوسِ ظلمًا بغير حقٍّ. وقيل: إنَّما قال ذلك لموسى الإسرائيليُّ؛ لأنَّه كان عندَهم مَن قتَل نفسَين من الجبابرة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا هشيمُ بنُ بشيرٍ، عن إسماعيلَ بن سالمٍ، عن الشعبيِّ، قال: من قتَل رجلين فهو جبَّارٌ. قال: ثم قرأ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} : إن الجبابرة هكذا، تقتلُ النفس بغيرِ النفس
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، قال: قال ابن جُرَيجٍ: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} . قال: تلك سيرةُ الجبابرة أن تقتل النفسَ بغير النفسِ.
وقولُه: {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} . يقولُ: وما تريدُ أن تكون ممن يعمَلُ في الأرض بما فيه صلاحُ أهلِها، من طاعة الله.
وذُكِر عن ابن إسحاق أنَّه قال في ذلك ما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق:{وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} . أي: ما هكذا يكونُ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 364 عن يزيد بن هارون به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 123 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2959 معلقًا.
الإصلاحُ
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)} .
ذُكر أن قول الإسرائيليِّ سَمِعه سامعٌ فأفشاه، وأعْلمَ به أهل القتيل، فحينئذٍ طلب فرعونُ موسى، وأمَر بقَتْلِه، فلما أمَر بقتلِه، جاء موسى مُخْبِرٌ، وأخبَره بما قد أمَر به فرعونُ في أمره، وأشار عليه بالخروج من مصر بلد فرعونَ وقومِه.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني العباسُ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبَرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا القاسمُ بن أبي أيوب، قال: ثنى سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: انْطَلَق الفِرعونيُّ الذي كان يقاتلُ الإسرائيليَّ إلى قومه، فأخبَرهم بما سمع من الإسرائيليِّ من الخبر حينَ يقولُ:{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} ، فأرسَلَ فرعونُ الذَّبَّاحين لقَتْل موسى، فأخَذوا الطريق الأعظم، وهم لا يخافون أن يفوتَهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى في أقصَى المدينة، فاخْتصَر طريقًا قريبًا، حتى سبَقَهم إلى موسى، فأخبَره الخبر
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: أَعْلَمهم القبطيُّ الذي هو عدوٌّ لهما، فأتَمر الملأُ ليقتُلوه، فجاء رجلٌ من أقصى المدينة. وقرأ:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2959 من طريق سلمة به.
(2)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
{إِنْ} إلى آخر الآية. قال: كنَّا نحدَّثُ أنه مؤمنُ آل فرعون
(1)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: ذهب القبطيُّ، يعنى الذي كان يقاتلُ الإسرائيليَّ، فأفْشَى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعونُ وقال: خُذُوه، فإنه صاحبُنا. وقال للذين يَطلُبونه: اطْلُبوه في بُنَيَّاتِ الطريقِ
(2)
، فإن موسى غلامٌ لا يهتدى الطريق. وأخذ موسى في بُنَيَّاتِ الطريق، وقد جاءه الرجلُ فأخبره:{إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرِ بن عبدِ اللهِ، عن أصحابه، قالوا: لما سمع القبطيُّ قول الإسرائيليِّ لموسى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} . سعى بها إلى أهل المقتول، فقال: إن موسى هو قتل صاحِبَكم. ولو لم يَسْمَعْه من الإسرائيليِّ لم يعلَمْه أحدٌ، فلمَّا علم موسى أنهم قد عَلِموا خرَج هاربًا، فطلبه القومُ فسبَقهم. قال: وقال ابن أبي نجيحٍ: سعَى القبطيُّ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، قال: قال الإسرائيليُّ لموسى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} . وقبْطيٌّ قريبٌ منهما يسمَعُ، فأفشَى عليهما
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ، قال: سمع ذلك عدوٌّ، فأفشى عليهما
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 عن معمر، عن قتادة.
(2)
بنيات الطريق: الطرق الصغار تتشعب من الجادة. اللسان (ب ن ي).
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 391، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2960 من طريق عمرو بن حماد به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 عن معمر عن قتادة قوله.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 123 إلى ابن المنذر.
وقولُه: {وَجَاءَ رَجُلٌ} ذُكر أنَّه مؤمنُ آل فرعونَ، وكان اسمُه فيما قيل سَمْعانَ. وقال بعضُهم: بل كان اسمُه شَمْعونَ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، أخبرني وهبُ بنُ سليمانَ، عن شُعَيبٍ الجبَائيِّ، قال: اسمُه شَمْعون، الذي قال لموسى:{إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: أصبَح الملأُ من قومِ فرعونَ قد أجْمَعوا لقَتْل موسى فيما بلَغهم عنه، فجاء رجلٌ من أقصَى المدينة يسعَى، يُقالُ له: سَمْعَانُ. فقال: {يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة، قال:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} إلى موسى {قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}
(3)
.
وقولُه: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} . يقولُ: من آخر مدينة فرعون، {يَسْعَى}. يقولُ: يعجَلُ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} . قال: يَعْجَلُ ليس بالشَّدِّ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2959 من طريق حجاج، وأخرجه أحمد في العلل ومعرفة الرجال 1/ 102، 2/ 94 من طريق وهب بن سليمان به ومسماه: لسمعان به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2959 من طريق سلمة به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 عن معمر به.
وقولُه: {قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال الرجلُ الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لموسى: يا موسى، إن أشراف قوم فرعونَ ورؤساءَهم يَتَوامَرون
(1)
بقَتْلِك، ويتَشاورُون ويَرْتَئون فيه
(2)
. ومنه قولُ الشاعر
(3)
:
ما تَأْتِمر فينا فَأمْـ
…
ـرُكَ في يَمينك أو شِمالِكْ
يعنى: ما تَرْتئى وتَهمَّ به. ومنه قولُ النَّمِرِ بن تَوْلَبٍ
(3)
:
أرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً
…
وفي كُلِّ حادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ
أي: يُتَشاوَرٌ ويُرتأى فيها.
وقولُه: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} . يقولُ: فاخْرُج من هذه المدينة، إنى لك في إشارتي عليك بالخروج منها من النَّاصحين.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فخرج موسى من مدينة فرعون خائفًا من قتله النفس أن يُقْتَلَ به، {يَتَرَقَّبُ}. يقولُ: ينتظرُ الطلب أن يُدرِكَه فيأخُذَه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} : خائفًا من قتله النفس، يترقَّبُ الطلب، قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
(1)
في م: "يتآمرون".
(2)
في م: "فيك".
(3)
في التبيان 8/ 123 مجاز القرآن 2/ 100، وتفسير القرطبي 13/ 266. وينظر شعره المجموع ص 56.
الظَّالِمِينَ}.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادة:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} . قال: خائفًا من قتل النفس، يترقَّبُ أن يأخذه الطَّلَبُ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: ذُكر لى أنه خرج على وجْهه خائفًا يترقَّبُ، ما يَدْرى أيَّ وَجْه يسلُكُ، وهو يقولُ:{رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} . قال: يترقَّبُ الطَّلَب مخافةً.
وقولُه: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى وهو شاخصٌ عن مدينة فرعونَ خائفًا: ربِّ نَجِّنى من هؤلاء القوم الكافرين الذين ظلموا أنفُسَهم بكفرهم بك.
وقولُه: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولما جعل موسى وجْهَه نحو مدين ماضيًا إليها، شاخصًا عن مدينة فرعونَ، وخارجًا عن سلطانه، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
وعنى بقوله: {تِلْقَاءَ} : نحو مدين. ويُقالُ: فعَل ذلك من تلقاء نفسه. يعني به: من قبل نفسه. ويُقالُ: دارُه تلقاء دارِ فلانٍ. إذا كانت مُحاذيتها.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 89 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2957 - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 124 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2960 من طريق سلمة به.
ولم يُصرَف اسمُ مدينَ؛ لأنها اسمُ بلدة معروفةٍ، كذلك تفعلُ العربُ بأسماءِ البلاد المعروفة ومنه قول الشاعر
(1)
:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزَّلُوا
…
والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقولِ الفَادِرِ
وقولُه: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . يقولُ: عسى ربِّي أن يبيِّنَ لي قَصْدَ السبيل إلى مدين. وإنما قال ذلك لأنه لم يكن يعرفُ الطريق إليها.
وذُكر أن الله قيَّض له إذ قال: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . مَلَكًا سَدَّده الطريق وعرَّفه إيَّاه.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما أخذ موسى في بُنَيَّاتِ الطريقِ، جاءه مَلَكٌ على فرسٍ، بيدِه عَنَزَةٌ، فلمَّا رآه موسى سجد له من الفَرَقِ، قال: لا تَسْجُدْ لى، ولكن اتبعنى. فاتَّبَعَه، فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو مُتَوجِّهٌ نحو مدينَ:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . فانطلق به حتى انتهى به إلى مَدينَ
(2)
.
حدَّثني العباسُ، قال: أخبرنا يزيدُ، قال: أخبرنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: خرَج موسى مُتَوجِّهًا نحو مدينَ، وليس له علمٌ بالطريق إلا حُسن ظنِّه بربِّه، فإنه قال:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}
(3)
.
(1)
هو جرير، وتقدم في 8/ 598.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2960 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
(3)
تقدم تخريجه في 16/ 69.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق، قال: ذُكِر لى أنه خرج وهو يقولُ: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . فَهَيَّأ الله الطريق إلى مدين، فخرج من مصرَ بلا زادٍ ولا حذاءٍ، ولا ظَهْرٍ ولا درهمٍ ولا رغيفٍ، خائفًا يترقَّبُ، حتى وقع إلى أُمَّةٍ من الناسِ يَسْقُون بمدينَ
(1)
.
حدَّثنا أبو عمارٍ الحسينُ بن حريثٍ المروزيُّ، قال: ثنا الفضلُ بنُ موسى، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جُبَيرٍ، قال: خرَج موسى من مصر إلى مَدْينَ، وبينَها وبينَها مسيرةُ ثمانٍ. قال: وكان يقالُ: نحوٌ من الكوفة إلى البصرة، ولم يَكُنْ له طعامٌ إلا وَرَقُ الشَّجرِ، وخرَج حافيًا، فما وصَل إليها حتى وقَع خُفُّ قدَمِهِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عَثَّامٌ، قال: ثنا الأعمش، عن المِنْهال، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: لمَّا خرَج موسى من مصرَ إلى مدينَ، وبينه وبينَها ثمانِ ليالٍ، كان يقالُ: نحوٌ من البصرة إلى الكوفة. ثم ذكر نحوه
(3)
.
ومدينُ كان بها يومئذٍ قومُ شعيبٍ عليه السلام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادة قولَه:{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} : ومدين: ماءً كان عليه قومُ شعيبٍ
(4)
، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2960، 2962 من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 397.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 397، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 عن علي بن الحسين، عن أبي كريب محمد بن العلاء به.
(4)
في ت 2: "فرعون".
سَوَاءَ السَّبِيلِ}
(1)
.
وأما قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} . فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو قولنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{سَوَاءَ السَّبِيلِ} . قال: الطريقَ إلى مدينَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . قال: قَصْدَ السَّبيل
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا عَبَّادُ بنُ راشدٍ، عن الحسنِ:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . قال: الطريقَ المستقيمَ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 124 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 526، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 من طريق القاسم بن أبي بزة عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر 5/ 124 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.
القولُ تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولما ورد موسى ماءَ مدينَ {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} . يعنى: جماعةً، {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} نَعَمَهم ومواشِيَهم.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا [موسى، قال: ثنا]
(1)
عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} . يقولُ: كثرةً مِن الناسِ يَسْقُون
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} . قال: أُناسًا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: وقَع إلى أُمَّةٍ من
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962 من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
الناسِ يَسْقُون بمدينَ، أَهلِ نَعَمِ وشاءٍ
(1)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ موسى وابنُ بشَّارٍ، قالا: ثنا أبو داودَ، قال: أخبَرنا عمرانُ القَطَّانُ، قال: ثنا أبو حمزة، عن ابن عباس في قوله:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} .
قال عليُّ بنُ موسى: قال: مثلُ [ماءِ جَوْبِكُم]
(2)
هذا. يعنى المُحدثة
(3)
. وقال ابن بشارٍ: مثلُ مُحدَثتِكم هذه. يعنى: جَوْبِكم
(4)
هذا.
وقولُه: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} . يقولُ: ووجد من دونِ الأُمَّةِ الناسِ الذين هم على الماء، امرأتين تذودان. يعني بقوله:{تَذُودَانِ} : تحبِسان غَنمَهما، يقالُ منه: ذاد فلانٌ غَنمَه وماشيتَه. إذا أراد شيءٌ من ذلك يَشِذُّ ويذهَبُ، فردَّه ومنَعه، يذودُها ذَوْدًا. وقال بعضُ أهل العربية من الكوفيِّين
(5)
: لا يجوزُ أن يُقالَ: ذدتُ الرجلَ. بمعنى: حبستُه، إنما يُقال ذلك للغنم والإبل. وقد رُوى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنى لبِعُقْرِ حَوْضِى أذُودُ النَّاسَ عَنْهُ بعصاى"
(6)
. فقد جعل الذَّودَ صلى الله عليه وسلم في الناسِ. ومنَ الذَّودِ قولُ سُوَيدِ بن كُراعٍ
(7)
:
أَبيتُ عَلى بَابِ القَوَافِي كَأَنَّمَا
…
أذُودُ
(8)
بِها سِرْبًا مِنَ الوَحْشِ نُزَّعا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962 من طريق سلمة به.
(2)
في ت 1، ت 2:"ما حدثكم". والجوب: الفجوة بين البيوت يجتمع فيها الماء. ينظر تاج العروس (ج و ب).
(3)
في ت 2: "المحاقة".
(4)
في م: "جوابكم".
(5)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 305.
(6)
أخرجه أحمد 5/ 280 - 283 (الميمنية)، ومسلم (2301/ 37) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(7)
مجاز القرآن 2/ 101، والشعر والشعراء 2/ 635، والبيان والتبيين 2/ 12.
(8)
في الشعر والشعراء، والبيان والتبيين:"أصادى". وعليها لا شاهد فيه.
وقول الآخر
(1)
:
وَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ
…
فَمَا تَدْرِي بأَيِّ عَصًا تَذُودُ
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{تَذُودَانِ} . يقولُ: تَحْبِسانِ.
حدَّثني العباسُ، قال: أخبَرنا يزيدُ، قال: أخبرنا الأصبعُ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثني سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} : يعنى بذلك أنهما حابِسَتان
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جُبَيرٍ في قوله:{امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} . قال: حَابِسَتَين
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} . يقولُ: تَحبِسَانَ غَنمَهما
(4)
.
واختلَف أهلُ التأويل في الذي كانت عنه تذودُ هاتان المرأتان؛ فقال بعضُهم: كانتا تذودان غَنَمَهما عن الماءِ حتى يَصْدُرَ عنه مواشى الناس، ثم تسْقيان
(1)
هو جرير، والبيت في ديوانه ص 333.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962 من طريق يزيد بن هارون به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى ابن المنذر، وهو جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962 معلقًا.
(4)
تقدم أوله في ص 150.
ماشيتهما لضَعْفِهما.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصينٌ، عن أبى مالكٍ قولَه:{امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} . قال: تَحبِسانَ غَنمَهما عن الناسِ، حتى يَفْرُغوا وتَخْلُو لهما
(1)
البئرُ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاق:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ} . يعني: من دونِ القومِ، {تَذُودَانِ} غَنمَهما عن الماء، وهو ماءُ مدينَ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تذودان الناسَ عن غَنمِهما.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} . قال: [وهى في بعض القراءةِ: (ووجد من دونهم امرأتين حابستين تذودان]
(4)
. أي: حابِسَتَين شاءَهما، تذودان الناس عن شائِهما
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"لهم".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962 من طريق هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2962، 2963 من طريق سلمة به.
(4)
سقط من: م. وذكر الفراء في معاني القرآن 2/ 305 أن قراءة عبد الله: (ودونهم امرأتان حابستان).
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 199.
أصحابه: {تَذُودَانِ} . قال: تذودانِ الناس عن غنمِهما
(1)
.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: معناه: تَحبِسان غَنمَهما عن الناس حتى يَفْرُغُوا مِن سَقْي مواشيهم.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لدّلالة قوله: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} له على أن ذلك كذلك، وذلك أنَّهما إنَّما شكنا أنهما لا تشقيان حتى يُصْدِرَ الرعاءُ؛ إذ سألَهما موسى عن ذَوْدِهما غنمهما، ولو كانتا تذودان عن غَنَمِهما الناسَ، كان لا شَكَّ أنهما كانتا تُخبران عن سبب ذَوْدِهما عنها
(2)
الناس، لا عن سبب تأخُّر سقيهما إلى أن يُصدر الرعاءُ.
وقوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} . يقول تعالى ذكرُه: قال موسى للمرأتين: ما شأنُكما وأمْرُكما، تذودان ماشيتكما عن الناسِ؟ هلّا تَسْقُونها مع مواشى الناسِ؟ والعرب تقول للرجل: ما خَطْبُك؟ بمعنى: ما أمْرُك وحالك؟ كما قال الراجز
(3)
:
يا عَجَبًا ما خَطْبُه وخَطْبي
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا العباسُ، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغُ، قال: أخبرنا القاسمُ، قال: ثني سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال لهما: ما خَطْبُكما مُعْتَزِلَتين لا
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90 عن معمر، عن الكلبي.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"عنهما".
(3)
هو رؤبة، والرجز في ديوانه (مجموع أشعار العرب) ص 16.
تسْقيان مع الناس
(1)
؟
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وجد لهما رحمةً، ودَخَلْته فيهما خشيةٌ؛ لما رأى من ضعفهما وغلبة الناس على الماء دونَهما، فقال لهما:{مَا خَطْبُكُمَا} ؟ أي: ما شأنُكما
(2)
؟
وقوله: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} . يقول جلّ ثناؤه: قالت المرأتان لموسى: لا نَسْقى ماشيتنا حتى يُصْدِرَ الرعاء مواشيهم؛ لأنَّا لا نُطيقُ أن نسْقى، وإنما نَسْقى مواشينا ما أفْضَلَتْ مواشى الرِّعاءِ في الحوضِ.
والرِّعاءُ، جمعُ راعٍ، والراعى جَمْعُه رِعاءٌ، ورعاةٌ، ورُعْيَانٌ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني العباس، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغُ، قال: ثنا القاسم. قال: ثني سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباس، قال: لما قال موسى للمرأتين: {مَا خَطْبُكُمَا} ؟ قالتا: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} . أي: لا نستطيعُ أن نَسْقى حتى يَسقى الناسُ، ثم نَتَتَبَّعُ فَضلاتهم
(3)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ قوله:{حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} . قال: تنتظران تسقيان مِن فُضُولِ ما في الحياضِ؛ حياضِ الرعاء.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2963 من طريق يزيد بن هارون به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2963 من طريق سلمة به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2964 من طريق يزيد بن هارون به.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق:{قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} : امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر أن يَمَسَّ ذلك من نفسه، ولا يَسْقِيَ ماشيته، فنحن ننتظر الناسَ، حتى إذا فَرَغوا أَسْقَيْنا ثم انْصَرَفْنا
(1)
.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأةِ الحجاز سوى أبى جعفر القارئ، وعامةُ قرأة العراقِ سوى أبي عمرو:{يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} . بضمِّ الياء
(2)
. وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرٍو بفتح الياء
(3)
، من: صدر
(4)
الرعاءُ عن الحوض. وأما الآخرون فإنَّهم ضَمُّوا الياءَ، بمعنى: أَصْدَرَ الرعاءُ مواشيهم. وهما عندى قراءتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكلِّ واحدة منهما علماء من القرأة، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ.
وقوله: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} . يقولان: لا يستطيعُ من الكِبَرِ والضَّعْفِ أن يسْقى ماشيته.
وقولُه: {فَسَقَى لَهُمَا} . ذُكِر أنَّه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئرٍ، كان عليه
(5)
حَجَرٌ لا يُطيقُ رفعه إلا جماعةٌ من الناسِ، ثم اسْتَقى، فسقى لهما ماشيتَهما منه.
ذكرُ من قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثني
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2964 من طريق سلمة به.
(2)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وحمزة والكسائى ويعقوب وخلف. النشر 2/ 256.
(3)
وبها قرأ ابن عامر. المصدر السابق.
(4)
في م: "يصدر".
(5)
في م: "عليها".
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: فتَح لهما عن بئرٍ، حَجَرًا عَلَى فيها، فسَقَى لهما منها
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، [عن مجاهدٍ]
(2)
بنحوه، وزاد فيه: قال ابن جريج: حَجَرًا
(3)
كان لا يُطيقُه إِلا عَشَرةُ رَهْطٍ.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن شريح، قال: انتهى إلى حَجَرٍ لا يرفعه إلا عَشَرةُ رجال، فرفعه وَحْدَهُ
(4)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: رحمهما موسى حين قالتا: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} . فأتى إلى البئرِ فاقْتَلَع صخرةً على البئرِ كان النفرُ مِن أهلِ مَدْيَنَ يجتمعون عليها حتى يَرْفَعوها، فسقَى لهما موسى دَلْوًا، فَأَرْوَتا غَنمهما، فرجعتا سريعًا، وكانتا إنما تسْقيان من فُضُولِ الحياضِ
(5)
.
حدَّثني العباس، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغُ، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباس:{فَسَقَى لَهُمَا} : فجعَل يغرِفُ في الدَّلو ماءً كثيرًا، حتى كانتا أوّلَ الرعاءِ رِيًّا، فانصرفتا إلى
(1)
تفسير مجاهد ص 527.
(2)
سقط من: م
(3)
في ت 1، ت 2:"بئرا".
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 126.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2964 من طريق عمرو بن حماد به، وتقدم أوله في ص 150.
أبيهما بغنمهما
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: تَصَدَّق عليهما نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فسقَى لهما، فلم يَلبَثْ أَن أَرْوَى غَنمهما.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أَخَذ دَلْوَهما موسى، ثم تقدَّم إلى السِّقاءِ بفضل قوَّتِه، فزاحَم القومَ على الماء، حتى أخَّرهم عنه، ثم سقى لهما
(2)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} .
يقول تعالى ذكره: فسقى موسى للمرأتين
(3)
ماشيتهما، ثم تولَّى إلى ظلِّ شجرةٍ ذُكِر أَنَّها [سَمُرةٌ
(4)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ: ثم تولَّى موسى إلى ظلٍّ]
(5)
شجرةٍ سَمُرةٍ، فقال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
(6)
.
حدَّثني العباس، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغ، قال: ثنا القاسم، قال:
(1)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2964 من طريق سلمة به.
(3)
بعده في ت 2: "غنمهما".
(4)
السَّمُرة: من شجر الطلح، والجمع سَمُر. اللسان (س م ر).
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
تقدم أوله في ص 150.
ثنى سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، عن ابن عباس، قال: انصرف موسى إلى شجرة، فاسْتَظلَّ بظلِّها، فقال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
(1)
.
حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزِيُّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال: حثثتُ
(2)
على جَمَلٍ لى ليلتين، حتى صبَّحت مدين، فسألتُ عن الشجرةِ التي أَوَى إليها موسى، فإذا شجرةٌ خضراء ترِفُّ، فأهْوَى إليها جَمَلى، وكان جائعًا، فأَخَذها جَمَلى، فعالجها ساعةً. ثم لفظها، فدَعَوتُ الله لموسى عليه السلام، ثم انصرفتُ
(3)
.
وقوله: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} : مُحتاجٌ. وذُكر أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال هذا القول وهو بجَهْدٍ شديدٍ، وعَرَّض
(4)
ذلك [للمرأتين تعريضًا]
(5)
لهما، لعلَّهما
(6)
أن تُطعِماه
(7)
مما به من شدَّة الجوع.
وقيل: إن الخير الذي قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . إنما عُنى به شُبْعةٌ من طَعام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(2)
في ص، ت 1:"أحثثت"، وفي ت 2:"احس".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 237 عن المصنف، وأخرجه الحاكم 2/ 576 من طريق إسرائيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"أعرض".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"المرأتين معرضًا".
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"يطعماه".
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: لما هرب موسى صلى الله عليه وسلم من فرعون أصابه جوع شديد، حتى كانت تُرَى أمعاؤُه من ظاهر الصِّفاقِ
(1)
، فلما سقَى
(2)
للمرأتين، وأوى إلى الظلِّ قال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
(3)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عنبسة، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: لو {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} ، قال: ورد الماء وإنه لَيُتراءى خُضْرةُ البَقْلِ في بطنِه من الهزالِ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال: شُبعة.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدِيُّ، قال: ثنا حَكَّامُ بنُ سَلْمِ، عن عنبسة، عن أبي حصينٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباس في قوله:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} . قال: ورَد الماءَ وإنّ خُضْرةَ البَقْل لتُتراءى في بطنِه من الهُزال
(4)
.
حدثني نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا حكامُ بن سَلْم، عن عنبسة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَيرٍ:{إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: شُبْعَةٍ يومئذٍ
(5)
.
(1)
الصفاق: جلدة البطن السفلى مما يلى سواد البطن. خلق الإنسان في اللغة ص 178.
(2)
في ص، ت 1:"أسقى"، وفي ت 2:"استقى".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى ابن أبي حاتم، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 216 من طريق سعيد بن جبير به بمعناه.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 397، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 من طريق حكام بن سلم به.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم في قوله:{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .
قال: قال هذا وما معه درهمٌ ولا دينارٌ
(1)
.
قال: ثنا سفيان، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: ما سأل إلا الطَّعام
(1)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمةُ بن الفضل، عن سفيان الثوريِّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: ما سأل ربَّه إلا الطعام
(1)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: قال ابن عباس: لقد قال موسى، ولو شاء إنسانٌ أن ينظر إلى خُضْرة أمعائه من شدَّة الجوع، وما يسأل الله إلا أكلةً
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: كان نبيُّ اللهِ بجَهْدٍ
(3)
.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن عطاء بن السائب في قوله:{إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: بلغنى أن موسى قالها وأسمع المرأة
(4)
.
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى الفريابي وأحمد.
(2)
تقدم أوله في ص 150.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90 عن معمر، عن قتادة.
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 237.
قوله: {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: طعام
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: طعامٍ.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . قال: الطعامَ يَسْتَطْعِمُ، لم يكن معه طعامٌ، وإنما سأل الطعام.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)} .
يقول تعالى ذكره: فجاءت موسى إحدى المرأتين اللتين سقى لهما، تمشى على استحياء من موسى، قد سترت وجهها بثوبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو السائب والفضلُ بنُ الصبَّاح، قالا: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن ضِرارٍ، عن
(2)
عبدِ اللهِ بن أبي الهُذَيلِ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: مُستترةً بكُمِّ دِرْعِها، أو بكُمِّ قميصها
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 527، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في النسخ: "بن". والمثبت هو الصواب، وضرار هو ابن مرة الكوفى أبو سنان الشيباني. ينظر تهذيب الكمال 13/ 306.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2964 من طريق عبد الله بن أبي الهذيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 25 إلى سعيد بن منصور.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامة، عن حماد بن عمرٍو الأسديِّ، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهُذَيلِ، عن عمر رضي الله عنه، قال: واضعةً يدها على وجهها مستترةً.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نَوْفٍ:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: قد سترت وجهها بيدها
(1)
.
قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن نَوْفٍ بنحوه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن نَوْفٍ:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: قائلةً بيدها
(1)
على وجهها. ووضع أبي يده على وجهه.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: ليست بسَلْفَع من النساءِ
(2)
خَرّاجةٍ وَلَّاجةٍ، واضعةً ثوبها على وجهها، تقول:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} .
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: لم تكن سَلْفعًا من النساءِ خَرَّاجة ولَّاجةً، قائلةً بيدها على وجهها:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}
(3)
.
(1)
في م: "بيديها".
(2)
السلفع من النساء: البذيئة الفحاشة القليلة الحياء. اللسان (س ل ف ع).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 530، 531، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2965، والحاكم 2/ 407 من طريق إسرائيل به.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا قُرَّةُ بنُ خالدٍ، قال: سَمِعتُ الحسن يقولُ في قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: بعيدةً مِن البَذَاءِ.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: أتَته تمشى على استحياءٍ منه
(1)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} . قال: واضعةً يدها على جبينها.
وقوله: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . يَقولُ تعالى ذكره: قالت المرأة التي جاءت موسى تمشى على استحياء: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} . تقولُ: ليُثيبَكَ {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} .
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} . يقولُ: فمضى موسى معها إلى أبيها، فلمَّا جاء أباها وقَصَّ عليه قَصَصَه مع فرعون وقومه من القبط، قال له: أبوها: {لَا تَخَفْ} فقد {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . يعنى: من فرعونَ وقومه؛ لأنه لا سلطانَ له بأرضِنا التي أنت بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني العباس، قال: أخبرنا يزيد، قال: ثنا الأصبغ، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: استنكر أبو الجاريتين سُرعة
(1)
تقدم أوله في ص 150.
صُدُورِهما بغَنمِهما حُفَّلًا بطانًا
(1)
، فقال: إن لكما اليوم لشأنًا - قال أبو جعفر: أَحْسَبُه قال: فأخبرتاه الخبر - فلمَّا أتاه موسى كلَّمه، {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطانٌ، ولسنا في مملكته
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّي، قال: لما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعًا سألهما، فأخْبَرتاه خبر موسى، فأرسل إليه إحداهما، فأتته تمشى على استحياء - [وهو يُسْتَحْيى منه]
(3)
- قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . فقام معها وقال لها: امْضِي. فمشت بين يديه، فضربتها الريحُ، فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشى خَلْفى، ودُلِّينى على الطريق إن أخْطَأْتُ، فلما جاء الشيخ وقصَّ عليه القَصَصَ، قال:{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . قال: قال مُطَرِّفٌ: أما والله لو كان عند نبيِّ الله شيءٌ، ما تتبَّع مذقتها
(5)
، ولكن إنما حمله على ذلك الجَهْدُ، {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(6)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: رَجَعتا إلى أبيهما في
(1)
حفلًا: جمع حافل، أي: ممتلئة الضروع، وبطانا، أي: ممتلئة البطون. النهاية 1/ 137، 409.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 2965، 2967 من طريق يزيد به، وهو جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(3)
في ت 1، ونسخة من تاريخ المصنف:"وهى تستحيى منه"، ولم ترد هذه العبارة في بقية نسخ التاريخ.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2965 من طريق عمرو بن حماد به دون أوله، وتقدم أوله في ص 150.
(5)
في ص: "مذقهما"، وفى م:"مذقيهما". والمذْقة: الشربة من اللبن الممذوق، أي الممزوج بالماء. ينظر اللسان (م ذ ق).
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 125 إلى أحمد في الزهد.
ساعةٍ كانتا لا تَرْجِعان فيها، فأنكَرَ شأنَهما، فسألَهما، فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: عجِّلى عليَّ به. فأتَته على استحياء، فجاءَتْه فقالت:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . فقام معها، كما ذُكر لى، فقال لها: امْشِي خَلْفى، وانْعَتى لى الطريق، وأنا أمْشِى أمامَك، فإنَّا لا نَنْظُرُ في
(1)
أدبار النساءِ. فلما جاءه أخبَره الخبرَ، وما أخرجه من بلادِه، فلما قص عليه القصص {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وقد أخبرت أباها بقوله: إنَّا لا نَنظُرُ في
(2)
أدبار النساء
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} .
يقول تعالى ذكره: قالت إحدى المرأتين اللتين سَقَى لهما موسى لأبيها حين أتاه موسى. وكان اسم إحداهما صَفُورَةُ
(4)
، واسم الأخرى ليا. وقيل: شرفا. كذلك.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني وهب بن سليمانَ الذِّماريُّ
(5)
، عن شُعَيبٍ الجبائيِّ، قال: اسم الجاريتين ليا وصَفُورَةُ (4)، وامرأة موسى صَفُورَة (4) ابنه يثرونَ كاهن مدينَ، والكاهنُ حَبْرٌ
(6)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إحداهما صَفُورَةُ (4)
(1)
في م، ت 2:"إلى".
(2)
في م: "إلى".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2968 من طريق سلمة به.
(4)
في م: "صَفُورَاء". وهما قولان في اسمها، ينظر التاج (ص ف ر).
(5)
في م: "الرمادي". والمثبت موافق لما في تاريخ المصنف، ولم نجد من نص على نسبته إلى أيِّ من النسبتين، فهو وهب بن سليمان الجندى اليماني، والذماري نسبة إلى قرية باليمن على ستة عشر فرسخا من صنعاء، والرمادي نسبة إلى رمادة اليمن قرية بها. الأنساب 3/ 11، 88، وينظر التاريخ الكبير 8/ 169.
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 400.
ابنه يثرونَ، وأختُها شرفا، ويُقالُ: ليا. وهما اللتان كانتا تَذُودان
(1)
.
وأما أبوهما ففى اسمه اختلافٌ؛ فقال بعضُهم: كان اسمه يثرونَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاويةً، عن الأعمش، عن عمرو بن مرَّةَ، عن أبي عُبيدةً، قال: كان الذي استأجر موسى ابن أخى شُعيب يثرونَ
(2)
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرَّةً، عن أبي عبيدة، قال: الذي استأجر موسى يثرونُ ابن أخى شُعيب عليه السلام.
وقال آخرون: بل اسمه: يثرى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن أبي جَمْرةً
(3)
، عن ابن عباس، قال: الذي استأجر موسى يثرى صاحبُ مَدينَ
(4)
.
حدَّثني أبو العالية العَبْديُّ إسماعيل بن الهيثم، قال: ثنا أبو قتيبة، عن حماد بن سلمة، عن أبي جَمْرةَ
(3)
، عن ابن عباسٍ، قال
(5)
: اسمُ أبي المرأةِ يَثْرى
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2969 من طريق سلمة به.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 400، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2966 من طريق الأعمش به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 126 إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(3)
في م، ت 1، ت 2:"حمزة".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 400.
(5)
بعده في ص، م، ت 1:"الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين. حدَّثني أبو العالية العبدى إسماعيل بن الهيثم، قال: ثنا أبو قتيبة، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة عن ابن عباس قال". وهو تداخل بين متن الأثر السابق وإسناد الأثر الذي بين أيدينا.
وقال آخرون: بل اسمه شعيبٌ. وقالوا: هو شعيبٌ النبيُّ عليه السلام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا قرة بن خالد، قال: سمعتُ الحسن يقولُ: يقولون: شُعَيبٌ صاحب
(1)
موسى
(2)
. ولكنه سيدُ أهلِ الماءِ يومَئِذٍ
(3)
.
قال أبو جعفر: وهذا مما لا يُدرَكُ عِلْمُه إلا بخبرٍ، ولا خبر بذلك تجبُ حُجَّتُه، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جلَّ ثناؤه:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} .
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} . تعنى بقولها: {اسْتَأْجِرْهُ} : ليَرْعَى عليك ماشيتك، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}. تقولُ: إِن خير من تَسْتأجِرُه للرَّعْي القويُّ على حفظ ماشيتك، والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمين الذي لا تخافُ خيانته فيما تَتَّمِنُه
(4)
عليه منها
(5)
.
وقيل: إنها لمَّا قالت ذلك لأبيها، استنكر أبوها ذلك من وصفها إيَّاه، فقال لها: وما عِلْمُكِ بذلك؟ فقالت: أما قوَّتُه فما رأيتُ مِن علاجه ما عالج عندَ السَّقْي على البئر، وأما الأمانة فما رأيتُ من غَضِّ البصر عنى.
وبنحو ذلك جاءت الأخبار عن أهل التأويل.
(1)
بعده في ص، ت 1:"يعني".
(2)
في ص: "لموسى".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2965 من طريق عبد الرحمن بن مهدي به، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 36 من طريق قرة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 126 إلى ابن المنذر.
(4)
في م: "تأمنه"، وفى ت 2:"تأتمنه"، وفي ت 1:"ائتمنته".
(5)
سقط من: م.
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسمِ بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عباس، قال:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: فَأَحْفَظَتْه الغَيْرَةُ أَن قال: وما يُدريك ما قوَّتُه وأمانته؟! قالت: أما قوتُه فما رأيتُ منه حينَ سَقَى لنا، لم أرَ رجلًا قَطُّ أقوى في ذلك السَّقى منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقتلتُ إليه وشَخَصتُ له، فلمَّا عَلِم أنى امرأةٌ، صَوَّب رأسَه فلم يَرْفَعُه، ولم يَنْظُرْ إليَّ حتى بلَّغتُه رسالتك، ثم قال لى
(1)
: امشى خَلْفى، وانْعَتى لى الطريق. ولم يفعل ذلك إلا وهو أمينٌ. فسُرِّيَ عن أبيها، وصدقها، وظنَّ به الذي قالت
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله لموسى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . يقولُ: أمينٌ فيما وَلِيَ، أمين على ما اسْتُودِع
(3)
.
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: إن موسى لما سَقَى لهما، ورأت قوَّته، وحرَّك حَجَرًا على الرَّكِيَّةِ
(4)
لم يستطعه ثلاثون رجلًا، فأَزَاله عن الرَّكِيَّةِ، وانطلق مع الجارية
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2967 من طريق يزيد بن هارون به، وهو جزء من حديث الفتون الطويل، وتقدم تخريجه في 16/ 69.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2967، 2968 من طريق أبي صالح به.
(4)
الركية: البئر. اللسان (ر ك ى).
حينَ دعَتْه، فقال لها: امْشِى خَلْفى وأنا أمامَكِ. كراهيةَ أن يَرَى شيئًا مِن خلفِها مما حرَّم اللهُ أن يُنظر إليه، وكان يومًا فيه ريحٌ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن عبدِ الرحمنِ بن أبي نُعْمٍ في قولِه:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال لها أبوها: ما رأيتِ من أمانيِه؟ قالت: لمَّا دَعَوْتُه مَشَيتُ بينَ يدَيه، فَجَعَلتِ الريحُ تَضْرِبُ ثيابي، فَتَلْزَقُ بجَسدِى، فقال: كُونى خَلْفى، فإذا بلَغَتِ الطريقَ فَآذِنِينى
(1)
. قالت: ورأيتُه يَمْلأُ الحوضَ بسَجْلٍ واحدٍ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: غَضَّ طَرْفَه عنهما، قال محمدُ بنُ عمرٍو في حديثِه: حينَ أو حتى سقَى لهما فصدَرتا. وقال الحارثُ في حديثِه: حتى سقَى. بغير شكٍّ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيج، عن مجاهدٍ، قال: فتح عن بئرٍ حَجَرًا على فيها، فسَقَى لهما بها، والأمينُ أنه غَضٌ بصرَه عنهما حينَ سقَى لهما فصدَرتا
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ وهانئُ بنُ سعيدٍ، عن الحجاجِ، عن القاسمِ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: رفع
(1)
في م، ت 2:"فاذهبي".
(2)
تفسير مجاهد ص 527، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2968.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 126 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
حجرًا لا يرفعه إلا فِئامٌ مِن الناسِ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، قال
(2)
: قال عمرُو بنُ ميمونٍ في قولِه: {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: كان يومَ ريحٍ، فقال: لا تَمشِى أمامي، فيَصِفَك الريحُ لى، ولكن امْشِى خَلْفى، ودُلِّينى على الطريقِ. قال: فقال لها: كيف عرَفتِ قوَّتَه؟ قالت: كان الحَجرُ لا يُطِيقُه إِلَّا عَشَرَةٌ، فرفَعه وحدَهُ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو معاويةَ، عن الحجاجِ بن أرطاةَ، عن الحكمِ، عن شُرَيحٍ في قولِه:{الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: أما قوَّتُه؛ فانْتَهى إلى حجَرٍ لا يَرْفعُه إِلا عَشَرةٌ، فرفَعه وحدَه، وأما أمانتُه؛ فإنها مشَت أمامَه، فوصَفَها الريحُ، فقال لها: امْشِى خَلْفى، وصِفى لىَ الطريقَ (1).
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا [معاويةُ بنُ عمرٍو]
(4)
، عن زائدةَ، عن الأعمشِ، قال: سأل
(5)
تميمٌ
(6)
إبراهيمَ: بمَ عَرَفَتْ أمانته؟ قال: في طَرْفِه، بغضِّ طَرْفِه عنها.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2967 من طريق حجاج به.
(2)
سقط من: م.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 530، 531، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2966 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو، عن عمر بن الخطاب.
(4)
في ص، ت 1:"معاوية عن عمرو"، وفى م، ت 2:"أبو معاوية عن عمرو". وتقدم على الصواب في 10/ 39. وينظر تهذيب الكمال 28/ 207.
(5)
في م: "سألت".
(6)
بعده في م: "بن". وتميم هو ابن طرفة.
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}. قال: القويُّ في الصَّنعةِ، الأمينُ فيما وَلِى. قال: وذُكِر لنا أن الذي رأت من قوَّتِه أنه لم تَلْبَثْ ماشيتُها أن
(1)
أرْوَاها، وأن الأمانةَ التي رأت منه، أنها حينَ جاءت تدعوه قال لها: كُوني ورائى. وكَرِه أَن يَسْتَدْبِرَها، فذلك ما رأت من قوَّتِه وأمانتَه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ قولِه:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . قال: بلَغنا أن قوَّتَه كانت سرعةَ ما أرْوَى غنمَهما، وبلَغنا أنه ملأ الحوضَ بدَلْوٍ واحدٍ، وأما أمانتُه فإنه أمَرها أن تمشِىَ خلفَه
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ: عن السُّدِّيُّ: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} : وهى الجاريةُ التي دعَته، قال الشيخُ: هذه القُوَّةُ قد رأيتِ حينَ اقتلَع الصخرةَ، أرأيتِ أمانتَه، ما يُدْرِيك ما هي؟ قالت: مَشَيْتُ قُدَّامَه، فلم يُحِبُّ أن يَخُونَني في نفسِي، فأمَرني أن أَمْشِي خلْفَه
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} : فقال لها: وما عِلْمُك بقوَّتِه وأمانتِه؟ فقالت: أما قوَّتُه فإنه كشَف الصخرةَ التي على بئرِ آلِ فلانٍ، وكان لا يكشِفُها دونَ سبعةِ نفرٍ، وأما أمانتُه فإني لمَّا جئتُ أدعوه، قال:
(1)
في م: "حتى".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2967، 2968 من طريق يزيد به ببعضه.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90 عن معمر به.
(4)
تقدم أوله في ص 150.
كُوني خلفَ ظَهْرِى، وأشِيرى لى إلى منزلِك. فعرفتُ أن ذلك منه أمانةٌ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قالت:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} : لما رأت من قوَّتِه وقولِه لها ما قال؛ أَنِ امْشِي خَلْفى. لئلَّا يَرَى منها شيئًا مما يكْرَهُ، فزاده ذلك فيه رغبةً
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال أبو المرأتين اللتين سَقَى لهما موسى لموسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . يعنى بقولِه: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} : على أن تُثيبنى [مِن تزويجِكها]
(3)
رَعْيَ ماشيتى ثمانِيَ حِجَجٍ. من قولِ الناسِ: أَجَرك الله فهو يأجُرُك. بمعنى: أثابَك اللهُ. والعربُ تقولُ: أجَرْتُ الأجيرَ أَجْرَه. بمعنى: أعطيتُه ذلك، كما يقالُ: أَخَذْتُه فأنا آخُذُه.
وحكَى بعضُ أهلُ العربيةِ من أهل البصرةِ، أنّ لغةَ العربِ: أجَرْتُ غلامي، فهو مأجورٌ، وأَجَرْتُه فَهو مُؤجَرٌ. يريد: أفعلتُه. قال: وقال بعضُهم: آجَرَه، فهو مؤاجَرٌ. أراد: فاعَلْتُه.
وكأنّ أباها عندى جعَل صداقَ ابنتِه التي زوَّجها موسى رَعْىَ موسى عليه ماشيتَه ثمانيَ حِجَجٍ، والحِجَجُ السِّنونُ.
وقولُه: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} . يقولُ: فإِن أَتمَمْتَ الثمانيَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2967 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2968 من طريق سلمة به.
(3)
في م: "من تزويجها"، وفى ت 2:"بتزويجكها".
الحِجَج التي شرَطتُها عليك، بإنكاحِي إِيَّاك
(1)
ابنتي، فَجَعَلْتَها عَشْرَ حِجَجٍ، فإحسانٌ من عندك، وليس مما اشترَطتُه عليك بسبب تَزْويجِك ابنتِي، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} باشتراطِ الثمانِي الحَجَجِ عَشْرًا عليك، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في الوفاءِ بما قلتُ لك.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} . أي: في حُسنِ الصُّحبةِ والوفاءِ بما قلتُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى لأبي المرأتين: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} . أي: هذا الذي قلتَ من أنك تُزوِّجُنى إحدَى ابنتَيك على أن آجُرَك ثمانيَ حِجَج - واجبٌ بيني وبينَك، على كلِّ واحدٍ منا الوفاءُ لصاحبِه بما أوجَبه
(3)
له على نفسِه.
وقولُه: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} . يقولُ: أَيَّ الأجلين من الثماني الحِجَج والعشر الحججِ، {قَضَيْتُ}. يقولُ: فرَعْتُ منها، فوفَّيْتُكَها رعىَ غنمِك وماشيتِك، {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}. يقولُ: فليس لك أن تَعْتدِىَ عليَّ فتطالبَني بأكثرَ منه.
و "ما" في قولِه: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} . صلةٌ يوصَلُ بها "أيّ [عدوانَ عليَّ]
(4)
.
(1)
بعده في م: "إحدى".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2969 من طريق سلمة به.
(3)
في م: "أوجب".
(4)
كذا في ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"على الدوام"، وفى العبارة اضطراب وسقط، وقال الفراء في معاني القرآن 2/ 305: فجعل "ما" وهى صلة من صلات الجزاء مع "أي" وهي في قراءة عبد الله: (أي الأجلين ما قضيت فلا عدوان على). ثم ذكر الكلام الآتي الذي سيذكره المصنف عنه بعدُ.
وزعم أهلُ العربيةِ
(1)
أن هذا أكثرُ في كلامِ العربِ من "أيّما"
(2)
. وأنشَد قولَ الشاعر:
وأَيُّهما ما أَتْبَعَنَّ فَإِنَّني
…
حَرِيصٌ على إثْرِ الذي أنا تابعُ
وقال عباسُ بن مِرداسٍ
(3)
:
فأَيِّى ما وأيُّكَ كان شَرًا
…
فَقِيدَ إلى المَقامَةِ لا يَراها
وقولُه: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . كان ابن إسحاقَ يرَى هذا القولَ من أبى المرأتين.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: قال موسى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} . قال: نَعم {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . فزوَّجه، وأقام معه يَكْفِيه، ويَعْمَلُ له في رعايةِ غنمِه، وما يَحتاجُ إليه منه
(4)
.
وزوجةُ موسى صَفُوراءُ، أو أختُها شرفا أو ليا.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي، قال: قال ابن عباسٍ: الجاريةُ التي دعَتُه هي التي تزوَّجَ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قال له: {إِنِّي
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 305.
(2)
في م: "أي".
(3)
تقدم في 17/ 497.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2969 من طريق سلمة به
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 398.
أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: وأيَّتُهما تريدُ أن تُنكِحَنى؟ قال: التي دَعَتْك. قال: لا، إلَّا وهى بريئةٌ مما دخَل نفسَك عليها. فقال: هي عندك كذلك. فزوَّجَهُ
(1)
.
وبنحوِ الذي قُلنا في قولِه: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} : إما ثمانيًا، وإما عَشْرًا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني ابن لهيعةَ، عن عُمارة بن غَزِيَّةَ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسمِ بن محمدٍ، وسأله رجلٌ، قال:{أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} . قال: فقال القاسمُ: ما أُبالى أيُّ ذلك كان، إنما هو موعدٌ وقضاءٌ.
وقولُه: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . يقولُ: والله على ما أوجب كلُّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القولُ - شهيدٌ وحفيظٌ.
كالذي حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قال: شهيدٌ على قولِ موسى وخَتَنِه
(3)
.
وذُكِر أن موسى وصاحبَه لمَّا تَعاقَدا بينَهما هذا العقدَ، أمَر إحدى ابنتَيه أن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2968 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2969 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 127 إلى ابن المنذر.
تُعطِىَ موسى عصًا من العِصيِّ التي تكونُ مع الرعاةِ، فأعْطَته إيّاها
(1)
؛ فذكَر بعضُهم أنها العصا التي جعَلها الله له آيةً، وقال بعضُهم: بل
(2)
تلك عصًا أعطاه إيَّاها جبريلُ عليه السلام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ:، عن السُّدِّي، قال: أَمَر - يَعنى أبا المرأتين - إحْدَى ابنتَيْه أن تأتِيَه - يعنى أن تأتىَ موسى - بعصًا، فأتَته بعصًا، وكانت تلك العصا عصًا اسْتَودَعها إياه مَلَكٌ في صورةِ رجلٍ فدَفعها إليه، فدخَلت الجاريةُ فأخَذتِ العصا، فأتَته بها، فلمَّا رآها الشيخُ قال: لا، ائتيه بغيرِها. فألقْتَها تريدُ أن تأخذَ غيرَها، فلا يَقَعُ في يدِها إلَّا هي، وجعَل يَرْدُدُها، وكلُّ ذلك لا يَخْرُجُ في يدِها غيرُها، فلما رأى ذلك عمَد إليها فأخرَجها معه
(3)
، فرَعَى بها، ثم إن الشيخَ نَدِم وقال: كانت وديعةً. فخرَج يتلَقَّى موسى، فلما لَقِيه قال: أعْطِني العصا. فقال موسى: هي عَصَاى. فأبى أن يُعطِيَه، فاخْتَصما، فرضِيا أن يجعَلا بينهما أولَ رجلٍ يَلْقاهما، فأتاهما مَلَكٌ يمشى، [فقضَى بينَهما]
(4)
فقال: ضَعوها في الأرضِ، فمَن حمَلها فهى له. فعالَجها الشيخُ فلم يُطِقْها، وأخَذها موسى بيدِه فرَفَعها، فترَكها له الشيخُ، فرعَى له عشرَ سنينَ. قال عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ: كان موسى أحقُّ بالوفاءِ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قال - يعني أبا الجاريةِ لمَّا زوَّجها موسى - لموسى: ادخُلْ ذلك البيتَ، فخُذ عصًا فتوكَّأْ عليها.
(1)
في م: "إياه".
(2)
سقط من: م.
(3)
أي عمد إلى العصا فأعطاها له.
(4)
سقط من: م.
(5)
تقدم أوله في ص 150.
فدخَل، فلما وقَف على بابِ البيتِ، طارت إليه تلك العصا فأخَذها، فقال: ارْدُدْها وخُذْ أُخرى مكانَها. قال: فردَّها، ثم ذَهَب ليأخذَ أخرى، فطارت إليه كما هي، فقال:[لا، ارْدُدْها]
(1)
. حتى فعل ذلك ثلاثًا، فقال: ارْدُدُها. فقال: لا آخُذُ
(2)
غيرَها اليومَ. فالْتَفَت إلى ابنتِه، فقال:[يا بُنَيَّةُ]
(3)
، إن زوجَك لنبيٌّ.
ذكرُ مَن قال: التي كانت آيةً عصًا أعطاها موسى جبريلُ عليهما السلام
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، قال: سألتُ عكرِمةَ، فقال: أما عصا موسى، فإنها خرج بها آدم من الجنَّةِ، ثم قبَضها بعدَ ذلك جبريلُ عليه السلام، فلَقِى موسى بها ليلًا فدفعَها إليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما وفَّى موسى صاحبَه الأجلَ الذي فارَقه عليه عندَ إنكاحِه إياه ابنته. وذُكِر أن الذي وفَّاه من الأجلين أتمُّهما وأكملُهما، وذلك العَشْرُ الحِجَج، على أن بعضَ أهلِ العلمِ قد رُوِى عنه أنه قال: زاد مع العشرِ عَشْرًا أُخرى.
ذكرُ مَن قال: الذي قضَى من ذلك هو الحِجَجُ العَشْرُ
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ: أيَّ الأجلين قضَى موسى؟
(1)
في م: "لا أردها"، وفي ت 1:"له ارددها".
(2)
في م: "أجد".
(3)
في م: "لابنته".
قال: خيرَهما وأوفاهما
(1)
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، سُئل: أيَّ الأجلين قضَى موسى؟ قال: أتَمَّهما وأخْيَرَهما.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيدُ الله بنُ موسى، قال: ثنا موسى بنُ عُبَيدةَ، عن أخيه، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قضَى موسى آخِرَ
(2)
الأجلين.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ
(3)
، عن الحكمِ بن أبانٍ، عن عكرمةَ، سُئل ابن عباسٍ: أيَّ الأجلين قضَى موسى؟ قال: أتمَّهما وأوفاهما
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، عن حكيمِ بن جُبَيرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: قال يهوديٌّ بالكوفةِ وأنا أَتَجَهَّز للحجِّ: إنى أَراك رجلًا يَتَّبِعُ
(5)
العِلمَ؛ أخْبِرْنِى أيَّ الأجلين قضَى موسى؟ قلتُ: لا أعلمُ، وأنا الآنَ قادمٌ على حَبْرِ العرب - يعنى ابنَ عباسٍ - فسائلُه عن ذلك. فلما قدِمتُ مكةَ سألتُ ابنَ عباسٍ عن ذلك، وأخبَرتُه بقولِ اليهوديِّ، فقال ابن عباسٍ: قضَى أكثرَهما وأطيبَهما؛ إن النبيَّ إذا وعَد لم يُخلِف. قال سعيدٌ: فقَدِمتُ
(1)
تفسير سفيان ص 233، ومن طريقه ابن أبي شيبة 11/ 533، وأخرجه البخاري (2684)، والبيهقى 6/ 117 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 126 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في ت 1: "أخير".
(3)
في م: "عبيدة".
(4)
أخرجه أبو يعلى (2408) من طريق سفيان بن عيينة مرفوعا. وسيأتي قريبا مرفوعا أيضا.
(5)
في م: "تتتبع".
العراقَ، فلَقِيتُ اليهوديَّ فأخبَرتُه، فقال: صدَق - وما أَنزَل على موسى - هذا. واللهُ العالم
(1)
.
[حدَّثنا ابن وكيعٍ]
(2)
، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ بن أبي أيوبَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: سألنى رجلٌ من أهلِ النصرانيةِ: أيَّ الأجلين قضَى موسى؟ قلتُ: لا أعلم، وأنا يومئذٍ لا أعلم، فَلَقِيتُ ابنَ عباسٍ، فذكرتُ له الذي سألني عنه النصرانيُّ، فقال: أما كنتَ تَعْلَمُ أن ثمانيًا واجبٌ عليه، لم يكنْ نبيُّ اللهِ ليَنْقُصَ
(3)
منها شيئًا؟ وتعلمُ أن الله كان قاضيًا عن موسى عِدَتَه التي وعَدَه؟ فإنه قضَى عَشْرَ سنين
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} . قال: حدَّث ابن عباسٍ، قال: رَعَى عليه نبيُّ اللهِ أكثرَها وأطيبَها
(5)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أبي معشر، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظيِّ، قال: سُئل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيَّ الأجلين قضَى موسى؟ فقال: "أوْفاهما وأَتَمَّهما"
(6)
.
حدَّثنا أحمدُ بن محمدٍ الطوسيُّ، قال: ثنا الحُمَيْديُّ أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنى إبراهيمُ بنُ يحيى بن أبي يعقوبَ، عن الحكمِ بن أبانٍ،
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 399.
(2)
سقط من النسخ. وتقدم في ص 225.
(3)
في م، ت 2:"نقص".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 399، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2969 من طريق يزيد به.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90 من طريق قتادة به.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 533 عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 27 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سألْتُ جبريلَ: أَي الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسى؟ قال: أتَمَّهُما وأكمَلَهُما"
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سأل جبريلَ: "أيَّ الأجلين قضى موسى؟ قال: سوف أسألُ إسرافيلَ. فسَألَه، فقال: سوف أسألُ الله تبارك وتعالى. فسَأله، فقال: أبرَّهما وأوفاهُما"
(2)
.
ذكرُ مَن قال: قضَى العَشْرَ الحِجَجِ وزاد على العَشْرِ عَشْرًا أخرى
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} . قال: عَشر سنين، ثم مكَث بعد ذلك عَشْرًا أُخرى
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: قضَى الأجلَ عشرَ سنين، ثم مكَث بعد ذلك عَشْرًا أُخرى.
حدَّثنا ابن
(4)
المثنى، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن قتادةَ، قال: ثنا أنسٌ، قال: لمَّا دعا نبيُّ اللهِ موسى صاحبَه إلى الأجلِ الذي كان بينَهما، قال له
(1)
أخرجه الحميدى (535) - ومن طريقه المصنف في تاريخه 1/ 399، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2970، والبيهقى 6/ 117 - وأخرجه الحاكم 2/ 407، من طريق سفيان به. وأخرجه البزار (2245 - كشف) من طريق سفيان، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان به.
(2)
أخرجه سنيد - الحسين - في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 6/ 241.
(3)
تفسير مجاهد ص 528، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2971، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 127 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
سقط من: م.
صاحبه: كلُّ شاةٍ ولَدت على غيرَ لونها، فلك ولدُها. فعمَد، فرفَع خيالًا على الماءِ، فلما رأت الخيالَ فزِعَت، فجالت جَوْلةً، فولَدْن كلُّهنَّ بُلقًا، إلا شاةً واحدةً، فذهَب بأولادِهِنَّ ذلك العامَ
(1)
.
وقولُه: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلما قضَى موسى الأجلَ وسار بأهلِه شاخِصًا بهم إلى منزلِه من مصرَ، {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّور}. يعنى بقوله:{آنَسَ} : أبْصَر وأحَسَّ، كما قال العَجَّاجُ
(2)
:
آنَسَ خِرْبانَ
(3)
فضاءٍ فانكَدَرْ
…
دانَى جَناحَيْه من الطُّورِ فمَرّ
وبنحوِ الذي قلُنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وقد ذكَرنا الروايةَ بذلك فيما مضَى قبلُ
(4)
، غيرَ أنا نذكُرُ ههنا بعضَ ما لم نذكرْ قبلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} . أيَّ: أَحْسَسْتُ نارًا
(5)
.
وقد بيَّنا معنى "الطورِ" فيما مضَى بشواهدِه وما فيه من الروايةِ عن أهلِ
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 40 من طريق معاذ بن هشام به.
(2)
ديوانه ص 28، 29. وجاء فيه البيت الأول تاليا للبيت الثاني، ورقم الأول (76)، والثاني (74). وليس فيه محل للشاهد، فجاء فيه "أبصر" بدل "آنس"، ورواية المصنف هي رواية أبي عبيدة في مجاز القرآن 2/ 102.
(3)
الخربان: الحباريات الذكور، واحد الخربان خرب، وهو ذكر الحبارى. الديوان ص 29.
(4)
ينظر ما تقدم في 16/ 18 - 20، وص 8.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2842، 2971 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 127 إلى عبد بن حميد.
التأويلِ
(1)
.
وقولُه: {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} . يقولُ: قال موسى لأهلِه: تَمَهَّلوا وانتَظِروا، إنى أبصَرتُ نارًا، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا}. يعنى: من النارِ، {بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}. يقولُ: أو أتِيكم بقطعةٍ غليظةٍ من الحطبِ فيها النارُ. وهى مِثلُ الجِذْمةِ من أصلِ الشجرةِ. ومنه قولُ ابن مقبلٍ
(2)
:
باتَتْ حَواطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْن لها
…
جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
(3)
وفى "الجذْوةِ" لغاتٌ للعربِ ثلاثٌ؛ جِذوةٌ بكسرِ الجيمِ، وبها قرَأت قَرَأَةُ الحجازِ والبصرةِ وبعضُ أهلِ الكوفةِ، وهى أشهرُ اللغات الثلاثِ فيها، وجَذْوةٌ بفتحِ الجيمِ، وبها قرَأ أيضًا بعضُ قَرَأةِ الكوفةِ، [وجُذوةٌ بضمِّ الجيمٍ]
(4)
، وهذه اللغاتُ الثلاثُ وإن كُنَّ مشهوراتٍ في كلامِ العربِ، فالقراءةُ بأشهرِها أعجبُ إليَّ، وإن لم أُنكِر قراءةَ مَن قرَأ بغيرِ الأشهرِ منهن.
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى "الجذوةِ" قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} . يقولُ: شهابٍ
(5)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 48 - 51.
(2)
ديوانه ص 91.
(3)
الجزل: الحطب اليابس، والجذاء: أصول الشجر، واحدتها جذاة. والدعر: البالي من الحطب. اللسان (ج ز ل، ج ذو، د ع ر).
(4)
سقط من: ص، م، ت 2. وقد قرأ بالضم حمزة وخلف، وقرأ عاصم بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر النشر 2/ 256.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2972 من طريق أبي صالح به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{أَوْ جَذْوَةٍ} : والجَذوةُ أصلُ شجرةٍ فيها نارٌ.
حدَّثنا القاسمُ قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قَتادةَ قولَه:{إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} . قال: أصلُ الشجرةِ في طَرَفِها النارُ، فذلك قولُه:{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} . قال: السَّعَفُ فيه النارُ. قال مَعْمرٌ: وقال غيرُ
(1)
قتادةَ: {أَوْ جَذْوَةٍ} : أو شُعْلةٍ من النارِ
(2)
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} . قال: أصلُ شجرةٍ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} . قال: أصلُ شجرةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} . قال: الجَذوةُ العودُ منِ الحطبِ الذي فيه النارُ، ذلك الجذوةُ
(4)
.
(1)
سقط من: م. وهو الكلبى، كما في تفسير عبد الرزاق.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90، 91 عن معمر به. عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 127 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مقتصرا على أوله.
(3)
تفسير مجاهد ص 528. ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2972. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2973 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . يقولُ: لعلكم تَتَسَخَّنون
(1)
بها من البَردِ. وكان في شتاءٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما أتَى موسى النارَ التي آنَس من جانبِ الطورِ، {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} . يعنى بالشاطئ الشَّطَّ. وهو جانبُ الوادى وعُدْوَتُه، والشاطئُ يُجْمَعُ شَواطئَ وشُطَانَ، والشَّطُّ الشُّطُوطَ. و "الأيمن"[من نعتِ]
(2)
الشاطئ، عن يمينِ موسى.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} . قال ابن عمرو في حديثِه: عندَ الطورِ. وقال الحارثُ في حديثِه: من شاطئ الوادى الأيمنِ عندَ الطورِ، عن يمين موسى
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيج، عن مجاهدٍ:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} . قال: شِقِّ الوادى عن
(1)
في م، ت 2:"تسخنون".
(2)
في م: "نعت من ".
(3)
تفسير مجاهد ص 528، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2972، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
يمينِ موسى، عندَ الطورِ.
وقولُه: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} من صلةِ الشاطئ.
وتأويلُ الكلامِ: فلما أتاها نادَى اللهُ موسى من شاطئ الوادى الأيمنِ، في البقعةِ المباركةِ منه، {مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
وقيل: إن معنى قوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} : عند الشجرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} . قال: نُودِى مِن عندِ الشجرةِ: {أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
(1)
.
وقيل: إن الشجرةَ التي نادى موسى منها ربُّه شجرةُ عَوْسَجٍ. وقال بعضُهم: بل كانت شجرةَ العُلَّيقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} . قال: الشجرةُ عَوْسَجٌ. قال معمرٌ: [وقال غيرُ]
(2)
قتادةَ: عصا موسى من العَوْسَجِ، والشجرةُ مِن العَوْسَجِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ مَن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م، ت 2:"عن".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 91 عن معمر به.
لا يَتَّهِمُ، عن [وهبِ بن مُنَبِّهٍ]
(1)
: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} . قال: خرَج نحوَها فإذا هي شجرةٌ مِن العُليق، وبعضُ أهلِ الكتابِ يقولُ: هي عَوْسَجةٌ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن الأعْمشِ، عن عمرِو بن مُرَّةً، عن أبي عُبيدةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: رأيتُ الشجرةَ التي نُودِى منها موسى؛ شجرةَ سَمُرَةٍ
(3)
حضراءَ تَرفُّ
(4)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: نُودِى موسى: أن يا موسى إنِّي أنا اللهُ ربُّ العالمين، وأن ألْقِ عصاك. فألقاها موسى، فصارت حيةً تَسْعَى، فلما رآها موسى {تَهْتَزُّ}. يقولُ: تَتَحَرَّكُ وتَضْطَرِبُ {كَأَنَّهَا جَانٌّ} . والجانُّ: واحد الجنَّانِ، وهى نوعٌ معروفٌ مِن أنواعِ الحيَّاتِ، وهى منها عظامٌ. ومعنى الكلام: كأنها جانٌّ مِن الجنَّان
(5)
، {وَلَّى مُدْبِرًا}. يقولُ: وَلَّى موسى هاربًا منها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ: {وَلَّى
(1)
في م: "بعض أهل العلم"، وفي ت 2:"بعضهم"
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 401، 402.
(3)
في م: "سمراء"، وفى تاريخ دمشق:"سمر".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 244 عن المصنف، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 48 من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود.
(5)
في ص، م، ت 1:"الحيات".
مُدْبِرًا}: فارا منها، {وَلَمْ يُعَقِّبْ}. يقولُ: ولم يَرْجِعْ على عَقِبَيهِ
(1)
.
وقد ذكَرنا الروايةَ في ذلك، وما قالَه أهلُ التأويلِ، فيما مضَى
(2)
، فكَرِهْنا إعادتَه، غير أنا نَذْكُرُ في ذلك بعضَ ما لم نذكُرْه هنالك.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَلَمْ يُعَقِّبْ} .
يقولُ: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} . أيَّ: لم يَلْتَفِتْ مِن الفَرَقِ
(3)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَمْ يُعَقِّبْ} . يقولُ: لم يَنْتَظِرُ
(4)
.
وقولُه: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فنُودِى موسى: يا موسى، أقِبلْ إليَّ ولا تَخَفْ مِن الذي تَهْرُبُ منه، {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} مِن أن يَضُرَّك، إنما هو
(5)
عَصاك.
وقولُه: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} . يقولُ: أَدخِلْ يَدَك. وفيه لغتان: سَلَكْتُه وأَسْلَكْتُه {فِي جَيْبِكَ} . يقولُ: في جَيْبِ قميصِك.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} . أي: في جَيْبِ قميصك
(6)
.
وقد بَيَّنَّا فيما مضَى السببَ الذي مِن أجلِه أَمر أَن يُدْخِلَ يدَه في
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2975 من طريق يزيد به.
(2)
ينظر ما تقدم في ص 14، 15.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2848 من طريق يزيد به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2848 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
(5)
في ت 1: "هي". وقوله: هو. عائد على قوله: الذي تهربه منه.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى عبد بن حميد.
الجيب دونَ الكُمِّ
(1)
.
وقولُه: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . يقولُ: تخرج بيضاءَ مِن غيرِ بَرَصٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا قُرَّةُ بن خالدٍ، عن الحسنِ في قولِه:{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} . قال: فخرَجَت كأنها المصباحُ، فأيقن موسى أنه لَقِى ربَّه
(2)
.
وقولُه: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يقولُ: واضْمُم إليك يَدَك.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عباسٍ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} . قال: يَدَك
(3)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ:{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} . قال: وجَناحاه الذراعُ، والعَضُد هو الجَناحُ، والكَفُّ اليدُ، {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}
(4)
[طه: 22].
وقولُه: {مِنَ الرَّهْبِ} . يقولُ: من الخوف والفَرَقِ الذي قد نالَك مِن مُعاينتِك ما عاينتَ مِن هَوْلِ الحيَّةِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
ينظر ما تقدم في ص 20.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2850، وابن عساكر في تاريخه 61/ 51 من طريق قرة به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
تقدم في 16/ 49.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مِنَ الرَّهْبِ} . قال: من الفَرَقِ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} أيَّ: مِن الرُّعْبِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مِنَ الرَّهْبِ} . قال: مما دخَله مِن الفَرَقِ مِن الحَيَّةِ والخوف. وقال: ذلك الرَّهْبُ. وقرأ قولَ الله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. قال: خوفًا وطَمَعًا
(3)
.
واختلفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قَرَأةِ أهل الحجاز والبصرة: (مِنَ الرَّهَبِ) بفتحِ الراءِ والهاءِ
(4)
. وقرأَته عامةُ قرأةِ الكوفةِ: (مِنَ الرُّهْبِ) بضَمِّ الراءِ وتَسْكينِ الهاءِ
(5)
.
والقول في ذلك أنهما قراءتان مُتَّفقتا المعنى مشهورتان في قَرَأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قَرأ القارى فمُصِيبٌ.
وقولُه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فهذان اللذان
(1)
تفسير مجاهد ص 528، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2975، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2975 من طريق يزيد به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2976 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(4)
وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب. النشر 2/ 256.
(5)
وهى قراءة حمزة والكسائي وأبى بكر وخلف. المصدر السابق ولم يذكر المصنف قراءة حفص بفتح الراء وإسكان الهاء.
أرَيْتُكهما يا موسى مِن تَحوُّلِ العصا حَيَّةً، ويَدِك وهى سمراءُ، بيضاءَ تَلمَعُ مِن غيرِ بَرَصٍ {بُرْهَانَانِ}. يقولُ: آيتان وحُجَّتان.
وأصلُ البرهان البيانُ، يقال للرجل يقولُ القولُ إذا سُئل الحُجَّةَ عليه: هاتِ بُرْهانَك على ما تقولُ. أي: هاتِ تِبْيانَ ذلك ومِصْداقَه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} : العَصا واليدُ آيتانِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال:[حدَّثنا أبو عاصمٍ قال: قال: حدَّثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال]
(2)
: ثنا الحسنُ
(3)
، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا
(4)
عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} : تِبْيانان مِن ربِّك
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} : هذان بُرهانان
(6)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 401.
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
في م: "الحسين".
(4)
سقط من: م.
(5)
تفسير مجاهد ص 529، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2976 بلفظ: العصا واليد. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2976 من طريق سلمة به.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} . فقَرأ: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24]: هاتُوا
(1)
على ذلك آيةً نعرفُها. وقال: {بُرْهَانَانِ} : آيتان مِن اللهِ
(2)
.
واختلَفت القرأة في قراءةِ قولِه: {فَذَانِكَ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ، سِوى ابن كثيرٍ وأبي عمرٍو:{فَذَانِكَ} بتَخْفيفِ النونِ
(3)
؛ لأنها نونُ الاثنين. وقرأه ابن كثيرٍ وأبو عمرو: (فَذَانَّكَ) بتشديدِ النونِ.
واختَلف أهلُ العربيةِ في وَجْهِ تَشْدِيدِها؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ
(4)
: ثَقَّلَ النونَ مَن ثَقَّلها للتوكيدِ، كما أدخَلوا اللامَ في "ذلك". وقال بعضُ نَحْوِيِّى الكوفةِ
(5)
: شُدِّدَت فَرْقًا بينها وبينَ النونِ التي تَسْقُطُ للإضافة؛ لأن "هاتان وهذان" لا تضافُ. وقال آخرُ منهم
(6)
: هو مِن لغةِ مَن قال: [هذا قال ذلك]
(7)
. فزادَ على الألفِ ألفًا، كذا زادَ على النونِ نونًا؛ ليَفْصلَ بينَها وبينَ الأسماءِ المُتَمَكِّنة. وقال في "ذانِك"
(8)
: إنما كانت ذلك
(9)
في مَن قال: هاذاني
(10)
: يا هذا. فَكرِهوا تثنيةَ الإضافةِ، فأعقَبوها باللامِ؛ لأن الإضافةَ تُعَقَّبُ باللام. وكان أبو عَمْرٍو يقولُ:
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2976 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(3)
وهى قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 544.
(4)
هو الأخفش كما في تهذيب اللغة 15/ 34.
(5)
هو الفراء. المصدر السابق.
(6)
هو الكسائي. المصدر السابق.
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"هذا قال ذاك".
(8)
في ص، ت 1، ت 2:"ذلك".
(9)
في ص، ت 1، ت 2:"ذانك".
(10)
في م، ت 2:"هذان"، وفي ت 2:"هذاني".
التشديدُ في النونِ في: (ذَانِّك) مِن لغةِ قريشٍ.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} . يقولُ: إلى فرعونَ وأشرافِ قومِه، حُجَّةً عليهم، ودلالةً على حقيقة نُبُوَّتِك يا موسى؛ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
قولُ: إن فرعونَ وملأهَ كانوا قومًا كافرين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال موسى: ربِّ إني قَتَلْتُ مِن قومِ فرعونَ نفسًا، فَأَخَافُ إن أتيتُهم فلم أُبِنْ عن نفسى بحجةٍ، أن يَقْتُلُونى؛ لأن في لساني عُقْدَةً، ولا أُبِينُ معها ما أريدُ من الكلامِ،
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} . يقولُ: أحسنُ بَيانًا عما يريدُ أن يُبَيِّنَه، {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا}. يقولُ: عَوْنًا {يُصَدِّقُنِي} . أيَّ: يُبيِّنُ لهم عنى ما أخاطبُهم به.
كما حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . أي: يُبَيِّنُ لهم عنى ما أُكَلِّمُهم به، فإنه يَفْهَمُ ما لا يَفْهَمون
(1)
.
وقيل: إنما سأل موسى ربَّه أن يُؤَيِّده بأخيه؛ لأن الاثنين إذا اجْتَمعا على الخبرِ، كانت النفسُ إلى تَصْديِقِهما أسْكَنَ منها إلى تصديقِ خبر الواحدِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَأَرْسِلْهُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2977 من طريق سلمة به.
مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}: لأن الاثنين أُحْرَى أن يُصَدَّقا من واحدٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في "الرِّدْء"
(1)
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . قال: عَوْنًا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قوله:{رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . أي: عونًا
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: كيما يُصَدِّقني.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاويةُ، عن علي، عن ابن عباسٍ:{رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . يقولُ: كي يُصَدِّقَنى
(4)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"ذلك".
(2)
تفسير مجاهد ص 529، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2977، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 91 من طريق معمر، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2977 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي:{فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . يقولُ: كيما يُصَدِّقَنى
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . يقولُ: كيما يُصَدِّقَنى.
و"الرِّدْءُ" في كلامِ العربِ هو العَونُ، يقالُ منه: قد أردأتُ فلانًا على أمرِه. أي: أَكْنَفْتُه
(2)
وأعَنْتُه.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {يُصَدِّقُنِي} ؛ فقرأته عامةُ قرأةِ الحجازِ
والبصرةِ: (رِدْءًا يُصَدِّقْنى) بجزم "يُصَدِّق"
(3)
. وقَرأ عاصمٌ وحمزةُ: {يُصَدِّقُنِي} برفعِه. فمَن رفَعه جعلَه صلة لـ "الردءِ"، بمعنى: فأرسِلْه معى رِدْءًا، مِن صفتِه يُصَدِّقُنى. ومَن جزَمه جعَله جوابًا لقوله:{فَأَرْسِلْهُ} ؛ فإنك إذا أرسَلْتَه صَدَّقَنى. على وجهِ الخبرِ. والرفعُ في ذلك أحبُّ القراءتَين إلى؛ لأنه مسألةٌ مِن موسى ربَّه أن يُرْسِلَ أخاه عونًا له بهذه الصفة.
وقولُه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} . يقولُ: إني أخافُ ألا يُصَدِّقونى على قولى لهم: إنى أُرسلتُ إليكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال الله لموسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} أي: نُقَوِّيك
(1)
تقدم أوله في ص 150.
(2)
في م، ت 2:"أكفيته".
(3)
وهى قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 546.
ونُعِينُك بأخيك. تقولُ العربُ إذا أعَزَّ رجلٌ رجلًا وأعانه ومنَعه ممن أرادَه بظلم: قد شَدَّ فلانٌ على عَضُدِ فلان. وهو مِن: عاضَدَه على أمره: إذا أعانَه. ومنه قولُ ابن مُقْبِلٍ
(1)
:
عاضَدْتُها بعنودٍ غيرِ مُعْتَلَثٍ
(2)
…
كأنه وَقْفُ عاجٍ
(3)
باتَ مَكْنُونا
يعنى بذلك: قوسًا عاضَدَها بسهمٍ.
وفى العضدِ لغاتٌ أربعُ، أجودها: العَضُدُ، ثم العَضُدُ، ثم العُضْدُ، والعَضِدُ
(4)
. يُجْمعُ جميع ذلك على أعضادٍ.
وقولُه: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} . يقولُ: ونَجْعَلُ لكما حُجَّةً.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَكُمَا سُلْطَانًا} : حُجَّةً
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيج، عن مجاهدٍ مثله.
حدَّثنا موسى قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيّ: {وَنَجْعَلُ
(1)
ديوانه ص 324، 325، وهما بيتان، بينهما بيت ثالث، وعجز الشطر الأول: ترن منه متون حين يجرينا. وصدر الثاني: ثم انصرفت به جذلان مبتهجا.
(2)
المعتلث من السهام: الذي لا خير فيه. اللسان (ع ل ث).
(3)
وقف عاج: السوار من العاج.
(4)
في اللسان (ع ض (5) خمس لغات وترتيبها فيه كالتالى: العَضُد، والعَضْد، والعُضُد، والعُضْد. والعَضِد.
(5)
تفسير مجاهد ص 529، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 128 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وليس هذا اللفظ عند ابن أبي حاتم.
لَكُمَا سُلْطَانًا}: والسلطانُ الحُجَّةُ
(1)
.
وقولُه: {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلا يَصِلُ إليكما فرعونُ وقومه بسُوءٍ.
وقولُه: {بِآيَاتِنَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلا يَصِلُ إليكما فرعونُ، {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}. فالباءُ في قولِه:{بِآيَاتِنَا} من صلة "غالبون". ومعنى الكلامِ: أنتما ومَن اتبعكما الغالِبون فرعونَ وملاه {بِآيَاتِنَا} ، أي: بحُجَّتِنا وسُلطانِنا الذي نَجْعَلُه لكما.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما جاء موسى فرعونَ وملأه بأدلَّتِنا وحُجَحِنا بيناتٍ أنها حُجَجٌ شاهِدةٌ بحقيقةِ
(2)
ما جاء به موسى مِن عندِ ربِّه، قالوا لموسى: ما هذا الذي جئتنَا به إلا سحرٌ افتريته مِن قِبَلِك، وتَخرَّصْتَه كذبًا وباطلًا، وما سَمِعنا بهذا الذي تَدْعُونا إليه، من عبادةِ مَن تَدعونا إلى عبادتِه، في أسلافِنا وآبائِنا الأولين الذين مَضَوا قَبْلَنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال موسى مُجيبًا لفرعونَ: رَبِّي أعلمُ بالحقِّ مِنَّا يا فرعونُ مِن المُبْطِل، ومن الذي جاء بالرشادِ إلى سبيلِ الصوابِ، والبيانِ عن واضحِ الحُجَّةِ مِن عندِه، ومَن الذي له العُقْبَى المحمودةُ في الدار الآخرة مِنَّا. وهذه مُعارضةٌ من نبيِّ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 401، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 1030 من طريق أسباط به.
(2)
في ت 1: "على حقيقة".
اللهِ موسى عليه السلام لفرعونَ، وجميلٌ مُخاطبةٍ، إذ ترك أن يقولُ له: بل الذي غَرَّ قومَه، وأهلَك جنودَه، وأضلَّ أتباعَه، أنت لا أنا. ولكنه قال:{رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ثم بالَغ في ذمِّ عدوِّ اللهِ بأجملَ مِن
(1)
الخطابِ، فقال:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . يقولُ: إِنه لا يُنْجِحُ ولا يُدْرِكُ طَلِبَته
(2)
الكافرون باللهِ. يَعنِي بذلك فرعونَ، أنه لا يُفْلِحُ ولا يُنْجِحُ؛ الكُفْرِه بربِّه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال فرعونُ لأشرافِ قومهِ وسادتِهم: {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فتَعْبُدوه وتُصَدِّقوا
(4)
موسى فيما جاءَكم به؛ مِن أن له ولكم ربًّا غيرى ومعبودًا، سِواىَ، {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ}. يقولُ: فاعْمَلْ لى آجُرًّا. وذُكر أنه أوَّلُ مَن طبخ الآجُرَّ وبَنَى به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} . قال: على المَدَرِ يكونُ لَبِنًا مطبوحًا.
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
في م: "طلبتهم".
(3)
في م: "به"
(4)
بعده في م: "قول".
قال ابن جُرَيج: أَوَّلُ مَن أمر بصنعةِ الآجُرّ وبَنَى به فرعونُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} . قال: فكان أوَّلَ مَن طبخ الآجُرَّ يَبنى به الصَّرْحَ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} . قال: المطبوحُ الذي يُوقَدُ عليه هو من طينٍ يَبْنون به البنيانَ
(3)
.
وقولُه: {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} . يقولُ: ابْنِ لى الآجُرَّ
(4)
بناءً. وكلُّ بناءٍ مُسَطَّحٍ فهو صَرْحٌ؛ كالقصرِ، ومنه قولُ الشاعرِ
(5)
:
بِهِنَّ نَعَامُ
(6)
بَناها الرجالُ
…
تَحْسَبُ أعْلامهن الصُّرُوحا
يعنى بالصُّرُوحِ جمعَ صَرْح.
وقولُه: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} . يقولُ: أنْظُرُ إلى معبودِ موسى الذي يعبُدُه ويَدْعو إلى عبادتِه، {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ} فيما يقولُ مِن أن له معبودًا يَعْبُدُه في السماءِ، وأنه هو الذي يُؤَيِّده ويَنْصُرُه، وهو الذي أرسله إليْنا - {مِنَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2979 من طريق ابن جريجٍ به. وقول ابن جريج عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 405. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2979 من طريق سعيد به.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 91 من طريق معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2979 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(4)
في م: "بالآجر".
(5)
هو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت في ديوان الهذليين 1/ 136، ورواية الشطر الثاني هكذا: تلقى النفائض فيها السريجا.
ورواية المصنف هي رواية أبي عبيدة في مجاز القرآن 2/ 105.
(6)
النعام: خشب ينصب ويرمى عليها الثمام، يستظل تحتها الربيئة. شرح ديوان الهذليين 1/ 204.
الْكَاذِبِينَ}.
فذُكِر لنا أن هامانَ بنَى له الصَّرْحَ، فارتقَى فوقَه، فكان مِن قصتِه وقصةِ ارتقائِه ما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي، قال: قال فرعونُ لقومِه: {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} لعلى أذهبُ في السماءِ فأنظرَ إلى إلهِ موسى. فلما بَنَى له الصرحَ، ارتقَى فوقَه، فأَمر بِنُشَّابةٍ، فرمَى بها نحوَ السماءِ، فرُدَّتْ إِليه وهي مُتَلَطِّخةٌ دَمًا، فقال: قد قتَلتُ إلهَ موسى
(1)
. تعالى اللهُ عما يقولون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واستَكْبَر فرعونُ وجنودُه في أرضِ مصرَ عن تصديقِ موسى واتباعِه على ما دَعاهم إليه مِن توحيدِ اللهِ، والإقرارِ بالعبودةِ له، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}. يعنى: تَعَدِّيًا وعُتُوًّا على ربِّهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}. يقولُ: وحَسِبوا أنهم بعدَ مَماتِهم لا يُبْعَثون، ولا ثوابَ ولا عقابَ، فركِبوا أهواءَهم، ولم يَعْلَموا أن الله لهم بالمرصادِ، وأنه لهم مُجازٍ على أعمالِهم الخبيثةِ.
وقوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فجمَعْنا فرعونَ وجنودَه من القِبْطِ، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}. يقولُ: فألقَينا
(2)
جميعَهم في البحرِ، فغَرَّقْناهم فيه. كما قال أبو الأسودِ الدُّؤليُّ
(3)
:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2979 من طريق عمرو به، وتقدم أوله في ص 150.
(2)
في م: "فألقيناهم".
(3)
مجاز القرآن 2/ 106، وتقدم في 2/ 309.
نَظَرْتَ إِلى عُنوانِه فنبذته
…
كنَبْذِك نَعْلًا أَخْلَقَتْ مِن نِعالِكا
وذُكر أن ذلك بحرٌ مِن وراءِ مصرَ، كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} . قال: كان اليَمُّ بحرًا يقالُ له: إسافٌ. مِن وراء مصرَ، غرَّقهم اللهُ فيه
(1)
.
وقولُه: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فانظُرْ يا محمدُ بعينِ قلبِك كيف كان أمرُ هؤلاء الذين ظلَموا أنفسَهم، فكفَروا بربِّهم ورَدُّوا على رسولِه نصيحتَه، ألم نُهْلِكُهم فنُوَرِّثَ ديارَهم وأموالَهم أولياءَنا، ونُخَوِّلهم ما كان لهم مِن جناتٍ وعيونٍ، وكنوزٍ ومَقامٍ كريمٍ؟ بعد أن كانوا مُسْتَضْعفين، تُقَتَّلُ أبناؤُهم، وتُسْتَحْيا نساؤُهم؟ فإنا كذلك بك وبمَن آمَن بك وصَدَّقك فاعلون؛ مُخَوِّلوك وإياهم ديارَ مَن كذَّبك ورَدَّ عليك ما أتيتَهم به مِن الحقِّ، وأموالَهم، ومُهْلِكوهم قتلًا بالسيفِ، سنةَ الله في الذين خَلَوا مِن قبلُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلنا فرعونُ وقومَه أئمةً يأتمُّ بهم أهلُ العُتُوِّ على اللهِ والكفرِ به، يَدْعون الناسَ إلى أعمالِ أهلِ النارِ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ}. يقولُ جلَّ ثناؤه: ويومَ القيامةِ لا يَنْصُرُهم مِن الله إذا عذَّبهم ناصرٌ، وقد كانوا في الدنيا يَتَناصَرون، فاضمَحَلَّت تلك النُّصْرة يومَئذٍ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2980 من طريق سعيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى عبد بن حميد.
وقولُه: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وألزَمْنا فرعونَ وقومَه في هذه الدنيا خِزيًا وغضبًا منا عليهم، فحَتَّمْنا لهم فيها بالهلاكِ والبَوارِ والثناءِ السَّيِّيء، ونحن مُتْبِعُوهم لعنةً أخرى يومَ القيامةِ، فمُخْزُوهم بها الخزىَ الدائمَ، ومُهِينوهم بها
(1)
الهوانَ اللازم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: لُعِنوا في الدنيا والآخرةِ. قال: هو كقولِه: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99]
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ قولَه:{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} : لعنةً أُخرى، ثم استَقبَل فقال:{هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}
(3)
.
وقولُه: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هم مِن القومِ الذين قَبَّحهم اللهُ، فأهْلَكهم بكفرِهم بربِّهم، وتكذيبهم رسولَه موسى عليه السلام، فجعَلهم عبرةً للمُعْتبرين، وعِظَةً للمُتَّعظين.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} .
(1)
سقط من: م.
(2)
تقدم تخريجه في 12/ 566، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى عبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى ابن المنذر.
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد آتَينا موسى التوراةَ مِن بعد ما أهَلَكْنا الأممَ التي كانت قبلَه؛ كقومِ نوحٍ، وعادٍ، وثمودَ، وقومِ لوطٍ، وأصحابِ مَدينَ {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}. يقولُ: ضياءً لبنى إسرائيلَ فيما بهم إليه الحاجةُ مِن أمرِ دينِهم، {وَهُدًى}. يقولُ: وبيانًا لهم ورحمةً لمن عَمِل به منهم؛ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . يقولُ: لِيَتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ بذلك عليهم، فيَشْكُروه عليها ولا يَكْفُرُوا.
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدٌ وعبدُ الوهابِ، قالا: ثنا عوفٍ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: ما أَهْلَك اللهُ قومًا بعذابٍ مِن السماءِ ولا مِن الأرضِ بعدَ ما أُنزِلت التوراةُ على وجهِ الأرضِ غير القريةِ التي مُسِخوا قردةً، ألم تَرَ أن الله يقولُ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وما كنتَ يا محمدُ بجانبِ غربيِّ الجبلِ {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} . يقولُ: إذ فرَغنا
(2)
إلى موسى الأمرَ فيما ألزمناه وقومَه، وعهِدنا إليه مِن عهدٍ، {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. يقولُ: وما كنتَ
(1)
أخرجه البزار (2247) - كشف)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2981 من طريق عوف به.
(2)
في م: "فرضنا".
لذلك مِن الشاهدين.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كُنْتَ} يا محمدُ {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} . يقولُ: بجانب غربيِّ الجبلِ، {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}
(1)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، قال: غربيِّ الجبلِ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا الضحاكُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن عليٍّ بن مدركٍ، عن أبي زرعةَ بن عمرٍو، قال: إنكم أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قد أُجِبتم قبلَ أن تَسألوا. وقرأ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}
(2)
.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} : ولكنا خلَقْنا أُممًا فأحدَثناها مِن بعدِ ذلك، {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} .
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2982 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 91 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2982 - عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 250 عن وكيع ويحيى بن عيسى، عن الأعمش، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى المصنف. وهو هنا من طريق سفيان، وسيأتي طريق يحيى بن عيسى في ص 262.
وقولُه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} . يقولُ: وما كنتَ مقيمًا في أهلِ مدينَ. يقالُ: ثويتُ بالمكانِ أثْوِى به ثَواءً، قال أعشى ثعلبةَ
(1)
:
أثْوَى وَقَصَّرَ
(2)
لَيْلةً
(3)
لِيُزَوَّدا
…
فَمَضَى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} . قال: الثاوِى المقيمُ، {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}. يقولُ: تقرأُ عليهم كتابَنا، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}. يقولُ: لم تشهدْ شيئًا مِن ذلك يا محمدُ، ولكنا كنا نحن نفعلُ ذلك، ونرسلُ الرسلَ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما كنتَ يا محمدُ بجانبِ الجبلِ إذ نادينا بأن: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157،156] الآية.
(1)
ديوانه ص 227.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"وقضى".
(3)
في ص، م، ت 2:"ليله".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2983 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
كما حدَّثنا عيسى بنُ عثمانَ بن عيسى الرمليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن عليٍّ بن مُدْركٍ، عن أبي زُرْعَةَ في قولِ اللهِ:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} . قال: نادى: يا أمةَ، محمدٍ، أعطيتُكم قبلَ أن تَسألوني، وأجبتُكم قبلَ أن تَدْعونى
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ بنُ معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} . قال: نُودوا: يا أمةَ محمدٍ، أعطيتُكم قبلَ أن تسألوني، واستجبتُ لكم قبلَ أن تَدْعونى.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حرملةُ بنُ قيسٍ النخعيُّ، قال: سمعتُ هذا الحديثَ مِن أبي زُرْعةَ بن عمرِو بن جريرٍ، عن أبي هريرةَ:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} . قال: نُودوا: يا أمةَ محمدٍ، أعطيتُكم قبلَ أن تسألونى، واستجبتُ لكم قبلَ أن تَدْعونى.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا معتمرٌ، عن سليمانَ، و
(2)
سفيانُ، عن سليمانَ، وحجاجٌ، عن حمزةَ الزياتِ، عن الأعمشِ، عن عليٍّ بن مُدْرِكٍ، عن أبي زرعةَ بن عمرٍو، عن أبي هريرةَ في قولِه:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} . قال: نُودوا: يا أمةَ محمدٍ، أعطيتُكم قبلَ أن تَسألوني، واستجبتُ لكم قبلَ أن تَدْعوني. قال: وهو قولُه حينَ قال موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [الأعراف: 156] الآية
(3)
:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 250 عن يحيى بن عيسى به وعزاه إلى المصنف، وينظر ما تقدم في ص 260.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"عن".
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (11382)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2983، والحاكم 2/ 408، والجرجاني في تاريخ جرجان (469)، والبيهقى في الدلائل 1/ 281، من طريق حمزة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 129 إلى الفريابي وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل، وذكره الدارقطني في العلل 8/ 291، 292، وقال: عن أبي زرعة قوله. وهو أصح.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ مثلَ ذلك.
وقولُه: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لم تشهدْ شيئًا ذلك يا محمدُ فتعلَمَه، ولكنا عرّفناكه، وأنزَلنا إليك، فاقتصَصنا ذلك كلَّه عليك في كتابِنا، وابتعثناك بما أنزلنا إليك من ذلك رسولًا إلى من ابتعثناك إليه من الخلقِ، رحمةً منا لك ولهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ما قصَصنا عليك؛ {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} الآية
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ
(2)
: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . قال: كان رحمةً مِن ربِّك النبوَّةُ.
وقولُه: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولكنْ أرسلْناك بهذا الكتابِ وهذا الدينِ، لتنذرَ قومًا لم يأتِهم قبلَك نذيرٌ، وهم العربُ الذين بُعث إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بعَثه الله إليهم رحمةً، لينذرَهم بأسَه على عبادتهم الأصنامَ، وإشراكِهم به الأوثانَ والأندادَ.
وقولُه: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . يقولُ: ليتذكَّروا فيَتَبَيَّنوا
(3)
خطأَ ما هم عليه مقيمون، من كفرِهم بربِّهم، فيُنيبوا
(4)
إلى الإقرارِ للهِ بالواحدانيةِ، وإفرادِه بالعبادةِ، دونَ كلِّ مِن سواه من الآلهةِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2984 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى عبد بن حميد.
(2)
بعده في م: "عن مجاهد".
(3)
سقط من: م.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكر مِن قال ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . قال: الذي أنزَلنا عليك مِن القرآنِ {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولولا أن يقولُ هؤلاءِ الذين أرسلتُك يا محمدُ إليهم، لو حلَّ بهم بأسُنا، أو أتاهم عذابُنا، مِن قبل أن نرسلَك إليهم، على كفرِهم بربِّهم، واكتسابِهم الآثامَ، واجترامهم المعاصىَ: ربَّنا هلَّا أرسلتَ إلينا رسولًا مِن قبلِ أن يَحِلَّ بنا سَخَطُكَ وينزلَ بنا عذابُك، فتتَّبع أدلَّتَك وآىَ كتابِك الذي تُنزِّلُه على رسولك، ونكونَ مِن المؤمنين بأُلوهِتك، المصدِّقين رسولَك فيما أمرتَنا ونهيتَنا - لعاجلْنَاهم العقوبةَ على شركِهم مِن قَبْلِ إرسالِناك إليهم، ولكِنَّا بعَثْناك إليهم نذيرًا بأسَنا على كفرِهم، لئلَّا يكونَ للناسِ على الله حجةٌ بعدَ الرسلِ.
والمصيبةُ في هذا الموضعِ العذابُ والنقمةُ.
ويعنى بقولِه: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} : بما اكتسَبوا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما جاء هؤلاءِ الذين لم يأتِهم من قبلك يا محمدُ نذيرٌ، فبعثناك إليهم نذيرًا، {الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} ، وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، بالرسالة من اللهِ إليهم، قالوا، تمرُّدًا على اللهِ، وتماديًا في الغيِّ: هلا أوتِى هذا الذي أُرِسل إلينا - وهو محمدٌ. مثلَ ما أوتى موسى بنُ عمرانَ مِن الكتابِ. يقولُ الله تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لقومِك من قريشٍ، القائلين لك: لولا أوتيتَ مثل ما أُوتى مُوسَى: أولم يكفرِ
(1)
الذين علِموا هذه الحجةَ مِن اليهودِ بما أُوتىَ موسى مِن قبلِك.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكر مِن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:[{مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى}]
(2)
. قال: يهودُ تأمرُ قريشًا أن تسألَ محمدًا مثلَ ما أوتىَ موسى. يقولُ الله لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل لقريشٍ يقولوا لهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} . قال: اليهودُ تأمرُ قريشًا. ثم ذكَر نحوَه.
{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} . واختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامةُ
(1)
في ت 1، ت 2:"يكفروا".
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
تفسير مجاهد ص 529، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2984، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر.
قرأةِ المدينةِ والبصرةِ: (قالوا ساحِرَانِ تَظَاهَرَا)
(1)
. بمعنى: أولم يكفروا بما أُوتى موسى مِن قبلُ، وقالوا له ولمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، في قولِ بعضِ المفسرين، وفي قولِ بعضِهم، لموسى وهارونَ عليهما السلام، وفى قولِ بعضِهم، لعيسى ومحمدٍ: ساحِران تعاوَنا، وقرأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ:{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}
(2)
بمعنى: وقالوا للتوراةِ والفرقانِ، في قولِ بعضِ أهلِ التأويلِ، وفى قولِ بعضِهم للإنجيلِ والفُرقانِ.
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك على قدرِ اختلافِ القرأةِ في قراءتِه.
ذكرُ مِن قال: عُنِى بالساحرَين اللذَين تظاهرا: محمدٌ وموسى صلى اللهُ عليهما
حدَّثنا سليمانُ بنُ محمدِ بن مَعْدِيكَرِبَ الرُّعينيُّ، قال: ثنا بقيةُ بنُ الوليدِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي حمزةَ، قال: سمِعتُ مسلمَ بنَ يسارٍ
(3)
يحدثُ عن ابن عباسٍ في قولِ اللهِ: (ساحِران تَظاهَرا). قال: موسى ومحمدٌ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي حمزةَ جارِهم
(5)
، قال: سمعتُ مسلمَ بنَ يسارٍ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ: (ساحِرَانِ تظاهرا). قال: موسى ومحمدٌ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن شعبةَ، عن أبي حمزةَ، عن
(1)
وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 495.
(2)
وبها قرأ عاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
في ت 1، ت 2:"بشار"، وينظر تهذيب الكمال 27/ 551.
(4)
أخرجه البخارى في التاريخ الكبير 5/ 317، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2985 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(5)
سقط من: م. وينظر التاريخ الكبير 5/ 317.
مسلمِ بن يَسارٍ، أن ابنَ عباسٍ قرأ:(ساحِرَانِ). قال: موسى ومحمدٌ عليهما السلام.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن شعبةَ، عن كيسانَ أبي حمزةَ، عن مسلمِ بن يسارٍ، عن ابنَ عباسٍ مثلَه
(1)
.
ومن قال: موسى وهارونُ عليهما السلام
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:(ساحِرانِ تَظاهَرَا). قال: يهودُ لموسى وهارونَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:(قالُوا ساحِرَان تَظاهَرَا): قولُ يهود لموسى وهارونَ عليهما السلام.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ وأبى رَزين، أن أحدَهما قرَأ:(ساحِرَان تَظاهَرَا). والآخرَ: {سِحْرَانِ} . قال الذي قرأ: {سِحْرَانِ} ، قال: التوراةُ والإنجيلِ. وقال الذي قرأ: (ساحِرَان)، قال: موسى وهارون وهارونُ
(3)
.
وقال آخرون: عَنَوا بالساحرَين عيسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم.
(1)
أخرجه البخارى في التاريخ الكبير 5/ 317 عن وكيع، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن كيسان به.
(2)
تفسير مجاهد ص 529، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2985، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2985، 2986 مِن طريق إسماعيل بن أبي خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن الحسنِ قولَه:(ساحِرَانِ تَظاهَرَا). قال: عيسى ومحمدٌ. أو قال: موسى، صلى اللهُ عليهم
(1)
.
ذكر مِن قال: عَنَوا بذلك التوراةَ
(2)
والفرقانَ. ووجهَ تأويلَه إلى قراءةِ من قرأ: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} .
حدَّثني عليُّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنَ عباسٍ قولَه {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}. يقولُ: التوراةُ والقرآنُ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ قولَه:{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} . يعنى التوراةَ والفرقانَ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: (قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا). قال: كتابُ موسى وكتابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
ذكرُ مَن قال: عَنَوا به التوراةَ والإنجيلِ
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنةَ
(5)
، عن حميدٍ الأعرجِ، عن مجاهدٍ، قال:
(1)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2985 معلقا بلفظ: موسى ومحمد. وكذلك ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 294، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 252 بلفظ: عيسى ومحمد، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 92 عن معمر عن الكلبي بهذا اللفظ.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"والإنجيل".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2985 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2986، 2987 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(5)
في م: "علية". وتقدم في 4/ 18، وسيأتي في ص 284.
كنتُ إلى جنبِ ابن عباسٍ وهو يتعوَّذُ بينَ الركنِ والمقامِ، فقلتُ: كيف تقرأُ؛ {سِحْرَانِ} ، أو (ساحران)؟ فلم يردُّ على شيئًا، فقال عكرمة:(ساحران). وظننتُ أنه لو كرِه ذلك أنكرَه عليَّ. قال حميدٌ: فلقيتُ عكرمةَ بعدَ ذلك، فذكرتُ ذلك له، وقلتُ: كيف كان يقرؤُها؟ قال: كان يقرأُ: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} التوراةُ والإنجيلُ
(1)
.
ذكرُ مَن قال: عَنَوْا به الفُرْقَانَ والإنجيلَ
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، قال: ثنا عبيدٌ، عن الضحاكِ أنه قرَأ:{سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} . يعنون: الإنجيلُ والفرقانُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} : قالت ذلك أعداءُ اللهِ اليهودُ، للإنجيلِ والفرقانِ، فمَن قال:(ساحِران) فيقولُ: محمدٌ وعيسى ابن مريمَ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى القراءتين في ذلك عندَنا بالصوابِ قراءةُ مَن قرأه: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}
(4)
. بمعنى: كتابُ موسى وهو التوراةُ، وكتابُ عيسى وهو الإنجيلُ.
وإنما قلنا: ذلك أولى القراءتين بالصواب؛ لأن الكلامَ مِن قبلِه جرَى بذكرِ الكتابِ، وهو قوله: {قَالُوا
(5)
لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} والذي يليه مِن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 92، وفي مصنفه (9045) من طريق حميد به مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 252.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2985 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى عبد بن حميد.
(4)
القراءتان كلتاهما صواب.
(5)
في النسخ: "وقالوا".
بعدِه ذكرُ الكتابِ، وهو قولُه:{فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْه} . فالذى بينَهما بأن يكونَ مِن ذكرِه أولى وأشبَهُ بأن يكونَ مِن ذكرِ غيرِه.
وإذ كان ذلك هو الأوْلَى بالقراءةِ، فمعلومٌ أن معنى الكلامِ: قل يا محمدُ: أوَ لم يَكْفُرْ هؤلاء اليهودُ بما أُوتِى موسى مِن قبلُ، وقالوا لما أُوتِى موسى مِن الكتابِ، ولما أُوتِيتَه أنت: سحرانِ تعاونا.
وقولُه: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقالت اليهودُ: إنا بكلِّ كتابٍ في الأرضِ؛ مِن توراةٍ، وإنجيلٍ، وزَبورٍ، وفُرقانٍ، كافرون.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال بعضُ أهلُ التأويلِ، وخالَفه فيه مُخالفون.
ذكرُ مِن قال مثل الذي قلْنا في ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . قالوا: نَكْفُرُ أيضًا بما أُوتِى محمدٌ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . قال: يهودُ أيضًا، تَكْفُرُ بما أُوتِى محمد أيضًا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقالوا: إنا بكلِّ الكتابين؛ [التوراةِ و]
(2)
الفرقانِ والإنجيلِ، كافرون.
(1)
تفسير مجاهد ص 530، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2986، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 130 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدٌ، عن الضحاكِ:{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . قال: يقولُ: بالإنجيلِ والقرآنِ
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} : يعنون الإنجيلَ والفرقانَ
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ:{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . قال: هم أهلُ الكتابِ. يقولُ: بالكتابين؛ التوراةِ والفرقانِ
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} : الذي جاء به موسى، والذي جاء به محمدٌ، صلى الله عليهما وسلم
(3)
.
القول في تأويلِ قولِه تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ للقائلين للتوراةِ والإنجيلِ: هما {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} : ائْتُوا بكتابٍ مِن عندِ اللهِ هو أهدى منهما لطريقِ الحقِّ وسبيلِ الرَّشادِ، {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمِكم أن هذين الكتابين سِحْران، وأن الحقَّ في غيرِهما.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2986 من طريق جويير، عن الضحاك بلفظ: بالتوراة والقرآن.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2986 عن محمد بن سعد به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2986 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ، قال: فقال الله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} الآية.
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: فقال اللهُ: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} : مِن هذين الكتابين؛ الذي بُعث به موسى، والذي بعث به محمدٌ، صلى الله عليهما وسلم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فإن لم يُجِبْك هؤلاء القائلون للتوراة والإنجيل: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} . الزاعمون أن الحقَّ في غيرِهما، مِن اليهودِ، يا محمدُ - إلى أن يَأْتُوك بكتابٍ مِن عندِ اللهِ، هو أهدى منهما، فاعْلَمْ أنما يَتَّبِعون أهواءَهم، وأن الذي يَنْطِقون به ويقولون في الكتابين، قولٌ كَذِبٌ وباطلٌ لا حقيقةَ له.
ولعل قائلًا أن يقولَ: أو لم يَكُنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْلمُ أن ما قال القائلون من اليهودِ وغيرِهم في التوراةِ والإنجيلِ مِن الإفكِ والزُّورِ والمُسَمُّوهما سِحْرين - باطلٌ مِن القولِ، إلا بأن لا يُجِيبوه إلى إتيانِه
(2)
بكتابٍ هو أهْدَى منهما؟
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2986 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(2)
في م: "إتيانهم".
قيل: هذا كلامٌ خرَج مَخْرَجَ الخطابِ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ به المقولُ لهم:{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} مِن كفارِ قريشٍ. وذلك أنه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لمشركي قريشٍ أولم يَكْفُرْ هؤلاء الذين أمَروكم أن تقولوا: هلَّا أُوتِيَ محمدٌ مثلَ ما أُوتِى موسى. بالذي أوتِى موسى مِن قبلِ هذا القرآنِ، ويقولوا للذى أُنْزِل عليه وعلى عيسى:{سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ؟ فقولوا لهم: إن كنتم صادقين أن ما أُوتِى موسى وعيسى سحرٌ، فأْتوا بكتابٍ مِن عندِ اللهِ هو أهدى مِن كتابيهما. فإن هم لم يُجِيبوكم إلى ذلك فاعْلَموا أنهم كَذَبَةٌ، وأنهم إنما يَتَّبِعون في تكذيبِهم محمدًا، وما جاءهم به مِن عندِ اللهِ، أهواءَ أنفسِهم، ويَتْرُكون الحقَّ وهم يَعْلَمون.
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن أَضَلُّ عن طريقِ الرَّشادِ وسبيلِ السَّدادِ، ممن اتَّبَع هوى نفسِه بغيرِ بيانٍ مِن عندِ اللهِ، وعهدٍ مِن الله، ويَتْرُكُ عهدَ اللهِ الذي عهِده إلى خلقِه في وحيِه وتنزيلِه؟
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله لا يُوَفِّقُ لإصابةِ الحقِّ وسبيلِ الرشدِ القومَ الذين خالَفوا أمرَ اللهِ، وترَكوا طاعتَه، وكذَّبوا رسولَه، وبدَّلوا عهدَه، واتَّبعوا أهواءَ أنفسهم؛ إيثارًا منهم لطاعةِ الشيطانِ على طاعةِ ربِّهم.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد وصَّلْنا يا محمدُ لقومِك مِن قريشٍ ولليهودِ مِن بنى إسرائيلَ القولَ بأخبارِ الماضين، والنبأَ عما أحْلَلْنا بهم مِن بأسِنا، إذ كذَّبوا رسلَنا،
وعما نحن فاعلون بمَن اقْتَفَى آثَارَهم، واحْتَذَى في الكفرِ باللهِ وتكذيبِ رسلِه مِثالَهم؛ ليَتَذَكَّروا فيَعْتَبِرُوا ويَتَّعِظوا. وأصلُه مِن وَصْلِ الحبالِ بعضِها ببعضٍ، ومنه قولُ الشاعرِ
(1)
:
فقلْ لبنى مَرْوانَ ما بالُ ذمةٍ
…
وحبلٍ ضعيفٍ ما يَزالُ يُوَصَّلُ
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اخْتَلَفت ألفاظُهم ببيانهم عن تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: بيَّنا. وقال بعضُهم: معناه: فصَّلْنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} . قال: فصَّلْنا لهم القولَ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} . قال: وصَّل اللهُ لهم القولَ في هذا القرآنِ؛ يُخْبِرُهم كيف صنَع بمَن مضَى، وكيف هو صانعٌ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا محمدُ بنُ عيسى أبو جعفرٍ، عن سفيانَ بن عُيَيْنةَ:{وَصَّلْنَا} : بيَّنَّا
(4)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَقَدْ}
(1)
هو الأخطل، والبيت في ديوانه ص 271.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2987 من طريق وكيع به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2988 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 295.
وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ}. [قال: وصَّلْنا لهم]
(1)
الخبرَ؛ خبرَ الدنيا بخبرِ الآخرةِ، حتى كأنهم عايَنوا الآخرةَ، وشهِدوها في الدنيا، بما نُريهم مِن الآياتِ في الدنيا وأشباهها. وقرَأ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103]. وقال
(2)
: إنا سوف تُنْجِزُ
(3)
ما وعَدْناهم في الآخرةِ، كما أنْجَزْنا للأنبياءِ ما وعَدْناهم، نَقْضى بينَهم وبينَ قومِهمِ
(4)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في مَن عُنى بالهاءِ والميمِ مِن قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} ؛ فقال بعضُهم: غنى بهما قريشٌ
(5)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} . قال: قريشٍ
(6)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} . قال: لقريشٍ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
سقط من: م
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"وقرأ".
(3)
في م: "ننجزهم".
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 13/ 295 مقتصرا على أوله، وتقدم آخره في 12/ 573.
(5)
في م: "قريشا".
(6)
تفسير مجاهد ص 530، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2988، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
أبيه، عن ابنَ عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . قال: يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقال آخرون: عُنِى بهما
(2)
اليهودُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني بشرُ بنُ آدمَ، قال: ثنا عفانُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، قال: ثنا عمرُو بنُ دينارٍ، عن يَحْيَى بن جَعْدَةَ، عن رفاعةَ القُرَظيِّ، قال: نزَلَت هذه الآيةُ في عَشَرةٍ أنا أحدُهم: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
(3)
.
حدَّثنا ابن سِنانٍ، قال: ثنا حَيَّانُ، قال: ثنا حمادٌ، عن عمرٍو، عن يحيى بن جَعْدةَ، عن رِفاعةَ
(4)
القُرظى، قال: نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} حتى بلَغ: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} في عَشَرَةٍ أنا أحدُهم.
فكأن ابنَ عباسٍ أراد بقوله: يعنى محمدًا. لعلهم يتذكرون عهدَ اللهِ في محمدٍ إليهم، فيُقرون بنبوته ويصدِّقونه.
وقولُه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} . يعنى بذلك تعالى ذكرُه قومًا مِن أهل الكتابِ آمنوا برسولِه وصدَّقوه، فقال: الذين آتيناهم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2988 عن محمد بن سعد به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بها".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2987، والطبراني (4563)، وابن الأثير في الأسد 2/ 232 من طريق حماد به، وأخرجه أبو القاسم البغوي، والباوردى - كما في الإصابة 2/ 494 - من طريق عمرو بن دينار به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن قانع، وابن مردويه.
(4)
في النسخ: "عطية". وقد تقدم في الأثر الذي قبله على الصواب، وينظر الإصابة 2/ 494.
الكتابَ مِن قبلِ هذا القرآنِ، هم بهذا القرآنِ يؤمنون، فيُقِرّون أنه حقٌّ مِن عندِ اللهِ، ويكذِّبُ جهلةُ الأميين الذين لم يأتِهم مِن اللهِ كتابٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنَ عباسٍ قوله:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} . قال: يعنى مِن آمَن بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن أهل الكتابِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} : في مُسْلِمة أهلِ الكتابِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} إلى قوله: {الْجَاهِلِينَ} . قال: هم مُسلِمةُ أهل الكتابِ.
قال ابن جريجٍ: أخْبَرني عمرُو بنُ دينارٍ، أن يحيى بن جَعْدَة، أخبره عن عليٍّ بن رِفاعةَ، قال: خرج عشرةُ رَهْطٍ مِن أهلِ الكتابِ، منهم أبو رفاعةَ - يعنى أباه - إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فآمَنوا، فأُوذوا، فنزلتْ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} : قبلِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2988 عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى ابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 530، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2993 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
القرآنِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} . قال: كنا نُحدَّث أنها نزلت في أناسٍ
(2)
مِن أهلِ الكتابِ كانوا على شريعةٍ مِن الحقِّ يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعَث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فآمَنوا به وصدَّقوا به، فأعطاهم اللهُ أجرَهم مرتين؛ بصبرِهم على الكتابِ الأوّلِ، واتباعِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم وصبرِهم على ذلك، وذُكر لنا أن منهم سَلْمَانَ وعبدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ
(3)
.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قولِه: {مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} : ناسٌ مِن أهلِ الكتابِ آمنوا بالتوراةِ والإنجيلِ، ثم أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فآمَنوا به، فأتَاهم اللهُ أجرَهم مرتين بما صبروا؛ بإيمانهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعَثَ، وباتباعهم إياه حينَ بُعث، فذلك قولُهم
(4)
: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} .
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا يُتلى هذا القرآنُ على الذين آتيناهم الكتابِ مِن قبلِ نزولِ هذا القرآنِ، {قَالُوا آمَنَّا بِهِ}. يقولُ: يقولون: صدَّقنا به، {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
(1)
أخرجه البخارى في التاريخ الكبير 6/ 274 من طريق عمرو بن دينار به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"ناس".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2990 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 131 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في م: "قوله".
رَبِّنَا}. يعني: مِن عندِ ربِّنا نزَل، إنا كنا مِن قبل نزول هذا القرآنِ مسلمين. وذلك أنهم كانوا مؤمنين بما جاءتْ به الأنبياءُ قبلَ مجيءِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الكتبِ، وفى كتبِهم صفةُ محمدٍ ونعتُه، فكانوا به وبمبعثِه وبكتابِه مصدِّقين قبلَ نزول القرآنِ، فلذلك قالوا:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين وَصَفتُ صِفَتَهم، يُؤْتَوْن ثوابَ عملِهم مرتَيْن بما صَبَروا.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى "الصبرِ" الذي وعد اللهُ [عليه ما وعَد]
(1)
؛ فقال بعضُهم: وعَدَهم ما وعَد جلَّ ثناؤُه بصبرِهم على الكتابِ الأوَّلِ، واتِّباعِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وصبرِهم على ذلك. وذلك قولُ قتادةَ، وقد ذكرْناه قَبْلُ.
وقال آخرون: بل وعَدهم بصبرِهم بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَن يُبْعَثَ، وباتِّباعهم إياه حينَ بُعِث. وذلك قولُ الضَّحَّاكِ بن مُزاحمٍ، وقد ذكرْناه أيضًا قبلُ، ومِمَّن وافق قتادةَ على قولِه عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} : على دينِ عيسى، فلمَّا جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسْلَموا، فكان لهم أجرُهم مرتَيْن؛ بما صبروا أوَّلَ مرةٍ، ودخَلوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الإسلامِ
(2)
.
وقال قومٌ في ذلك بما حدَّثنا به ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} . قال: إن قومًا كانوا مشركين
(1)
في م: "ما وعد عليه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2992 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
أسْلَموا، فكان قومُهم يُؤذونَهم، فنَزَلَتْ {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}
(1)
.
وقولُه: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} . يقولُ: ويَدْفَعون بحسناتِ أفْعالِهم التي يَفْعَلونها سيئاتِهم، ومما رَزَقْناهم مِن الأموالِ يُنْفِقُون في طاعةِ اللهِ؛ إمَّا في جهادٍ في سبيلِ اللهِ، وإمَّا في صدقةٍ على محتاجٍ، أو في صلةِ رحمٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} : قال الله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} وأَحْسَنَ اللهُ عليهم الثَّناءَ كما تَسْمَعون فقال: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} .
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا سمِع هؤلاء القومُ الذين آتيناهم الكتابَ - {اللَّغْوَ} ، وهو الباطِلُ مِن القولِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} : لا يُحاورون
(2)
أهلَ الجهلِ والباطلِ في باطلِهم، أتاهم مِن أمِر اللهِ ما
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2992 من طريق منصور به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 133 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
في م، وتفسير ابن أبي حاتم:"يجارون"، والمثبت موافق لما في الدر المنثور، وينظر كلام المصنف في ص 282.
وَقَذَهم
(1)
عن ذلك
(2)
.
وقال آخرون: عَنى باللغوِ في هذا الموضعِ ما كان أهل الكتابِ ألْحَقوه في كتابِ اللهِ ممَّا ليس هو منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هذه لأهلِ الكتابِ، إذا سمِعوا اللغوَ الذي كتب القومُ بأيديِهم مع كتابِ اللهِ، وقالوا: هو مِن عنِد اللهِ. إذا سمِعه الذين أسْلموا، ومَرُّوا به يَتْلُونَه، أعْرَضوا عنه وكأنهم لم يَسْمَعوا ذلك قبل أن يُؤمنوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مسلمين على دينِ عيسى، ألا تَرَى أنهم يقولون:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}
(3)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . قال: نَزَلَتْ في قومٍ كانوا مشركين فأسْلَموا، فكان قومُهم يُؤْذُونَهم.
[حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ
(4)
، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ قوله:]
(5)
(1)
وقذهم: سكَّنَهم ومَنَعَهم مِن انتهاك ما لا يحل. ينظر النهاية 5/ 212.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2993 من طريق يزيد به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (170) عن سعيد به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 339 من طريق شيبان، عن قتادة، كلاهما في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} . وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 133 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2992 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(4)
في م: "جويرية"، وفي ت 2:"جريرة".
(5)
سقط من: ت 1.
[{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}. قال: كان ناسٌ مِن أهلِ الكتابِ أسْلَموا، فكان المشركون يُؤْذُونَهم]
(1)
، فكانوا يَصْفَحون عنهم؛ يقولون:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
(2)
.
وقولُه: {أَعْرَضُوا عَنْهُ} . يقولُ: لم يُصْغوا إليه ولم يَسْتَمِعوه، {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} . وهذا يدلُّ على أن اللغوَ الذي ذكَره اللهُ في هذا الموضعِ إنما هو ما قاله مجاهدٌ، مِن أنه سَماعُ القومِ ممّن
(3)
يُؤذيهم بالقول، ما يَكْرَهون منه في أنفُسِهم، وأنهم أجابوهم بالجميلِ مِن القولِ:{لَنَا أَعْمَالُنَا} قد رضينا بها لأنفسِنا، {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} قد رَضِيتم بها لأنفسِكم.
وقولُه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . يقولُ: أمَنَةٌ لكم منا أن نُسَابَّكم، أو تَسْمعوا منا ما لا تُحبون، {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}. يقولُ: لا نريدُ مُحاوَرَةَ أهلِ الجهلِ ومُسَابَّتَهم
(4)
.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ} يا محمدُ {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هدايتَه، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أَن يَهْدِيَهِ مِن خَلْقِه، بتوفيقِه للإيمانِ بالله وبرسوله. ولو قِيل: معناه: إنك لا تَهْدِى مَن أحببته؛ لقَرَابَتِه منك، ولكنَّ الله يهدى مَن يشاءُ - كان مَذْهَبًا، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: واللهُ أعلمُ مَن سَبَق له في علمِه أنه يَهْتَدى للرَّشادِ، ذلك الذي يَهْدِيه اللهُ
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2993 من طريق جرير به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"من".
(4)
في ص: "مساءتهم".
فيُسَدِّدُه ويُوَفِّقُه.
وذُكر أن هذه الآيةَ نَزَلتْ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أجْلِ امتناعِ أبي طالبٍ عمِّه مِن إجابته إذ دَعاه إلى الإيمانِ باللهِ، إلى ما دعاه إليه مِن ذلك.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ والحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدائيُّ، قالا: ثنا الوليدُ بنُ القاسمِ، عن يزيدَ بن كَيْسانَ، عن أبي حازم، عن أبي هُريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعمِّه عند الموتِ: "قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. أَشْهَدُ لك بها يومَ القِيامةٍ". قال: لولا أن تُعَيِّرَني قُريشٌ لأقْرَرْتُ عينَك. فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآيةَ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن يزيد بن كَيْسان، قال: ثني أبو حازمٍ الأشْجَعيُّ، عن أبي هُريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعمِّه: "قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ". ثم ذكَر مثلَه
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو أسامة، عن يزيدَ بن كيسانَ، سمِع أبا حازمٍ الأشْجَعيَّ يَذْكُرُ عن أبي هريرة، قال: لمَّا حَضَرْت وفاة أبي طالبٍ، أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا عَمَّاهُ، قلْ: لا إلهَ إلا الله". فذكَر مثلَه، إلا أنه قال: لولا أن تُعَيِّرنى قريشٌ؛ يقولون: ما حمَله عليه إلا جَزَعُ الموتِ
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (25/ 41)، وابن حبان (6270)، وابن منده في الإيمان (39)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 66/ 332، من طريق يزيد بن كيسان به.
(2)
أخرجه الترمذى (3188)، والبيهقى في الدلائل 2/ 344، من طريق ابن بشار به. وأخرجه أحمد 15/ 374 (9610)، ومسلم (42/ 25)، وابن منده (38)، والواحدى في أسباب الزول ص 255 من طريق يحيى بن سعيد به.
(3)
أخرجه البيهقى في الدلائل 2/ 344، 345 مِن طريق أبي أسامة به.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ عُبيدٍ، عن يزيدَ بن كيسانَ، عن أبي حازمٍ أبي هُريرةَ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فذكَر نحوَ حديثِ أبي كُريبٍ والصُّدائيِّ
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الرحمن بن وهبٍ، قال: ثنى عمى عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ، قال: ثني يونسُ، عن الزُّهْريِّ، قال: ثني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ، عن أبيه، قال: لمَّا حَضَرَتْ أبا طالبٍ الوفاةُ، جاءَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجَد عندَه أبا جهلِ بنَ هشامٍ وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بن المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ. كلمةً أشْهَدُ لك بها عندَ اللهِ". فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبى أُميةَ: يا أبا طالبٍ، أَتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلب؟ فلم يَزَلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُها عليه. ويُعيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كَلَّمهم: هو على ملِة عبدِ المطلبِ. وأبَى أن يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أما والله، لأسْتَغْفِرَنَّ لك ما لم أَنْهَ عنك". فأنْزَل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]. وأَنْزَل الله في أبي طالبٍ، فقال لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بن المسيّبِ، عن أبيه بنحوِه
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن عمرو، عن أبي سعيدِ بن رافعٍ، قال: قلتُ لابنِ عمرَ
(4)
: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ؛ نَزَلَتْ في أبي طالبٍ؟ قال:
(1)
أخرجه إسحاق بن راهويه (208)، وأحمد 15/ 431 (9689)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2994 من طريق محمد بن عبيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 133 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
(2)
تقدم تخريجه في 12/ 20، 21.
(3)
تقدم تخريجه في 12/ 20.
(4)
في ت 2: "عمرو". وينظر تهذيب الكمال 15/ 332، 338، 33/ 347.
نعم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . قال: قولُ محمدٍ لأبي طالبٍ: "قُلْ كلمةَ الإخلاصِ، أُجادِلُ عنك بها يومَ القيامةِ". قال محمدُ بنُ عمرٍو في حديثِه: قال يابنَ أخي، مِلَّةَ الأشياخِ. أو: سُنَّةَ الأشياخ. وقال الحارثُ في حديثِه: قال: يابنَ أخي، مِلَّةَ الأشياخِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. قال: قال محمدٌ صلى الله عليه وسلم لأبي طالبٍ: اشْهَدْ بكلمةِ الإخلاصِ، أُجادِلْ عنك بها يومَ القيامةِ". قال: أي بنَ أخى، ملةَ الأشياخِ. فأَنْزَل اللهُ:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . قال: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في أبي طالبٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} : ذُكِر لنا أنها نَزَلتُ في أبي طالبٍ. قال: ألاصَه
(3)
عندَ موتِه يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ. لكيما تَحِلَّ له بها الشفاعةُ، فأبَى عليه
(4)
.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 66/ 333 من طريق ابن عيينة به، وأخرجه النسائي في الكبرى (11384) مِن طريق عمرو به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 133، 134 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبى داود في القدر وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 530 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3994، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "الأصم". وألاصه: أداره عليها، ورواده عليها. النهاية 4/ 276.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2994 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن عطاءٍ، عن عامرٍ: لمَّا حضَر أبا طالبٍ الموتُ، قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا عَمَّاهُ، قُلْ: لا إله إلا اللهُ. أَشْهَدُ لك بها يومَ القيامةِ". فقال له: يابنَ أخى، إنه لولا أن يكونَ عليك عارٌ، لم أَبالِ أن أفْعَلَ. فقال له ذلك مرارًا، فلمَّا مات اشتدَّ ذلك على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما تَنْفَعُ قرابةُ أبي طالبٍ منك. فقال: "بلى والذي نَفْسي بيده، إنه الساعةَ لفي ضَحْضَاحٍ
(1)
مِن النارِ، عليه نَعْلان من نارٍ، تَغْلى منهما أُمُّ رأسِه، وما مِن أهلِ النارِ مِن إنسانٍ هو أَهْوَنُ عذابًا منه". وهو الذي أنْزَل الله فيه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
(2)
.
وقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . يقولُ: وهو أعلمُ بمَنْ قُضِى له الهدى.
كالذي حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . قال: بَمَنْ قَدَّر له الهُدَى والضَّلالَة
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ
(1)
الضحضاح في الأصل: ما رَقَّ من الماء على وجه الأرضِ ما يبلغ الكعبين. فاستعاره للنار. النهاية 3/ 75.
(2)
أخرجه هناد في الزهد (306) من طريق عطاء به نحوه.
(3)
تفسير مجاهد ص 530، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2995، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وقالت كفارُ قريشٍ: إن نَتَّبِعِ الحقَّ الذي جِئْتَنا به معك، ونَتَبَرَّأْ من الأندادِ والآلهةِ، يَتَخَطَّفْنا الناسُ مِن أرضنا، بإجماع جميعهم على خِلافِنا وحربِنا. يقولُ اللهُ لنبيِّه: فقُلْ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} ؟ يقولُ: أولم نُوَطِّئْ
(1)
لهم بلدًا حَرَّمنا على الناسِ سفكَ الدماءِ فيه، ومَنَعْناهم مِن أَن يَتَناولوا سُكَّانَه فيه بسوءٍ، وأمْنًا على أهلِه من أن يُصيبهم بها غارةٌ، أو قتلٌ، أو سباءٌ؟
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عبد اللهُ بن أبي مُلَيْكَةَ، عن ابن عباسٍ، أن الحارثَ بنَ نَوْفَلٍ، الذي قال:{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} . وزعموا أنهم قالوا: قد عَلِمْنا أنك رسولُ اللهِ ولكِنَّا نَخافُ أن نُتَخَطَّفَ مِن أرضِنا. {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} الآيةَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} . قال: هم أُناسٌ مِن قريشٍ قالوا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن نَتَّبِعْكَ يَتَخَطَّفْنا الناسُ. فقال اللهُ:
(1)
وطَّأه: هَيَّأه. تاج العروس (وط أ).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (11385) من طريق حجاج عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: قال عمرو بِن شعيب عن ابن عباس، ولم يسمعه منه، أن الحارث بن نوفل الذي قال
…
إلى قوله تعالى: {مِنْ أَرْضِنَا} ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى ابن المنذر، وذكره القرطبي في تفسيره 13/ 300 بنحوه.
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. قال: كان يُغير بعضُهم على بعضٍ
(2)
.
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} : قال اللهُ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: أولم يَكونوا آمِنِين في حَرَمِهِم؟ لا يُغْزَوْن فيه ولا يَخافون، يُجْبَى إليه ثمرات كلِّ شيءٍ
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} . قال: كان أهلُ الحرمِ آمِنين يَذْهبون حيثُ شاءُوا، وإذا خرَج أحدُهم فقال: إنى مِن أهلِ الحرمِ. لم يُعْرَضُ
(4)
له، وكان غيرُهم مِن الناسِ إذا خرَج أحدُهم قُتِل
(5)
.
(1)
أخرجه أبى حاتم في تفسيره 9/ 2995 عن محمد بن سعد به.
(2)
أخرجه أبى حاتم في تفسيره 9/ 2995 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2995 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م: "يتعرض".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 92 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2996 - عن معمر به، وزاد في آخره: أو سلب.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} . قال: آمَنَّاكم به. قال: هي مكةُ، وهم قُريشٌ
(1)
.
وقولُه: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ: يُجْمَعُ إليه. وهو مِن قولِهم: جَبَيْتُ الماءَ في الحوضِ. إذا جَمَعْتَه فيه. وإنما أُرِيدَ بذلك: يُحْمَلُ إليه ثمراتُ كلِّ بلدٍ.
كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن عطيةَ، عن شَرِيكٍ، عن عثمانَ بن أبى زُرْعَةَ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في:{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} . قال: ثمراتُ الأرضِ
(2)
.
وقولُه: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} . يقولُ: ورزقًا رَزَقْنَاهُم مِن لَدُنَّا. يعنى: مِن عِندِنا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ولكنَّ أكثرَ هؤلاء المشركين، القائِلِين لرسولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم:{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} . لا يَعْلَمون أنَّا نحن الذين مَكَّنَّا لهم حرمًا آمنًا، ورَزَقْناهم فيه، وجَعَلْنَا الثمراتِ مِن كلِّ أرضٍ تُجْبَى إليهم، فهم بجهلهم بمَن فعل ذلك بهم يَكْفُرون، لا يَشْكرون مَن أنْعَم عليهم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وكم أهْلَكُنا من قريةٍ أبْطَرَتْها معيشتُها، فبَطِرَتْ وأُشِرَتْ
(3)
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2995 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2996 من طريق شريك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
الأشر: المَرَح والبَطَر. وقيل: أشدُّ البطَر. وقيل: الأشر: الفرح بطَرًا وكُفرًا بالنِّعْمة. ينظر تاج العروس (أ ش ر).
وطَغَتْ، فَكَفَرَتْ بربِّها. وقيل:{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} فَجَعَل الفِعلَ للقريةِ، وهو في الأصلِ للمعيشةِ، كما يُقالُ: أَسْفَهَك رَأيك فسَفِهْتَه، وأَبْطَرَك مالُك فبَطِرْتَه.
و "المعيشةُ" منصوبةٌ على التفسير.
وقد بَيَّنَّا نظائرَ ذلك في غيرِ موضعٍ مِن كتابِنا هذا
(1)
.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} . قال: البَطَرُ الأشرُ
(2)
، أهلُ الغَفْلَةِ وأهلُ الباطل والرُّكُوبِ لمعاصى اللهِ. وقال: ذلك البَطَرُ في النِّعْمةِ
(3)
.
{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} . يقولُ: فتلك دُورُ القومِ الذين أهْلَكْناهم بكفرهم بربِّهم، ومنازِلُهم، {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا}. يقولُ: خَرِبَتْ مِن بعدِهم، فلم يُعْمَرُ منها إلا أقَلُّها، وأكثرُها خَرابٌ.
ولفظُ الكلامِ وإن كان خارجًا على أن مساكنَهم قد سُكِنَتْ قليلًا، فإن معناه: فتلك مساكنُهم لم تُسْكَنْ من بعدهم إلا قليلًا منها. كما يُقالُ: قَضَيتُ حقَّك إلَّا قليلًا منه.
وقولُه: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} . يقولُ: ولم يَكُنْ لِمَا خَرَّبْنَا مِن مساكنِهم منهم وارِثٌ، وعادتْ كما كانت قبلَ سُكْناهم فيها، لا مالكَ لها إلا اللهُ الذي له
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 579، 580.
(2)
في م: "أشر".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2996 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
ميراثُ السماواتِ والأرضِ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} يا محمدُ {مُهْلِكَ الْقُرَى} التي حَوالَيْ مكةَ في زمانِك وعصرِك، {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا}. يقولُ: حتى يَبْعَثَ في مكةَ رسولًا، وهى أُمُّ القُرى، يَتْلو عليهم آياتِ كتابِنا. والرسولُ: محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} : وأُمُّ القُرَى مكةُ، وبعَث اللهُ إليهم رسولًا؛ محمدًا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقولُه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . يقولُ: ولم نكنْ لِنهْلِكَ قريةً وهى باللهِ مؤمنةٌ، إنما نُهْلِكُها بِظُلْمِها أَنْفُسَها؛ بكفرِها باللهِ، وإنما أَهْلَكْنا أهلَ مكةَ بكفرِهم بربِّهم، وظُلْمِهم
(2)
أنفسَهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2997، من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 213 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م: "ظلم".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . قال: اللهُ لم يُهلك قريةً بإيمانٍ، ولكنَّه يُهْلِكِ القُرَى بظلمٍ، إِذا ظَلَم أهلُها، ولو كانت قريةٌ
(1)
آمَنَتْ؛ لم يَهْلِكُوا مع مَن هَلَك، ولكنَّهم كَذَّبوا وظَلَموا، فبذلك أُهْلِكوا
(2)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما أُعْطِيتُم أَيُّها الناسُ مِن شيءٍ مِن الأموالٍ والأولادِ، فإنما هو مَتَاعٌ تَتَمَتَّعون به في هذه الحياةِ الدنيا، وهو مِن زينتها التي يُتَزَيَّنُ به فيها، لا يُغْنى عنكم عندَ اللهُ شيئًا، ولا يَنْفَعُكم شيءٌ منه في مَعادِكم. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} لأهلِ طاعتِه ووَلايتِه {خَيْرٌ} مما أُوتِيتُمُوه أنتم في هذه الدنيا من متاعِها وزينتِها، {وَأَبْقَى}. يقولُ: وأبْقَى لأهلِه؛ لأنه دائمٌ لا نَفادَ له.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاقَ في قولِه: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
(1)
في مصدرى التخريج: "مكة".
(2)
في ت 1، ومصدرى التخريج:"هلكوا".
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 299 عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 134 إلى ابن مردويه.
خَيْرٌ وَأَبْقَى}. قال: خيرٌ ثوابًا، وأبقَى عِندَنا.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أفلا عُقُولَ لكم أيها القومُ تَتَدَبَّرون بها، فتَعْرِفون بها الخيرَ مِن الشَّرِّ، وتَخْتارون لأنفُسِكم خيرَ المَنْزِلَتَين على شَرِّهما، وتُؤْثِرون الدائمَ الذي لا نفادَ له مِن النعيمِ، على الفاني الذي لا بَقاءَ له.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} مِن خَلْقِنا على طاعتِه إيانا - الجنةَ فآمن بما وعدْناه وصَدَّق وأطاعَنا، فاسْتَحَقَّ بطاعته إيانا أن نُنْجِزَ له ما وعدناه، فهو لاقٍ ما وُعِد، وصائرٌ إليه، {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ} في الحياةِ الدنيا مَتَاعَها، فتَمَتَّع به، ونَسِيَ العملَ بما وعدْنَا أهلَ الطاعةِ، وترَك طَلَبَه، وآثَرَ لَذَّةً عاجِلةً على آجِلَةٍ، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إذا وَرَد على اللهِ {مِنَ الْمُحْضَرِينَ}. يَعْنى: مِن المُشْهَدِينَ عذابَ اللهِ وأليمَ عقابِه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ} . قال: هو المؤمنُ، سمِع كتابَ اللهِ فَصَدَّق به وآمَن بما وعَد اللهُ فيه، {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . و
(1)
هو هذا الكافرُ، ليس واللهِ كالمؤمنِ، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}. أي: في عذابِ اللهِ
(2)
.
(1)
ليس في: م.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 299، 2999 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 135 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال ابن عمرٍو في حديثِه: قولُه: {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال: أُحْضِرُوها. وقال الحارثُ في حديثِه: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} : أهلُ النارِ، أُحِضْروها
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال: أهلُ النارِ، أُحْضِروها.
واخْتلَف أهلُ التأويلِ في من نَزَلتْ فيه هذه الآيةُ؛ فقال بعضُهم: نَزَلَتْ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهلِ بنِ هشامٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النُّعْمانِ الحَكَمُ بنُ عبدِ اللهِ العِجْليُّ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن أبانِ بن تَغْلبَ، عن مجاهدٍ:{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال: نزلتْ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهلِ بنِ هشامٍ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ:{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ} . قال: النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
تفسير مجاهد ص 530، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2999، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 135 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 255 من طريق شعبة به بنحوه وسيأتي ص 295.
وقال آخرون: نزَلتْ فى حمزةَ وعلىٍّ رضي الله عنهما، وأبي جهلٍ لعَنهُ اللهُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا بدلُ بنُ المُحَبَّرِ التميميُّ
(1)
، قال: ثنا شعبةُ، عن أبانِ ابنِ تَغْلِبَ، عن مجاهدٍ:{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال: نزَلتْ في حمزةَ وعلىِّ بنِ أبي طالبٍ وأبي جهلٍ
(2)
.
قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبانِ بنِ تَغْلِبَ، عن مجاهدٍ، قال: نزَلتْ في حمزةَ وأبي جهلٍ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ يُنادى ربُّ العِزَّةِ الذين أشْرَكوا به الأنْدادَ والأوثْانَ فى الدنيا، فيقولُ لهم:{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم لي في الدنيا شُركاءُ؟
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} . يقولُ: قال الذين وجب عليهم غضبُ اللهِ ولعنتُه، وهم الشياطينُ الذين كانوا يُغْوُون بني آدمَ:{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} .
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"الثعلبي"، وفى م:"التغلبى". والمثبت من مصادر ترجمته. ينظر تهذيب الكمال 4/ 28.
(2)
أخرجه الواحدى فى أسباب النزول ص 255 من طريق بدل بن المحبر به
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} . قال: هم الشياطينُ
(1)
.
وقولُه: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} . يقولُ: تبرَّأْنا مِن وَلايتهم ونُصْرَتِهم إليك، {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}. يقولُ: لم يكونوا يَعْبُدوننا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)} .
يقولُ تعالى ذكره: وقيلَ للمشركين باللهِ الآلهةَ والأنْدادَ في الدنيا: ادْعُوا شركاءَكم الذين كنتم تَدْعون مِن دونِ اللهِ. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . يقولُ: فلم يُجيبوهم، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ}. يقولُ: وعَاينوا العذابَ، {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}. يقولُ: فَوَدُّوا حينَ رَأوُا العذابَ لو أنهم كانوا في الدنيا مُهْتَدِين للحقِّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)} .
يقولُ تعالى ذكره: ويومَ يُنادى اللهُ هؤلاء المشركين فيقولُ لهم: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} فيما أَرْسَلْناهم به إليكم، مِن دُعائِكم إلى توحيدِنا، والبراءةِ مِن
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 92 عن معمر به، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3000 من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3000 مطولا من طريق شيبان، عن قتادة النحوى بلفظ: هم الجن. وبهذا اللفظ ذكره السيوطى مطولا في الدر المنثور 5/ 135، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الأوثانِ والأصنامِ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} . يقولُ: فَخَفِيَتْ عليهم الأخبارُ. مِن قولهم: قد عَمِيَ عنى خبرُ القومِ. إذا خَفِيَ. وإنما عَنَى بذلك أنهم عَمِيَتْ عليهم الحُجَّةُ، فلم يَدْرُوا ما يَحْتَجُّون؛ لأن اللهَ تعالى ذكره قد كان أبْلَغ إليهم فى المَعْذِرَةِ، وتابع عليهم الحجَّةَ، فلم تَكُنْ لهم حُجَّةٌ يَحْتَجُّون بها، ولا خبرٌ يُخْبِرون به، مما يكون لهم به نجاةٌ ومَخْلَصٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} . قال: الحُجَجُ. يَعْنى الحُجَّة
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} . قال: الحججُ.
قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ في قولِه:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} . قال: بلا إلهَ إلا اللهُ، التوحيدِ.
وقولُه: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} . [قيلَ: فهم لا يَتَساءَلون]
(2)
بالأنْسابِ والقَرابَةِ.
(1)
تفسير مجاهدٍ ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3000، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 135 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: م، ت 1.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} . قال: لا يَتَساءَلون بالأنسابِ، ولا يَتَماتُّون
(1)
بالقراباتِ، إنهم كانوا في الدنيا إذا الْتَقَوْا تَساءَلوا وتَماتُّوا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} . قال: بالأنسابِ.
وقيلَ: معنى ذلك: فعَمِيَتْ عليهم الحُجَجُ يومَئِذٍ، فَسَكتوا، فهم لا يَتَساءَلون في حالِ سكوتهم.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)} .
يقولُ تعالى ذكره: فأما من تاب من المشركين، فأناب وراجع الحقَّ، وأخْلَص للهِ الألُوهَةَ، وأفْرَد له العبادةَ، فلم يُشرِكْ في عبادتِه شيئًا، {وَآمَنَ}. يقولُ: وصدَّق بنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. {وَعَمِلَ صَالِحًا} . يقولُ: وعمِل بما أَمَرَه اللهُ بعملِه في كتابِه، وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}. يقولُ: فهو مِن المُنْجِحِين المُدْرِكِين طَلِبتهم عندَ اللهِ، الخالدين في جِنانِه. و "عسى"
(1)
التَّماتُّ من المتّ، والمَتُّ: التَّوسُّل والتَّوَصُّل بِقَرابةٍ أو حُرمةٍ أو غير ذلك. ينظر تاج العروس (م ت ت).
(2)
تفسير مجاهدٍ ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3000. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 135 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر، وفى هذه المصادر إلى قوله: بالأنساب.
مِن اللهِ واجِبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} .
يقولُ تعالى ذكره: وربُّك يا محمدُ يَخْلُقُ ما يشاءُ أَن يَخْلُقَه، ويَخْتارُ لوَلايتِه الخِيَرَةَ مِن خلقِه، ومَنْ سَبَقَت له منه السعادةُ.
وإنما قال جلَّ ثناؤُه: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} والمعنى ما وَصَفْتُ؛ لأن المشركين كانوا -فيما ذُكِر عنهم- يَخْتارون أموالَهم فيَجْعَلونَها لآلهتِهم، فقال اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وربُّك يا محمدُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَن يَخْلُقَه، ويَختارُ للهدايةِ والإيمانِ والعملِ الصالحِ مِن خَلْقِه، ما هو في سابِقِ عِلمِه أنه خيرَتُهم، نظيرَ ما كان مِن هؤلاء المشركين لآلهتِهم خيارُ أموالِهم، فكذلك اختيارى لنفسي، واخْتِبائي لوَلايتي، واصْطِفائى لخِدْمَتى وطاعتي - خيارَ مَمْلَكتى وخَلْقى.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . قال: كانوا يَجْعَلون خير أموالهم لآلهتهم في الجاهليةِ
(1)
.
فإذا كان معنى ذلك كذلك، فلا شك أن {مَا} من قولِه:{وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} في موضعِ نصبٍ، بوقوعِ {وَيَخْتَارُ} عليها، وأنها بمعنى "الذي".
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3001، 3002 عن محمد بن سعد به.
فإن قال قائلٌ: فإن كان الأمرُ كما وَصَفْتَ؛ مِن أن {مَا} اسمٌ منصوبٌ بوقوعِ قولِه: {وَيَخْتَارُ} عليها، فأين خبرُ {كَانَ} ؟ فقد عَلِمتَ أن ذلك إذا كان كما قلتَ؛ أن في {كَانَ} ذكرًا مِن {مَا} ، ولا بُدَّ لـ {كَانَ} -إذا كان كذلك- مِن تَمَامٍ، وأينَ التمامُ؟
قيل: إن العربَ تَجْعلُ لحروفِ الصِّفاتِ إذا جاءتِ الأخبارُ بعدَها أحيانًا، أخبارًا، كفِعْلِها بالأسماءِ
(1)
إذا جاءَتْ بعدَها أخبارُها؛ ذكر الفَرَّاءُ أن القاسمَ بنَ معنٍ أنْشَدَه قولَ عنترةَ
(2)
:
أمِن سُمَيَّةَ دَمْعُ العَينِ تَذْرِيفُ
…
لو كان ذا مِنْكِ قَبْلَ اليوم مَعْروفُ
فَرَفَع "معروفًا" بحرفِ الصِّفَةِ
(3)
، وهو لا شكَّ خبرٌ لـ "ذا". وذكَر أن المُفَضَّلَ أَنْشَدَه ذلك:
*لو أنَّ ذا منكِ قبلَ اليومِ معروفٍ*
ومنه أيضًا قولُ عمر بن أبي ربيعة
(4)
:
قلتُ أَجِيبي عاشِقًا
…
بحُبِّكُمْ مُكَلَّفُ
(5)
فيها ثَلاثٌ كالدُّمَى
…
وكاعِبٌ ومُسْلِفُ
(6)
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"بالأشياء". والمثبت من م هو الصواب الموافق للسياق.
(2)
شرح ديوانه ص 91. وعنده:"سُهَيَّة" مكان "سمية"، و "أن ذا" مكان "كان ذا".
(3)
يعني بحرف الصفة هنا: "مِنْ" فى قوله في البيت: "مِنْكِ".
(4)
شرح ديوانه ص 461، 462. والبيت الثاني مذكور في اللسان (س ل ف). كرواية المصنف.
(5)
كَلِف بالشيء فهو كلِف ومُكلَّف: لَهِج به. وكلِف بها أشدَّ الكَلَف. أي: أحبَّها. ينظر اللسان (ك ل ف).
(6)
المسلف من النساء: النَّصَف. وقيل: هى التى بلغت خمسا وأربعين ونحوها، وهو وَصْف خُصَّ به الإناث. اللسان (س ل ف).
فـ "مُكلَّفٌ" من نعتِ "عاشِقٍ"، وقد رفَعه بحرفِ الصفةِ، وهو الباءُ، في أشْباهٍ لما ذَكَرْنا بكثيرٍ مِن الشواهد. فكذلك قولهُ:{وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . رُفِعَتِ {الْخِيَرَةُ} بالصَّفَةِ، وهى {لَهُمُ} ، وإن كانت خبرًا لـ {مَا} ، لمَّا جاءتْ بعد الصفة، ووَقَعَتِ الصفةُ موقعَ الخبرِ، فصار كقولِ القائلِ: كان عمرٌو أبوه قائم. لا شكَّ أن "قائمًا" لو كان مكانَ الأبِ، وكان الأبُ هو المتأخِّرَ بعدَه؛ كان منصوبًا. فكذلك وجهُ رَفع {الْخِيَرَةُ} ، وهو خبرٌ لـ {مَا} .
فإن قال قائلٌ: فهل يجوزُ أن تكونَ {مَا} في هذا الموضع جَحْدًا، ويكونَ معنى الكلام: ورَبُّك يخلُقُ ما يشاءُ أن يَخلُقَه، ويختارُ ما يشاءُ أن يختارَه. فيكونَ قولُه:{وَيَخْتَارُ} . نهايةَ الخبرِ عن الخلْقِ والاخْتيارِ، ثم يكونَ الكلامُ بعدَ ذلك مبتدأً، بمعنى: لم يكنْ لهم الخيرةُ. أى: لم يكنْ للخلقِ الخيرةُ، وإنما الخيرةُ للهِ وحدَه؟
قيل: هذا قولٌ لا يُخِيلُ
(1)
فسادُه على ذى حِجًا، من وجوهٍ، لو لم يكنْ بخلافِه لأهلِ التأويلِ قولٌ، فكيف والتأويلُ عمَّن ذكرْنا بخلافِه
(2)
.
فأَمَّا أحدُ وجوهِ فسادِه، فهو أن قولَه:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . لو كان كما ظَنَّه مَن ظَنَّه؛ مِن أن {مَا} بمعنى الجَحْدِ، على نحوِ التأويلِ الذي ذكرتُ، كان إنما جحَد تعالى ذكره أن تكونَ كان لهم الخيرةُ فيما مضَى قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، فأَمَّا فيما يَسْتَقْبِلُونَه فلهم الخيرةُ؛ لأن قولَ القائلِ: ما كان لك هذا. لا شكَّ إنما هو خبرٌ عن أنه لم يكنْ له ذلك فيما مضَى، وقد يجوزُ أن يكونَ له في ما يُسْتَقْبَلُ، وذلك
(1)
في م: "يخفى"، وفى ت 2:"يحل". وأخال الشيءُ: اشْتَبه. يقال: هذا الأمر لا يُخِيل على أحدٍ. أى لا يُشكل. اللسان (خ ى ل).
(2)
قال ابن كثير في تفسيره 6/ 261: وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نفى على أصح القولين، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . وينظر تفسير القرطبي 13/ 305، 306.
من الكلامِ لا شكَّ خُلْفٌ؛ لأن ما لم يكن للخَلْقِ مِن ذلك قَدِيمًا، فليس ذلك لهم أبدًا. وبعدُ، لو أُريد ذلك المعنى، لكان الكلامُ: فليس. وقيل: وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ ويَختارُ، ليس لهم الخيرةُ. ليكونَ نَفْيًا عن أن يكون ذلك لهم فيما قبلُ وفيما بعدُ.
والثاني: أن كتابَ اللهِ أَبْيَنُ البيانِ، وأصَحُّ
(1)
الكلامِ، ومُحالٌ أن يُوجَدَ فيه شيءٌ غيرُ مفهومِ المعنَى، وغيرُ جائزٍ فى الكلامِ أن يُقالَ ابتداءً: ما كان لِفُلانٍ الخِيَرةُ. ولمَّا يَتَقَدَّمْ قبل ذلك كلامٌ يَقْتَضِى ذلك. فكذلك قولُه: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ولم يتقدَّمْ قبلَه مِن اللهِ تعالى ذكره خبرٌ عن أحدٍ أنه ادَّعَى أنه كان له الخيرةُ، فيُقالُ له: ما كان لك الخيرةُ. وإنما جرَى قبلَه الخبرُ عمَّا هو صائِرٌ إليه أمرُ مَن تاب من شِركِه، وآمَن وعمِل صالحًا، وأتْبَع ذلك جلَّ ثناؤُه الخبرَ عن سببِ إيمانِ مَنْ آمَنْ وعمِل صالحًا منهم، وأن ذلك إنما هو لاختيارِه إياه للإيمانِ، وللسابِقِ
(2)
مِن علمِه فيه اهْتَدَى. ويَزِيدُ ما قلْنا ذلك إبانةً، قولُه:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} . فَأَخْبَرَ أَنه يَعْلَمُ مِن عِبادِهِ السَّرائِرَ والظواهِرَ، ويَصْطَفى لنفسه، ويَختارُ لطاعتِه مَنْ قد علم منه السَّرِيرَةَ الصالحةَ، والعَلانِيَةَ الرَّضِيَّةَ.
والثالثُ: أن معنى الخِيَرَةِ في هذا الموضعِ، إنما هو الخيرةُ، وهو الشيء الذى يُخْتارُ من البهائم والأنعام، والرجال والنساءِ. يُقالُ منه: أُعْطِيَ الخِيَرَةَ والخِيرَةَ. مِثْلُ الطِّيَرَةِ والطِّيْرَةِ [والطَّيْرةُ]
(3)
، وليس بالاختيار. وإذا كانت الخيرَةُ ما وَصَفْنا،
(1)
في م: "أوضح".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2:"السابق".
(3)
سقط من: م. والذى فى المعاجم "الطِّيَرَة والطِّيرة". وفيها أيضًا "الطَّيْر"وهو الاسم من "التطير". فالله أعلم. ينظر اللسان والتاج (ط ى ر).
فمعلومٌ أن من أجودِ الكلامِ أن يُقالَ: وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ، ويَختارُ ما يشاءُ، لم يكنْ لهم خَيْرُ بهيمةٍ، أو خيرُ طعامٍ، أو خيرُ رجلٍ أو امرأةٍ.
فإن قال: فهل يجوزُ أن تكونَ بمعنى المَصْدَرِ؟ قيل: لا. وذلك أنها إذا كانت مصدرًا، كان معنى الكلامِ: وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ، ويَختارُ كَوْنَ الخيرةِ لهم. وإذا كان ذلك معناه، وجَب ألا يكونَ الشِّرارُ لهم من البهائمِ والأنعامِ، وإذا لم يكنْ لهم شِرارُ ذلك، وجَب ألا يكونَ لها مالِكٌ، وذلك ما لا يَخْفَى خَطَؤُه؛ لأن لخيارِها ولشِرارِها أربابًا، يَمْلِكونها بتمليكِ اللهِ إياهم ذلك، وفى كون ذلك كذلك فسادُ تَوْجيهِ ذلك إلى مَعْنَى المصدرِ.
وقولُه: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقولُ تعالى ذكره: تَنْزِيهًا للَّهِ وتَبْرِئَةً له وعُلُوًّا عمَّا أضافَ إليه المشركون مِن الشِّرْكِ، وما تَخَرَّصُوه مِن الكذبِ والباطلِ عليه. وتأويلُ الكلامِ: سبحانَ اللهِ وتعالى عن شركِهم.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ
(1)
يُوجِّهُه إلى أنه بمعنى: وتعالى عن الذى يُشركون به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} .
يقولُ تعالى ذكره: وربُّك يا محمدُ يَعْلَمُ ما تُخْفى صدور خلقه. وهو مِن: أكْنَنْتُ الشيءَ فى صَدْرى، إذا أَضْمَرْتَه فيه. وكَنَنْتُ الشيءَ، إذا صُنْتَه. {وَمَا يُعْلِنُونَ}. يقولُ: وما يُبْدُونه بألسنتِهم وجوارحِهم.
وإنما يَعْنى بذلك أن اختيارَه مَنْ يَختارُ منهم للإيمانِ به، على عِلمٍ منه بسَرائرِ أُمورِهم وبَوَادِيها، وأنه يَختارُ للخيرِ أهلَه، فيُوَفِّقُهم له، ويُولِّى الشرَّ أهْلَه، ويُخَلِّيهم
(1)
هو أبو عبيدة فى مجاز القرآن 2/ 109، وفيه: عن الذين.
وإياه.
وقولُه: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . يقولُ تعالى ذكره: وربُّك يا محمدُ المعبودُ الذي لا تَصْلُحُ العبادةُ إلَّا له، ولا معبودَ تَجوزُ عبادتُه غيرُه، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} . يَعْنى فى الدنيا والآخرةِ، {وَلَهُ الْحُكْمُ}. يقولُ: وله القضاءُ بينَ خلقِه، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يقولُ: وإليه تُرَدُّونَ مِن بَعدِ مَمَاتِكم، فيَقْضى بينَكم بالحقِّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)} .
يقولُ تعالى ذكره: قلْ يا محمدُ لهؤلاء المشركين باللهِ: أَيُّها القومُ، أَرأَيْتُم إن جعَل اللهُ عليكم الليل دائمًا لا نهارَ إلى يومِ القيامةِ يَعْقُبُه! والعربُ تقولُ لكلِّ ما كان متصلًا لا يَنْقَطِعُ من رخاءٍ أو بلاءٍ أو نعمةٍ: هو سَرْمَدٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{سَرْمَدًا} : دائمًا لا يَنْقَطِعُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
(1)
تفسير مجاهد ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3003، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 136 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} . يقولُ: دائمًا
(1)
.
وقولُه: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} . يقولُ: مَن معبودٌ غيرُ المعبود الذى له عبادةُ كلِّ شيءٍ يَأْتيكم بضياءِ النهارِ، فتَسْتَضيئون به؟ {أَفَلَا تَسْمَعُونَ}! يقولُ: أفلا تُرْعُون ذلك سمعَكم، وتُفَكِّرون فيه فتتَّعِظون، وتَعْلَمون أن ربَّكم هو الذى يأتى بالليلِ ويَذْهَبُ بالنهارِ إذا شاء، وإذا شاء أتى بالنهارِ وذهَب بالليلِ، فيُنْعِمُ باختلافِهما كذلك عليكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لمشركي قومِك: {أَرَأَيْتُمْ} أيُّها القومُ {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا} : دائمًا لا ليلَ معه أبدًا {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} : مَن معبودٌ غيرُ المعبودِ الذي له عبادةُ كلِّ شيءٍ {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} فَتَسْتَقِرُّون وتَهْدَءُون فيه؟ {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟ يقولُ: أفلا تَرَوْن بأبصاركِم اختلافَ الليلِ والنهارِ عليكم، رحمةً من اللهِ لكم وحُجةً منه عليكم، فتَعْلموا بذلك أن العبادةَ لا تَصْلُحُ إلا لمن أنعَم عليكم بذلك دونَ غيرِه، ولمن له القدرةُ التي خالَف بها بينَ ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} .
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3003 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 135، 136 إلى ابن المنذر.
يقولُ تعالى ذكره: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} بكم أيُّها الناسُ {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، فخالف بينهما، فجعَل هذا الليلَ ظلامًا؛ {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} وتَهْدَءُوا وتَسْتَقِرُّوا لراحةِ أبدانِكم فيه من تعبِ التصرُّفِ الذى تَتَصَرَّفون نهارًا لمعايشِكم. وفى الهاء التي في قولِه:{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} وجهان؛ أحدُهما: أن تكونَ من ذكرِ الليل خاصةً، ويُضْمَرُ للنهار مع الابتغاءِ هاءٌ أخرى. والثاني: أن تكونَ من ذكرِ الليلِ والنهارِ، فيكونَ وجهُ توحيدِها وهى لهما
(1)
، وجهَ توحيدِ العربِ في قولِهم: إقبالُك وإدبارُك يُؤذيني؛ لأن الإقبالَ والإدبارَ فعلٌ، والفعلُ يُوحَّدُ كثيرُه وقليلُه: وجعَل هذا النهارَ ضياءً تُبْصِرون فيه، فتَتَصَرَّفون بأبصارِكم فيه لمعايشِكم، وابتغاءَ رزقِه الذى قسَمَه بينكم، بفضله الذي تفضَّل عليكم.
وقولُه: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . يقولُ تعالى ذكره: ولتَشكُروه على إنعامِه عليكم بذلك، فعل ذلك بكم لتُفْرِدوه بالشكرِ، وتُخلِصوا له الحمدَ؛ لأنه لم يَشْرَكْه في إنعامِه عليكم بذلك شريكٌ، فلذلك ينبغى ألا يَكونَ له شريكٌ في الحمدِ عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)} .
يَعْنى تعالى ذكره: ويومَ ينادى ربُّك يا محمدُ هؤلاء المشركين فيقولُ لهم: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أَيُّها القومُ في الدنيا أنهم شركائى؟
وقولُه: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} : وأحضَرنا من كلِّ جماعةٍ شهيدَها، وهو نبيُّها الذي يَشْهَدُ عليها بما أجابته أمتُه، فيما أتاهم به عن اللهِ مِن
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"لها".
الرسالةِ. وقيل: {وَنَزَعْنَا} . من قولهم: نَزَع فلانٌ بحجةِ كذا. بمعنى: أحضَرها وأخرجها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} : وشهيدُها نبيُّها، يَشْهَدُ عليها أنه قد بلَّغ رسَالاتِ ربِّه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} . قال: رسولًا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ بنحوه.
وقولُه: {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . يقولُ: فقلنا لأمةِ كلِّ نبيٍّ منهم، التي ردَّت نصيحتَه، وكذَّبت بما جاءها به من عند ربِّهم، إذا
(3)
شهِد نبيُّها عليها، بإبلاغِه إياها رسالة اللهِ:{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . يقولُ: فقال لهم: هاتوا حُجَّتكم على إشراكِكم باللهِ ما كنتم تُشْرِكون، مع إعذارِ اللهِ إليكم بالرسلِ وإقامتِه عليكم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3004 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 136 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3004، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 136 إلى الفريابي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "إذ".
الحججَ
(1)
.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . أى: بَيِّنتَكُم
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . قال: حُجَّتكم لما كنتم تعبدون وتقولون
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . قال: حُجَّتَكم بما كنتم تَعْبُدون.
وقولُه: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} . يقولُ: فعلموا حينئذٍ أن الحجةَ البالغةَ للَّهِ عليهم، وأن الحقَّ للهِ، والصدقَ خبرُه، فأيْقَنوا بعذابٍ من اللهِ لهم دائمٍ، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. يقولُ: واضْمَحَلَّ فذهَب الذي كانوا يُشْرِكون باللهِ في الدنيا، وما كانوا يَتَخَرَّصون ويكذبون على ربِّهم، فلم يَنْفَعْهم هنالك، بل ضرَّهم وأَصْلَاهم نارَ جهنمَ.
(1)
في م: "بالحجج".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3004 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 136 إلى عبد بن حميد.
(3)
تفسير مجاهد ص 531، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)} .
يقولُ تعالى ذكره: {إِنَّ قَارُونَ} . وهو قارونُ بنُ يصهرَ بنِ قاهثَ بن لاوِى ابنِ يعقوبَ، {كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}. يقولُ: كان مِن عشيرةِ موسى بنِ عمرانَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابنُ عمِّه لأبيه وأمِّه. وذلك أن قارونُ هو قارونُ بنُ يصهرَ بنِ قاهثَ، وموسى هو موسى بنُ عمرانَ بنِ قاهثَ، كذا نسَبه ابنُ جريجٍ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ قوله:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} . قال: ابنُ عمِّه، ابنُ أخي أبيه. قال
(1)
: قارونُ ابنُ يصفر -هكذا قال القاسمُ، وإنما هو يصهرُ- بنِ قاهثَ، وموسى ابنُ عرمرَ
(2)
بنِ قاهثَ، وعرمرُ
(2)
بالعربيةِ عمرانُ
(3)
.
وأما ابنِ إسحاقَ فإن ابنَ حُميدٍ حدَّثنا، قال: ثنا سلمةُ، عنه، أن يصهرَ بنَ قاهثَ تزوَّج سميتَ
(4)
بنتَ بتاويتَ
(5)
بنِ بركنا
(6)
بنِ يقسانَ
(7)
بن إبراهيمَ، فولَدت له عمرانَ بنَ يصهرَ، وقارونَ بنَ يصهرَ، فنكَح عمرانُ يحيبَ
(8)
بنتَ شمويلَ بنِ
(1)
فى م: "فإن". والمثبت من بقية النسخ موافق لنسخ التاريخ، وإن غيرها محقق التاريخ.
(2)
فى م: "عومر".
(3)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 443، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى ابن المنذر، وزاد المصنف فى التاريخ: هكذا قال القاسم، وإنما هو عمرم.
(4)
فى تاريخ المصنف: "شميت"، والمثبت موافق لإحدى نسخ التاريخ.
(5)
في تاريخ المصنف: "تباويت".
(6)
في تاريخ المصنف: "بركيا".
(7)
في ص، م:"بقشان"، وفي ت 2:"نفسان".
(8)
فى م: "بخنت"، وبدون نقط فى ص، ت 1، ت 2.
بركنا بنِ يقسانَ بنِ إبراهيمَ، فولَدت له هارونَ بن عمرانَ، وموسى بنَ عمرانَ، صفيَّ اللهِ ونبيَّه
(1)
.
فموسى على ما ذكَر ابنِ إسحاقَ، ابنُ أخى قارونَ، وقارونُ هو عمُّه، أخو أبيه لأبيه، ولأمِّه، وأكثرُ أهلِ العلمِ فى ذلك على ما قاله ابنُ جُريجٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابر بن نوحٍ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن إبراهيمَ في قولِه:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} . قال: كان ابنَ عمِّ موسي
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سماكِ بنِ حربٍ، [عن إبراهيمَ، قال:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} : كان قارونُ ابنَ عمِّ موسى
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ]
(4)
، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} : كنا نُحدَّثُ أنه كان ابنَ عمِّه أخى أبيه، وكان يُسمَّى المنوَّر؛ من حُسنِ صورتِه
(5)
[في التوراةِ]
(6)
، ولكنَّ عدوَّ اللهِ نافَق كما نافق السامريُّ، فأهلكه
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 385، 443.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 443.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 443.
(4)
سقط من النسخ. والمثبت من تاريخ المصنف 1/ 443، 444. وينظر تهذيب الكمال 10/ 348، 11/ 5، 12/ 115.
(5)
فى م، ت 1:"صوته".
(6)
في م: "بالتوراة".
البَغْىُ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن سماكٍ، عن إبراهيمَ:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} . قال: كان ابنَ عمِّه فبغَى عليه
(2)
.
قال: ثنا القطانُ، عن سفيانَ، عن سماكٍ، عن إبراهيمَ، قال: كان قارونُ ابنَ عمِّ موسى
(2)
.
قال: ثنا أبو معاويةَ، عن ابن أبي خالدٍ، عن إبراهيمَ:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} . قال: كان ابنَ عمِّه
(2)
.
حدَّثني بشرُ بنُ هلالٍ الصَّوافُ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ الضُّبَعِيُّ، عن مالكِ ابنِ دينارٍ، قال: بلَغنى أن موسى بنَ عمرانَ كان ابنَ عمِّ قارونَ
(2)
.
وقولُه: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} . يقولُ: فتجاوَز حدَّه في التكبُّرِ والتَّجَبُّرِ عليهم.
وكان بعضُهم يقولُ: كان بَغْيُه عليهم زيادةَ شبرٍ أخَذها في طولِ ثيابِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىُّ بنُ سعيدٍ الكندىُّ وأبو السائبِ وابنُ وكيعٍ، قالوا: ثنا حفصُ بنُ غياثٍ، عن ليثٍ، عن شهرِ بنِ حوشبٍ:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} . قال: زاد عليهم في الثيابِ شبرًا
(3)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 444، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3005 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 444.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 445، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3006 من طريق حفص به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
وقال آخرون: كان بغيُه عليهم بكثرةِ مالِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: إنما بغَى عليهم بكثرةِ مالِه.
وقولُه: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} . يقولُ تعالى ذكره: وآتينا قارونَ من كنوز الأموالِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} . وهى جمعُ مِفْتَحٍ، وهو الذى يُفْتَحُ به الأبوابُ. وقال بعضُهم: عَنَى بالمفاتحِ في هذا الموضعِ الخزائنَ - لَتُثْقِلُ العُصْبةَ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال [ما قلْنا في معنى المفاتِحِ]
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابر بنُ نوحٍ، قال: أخبَرنا الأعمشُ، عن خَيْثَمَةَ، قال: كانت مفاتيحُ قارونَ تُحمَلُ على ستين بغلًا، كلُّ مفتاحٍ منها لبابِ
(2)
كنزٍ معلومٍ، مثلُ الإصبَعِ، من جلودٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن الأعمشِ، عن خيثمة، قال: كانت مفاتح كنوزِ قارونَ من جلودٍ، كلُّ مفتاحٍ مثلُ الإصبَعِ، كلُّ مفتاحٍ على خزانةٍ على حدةٍ،
(1)
في ت 2: "ذلك".
(2)
فى م: "باب".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 445.
فإذا ركِب حُمِلت المفاتيحُ على ستِّين بغلًا، أغرُّ مُحجَّلٌ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن خيثمة في قولِه:{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} . قال: نجِدُ مكتوبًا في الإنجيلِ: مفاتحُ قارونَ وِقْرُ ستِّين بغلًا غُرًّا مُحَجَّلةً، ما يزيدُ كلُّ مِفتاحٍ منها على إصبَعٍ، لكلِّ مفتاحٍ منها كَنزٌ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عيينة، عن حميدٍ، عن مجاهدٍ، قال: كانت المفاتحُ من جلودِ الإبلِ
(3)
.
حدَّثنا القاسم، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: مَفَاتِحُ من جلودٍ كمفاتحِ العيدانِ.
وقال قومٌ: عُنى بالمفاتحِ فى هذا الموضعِ خزائنُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ سالمٍ، عن أبى
(1)
كذا في النسخ وتاريخ المصنف، من صفة البغل لكن على القطع، وعند ابن أبي حاتم والسيوطى:"محجلًا". صفة على الإتباع.
والأثر أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 445. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3007 من طريق وكيع به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 444، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 93، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3007 من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136، 137 إلى عبد بن حميد.
صالحٍ فى قولِه: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: كانت خزائنُه تُحمَلُ على أربعين بَغْلًا
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبي، عن أبي حجيرٍ، عن الضحاكِ:{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} . قال: أوعيتَه
(2)
.
وبنحوِ الذي قلْنا فى معنى قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا أبو رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ فى قوله:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: لَتُثْقِلُ بالعصبة.
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . يقولُ: تُثقِلُ
(3)
.
وأما "العصبةُ"، فإنها الجماعةُ، واختلَف أهلُ التأويلِ في مبلغِ عددِها الذى أُريد فى هذا الموضعِ -فأما مبلغُ عددِ "العصبة" في كلامِ العربِ فقد ذكَرْناه فيما مضى باختلافِ المختلفين فيه، والروايةَ فى ذلك، والشواهدَ على الصحيحِ من قولِهم في ذلك، بما أغنَى عن إعادته في هذا الموضعِ
(4)
- فقال بعضُهم: كانت مفاتحُه تَنُوءُ بعصبةٍ؛ مبلغُ عددها أربعون رجلًا.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 444، 445، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3008 من طريق هشيم به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3007 من طريق وكيع به.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3008 من طريق أبي صالح به، وأخرجه الطستى -كما في الدر المنثور 5/ 137 - ومن طريقه السيوطى فى الاتقان 2/ 101 من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن ابن عباس. وتقدم إسناده في الاتقان في 2/ 68.
(4)
ينظر ما تقدم في 13/ 18، 29.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن إسماعيلَ بن سالمٍ، عن أبي صالحٍ قولَه:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: أربعون رجلًا
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: ذكِر لنا أن العصبةَ ما بين العشرة إلى الأربعين
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكِ يقولُ في قولِه: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} : يَزْعُمون أن العصبةَ أربعون رجلًا، يَنْقُلون مفاتحَه من كثرةِ عددِها.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قوله:{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} . قال: أربعونَ رجلًا
(3)
.
وقال آخرون: ستُّون. وقال: كانت مفاتحه تُحْمَلُ على ستِّين بغلًا.
حدَّثنا بذلك
(4)
ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن الأعمشِ، عن خيثمةَ
(5)
.
وقال آخرون: كانت تُحْمَلُ على ما بينَ ثلاثةٍ إلى عشرةٍ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3008 من طريق إسماعيل به، وفيه:"سبعون رجلًا". وكذا في الدر المنثور 5/ 137. وفى تفسير القرطبي 13/ 313.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 137 إلى عبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 137 إلى المصنف.
(4)
فى م، ت 1:"كذلك".
(5)
تقدم تخريجه في ص 313.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: العُصْبةُ ثلاثةٌ.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا أبو رَوْقٍ، عن الضَّحاكِ، عن ابنِ عباسٍ:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: العصبةُ ما بينَ [الثلاثةِ إلى العَشرةِ]
(1)
.
وقال آخرون: كانت تُحْمَلُ ما بينَ العشرةِ إلى خمسةَ عشرَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: العصبةُ ما بينَ العشرةِ إلى خمسةَ عشرَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . قال: العصبةُ خمسةَ عشرَ رجلًا
(3)
.
وقولُه: {أُولِي الْقُوَّةِ} . يعنى: أولى الشدةِ.
وقال مجاهدٌ في ذلك ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال:
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"العشرة إلى خمسة عشر".
(2)
تفسير مجاهد ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3008، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 93 عن ابن جريج به.
ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أُولِي الْقُوَّةِ} . قال: خمسةَ عشرَ
(1)
.
فإن قال قائلٌ: وكيفَ قيل: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} وكيفَ تَنُوءُ المفاتحُ بالعصبة، وإنما العصبةُ هي التي تَنُوءُ بها؟ قيل: اختلَف في ذلك أهلُ العلمِ بكلامِ العربِ؛ فقال بعضُ أهلِ البصرةِ
(2)
: مجازُ ذلك: ما إن العصبةَ ذوى القوةِ لتَنُوءُ بمفاتحِ نِعَمِه. قال: ويقالُ في الكلامِ: إنها لتنوءُ بها عجيزتُها. وإنما هي: تَنُوءُ بعجيزتِها. كما يَنوءُ البعيرُ بحِمْلِه. قال: والعربُ قد تَفْعَلُ مثلَ هذا، قال الشاعرُ:
فَدَيْتُ بنفسِه
(3)
نفسي ومالي
…
وما آلُوكَ إلَّا ما أُطِيقُ
والمعنى: فديتُ بنفسى وبمالى نفسَه. وقال آخرُ
(4)
:
وتَرْكَبُ خَيْلًا لا هَوَادَةَ بينَها
…
وتَشْقَى الرِّماحُ بالضياطرةِ الحُمْرِ
وإنما تَشْقى الضياطرةُ بالرماحِ. قال: والخيلُ ههنا الرجالُ.
وقال آخرُ منهم: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . [يريدُ: الذى إنَّ مفاتحَه]
(5)
. قال: وهذا موضعٌ لا يكادُ يُبتَدَأُ فيه "إن"، وقد قال:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. وقولُه: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إنما العصبةُ تَنوءُ بها، وفى الشعرِ
(6)
:
(1)
تفسير مجاهد ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3009، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
هو أبو عبيدة فى مجاز القرآن 2/ 110.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"به".
(4)
تقدم في 16/ 274.
(5)
سقط من: م، ت 1.
(6)
في مسائل نافع بن الأزرق ص 153 استشهد ابن عباس ببيت لامرئ القيس:
تمشى فتنقلها عجيزتها
…
مشى الضعيف ينوء بالوسق
وينظر تخريجه فيه.
*تَنوءُ بها فتُثْقِلُها عَجِيزتُها*
وليست العجيزةُ تنوءُ بها، ولكنها هى تنَوءُ بالعجيزةِ، وقال الأعشى
(1)
:
ما كنتَ فى الحربِ العَوَانِ مُغَمَّرًا
…
إذ شبَّ حَرُّ وقودِها أجْذالَها
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ من الكوفيين يُنْكِرُ هذا الذي قاله هذا القائلُ، وابتداءَ "إن" بعدَ "ما"، ويقولُ: ذلك جائزٌ مع "ما" و "من"، وهو مع "ما" و "مَن" أجودُ منه
(2)
مع "الذي"؛ لأن "الذى" لا يَعْمَلُ في صِلتِه ولا تَعْمَلُ صِلتُه فيه، فلذلك جاز وصارت الجملةُ عائدَ "ما"، إذ كانت لا تَعْمَلُ فى "ما" ولا تَعْمَلُ "ما" فيها. قال: وحسُن مع "ما" و "مَن"؛ لأنهما يكونان بتأويلِ النكرةِ إن شئت، والمعرفةِ إن شئت، فتقولُ: ضرَبتُ رجلًا ليقومَنَّ، وضرَبتُ رجلًا إنه لمحسنٌ. فتكونُ "مَن" و "ما" بتأويلِ "هذا"، ومع "الذى" أقبحُ؛ لأنه لا يكونُ بتأويلِ النكرةِ.
وقال آخرُ منهم فى قولِه
(3)
: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . نَوْءُها بالعصبةِ أن تُثْقِلَهم. وقال: المعنى: إنَّ مفاتحَه لَتُنِئُ العصبةَ، تُمِيلُهن من ثِقْلِها. فإذا أدخَلْتَ الباءَ قلتَ: تَنوءُ بهم. كما قال: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]. قال: والمعنى: ائتُونى بقطرٍ أُفْرِغْ عليه. فإذا حذَفتَ الباءَ زِدت على الفعل ألفًا في أولِه، ومثلُه:{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم: 23]. معناه: فجاء بها المخاضُ. وقال: قد قال رجلٌ من أهل العربيةِ: ما إن العصبةَ تَنُوءُ بمفاتحِه. فحوَّل الفعلَ إلى المفاتحِ، كما قال الشاعرُ
(4)
:
إن سِراجًا لكريمٌ مَفخَرُه
…
تحلَى به العينُ إذا ما تَجْهَرُه
(1)
ديوانه ص 31.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(3)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 310.
(4)
تقدم في 3/ 48.
وهو الذي يَحلَى بالعينِ. قال: فإن كان سمِع أثرًا بهذا فهو وجهٌ، وإلا فإنَّ الرجلَ جهِل المعنى. قال: وأنشَدني بعضُ العربِ:
حتى إذا ما التَأَمَت مواصِلُه
(1)
…
وناءَ في
(2)
شِقِّ الشمالِ كاهلُه
يعنى الراميَ لما أخَذ القوسَ ونزَع مالَ عليها. قال: ونُرى أن قولَ العربِ: ما ساءك وناءك. من ذلك، ومعناه: ما ساءك وأناءك
(3)
. إلا أنه أَلقى الألفَ؛ لأنه مُتْبَعٌ لـ "ساءَك"، كما قالت العربُ: أكلْتُ طعامًا فهنَأَنى ومرَأَني. ومعناه إذا أُفرِدَت: وأَمْرَأَنى. فحُذِفت منه الألفُ لمّا أُتبِع ما ليس فيه ألِفٌ.
وهذا القولُ الآخرُ في تأويلِ قولِه: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} . أولى بالصوابِ من الأقوالِ الأُخرِ؛ لمعنيين؛ أحدُهما، أنه تأويلٌ موافِقٌ لظاهرِ التنزيلِ. والثاني، أن الآثارَ التي ذكَرنا عن أهلِ التأويلِ بنحوِ هذا المعنى جاءت، وأنَّ قولَ مَن قال: معنى ذلك: ما إن العصبةَ لتَنوءُ بمفاتحِه. إنما هو توجيهٌ منهم إلى أن معناه: ما إن العصبةَ لتَنْهَضُ بمفاتحِه. وإذا وجِّه إلى ذلك لم يكنْ فيه من الدلالةِ على أنه أُريدَ به الخبرُ عن كثرةِ كنوزِه على نحوِ ما فيه إذا وجِّه إلى أن معناه: إن مفاتحَه تُثْقِلُ العصبةَ وتُمِيلُها؛ لأنه قد تَنْهَضُ العصبةُ بالقليلِ من المفاتحِ وبالكثيرِ، وإنما قصد جلَّ ثناؤُه الخبرَ
(4)
عن كثرةِ ذلك، وإذا أُريدَ به الخبرُ عن كثرتِه، كان لاشكَّ أن الذي قالَه مَن ذكَرنا قوله من أن معناه: لتنوءُ العصبةُ بمفاتحِه. قولٌ لا معنى له، هذا مع خلافِه تأويلَ السلفِ فى ذلك.
(1)
فى ص، ت 1، ت 2:"مفاصله".
(2)
فى ص، ت 1، ت 2:"عن".
(3)
بعده في م: "من ذلك".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"بالخبر".
وقولُه: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . يقولُ: إِذ قال قومُه: لا تَبْغِ ولا تَبْطَرْ فَرَحًا، إن اللهَ لا يُحِبُّ مِن خَلْقِهِ الأَشِرِين البَطِرِين.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . يقولُ: المرحِين
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: المتبذِّخين الأَشِرِين البَطِرِين الذين لا يَشْكُرون اللهَ على ما أعطاهم.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن جابرٍ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ فى هذه الآيةِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: الأشِرِين البَطرِين البَذِخين
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا العوَّامُ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: يعنى به البَغْيَ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3010 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 137 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا فى الهم والحزن (157) من طريق شعبة به، بلفظ: الأشرين.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3009 من طريق العوام به.
نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: المُتبذِّخين الأَشِرِين الذين لا يَشْكُرون اللهَ فيما أعطاهم.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: المتبذِّخين
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ المُخَرِّمِيُّ، قال: ثنى شَبَابةُ، قال: ثنى ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: الأَشِرِين البَطِرِين.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} أى: لا تَمْرَحْ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي: إن اللهَ لا يُحِبُّ المَرِحين
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: الأشِرِين البَطِرِين الذين لا يَشْكُرون اللهَ فيما أَعطاهم.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا العوَّامُ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قال: هو فَرَحُ البَغْيِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا
(1)
تفسير مجاهد ص 531، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3009، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3010 معلقًا.
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)}.
يقولُ تعالى ذكره مخبرًا عن قيلِ قومِ قارونَ له: لا تَبْغِ يا قارونُ على قومِك بكثرةِ مالِك، والتَمِسْ فيما آتاك اللهُ من الأموالِ خيراتِ الآخرةِ، بالعملِ فيها بطاعةِ اللهِ في الدنيا.
وقولُه: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . يقولُ: ولا تَتْرُكْ نصيبَك وحظَّك من الدنيا، أن تَأْخُذَ فيها بنصيبِك من الآخرةِ، فتعمَلَ فيه بما يُنَجِّيك غدًا من عقابِ اللهِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . يقولُ: لا تَتْرُكْ أن تَعْمَلَ للهِ فى الدنيا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: أن تَعْمَلَ فيها لآخرتِك
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا قُرَّةُ بنُ خالدٍ، عن عونِ بنِ عبدِ اللهِ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: إن قومًا يَضَعونها على غيرِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3010 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 137 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3010 من طريق سفيان عن الأعمش عن رجل عن ابن عباس، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي.
موضِعِها، {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}: تَعْمَلُ فيها بطاعةِ اللهِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن معمرٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: العملَ بطاعتِه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ، قال: تَعْمَلُ في دنياك لآخرتِك.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: العملَ فيها بطاعةِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن عيسى الجُرَشِيِّ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: أن تَعْمَلَ في دنياك لآخرتِك.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن مجاهدٍ، قال: العملُ بطاعةِ اللهِ نصيبُه من الدنيا الذى يُثابُ عليه فى الآخرةِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 93 عن معمر به.
(2)
تفسير مجاهد ص 532، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3010.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}. قال: لا تَنْسَ أن تُقَدِّمَ مِن دنياك لآخرتِك، فإنما تَجِدُ فى آخرتِك ما قدَّمتَ من
(1)
الدنيا فيما رزَقك اللهُ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تَترُكْ أن تَطْلُبَ فيها حظَّك من الرزقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال الحسنُ: ما أحلَّ اللهُ لك منها، فإن لك فيه غِنًى وكفايةً
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ حميدٍ المَعْمَرِيُّ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: طَلَبَ الحلالِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا حفصٌ، عن أشعثَ، عن الحسنِ:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . قال: قدِّمِ الفضلَ، وأمسِكْ ما يُبلِّغُك
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، قال: الحلال فيها.
وقولُه: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . يقولُ: وأَحسِنْ فى الدنيا إنفاقَ مالِك الذى آتاكه اللهُ، فى وجوهِه وسُبُلِه، كما أحسَن اللهُ إليك، فوسَّع
(1)
في م: "فى".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3011 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3011 من طريق يزيد به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 93 عن معمر به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 530، وابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3011 من طريق حفص به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي وابن المنذر.
عليك منه، وبسَط لك فيها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . قال: أَحْسِنْ فيما رزَقك اللهُ
(1)
.
{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: ولا تَلْتَمِسْ ما حرَّم اللهُ عليك من البَغْيِ على قومِك. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . يقولُ: إن اللهَ لا يُحِبُّ بُغاةَ البَغْيِ والمعاصي.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} .
يقولُ تعالى ذكره: قال قارونُ لقومِه الذين وعَظوه: إنما أُوتِيتُ هذه الكنوزَ على فضلِ علمٍ عندى، علِمه اللهُ منى، فرَضِى بذلك عنِّى، وفضَّلني بهذا المالِ عليكم؛ لعلمِه بفضلى عليكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3012 من طريق أصبغ عن ابن زيد، وفيه: زادك. بدلا من: رزقك.
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . قال: على خيرٍ
(1)
عندى
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . قال: لولا رضا اللهِ عنى ومعرفتُه بفضلى ما أعطانى هذا. وقرَأ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} الآية
(3)
.
وقد قيل
(4)
: إنَّ معنى قولِه: {عِنْدِي} بمعنى: أرى. كأنه قال: إنما أُعطيتُ
(5)
لفضلِ علمى، فيما أرَى.
وقولُه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} قارونُ حين زعَم أنه أُوتِى الكُنوزَ لفضلِ علمٍ عندَه، علِمتُه أنا منه، فاستحَقَّ بذلك أن يُؤْتَى ما أُوتى من الكُنوزِ - {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ} من الأمم {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ} بَطشًا، {وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للأموالِ، ولو كان اللهُ يُؤْتِى الأموالَ مَن يُؤْتِيه لفضلٍ فيه وخيرٍ عندَه ولرضاه عنه، لم يَكُنْ يُهلِكُ مَن أهلَك من أربابِ الأموالِ الذين كانوا أكثرَ منه مالًا؛ لأنَّ مَن كان اللهُ عنه راضيًا، فمُحالٌ أن يُهلِكَه اللهُ وهو عنه راضٍ، وإنما يُهْلِكُ مَن كان عليه ساخطًا.
وقولُه: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} . قيل: إن معنى ذلك أنهم يَدْخُلون النارَ بغير حسابٍ.
(1)
م: "خبر".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3012 من طريق سعيد، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 137 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3012 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(4)
هو قول الفراء في معاني القرآن 2/ 311.
(5)
في م: "أوتيته".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا سفيانُ، عن معمرٍ
(1)
، عن قتَادةَ:{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} . قال: يَدْخُلون النارَ بغيرِ حسابٍ
(2)
.
وقيل: إن معنى ذلك أن الملائكةَ لا تَسْأَلُ عنهم؛ لأنهم يَعْرِفونهم بسيماهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} : كقولِه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]. زُرقًا سودَ الوجوهِ، والملائكةُ لا تَسْأَلُ عنهم، قد عرَفتهم
(3)
.
وقيل: إن معنى ذلك: ولا يُسْألُ عن ذنوبِ هؤلاء الذين أهلَكهم اللهُ من الأممِ الماضيةِ، المجرِمون: فيمَ أُهْلِكوا؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا موسى بنُ عبيدةَ، عن محمدِ بنِ كعبٍ:{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} . قال: عن ذنوبِ الذين مضَوا، فيمَ أُهلِكوا
(4)
؟.
(1)
فى م: "عمر".
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 94 ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3013 عن معمر به.
(3)
تفسير مجاهد ص 532، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3013، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 137 إلى الفريابي.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3013 من طريق أبي عاصم به.
فالهاءُ والميمُ فى قولِه: {عَنْ ذُنُوبِهِمُ} على هذا التأويلِ لـ {مَنْ} الذي في قولِه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} . وعلى التأويلِ الأوّلِ الذى قاله مجاهدٌ وقتادةُ لـ "المجرمين"، وهى بأن تكونَ من ذكرِ "المجرمين" أولى؛ لأن اللهَ تعالى ذكره غيرُ سائلٍ عن ذنوبِ مذنبٍ غيرَ مَن أذنَب؛ لا مؤمنٍ ولا كافرٍ. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه لا معنى لخصوصِ المجرمين لو كانت الهاءُ والميمُ اللتان فى قولِه:{عَنْ ذُنُوبِهِمُ} لـ {مَنْ} الذي في قولِه: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} دونَ المؤمنين، يعنى لأنه غيرُ مسئولٍ عن ذلك مؤمنٌ ولا كافرٌ، إلا الذين ركِبوه واكتسَبوه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} .
يقولُ تعالى ذكره: فخرَج قارونُ على قومِه في زينتِه، وهي فيما ذُكر ثيابُ الأُرْجُوَانِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا طلحةُ بنُ عمرٍو، عن أبى الزبيرِ، عن جابرٍ:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: في القِرْمِزِ
(1)
.
قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: في ثيابٍ حُمْرٍ
(2)
.
(1)
القرمز: صبغ أحمر. النهاية 4/ 50.
والأثر عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 138 إلى عبد بن حميد من قول أبي الزبير.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 94 عن سفيان به بلفظ: ثياب معصفرة.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو خالدٍ الأحمرُ، عن عثمانَ بن الأسودِ، عن مجاهدٍ:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: على بَرَاذِينَ بِيضٍ، عليها سروجُ الأُرْجُوَانِ، عليهم المُعَصْفَراتُ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: عليه ثوبانِ معصفرانِ.
وقال ابنُ جريجٍ: على بغلةٍ شهباءَ عليها الأرجوانُ، وثلاثُمائةِ جاريةٍ على البغالِ الشُّهْبِ، عليهن ثيابٌ حمرٌ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثني أبي ويحيى
(3)
بنُ يمانٍ، عن مباركٍ، عن الحسنِ:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: فى ثيابٍ حُمرٍ وصُفرٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ أنه سمِع إبراهيمَ النخَعِيَّ، قال في هذه الآيةِ:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: في ثيابٍ حمرٍ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، عن إبراهيمَ النخعيِّ مثلَه.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 446، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3013 من طريق أبي خالد به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 137، 138 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3014 من طريق أبي خالد عن ابن جريج، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 138 إلى ابن المنذر.
(3)
فى ص، ت 1، ت 2:"بحر".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3013 من طريق مبارك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 138 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 138 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرَ
(1)
بنِ عليٍّ المُقَدَّميُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ حكيمٍ، قال: دخَلنا على مالكِ بن دينارٍ عشيةً، وإذا هو في ذكرِ قارونَ، قال: وإذا رجلٌ من جيرانِه عليه ثيابٌ مُعصفرةٌ، قال: فقال مالكٌ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: في ثيابٍ مثلِ ثيابِ هذا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} : ذُكر لنا أنهم خرَجوا على أربعةِ آلافِ دابةٍ، عليهم وعلى دوابِّهمُ الأرجُوانُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . قال: خرَج في سبعين ألفًا، عليهم المعصفراتُ، فيما كان أبي يَذْكُرُ لنا
(3)
.
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} . يقولُ تعالى ذكره: قال الذين يريدون زينةَ الحياةِ الدنيا مِن قومِ قارونَ: يا ليتَنا أُعطِينا مثلَ ما أُعْطِى قارونُ مِن زينتِها، {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. يقولُ: إِن قارونَ لذو نصيبٍ مِن الدنيا عظيمٍ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} .
(1)
في النسخ: "عمرو". وتقدم في 5/ 47.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3014 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 94 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 138 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3014 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1.
يقولُ تعالى ذكره: وقال الذين أُوتوا العلمَ باللهِ حينَ رَأَوا قارونَ خارجًا عليهم فى زينتِه، للذين قالوا:{يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} : ويلَكم، اتَّقوا اللهَ وأطِيعوه، فثوابُ اللهِ وجَزاؤُه لمَنْ آمَن به وبرُسُلِه، وعمِل بما جاءت به رُسُلُه مِن صالحاتِ الأعمالِ، في الآخرةِ، خيرٌ مما أُوتى قارونُ من زينتِه ومالِه لقارونَ.
وقولُه: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} . يقولُ: {وَلَا يُلَقَّاهَا} . أى: ولا يوفَّقُ لقيلِ هذه الكلمةِ، وهى قولُه:{ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} . والهاءُ والألفُ كنايةٌ عن الكلمةِ. وقال: {إِلَّا الصَّابِرُونَ} . يعنى بذلك: الذين صَبَروا عن طلبِ زينةِ الحياةِ الدنيا، وآثَروا ما عندَ اللهِ مِن جزيلِ ثوابِه على صالحاتِ الأعمالِ، على لَذَّاتِ الدنيا وشَهَواتِها، فجَدُّوا في طاعةِ اللهِ، ورفَضوا الحياةَ الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} .
يقولُ تعالى ذكره: فخَسَفْنا بقارونَ وأهلِ دارِه.
وقيل: {وَبِدَارِهِ} . لأنه ذُكِر أن موسى إذ أمَر الأرضَ أن تأخذَه، أمَرها بأَخْذِه وأخذِ مَن كان معه مِن جُلسائِه فى دارِه، وكانوا جماعةً جُلُوسًا معه، وهم على مثلِ الذى هو عليه مِن النفاقِ والمُؤازرةِ على أذَى موسى.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: أخبَرنا الأعمشُ، عن المِنْهالِ
ابن عمرٍو، عن عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لمَّا نزلَت الزكاةُ أتَى قارونُ موسى، فصالَحه على كلِّ ألفِ دينارٍ دينارًا، وكلِّ ألفِ شيءٍ شيئًا، أو قال: وكلِّ ألفِ شاةٍ شاةً -الطبريُّ يشكُّ- قال: ثم أتَى بيتَه فحَسَبَه، فوجَده كثيرًا، فجمَع بني إسرائيلَ، فقال: يا بني إسرائيلَ، إن موسى قد أمَركم بكلِّ شيءٍ فأطَعْتُموه، وهو الآنَ يريدُ أن يأخُذَ مِن أموالِكم. فقالوا: أنت كبيرُنا، وأنت سَيِّدُنا، فمُرْنا بما شئتَ. فقال: آمُرُكم أن تَجِيئُوا بفلانةَ البغيِّ، فتَجْعَلُوا لها جُعْلًا، فتَقْذِفُه بنفسِها. فدَعَوها، فجَعَل لها جُعْلًا على أن تَقْذِفَه بنفسِها، ثم أتَى موسى، فقال لموسى: إن بني إسرائيلَ قد اجتَمعوا لتأمُرَهم ولتَنْهاهم. فخرج إليهم وهم في بَراحٍ مِن الأرضِ
(1)
، فقال: يا بني إسرائيلَ، مَن سَرَق قطَعْنا يدَه، ومَن افتَرى جَلَدْناه ثمانين
(2)
، ومَن زنَى وليس له امرأةٌ جلَدْناه مائةً، ومَن زنَى وله امرأةٌ جلَدْناه يموتَ -أو: رَجَمْناه حتى يموتَ- الطبريُّ يشكُّ. فقال له قارونُ: وإن كنتَ أنت؟ قال: وإن كنتُ أنا. قال: فإن بني إسرائيلَ يزعُمون أنك فجَرْت بفلانةَ. قال: ادْعُوها، فإن قالت فهو كما قالت. فلما جاءتْ قال لها موسى: يا فلانةُ. قالت: يا لبَّيك. قال: أنا فعلتُ بكِ ما يقولُ هؤلاء؟ قالت: لا وكذَبوا، ولكن جعَلوا لي جُعْلًا على أنى أقْذِفُك بنفسى. فوثَب، فسجَد وهو بينَهم، فأوحى اللهُ إليه: مُرِ الأَرضَ بما شئتَ. قال: يا أرضُ خُذِيهم. فأخذَتهم إلى أقْدامِهم، ثم قال: يا أرضُ خُذِيهم. فأخذَتهم إلى رُكبِهم، ثم قال: يا أرضُ خذِيهم. فأخذتهم إلى حِقِيِّهم
(3)
، ثم قال: يا أرضُ خُذِيهم. فأخَذَتهم إلى أعْناقِهم، قال: فجعَلوا يقولون: يا موسى يا موسى.
(1)
البراح: المتسع من الأرض لا زرع بها ولا شجر، ويقال: أرض براح: واسعة ظاهرة لا نبات فيها ولا عمران. التاج (ب ر ح).
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(3)
الحَقْو: الكَشْح، وقيل معقد الإزار، والجمع: أحْقٍ وأحقاء وحقِيّ وحقاء. اللسان (ح ق و).
ويتضرَّعون إليه، قال: يا أرضُ خُذِيهم. فأطبقَت
(1)
عليهم، فأوحَى اللهُ إليه: يا موسى، يقولُ لك عبادى: يا موسى يا موسى. فلا ترحمُهم، أمَا لو إيَّاى دَعَوا، لوجَدوني قريبًا مُجِيبًا. قال: فذلك قولُ اللهِ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . وكانت زينتُه أنه خرَج على دوابَّ شُقْرٍ عليها سُرُوجٌ حُمْرٌ، عليهم ثيابٌ مُصْبَغةٌ بالبَهْرَمانِ
(2)
، {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} إلى قولِه:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يا محمدُ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن رجلٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لمَّا أمَر اللهُ موسى بالزكاةِ قال: رَمَوه بالزِّنى، فجَزِع مِن ذلك، فأرسَلوا إلى امرأةٍ كانوا
(4)
قد أعْطَوها حُكْمَها على أن تَرْمِيَه بنفسِها، فلما جاءتْ عَظَّمَ عليها، وسألَها بالذى فلَق البحر لبنى إسرائيلَ، وأنزَل التوراةَ على موسى إلا صَدَقَت، قالت: إذ قد استحلفتَني، فإنى أشهَدُ أنك بَرِئٌ، وأنك رسولُ اللهِ. فخَرَّ ساجدًا يَبْكى، فأوحَى اللهُ إليه: ما يُبْكِيك؟ قد سَلَّطناك على الأرضِ، فمُرْها بما شئتَ. فقال: خُذِيهم. فأخذَتهم إلى ما شاء اللهُ. فقالوا: يا موسى يا موسى. فقال: خُذِيهم. فأخذَتهم إلى ما شاء اللهُ، فقالوا: يا موسى يا موسى. فخسَفتهم. قال: وأصابَ بنى إسرائيلَ بعدَ ذلك شِدَّةٌ وجوعٌ شديدٌ، فأتَوا موسى، فقالوا: ادْعُ لنا ربَّك. قال: فدَعا لهم، فأوحَى اللهُ إليه: يا موسى، أتُكَلِّمُنى في قومٍ قد
(1)
فى م: "فانطبقت".
(2)
البهرمان: العصفر، وقيل: ضرب من العصفر. اللسان (بهرم).
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 447، 448، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 531، 532، والحاكم 2/ 408، 409، وابن عساكر 61/ 97، 98 فى تاريخه من طريق الأعمش به.
(4)
في م: "كانت".
أظلمَ ما بينى وبينَهم خَطاياهم، وقد دَعَوك فلم تُجِبْهم، أما لو إيَّاى دَعَوا لأجَبْتُهم
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} . قال: قيل للأرضِ: خُذِيهم. فأخذَتْهم إلى أعْقابِهم، ثم قيل لها: خُذِيهم. فأخذَتْهم إلى ركبِهم. ثم قيل لها: خذيهم. فأخَذتهم إلى أحْقيهم، ثم قيل لها: خذيهم. فأخذتهم إلى أعناقِهم، ثم قيل لها: خذيهم. فَخُسِف بهم، فذلك قولُه:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا عليُّ بنُ هاشمِ بنِ البَرِيدِ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} . قال: كان ابنَ عمِّه، وكان موسى يقضِى في ناحيةِ بني إسرائيلَ، وقارونُ فى ناحيةٍ. قال: فدَعا بَغِيَّةً كانت في بني إسرائيلَ، فجعَل لها جُعْلًا على أن تَرْمِيَ موسى بنفسِها، فتَرَكَتْه حتى
(3)
إذا كان يومٌ يجتمعُ فيه بنو إسرائيلَ إلى موسى، أتاه قارونُ فقال: يا موسى، ما حَدُّ مَن سَرَق؟ قال: أن تُقْطَعَ
(4)
يَدُه. قال: وإن كنتَ أنت؟ قال: نعم. قال: فما حَدُّ مَن زنَى؟ قال: أَن يُرْجَمَ. قال: وإن كنتَ أنت؟ قال: نعم. قال: فإنك قد فعَلت. قال: وَيْلَك، بمَن؟ قال: بفُلانةَ. فدَعاها موسى، فقال: أَنْشُدُكِ بالذى أنزَل التوراةَ، أَصَدَق قارونُ؟ قالت: اللهمَّ إذ نشدْتَنى، فإني أشهدُ أنك برئٌ، وأنك رسولُ اللهِ، وأن عدوَّ اللهِ قارونَ جعَل
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 448، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 98 من طريق الأعمش به مختصرا.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3016 من طريق وكيع به، وأخرجه الحاكم 2/ 408، 409، وابن عساكر في تاريخه 61/ 97، 98 من طريق الأعمش به.
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "تنقطع".
لى جُعْلًا على أن أرْمِيَك بنَفْسى. قال: فوثَب موسى، فخَرَّ ساجدًا للهِ، فأوحَى اللهُ إليه: أن ارفَعْ رأسَك، فقد أمرتُ الأرضَ أن تُطِيعَك. فقال موسى
(1)
: خُذِيهم. فأَخَذَتهم حتى بَلَغوا الحِقْوَ، قال: يا موسى. قال: خُذِيهم. فأَخَذَتهم حتى بلَغوا الصدورَ، قال: يا موسى. قال: خُذِيهم. قال: فذهَبوا. قال: فأوحَى اللهُ إليه: يا موسى، اسْتَغاثَ بك فلم تُغِثْه، أمَا لو اسْتغاثَ بي لأجَبْتُه ولأغَثْتُه
(2)
.
حدَّثنا بشرُ بنُ هلالٍ الصَّوَّافُ، قال: ثنا جعفرُ بن سليمانَ الضُّبَعِيُّ، قال: ثنا عليُّ بنُ زيدِ بن جُدْعانَ، قال: خرج عبدُ اللهِ بنُ الحارثِ مِن الدارِ، ودخَل المقصورةَ، فلما خرَج منها، جلَس وتَسانَد عليها، وجَلَسْنا إليه، فذكَر سليمانَ بن داودَ وقال:{قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} إلى قولِه: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 38 - 40]. ثم سكَت عن ذكر سليمانَ، فقال:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} . وكان قد أُوتى من الكنوزِ ما ذكَر اللهُ في كتابِه: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. قال: وعادَى موسى، وكان مُؤْذِيًا له، وكان موسى يصفحُ عنه ويعفُو للقرابةِ، حتى بنَى دارًا، وجعَل بابَ دارِه مِن ذَهَبٍ، وضرَب على [جُدُرِ دارِه]
(3)
صفائحَ الذهبِ، وكان الملأُ من بني إسرائيلَ يَغْدُون عليه ويَرُوحون، فيُطْعِمُهم الطعامَ، ويحدِّثونه ويُضْحِكونه، فلم تَدَعْه شِقْوتُه والبَلاءُ، حتى أرسَل إلى امرأةٍ مِن بنى إسرائيلَ مشهورةٍ بالخَنَا، مشهورةٍ بالسَّبِّ، فأرسَل إليها فجاءت فقال لها: هل لكِ أن أُمَوِّلَكِ وأُعْطِيَكِ وأَخْلِطَكِ بنسائِى، على أن تأتِيَنى والملأُ من بني إسرائيلَ عندى
(1)
بعده فى م: "يا أرض".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 448، 449، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3018، وابن عساكر في تاريخه 61/ 97، 98 من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 136 إلى ابن المنذر.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"حدداره"، وفى م:"جدرانه". والمثبت من التاريخ.
فتقولى: يا قارونُ، أَلَا تَنْهَى عَنِّى موسى، قالت: بلى. فلما جلَس قارونُ وجاءه الملأُ من بنى إسرائيلَ، أرسَل إليها، فجاءتْ فقامَت بينَ يدَيه، فقَلَّب اللهُ قلبَها، وأحْدَث لها توبةً، فقالت في نفسها: أُحْدِثُ
(1)
اليوم توبةً أَفضلُ مِن أن أُوذِيَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأُكذِّبُ
(2)
[عدوًّا له]
(3)
. فقالت: إن قارونَ قال لي: هل لك أن أُمَوِّلَكِ وأُعْطِيَك وأَخْلِطَكِ بنِسائِي، على أن تأتِيَنى والملأُ من بنى إسرائيلُ عندى، فتقولى: يا قارونُ، ألا تَنْهَى عنى موسى، فلم أجِدْ توبةً أفضلَ مِن ألا أُوذِيَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأُكَذِّبَ (2) عدوَّ اللهِ. فلما تكلَّمَت بهذا الكلامِ، سُقِط فى يَدَيْ قارونَ، ونَكَّس رأسَه، وسكَت الملأُ، وعرَف أنه قد وَقَع فى هَلَكَةٍ، وشاعَ كلامُها فى الناسِ، حتى بلَغ موسى، فلما بلَغ موسى اشتدَّ غضبُه، فتوضَّأَ من الماءِ، وصلَّى وبكَى، وقال: يا ربِّ، عدوُّك لي مُؤْذٍ، أراد فَضِيحتى وشَينى، يا ربِّ سَلِّطْنى عليه. فأوحى اللهُ إليه أَن مُرِ الأَرضَ بما شئتَ تُطِعْك، فجاء موسى إلى قارونَ، فلما دخَل عليه، عرف الشَّرَّ في وَجْهِ موسى له، فقال: يا موسى ارحَمْنى. قال: يا أرضُ خُذِيهم. قال: فاضطَرَبت دارُه، وساخَت بقارونَ وأصحابِه إلى الكعبَين، وجعَل يقولُ: يا موسى، [ارحمْنى. قال: يا أرضُ خذيهم. فاضطربت دارُه وساخت، وخُسِف بقارونَ وأصحابِه]
(4)
إلى رُكَبِهم، وهو يَتضرَّعُ إلى موسى: يا موسى ارحَمْنى. قال: يا أرضُ خُذِيهم. قال: فاضطرَبَت دارُه وساخَت، وخُسِف بقارونَ وأصحابِه إلى سُرَرِهم، وهو يَتضرَّعُ إلى موسى: يا موسى ارحَمْنى. قال: يا أرضُ خُذِيهم. فخُسِف به وبدارِه وأصحابِه. قال: وقيل لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى ما أفَظَّك، أما وعِزَّتى لو إيَّاى نادَى لأجبْتُه
(5)
.
(1)
في م: "لأن أحدث".
(2)
في ص، وتاريخ المصنف:"أعذب".
(3)
فى م: "عدو الله له"، وفى تاريخ المصنف وتاريخ دمشق:"عدو الله".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، وفى م:"فأخذتهم". والمثبت من التاريخ.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 449، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره -كما في الدر المنثور 5/ 138 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3019، وابن عساكر في تاريخه 61/ 96، 97 عن جعفر به، وهو في تفسير مجاهد ص 532، 533 من طريق على بن زيد بن جدعان به.
حدَّثنى بشرُ بنُ هلالٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن أبي عمرانَ الجَوْنيِّ، قال: بلَغنى أنه قيل لموسى: لا أُعَبِّدُ الأَرضَ لأحدٍ بعدَك أبدًا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ وعبدُ الحميدِ الحِمَّانيُّ، عن سفيانَ، عن الأغَرِّ بنِ الصباحِ، عن خليفةَ بنِ حُصَينٍ، قال عبدُ الحميدِ: عن أبي نصرٍ، عن ابنِ عباسٍ، ولم يذكُرِ ابنُ مهديٍّ أبا نصرٍ:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} . قال: الأرضَ السابعةَ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: بلَغَنا أنه يُخْسَفُ به كلَّ يومٍ
(3)
قامةً، ولا يبلُغُ أسفلَ الأرضِ إلى يومِ القيامةِ، فهو يَتجَلْجَلُ فيها إلى يومِ القيامةِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ
(5)
، عن جعفرِ بنِ سليمانَ، قال: سمِعتُ مالكَ بن دينارٍ، قال: بلَغَنى أن قارونَ يُخْسَفُ به كلَّ يومٍ [مائةَ قامةٍ]
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} : ذُكر لنا أنه يُخْسَفُ به كلَّ يومٍ قامةً، وأنه يتجلجلُ فيها، لا يبلغُ قعرَها
(1)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 449، وأخرجه عبد الرزاق فى تفسيره -كما في الدر المنثور 5/ 138 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3020، وابن عساكر في تاريخه 61/ 97 - عن جعفر، وهو في تفسير مجاهد ص 533 من طريق على بن زيد بن جدعان به.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3020 من طريق سفيان به، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 61/ 95، 96 من طريق الضحاك، عن ابن عباس.
(3)
بعده في م: "مائة".
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 139 إلى ابن المنذر.
(5)
في م: "حبان".
(6)
كذا فى النسخ، وفى الدر المنثور:"قامة قامة".
والأثر عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 139 إلى عبد بن حميد.
إلى يومِ القيامةِ
(1)
.
وقولُه: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . يقولُ: فلم يَكُنْ له جندٌ يرجِعُ إليهم ويفئُ
(2)
، ينصُرونه لمّا نزَل به مِن اللهِ
(3)
سخطُه، بل تَبَرَّءُوا منه، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}. يقولُ: ولا كان هو ممن ينتصِرُ مِن اللهِ إذا أحلَّ به نِقْمَتَه، فيَمْتنِعَ لقوَّتِه منها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . أى: جندٌ ينصُرونه، وما عندَه مَنَعَةٌ يمتنعُ بها مِن اللهِ
(4)
.
وقد بَيَّنَّا معنى "الفئةِ" فيما مضَى
(5)
، وأنها الجماعةُ مِن الناسِ، وأصلُها الجماعةُ التي يَفِيءُ إليها الرجلُ عندَ الحاجةِ إليهم، للعَوْنِ على العدوِّ، ثم تَستعملُ ذلك العربُ فى كلِّ جماعةٍ كانت عونًا للرجلِ وظَهْرًا له، ومنه قولُ خُفَافٍ
(6)
:
فلم أرَ مِثْلَهم
(7)
حَيًّا لَقاحًا
…
[وجَدِّكَ]
(8)
بين ناضحةٍ
(9)
وحَجْرٍ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 450، 451، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3020 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 139 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م: "ولا فئة".
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3020 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 139 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
ينظر ما تقدم في 15/ 269.
(6)
ديوانه ص 51.
(7)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(8)
في ديوانه: "أقاموا".
(9)
في الديوان: "قاضية". وناضحة: موضع بين اليمامة ومكة. ينظر معجم البلدان 4/ 730.
أشَدَّ على صُرُوفِ الدَّهْرِ آدًا
…
وآمرُ
(1)
مِنهُمُ فِئَةٌ
(2)
بِصَبْرِ
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} .
يقولُ تعالى ذكره: وأصبَح الذين تمنَّوْا مكانَه
(3)
مِن الدنيا وغِناه وكثرةَ مالِه وما بُسِط له منها، {بِالْأَمْسِ} يعنى قبلَ أن ينزلَ به ما نزَل مِن سَخَطِ اللهِ وعِقابِه، يقولون:{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} .
اختُلف في معنى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} . فأما قتادةُ فإنه رُوِى عنه في ذلك قولان؛ أحدُهما، ما حدَّثنا به ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ خالدٍ، ابنُ عَثْمَةَ، قال: ثنا سعيدُ بنُ بشيرٍ، عن قتادةَ، قال في قولِه:{وَيْكَأَنَّهُ} . قال: ألم تَرَ أنه
(4)
!
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيْكَأَنَّهُ} : أَوَ لَا تَرى أنه
(5)
.
وحدَّثني إسماعيلُ بن المُتوكَّلِ الأشْجَعيُّ، قال: ثنا محمدُ بن كثيرٍ، قال: ثنى مَعْمَرٌ، عن قَتادةَ:{وَيْكَأَنَّهُ} . قال: ألم تَرَ أنه.
والقولُ الآخرُ، ما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن
(1)
في م: "أكبر".
(2)
في ديوانه: "فيها".
(3)
بعده فى م، ت 1:"بالأمس".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3022 من طريق محمد بن خالد به.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3021 من طريق يزيد به.
مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} . قال: أو لا
(1)
يعلمُ أن اللهَ، {وَيْكَأَنَّهُ}: أوَ لا يعلمُ أنه
(2)
.
وتأوَّل هذا التأويلَ الذي ذكَرناه عن قتادةَ في ذلك أيضًا بعضُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ مِن أهلِ البصرةِ
(3)
، واستَشهَد لصحةِ تأويلِه ذلك كذلك بقولِ الشاعرِ
(4)
:
سَأَلَتانِي الطَّلاقَ أنْ [رَأتاني
…
قَلَّ مالي]
(5)
قد جِئْتُمانى
(6)
بِنُكْرِ
وَيْكَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَه نَشَبٌ
…
يُحْبَبْ ومَن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(7)
: "وَيْكَأَنَّ" في كلامِ العربِ تَقْريرٌ، كقولِ الرجلِ: أما تَرى إلى صُنْعِ اللهِ وإحسانِه! وذكَر أنه أخبَره مَن سمِع أعرابيةً تقولُ لزوجِها: أينَ ابنُكَ
(8)
؟ فقال: وَيْكَأَنَّه وراءَ البيتِ. معناه: أما تَرَيْنَه وراءَ البيتِ؟ قال: وقد يذهبُ بها بعضُ النحويِّين إلى أنهما
(9)
كلمتان، يريدُ: وَيْكَ أَنَّه. كأنه أرادَ "وَيْلَك"، فحذَف اللامَ، فتُجعل "أنَّ" مفتوحةً بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قال:
(1)
في م: "لم".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 94 - ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3021، 3022 - عن معمر به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 139 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
هو أبو عبيدة فى مجاز القرآن 2/ 112.
(4)
البيتان في الكتاب 2/ 155، والخزانة 6/ 410 منسوبان لزيد بن عمرو بن نفيل، وفى البيان والتبيين 1/ 235 منسوبان لأبى الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
(5)
فى البيان والخزانة: "رأتا مالي قليلا".
(6)
في م: "جئتما".
(7)
معاني القرآن 2/ 312.
(8)
في ص، ت 1:"ابنا"، وفى م:"ابننا"، وفى ت 2:"اينا". والمثبت من معاني القرآن.
(9)
فى م: "أنها".
وَيْلَك، أعلمُ أنه وراء البيتِ
(1)
. فأضمَر "أعلمْ". قال: ولم نجدِ العربَ تُعْمِلُ الظَّنَّ مُضْمَرًا، ولا العلمَ وأشْباهَه فى "أنَّ"؛ وذلك أنه يبطُلُ إذا كان بينَ الكلمتَين، أو في آخرِ الكلمةِ، فلما أُضمر جرَى مَجْرَى التركِ
(2)
، ألَا تَرى أنه لا يجوزُ في الابتداءِ أن تَقولَ: يا هذا، إنك قائمٌ، و: يا هذا أَنْ قُمْتَ. تريدُ: علِمتُ، أو أعلمُ، أو ظننتُ، أو أظنُّ. وأما حذفُ اللامِ من قولِك: وَيْلَك. حتى تصيرَ: وَيْكَ. فقد تقولُه العربُ؛ لكثرتِها في الكلامِ، قال عنترةُ
(3)
:
ولقد شَفَى نَفْسى وأَبْرَأَ سُقْمَها
…
قَوْلُ الفَوَارسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
قال: وقال آخرون: إن معنى قولِه: {وَيْكَأَنَّ} . "وى" منفصلةٌ من "كأنَّ"، كقولِك للرجلِ: وَىْ، أما ترى ما بينَ يدَيك؟ فقال:"وَىْ" ثم استأنَف: "كأن اللهَ يبسطُ الرزقَ". وهى تَعَجَّبٌ، و "كأنَّ" في معنى الظنِّ والعلمِ، فهذا وَجْهٌ يستقيمُ. قال: ولم تكتُبْها العربُ منفصلةً، ولو كانت على هذا لكَتَبوها منفصلةً، وقد يجوزُ أن تكونَ كثُر بها الكلامُ، فوُصِلَت بما ليست منه.
وقال آخرُ منهم: إن "وَىْ" تنبيهٌ، و "كأن" حرفٌ آخر غيرُه، بمعنى: لعل الأمرَ كذا، وأظنُّ الأمرَ كذا؛ لأن "كأنَّ" بمنزلةِ "أظنُّ وأحسبُ وأعلمُ".
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصحةِ القولُ الذى ذكَرنا عن قتادةَ، مِن أن معناه: ألم تَرَ، ألم تعلَمْ. للشاهدِ الذى ذكَرنا فيه مِن قولِ الشاعرِ والروايةِ عن العربِ، وأن "ويكأنَّ" فى خطِّ المصحفِ حرفٌ واحدٌ.
ومتى وُجِّه ذلك إلى غيرِ التأويلِ الذى ذكَرنا عن قتادةَ، فإنه يصيرُ حرفَين، وذلك
(1)
فى ص، ت 1، ت 2:"الباب".
(2)
فى النسخ: "المتأخر". والمثبت من معانى القرآن.
(3)
شرح ديوانه ص 128.
أنه إن وُجِّهَ إلى قولِ مَن تأوَّله بمعنى: وَيْلَك أعلمُ أن اللهَ. وجَب أَن يَفْصِلَ "وَيْكَ" مِن "أنَّ"، وذلك خلافُ خطِّ جميعِ المصاحفِ، مع فسادِه في العربيةِ، لما ذكَرنا. وإن وُجِّهَ إلى قولِ مَن يقولُ:"وَىْ" بمعنى التَّنْبيهِ، ثم استأنَف الكلامَ بـ "كأَنَّ"، وجَب أن يُفْصَلَ "وَىْ" من "كأنَّ"، وذلك أيضًا خلافُ خطوطِ المصاحفِ كلِّها.
فإذ كان ذلك حرفًا واحدًا، فالصوابُ مِن التأويلِ ما قالَه قتادةُ، وإذ كان ذلك هو الصوابَ، فتأويلُ الكلامِ: وأصبَح الذين تَمَنَّوا مكانَ قارونَ وموضعَه مِن الدنيا بالأمسِ، يقولون لمَّا عايَنوا ما أحَلَّ اللهُ به من نِقْمَتِهِ: أَلم تَرَ يا هذا أن اللهَ يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ مِن عبادِه، فيُوَسِّعَ عليه، لا لفضلِ منزلتِه عندَه، ولا لكرامتِه عليه، كما كان بسَط من ذلك لقارونَ، لا لفضلِه ولا لكرامتِه عليه، {وَيَقْدِرُ}. يقولُ: ويُضَيِّقُ على مَن يشاءُ من خلقِه ذلك ويُقَتِّرُ عليه، لا لهوانه عليه
(1)
ولا لسُخْطِه عملَه.
وقولُه: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} . يقولُ: لولا
(2)
أن تفضَّلَ اللهُ علينا، فصرَف عَنَّا ما كنَّا نَتَمَنَّاه بالأمسِ {لَخَسَفَ بِنَا} .
واختلَفتِ القرأةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرأَته عامةُ قرأةِ الأمصارِ سِوى شيبةَ: (لخُسِفَ بِنَا). بضَمِّ الخاءِ وكسرِ السينِ
(3)
، وذُكِر عن شيبةَ والحسنِ:{لَخَسَفَ بِنَا} . بفتحِ الخاءِ والسينِ
(4)
، بمعنى: لخسَف اللهُ بنا.
وقولُه: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . يقولُ: ألم يعلمْ أنه لا يُفلِحُ الكافرون، فتُنْجِحَ طَلِباتُهم.
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(3)
وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى بكر وابن عامر وأبي عمرو وحمزة والكسائي وأبي جعفر وخلف. ينظر النشر 2/ 256.
(4)
معانى القرآن للفراء 2/ 313، وبها قرأ حفص ويعقوب. النشر 2/ 256.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} .
يقولُ تعالى ذكره: تلك الدارُ الآخرةُ نجعلُ نعيمَها للذين لا يُريدون تكَبُّرًا عن الحقِّ في الأرضِ وتَجَبُّرًا عنه، {وَلَا فَسَادًا}. يقولُ: ولا ظُلْمَ الناسِ بغيرِ حقٍّ، وعملًا بمعاصى اللهِ فيها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن زيادِ ابنِ أبي زيادٍ، قال: سمِعتُ عكرمةَ يقولُ: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} . قال: العُلُوُّ التَّجَبُّرُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مسلمٍ البَطِينِ:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} . قال: العُلُوُّ التَّكَبُّرُ فى الحقِّ، والفسادُ الأخْذُ بغيرِ الحقِّ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مسلمٍ البَطِينِ:{لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} . قال: التكبرَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، {وَلَا فَسَادًا}: أخذَ المالِ بغيرِ حقٍّ.
قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ: {لِلَّذِينَ لَا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 268.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3022، 3023 من طريق عبد الرحمن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 139 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ}. قال: البَغْيَ
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ قولَه:{لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} . قال: تَعَظُّمًا وتَجَبُّرًا، {وَلَا فَسَادًا} عملًا بالمَعاصي
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن أشْعثَ السَّمانِ، عن أبي سلَّامٍ
(3)
الأعرجِ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: إن الرجلَ ليُعْجِبُه مِن شراكِ نَعْلِه أن يكونَ أجودَ مِن شِراكِ صاحبِه، فيدخلُ في قولِه:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(4)
.
وقولُه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . يقولُ تعالى ذكره: والجنةُ للمتقين، وهم الذين اتقَوا معاصىَ اللهِ، وأدَّوا فرائضَه.
وبنحوِ الذي قلنا في [معنى العاقبةِ]
(5)
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي: الجنةُ للمتقين
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3022 من طريق ابن يمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 139 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 139 إلى ابن المنذر.
(3)
في النسخ: "سلمان". والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 28/ 484.
(4)
ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 2/ 35 عن المصنف، وأخرجه الواحدى في تفسيره الوسيط -كما في تخريج الكشاف للزيلعي 2/ 35 من طريق وكيع به، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3023 من طريق أشعث به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 139 إلى ابن أبى شيبة وابن المنذر.
(5)
في ت 2: "ذلك".
(6)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3023 معلقا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)} .
يقولُ تعالى ذكره: مَن جاء اللهَ يومَ القيامةِ بإخلاصِ التوحيدِ، فله منها خيرٌ، وذلك الخيرُ هو الجنةُ والنعيمُ الدائمُ، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ، وهى الشركُ باللهِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . أى: له منها حظُّ خيرٍ، والحسنةُ الإخلاصُ، والسيئةُ الشركُ
(1)
.
وقد بيَّنا ذلك باختلافِ المختلِفين، ودلّلنا على الصوابِ من القولِ فيه
(2)
.
وقولُه: {فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} . يقولُ: فلا يثابُ الذين عمِلوا السيئاتِ على أعمالِهم السيئةِ، {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يقولُ: إلا جزاءَ ما كانوا يَعْمَلُون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)} .
يقولُ تعالى ذكره: إِنَّ الذى أنزَل
(3)
عليك يا محمدُ القرآنَ.
كما حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} . قال: الذي أعْطاك
(1)
ذكره ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3024 عقب الأثر (17192، 17194) معلقا.
(2)
ينظر ما تقدم في 10/ 36 - 44.
(3)
في ت 2: "فرض".
القرآنَ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِ اللهِ:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} . قال: الذى أعْطاكَه
(1)
.
واختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لَمُصَيِّرُك إلى الجنةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ حبيبِ بنِ الشهيدِ، قال: ثنا عتابُ بنُ بشيرٍ
(2)
، عن خُصَيفٍ، عن عكرِمةَ، عن ابن عباسٍ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: إلى مَعْدِنِكَ مِن الجنةِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْدِيٍّ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن رجلٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إلى الجنةِ.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثني أبي، عن إبراهيمَ بنِ حيانَ
(4)
، سمِعتُ أبا جعفرٍ، يحدِّثُ
(5)
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: معادُه آخرتُه،
(1)
تفسير مجاهد ص 532 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3025.
(2)
فى م: "بشر". ينظر تهذيب الكمال 19/ 286.
(3)
أخرجه الطبراني (12032)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3026 من طريق خصيف به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 140 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه.
(4)
في م، ت 2:"حبان". وينظر التاريخ الكبير 1/ 280.
(5)
في م: "عن ابن عباس".
الجنةُ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ فى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: إلى الجنةِ ليسألَك عن القرآنِ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي صالحٍ، قال: الجنةُ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابنُ مَهْدِيٍّ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي صالحٍ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: إلى الجنة.
حدَّثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن السدىِّ، عن أبي مالكٍ، قال: يردُّك إلى الجنةِ، ثم يسألُك عن القرآنِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ ومجاهدٍ، قالا: إلى الجنةِ
(4)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُمَيلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ وعطاءٍ ومجاهدٍ، وأبى قَزَعةَ، عن
(5)
الحسنِ، قالوا: يومَ القيامةِ
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 392 عن وكيع به، وأخرجه البخارى فى التاريخ الكبير 1/ 280 من طريق إبراهيم بن حيان به، وأخرجه أبو يعلى (1131) من طريق أبي جعفر به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 140 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 140 إلى الفريابي.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3026 معلقا.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3026 عن مجاهد معلقا.
(5)
في م: "و"، وقد تقدم هذا الإسناد في 16/ 492.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 270.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: يجيءُ بك يومَ القيامةِ.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن مَعْمرٍ، عن الحسنِ والزهريِّ، قالا: معادُه يومَ القيامةِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: يُحيِيك
(2)
يومَ القيامةِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا هَوْذَةُ، قال: ثنا عوفٌ
(4)
، عن الحسنِ في قولِه:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: معادُك من الآخرةِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: كان الحسنُ يقولُ: إى واللهِ، إن له لمعادًا يبعثُه اللهُ يومَ القيامةِ، ويُدخِلُه الجنةَ
(5)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: لرادُّك إلى الموتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني إسحاقُ بنُ وهبٍ الواسطيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الزبيريُّ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 94 عن معمر به.
(2)
فى م: "يجيء بك".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3026 من طريق ورقاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 140 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
فى م: "عون".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3026 من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 140 إلى عبد بن حميد.
قال: ثنا سفيانُ بن سعيدٍ الثوريُّ، عن الأعمشِ، عن سعيد بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: الموتِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن رجلٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إلى الموتِ.
قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن أبي جعفرٍ، عن أبي
(2)
سعيدٍ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: إلى الموتِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عمَّن سمِع ابنَ عباسٍ، قال: إلى الموتِ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا ابنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: إلى الموتِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن رجلٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ فى قولِه:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: الموتِ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن
(4)
عديِّ بنِ ثابتٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إلى الموتِ، أو إلى مكةَ
(5)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لرَادُّك إلى الموضعِ الذى خرَجتَ منه، وهو مكةُ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3025 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 140 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه.
(2)
سقط من: م.
(3)
ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3025 معلقا.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"بن".
(5)
أخرجه الطبراني (12268)، والخطيب في تاريخه 7/ 192، 193 من طريق أبي تميلة به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يعلى بنُ عبيدٍ، عن سفيانَ العُصْفُريِّ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: إلى مكةَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: يقولُ: لرادُّك إلى مكةَ كما أخرَجك منها
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، قال: أخبرَنا يونسُ بنُ أبى إسحاقَ، عن مجاهدٍ، قال: مولدُه بمكةَ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن يونسَ بن أبي إسحاقَ، قال: سمِعت مجاهدًا يقولُ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مولدِك بمكةَ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ عمرٍو، وهو ابنُ أبي إسحاقَ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . قال: إلى مولدِك بمكةَ.
حدَّثني الحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدائيُّ، قال: ثنا أبي، عن الفُضَيلِ بنِ
مرزوقٍ، عن مجاهدٍ أبى الحجاجِ في قولِه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
(1)
أخرجه البخارى (4773)، والنسائي (11386)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 520، 521 من طريق يعلى به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 140 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 270 عن العوفى به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 140 إلى ابن مردويه.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3026، والبيهقى فى الدلائل 2/ 521 من طريق يونس به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 140 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}. قال: إلى مولدِه بمكةَ.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى عيسى بنُ يونسَ، عن أبيه، عن مجاهدٍ، قال: إلى مولدِك، [إلى مكة]
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك عندى قولُ مَن قال: لرادُّك إلى عادتِك مِن الموتِ، أو إلى عادتِك حيثُ وُلدتَ. وذلك أن المعادَ في هذا الموضعِ المَفْعِلُ مِن العادةِ، ليس مِن العَوْدِ، إلا أن يُوَجِّهَ مُوَجِّهٌ تأويلَ قولِه {لَرَادُّكَ}: لمُصَيِّرُك. فيتوجَّهُ حينَئذٍ قولُه: {إِلَى مَعَادٍ} . إلى معنى العَوْدِ، ويكونُ تأويلُه: إن الذى فرَض عليك القرآنَ لمُصَيِّرُك إلى أن تعودَ إلى مكةَ مفتوحةً لك.
فإن قال قائلٌ: فهذه الوجوهُ التي وصَفتَ فى ذلك قد فهِمناها، فما وجهُ تأويلِ مَن تأوَّله بمعنى: لَرَادُّك إلى الجنةِ؟ قيل: ينبغى أن يكونَ وجهُ تأويلِه ذلك كذلك على هذا الوجهِ الآخرِ، وهو: لمُصَيِّرك إلى أن تعودَ إلى الجنةِ.
فإن قال قائلٌ: أوَ كان أُخرج مِن الجنةِ، فيقال له: نحن نُعِيدُك إليها؟ قيل: لذلك وجهان؛ أحدُهما، أنه إن كان أبوه آدمُ صلى اللهُ عليهما أُخرج منها، فكأن ولدَه بإخراجِ اللهِ إِيَّاه منها قد أُخرجوا منها، فمَن دخَلها فكأنما يُرَدُّ إليها بعدَ الخروجِ. والثاني، أن يقالَ: إنه كان صلى الله عليه وسلم دخَلها ليلةَ أُسْرِى به، كما رُوى عنه أنه قال:"دخَلْتُ الجنةَ، فرأيتُ فيها قَصْرًا، فقلتُ: لمَن هذا؟ فقالوا: لعمرَ بنِ الخطابِ"
(2)
ونحوُ ذلك مِن الأخبارِ التى رُويت عنه بذلك، ثم رُدَّ إلى الأرضِ، فيقالُ له: إن
(1)
في م: "بمكة".
(2)
أخرجه أحمد 14/ 178 (8471)، والبخاري (3242، 3680، 5227، 7023، 7025) ومسلم (2395) وغيرهم من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 19/ 103، 20/ 214، 296 (12046، 12834، 12983)، والنسائي (8127) وغيرهما من حديث أنس. وفى الباب عن جابر ومعاذ بن جبل وبريدة الأسلمى.
الذى فرَض عليك القرآن لرادُّك؛ لمصيِّرُك إلى الموضعِ الذى خرجتَ منه مِن الجنةِ، إلى أن تعودَ إليه، فذلك إن شاء اللهُ قولُ مَن قال ذلك.
وقولُه: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لهؤلاء المشركين: ربِّي أعلمُ مَن جاء
(1)
بالهُدى الذي مَن سَلَكه نَجا، ومَن هو في جَوْرٍ عن قصد السبيلِ مِنَّا ومنكم.
وقولُه: {مُبِينٍ} يعنى أنه يُبِينُ للمفكرِ الفهِمِ إذا تأمَّله وتَدبَّره، أنه ضلالٌ وجَوْرٌ عن الهُدى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)} .
يقولُ تعالى ذكره: وما كنتَ تَرْجو يا محمدُ أن يُنَزَّلَ عليك هذا القرآنُ، فتَعْلَمَ الأنباءَ والأخبارَ عن الماضِين قبلَك، والحادثةَ بعدَك، مما لم يَكُنْ بعدُ، مما لم تشهَدْه ولا تشهدُه، ثم تَتْلو ذلك على قومِك من قريشٍ، إلا أن ربَّك رحِمك، فأنزَله عليك. فقولُه:{إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناءٌ منقطعٌ.
وقولُه: {فَلَا
(2)
تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} يقولُ: فاحمدْ ربَّك على ما أنعَم به عليك مِن رحمتِه إيَّاك، بإنزالِه عليك هذا الكتابَ، ولا تَكُونَنَّ عَوْنًا لمَن كَفَر بربِّك على كفرِه به
(3)
.
وقيل: إن ذلك من المُؤخَّرِ الذى معناه التقديمُ، وإن معنى الكلامِ: إن الذى فرض عليك القرآنَ فأنزَله عليك، وما كنتَ تَرْجو أن يُنَزَّلَ عليك فتكونَ نبيًّا قبلَ
(1)
بعده في ص، ت 2:"قومه".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"ولا".
(3)
فى ت 1، ت 2:"بك".
ذلك، لرادُّك إلى مَعادٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)} .
يقولُ تعالى ذكره: ولا يَصْرِفنَّك عن تَبْليغِ آياتِ اللهِ وحُجَجِه، بعدَ أن أنزلَها إليك ربُّك يا محمدُ، هؤلاء
(1)
المشركون، بقولِهم:{لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48]. {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} وبلِّغْ رسالتَه إلى مَن أرسَلك
(2)
إليه بها، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. يقولُ: ولا تَتْرُكَنَّ الدعاءَ إلى ربِّك، وتبليغَ المشركين رسالتَه، فتكونَ ممن فعَل فِعْلَ المشركين بمعصيتِه ربَّه، وخلافِه أمرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} .
يقولُ تعالى ذكره: ولا تعبدْ يا محمدُ مع معْبودِك الذي له عبادةُ كلِّ شيءٍ معبودًا آخرَ سِواه.
وقولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . يقولُ: لا معبودَ تصلُحُ له العبادهُ إلا اللهُ الذى كلُّ شيءٍ هالكٌ إِلا وَجْهَه.
واختُلف في معنى قولِه: {إِلَّا وَجْهَهُ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: كلُّ شيءٍ هالكٌ
(3)
إلا هو.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما أُريد به وجهُه. واستَشهدوا لتأويلِهم ذلك كذلك بقولِ الشاعرِ
(4)
:
(1)
في ت 2: "ولا".
(2)
في ت 2: "أرسلتك".
(3)
بعده في ت 1: "إلا وجهه".
(4)
معانى القرآن للفراء 2/ 314، وتقدم فى 1/ 170.
أستغفرُ اللهَ ذَنْبًا لستُ مُحْصِيَه
…
ربُّ العبادِ إليه الوَجْهُ وَالعَمَلُ
وقولُه: {لَهُ الْحُكْمُ} . يقولُ: له الحكمُ بينَ خلقِه، دونَ غيرِه، ليس لأحدٍ غيرِه معه فيهم حكمٌ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يقولُ: وإليه تُرَدُّونَ مِن بعدِ مَماتِكم، فيَقْضِى بينَكم بالعدلِ، فيُجازِى مُؤمِنيكم جزاءَهم، وكفَّارَكم ما وَعَدهم.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "القصص"
تفسيرُ سورةِ العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ: وقد بيَّنا معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {الم} . وذكَرْنا أقوالَ أهلِ التأويلِ فى تأويلِه، والذى هو أولى بالصواب من أقوالِهم عندَنا، بشواهدِه فيما مضَى، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وأما قولُه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} . فإن
(2)
معناه: أظَنَّ الذين خرَجوا يا محمدُ من أصحابِك من أذى المشركين إياهم، أن نَتْرُكَهم بغيرِ اختبارٍ، ولا ابتلاءِ امتحانٍ، بأن قالوا: آمنا بك يا محمدُ، وصدَّقْناك فيما جئْتَنا به مِن عندِ اللهِ؟ كلا، لنَخْتَبِرَنَّهم؛ ليتبيَّنَ الصادقُ منهم من الكاذبِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 204 - 228.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"قال".
فى قولِ اللهِ: {آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} . قال: يُبْتَلَوْن فى أنفسِهم وأموالِهم
(1)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} . أى: لا يُبْتَلَوْن
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي هاشمٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} . قال: لا يُبْتَلَوْن
(3)
.
[و {أَنْ}]
(4)
الأولى منصوبةٌ بـ "حسب"، والثانيةُ منصوبةٌ في قولِ بعضِ أهلِ العربيةِ بتعلُّقِ {يُتْرَكُوا} بها، وأن معنى الكلامِ على قولِه: أحسِب الناسُ أن يتركوا لِأن يقولوا: آمَنا. فلمَّا حُذِفَت اللامُ الخافضةُ من "لأِن" نُصِبَت على ما ذكَرْتُ.
وأما على قولِ غيرِه، فهى فى موضعِ خفضٍ بإضمارِ الخافضِ، ولا تكادُ العربُ تقولُ:[ترَكْتُ فلانًا أن يَذْهَبَ. فَتُدْخِلُ "أن" في الكلامِ، وإنما تقولُ]
(5)
: ترَكْتُه يَذْهَبُ. وإنما أُدْخِلَت {أَنْ} ؛ هاهنا؛ لاكتفاءِ الكلامِ بقولِه: {أَنْ يُتْرَكُوا} . إذ كان معناه: أحسِب الناسُ أن يُتْرَكوا وهم لا يُفْتَنون؛ مِن أجلِ أن يقولوا:
(1)
تفسير مجاهد ص 534، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3032، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 141 إلى الفريابي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 1916 من طريق سعيد بن بشير عن قتادة مطولا، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 96 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 141 إلى عبد بن حميد.
(3)
تفسير سفيان ص 235.
(4)
في م: "فأن".
(5)
سقط من: ت 2.
آمَنَّا. فكان قولُه: {أَنْ يُتْرَكُوا} . مكتفيةً بوقوعِها على "الناسِ"، دونَ أخبارِهم.
وإن جُعِلَت {أَنْ} فى قولِه: {أَنْ يَقُولُوا} منصوبةٌ بنيةِ تكريرِ {أَحَسِبَ} ، كان جائزًا، فيكونُ معنى الكلامِ:[أحَسِب الناسُ]
(1)
أن يُتْرَكوا، أحسِبوا أن يقولوا: آمنا. وهم لا يُفْتَنون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
(2)}.
يقولُ تعالى ذكره: ولقد اخْتَبَرْنا الذين مِن قبلِهم مِن الأممِ، ممَّن أَرْسَلْنا إليهم رسلَنا، فقالوا مثلَ ما قالتْه أمتُك يا محمدُ -بأعدائِهم، وتمكينِنا إياهم مِن أذاهم؛ كموسى إذ أرْسَلْناه إلى بنى إسرائيلَ، [فابتلَيْناهم بفرعونَ وملئِهم، وكعيسى إذ أَرْسَلْناه إلى بنى إسرائيلَ]
(2)
، فَابْتَلَيْنا مَن اتَّبَعه بمَن تَوَلَّى عنه، فكذلك ابْتَلَيْنَا تُباعَك بمُخالِفيك
(3)
مِن أعدائِك، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} منهم
(4)
في قيلِهم: آمَنَّا. {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} منهم
(4)
في قيلِهم ذلك، واللهُ عالمٌ بذلك منهم قبلَ الاختبارِ، وفى حالِ الا ختبارِ، وبعدَ الاختبارِ، ولكنَّ معنى ذلك: ولَيُظْهِرَنَّ اللهُ صدقَ الصادقِ منهم فى قيلِه: آمَنَّا بِاللهِ. مِن كَذِب الكاذبِ منهم
(4)
، بابتلائِه إياه بعدوِّه؛ ليَعْلَمَ صدقَه مِن كذبِه أولياؤُه. على نحوِ ما قد بيَّناه فيما مضَى قبلُ
(5)
.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزلَت في قومٍ مِن المسلمين عذَّبهم المشركون، ففُتِن بعضُهم، وصبَر بعضُهم على أذاهم، حتى أتاهم اللهُ
(4)
بفرجٍ مِن عندِه.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
سقط من ت 1، ت 2.
(3)
في ت 1، ت 2:"بمخالفتك".
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
ينظر ما تقدم في 2/ 641 - 645.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: سمِعْتُ عبدَ اللهِ بن عبيدِ بنِ عميرٍ يقولُ: نزَلَت -يعنى هذه الآيةَ- {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} إلى قولِه: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} - في عمارِ بنِ ياسرٍ، إذ كان يُعَذَّبُ في اللهِ
(1)
.
وقال آخرون: بل نزَل ذلك مِن أجلِ قومٍ كانوا قد أظْهَروا الإسلامَ بمكةَ وتخَلَّفوا عن الهجرةِ. والفتنةُ التى فُتِن بها هؤلاء القومُ على مقالةِ هؤلاء هي الهجرةُ التي امْتُحِنوا بها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن مطرٍ، عن الشعبيِّ، قال: إنها نزَلَت -يعنى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين- فى أُناسٍ كانوا بمكةَ أقَرُّوا بالإسلامِ، فكتَب إليهم أصحابُ رسولِ
(2)
اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن المدينةِ: إنه لا يُقْبَلُ منكم إقرارٌ
(3)
بالإسلامِ حتى تُهاجِروا. فخرَجوا عامِدين إلى المدينةِ، فاتَّبَعهم المشركون، فرَدُّوهم، فنزَلَت فيهم هذه الآيةُ، فكتَبوا إليهم: إنه قد نزَلَت فيكم آيةُ كذا وكذا. فقالوا: نَخْرُجُ، فإن اتَّبَعَنا أحدٌ قاتَلْناه. قال: فخرَجوا، فاتَّبَعهم المشركون، فقاتَلوهم ثَمَّ، فمنهم مَن قُتِل، ومنهم مَن نجا، فأنزَل اللهُ فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
(1)
أخرجه ابن سعد 3/ 250 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 43/ 375 - وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3032 من طريق حجاج به.
(2)
في ص، ت 1:"نبي"، وفى م:"محمد نبي".
(3)
فى م، ف:"اقرارا".
لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
[النحل: 110].
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَقَدْ فَتَنَّا} . قال: ابْتَلَيْنا
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي هاشمٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . قال: ابْتَلَيْنا الذين مِن قبلِهم
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن أبي هاشمٍ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . أي: ابتلَيْنا
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3031 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 95 عن معمر عن رجل عن الشعبى، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 141 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 534 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 1915 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 141 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
تفسير سفيان ص 235.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3033 من طريق سعيد بن بشير، عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 141 إلى عبد بن حميد.
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}.
يقولُ تعالى ذكره: أم حَسِب الذين يُشْرِكون باللهِ فيعبُدون معه غيرَه، وهم المَعْنِيُّون بقولِه:{الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} - {أَنْ يَسْبِقُونَا} . يقولُ: أن يُعْجِزونا فيَفُوتُونا
(1)
بأنفسِهم، فلا نقدِرَ عليهم، فنَنْتقِمَ منهم لشِرْكِهم باللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} . أى: الشِّرْكَ، {أَنْ يَسْبِقُونَا}
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَنْ يَسْبِقُونَا} : أَن يُعْجِزونا
(3)
.
وقولُه: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . يقولُ تعالى ذكره: ساء حُكْمُهم الذى يَحْكُمون بأن هؤلاء الذين يعمَلون السيئاتِ يَسْبِقوننا بأنفسِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ
(1)
في ت 1: "فيفوتون".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3033 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 141 إلى عبد بن حميد.
(3)
تفسير مجاهد ص 534، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3033، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 141 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
الْعَالَمِينَ (6)}.
يقولُ تعالى ذكره: مَن كان يَرْجُو [اللهَ يومَ لِقائِه]
(1)
، ويطمعُ في ثوابِه، فإن أجلَ اللهِ الذى أجَّله لبَعْثِ خلقِه للجزاءِ والعقابِ - لآتٍ قريبًا.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} . يقولُ: واللهُ الذى يَرْجو هذا الراجي بلقائِه ثوابَه، السميعُ لقولِه: آمَنَّا باللهِ، {الْعَلِيمُ} بصدقِ قِيلِه: إنه قد آمَن. مِن كذبِه فيه.
وقولُه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} . يقولُ: ومَن يجاهدْ عدوَّه مِن المشركين، فإنما يجاهِدُ لنفسِه؛ لأنه يفعلُ ذلك ابتغاءَ الثوابِ مِن اللهِ على جهادِه، والهَرَبِ من العقابِ، فليس باللهِ إلى فعلِه ذلك حاجةٌ، وذلك أن اللهَ غنيٌّ عن جميعِ خلقِه، له الملْكُ والخلقُ والأمرُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} .
يقولُ تعالى ذكره: والذين آمنوا باللهِ ورسولِه، فصَحَّ إيمانُهم عندَ ابتلاءِ اللهِ إيَّاهم، وفِتْنتِه لهم، ولم يرتدُّوا عن أدْيانِهم بأذَى المشركين إياهم، وعمِلوا الصالحاتِ، {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} التى سلَفَت منهم في شِرْكِهم، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يقولُ: ولَنُثِيبَنَّهم على صالحاتِ أعمالِهم في إسْلامِهم، أحسنَ ما كانوا يعمَلون في حالِ شِرْكِهم، مع تكْفيرِنا سيِّئَه
(2)
.
(1)
في ت 2: "لقاء الله يوم القيامة".
(2)
فى م: "سيئات أعمالهم".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} .
يقولُ تعالى ذكره: ووَصَّيْنا الإنسانَ فيما أنزَلْنا إلى رسولِنا بوالديه، أن يفعلَ بهما حُسْنًا.
واختَلَف أهلُ العربيةِ فى وَجْهِ نَصْبِ "الحُسْنِ"؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: نُصِب ذلك على
(1)
نِيَّةِ تكْريرِ "وصينا". وكأن معنى الكلامِ عندَه: ووصَّيْنا الإنسانَ بوالدَيه، وصَّيناه
(2)
حُسْنًا. وقال: قد يقولُ الرجلُ: وصَّيتُه خيرًا. أى: بخيرٍ.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: معنى ذلك: ووصَّيْنا الإنسانَ أن يفعلَ حُسْنًا. ولكن العربَ تُسْقِطُ من الكلامِ بعضَه، إذا كان فيما بَقِى الدلالةُ على ما سقَط، وتُعمِلُ ما بَقِى فيما كان يَعْمَلُ فيه المحذوفُ، فنُصِب قولُه:{حُسْنًا} ، وإن كان المعنى ما وصفتُ "وَصَّينا"؛ لأنه قد نابَ عن الساقطِ. وأنشَد في ذلك
(3)
:
عَجِبْتُ مِن دَهْمَاءَ إِذ تَشْكُونا
ومن أبي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينا
خَيْرًا بها كأنَّنا جافُونا
وقال: معنى قولِه: يُوصِينا خيرًا: أن نفعلَ بها خيرًا. فاكْتَفَى بـ "يوصِينا" منه. وقال: ذلك نحوُ قولِه: {فَطَفِقَ مَسْحًا} [ص: 33]. أى: يَمْسَحُ مَسْحًا.
وقولُه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} .
(1)
بعده في ت 2: "وجه".
(2)
في ص، م، ت 1، ف:"ووصينا".
(3)
تقدم في 14/ 542، 543.
يقولُ: ووَصَّينا الإنسانَ، فقلنا له: إن جاهَدَاك
(1)
والِداك لتُشْرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ أنه ليس لى شَرِيكٌ، فلا تُطِعْهما، فتُشْرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ؛ اتباعَ
(2)
مَرْضاتِهما، ولكن خالِفْهما في ذلك.
{إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} . يقولُ تعالى ذكره: إليَّ معادُكم ومَصِيرُكم يومَ القيامةِ، {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقولُ: فأُخْبِرُكم بما كنتُم في الدنيا تعمَلون، مِن صالحِ الأعمالِ وسيئاتِها، ثم أُجازِيكم عليها؛ المُحْسِنَ بالإحسانِ، والمُسِيءَ بما هو أهلُه.
وذُكر أن هذه الآيةَ نزلَت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بسببِ سعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} إلى قولِه: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال: نزلَت في سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، لمَّا هاجَر قالت أمُّه: واللهِ لا يُظِلُّنى بيتٌ حتى يرجِعَ. فأنزَل اللهُ في ذلك أن يُحْسِنَ إليهما، ولا يُطِيعَهما في الشركِ
(3)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)} .
يقولُ تعالى ذكره: والذين آمنوا باللهِ ورسولِه، وعمِلوا الصالحاتِ مِن الأعمالِ؛ وذلك أن يُؤَدُّوا فرائضَ اللهِ، ويَجْتَنِبوا مَحارمَه، {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي
(1)
فى م: "جاهدك".
(2)
في م: "ابتغاء".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3036 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 142 إلى عبد بن حميد.
الصَّالِحِينَ} فى مُدْخَلِ الصالحين، وذلك الجنةُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)} .
يقولُ تعالى ذكره: ومِن الناسِ مَن يقولُ: أَقْرَرْنا باللهِ فوحَّدْناه، فإذا آذاه المشركون في إقرارِه باللهِ، جعَل فتنةَ الناسِ إياه في الدنيا كعذابِ اللهِ في الآخرةِ، فارْتَدَّ عن إيمانِه باللهِ راجعًا على الكفرِ به، {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} يا محمدُ أهلُ الإيمانِ به، {لَيَقُولُنَّ} هؤلاء المُرْتَدُّون عن إيمانِهم، الجاعِلون فتنةَ الناسِ كعذابِ اللهِ -:{إِنَّا كُنَّا} أيُّها المؤمنون {مَعَكُمْ} نَنْصُرُكم على أعدائكم. كذبًا وإفْكًا. يقولُ اللهُ: أو ليس اللهُ بأعْلَمَ أَيُّها القومُ مِن كلِّ أحدٍ بما في صُدُورِ جميعِ خلقِه؛ القائلين: آمَنَّا باللهِ. فإذا أُوذِى فى اللهِ ارْتَد عن دينِ اللهِ، وغيرِهم؟ فكيف يُخادِعُ مَن كان لا يَخْفَى عليه خافيةٌ، ولا يَسْتَتِرُ عنه سرٌّ ولا علانيةٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} . قال: فتنتُه أَن يَرْتَدَّ عن دينِ اللهِ إذا أُوذِى فى اللهِ
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3038 عن محمد بن سعد به.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى قولِه: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} . قال: أُناسٌ يُؤْمنون بألسنتِهم، فإذا أصابهم بلاءٌ مِن اللهِ، أو مصيبةٌ في أنفسِهم، افتَتَنوا، فجعَلوا ذلك في الدنيا كعذابِ اللهِ فى الآخرةِ
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في
(2)
قولِه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ} الآية
(3)
: ناسٌ مِن المنافقين بمكةَ كانوا يُؤْمنون، فإذا أُوذُوا وأصابهم بلاءٌ من المشركين، رجَعوا إلى الكفرِ؛ مخافةَ مَن يُؤْذِيهم، وجعلوا أذَى الناسِ فى الدنيا كعذابِ اللهِ
(4)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِ اللهِ: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} . قال: هو المنافقُ، إذا أُوذِى في اللهِ رجَع عن الدينِ وكفَر، وجعَل فتنةَ الناسِ كعذابِ اللهِ
(5)
.
وذُكِر أن هذه الآية نزَلَت في قومٍ مِن أهلِ الإيمانِ كانوا بمكةَ، فخرَجوا مُهاجرين، فأُدْرِكوا وأُخِذوا، فأَعْطَوُا المشركين لمَّا نالهم أذاهم ما أرادوا منهم.
(1)
تفسير مجاهد ص 534، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3037، 3038، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 142 إلى الفريابي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. وفيها: بلاء من الناس. بدلًا من بلاء من الله.
(2)
سقط من: م، ف.
(3)
بعده فى م، ف:"نزلت فى".
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 142 إلى المصنف.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3038 من طريق أصبع، عن ابن زيد.
ذكرُ الخبرِ بذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ منصورٍ الرَّماديُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيْريُّ، قال: ثنا محمدُ ابنُ شَرِيكٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان قومٌ مِن أهلِ مكةَ أسْلَموا، وكانوا يَسْتَخْفُون بالإسلامِ
(1)
، فأَخْرَجهم المشركون يومَ بدرٍ معهم، فأُصِيب بعضُهم و [قُتلَ بعضُهم]
(2)
، فقال المسلمون: كان أصحابُنا هؤلاء مسلمين وأُكْرِهوا. فاسْتَغْفَروا لهم، فنزَلَت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97] إلى آخرِ الآيةِ. قال: فكُتِب إلى مَن بقِى بمكةَ من المسلمين بهذه الآيةِ ألا عذرَ لهم، فخرَجوا، فلحِقهم المشركون، فأَعْطَوْهم الفتنةَ، فنزَلَت فيهم هذه الآيةُ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخرِ الآيةِ، فكتَب المسلمون إليهم بذلك، فخرَجوا وأيِسُوا من كلِّ خيرٍ، ثم نزَلَت فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} [النحل: 110]. فكتَبوا إليهم بذلك: إن اللهَ قد جعَل لكم مخرجًا. فخرَجوا، فأدْركَهم المشركون، فقاتَلوهم، حتى نجا مَن نجا، وقُتِل من قُتِل
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} إلى قولِه: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} . قال: هذه الآياتُ أُنزِلَت في القومِ الذين ردَّهم
(4)
المشركون إلى مكةَ، وهذه الآياتُ العشْرُ مَدَنيةٌ
(1)
فى م، ف:"بإسلامهم".
(2)
في ص، م، ت 1، ف "قبل بعض".
(3)
تقدم تخريجه في 7/ 381، 382، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3037 عن أحمد بن منصور به.
(4)
فى ص، ت 1، ت 2:"ردوهم".
إلى هاهنا، وسائرُها مكيٌّ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} .
يقولُ تعالى ذكره: ولَيَعْلَمَنَّ
(2)
أولياءُ اللهِ وحِزْبُه أَهلَ الإيمانِ باللهِ منكم أيُّها القومُ، وليَعْلَمُنَّ المنافقين منكم، حتى يَمِيزُوا؛ كلَّ فريقٍ منكم مِن الفريقِ الآخرِ، بإظهارِ اللهِ ذلك منكم بالمحنِ والابتلاءِ والاختبارِ، وبمسارعةِ المُسارِعِ منكم إلى الهجرةِ من دارِ الشركِ إلى دارِ الإسلامِ، وتَثَاقُلِ المُتَثاقِلِ منكم عنها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكره: وقال الذين كفَروا باللهِ مِن قريشٍ للذين آمنوا باللهِ منهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} . يقولُ: قالوا: كونوا على مثلِ ما نحن عليه من التَّكْذيبِ بالبعثِ بعدَ المماتِ، وجُحُودِ الثوابِ والعقابِ على الأعمالِ، {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}. يقولُ: قالوا: فإنكم إن اتَّبَعْتُم سبيلَنا في ذلك، فبُعِثْتُم
(3)
بعدَ المَماتِ، وجُوزِيتُم على الأعْمالِ، فإنا نتحمَّلُ آثامَ
(4)
خطاياكم حينَئذٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 141، 142 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده فى م: "الله".
(3)
سقط من: ت 1، ت 2.
(4)
في ص: "آثاكم"، وفى ت 1:"آثامكم"، وفي ت 2:"إياكم".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} . قال: قولُ كفارِ قريشٍ بمكةَ لمَن آمَن منهم، يقولُ: قالوا: لا نُبْعَثُ نحن ولا أنتم، فاتَّبِعونا، إن كان عليكم شيءٌ فهو علينا
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : هم القادةُ مِن الكفارِ، قالوا لمَن آمَن مِن الأتْباعِ: اترُكوا دينَ محمدٍ واتَّبِعوا دينَنا
(2)
.
وهذا -أعنى قولَه: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} - وإن كان خرَج مَخْرَجَ الأمرِ، فإن فيه تأويلَ الجزاءِ، ومعناه ما قلتُ: إن اتَّبَعتُم سبيلَنا حَمَلْنا خَطاياكم. كما قال الشاعرُ
(3)
:
فقُلْتُ ادْعِى وأَدْعُ فَإِنَّ أَنْدَى
…
لِصَوْتٍ أَنْ يُنادِيَ دَاعِيَانِ
يريدُ: ادْعِى ولأَدْعُ. ومعناه: إِن دَعَوْتِ دَعَوتُ.
وقولُه: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . وهذا
(1)
تفسير مجاهد ص 534، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3039، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 142 إلى الفريابي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3039 من طريق أبي معاذ به.
(3)
البيت غير منسوب فى معانى القرآن للفراء 2/ 413، ومجالس ثعلب ص 524، واللسان (ل و م)، ونسبه في الكتاب 3/ 45 إلى الأعشى، ونسبه فى أمالي القالي 2/ 90 إلى الفرزدق، ونسبه في السمط 2/ 726، واللسان (ن د ى) إلى دثار بن شيبان، ونسبه فى شرح المفصل 7/ 33 إلى ربيعة بن جشم، ونسبه فى شرح التصريح 2/ 239 إلى الأعشى أو الحطيئة.
تَكْذيبٌ مِن اللهِ للمشركين القائِلين للذين آمَنوا: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وكَذَبوا في قِيلِهم ذلك لهم، ما هم بحامِلِين مِن آثامِ
(1)
خَطاياهم من شيءٍ، {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما قالوا لهم ووَعَدوهم، مِن حَمْلِ خَطاياهم إن هم اتَّبَعوهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} .
يقولُ تعالى ذكره: وليحْمِلُنَّ هؤلاء المشركون باللهِ القائلون للذين آمنوا به: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} - أوزارَ أنفسِهم وآثامَها، وأوزارَ من أضلُّوا وصدُّوا عن سبيلِ اللهِ مع أوزارِهم، {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا} يَكْذِبونهم في الدنيا، بوعدِهم إياهم الأباطيلَ، وقيلِهم لهم:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} . فيفتَرون الكذبَ بذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} . أى: أوزارَهم، {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. يقولُ: وأوزارَ مَن أَضَلُّوا
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} . وقَرأ قولَه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3040 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 142 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]. قال: فهذا قولُه: {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)} .
وهذا وعيدٌ مِن اللهِ تعالى ذكره لهؤلاء المشركين مِن قريشٍ، القائلين للذين آمنوا:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} . يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لا يَحْزُنْك
(1)
يا محمدُ ما تَلْقَى مِن هؤلاء المشركين أنت وأصحابُك من الأذَى، فإنى وإن أملَيتُ لهم، فأطَلتُ إملاءَهم، فإن مصيرَ أمرِهم إلى البَوارِ، ومصيرَ أمرِك وأمرِ أصحابِك إلى العُلُوِّ والظَّفَرِ بهم، والنَّجَاةِ مما يَحِلُّ بهم من العقابِ؛ كفعلِنا ذلك بنوحٍ، إذ أرسَلناه إلى قومِه، فلَبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى توحيدِ اللهِ وفِراقِ الآلهةِ والأوثانِ، فلم يَزِدْهم ذلك مِن دُعائه إياهم إلى اللهِ، مِن الإقبال إليه، وقبولِ ما أتاهم به من النصيحةِ من عندِ اللهِ - إلا فِرارًا.
وذُكر أنه أُرسل إلى قومِه وهو ابنُ ثلاثمائةٍ وخمسين سنةً.
كما حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ الجَهْضَمِيُّ، قال: ثنا نوحُ بنُ قيسٍ، قال: ثنا عونُ ابنُ أَبي شَدَّادٍ، قال: إن اللهَ أرسَل نوحًا إلى قومِه وهو ابنُ خمسين وثلاثِمائةِ سنةٍ، فلَبِث فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا، ثم عاشَ بعد ذلك خمسين وثلاثَمائةِ سنةٍ
(1)
{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} . يقولُ تعالى ذكره: فأهْلَكهم الماءُ الكثيرُ. وكلُّ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3042 من طريق نصر بن على به.
ماءٍ كثيرٍ فاشٍ طامٍّ فهو عندَ العربِ طُوفانٌ؛ سَيْلًا كان أو غيرَه، وكذلك الموتُ إذا كان فاشيًا كثيرًا، فهو أيضًا عندَهم طُوفانٌ، ومنه قولُ الراجزِ
(1)
:
أَفْنَاهُمُ طُوفانُ موتٍ جارِفِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} . قال: هو الماءُ الذى أُرسل عليهم
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ: الطوفانُ الغَرَقُ
(3)
.
وقولُه: {وَهُمْ ظَالِمُونَ} . يقولُ: وهم ظالِمون أنفسَهم بكفرِهم بربِّهم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأنْجَينا نوحًا وأصحابَ سفينتِه، وهم الذين حمَلهم في سفينتِه من ولدِه وأزواجِهم.
وقد بَيَّنَّا ذلك فيما مضَى قبلُ، وذكَرنا الرواياتِ فيه، فأغنَى ذلك عن إعادتِه
(1)
الرجز فى مجاز القرآن 2/ 114، وتفسير القرطبي 13/ 334 غير منسوب.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 100 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3042 من طريق جوبير، عن الضحاك.
(4)
سقط من: م، ف.
في هذا الموضعِ
(1)
.
{وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} . يقولُ: وجعلنا السفينةَ التي أنْجَيناه وأصحابَه فيها عبرةً وعظةً للعالمين، وحُجَّةً عليهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} الآية. قال: أبْقاها اللهُ آيةً للناسِ بأعلَى الجُودِيِّ
(2)
.
ولو قيل: معنى قولِه: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} : وجعَلنا عقوبتنا إياهم آيةً للعالَمين. وجُعِل الهاءُ والألفُ فى قولِه: {وَجَعَلْنَاهَا} كنايةً عن العقوبةِ أو السَّخَطِ ونحوِ ذلك، إذ كان قد تقدَّم ذلك
(3)
قولُه: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} - كان وَجْهًا مِن التأويلِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذْكُر أيضًا يا محمدُ إبراهيمَ خليلَ الرحمنِ، إذ قال لقومِه: اعبُدوا اللهَ أيُّها القومُ، دونَ غيرِه من الأوثانِ والأصنامِ، فإنه لا إلهَ لكم غيرُه، {وَاتَّقُوهُ}. يقولُ: واتَّقوا سَخَطَه بأداءِ فرائضِه، واجتنابِ
(1)
ينظر ما تقدم فى 12/ 410 وما بعدها.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3043 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
بعده فى م: "في".
معاصيه، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما هو خيرٌ لكم مما هو شرٌّ لكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} .
يقولُ تعالى ذكره مخبرًا عن قيلِ خليلِه إبراهيمَ لقومِه: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ} أيها القومُ {مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} . يعنى: مُثُلًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} : أصنامًا
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وتصنعون كذبًا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} . يقولُ: تصنعون كذبًا
(2)
.
وقال آخرون: وتقولون كذبًا.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3043 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3044 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 143 إلى ابن المنذر.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} . يقولُ: وتقولون إفكًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} . يقولُ: تقولون كذبًا
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتَنْحِتون إفكًا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخُرَاسانيِّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} . قال: تَنْحِتون، تُصوِّرون إفكًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أي: تصنَعون أصنامًا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} : الأوثانَ التي ينحِتونها بأيديهم.
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: وتصنعون كذبًا. وقد
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3044 عن محمد بن سعد به.
(2)
تفسير مجاهد ص 534، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 143 إلى الفريابي.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3044، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد.
بيَّنا معنى "الخَلْقِ" فيما مضى بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
فتأويلُ الكلامِ إذن: إنما تعبدون من دونِ اللهِ أوثانًا، وتصنعون كذبًا وباطلًا. و "إنما" في قولِه:{إِفْكًا}
(2)
. مردودٌ على {إِنَّمَا} ، كقولِ القائلِ: إنما تفعلون كذا، وإنما تفعلون كذا
وقرَأ جميعُ قرأةِ الأمصارِ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} بتخفيفِ الخاءِ من قولِه: {وَتَخْلُقُونَ} وضمِّ اللامِ، من "الخَلْقِ". وذُكِر عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلميِّ أنه قرَأ:(وَتَخَلَّقُونَ إفْكًا) بفتح الحاء وتشديد اللامِ، من "التخلُّقِ"
(3)
.
والصوابُ من القراءةِ عندنا في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ؛ لإجماعِ الحجَّةِ من القرأةِ عليه.
وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: إنَّ أوثانَكم التى تعبدونها لا تَقْدِرُ أنْ ترزقَكم شيئًا، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}. يقولُ: فالتمسوا عندَ اللهِ الرزقَ، لا مِن عندِ أوثانِكم، تُدركوا ما تبتغون من ذلك، {وَاعْبُدُوهُ}. يقولُ: وذِلُّوا له، {وَاشْكُرُوا لَهُ} على رزقِه إياكم، ونعمِه التي أنعمَها عليكم.
يقالُ: شكرتُه. و "شكرتُ له" أفصحُ من "شكرتُه".
وقولُه: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . يقولُ: إلى اللهِ تُرَدّون من بعدِ مماتِكم، فيُسائلُكم
(4)
عما أنتم عليه من عبادتِكم غيرَه، وأنتم عبادُه وخلْقُه، وفي نعَمِه
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 453.
(2)
مراد المصنف "إنما" المقدرة فى قوله: "وتخلقون إفكا"، وفى معانى القرآن للفراء 2/ 315:"وتخلقون إفكا" مردودة على "إنما".
(3)
في م: "التخليق". وهى قراءة عون العقيلى وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن على. ينظر البحر المحيط 7/ 145.
(4)
فى م: "فيسألكم".
تتقلَّبون، ورزقَه تأكلون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: وإن تُكَذِّبوا أيها الناسُ رسولَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه من عبادَةِ ربِّكم الذى خلَقكم ورزَقكم، والبراءةِ من الأوثانِ، فقد كَذَّبت جماعاتٌ من قبلِكم رسلَها، فيما دعَتهم إليه الرسلُ من الحقِّ، فحَلَّ بها من اللهِ سخطُه، ونزَل بها منه عاجلُ عقوبةٍ، فسبيلُكم سبيلُها فيما هو نازلٌ بكم بتكذيبِكم إياه، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. يقولُ: وما على محمدٍ إلا أنْ يبلِّغَكم عن اللهِ رسالتَه، ويؤدِّيَ إليكم ما أمَره بأدائِه إليكم ربُّه.
ويعني بـ: {الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : الذى يَبِينُ لمن سمِعه ما يُرادُ به، ويُفهَمُ به ما يُعنَى به.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه: أو لم يروا كيف يستأنفُ اللهُ خَلْقَ الأشياءِ طِفلًا صغيرًا، ثم غلامًا يافعًا، ثم رجلًا مجتمِعًا، ثم كَهلًا؟
يقالُ منه: أبدَأ وأعاد، وبدَأ وعاد. لغتان بمعنًى واحدٍ.
وقولُه: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} . يقولُ: ثم هو يُعيدُه من بعدِ فنائه وبِلاه، كما بدَأه أوَّلَ مرّةٍ خَلْقًا جديدًا، لا يتعذَّرُ ذلك عليه، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} ؛ سهلٌ كما كان يسيرًا عليه إبداؤُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ في قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} : البَعْثُ
(1)
بعدَ الموتِ
(2)
.
وقولُه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكره لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ للمُنْكرِين البعثَ
(3)
بعدَ المَماتِ، الجاحِدِين الثوابَ والعقابَ:{سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} اللهُ {الْخَلْقَ
(4)
}؛ الأشياءَ، وكيف أنشَأها وأَحْدَثها، وكما أوجَدها وأحْدَثها ابتداءً فلم يَتَعَذَّرْ عليه إحْداثُها مُبْدِئًا، فكذلك لا يَتَعذَّرُ عليه إنشاؤُها
(5)
مُعِيدًا. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} . يقولُ: ثُمَّ اللهُ يُبْدِئُ ذلك
(6)
البَدْأَةَ الآخِرَةَ بعدَ الفناءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} : خَلْقَ السماواتِ والأرضِ، {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}. أى: البعثَ بعدَ الموتِ
(7)
.
(1)
في م: "بالبعث".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3045 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
فى م: "للبعث".
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
في ت 2: "إنشاره".
(6)
سقط من: ت 2، وفى م:"تلك".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3046 من طريق يزيد به، وهو تمام الأثر قبله.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} . قال: هي الحياةُ بعدَ الموتِ، وهو النشورُ
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكره: إن اللهَ على إنْشاءِ جميعِ خلقِه بعدَ إفْنائِه، كهيئتِه قبلَ فَنائِه، وعلى غيرِ ذلك مما يشاءُ فِعْلَه - قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ أرادَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)} .
يقولُ تعالى ذكره: ثم اللهُ يُنْشِئُ النشأةَ الآخِرةَ خَلْقَه مِن بعدِ فَنَائِهم، فيعذِّبُ مَن يشاءُ منهم على ما أسْلَفَ مِن جُرْمِه فى أيام حياتِه، ويرحمُ مَن يشاءُ منهم مِمَّن تابَ وآمنَ وعمِل صالحًا، {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}. يقولُ: وإليه تُرجَعون وتُرَدُّون.
وأما قولُه: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} . [فَإِن ابنَ زِيدٍ قال فى ذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}]
(2)
. قال: لا يُعْجِزُه أَهلُ الأَرَضِين فى الأَرضِين، ولا أهلُ السماواتِ فى السماواتِ، إن عصَوه. وقرَأ:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
(3)
[سبأ: 3].
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3047 من طريق أصبع، عن ابن زيد.
وقال في ذلك بعضُ أهل العربيةِ من أهلِ البصرةِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [وَلَا فِي السَّمَاءِ} . أى: لا يُعجِزُوننا مع ذلك، ما أنتم بمعجزين في الأرضِ]
(1)
، ولَا مَنْ فِي السماءِ مُعْجِزِين. قال: وهو مِن غامضِ العربيةِ؛ للضميرِ الذي لم يظهَرْ فى الثانى. قال: ومثلُه قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ
(2)
:
أَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللهِ مِنْكُمْ
…
ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَوَاءُ
أراد: ومَن ينصُرُه ويمدَحُه. فأضمَر (مَنْ). قال: وقد يقعُ في وَهْمِ السامعِ أن النصرَ والمدحَ [لـ"مَن"]
(3)
هذه الظاهرةِ، ومثلُه فى الكلامِ: أكرِمْ مَن أتاك وأتَى أباك، وأكرِمْ مَن أتاك ولم يأتِ زيدًا. تريدُ: ومن لم يأتِ زيدًا. فيَكْتَفى باخْتلافِ الأفعالِ مِن إعادةِ "مَن"، كأنه قال: أمَنْ يَهْجُو، ومَن يمدَحُه، ومَن يَنصُرُه. ومنه قولُ اللهِ عز وجل:{وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10].
وهذا القولُ
(4)
أصحُّ عندى فى المعنى من القولِ الآخَرِ. ولو قال قائلٌ
(5)
: معناه: ولا أنتم بمُعْجزين في الأرضِ، ولا أنتم لو كنتُم في السماءِ بمُعْجزِين. كان مذهبًا.
وقولُه: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . يقولُ: وما كان لكم أيُّها الناسُ مِن دونِ اللهِ مِن ولىٍّ يَلى أمورَكم، ولا نصيرٍ ينصُرُكم مِن اللهِ، إن أرادَ بكم سُوءًا، ولا يمنعُكم
(6)
منه إن أحلَّ بكم عقوبتَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ
(1)
سقط من: م، ت 1. وسقط من الكلام قول بعض أهل العربية من أهل البصرة، وهو الأخفش كما في تهذيب اللغة 1/ 340، قال: معناه: ما أنتم بمعجزين فى الأرض ولا في السماء. أي: لا تعجزوننا هربا في الأرض ولا في السماء. وما سيذكره المصنف بعده هو قول الفراء إمام أهل الكوفة في معاني القرآن 2/ 315.
(2)
ديوانه ص 76.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"أعنى".
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"الآخر".
(5)
وهو قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. ينظر تهذيب اللغة 1/ 340.
(6)
في ت 2: "ينفعكم".
يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}.
يقولُ تعالى ذكره: والذين كفَروا بحُجَجِ اللهِ، وأنكَروا أدلَّتَه، وجحَدوا لقاءَه والورودَ عليه يوم تقومُ الساعةُ، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}. يقول تعالى ذكره: أولئك يَئِسوا مِن رحمتِي فى الآخرةِ؛ لمَّا عايَنوا ما أُعِدَّ لهم مِن العذابِ، فأولئك لهم فيها
(1)
عذابٌ مُوجِعٌ.
فإن قال قائلٌ: وكيف اعْتَرَضَ بهذه الآياتِ من قولِه: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى قولِه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وترَك ضميرَ قولِه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} . وهو مِن قصةِ إبراهيمَ. وقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قولِه: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟
قيل: فعَل ذلك كذلك؛ لأن الخبرَ عن أمرِ نوحٍ وإبراهيمَ وقومِهما، وسائرِ مَن ذَكَر اللهُ مِن الرسلِ والأممِ فى هذه السورةِ وغيرِها، إنما هو تذكيرٌ مِن اللهِ تعالى ذكره به الذين يبتدئُ بذِكْرِهم قبلَ الاعْتراضِ بالخبرِ، وتحذيرٌ منه لهم أن يَحِلَّ بهم ما حَلَّ بهم، فكأنه قيل فى هذا الموضعِ: فاعبُدوه واشكُروا له إليه ترجعون، فكذَّبْتُم أنتم معشرَ قريشٍ رسولكم محمدًا، كما كَذَّب أولئك إبراهيمَ. ثم جعَل مكانَ "فَكَذَّبْتُم":{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} . إذ كان ذلك يدُلُّ على الخبرِ عن تَكْذيبِهم رسولَهم، ثم عادَ إلى الخبرِ عن إبراهيمَ وقومِه، وتَتْمِيمِ قصتِه وقصتِهم بقولِه:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)} .
(1)
سقط من: م.
يقولُ تعالى ذكره: فلم يكن جوابَ قومِ إبراهيمَ له إذ قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . إلا أن قال بعضُهم لبعضٍ: اقتُلوه أو حرِّقوه بالنارِ. ففعَلوا، فأرَادوا إحراقَه بالنارِ، فأضرَموا له النارَ، فألْقوه فيها: فأنجاه اللهُ منها، ولم يُسَلِّطْها عليه، بل جعَلها عليه بَرْدًا وسلامًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه: فما كان جوابَ قومِ إبراهيمَ {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} . قال: قال كعبٌ: ما حَرَقت منه إلا وَثاقَهُ
(1)
.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: إن في إنجائِنا لإبراهيمَ من النارِ وقد أُلقى فيها وهى تَسَعَّرُ، وتَصْييرِناها عليه بردًا وسلامًا - لأدلةً وحُجَجًا لقومٍ يُصدِّقون بالأدلةِ والححجِ، إذا عايَنوا ورأَوا.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} .
يقولُ تعالى ذِكرُه مخبرًا عن قيلِ إبراهيمَ لقومِه: وقال إبراهيمُ لقومِه: يا قومِ، {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} .
واختلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والشام وبعضُ الكوفيين: (مَوَدَّةً). بنصب "مودة" بغير إضافةٍ، "بينَكم" بنصبِها
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه في 16/ 307.
(2)
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر وأبو جعفر وخلف. ينظر النشر 2/ 257.
وقرَأ ذلك بعضُ الكوفيين: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} . بنصبِ "المودَّةِ" وإضافتِها إلى قوله: {بَيْنِكُمْ} ، وخفضِ {بَيْنِكُمْ}
(1)
.
وكأنَّ هؤلاء الذين قرءوا قوله: (مَوَدَّة). نصبًا، وجَّهوا معنى الكلامِ إلى: إنما اتخذتم أيُّها القومُ أوثانًا مودةً بينَكم. فجعَلوا "إنما" حرفًا واحدًا، وأوقَعوا قولَه:{اتَّخَذْتُمْ} على الأوثانِ، فنصَبوها، بمعنى: اتخَذتموها مودّةً بينَكم في الحياةِ الدنيا، تتحابُّون على عبادتِها، وتَتَوادُّون على خدمتِها، فتتواصَلون عليها.
وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ أهلِ مكةَ والبصرةِ: (مودَّةُ بَيْنِكُمْ). برفعِ "المودةِ"، وإضافتِها إلى "البينِ"، وخفضِ "البينِ"
(2)
. وكأن الذين قرَءوا ذلك كذلك، جعَلوا "إِنَّ مَا" حرفين، بتأويلِ: إن الذين اتخذَتم من دونِ اللهِ أوثانًا، إنما هو مودّتُكم للدنيا. فرفعوا "مودة" على خبرِ إنَّ. وقد يجوزُ أن يكونوا على قرَاءتِهم ذلك رفعًا بقولِه:"إنما" أن تكونَ حرفًا واحدًا، ويكونَ الخبرُ متناهيًا عندَ قولِه:{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} . ثم يبتدئُ الخبرَ فيقالُ: ما مودتُكم تلك الأوثانَ بنافعتِكم، إنما مَوَدَّةُ بينِكم في حياتِكم الدنيا، ثم هي منقطعةٌ. وإذا أُريد هذا المعنى كانت المَودَّةُ مرفوعةً بالصفةِ بقولِه:{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . وقد يجوزُ أن يكونوا نوَوا
(3)
برفعِ المَودَّةِ، رفعَها على ضميرِ "هي"
وهذه القراءاتُ الثلاثُ مُتقارباتُ المعانى؛ لأن الذين اتَّخَذوا الأوثانَ آلهةً يعبدونها، اتَّخَذوها مودةَ بَيْنهم، وكانت لهم فى الحياةِ الدنيا مودةً، ثم هي عنهم منقطعةٌ. فبأىِّ ذلك قرَأ القارئُ فمُصيبٌ؛ لتقارُبِ معانى ذلك، وشهرةِ
(1)
وبها قرأ حمزة وحفص وروح. النشر 2/ 257.
(2)
وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس. المصدر السابق.
(3)
في م: "أرادوا"، وفى ت 1:"يروا".
القراءةِ بكلِّ واحدةٍ منهنَّ في قرأةِ الأمصارِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . قال: صارتْ كلُّ خُلَّةٍ فى الدنيا عَداوةً على أهْلِها يومَ القيامةِ، إلا خُلَّةَ المُتَّقِين
(1)
.
وقولُه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . يقولُ تعالى ذكره: ثم يومَ القيامةِ أيُّها المُتَوادُّون على عبادةِ الأوثانِ والأصنامِ، والمُتواصِلون على خِدْماتِها عندَ وُرُودِكم على ربِّكم، ومُعاينتِكم ما أعَدَّ اللهُ لكم على التَّواصُلِ والتَّوَادِّ فى الدنيا، مِن أليمِ العذابِ، {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}. يقولُ: يَتبرَّأُ بعضُكم مِن بعضٍ، ويلعنُ بعضُكم بعضًا.
وقولُه: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} . يقولُ جل ثناؤُه: ومصيرُ جميعِكم أيُّها العابِدون الأوثانَ، وما تعبُدون - النارُ. {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. يقولُ: وما لكم أيُّها
(2)
المُتَّخِذون الآلهةَ مِن دونِ اللهِ مودةَ بينِكم، مِن أنصارٍ ينصُرونكم مِن اللهِ، حينَ يُصْلِيكم نارَ جهنمَ، فيُنْقِذوكم
(3)
مِن عذابِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3048 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في م: "القوم".
(3)
في م: "فينقذونكم".
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)}.
يقولُ تعالى ذكره: فصدَّق إبراهيم خليلَ اللهِ لوطٌ، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}. يقولُ: وقال إبراهيمُ: إنى مُهاجِرٌ دارَ قومى {إِلَى رَبِّي} ، إلى الشامِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} . قال: صدَّق لوطٌ، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}. قال: هو إبراهيمُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} . أى: فصدَّقه لوطٌ، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}. قال: هاجَرا جميعًا مِن كُوثَى، وهى مِن سَوادِ الكوفةِ إلى الشامِ. قال: وذُكر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "إنَّها سَتَكُونُ هِجْرةٌ بعدَ هِجْرةٍ، يَنْحازُ أهلُ الأَرضِ إِلى مُهاجَرِ إبراهيمَ، ويَبْقَى فى الأرضِ شِرارُ أهْلِها، حتى تَلْفِظُهم وتَقْذَرَهم، وتَحْشُرَهم النارُ مع القِرَدةِ والخنازيرِ"
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} . قال: صدَّقه لوطٌ، صدَّق إبراهيمَ. قال: أرأيتَ المؤمنين، أليس آمنوا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3050 عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 144 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3050 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما جاء به؟ قال: فالإيمانُ التَّصْديقُ. وفي قولِه: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} . قال: كانت هِجْرتُه إلى الشامِ.
وقال ابنُ زيدٍ في حديثِ الذئبِ الذى كلَّم الرجلَ، فأَخبَر به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فآمَنْتُ له
(1)
وأبو بكرٍ وعمرُ"
(2)
. وليس أبو بكرٍ ولا عمرُ معه. يعني "آمنتُ له": صَدَّقْتُه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ في قولِه:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} . قال: إلى حَرَّانَ، ثم أُمِر بعدُ بالشامِ الذى هاجَر إبراهيمُ، وهو أوَّلُ مَن هاجَر. يقولُ:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ} ، إبْراهِيمُ:{إِنِّي مُهَاجِرٌ} الآية
(3)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} : إبراهيمُ القائلُ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}
(4)
.
وقولُه: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقولُ: إن ربِّى هو العزيزُ الذي لا يَذِلُّ مَن نَصَرَه، ولكنه يمنعُه مِمَّن أرادَه بسُوءٍ، وإليه هِجْرتُه، الحكيمُ في تَدْبيرِه خلقَه، وتَصْريفِه إياهم فيما صَرَّفهم فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} .
(1)
بعده في م: "أنا".
(2)
أخرجه أحمد 12/ 305 (7351)، والبخارى (3471)، ومسلم (2388) وغيرهم من حديث أبي هريرة.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى ابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى ابن المنذر، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 282.
يقولُ تعالى ذكره: ورَزَقْناه مِن لَدُنَّا إسحَاقَ ولدًا، وَيَعْقُوبَ مِن بعدِه وَلَدَ وَلَدٍ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} . قال: هما ولدا إبراهيمَ
(1)
.
وقولُه: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} . بمعنى الجمعِ؛ يرادُ به الكتبُ، ولكنه خرَجَ مَخْرَجَ قولِهم: كَثُر الدرهمُ والدينارُ عندَ فلانٍ.
وقولُه: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} . يقولُ تعالى ذكره: وأعْطيناه ثوابَ بلائِه فينا فى الدنيا، {وَإِنَّهُ} مع ذلك {فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . فله هنالك أيضًا جزاءُ الصالحين، غيرَ مُنْتَقَصٍ حَظُّه بما أُعطِى في الدنيا مِن الأجرِ على بلائِه في اللهِ، عما له عندَه في الآخرةِ.
وقيل: إن الأَجْرَ الذى ذكَره اللهُ عز وجل أنه آتاه إبراهيمَ في الدنيا، هو الثناءُ الحسنُ، والولدُ الصالحُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} . قال: الثناءُ
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن لَيْثٍ، قال: أرسَل مجاهدٌ رجلًا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3052 عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 144 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3053 من طريق ليث، عن مجاهد.
يقالُ له: قاسمٌ. إلى عكرمةَ يسألُه عن قولِه: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . قال: فقال: أجرُه في الدنيا أن كلَّ مِلَّةٍ تتولَّاه، وهو عندَ اللهِ مِن الصالحين. قال: فرجَع إلى مجاهدٍ، فقال: أصابَ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن مِنْدَلٍ، عمَّن ذكَره، عن ابنِ عباسٍ:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} . قال: الولدُ الصالحُ والثناءُ
(1)
.
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} . يقولُ: الذِّكْرُ الحسنُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} . قال: عافيةً، وعملًا صالحًا، وثناءً حَسَنًا، فلستَ تلَاقى
(3)
أحدًا مِن المِلَلِ إلا يَرضَى
(4)
إبراهيمَ ويَتَولَّاه، {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
(5)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ لوطًا إذ قال لقومِه: أئنَّكم لَتأتون الذُّكْرانَ، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} - يعنى بالفاحشةِ التي كانوا يأتونها، وهى إتيانُ الذُّكْرانِ، {مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} .
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3052، من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 144، إلى ابن المنذر، بلفظ: الثناء.
(3)
في ص، م:"بلاق"، وفي ت 1:"تلاق".
(4)
في م: "يرى".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3052، من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 143 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ خالدِ بنِ خداشٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا إسماعيلُ بنُ علَيَّةَ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ فى قولِه:{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} . قال: ما نَزَا ذَكَرٌ على ذَكَرٍ حتى كان قومُ لوطٍ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)[قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ]
(2)
(30)}.
يقولُ تعالى ذكره مُخبرًا عن قيلِ لوطٍ لقومِه: {أَئِنَّكُمْ} أيُّها القومُ، {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} فى أدْبارِهم، {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}. يقولُ: وتقطَعون المُسافرين عليكم
(3)
بفعلِكم الخبيثِ. وذلك أنهم فيما ذُكِر عنهم كانوا يفعلون ذلك بَمَن مَرَّ عليهم من المُسافرين، ومَن وَرَد بلدَهم
(4)
مِن الغُرباءِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} . قال: السبيلُ الطريقُ. المسافرُ إذا مرَّ بهم، وهو ابنُ السبيلِ، قَطَعوا به، وعمِلوا به ذلك العمل الخبيثَ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3054، وابن عساكر في تاريخه 50/ 319، من طريق ابن علية به.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3، وينظر ما سيأتى فى ص 393 حاشية (1).
(3)
في ص، ت 2:"عليهم".
(4)
فى م: "بلادهم".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 293، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3054 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
وقولُه: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في المنكرِ الذي عَناه اللهُ، الذى كان هؤلاء القومُ يأتُونه في نادِيهم؛ فقال بعضُهم: كان ذلك أنهم كانوا يَتَضارَطُون في مجالسِهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ، قال: ثنا محمدُ بنُ ربيعةَ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ غُطَيفٍ
(1)
الثقفىُّ، عن عمرَ
(2)
بنِ مُصْعبٍ، عن عُروةَ بنِ الزبيرِ، عن عائشةَ في قولِه:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قالت
(3)
: الضُّراطَ
(4)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك أنهم كانوا يَحْذِفون مَن مَرَّ بهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا أبو أُسامةَ، عن حاتمِ بنِ أبي صَغيرةَ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن أبي صالحٍ، عن أمِّ هانئ، قالت: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قولِه: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: "كانوا يَحْذِفُون أهل الطريقِ، ويَسْخَرون منهم". فهو المنكرُ الذي كانوا يأتُون
(5)
.
حدَّثنا الربيعُ، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا أبو أُسامةَ، بإسنادِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه.
(1)
فى م: "عطيفة". وينظر الجرح والتعديل 3/ 495.
(2)
في ص، م، ت 1:"عمرو"، وينظر جمهرة نسب قريش 1/ 317، والتاريخ الكبير 6/ 196، وترجم له فى من اسمه "عمرو" فى 6/ 372، وفى لسان الميزان 4/ 331.
(3)
في النسخ: "قال". والمثبت من مصادر التخريج.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 294، وأخرجه البخارى فى التاريخ الكبير 6/ 196 من طريق محمد بن ربيعة، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3054 من طريق روح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 144 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 295، 296، وأخرجه أحمد 6/ 341 (الميمنية)، والترمذى (3190)، وابن أبي الدنيا في الصمت (282)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3054، والطبراني 24/ 412 (1001)، والحاكم 2/ 409 من طريق أبي أسامة به.
حدَّثنا أحمد بن عبدةَ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا سُلَيمُ
(1)
بنُ أَخضرَ، قال: ثنا أبو يونسَ القُشَيرِيُّ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن أبي صالحٍ مولى أمِّ هانئٍ، أن أمَّ هانئٍ سُئِلت عن هذه الآيةِ:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . فقالت: سألتُ عنها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"كانوا يَحْذِفُون أَهْلَ الطَّريقِ، ويَسْخَرون مِنهم"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ أبي زائدةَ، قال: سمِعتُ عكرمةَ يقولُ فى قولِه: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: كانوا يُؤْذُون أهلَ الطريقِ؛ يحذِفون مَن مَرَّ بهم
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن عمرَ بنِ أبي زائدةَ، قال: سمِعتُ عكرمةَ قال: الحَذْفُ
(4)
.
حدَّثنا موسي، قال: أخبَرنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: كان كلُّ مَن مَرَّ بهم حَذَفوه، فهو المنكرُ
(5)
.
حدَّثنا الربيعُ، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا سعيدُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا حاتمُ بنُ أبي صَغيرةَ، قال: ثنى سِماكُ بنُ حربٍ، عن باذامَ
(6)
أبي صالحٍ، مولى أمِّ هانئٍ، عن أمِّ هانئٍ، قالت: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيةِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: "كانوا يَجْلِسون بالطريقِ فيَحْذِفون أبناءَ السبيلِ
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"سليمان". وينظر تهذيب الكمال 11/ 338.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 296، وأخرجه الترمذي عقب الحديث (3190) عن أحمد بن عبدة به.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 293.
(4)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 294، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 294.
(6)
بعده في م: "عن".
ويَسْخَرون منهم"
(1)
.
وقال بعضُهم: بل كان ذلك إتيانهم الفاحشة في مجالسِهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان يأتى بعضُهم بعضًا في مجالسِهم. يعنى قولَه: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}
(2)
.
حدَّثنا سليمانُ بنُ عبد الجبار، قال: ثنا ثابتُ بنُ محمدٍ الليثىُّ، قال: ثنا فُضَيلُ ابنُ عِياضٍ، عن منصورِ بنِ المعتمرِ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: كان يجامعُ بعضُهم بعضًا في المجالسِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: كان يأتى بعضُهم بعضًا في المجالسِ (2).
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سُفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: كانوا يُجامِعون الرجالَ
(4)
في مجالسِهم
(5)
.
(1)
أخرجه الطبرانى 24/ 411 (1000) من طريق سعيد به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3054، والطبراني 24/ 412 (1001)، وابن عدى 3/ 1214، والحاكم 4/ 283، والبيهقي في الشعب (6755) 24/ 412 والشاشي -كما في الدر المنثور 5/ 144 ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 50/ 323 من طريق أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة به، وأخرجه الطيالسي (1722)، والطبراني 24/ 412 (1002) من طريق سماك به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 294.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 294. وأخرجه الخرائطى فى مساوئ الأخلاق (447) من طريق الفضيل به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ت 2: "الناس".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 295، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3055 من طريق وكيع به.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: المجالسِ، والمنكرُ: إتيانُهم الرجالَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: كانوا يأتُون الفاحشةَ في نادِيهم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . قال: نادِيهم: المجالسُ، والمنكرُ: عملُهم الخبيثُ الذى كانوا يعمَلونه؛ كانوا يَعْتَرِضون بالراكبِ فيأخُذونه ويركَبونه. وقرَأ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54]. وقرَأ: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}
(3)
.
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . يقولُ: فى مجالسِكم
(4)
.
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: وتحذِفون في مجالسِكم المَارَّةَ بكم، وتسخرون منهم. لِما ذكَرنا مِن الروايةِ بذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
تفسير مجاهد ص 535، وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 295.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 295، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 144 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 295.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3054 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 144 إلى ابن المنذر.
ممم
وقولُه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . يقولُ تعالى ذكره: فلم يَكُنْ جوابَ قومِ لوطٍ إذ نَهاهم عما يَكْرَهُه اللهُ مِن إتيانِ الفواحشِ التي حرَّمها اللهُ، إلا قِيلُهم: ائْتِنا بعذابِ اللهِ الذي تَعِدُنا، إن كنتَ مِن الصادِقين فيما تقولُ، والمُنْجزِين لِما تَعِدُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى
(1)
يقولُ تعالى ذكره: لما جاءَتْ رُسُلُنا [من الملائكةِ]
(2)
إبراهيمَ بالبُشْرى مِن اللهِ بإسحاقَ، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ، {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}. [يقولُ: قالت رُسُلُ اللهِ لإبراهيمَ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} ]
(3)
؛ قريةِ سَدُومَ، وهى قريةُ قومِ لوطٍ، {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}. يقولُ: إن أهلَها كانوا ظالِمي أنفسِهم بمعصيتِهم اللهَ، وتَكْذِيبِهم رسولَه صلى الله عليه وسلم.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} إلى قولِه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} . قال: فجادَل إبراهيمُ الملائكةَ في قومِ لوطٍ أن يُتْرَكوا. قال: فقال: أرأيتُم إن كان فيها عشَرَةُ أبياتٍ مِن المسلمين أتتركُونهم؟ فقالت الملائكةُ: ليس فيها عشَرَةُ أبياتٍ، ولا خمسةٌ، ولا أربعةٌ،
(1)
بعده فى ص، م، ت 1، ت 3:{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وقد أثبتنا هذه الآية من النسخة ت 2 في ص 388، ولم يذكر المصنف تفسيرها ضمن الآيات المتقدمة.
(2)
سقط من: م.
(3)
سقط من: ت 1.
ولا ثلاثةٌ، ولا اثنان. قال: فحَزِن على لوطٍ وأهلِ بيتِه، فقال:{إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} . فذلك قولُه: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 74، 75]. فقالت الملائكةُ: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76]. فبعَث اللهُ إليهم جبريلَ صلى الله عليه وسلم، فانتَسَف المدينةَ وما فيها بأحدِ جَناحَيه، فجعَل عاليَها سافلَها، [وتَتَبَّعَتهم الحجارةُ]
(1)
بكلِّ أرضٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)} .
يقولُ تعالى ذكره: قال إبراهيمُ للرسلِ مِن الملائكةِ، إذ قالوا له:{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} . فلم يَسْتَثْنُوا منهم أحدًا، إذ وصَفوهم بالظلمِ:{إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ، وليس مِن الظالِمين، بل هو مِن رُسُلِ اللهِ، وأهلِ الإيمانِ به، والطاعةِ له. فقالت الرسلُ له:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} مِن الظالِمين الكافرين بالله منك، وإن لوطًا ليس منهم، بل هو كما قلتَ مِن أولياءِ اللهِ، {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} مِن الهلاكِ الذى هو نازلٌ بأهلِ قريتِه، {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الذين أبْقَتْهم الدُّهورُ والأيامُ، وتطاوَلَت أعمارُهم وحياتُهم، وإنها هالكةٌ مِن بينِ أهلِ لوطٍ مع قومِها.
(1)
فى م: "وتتبعهم بالحجارة".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3055، 3056 عن محمد بن سعد به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولما أن جاءَت رُسُلُنا لوطًا، مِن الملائكةِ، {سِيءَ بِهِمْ}. يقولُ: ساءَتْه الملائكةُ بمَجِيئهم إليه، وذلك أنهم تَضَيَّفُوه فساءُوه بذلك، فقولُه:{سِيءَ بِهِمْ} : فُعِل بهم. مِن: ساءَه
(1)
بذلك.
وذُكر عن قتادةَ أنه كان يقولُ: ساءَ ظنُّه بقومِه، وضاقَ بضَيْفِه ذَرْعًا.
حدَّثنا بذلك الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبدُ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمَرٌ عنه: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} . يقولُ: وضاقَ ذرعُه بضِيافتِهم؛ لِما عَلِم مِن خُبْثِ فعلِ قومِه
(2)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} . قال: بالضيافةِ؛ مخافةً عليهم مما يعلَمُ مِن شرِّ قومِه
(3)
.
وقولُه: {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قالت الرسلُ للوطٍ: لا تَخَفْ علينا أن يَصِلَ إلينا قومُك، ولا تَحْزَنْ مما أخبَرْناك مِن
(1)
في ص، ت 1:"ساوه".
(2)
تفسير عبد الرزاق، 2/ 97، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3058 من طريق شيبان، عن قتادة.
أنَّا مُهْلِكوهم. وذلك أن الرسلَ قالت له: {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81]. {إِنَّا مُنَجُّوكَ} مِن العذابِ الذى هو نازلٌ بقومِك، {وَأَهْلَكَ}. يقولُ: ومُنَجُّو أهلِك معك، {إِلَّا امْرَأَتَكَ} فإنها هالكةٌ في مَن يَهْلِكُ مِن قومِها، كانت مِن الباقِين
(1)
الذين طالَت أعْمارُهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)} .
يقول تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ الرسلِ للوطٍ: {إِنَّا مُنْزِلُونَ} يالوطُ، {عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} ؛ سَدُومَ، {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}. يعني: عذابًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا} ، أي: عذابًا
(2)
.
وقد بَيَّنَّا معنى الرجزِ وما فيه مِن أقوالِ
(3)
أهلِ التأويلِ فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(4)
.
وقولُه: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . يقولُ: بما كانوا يأتُون من معصيةِ اللهِ، ويركَبون مِن الفاحشةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد أبقَيْنا مِن فَعْلتِنا التي فَعَلْنا بهم {آيَةً} . يقولُ:
(1)
فى ت 2: "الباغين".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3058 من طريق يزيد به.
(3)
في ص، ت 1:"قول"
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 729 - 731.
عِبرةً بيِّنةً، وعِظَةً، واعظةً، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} عن اللهِ حُجَجَه، ويتفكَّرون في مواعظه، وتلك الآية البيِّنةُ هى عندى عُفُوُّ آثارِهم، ودُرُوسُ معالِمهم.
وذُكر عن قتادةَ فى ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . قال: هى الحجارةُ التي أُمطِرت عليهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} . قال: عِبْرةً
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأرسَلتُ إلى مَدينَ أخاهم شُعيبًا، فقال لهم: يا قومِ اعبُدوا الله وحده، وذِلُّوا له بالطاعةِ، واخضَعوا له بالعبادةِ، {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}. يقولُ: وارْجُوا بعبادتِكم إياه جزاء اليومِ الآخرِ، وذلك يومُ القيامةِ. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} يقولُ: ولا تُكْثِروا فى الأرضِ معصيةَ اللهِ، ولا تُقِيموا عليها، ولكن توبوا إلى اللَّهِ منها وأَنِيبوا.
وقد كان بعضُ أهل العلم بكلامِ العربِ
(3)
يتأوَّلُ قولَه: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} بمعنى: واخْشَوا اليومَ الآخرَ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3058، من طريق يزيد به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 98، عن معمر عن قتادةَ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 535، ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3058، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 145 إلى الفريابي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 115.
وكان غيرُه مِن أهلِ العلمِ بالعربيةِ
(1)
يُنكِرُ ذلك ويقولُ: لم نجدِ الرجاءَ بمعنى الخوفِ في كلامِ العربِ إلا إذا قارَنه الجَحْدُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فَكَذَّب أَهلُ مَدينَ شُعَيبًا فيما أَتاهم به عن اللَّهِ مِن الرسالةِ، فأَخَذَتْهم رَجْفَةُ العذابِ، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} جُثُومًا بعضُهم على بعضٍ؛ مَوْتَى.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . أى: مَيِّتِين
(3)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واذكُروا أيُّها القومُ عادًا وثمودَ وقد تَبَيَّن لكم من مساكِنِهم خَرابُها وخَلاؤُها منهم بوقائعِنا بهم، وحلولِ سَطوتِنا بجميعِهم، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}. يقولُ: وحَسَّنَ لهم الشيطانُ كفرَهم باللهِ، وتكذيتهم رُسُلَه، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}. يقولُ: فرَدَّهم بتَزْيينِه لهم ما زَيَّنَ مِن الكفرِ عن سبيلِ اللهِ، التى هى الإيمانُ به ورسلِه، وما جاءوهم به مِن عندِ
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 1/ 286.
(2)
فى ت 1: "الحجة".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3060 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ربِّهم، {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}. يقولُ: وكانوا مُسْتَبْصِرين في ضلالتِهم، مُعْجَبِين بها، يَحْسَبون أنهم على هُدًى وصوابٍ، وهم على الضلالِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} . يقولُ: كانوا مُستبصرِين في دينِهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} : في الضلالةِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} : في ضلالتِهم، مُعْجَبين بها
(3)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أَخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} . يقولُ: في دينِهم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3060 عن محمد بن سعد به.
(2)
تفسير مجاهد ص 535، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3060 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3060 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: واذكُرْ يا محمدُ قارونَ وفرعونَ وهامانَ، ولقد جاء جميعَهم موسى {بِالْبَيِّنَاتِ} ، يعنى بالواضحاتِ مِن الآياتِ، {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} عن التَّصْديقِ بالبيناتِ مِن الآياتِ، وعن اتِّباعِ موسى صلواتُ اللهِ عليه، {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وما كانوا سابِقينا بأنفسِهم فيَفُوتُونا، بل كنا مُقْتدرِين عليهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأخَذنا جميعَ هذه الأممِ التي ذكَرناها لك يا محمدُ بعذابِنا؛ {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} . وهم قومُ لوطٍ الذين أمطَر اللهُ عليهم حجارةً مِن سِجِّيلٍ مَنْضودٍ. والعربُ تُسمِّى الريحَ العاصفَ التي فيها الحَصَى الصغارُ، أو الثلجُ، أو البَرَدُ والجليدُ، حاصِبًا، ومنه قولُ الأخطلِ
(1)
:
ولقد عَلِمْتِ إِذا العِشارُ تَرَوَّحَتْ
…
هَدَجَ الرِّئَالِ تَكُبُهُنَّ شَمالا
تَرْمِي العِضاهَ بحاصِبٍ مِن ثَلْجِها
…
حتى يَبِيتَ على العِضاهِ جُفالا
(1)
تقدم تخريجه في 14/ 670.
وقال الفرزدقُ
(1)
:
مُسْتَقْبِلِين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُنا
…
بحاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} : قومُ لوطٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} : وهم قومُ لوطٍ
(3)
{وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} . اختَلف أهلُ التأويلِ في الذين عُنُوا بذلك؛ فقال بعضُهم: هم ثمودُ قومُ صالحٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} : ثمودُ.
وقال آخرون: بل هم قومُ شُعَيبٍ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ
(1)
تقدم تخريجه في 14/ 669.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 187.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الصَّيْحَةُ}: قومُ شعيبٍ
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك أن يقالَ: إن اللهَ قد أخبَر عن ثمودَ وقومِ شعيبٍ مِن أهلِ مَدْينَ أنه أهْلَكهم بالصَّيْحةِ في كتابِه في غيرِ هذا الموضعِ، ثم قال: جلَّ ثناؤُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: فمِن الأممِ التى أَهْلَكناهم مَن أرسَلنا عليهم حاصبًا، ومنهم مَن أخذَتْه الصيحةُ. فلم يَخْصُصِ الخبر بذلك عن بعضِ مَن أخذَتْه الصيحةُ مِن الأممِ دونَ بعضٍ، وكِلا الأُمَّتَين -أعنى ثمودَ ومَدْينَ- قد أخذَتْهما
(2)
الصَّيحةُ.
وقولُه: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} . يعنى بذلك قارونَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} : قارونُ، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} . يعنى قومَ نوحٍ وفرعونَ وقومَه.
واختَلف أهلُ التأويلِ فى ذلك؛ فقال بعضُهم: عُنِى بذلك قومُ نوحٍ عليه السلام.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: قال
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3062 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "أخذتهم"
ابنُ عباسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} : قومُ نوحٍ.
وقال آخرون: بل هم قومُ فرعونَ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} : قومُ فرعونَ
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك أن يُقالَ: عُنِى به قومُ نوحٍ وفرعونُ وقومُه؛ لأن اللهَ لم يَخْصُصْ بذلك إحدَى الأُمَّتَين دونَ الأخرى، وقد كان أَهْلَكهما قبلَ نُزُولِ هذا الخبرِ عنهما، فهما مَعْنِيَّتان به.
وقولُه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولم يَكُنِ اللهُ ليُهْلِكَ هؤلاء الأممَ الذين أهلكهم بذنوبِ غيرِهم، فيُظْلِمَهم بإهْلاكِه إياهم بغيرِ إسْتحقاقٍ، بل إنما أهْلَكهم بذنوبِهم، وكفرِهم بربِّهم، وجُحُودِهم نِعَمَه عليهم، مع تتابُعِ إحْسانِه عليهم، وكثرةِ أيادِيه عندَهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ؛ بِتَصَرُّفِهم فى نِعَمِ ربِّهم، وتَقَلُّبِهم في آلائِه، وعبادتِهم غيرَه، ومعصيتِهم مَن أنعَم عليهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} الآلهةَ والأوثانَ {مِنْ دُونِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3062 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يَرجون نصرَها ونفعَها عندَ حاجتِهم إليها في ضَعفِ احتيالِهم، وقبحِ رواياتِهم، وسوءِ اختيارِهم لأنفسِهم، {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} في ضعفِها، وقلةِ احتيالِها لنفسِها، {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} لنفسِها؛ كيما يَكُنَّها، فلم يُغْنِ عنها شيئًا عندَ حاجتِها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغنِ عنهم حينَ نزَل بهم أمرُ اللَّهِ، وحلَّ بهم سَخَطُه، أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دونِ اللهِ، شيئًا، ولم يَدْفَعوا عنهم ما أحلَّ اللهُ بهم من سخَطِه بعبادتِهم إيَّاهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} إلى آخرِ الآيةِ. قال: ذلك مثلٌ ضرَبه اللهُ لمن عبَد غيرَه، أن مثلَه كمثَلِ بيتِ العنكبوتِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} . قال: هذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ للمشركِ؛ مثَلُ إلهِه الذى يدعوه من دونِ اللهِ كمثلِ بيتِ العنكبوتِ، واهنٍ ضعيفٍ لا ينفَعُه
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {مَثَلُ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3062 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 97 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا}. قال: هذا مثَلٌ ضرَبه اللهُ، لا يُغْنى أولياؤُهم عنهم شيئًا، كما لا يُغْنى العنكبوتَ بيتُها هذا
(1)
.
وقوله: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} . يقولُ: وإن أضعفَ البيوتِ، {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. يقول تعالى ذكرُه: لو كان هؤلاء الذين اتَّخذوا من دونِ اللهِ أولياءَ يعلَمون أن أولياءَهم الذين اتخذوهم من دونِ اللهِ، في قلةِ غَنائِهم عنهم، كغَناءِ بيت العنكبوتِ عنها، ولكنهم يَجْهَلون ذلك، فيحسَبون أنهم ينفَعونهم ويقرِّبونهم إلى اللهِ زُلْفَى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} .
اخْتَلفتِ القرأةُ فى قراءةِ قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ: (تَدْعُونَ) بالتاءِ
(2)
، بمعنى الخطابِ لمشركي قريشٍ إنَّ اللهَ أيُّها الناسُ يَعْلَمُ ما تَدْعون إليه من دونِه. وقرأ ذلك أبو عمرٍو:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} بالياءِ
(3)
، بمعنى الخبرِ عن الأممِ: إنَّ اللهَ يعلَمُ ما يَدْعُو هؤلاء الذين أَهْلَكناهم من الأممِ من دونِه من شيءٍ.
والصوابُ من القراءةِ فى ذلك عندَنا قراءةُ من قرَأه بالتاءِ؛ لأن ذلك لو كان خبرًا عن الأممِ الذين ذكَر اللَّهُ أنه أَهْلَكهم لكان الكلامُ: إن اللهَ يعلَمُ ما كانوا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3063 من طريق أصبغ، عن ابن زيد.
(2)
وبها قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف. ينظر النشر 2/ 257.
(3)
وبها قرأ عاصم ويعقوب. المصدر السابق.
يدعون؛ لأن القومَ فى حالِ نزولِ هذا الخبرِ على نبيِّ اللهِ لم يكونُوا موجودين؛ إذ كانوا قد هلَكُوا فبادُوا، وإنما يقالُ: إن اللهَ يعلَمُ ما تدعون. إذا أُرِيد به الخبرُ عن موجودين لا عمَّن قد هلَك.
فتأويلُ الكلامِ إذ كان الأمرُ كما وصَفْنا: إن اللهَ يعلَمُ أَيُّها القومُ حالَ ما تعبُدون من دونِه من شيءٍ، وأن ذلك لا ينفَعُكم ولا يضرُّكم، إن أراد اللهُ بكم سوءًا، ولا يُغْنِى عنكم شيئًا، وإن مثَلَه في قلةِ غَنائِه عنكم، مثَلُ بيتِ العنكبوتِ في غَنائِه عنها.
وقولُه: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقولُ: واللهُ العزيزُ في انتقامِه ممن كفَر به، وأَشْرَك في عبادتِه معه غيرَه، فاتقوا أيُّها المشركون به عقابَه، بالإيمانِ به قبلَ نزولِه بكم، كما نزَل بالأممِ الذين قصَّ اللهُ قَصَصَهم في هذه السورةِ عليكم، فإنه إن نزَل بكم عقابُه، لم يُغْنِ عنكم أولياؤُكم الذين اتَّخَذْتُموهم من دونِه
(1)
، كما لم يُغْنِ عنهم مِن قبلِكم أولياؤُهم الذين اتَّخَذوهم من دونِه، الحكيمُ في تدبيرِه خلقَه، فمُهْلِكٌ مَن اسْتَوْجب الهلاكَ، في الحالِ التي هلاكُه صلاحٌ، والمؤخِّرُ من أخَّر هلاكَه من كفَرةِ خلقِه به إلى الحينِ الذي في هلاكِه الصلاحُ.
وقولُه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وهذه الأمثالُ، وهى الأشباهُ والنظائرُ، {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}. يقولُ: تمثِّلُها ونشبِّهُها، ونحتجُّ بها للناسِ، كما قال الأعشى
(2)
:
(1)
بعده في م، ت 1:"أولياء".
(2)
ديوانه ص 237.
هَلْ تذكُرُ العهدَ في
(1)
تَنَمُّصَ
(2)
إذ
…
تَضرِبُ لى قاعدًا بها مثَلَا
{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما يعقِلُ أنه أُصِيب بهذه الأمثالِ التي نضرِبُها للناسِ منهم الصوابُ والحقُّ، فيما ضُرِبت له مثلًا، إلا العالمون باللهِ وآياتِه.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيه محمدٍ: {خَلَقَ اللَّهُ} يا محمدُ {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وحدَه، منفردًا بخلقِها، لا يَشْرَكُه فى خلقِها شريكٌ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}. يقولُ: إن في خلقِه ذلك لحجةً لمن صدَّق بالحججِ إذا عاينها، والآياتِ إذا رآها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {اتْلُ} . يعنى: اقرأ {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} . يعنى: ما أُنزِل إليك من هذا القرآنِ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}. يعنى: وأدِّ الصلاةَ التي فرَضها اللهُ عليك بحدودِها، {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. اخْتَلف أهلُ التأويل في معنى الصلاةِ التي ذُكِرت في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بها القرآنُ الذي يُقرَأُ في موضعِ
(1)
فى م: "من".
(2)
تنمص: موضع فى ديار حمير. ينظر معجم ما استعجم 1/ 322.
الصلاةِ، أو في الصلاةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن أبى الوفاءِ، عن أبيه، عن ابنِ عمرَ:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . قال: القرآنُ الذي يُقرَأُ في المساجدِ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بها الصلاةُ.
ذِكرُ من قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . يقولُ: في الصلاةِ مُنْتَهًى ومُزْدَجَرٌ عن معاصى اللهِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا خالدٌ بنُ عبدِ اللهِ، عن العلاءِ بنِ المسيَّبِ، عمن ذكَره، عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} : من لم تنْهَه صلاته عن الفحشاءِ والمنكرِ، لم يزدَدْ بصلاتِه من اللهِ إلا بُعْدًا
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا خالدٌ، قال: قال العلاءُ بنُ المسيَّبِ، عن سَمُرةَ بنِ عطيةَ، قال: قيل لابنِ مسعودٍ: إن فلانًا كثيرُ الصلاةِ. قال:
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 146 إلى المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3066 من طريق عبد الله به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 145 إلى ابن المنذر.
(3)
ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف 3/ 44، وابن كثير في تفسيره 6/ 290 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3066، والطبراني (11025)، والقضاعي في مسند الشهاب (509)، وابن مردويه - كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي 3/ 44 من طريق طاوس عن ابن عباس مرفوعًا.
فإنها لا تنفَعُ إِلَّا من أطاعها
(1)
.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مالكِ بن الحارثِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: من لم تأمُرْه صلاتُه بالمعروفِ، وتَنْهَه عن المنكرِ، لم يزدَدْ بها من اللهِ إلَّا بُعْدًا
(2)
.
قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا علىُّ بنُ هاشمٍ بنِ البَريدِ، عن جُويبرٍ، عن الضحَّاكِ، عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا صلاةَ لمن لم يُطِعِ الصلاةَ، وطاعةُ الصلاةِ أن تَنْهَى عن الفحشاءِ والمنكرِ". قال: قال سفيانُ: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87]. قال: فقال سفيانُ: إى واللَّهِ تأمُرُه وتنهاه
(3)
.
قال علىٌّ: وحدَّثنا إسماعيلُ بنُ مسلمٍ، عن الحسنِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن صلَّى صلاةً لم تَنْهَه عن الفحشاءِ والمنكرِ، لم يزدَدْ بها من اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبى شيبة فى المصنف 13/ 298. وابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3066، والبيهقي في الشعب (3263)، من طرق عن ابن مسعود، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 146 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور -كما في الدر المنثور 5/ 146 ومن طريقه البيهقي في الشعب (3264) -وأحمد في الزهد ص 159، والطبرانى (8543) من طريق أبى معاوية به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 146 إلى ابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 290 عن المصنف. وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3066 من طريق جويبر به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 98، وابن الأعرابي في معجمه 3/ 926 (1954)، والبيهقي في الشعب (3262) من طريق إسماعيل به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 145 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، [قال: الصلاةُ إذا لم تَنْهَ عن الفحشاءِ والمنكرِ]
(1)
. قال: من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكرِ، لم يزدَدْ من اللهِ إلا بعدًا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ والحسنِ، قالا: من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكرِ، فإنه لا يزدادُ من اللهِ بذلك إلا بعدًا
(3)
.
والصوابُ من القولِ فى ذلك أن الصلاةَ تَنْهَى عن الفحشاءِ والمنكرِ، كما قال ابنُ عباسٍ وابنُ مسعودٍ.
فإن قال قائلٌ: وكيف تَنْهَى الصلاةُ عن الفحشاءِ والمنكرِ، إن لم يكنْ معنيًّا بها ما يُتلى فيها؟ قيل: تنهى من كان فيها، فتَحُولُ بينَه وبينَ إتيانِ الفواحشِ؛ لأن شُغْلَه بها يقطَعُه عن الشغلِ بالمنكرِ، ولذلك قال ابنُ مسعودٍ: من لم يُطِعْ صلاتَه، لم يزدَدْ اللَّهِ إلا بعدًا. وذلك أن طاعتَه لها إقامتُه إيَّاها بحدودِها، وفي طاعتِه لها مُزْدَجَرٌ عن الفحشاءِ والمنكرِ.
حدَّثنا أبو حُميدٍ الحِمْصيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ العطارُ، قال: ثنا أرطاةُ، عن [أبي عونٍ]
(4)
فى قولِ اللهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . قال: إذا كنتَ في صلاةٍ، فأنت في معروفٍ، وقد حجَزَتْك عن الفحشاءِ والمنكرِ، والفحشاءُ هي الزنا، والمنكرُ معاصى اللهِ، ومن أتى فاحشةً
(1)
كذا في النسخ. ولعله تكرار تتابعت عليه النسخ.
(2)
أخرجه أحمد في الزهد ص 264 من طريق ابن علية به.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 44 عن قتادة والحسن.
(4)
في النسخ وتفسير ابن كثير: "ابن عون"، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"أبي غوث"، والمثبت من الدر المنثور في وهو أبو عون الأنصارى الشامى الأعور. قال ابن منده: اسمه عبد الله بن أبي عبد الله. تنظر ترجمته في تهذيب الكمال 34/ 154.
أو عصَى اللهَ فى صلاتِه بما يُفْسِدُ صلاتَه، فلا شكَّ أنه لا صلاةَ له
(1)
.
وقولُه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: ولذكر الله إيَّاكم أفضلُ من ذكرِكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرَنا عطاءُ بنُ السائبِ، عن عبدِ اللهِ بنِ رُبَيَّعَةً، قال: قال لى ابنُ عباسٍ: هل تَدْرى ما قولُه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؟ قال: قلتُ: نعم. قال: فما هو؟ قال: قلتْ: التسبيحُ والتحميدُ والتكبيرُ في الصلاةِ، وقراءةُ القرآنِ، ونحوُ ذلك. قال: لقد قلتَ قولًا عجَبًا، وما هو كذلك، ولكنه إنما يقولُ: ذكرُ اللَّهِ إيَّاكم عندَ ما أمَر به أو نهَى عنه إذا ذكَرتُموه أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن عطاءٍ بنِ السائبِ، عن ابنِ رُبَيَّعَةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: ذكرُ اللَّهِ إِيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه
(3)
.
حدَّثنا ابنِ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ رُبَيِّعَةَ، قال: سألنى ابنُ عباسٍ عن قولِ اللَّهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . فقلتُ: ذكرُه بالتسبيحِ والتكبيرِ والقرآنِ حسَنٌ، وذكرُه عندَ المحارمِ فيَحْتَجِزُ عنها. فقال: لقد قلتَ قولًا عجيبًا، وما هو كما قلتَ، ولكنْ ذكرُ اللهِ إِيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3066 من طريق أرطاة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 146 إلى المصنف، مطولًا.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 98، وابن أبي حاتم فى تفسيره، 9/ 3067، وتفسير مجاهد ص 535 وعنده عبد الله بن عبيد من طريق عطاء به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 146 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد.
(3)
تفسير الثورى ص 235، ومن طريقه الحاكم 2/ 409، والبيهقى فى الشعب (674).
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ رُبَيَّعَةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذكرُ اللَّهِ للعبدِ أفضلُ من ذكرِه إيَّاه.
حدَّثنا محمدُ بنِ المثنى وابنُ وكيعٍ. قال ابنُ المثنى: ثنى عبدُ الأعلى، وقال ابنُ وكيعٍ: ثنا عبدُ الأعلى. قال: ثنا داودُ، عن محمدِ بنِ أبي موسى، قال: كنتُ قاعدًا عندَ ابنِ عباسٍ، فجاءه رجلٌ، فسأل ابنَ عباسٍ عن "ذكرُ اللَّهِ أكبرُ"، فقال ابنُ عباسٍ: الصلاةُ والصومُ. قال: ذاك ذكرُ اللهِ. قال رجلٌ: إنى ترَكتُ رجلًا في رَحْلِى يقولُ غيرَ هذا، قال:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: ذكرُ اللَّهِ العبادَ أكبرُ من ذكرِ العبادِ إيَّاه. فقال ابن عباس: صدَق واللهِ صاحبُك
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّىُّ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: جاء رجلٌ إلى ابنِ عباسٍ فقال: حدَّثني عن قولِ اللَّهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذِكرُ اللهِ لكم أكبرُ من ذكرِكم له.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلَمةَ، عن داودَ، عن عكرمةَ:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذكرُ اللهِ للعبدِ أفضلُ من ذكرِه إيَّاه.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعىُّ، قال: ثنا ابنُ فضيلٍ، قال: ثنا فُضيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطية:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: هو قولُه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. وذكرُ اللَّهِ إِيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3067، من طريق داود بن أبي هند عن رجل عن ابن عباس بنحوه.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا -كما في الدر المنثور 5/ 146 - ومن طريقه البيهقي في الشعب (673) عن أبي هشام به.
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ: ولَذِكرُ اللهِ لعبادِه إذا ذكَروه أكبرُ من ذكرِهم إيَّاه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذكرُ اللهِ عبدَه أكبرُ من ذكرِ العبدِ ربَّه في الصلاةِ أو
(2)
غيرِها
(3)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن داودَ بن أبي هندٍ، عن محمدِ بنِ أبي موسى، عن ابنِ عباسٍ، قال: ذكرُ اللهِ إيَّاكم إذا ذكَرتموه أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن عامرٍ، عن أبي قُرَّةَ، عن سلمانَ مثلَه
(4)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعىُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثنى عبدُ الحميدِ بنُ جعفرٍ، عن صالحِ بن أبى عَرِيبٍ، عن كَثيرِ بنِ مُرَّةَ الحضرميِّ، قال: سمعتُ أبا الدرداءِ يقولُ: ألَا أخبرُكم بخيرِ أعمالِكم، وأحبِّها إلى مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ من أن تغزوا عدوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهم [ويَضْرِبوا أعناقَكم]
(5)
، وخيرٍ من إعطاءِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3067 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 146 إلى ابن المنذر.
(2)
في مصادر التخريج: "و".
(3)
تفسير مجاهد ص 535 ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3068، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 146 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 292.
(5)
سقط من: م، ت 2.
الدنانيرِ والدراهمِ؟ قالوا: ما هو؟ قال: ذكرُكم ربَّكم، وذكرُ اللهِ أكبرُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا سفيانُ، عن جابرٍ، عن عامرٍ، عن أبي قُرَّةَ
(2)
، عن سلمانَ:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: قال: ذكرُ اللَّهِ إِيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إياه.
قال: ثنا أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عامرٍ، قال: سألتُ أبا قُرَّةَ عن قولِه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذكرُ اللَّهِ إِيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه
(3)
.
قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ وعكرمةَ، قالا: ذكرُ اللَّهِ إيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه
(4)
.
قال: ثنا ابنُ فُضيلٍ، عن مطرِّفٍ، عن عطيةَ، عن ابن عباسٍ، قال: هو كقولِه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. فذكرُ اللَّهِ إِيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه.
قال: ثنا حسينُ بنُ علىٍّ، عن زائدةَ، عن عاصمٍ، عن شقيقٍ، عن عبدِ اللهِ:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذكرُ اللَّهِ العبدَ أكبرُ من ذكرِ العبدِ لربِّه
(5)
.
قال: ثنا أبو يزيدَ الرازىُّ، عن يعقوبَ، عن جعفرٍ، عن شعبةَ، قال: ذكرُ اللَّهِ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 13/ 308 عن أبي أسامة به، وأخرجه مالك في الموطأ 1/ 211 عن زياد بن أبي زياد عن أبي الدرداء عن أبي الدرداء، كما أخرجه مرفوعا أحمد 5/ 195، 6/ 447 (21750، 27565 - ميمنية)، الترمذى (3377) وابن ماجه (3790) من حديث أبي الدرداء.
(2)
في ت 2، ت 3:"بزة".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 146 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(4)
ذكره البغوى في تفسيره 6/ 247.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة فى المصنف 13/ 298 وعنه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ص 218 عن حسين بن علي به.
لكم أكبرُ من ذكرِكم له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولذكرُكم اللهَ أفضلُ من كلِّ شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا عمرُ بنُ أبي زائدةَ، عن العَيْزارِ بنِ حُريثٍ، عن رجلٍ، عن سلمانَ، أنه سُئِل: أىُّ العملِ أفضلُ؟ قال: أما تقرأُ القرآنَ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، لا شيءَ أفضلُ من ذكرِ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا أبو حميدٍ أحمدُ بنُ المغيرةِ الحِمْصيُّ، قال: ثنا علىُّ بنُ عيَّاشٍ، قال: ثنا الليثُ، قال: ثني معاويةُ، عن ربيعةَ بنِ يزيدَ، عن إسماعيلَ بنِ عبيدِ اللهِ، عن أمِّ الدرداء، أنها قالت:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} : فإن صلَّيتَ فهو من ذكرِ اللَّهِ، وإن صمتَ فهو من ذكرِ اللهِ، وكلُّ خيرٍ تعمَلُه فهو من ذكرِ اللَّهِ، وكلُّ شرٍّ تجتنبُه فهو من ذكرِ اللَّهِ، وأفضلُ ذلك تسبيحُ اللَّهِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: لا شيءَ أكبرُ من ذكرِ اللهِ. قال: أكبرُ الأشياءِ كلِّها. وقرَأ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. قال: لِذكرِ اللهِ، وإنه لم يَصِفْه عندَ القتالِ إلَّا أنه أكبرُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن الأعمشِ، عن أبي إسحاقَ، قال: قال
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 147 إلى المصنف
(2)
أخرجه البيهقى فى الشعب (686) من طريق معاوية به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 97 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 146 إلى عبد بن حميد.
رجلٌ لسلمانَ: أىُّ العملِ أفضلُ؟ قال: ذكرُ اللَّهِ
(1)
.
وقال آخرون: هو محتملُ الوجهين جميعًا. يعنون القولَ الأولَ الذي ذكَرناه، والثانيَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن خالدٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . قال: لها وجهانِ؛ ذكرُ اللهِ أكبرُ مما سواه، وذكرُ اللهِ إيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إياه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا خالدٌ الحذَّاءُ، عن عكرمةَ، عنِ ابنِ عباسٍ فى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: لها وجهانِ؛ ذكرُ اللهِ إيَّاكم أكبرُ من ذكرِكم إيَّاه، وذكرُ اللهِ عندَ ما حرَّم
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولذكرُ الله العبدَ في الصلاةِ أكبرُ من الصلاةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، عن إسرائيلَ، عن السُّديِّ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . قال: ذكرُ اللهِ العبدَ في الصلاةِ أكبرُ من الصلاةِ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولَلصَّلاةُ التى
(4)
أنت بها، وذكرُك اللهَ فيها،
(1)
أخرجه البيهقى فى الشعب (670) من طريق وكيع عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد قال رجل لسلمان.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3068 من طريق إسماعيل به.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 146 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
بعده في م: "أتيت".
أكبرُ مما نهَتْكَ الصلاةُ، من الفحشاءِ والمنكرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أحمدُ بنُ المغيرةِ الحِمْصِيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ العطَّارُ، قال: ثنا أرطاةُ، عن [أبي عونٍ]
(1)
فى قولِ اللهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} : والذى أنت فيه من ذكرِ اللهِ أكبرُ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وأشبهُ هذه الأقوالِ بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ قولُ من قال: ولذكرُ الله إيَّاكم أفضلُ من ذكرِكم إيَّاه.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . يقولُ: واللهُ يعلَمُ ما تصنَعون أَيُّها الناسُ في صلاتِكم، من إقامةِ حدودِها، وتركِ ذلك، وغيرِه من أمورِكم، وهو مُجازيكم على ذلك. يقولُ: فاتَّقوا أن تُضَيَّعوا شيئًا من حدودِها.
القولِ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَا تُجَادِلُوا} أيُّها المؤمنون باللهِ وبرسولهِ اليهودَ والنصارى، وهم أهلُ الكتابِ {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. يقولُ: إلا بالجميلِ من القولِ، وهو الدعاءُ إلى اللهِ
(3)
بآياتِه، والتنبيهُ على حُجَجه.
وقولُه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: إلَّا الذين أبَوا أن يُقِرُّوا لكم بإعطاءِ الجزيةِ، ونصَبوا دونَ ذلك لكم
(1)
فى النسخ: "ابن عون". وينظر ما تقدم في ص 410.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3066 من طريق أرطاة به.
(3)
بعده في ت 2: "و".
حربًا، فإنهم ظلمةٌ، فأولئك فجادِلوهم
(1)
بالسيفِ، حتى يُسْلِموا أو يُعْطُوا الجزية.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا يزيدُ، عن سفيانَ، عَن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . قال: مَن قاتَل ولم يُعْطِ الجزيةَ.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثني أبي، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ بنحوهِ، إلَّا أنه قال: من قاتَلك ولم يُعْطِكَ الجزيةَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: إن قالوا شرًّا، فَقُولوا خيرًا، {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فانتَصِروا منهم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . قال: قالوا: مع اللهِ إلهٌ. أو: له ولدٌ. أو: له. شريكٌ. أو: يدُ اللهِ مَغلولةٌ. أو: اللهُ فقيرٌ. أو آذَوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. قال: هم أهلُ
(1)
فى م: "جادلوهم".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3069 من طريق سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 147 إلى الفريابي وابن المنذر.
(3)
تفسير مجاهد ص 535، 536، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3069. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 147 إلى الفريابي.
الكتابِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، [عن شريكٍ]
(2)
، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
قال: أهلَ الحربِ، مَن لا عهدَ له جادِلْه بالسيف
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تجادلوا أهلَ الكتاب الذين قد آمنوا به واتَّبَعوا رسولَه، فيما أخبَروكم عنه مما في كتبِهم، إلا بالتي هي أحسنُ، إلا الذين ظلموا منهم فأقاموا على كفرِهم. وقالوا: هذه الآيةُ مُحْكَمةٌ ليست بمنسوخةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: ليست بمنسوخةٍ، لا يَنْبَغى أن تُجَادِل مَن آمَن منهم، لعلهم يُحدِثون
(4)
شيئًا فى كتابِ اللهِ لا تَعْلَمُه أنت، فلا تُجَادِلُه، ولا يَنْبَغى أن تُجادِلَ؛ إلا الذين ظلموا؛ المقيمَ منهم على دينِه. فذلك
(5)
الذي يُجادَلُ ويُقالُ له بالسيفِ. قال: وهؤلاء يهودٌ. قال: ولم يَكُنْ بدارِ
(6)
الهجرةِ من النصارى أحدٌ، إنما كانوا يهودًا، هم الذين كلَّموا وحالفوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وغدَرت النضيرُ يومَ أحدٍ، وغدَرت قُرَيظةُ يومَ الأحزابِ
(7)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 536، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3099، 3070. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 147 إلى الفريابي.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
تفسير مجاهد ص 536 من طريق شريك به، وعزاه الحافظ فى الفتح 13/ 315 إلى المصنف.
(4)
فى م، ف:"يحسنون".
(5)
فى م، ف:"فقال هو"، وفى ت 1، ت 2:"فقال"
(6)
فى ص، ت 1، ت 2:"بهذه".
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3068 من طريق أصبغ عن ابن زيد مختصرًا.
وقال آخرون: بل نزَلت هذه الآيةُ قبل أن يُؤْمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالقتالِ. وقالوا: هي منسوخةٌ نسَخها قولُه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29]. الآية
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتَادةَ قولَه:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : ثم نسَخ بعدَ ذلك، فأمَر بقتالِهم في سورةِ "براءة"، ولا مُجادلةَ أشدُّ من السيفِ أن يُقاتَلوا حتى يَشْهَدوا أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أو يُقِرُّوا بالخَراجِ
(2)
.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ قولُ مَن قال: عنى بقولِه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} : إلا الذين امتنَعوا من أداءِ الجزيةِ، ونصَبوا دونَها الحربَ.
فإن قال قائلٌ: أوَ غيرُ ظالمٍ من أهلِ الكتابِ، إِلَّا مَن يَرُدُّ
(3)
الجزيةَ؟! قيل: إن جميعَهم، وإن كانوا لأنفسِهم بكفرِهم باللهِ وتكذيبِهم رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ظَلَمةٌ، فإنه لم يَعْنِ بقوله:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . ظُلْمَ أنفسِهم، وإنما عَنَى به: إلَّا الذين ظلَموا منهم أهلَ الإيمانِ باللهِ ورسولهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: أولئك فجادِلوهم بالقتالِ.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوالِ فيه بالصوابِ؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه أَذِن للمؤمنين
(1)
سقط من: م، ف.
(2)
أخرجه ابن الجوزى فى النواسخ ص 422، 423 من طريق سعيد به، وأخرجه أبو داود في ناسخه -كما في الدر المنشور 5/ 147 - ومن طريقه ابن الجوزى فى ناسخه ص 422، 423 من طريق همام عن قتادة، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 98 عن معمر عن قتادة، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3068 مختصرًا، وأخرجه النحاس ص 615 من طريق شيبان عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 147 إلى ابن المنذر وابن الأنباري.
(3)
في م: "لم يؤد".
بجدالِ ظلمة أهلِ الكتاب بغيرِ الذى هو أحسنُ، بقولِه:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . فمعلومٌ، إذ كان قد أَذِن لهم فى جدالِهم، أن الذين لم يُؤذَنْ لهم في جدالِهم إلا بالتي هي أحسنُ، غيرُ الذين أذِن لهم بذلك فيهم، وأنهم غيرُ المؤمنين
(1)
لأن المؤمنَ
(2)
منهم غيرُ جائزٍ جدالُه إلا في غيرِ الحقِّ؛ لأنه إذا جاء بغير الحقِّ فقد صار في معنى الظُّلَمةِ، فى الذى خالَف فيه الحقِّ. فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن لا معنى لقولِ مَن قال: عَنَى بقولِه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} أهلَ الإيمانِ منهم. وكذلك لا معنى لقولِ مَن قال: نزَلت هذه الآيةُ قبلَ الأمرِ بالقتالِ. وزعَم أنها منسوخةٌ؛ لأنه لا خبرَ بذلك يَقْطَعُ العُذْرَ، ولا دلالةَ على صحتِه من فطرةِ عقلٍ.
وقد بيَّنا في غيرِ موضعٍ من كتابِنا، أنه لا يجوزُ أن يُحْكَمَ على حكمِ اللهِ في كتابِه بأنه منسوخٌ إلا بحجةٍ يَجِبُ التسليمُ لها من خبرٍ أو عقلٍ
(3)
.
وقوله: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين به وبرسولِه الذين نهاهم أن يُجادِلوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي
(4)
هي أحسنُ: إذا حدَّثكم أهلُ الكتابِ أيُّها القومُ عن كُتُبِهم، وأخبَروكم عنها بما يُمْكنُ، ويَجوزُ أن يكونوا فيه صادقين، وأن يكونوا فيه كاذبين، ولم تَعْلَموا أمرَهم وحالَهم فى ذلك، فقولوا لهم:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} مما في التوراة والإنجيلِ، {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} .
(1)
فى م، ت 2:"المؤمن".
(2)
في ص: "المؤمنين".
(3)
ينظر ما تقدم في 3/ 124.
(4)
في ت 1، ت 2:"بالحق".
[يقولُ: ومعبودُنا ومعبودُكم واحدٌ]
(1)
، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. يقولُ: ونحن له خاضِعون مُتَذلِّلون بالطاعةِ فيما أمرَنا ونهانا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك جاء الأثرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ
(2)
، قال: أخبرنا علىٌّ، عن
(3)
يحيى بنِ أبى كثيرٍ، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: كان أهل الكتاب يَقْرَءُون التوراةَ بالعبْرانيةِ، فيُفسِّرونها بالعربيةِ لأهلِ الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لا تُصَدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالذى أُنزِل إلينا وأُنزِل إليكم، وإلهُنا وإلهُكم واحدٌ، ونحن له مسلمون"
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن [سعد
(5)
بنِ]
(6)
إبراهيمَ، عن عطاءِ بن يسارٍ، قال: كان ناسٌ من اليهودِ يُحَدِّثون ناسًا من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا آمنا بالذى أُنزِل إلينا وأُنزِل إليكم"
(7)
.
(1)
سقط من: ت 2
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"عمرو". وينظر تهذيب الكمال 19/ 461/، 26/ 360.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"بن". وعلىٍّ هو ابن المبارك الهنائى. ينظر تهذيب الكمال 21/ 111.
(4)
أخرجه النسائى فى الكبرى (11387) -وعنه النحاس في الناسخ ص 616 - ، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3070، والبيهقى 10/ 163، وفى الشعب (5207)، من طريق محمد بن المثنى به، وأخرجه البخاري في صحيحه (4485، 7362) من طريق عثمان بن عمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 147 إلى ابن مردويه.
(5)
فى ص، ت 1:"سعيد". وينظر تهذيب الكمال 10/ 240.
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (19211)، وابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3070 من طريق سفيان به. =
قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن سليمانَ، عن عُمارةَ بنِ عُمَيرٍ، عن حُرَيثِ بنِ ظُهَير، عن عبدِ اللَّهِ، قال: لا تَسْأَلُوا أهلَ الكتابِ عن شيءٍ، فإنهم لن يَهْدُوكم وقد ضَلُّوا، إما أن تُكَذِّبوا بحق أو تُصَدِّقوا بباطلٍ، فإنه ليس أحدٌ من أهلِ الكتابِ إلَّا وفى قلبِه تاليةٌ تَدْعوه إلى دينه، كتاليةِ المالِ
(1)
.
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك ما حدَّثني به محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنْا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . قال: قالوا: مع اللهِ إلهٌ. أو: له ولدٌ. أو: له شريكٌ. أو: يدُ اللَّهِ مغلولةٌ. أو: اللهُ فقيرٌ. أو آذَوا محمدًا، {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} لمن لم يَقُلْ هذا من أهلِ الكتابِ
(2)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وكما أنَزَلْنَا الكتبَ على مَن قبلَك يا محمدُ من الرسلِ، كذلك أنزَلْنا إليك هذا الكتابَ، فالذين آتيناهم الكتابَ من قبلِك من بني إسرائيلَ يؤمنون به، {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}. يقولُ: ومن هؤلاء الذين هم بينَ ظَهْرَانَيْكَ اليومَ مَن يُؤْمِنُ به؛ كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ، ومَن آمَن برسولِه من بني إسرائيلَ.
= وأخرجه عبد الرزاق (10161) من طريق سعد به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 147 إلى الفريابي.
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (19212) عن سفيان عن عمارة به، ولم يذكر فيه سليمان. وينظر فتح الباري 13/ 334.
(2)
تفسير مجاهد ص 536 ومن طريقه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3069، 3070 مختصرًا، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 147 إلى الفريابي.
وقولُه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما يَجْحَدُ بأدلتِنا وحُججِنا إلا الذى يَجْحَدُ نِعمَنا عليه، ويُنْكِرُ توحيدَنا وربوبيتَنا على علمٍ منه، عنادًا لنا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يَزِيدُ، قال: ثنا سَعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} . قال: إنما يَكونُ الجحودُ بعدَ المعرفةِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَا كُنْتَ} يا محمدُ {تَتْلُو} . يعنى: تَقْرَأُ، {مِنْ قَبْلِهِ}. يعني: من قبلِ هذا الكتابِ الذى أنزَلْتُه إليك، {مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}. يقولُ: ولم تَكُنْ تَكْتُبُ بيمينِك، ولكنك كنتَ أُمِّيًّا، {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . يقولُ
(2)
: ولو كنتَ من قبلِ أن يُوحَى إليك تَقْرَأُ الكتابَ
(3)
، أو تَخُطُّه بيمينِك؛ {إِذًا لَارْتَابَ}. يقولُ: إذن لشكَّ بسببِ ذلك في أمرِك، وما جئْتَهم به من عندِ ربِّك من هذا الكتابِ الذى تَتْلُوه عليهم - {الْمُبْطِلُونَ} القائلون: إنه سَجْعٌ وكَهانةٌ، وإنه أساطيرُ الأوَّلين.
وبنحوِ الذى قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3070 من طريق يزيد به.
(2)
في ص، ت 1:"يقولون".
(3)
في ت 1، ت 2:"الكتب".
أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . قال: كان نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا لا يَقْرَأُ شيئًا ولا يَكْتُبُ
(1)
.
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}. قال: كان نبيُّ اللهِ لا يَقْرَأُ كتابًا قبلَه ولا يَخُطُّه بيمينِه. قال: كان أُمِّيًّا، والأُمىُّ: الذى لا يَكْتُب]
(2)
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن إدريسَ الأَوْدِيِّ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} . قال: كان أهلُ الكتابِ يَجِدون في كُتُبِهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يَخُطُ بيمينِه، ولا يَقْرَأُ كتابًا، فنزَلت هذه الآيةُ
(4)
.
وبنحوِ الذى قلنا أيضًا في قولِه: {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} قالوا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ،: قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} : إذن لقالوا: إنما هذا شيءٌ تعلَّمه محمدٌ وكَتَبه.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 3071 عن محمد بن سعد به.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3071 من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 148 إلى عبد الرزاق وابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3071 من طريق أبي أسامة به. وأخرجه الإسماعيلي في معجمه 3/ 750 من طريق أبي أسامة مرفوعًا إلى ابن عباس. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 147 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، فى قولِ اللَّهِ:{إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . قال: قريشٌ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ فى المعنىِّ بقولِه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلامِ: بل وجودُ أهلِ الكتابِ فى كتبِهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ، وأنه أمىٌّ
(2)
- آياتٌ بيناتٌ في صدورِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} . قال: كان اللهُ تعالى أنزَل شأنَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في التوراةِ والإنجيلِ لأهلِ العلمِ وعلَّمه لهم وجعَله لهم آيةً، فقال لهم: إن آيةَ نبوَّتِه أن يَخْرُجَ حِينَ يَخْرُجُ لا يَعْلَمُ كتابًا ولا يَخُطُّه بيمينِه، وهي الآياتُ البيناتُ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ فى قولِه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} .
(1)
تفسير مجاهد ص 536، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3071 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 147 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 148 إلى المصنف وابن مردويه والإسماعيلى وابن أبي حاتم.
قال: كان نبيُّ اللهِ لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ، وكذلك جعَل اللهُ نعتَه في التوراةِ والإنجيلِ، أنه نبيٌّ أمىٌّ لا يَقْرَأُ ولا يَكْتُبُ، وهى الآيةُ البينةُ فى صدورِ الذين أوتوا العلمَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من أهلِ الكتابِ، صدَّقوا بمحمدٍ ونعتِه ونبوَّتِه
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جُرَيجٍ:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} . قال: أنَزل اللهُ شأنَ محمدٍ في التوراةِ والإنجيلِ لأهلِ العلمِ: بل هو آيةٌ بينةٌ في صدورِ الذين أوتوا العلمَ. يقولُ: النبىُّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: عُنَى بذلك القرآنُ. وقالوا: معنى الكلامِ: بل هذا القرآنُ آياتٌ بيِّناتٌ فى صدورِ الذين أوتوا العلمَ، من المؤمنين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنا أبو سفيانَ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ في قولِه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : القرآنُ آياتٌ بيناتٌ فى صدورِ الذين أوتوا العلمَ، يعني: المؤمنين.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عُنِى بذلك: بل العلمُ بأنك ما كنتَ تَتْلو من قبلِ هذا الكتابِ
(3)
كتابًا ولا تَخُطُّه بيمينِك، آياتٌ بيناتٌ في صدورِ الذين أوتوا العلم من أهلِ الكتابِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3072 من طريق أبي معاذ به.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 99 عن معمر عن قتادة، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3071.
(3)
في ت 1: "القرآن".
وإنما قلتُ: ذلك أولى التأويلين بالآيةِ؛ لأن قولَه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} . بينَ خبرينِ من أخبارِ اللهِ عن رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فهو بأن يكونَ خبرًا عنه، أولى من أن يكون خبرًا عن الكتابِ الذي قد انقَضى الخبرُ عنه قبلُ.
وقولُه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما يَجْحَدُ بنبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأدلتِه، ويُنْكِرُ العلمَ الذي يَعْلَمُ من كُتبِ اللَّهِ التي أَنزَلها على أنبيائِه ببعثِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوَّتِه ومبعثِه - إلا الظالمون. يعنى: الذين ظلموا أنفسَهم بكفرِهم باللهِ عز وجل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ
مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال المشرِكون من قريشٍ: هلَّا أُنزِل على محمدٍ آيةٌ من ربِّه تَكونُ حُجةً له
(2)
علينا، كما جُعِلت الناقةُ لصالحٍ، والمائدةُ
(3)
لعيسى. قلْ يا محمدُ: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} ، لا يَقْدِرُ على الإتيانِ بها غيرُه، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، وإنما أنا نذيرٌ لكم، أُنذِرُكم بأسَ اللهِ وعقابَه على كفرِكم برسولِه وما جاءكم به من عندِ ربِّكم {مُبِينٌ}. يقولُ: قد أبان لكم إنذارَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} .
في ص، ت 1:"آية". وهى قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، ورواية على بن نصر عن أبي عمرو. السبعة لابن مجاهد ص 501.
(2)
فى م: "لله".
(3)
بعده في ص، م:"آية"
(1)
يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يكفِ هؤلاء المشركين يا محمدُ، القائلين: لولا أُنزِل على محمدٍ آية من ربه. من الآيات والحججِ، أنَّا أَنزَلْنا عليك هذا الكتابَ، {يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. يقولُ: يُقْرَأُ عليهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً}. يقولُ: إن فى هذا الكتابِ الذى أَنزَلْنا عليهم
(1)
لرحمةً للمؤمنين به وذكرى يتذكَّرون بما فيه من [عبرِه وعظاتِه]
(2)
.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت من أجلِ أن قومًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انتَسخوا شيئًا من بعضِ كتبِ أهلِ الكتابِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن يحيى بنِ جعدةَ أن ناسًا من المسلمين، أتوا نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بكتبٍ قد كتَبوا فيها بعضَ ما يقولُ اليهودُ، فلما أن نظَر فيها
(3)
ألقاها، ثم قال:"كفى بها حماقة قومٍ -أو ضلالة قومٍ- أن يَرْغَبوا عما جاءهم به نبيُّهم إلى ما جاء به غيرُ نبيِّهم إلى قومٍ غيرِهم" فنزَلت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
(1)
في ت 2: "عليه".
(2)
في م: "عبرة وعظة".
(3)
في ت 2: "إليها".
(4)
ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 3/ 49 عن المصنف، وأخرجه الدارمي 1/ 124، وأبو داود في "المراسيل" ص 223، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3072 من طريق عمرو به. وأخرجه الخطيب في "الموضح" 2/ 543 من طريق إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار، عن يحيى، عن أبي هريرة مرفوعًا. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 148 إلى ابن المنذر.
الْخَاسِرُونَ (52)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ للقائلين لك: لولا أُنزِل عليك آية من ربِّك، الجاحدين بآياتِنا من قومِك: كفى الله
(1)
يا هؤلاء بينى وبَينكم شاهدًا لى وعلىَّ؛ لأنه يَعْلَمُ المحِقَّ منا من المبطلِ، ويَعْلَمُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ، لا يخفى عليه شيءٌ فيهما، وهو المجازى كلَّ فريقٍ منا بما هو أهلُه؛ المحقَّ على ثباتِه على الحقِّ، والمبطلَ على باطلِه، بما هو أهلُه. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ}. يقولُ: صدَّقوا بالشركِ، فأقَرُّوا به. {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ
(2)
}. يقولُ: وجحَدوا اللهَ. {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . يقولُ: هم المغبونون في صفقتِهم.
وبنحوِ الذي قلنا في قولِه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} : الشركِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويَسْتَعْجِلُك يا محمدُ هؤلاء القائلون من قومِك: لولا أُنزِل عليه آيةٌ من ربِّه - بالعذابِ، ويقولون:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32]. ولولا أجلٌ سمَّيتُه لهم
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(2)
في ص، م، ت 2:"به".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3073، 3083 من طريق يزيد به.
فلا أُهْلِكُهم حتى يَسْتَوفُوه ويَبْلُغوه لجاءهم العذابُ عاجلًا.
وقولُه: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . [يقولُ: ولَيَأْتينَّهم العذابُ فجأةً وهم لا يشعرون]
(1)
[بوقتِ مجيئِه قبلَ مجيئِه]
(2)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} . قال: قال ناسٌ من جَهَلةِ هذه الأمةِ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يَسْتَعْجِلُك يا محمدُ هؤلاء المشركون بمجيءِ العذابِ ونزولِه بهم، والنارُ بهم محيطةٌ لم يبقَ إلا أن يَدْخُلوها.
وقيل: إن ذلك هو البحرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، قال: سمِعتُ عكرمةَ يقولُ في هذه الآيةِ: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
في ص، ت 2:"بوقت محمد قبل مجيئه". وفى ت 1: "ترقب يا محمد مجيئه".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3074 من طريق يزيد به.
بِالْكَافِرِينَ}. قال: البحرُ
(1)
.
أخبَرنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ، عن شعبةَ، عن سماكٍ، عن عكرمة مثلَه.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} يوم يغشى الكافرين العذابُ من فوقِهم في جهنمَ ومن تحتِ أرجلِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} : أي: في النارِ
(2)
.
وقوله: {وَيَقُولُ
(3)
ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقول جل ثناؤه: ويقولُ اللَّهُ لهم: ذوقوا ما كنتم تَعْمَلون فى الدنيا من معاصى اللهِ وما يُسْخِطُه فيها. وبالياءِ في {وَيَقُولُ ذُوقُوا} قرأت عامةُ قَرَأَةِ الأمصار، خلا أبي جعفرٍ وأبي عمرٍو فإنهما قرأا ذلك بالنونِ:(ونَقُولُ)
(4)
. والقراءةُ التى هى القراءةُ عندَنا بالياءِ
(5)
؛ لإجماعِ الحجةِ من القَرَأةِ عليها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3075 من طريق شعبة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 149 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3075 من طريق يزيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 149 إلى عبد بن حميد.
(3)
في ص، ت 2:"نقول".
(4)
قرأ نافع والكوفيون: {يقول} . بالياء، وقرأ الباقون بالنون. وينظر السبعة ص 501، والنشر 2/ 257.
(5)
القراءتان كلتاهما صواب.
فَاعْبُدُونِ (56)}.
يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين به مِن عبادِه: يا عبادي الذين وحَّدوني وآمَنوا بي وبرسولي محمدٍ صلى الله عليه وسلم {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} .
واختَلف أهلُ التأويلِ فى المعنى الذى أُريد من الخبرِ عن سِعَةِ الأرضِ؛ فقال بعضُهم: أُريد بذلك: أنها لم تَضِقْ عليكم، فتُقِيموا بموضعٍ منها لا يَحِلُّ لكم المُقامُ فيه، ولكن إذا عُمِل بمكانٍ منها بمعاصى اللهِ، فلم تقدِروا على تَغْييرِه، فاهرُبوا منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ في قولِه:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} . قال: إذا عُمِل فيها بالمعاصي فأخرج منها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ بنِ أبى خالدٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ في قولِه:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} . قال: إذا عُمِل فيها بالمعاصى، فاخْرج منها
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن لَيْثٍ، عن رجلٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: اهرُبوا؛ فإن أرضى واسعةٌ.
(1)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 6/ 262 من طريق الأعمش به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3075، والبيهقي في الشعب (7187) من طريق الأعمش عن ربيع بن أبي راشد عن سعيد به، فزاد ربيعًا في سنده، ومن طريق ربيع هذا أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 99، وابن أبي شيبة 13/ 540، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 4/ 284، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 149 إلى الفريابي.
(2)
تفسير سفيان ص 236.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن شَرِيكِ، عن منصورٍ، عن عطاءٍ، قال: إذا أُمِرتم بالمعاصى فاهرُبوا؛ فإن أرضى واسعةٌ
(1)
.
[حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن منصورٍ، عن عطاءٍ:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} . قال: مُجانَبةُ أهلِ المعاصى.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} ]
(2)
: فهاجِروا وجاهِدوا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . فقلتُ: يريدُ بهذا مَن كان بمكةَ مِن المؤمنين؟ فقال: نعم
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن ما أُخْرِجُ مِن أرضى لكم مِن الرزق واسعٌ لكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: ثنى زيدُ بنُ الحُبابِ، عن شَدَّادِ بن سعيدِ بنِ مالكٍ أبي طلحةَ الرَّاسِبيِّ، عن غَيْلَانَ بنِ جريرٍ المِعْوَلىِّ، عن مُطَرْفِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ العامِرِىِّ فى قولِ اللَّهِ:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} . قال: إن رِزْقى لكم واسعٌ
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3075 من طريق شريك به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 149 إلى ابن أبي الدنيا في العزلة.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
تفسير مجاهد ص 536، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3076. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 149 إلى الفريابي.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3076 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3076 من طريق زيد بن الحباب به.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا [زيدُ بنُ حُبابٍ]
(1)
، عن شَدَّادٍ، عن غَيْلَانَ بنِ جريرٍ، عن مُطَرِّفٍ بنِ الشَّخِّيرِ:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} . قال: رِزْقى لكم واسعٌ.
وأَولى القولَين بتأويلِ الآيةِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: إن أرضى واسعةٌ، فاهرُبوا مِمَّن منَعكم مِن العملِ بطاعتى؛ لدلالةِ قولِه:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . على ذلك، وأن ذلك هو أظهرُ مَعْنَيَيْه
(2)
، وذلك أن الأرضَ إذا وصفها بسَعَةٍ، فالغالبُ من وصفِه إياها بذلك أنها لا تَضِيقُ جميعُها على مَن ضاق عليه منها موضعٌ، لا أنه وصَفها بكثرةِ الخيرِ والخِصْبِ.
وقولُه: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . يقولُ: فأخْلِصوا لي عبادتَكم وطاعتَكم، ولا تُطِيعوا في مَعصيتى أحدًا مِن خَلْقى.
يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين به مِن أصحاب نبيِّه: هاجِرُوا مِن أرضِ الشركِ مِن مكةَ، إلى أرضِ الإسلامِ إلى
(3)
المدينةِ؛ فإن أرضى واسعةٌ، فاصْبِروا على عبادتي، وأَخْلِصوا طاعتى، فإنكم مَيِّتون، وصائِرون إلىَّ؛ لأن كلَّ نفسٍ حيةٍ ذائقةُ الموتِ، ثم إلينا بعدَ الموتِ تُرَدُّون. ثم أخبَرهم جل ثناؤُه، عما أعَدَّ للصابرِين منهم على طاعتِه، من كرامتِه عندِه، فقال:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} . يعنى: صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه، فيما جاء به مِن عندِ اللَّهِ، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: وعمِلوا بما أمَرهم اللهُ
(1)
في ت 2: "يزيد بن خباب".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"لمعنييه".
(3)
سقط من: م، ت 2.
فأطاعوه فيه، وانتهوا عما نَهاهم عنه، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} يقولُ: لمُنْزِلَنَّهم مِن الجنةِ عَلَاليَّ.
واختَلَفت القرأةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكوفييِّن: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بالباءِ، وقرَأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ بالثاء:(لَنُثْوِيَنَّهُمْ)
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك عندى أنهما قِراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصارِ، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرأةِ، مُتقارِبتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمُصِيبٌ؛ وذلك أن قولَه:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} . من: بَوَّأْتُه مُنزِلًا، أي: أنزَلتُه، وكذلك:(لنُثْوِيَنَّهم)؛ إنما هو مِن: أثْويتُه مَسْكَنًا. إذا أَنزَلْتَه مُنزلًا، مِن الثَّواءِ، وهو المُقامُ.
وقولُه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . يقولُ: تَجْرِى مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ، {خَالِدِينَ فِيهَا}. يقولُ: ماكِثين فيها إلى غير نهايةٍ، {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}. [يقولُ: نعمَ جزاءُ العامِلين]
(2)
بطاعةِ اللهِ هذه الغُرَفُ التي يُثْوِيهُموها اللهُ فى جَنَّاتِهِ، تَجْرِى مِن تحتِها الأنهارُ، {الَّذِينَ صَبَرُوا} على أذَى المشركين في الدنيا، وما كانوا يَلْقَون منهم، وعلى العملِ بطاعةِ اللهِ وما يُرْضِيه، وجهادِ أعدائِه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. [يقولُ: وعلى ربِّهم يتوكلون]
(3)
في أرْزاقِهم وجهادِ أعدائِهم، فلا يَنْكُلون
(4)
عنهم؛ [ثقةً منهم]
(5)
بأن اللهَ مُعْلِى كلمتِه، ومُوهِنُ كيدِ
(1)
هي قراءة ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 502، وتفسير القرطبي 13/ 359.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
سقط من: م.
(4)
غير واضحة في ت 1، وفي ت 2:"يتكلمون". ونكل عن الأمر: جَبُن، ونكَص. الوسيط (ن ك ل).
(5)
سقط من: ت 1.
الكافرين، وأن ما قُسِم لهم من الرزقِ فلن يَفُوتَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} .
يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين به وبرسولِه من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: هاجِروا وجاهِدوا فى اللهِ، أيُّها المؤمنون -أعداءَه، ولا تَخافوا عَيْلةً ولا إِقْتارًا، فكم مِن دابةٍ ذاتِ حاجةٍ إلى غذاءٍ ومطعمٍ ومشربٍ لا تحملُ رزقَها، يعنى غذاءَها، لا تحمِلُه فترفَعُه في يومِها لغدِها؛ لعجزِها عن ذلك، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} يومًا بيومٍ، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالِكم: نَخْشَى بفِراقِنا أوطانَنا العَيْلةَ. {الْعَلِيمُ} ما في أنفسِكم، وما إليه صائرٌ أمرُكم، وأمرُ عدوِّكم من إذْلالِ اللهِ إياهم
(1)
، ونُصْرتِكم عليهم، وغيرِ ذلك مِن أمورِكم، لا يَخْفى عليه شيءٌ مِن أمورِ خلقِه.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا} . قال: الطيرُ والبهائمُ لا تحمِلُ الرزقَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمعتُ عِمْرانَ،
(1)
فى ص: "إياكم".
(2)
تفسير مجاهد ص 537، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3079 وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 149 إلى الفريابي وابن المنذر.
عن أبى مِجْلَزٍ فى هذه الآيةِ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} . قال: مِن الدوابِّ ما لا يستطيعُ أن يدَّخِرَ لَغَدٍ، يُوَفَّقُ لرزقِه كلَّ يومٍ حتى يموتَ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن عليِّ بنِ الأقْمرِ {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا}. قال: لا تَدَّخِرُ شيئًا لغدٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولئن سألتَ يا محمدُ هؤلاء المشركين باللهِ: {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فَسَوَّاهن، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لعبادِهِ، يَجْرِيان دائبَين لمصالحِ خلقِ اللهِ؟ لَيَقُولُنَّ: الذى خلَق ذلك وفَعَلَه اللهُ. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فأَنَّى يُصْرَفون عمن صنَع ذلك، فيَعْدِلون عن إخلاصِ العبادةِ له.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . أى: يَعْدِلُونَ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: اللهُ يُوَسِّعُ مِن رزقِه لَمَن يشاءُ مِن خلقِه، ويُضَيِّقُ فَيُقَتِّرُ لمَن يشاءُ منهم. يقولُ: فأَرْزاقُكم وقِسْمتُها بينَكم، أيُّها الناسُ، يبَدِى دونَ كلِّ أحدٍ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 149 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة -كما في الدر المنثور 5/ 149 - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3079 من طريق سفيان عن ابن المعتمر. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 149 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3079 من طريق يزيد به.
سِواى، أَبْسُطُ لمَن شئتُ منها، وأُقَتِّرُ على مَن شئتُ، فلا يُخَلِّفنَّكم عن الهجرةِ وجهادِ عدوِّكم خوفُ العَيْلةِ، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. يقولُ: إِن اللهَ عليمٌ بمصالحِكم، ومَن لا [يَصْلُحُ له]
(1)
إلا البسطُ فى الرزقِ، ومَن لا يصلُحُ له إلا التَّقْتِيرُ عليه، وهو [العالمُ بكلِّ ذلك]
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولئن سألتَ، يا محمدُ، هؤلاء المشركين باللهِ مِن قومِك:{مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ، وهو المطرُ الذي يُنْزِلُه اللهُ من السحابِ، {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ}. يقولُ: فأحْيَا بالماءِ الذى أنزَله
(3)
من السماءِ الأرضَ. وإحْياؤُها: إنباتُه النباتَ فيها، {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا}: مِن بعدِ جُدُوبِها وقُحُوطِها.
وقولُه: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . يقولُ: ليَقُولُنَّ: الذي فعَل ذلك، اللهُ الذي له عبادةُ كلِّ شيءٍ. وقولُه:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} . يقولُ: وإذا قالوا ذلك فقُلْ: الحمدُ للهِ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . يقولُ: بل أكثرُ هؤلاء المشركين باللهِ لا يَعْقِلون ما لهم فيه النَّفْعُ مِن أمرِ دينِهم، وما فيه الضُّرُّ، فهم لجَهْلِهم يحسَبون أنهم لعبادتِهم الآلهةَ دونَ اللهِ، يَنالون بها عندَ اللهِ زُلْفةً وقُرْبةٌ، ولا يعلَمون أنهم بذلك هالِكون، مُسْتوجِبون الخلودَ في النارِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ
(1)
فى ت 1، ت 2:"يصلحه".
(2)
في م: "عالم بذلك".
(3)
فى م: "نزل".
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وما هذه الحيَاةُ الدنيا التي يتمتعُ منها هؤلاء المشركون {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} . يقولُ: إلا تعليلُ النفوسِ بما تَلْتَذُّ به، ثم هو مُنْقَضٍ عن قريبٍ، لا بقاءَ له ولا دوامَ، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} ، يقولُ: وإن الدارَ الآخرة لفيها الحياةُ الدائمةُ، التى لا زوالَ لها، ولا انقطاعَ ولا موتَ معها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : حياةٌ لا موتَ فيها
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَهِيَ الْحَيَوَانُ} . قال: لا موتَ فيها
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} . يقولُ: باقيةٌ
(3)
.
وقولُه: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . يقولُ: لو كان هؤلاء المشركون يعلَمون أن ذلك كذلك، لقَصَّروا عن تكْذيبِهم باللهِ، وإشْراكِهم غيرَه في عبادتِه، ولكنهم لا يعلَمون ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} .
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3081، 3082 من طريق يزيد به.
(2)
تفسير مجاهد ص 537، ومن طريقه ابن أبي حاتم 9/ 3081.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3081 من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 149 إلى ابن المنذر.
يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا ركِب هؤلاء المشركون السفينةَ في البحرِ، فخافوا الغرَقَ والهلاكَ فيه، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. يقولُ: أخْلَصوا للهِ -عندَ الشِّدَّةِ التي نزلَت بهم- التوحيدَ، وأفْرَدوا له الطاعةَ، وأذْعَنوا له بالعبودةِ، ولم يَسْتَغِيثوا بآلهتِهم وأنْدادِهم، ولكن باللهِ الذى خَلَقَهم، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ}. يقولُ: فلمَّا خَلَّصهم مما كانوا فيه وسَلَّمهم، فصاروا إلى البَرِّ، إذا هم يجعَلون مع اللهِ شريكًا في عبادتِهم، ويَدْعون الآلهةَ والأوثانَ معه أربابًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} : فالخلقُ كلُّهم يُقِرُّون للهِ أنه ربُّهم، ثم يُشركون بعدَ ذلك
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما نجَّى اللهُ هؤلاء المشركين مما كانوا فيه في البحرِ من الخوفِ والحَذَرِ مِن الغَرَقِ إلى البَرِّ، إذا هم بعد أن صاروا إلى البَرِّ، يُشركون باللهِ الآلهة والأنْدادَ، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}. يقول: ليَجْحَدوا نعمةَ اللهِ التي أنعَمها عليهم في أنفسِهم وأموالِهم.
{وَلِيَتَمَتَّعُوا} . اختلَفت القرأةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرأَته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} بكسرِ "اللامِ"، بمعنى: وكي يَتَمَتَّعوا آتَيناهم ذلك
(2)
. وقرأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفيِّين: (وَلْيَتَمَتَّعُوا) بسكونِ "اللامِ"، على وَجْهِ الوعيدِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3082 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 149، 150 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
هي قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم ورواية عن نافع. السبعة ص 502، 503.
والتوبيخِ، أي: اكفُروا؛ فإنكم سوف تعلَمون ماذا تَلْقَون
(1)
مِن عذابِ اللهِ بكفرِكم
(2)
به
(3)
.
وأَولى القراءتين عندى فى ذلك بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه بسكونِ "اللامِ"
(4)
على وجهِ التهديدِ والوعيدِ، وذلك أن الذين قرَءوه بكسرِ "اللامِ" زعَموا أنهم إنما اخْتاروا كسرَها عطفًا بها على "اللامِ" التى فى قولِه:{لِيَكْفُرُوا} . وأن قولَه: {لِيَكْفُرُوا} . لمّا كان معناه: كى يكفُروا كان الصوابُ في قولِه: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} أن يكونَ: وكى يَتَمتَّعوا، إذ كان عطفًا على قولِه:{لِيَكْفُرُوا} . عندَهم. وليس الذى
(5)
ذهَبوا مِن ذلك بمذهبٍ، وذلك لأن "لامَ" قولِه:{لِيَكْفُرُوا} . صلُحت أن تكونَ بمعنى "كي"؛ لأنها شرطٌ لقولِه: إذا هم يُشركون باللهِ، كى يكفُروا بما آتيناهم من النِّعَمِ. وليس ذلك كذلك في قولِه:{وَلِيَتَمَتَّعُوا} . لأن إشْراكَهم باللهِ كان كُفْرًا بنعمتِه، وليس إشْراكُهم به تَمَتُّعًا بالدنيا، وإن كان الإشْراكُ به يُسَهِّلُ لهم سبيلَ التَّمَتُّعِ بها، فإذ كان ذلك كذلك فتَوْجِيهُه إلى معنى الوعيدِ أَولى وأحقُّ مِن تَوْجِيهِه إلى معنى: وكي يَتَمتَّعوا.
وبعدُ، فقد ذُكر أن ذلك فى قراءةِ أُبَيٍّ:(وَتَمَتَّعُوا)
(6)
. وذلك دليلٌ على صحةِ قراءةِ من قرَأه بسكونِ "اللامِ"، بمعنى الوعيدِ.
وقولُه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} ، يقولُ تعالى ذكرُه مُذَكَّرًا هؤلاء
(1)
في م: "يلقون".
(2)
فى م، ص، ت 2:"بكفرهم".
(3)
هي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ورواية عن نافع. السبعة ص 502، 503.
(4)
القراءتان كلتاهما صواب.
(5)
فى ص، ت 1، ت 2:"الذين".
(6)
تفسير القرطبي 13/ 363، والبحر المحيط 8/ 159.
المشركينِ مِن قريشٍ، القائلين: لولا أُنزِل عليه
(1)
آيةٌ مِن ربِّه- نِعْمَتَه عليهم، التي خَصَّهم بها دونَ سائرِ الناسِ غيرِهم، مع كفرِهم بنعمتِه، وإشْراكِهم في عبادتِه الآلهة والأنْدادَ: أولم يَرَ هؤلاء المشركون مِن قريشٍ، ما خَصَصْناهم به من نعمتِنا عليهم دونَ سائرِ عبادِنا، فيَشْكُرونا على ذلك، ويَنْزجِروا عن كفرِهم بنا، وإشْراكِهم ما لا ينفعُهم ولا يَضُرُّهم في عبادتِنا؛ {أَنَّا جَعَلْنَا} بلدهم {حَرَمًا} حَرَّمْنا على الناس أن يدخُلوه بغارةٍ أو حربٍ، {آمِنًا} يأْمَنُ فيه من سكَنه، فأَوَى إليه، من السِّبَاءِ والخوفِ والحرامِ الذي لا يأمَنُه غيرُهم مِن النَّاسُ؟! {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}. يقولُ: ويُسْلَبُ الناسُ مِن حولِهم قتلًا وسِبَاءً.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} . قال: كان لهم في ذلك آيةٌ أن الناسَ يُغْزَون ويُتَخَطَّفون، وهم آمِنون
(2)
.
وقولُه: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ} . يقولُ: أفبالشِّرْكِ باللهِ يُقرُّون بألُوهةِ الأوثانِ، بأن يُصَدِّقوا، وبنعمةِ اللهِ التى خَصَّهم بها، مِن أن جعَل بلدَهم حَرَمًا آمِنًا يكفُرون؟! يعنى بقولِه:{يَكْفُرُونَ} . يَجْحَدون.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} : أي: بالشِّرْكِ، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}. أي: يجحَدون
(3)
.
(1)
فى ص، ت 1، ت 2:"علي محمد".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3083 من طريق يزيد. وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 150 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3073، 3083 من طريق يزيد مختصرًا دون شطره الثاني، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 150 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن أظلمُ أيُّها الناسُ، ممن اختَلَق على اللهِ كَذِبًا؛ فقالوا إذا فعَلوا فاحشةً: وجَدنا عليها آباءَنا، واللهُ أمرَنا بها. واللهُ لا يأمُرُ بالفحشاءِ - {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ}. يقولُ: أو كذَّب بما بعَث اللهُ به رسولُه محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن توحيدِه، والبراءةِ مِن الآلهةِ والأندادِ، لمّا جاءَه هذا الحقُّ مِن عِندِ اللهِ، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}. يقولُ: أليس فى النارِ مَثْوًى ومَسْكَنٌ لمن كفَر باللهِ وجَحَد توحيدَه وكذَّب رسولَه صلى الله عليه وسلم. وهذا تقريرٌ وليس باستفهامِ، إنما هو كقولِ جريرٍ
(1)
:
ألسْتُم خَيْرَ مَن رَكِب المَطايا
…
وأنْدَى العالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
إنما أخبرَ أن للكافرين باللهِ مَسْكَنًا في النارِ، ومَنزِلًا يَثْوُون فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: والذين قاتلَوا هؤلاء المُفْتَرِين على اللهِ كذبًا، من كفارِ قريشٍ، المُكذِّبين بالحقِّ لما جاءَهم- فينا، مُبْتَغين بقتالهم عُلُوَّ كلمتِنا، ونُصْرةَ دينِنا، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. يقولُ: لنُوَفِّقَنَّهم لإصابةِ الطُّرُقِ المستقيمةِ، وذلك إصابةُ دينِ اللهِ، الذى هو الإسلامُ، الذي بَعث اللهُ به محمدًا صلى الله عليه وسلم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. يقولُ: وإن اللهَ لمع مَن أحسَن مِن خلقِه، فجاهَد فيه أهلَ الشركِ، مُصَدِّقًا رسولَه فيما جاء به من عندِ اللهِ، بالعَوْنِ له والنُّصْرِةِ على مَن جَاهَد مِن أعدائِه.
(1)
ديوانه 1/ 89.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ قولِه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} . فقلتُ له: قاتَلوا فينا؟ قال: نعم
(1)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "العنكبوتِ"
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره 9/ 3084 من طريق أصبغ عن ابن زيد.
تفسيرُ "سورةِ الرومِ"
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} .
قال أبو جعفرٍ: قد بيَّنا فيما مضَى قبلُ معنى قولِه: {الم} . وذكَرنا ما فيه من أقوالِ أهلِ التأويلِ، فأغنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ.
وقولُه: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} . اختَلَفت القرأةُ في قراءتِه؛ فقرَأته عامَّةُ قرأةِ الأمصارِ: {غُلِبَتِ الرُّومُ} بضمِّ الغينِ، بمعنى أن فارسَ غَلَبت الرومَ.
ورُوى عن ابن عمرَ وأبى سعيدٍ في ذلك ما حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن الحسنِ الجُفْرِيِّ، عن سَلِيطٍ، قال: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقرأُ: (الم غَلَبَتِ الرُّومُ). فقيل له: يا أبا عبدِ الرحمنِ، على أيِّ شيءٍ غَلَبوا؟ قال: على ريفِ الشامِ
(1)
والصوابُ من القراءةِ فى ذلك عندَنا الذى لا يجوزُ غيرُه: {الم (1)
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 152 إلى المصنف، وهى قراءة على وأبى سعيد الخدرى وابن عباس ومعاوية بن قرة والحسن، وهى شاذة. البحر المحيط 7/ 161.
غُلِبَتِ}
(1)
، بضمِّ الغين؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: غَلَبت فارسُ الرومَ، {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}: من أرضِ الشامِ إلى أرضِ فارسَ، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ}. يقولُ: والرومُ من بعدِ غلبةِ فارسَ إياهم {سَيَغْلِبُونَ} فارسَ، {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ} من قبلِ غلَبَتِهِم فارسَ، ومن بعدِ غلَبَتِهم إياها، يقضى فى خلقِه ما يشاءُ، ويحكُمُ ما يريدُ، ويُظهِرُ مَن شاء منهم على مَن أحبَّ إظهارَه عليه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}. يقولُ:: ويومَ يغلِبُ الرومُ فارسَ يفرحُ المؤمنون باللهِ ورسولِه بنصرِ الله إياهم على المشركين، ونُصْرةِ الرومِ على فارسَ، {يَنْصُرُ} اللهُ تعالى ذكرُه {مَنْ يَشَاءُ} من خلقِه على مَن يشاءُ، وهو نُصرةُ
(2)
المؤمنين على المشركين ببدرٍ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}. يقولُ: واللهُ الشديدُ فى انتقامِه من أعدائِه، لا يمنعُه من ذلك مانعٌ، ولا يَحولُ بينَه وبينَه حائلٌ، {الرَّحِيمُ} بمَن تاب من خلقِه وراجَع طاعتَه أن يعذبَه.
وبنحوِ الذى قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا [محمدُ بنُ أسعدَ، أبو سعيدٍ التغلبيُّ، الذي يقالُ له أبو سعيدٍ]
(3)
؛ من أهلِ طَرَسُوسَ
(4)
، قال: ثنا أبو إسحاقَ الفزاريُّ، عن سفيانَ بنِ سعيدٍ
(1)
بعده في م، ف:"الروم".
(2)
في ت 1: "نصر"، وفى ت 2:"بنصرة".
(3)
في ص: "محمد بن سعيد أبو سعيد الثعلبى الذى يقال له أبو سعد"، وفى م، ف:"محمد بن سعيد أو سعيد الثعلبي الذى يقال له أبو سعد"، وفى ت 1:"محمد بن سعيد الثعلبي الذي يقال له أبو سعيد"، وفي ت 2:"سعيد أبو سعيد الثعلبي الذي يقال له أبو سعيد"، ولعل الصواب ما أثبت، وينظر الجرح والتعديل 7/ 208، والثقات لابن حبان 9/ 68، وتهذيب الكمال 24/ 429.
(4)
طَرَسوس: مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. معجم البلدان 3/ 526.
الثوريِّ، عن حبيبِ بن أبي عَمْرَةَ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان المسلمون يحبُّون أن تَغلبِ الرومُ أهلُ الكتابِ، وكان المشركون يحبُّون أن يغلبَ أهلُ فارسَ؛ لأنهم أهلُ أوثانٍ. قال: فذكَروا ذلك لأبى بكرٍ، فذكَره أبو بكرٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أمَا إنهم سيَهزِمون". قال: فذكَر ذلك أبو بكرٍ للمشركين. قال: فقالوا: أفنجعلُ
(1)
بينَنا وبينَكم أجلًا، فإن غلَبوا كان لك كذا وكذا، وإن غلَبنا كان لنا كذا وكذا؟ قال: فجعَلوا بينَهم وبينَه أجلًا؛ خمسَ سنينَ. قال: فمضَت ولم يَغلِبوا. قال: فذكَر ذلك أبو بكرٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"أفلا جعَلتَه دونَ العَشْرِ". قال سعيدٌ: والبِضْعُ: ما دونَ العشرِ. قال: فغُلِب الرومُ، ثم غَلَبت. قال: فذلك قولُه: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قال: البِضْعُ: ما دونَ العشرِ. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} . قال سفيانُ: فبلَغني أنهم غَلَبوا يومَ بدرٍ
(2)
.
حدَّثني زكريا بنُ يحيى بنِ أبانٍ المصريُّ، قال: ثنا موسى بنُ هارونَ البرْدِيُّ، قال: ثنا معنُ بنُ عيسى، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن ابنِ شهابٍ، عن عبيدِ اللهِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما نزَلت: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الآية، ناحَب أبو بكرٍ قريشًا، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: إني قد
(1)
في ت 1، ت 2:"فنجعل".
(2)
أخرجه البخارى فى خلق أفعال العباد (91) عن ابن المثنى به، وأخرجه أحمد 4/ 296، 490 (2495، 2769)، والبخارى فى خلق أفعال العباد (90)، والترمذى (3193)، والنسائي في الكبرى (11389)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 6/ 304، والطبراني (12377)، والحاكم 2/ 410، وأبو نعيم فى الدلائل (242)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 330، 331، وابن عساكر 1/ 372، 373، والضياء في المختارة 10/ 144، 146 (144، 145) من طريق أبي إسحاق الفزاري به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 150 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
ناحَبتُهم. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلَّا احْتَطْتَ؛ فإن البِضْعَ ما بينَ الثَّلاثِ إلى التِّسْعِ". قال الجُمَحِيُّ: المناحبَةُ: المراهنةُ، وذلك قبلَ أن يكونَ تحريمُ ذلك
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قولِه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} . قال: قد مضى؛ كان ذلك في أهلِ فارسَ والرومِ، وكانت فارسُ قد غلَبَتهم، ثم غلَبت الرومُ بعدَ ذلك، ولقِي نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مشركي العربِ يومَ التقَت الرومُ وفارسُ، فنصَر اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المسلمين على مشركي العربِ، ونصر أهلَ الكتابِ على مشركي العجمِ، ففرِح المؤمنون بنصرِ اللهِ إياهم، ونصرِ أهلِ الكتابِ على العجمِ. قال عطيةُ: فسأَلتُ أبا سعيدٍ الخُدْريَّ عن ذلك، فقال: التقَينا مع
(2)
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومشرِكى العربِ، والتقَت الرومُ وفارسُ، فنصَرنا اللهُ على مشرِكى العربِ، ونصَر اللهُ أهلَ الكتابِ على المجوسِ، ففرِحنا بنصرِ الله إيانا على المشركين، وفرِحنا بنصرِ اللهِ أهلَ الكتابِ على المجوسِ، فذلك قولُه:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ}
(3)
.
حدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} : غَلَبتهم فارسُ، ثم غَلَبت الرومُ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن عساكر 1/ 370 من طريق معن بن عيسى به، وأخرجه الترمذى (3191)، وابن عساكر 1/ 379 من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي به.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ف:"محمد".
(3)
أخرجه البيهقى فى الدلائل 2/ 331، 332، وابن عساكر 1/ 371، 372 من طريق محمد بن سعد به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 151 إلى ابن مردويه.
(4)
أخرجه ابن عبد الحكم فى فتوح مصر ص 44 عن عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن المنذر.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: خمسٌ قد مضَين؛ الدُّخانُ، واللِّزامُ، والبَطْشةُ، والقَمَرُ، والرُّومُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المُثَنَّى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: قد مضَى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} .
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قولِه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . قال: ذكَر غلَبَةَ فارس إياهم، وإدالةَ الرومِ على فارسَ، وفرِح المؤمنون بنصرِ الرومِ أهلِ الكتابِ على فارسَ من أهلِ الأوثانِ
(2)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبى بكرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن عكرمةَ: أن الرومَ وفارسَ اقتتَلوا فى أدنى الأرضِ. قال: وأدنى الأرضِ يومَئذٍ أَذْرِعاتٌ
(3)
، بها التقَوا فهُزِمت الرومُ، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وهم بمكةَ، فشقَّ ذلك عليهم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكرهُ أن يَظهرَ الأمِّيون من المجوسِ على أهلِ الكتابِ من الرومِ، وفرِح الكفارُ بمكةَ وشمِتوا، فلَقُوا أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنكم أهلُ كتابٍ، والنصارى أهلُ كتابٍ، ونحن أمِّيون، وقد ظهَر إخوانُنا من أهلِ
(1)
أخرجه البخارى (4767، 4820، 4825)، ومسلم (2798/ 41)، والطحاوى في شرح مشكل الآثار 2/ 423 عقب (964) من طريق الأعمش به، وأخرجه النسائي في الكبرى (11374)، والطبراني (9049) من طريق مسلم بن صبيح به.
(2)
تفسير مجاهد ص 538، ومن طريقه البيهقى فى الدلائل 2/ 331، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 101 من طريق ابن أبي نجيح به.
(3)
أذرعات: بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان. معجم البلدان 1/ 175.
فارسَ على إخوانِكم من أهلِ الكتاب، وإنكم إن قاتَلتمونا لنَظهرَن عليكم. فأنزَل اللهُ: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ
(1)
} الآيات، فخرَج أبو بكرٍ الصديقُ إلى الكفارِ، فقال: أفرِحتم بظهورِ إخوانِكم على إخوانِنا؟ فلا تَفْرَحوا، ولا يُقرَّنَّ اللهُ أعينَكم، فواللهِ لتظهرَنَّ الرومُ على فارسَ، أخبَرنا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أُبَيُّ بنُ خلفٍ فقال: كذَبتَ يا أبا فُضَيلٍ. فقال له أبو بكرٍ رضي الله عنه: أنت أكذبُ يا عدوَّ اللهِ. فقال: أُنَاحِبُك
(2)
؛ عشرُ قلائصَ
(3)
منى، وعشرُ قلائصَ منك، فإن ظهَرت الرومُ على فارسَ غرِمتُ. وإن ظهَرت فارسُ
(4)
غرِمتَ، إلى ثلاثِ سنينَ. ثم جاء أبو بكرٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبَره، فقال: "ما هكذا ذكَرتُ، إنما البِضْعُ ما بينَ الثلاثِ إلى التسعِ. فزايِدْه في الخَطَرِ
(5)
، ومادِّه
(6)
في الأجلِ". فخرَج أبو بكرٍ، فلقِى أُبَيًّا، فقال: لعلك ندِمتَ؟ قال: لا، تعال أُزايِدْك فى الخطرِ، وأُمادَّك في الأجلِ، فاجعَلْها مائةَ قَلوصٍ [لمائةِ قلوصٍ]
(7)
، إلى تسعِ سنينَ. قال:[قد فعلتُ]
(8)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي بكرٍ، عن عكرمةَ. قال]
(9)
: كانت فى فارسَ امرأةٌ لا تَلِدُ إلا الملوكَ الأبطالَ، فدعاها كِسْرَى،
(1)
بعده في ت 2: "ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
(2)
في ت 1، ت 2:"أناجيك". وأُناحبكَ، أي: أُراهنك.
(3)
القلوص: الفتية من الإبل. اللسان (ق ل ص).
(4)
بعده فى م، ت 2، ف:"على الروم".
(5)
الخطر: الرهن وما يخاطر عليه. النهاية 2/ 46.
(6)
ماده، أي: ماطله وجاذبه. اللسان (م د د).
(7)
سقط من: ت 1.
(8)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 152 إلى المصنف، وينظر الأثر القادم.
(9)
سقط من: ت 2.
فقال: إنى أُرِيدُ أن أَبْعَثَ إلى الرومِ جيشًا، وأستعمِلَ عليهم رجلًا من بَنيكِ، فَأَشِيرى على، أَيُّهم أستعمِلُ؟ فقالت: هذا فلانٌ، وهو أروغُ من ثعلبٍ، وأحذرُ من صقرٍ
(1)
، وهذا فَرُّحَانُ، وهو أنفذُ من سنانٍ، وهذا شَهْرَبرَازُ
(2)
، وهو أحلمُ من كذا، فاستعمِلْ أيَّهم شئْتَ. قال: إني قد استعمَلتُ الحليمَ. فاستعمَل شَهْرَبَرَازَ
(2)
، فسار إلى الرومِ بأهلِ فارسَ، وظهَر عليهم، فقتَلهم، وخرَّب مدائنَهم، وقطَّع زيتونَهم. قال أبو بكرٍ: فحدَّثتُ بهذا الحديثِ عطاءً الخراسانيَّ، فقال: أما رأيتَ بلادَ الشامِ؟ قلت: لا قال: أما إنك لو رأَيتَها
(3)
، لرأَيتَ المدائنَ التي خُرِّبت، والزيتونَ الذي قُطِّع. فأتيتُ الشامَ بعد ذلك فرأيتُه.
قال عطاءٌ الخراسانيُّ: ثني يحيى بنُ يَعْمَرَ: أن قيصرَ بعَث رجلًا يُدعَى قطمةَ بجيشٍ من الرومِ، وبعث كسرَى شهربرازَ
(2)
، فالْتَقيا بأذْرِعاتٍ وبُصْرَى، وهي أدنى الشام إليكم، فلقِيَتْ فارسُ الرومَ، فغلَبتهم، فارسُ، ففرِح بذلك كفارُ قريشٍ، وكرِهه المسلمون، فأنزَل اللهُ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} الآيات. ثم ذكَر مثلَ حديثِ عكرمةَ، وزاد: فلم يبرَحْ
(4)
شهَربرازُ يَطَؤُهم، ويُخرِّبُ مدائنَهم، حتى بلَغ الخليجَ
(5)
، ثم مات كسرَى، فبلَغهم، موتُه، فانهَزم شهرَبرازُ وأصحابُه، [وأُدِيلَتْ عليهم]
(6)
الرومُ عندَ ذلك، فأَتْبَعوهم يَقْتُلونهم. قال: وقال عكرمةُ في حديثِه: لما ظهَرت فارسُ على الرومِ جلَس فرُّخانُ يشربُ، فقال لأصحابِه: لقد رأيتُ كأني
(1)
في ص، م، ت 2، ف:"صرد"، وينظر ابن كثير.
(2)
فى ت 1: "شهرواز"، وفى ابن كثير:"شهريراز"، وينظر البداية والنهاية 10/ 155.
(3)
في ص، ت 1:"أتيتها".
(4)
في م، ف:"يزل".
(5)
في ت 2: "الخليع".
(6)
فى م، ف:"وأوعبت عليهم"، وفي ت 1:"وأدركهم".
جالسٌ على سريرِ كسرَى. فبلَغت كسرَى، فكتَب إلى شهرَبرازَ: إذا أتاك كتابى، فابعَثْ إليَّ برأسِ فَرُّخان، فكتَب إليه: أيُّها الملِكُ، إنك لن تَجِدَ مثلَ فَرُّحانَ، إن له نكايةً وصوتًا
(1)
في العدوِّ، فلا تَفْعَلْ. فكتَب إليه: إن فى رجالِ فارسَ خلفًا منه، فعجِّلْ إليَّ برأسِه. فراجَعه، فغضِب كسرَى فلم يُجِبْه، وبعَث [بريدًا إلى أهلِ]
(2)
فارسَ: إنى قد نَزَعتُ عنكم شهرَبرازَ
(3)
، واستعمَلتُ عليكم فرُّخانَ، ثم دفَع إلى البريدِ صحيفةً صغيرةً: إذا وَليَ فرُّخانُ الملْكَ، وانقادَ له أخوه، فأَعْطِه هذه
(4)
. فلما قرَأ شهرَبرازُ الكتابَ، قال: سمعًا وطاعةً. ونزَل عن سريرِه، وجلَس فَرُّخانُ، ودُفِع الصحيفةُ إليه، قال: ائتونى بشهرَبرازَ. فقدَّمه ليَضْرِبَ عنقَه، قال: لا تعجَلْ حتى أكتبَ وصيَّتى. قال: نعم. فدعا بالسَّفَطِ
(5)
، فأعطاه ثلاثَ صحائف وقال: كلُّ هذا راجَعتُ فيك كسرَى، وأنت أردتَ أن تَقْتُلَنى بكتابٍ واحدٍ! فردَّ المُلكَ، وكتب شهرَبرازُ إلى قيصرَ ملكِ الرومِ: إن لى إليك حاجةَ لا تَحْمِلُها البُرُدُ
(6)
، ولا تُبلِّغُها الصحفُ، فالْقَنى، ولا تَلْقَنى إلَّا فى خمسين روميًّا، فإنى ألقاك
(7)
في خمسين فارسيًّا. فأقبَل قيصرُ فى خمسِمائة ألفِ روميٍّ، وجعَل يَضَعُ العيونَ بينَ
(1)
في ص، م، ت 2، ف:"ضربا"، والمثبت موافق لما فى ابن كثير، ويقال: له صوت، أي: ذِكر. اللسان (ص و ت).
(2)
في ت 2: "يريد إلى".
(3)
في ت 1: "شهرواز".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(5)
السفَط: الذي يعبي فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. اللسان (س ف ط).
(6)
فى م، ف:"البريد"، والبرد جمعها.
(7)
في ت 2: "لا ألقاك إلا".
يديه في الطريقِ، وخاف أن يكونَ قد مكَر به، حتى أتاه
(1)
عيونُه أن ليس معه إلَّا خَمْسون رجلًا، ثم بُسِط لهما، والتَقَيا في قبةِ ديباجٍ، ضُرِبت لهما، مع كلِّ واحدٍ منهما سِكِّينٌ، فدعَيا
(2)
تُرْجُمانًا بينَهما، فقال شهرَبرازُ: إن الذين خرَّبوا مدائنَك
(3)
أنا وأخى، بكيدِنا وشجاعتِنا، وإن كسرَى حسَدنا، فأراد أن أقتُلَ أخى فَأَبَيْتُ، ثم أمَر أخى أن يقتلَنى، فقد خلَعْناه
(4)
جميعًا، فنحن نُقاتِلُه معك. فقال: قد أصَبتما، ثم أشار أحدُهما إلى صاحبِه أن السرَّ
(5)
بينَ اثنينِ، فإذا جاوز اثنينِ فشا. قال: أجلْ. فقتَلا التُّرْجُمانَ جميعًا بسكينَيْهما، فأهلَك اللهُ كسرَى، وجاء الخبرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيةِ، ففرِح ومَن معه
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} . قال: غلبَتْهم
(7)
فارسُ على أدنى الشامِ، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الآية. قال: لما أنزَل اللهُ هؤلاء الآياتِ صدَّق المسلمون ربَّهم، وعلِموا أن الرومَ سيَظهَرون على فارسَ، فاقتَمَروا هم والمشركون؛ خمسَ قلائصَ خمسَ قلائصَ، وأَجَّلُوا بينَهم خمسَ سنين، فوَلِى قِمارَ المسلمين أبو بكرٍ رضي الله عنه، وولِى قِمارَ المشركين [أُبَيُّ بنُ خلفٍ؛ وذلك قبلَ أن يُنْهَى عن القمارِ، فحلَّ الأجلُ، ولم تَظْهَرِ الرومُ على فارسَ، وسأَل المشركون قِمارَهم]
(8)
، فذكَر ذلك أصحابُ النبيِّ
(1)
في م، ف:"أتته".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"فدعا"، ودعيت: لغة فى دعوت. القاموس المحيط (د ع و).
(3)
في ص: "مدينتك".
(4)
في ت 2: "خالفناه".
(5)
فى ت 1: "الستر".
(6)
أخرجه سنيد في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي 3/ 54، وابن كثير في تفسيره 6/ 306، 307.
(7)
في ص، ت 2، ت 3:"غلبهم".
(8)
سقط من: ت 2.
للنبيِّ
(1)
صلى الله عليه وسلم، فقال: "لم يكونوا
(2)
أحِقَّاءَ أن يُؤَجِّلوا
(3)
دونَ العشرِ؛ فإن البِضعَ ما بينَ الثلاثِ إلى العشرِ، وزايِدوهم فى القمارِ، ومادُّوهم فى الأجلِ". ففعَلوا ذلك، فأظهَر اللهُ الرومَ على فارسَ عندَ رأسِ البضعِ سنين من قمارِهم الأولِ، وكان ذلك مرجِعَه من الحديبيةِ، ففرح المسلمون بصلحِهم الذى كان، وبظهورِ أهلِ الكتابِ على المجوسِ، وكان ذلك مما شدَّد اللهُ به الإسلامَ، وهو قولُه:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} الآية
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن الشعبيِّ في قولِه:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قولِه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} . قال: كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم أخبَر الناسَ بمكةَ أن الروم ستَغْلِبُ، قال: فنزَل القرآنُ بذلك، قال: وكان المسلمون يُحِبُّون ظهورَ الرومِ على فارسَ؛ لأنهم أهلُ الكتابِ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن عامرٍ، عن عبدِ اللهِ، قال: كان فارسُ ظاهرًا على الرومِ، [وكان المشركون يُحبُّون أن تظهرَ فارسُ على الرومِ، وكان المسلمون يُحبُّون أن تظهر الرومُ]
(6)
على فارسَ؛ لأنهم أهلُ كتابٍ، وهم أقربُ إلى دينِهم، فلما نزَلتْ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى {فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قالوا: يا أبا بكرٍ: إن صاحبَك يقولُ: إن الرومَ تَظهرُ على فارسَ في بضعِ سنين! قال: صدَق. قالوا: هل لك أن تُقامِرَك؟ فبايَعوه على أربعِ قلائصَ
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، وينظر مصدر التخريج.
(2)
في ص، م، ف:"تكونوا".
(3)
في ص، م، ت 2، ف:"تؤجلوا".
(4)
أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 333، 334 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 101 عن معمر عن قتادة.
(5)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 101 عن معمر عن رجل عن الشعبي بنحوه.
(6)
سقط من: ت 2.
إلى سبعِ سنين، فمضَت السبعُ ولم يَكُنْ شيءٌ، ففرِح المشركون بذلك. وشقَّ على المسلمين، فذكَروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما بضعُ سِنِينَ عندَكم؟ قالوا: دونَ العشرِ. قال: "اذْهَبْ فزايِدْهم وازدَدْ سنتَينِ". قال: فما مضَت السنتانِ، حتى جاءت الركبانُ بظهورِ الرومِ على فارسَ، ففرح المسلمون بذلك، وأنزَل اللهُ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قولِه: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن الأعمشِ وفِطْرٍ، عن أبى الضُّحى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ قال: مضَتِ الرومُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِه: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} . [قال: أدنى الأرضِ]
(3)
الشَّامُ، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}. قال: كانت فارسُ قد غلَبت الرومَ، ثم أُدِيلَ الرومُ على فارسَ، وذُكِر أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرومَ ستَغلِبُ فارسَ". فقال المشركون: هذا مما يَتَخَرَّصُ
(4)
محمدٌ. فقال أبو بكرٍ: تُناحِبونني؟ - والمناحبةُ: المُجاعَلةُ - قالوا: نعم. فناحَبهم أبو بكرٍ، فجعَل السنينَ أربعًا أو خمسًا، ثم جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبَره
(5)
فقال له
(6)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن البضعَ فيما بينَ الثلاثِ إلى التسعِ، فارجِعْ إلى القوم، فزِدْ فى المناحبةِ". فرجَع إليهم، فقالوا، فناحَبهم وزاد
(7)
. قال: فغلَبت الرومُ، فارسَ، فذلك قولُ اللهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 150 إلى المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 305 عن المصنف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 101، 102 من طريق أبي الضحى به، وتقدم مطولًا ص 450.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
تخرص، أي: كذب. اللسان (خ ر ص).
(5)
سقط من: م، ت 2، ف.
(6)
سقط من: م، ت 1، ف.
(7)
فى م، ت 2، ف:"فزاد".
الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}: يوم أُديلَت الرومُ على فارسَ. حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ عمرٍو، عن أبي إسحاقَ الفزاريِّ، عن سفيانَ، عن حبيبِ بنِ أبي عمرةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} . قال: غُلِبت وغَلَبت
(1)
.
وأما الذين قرءُوا ذلك: (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتحِ الغينِ، فإنهم قالوا: نزلت هذه الآيةُ خبرًا من اللهِ نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن غَلَبَةِ الرومِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، عن سليمانَ -يعنى الأعمشَ- عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ، قال: لما كان يومُ بدرٍ
(2)
ظَهَر الرومُ على فارسَ، فأعجَب ذلك المؤمنين، فنزَلت:(الم غَلَبَتِ الرُّومُ): على فارسَ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ حمادٍ، قال: ثنا أبو عَوَانةَ، عن سليمانَ، عن عطيةَ، عن أبى سعيدٍ، قال: لما كان يومُ بدرٍ، غَلَبت الرومُ على فارسَ، ففرِح المسلمون بذلك، فأنزَل اللهُ:(الم غَلَبَتِ الرُّومُ)، إلى آخرِ الآيةِ.
حدَّثنا يحيى بنُ إبراهيمَ المسعوديُّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن
(1)
أخرجه أحمد 4/ 296 (2495) وغيره بهذا اللفظ من طريق معاوية بن عمرو به، وتقدم ص 448 مطولًا.
(2)
زيادة من مصادر التخريج.
(3)
أخرجه الترمذى (3192)، وابن عساكر 1/ 369 من طريق نصر بن على به، وأخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 259 من طريق المعتمر بن سليمان به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 151 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
الأعمشِ، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ، قال: لما كان [يومُ بدرٍ]
(1)
، ظهَرت الرومُ على فارسَ، فأعجَب ذلك المؤمنين؛ لأنهم أهلُ كتابٍ، فأنزَل اللهُ:(الم. غَلَبت الرومُ فى أدنى الأرض). قال: كانوا قد غُلبوا قبلَ ذلك. ثم قرَأ حتى بلَغ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} .
وقولُه: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} . قد ذكَرتُ قولَ بعضِهم فيما تقدَّم قبلُ، وأَذْكُرُ قولَ مَن لم يُذْكَرْ قولُه.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} . يقولُ: فى طَرَفِ الشَّامِ
(2)
.
ومعنى قولِه: {أَدْنَى} : أقربُ، وهو أفعَلُ من الدنوِّ والقربِ. وإنما معناه: في أدنى الأرضِ من فارسَ، فترَك ذكرَ فارسَ استغناءً بدلالةِ ما ظهَر من قولِه:{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} عليه منه.
وقولُه: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} . يقولُ: والرومُ من بعدِ غَلَبةِ فارسَ إياهم، سيَغْلِبون فارسَ.
وقولُه: {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} . مصدرٌ، من قولِ القائلِ: غَلَبْتُه غَلَبَةً. فحُذِفت الهاءُ من الغَلَبَةِ. وقيل: من بعدِ غَلَبِهم. ولم يُقَلْ: من بعدِ غَلَبَتِهم للإضافةِ، كما حُذِفت من قولِه:{وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 37]. للإضافة. وإنما الكلامُ: وإقامةِ الصلاةِ.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 44 عن عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن المنذر.
وأما قولُه: {سَيَغْلِبُونَ} . فإن القرَأةَ أجمعينَ على فتحِ الياءِ فيها، والواجبُ على قراءةِ مَن قرَأ (الم غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتحِ الغينِ، أن يَقْرَأَ قولَه:(سَيُغْلَبُونَ) بضمِّ الياءِ
(1)
، فيَكونَ معناه: وهم من بعدِ غلبتِهم فارسَ، سيَغْلِبُهم المسلمون؛ حتى يَصِحَّ معنى الكلامِ، وإلا لم يَكُنْ للكلامِ كبيرُ معنًى إن فُتِحت الياءُ؛ لأن الخبرَ عما قد كان يصيرُ إلى الخبرِ عن أنه سيكونُ، وذلك إفسادُ أحدِ الخبرَينِ بالآخرِ.
وقولُه: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قد ذكَرْنا اختلافَ أهلِ التأويلِ في معنى "البِضعِ" فيما مضَى، [وأتَيْنا على]
(2)
الصحيحِ من أقوالِهم، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(3)
.
وقد حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا خلادُ بنُ مسلمٍ الصّفارُ، عن عبدِ اللهِ بنِ عيسى، عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ ابن عمرٍو، قال: قلتُ له: ما البضعُ؟ قال: زعم أهلُ الكتابِ أنه تسعٌ أو سبعٌ
(4)
.
وأما قولُه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} . فإن القاسمَ حدَّثنا، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن ابنِ جريجٍ قولَه:{لِلَّهِ الْأَمْرُ} من قبلِ دولةِ فارسَ على الرومِ، [و [من بعدِ دولةِ]
(5)
الرومِ]
(6)
على فارسَ
(7)
.
(1)
قرأ (سيغلبون) بضم الياء عليٌّ وابن عمر ومعاوية بن قرة. مختصر الشواذ لابن خالويه ص 117، وينظر ما تقدم في ص 446.
(2)
فى ص، ت 1:"وللفاعل"، وفى ت 2:"والفاعل"، ولعلها مصحفة عن:"دللنا على". أو عما أثبت.
(3)
تقدم في 13/ 175، 176.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 310 وعزاه إلى المصنف.
(5)
سقط من: ت 1.
(6)
سقط من: ص، ت 2.
(7)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"ويومئذ يفرح المؤمنون".
وأما قولُه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} . فقد ذكَرْنا الروايةَ في تأويلِه قبلُ، وبيَّنا معناه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وعْدَ اللهِ جلَّ ثناؤُه؛ وعَد أن الرومَ ستَغْلِبُ فارسَ من بعدِ غَلَبَةِ فارس لهم. ونُصِب {وَعْدَ اللَّهِ} على المصدرِ من قولِه: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ؛ لأن ذلك وعدٌ من اللهِ لهم أنهم سيَغْلِبون، فكأنه قال: وعَد اللهُ ذلك المؤمنين وعدًا، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: إِن اللهَ يَفِى بوعدِه للمؤمنين أن الرومَ سَيغْلِبون فارسَ، لا يُخلِفُهم وعدَه ذلك؛ لأنه ليس في مواعيدِه خُلفٌ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يقولُ: ولكنَّ أكثرَ قريشٍ الذين يُكَذِّبون بأن اللهَ منجزٌ وعدَه المؤمنين من أن الرومَ تَغْلِبُ فارسَ -لا يَعْلَمون أن ذلك كذلك، وأنه لا يَجوزُ أن يَكونَ في وعدِ اللهِ إخلافٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يعلمُ هؤلاء المكذِّبون بحقيقةِ خبرِ اللهِ أن الرومَ ستَغْلِبُ فارسَ- {ظَاهِرًا} مِن أمرِ
(1)
حياتِهم الدنيا وتدبيرِ
(2)
معايشِهم فيها، وما يُصْلِحُهم، رهم عن أمرِ آخرتِهم، وما لهم فيه النجاةُ من عقابِ
(3)
اللهِ هنالك غافلون، لا يُفَكِّرون فيه.
(1)
سقط من: م، ت 2، ف.
(2)
فى ت 1، ت 2:"تدبر".
(3)
في ت 2: "عذاب".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ يحيى بنُ واضحٍ الأنصاريُّ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، قال: ثنا يزيدُ النحويُّ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . [يعنى: معايشَهم؛ متى يحصُدون، ومتى يغرِسون
(1)
.
حدَّثني أحمد بنُ الوليدِ الرمليُّ، قال: ثنا عمرُ بنُ عثمانَ بنِ عمرَ، عن عاصمِ ابنِ عليٍّ، قال: ثنا أبو تُمَيْلةَ، قال: ثنا ابنُ واقدٍ، عن يزيدَ النحويِّ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ]
(2)
. قال: متى يَزْرعون، متى يَغْرِسون.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنى شَرَقيٌّ، عن عكرمةَ في قولِه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: هو السرَّاجُ أو نحوُه
(3)
.
حدَّثنا أبو هريرةَ محمدُ بنُ فِراسٍ الضُّبَعِيُّ، قال: ثنا أبو قُتَيبةَ، قال: ثنا شعبةُ، عن شَرَقيٍّ، عن عكرِمةَ فى قولِه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: السرَّاجون.
حدَّثنا أحمدُ بنُ الوليدِ الرمليُّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ حربٍ، قال: ثنا شعبةُ،
(1)
ذكرُه القرطبي 7/ 14، وأبو حيان 7/ 163 في تفسيرهما، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
ينظر تخريج الأثر الآتى عن عكرمة في الصفحة التالية.
عن شَرَقيٍّ، عن عكرمةَ فى قولِه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: الخرَّازون والسرَّاجون.
حدَّثنا بشرٌ بنُ آدمَ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: معايشَهم، وما يُصْلِحُهم.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ مثلَه
حدَّثني بشرُ بنُ آدمَ، قال: ثنا الضحاكُ بنُ مخلدٍ، عن سفيانَ، عن أبيه، عن عكرمةَ؛ وعن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . [قال: معايشَهم.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ]
(1)
. يعنى: الكفارُ، يعرفون عُمرانَ الدنيا، وهم فى أمرِ الدِّينِ جُهَّالٌ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن أبيه، عن عكرمةَ:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: معايشَهم، وما يصلحُهم
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما ذكره القرطبي 14/ 7.
مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: من حرفتِها وتصرُّفِها
(1)
وبُغْيتِها، {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن الحسنِ
(3)
، قال: يَعْلَمون متى زرعُهم، ومتى حصادُهم
(4)
.
قال: ثنا حفصُ بنُ راشدٍ الهلاليُّ، عن شعبةَ، عن شَرَقيٍّ، عن عكرمةَ:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: السَّرَّاجُ ونحوُه
(5)
.
حدَّثنا القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال: ثني حجاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ، عن أبى العاليةِ، قال: صرفَها في معيشتِها.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .
وقال آخرون فى ذلك ما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: تَسْتَرِقُ الشياطينُ السمعَ، فيَسْمَعون الكلمةَ التي قد نزَلت، يَنْبَغى لها أن تكونَ في الأرضِ. قال: ويُرْمون بالشهُبِ، فلا يَنْجو أن يَحترِقَ، أو يُصيبَه شرٌّ
(6)
منه. قال: فيَسْقُطُ
(7)
فلا يَعودُ
(8)
أبدًا. قال: ويَرْمى بذاك الذي سمِع إلى أوليائِه من الإنسِ. قال:
(1)
في ص: "تصرفتها"، وفى ت 1:"تصرفاتها".
(2)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 102 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم
(3)
في ت 2: "الحسين".
(4)
ذكرُه بنحوه أبو حيان 7/ 163.
(5)
ينظر ما سبق عن عكرمة.
(6)
في م، ف:"شرر".
(7)
في ص: "فتسقط".
(8)
في ص: "تعود".
فيَحْمِلون عليه ألفَ كَذْبةٍ. قال: فما رأَيتَ الناسَ يقولون: يكونُ كذا وكذا. قال: فيَجِيءُ الصحيحُ منه، كما يقولون، الذي سمِعوه في
(1)
السماءِ، وبقيَّتُه
(2)
من الكذبِ الذي يخوضون فيه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يتفكَّرْ هؤلاء المكذِّبون بالبعثِ يا محمدُ من قومِك، فى خلقِ اللهِ إياهم، وأنه خلَقهم ولم يَكونوا شيئًا، ثم صرَفهم أحوالًا وتاراتٍ، حتى صاروا رجالًا؛ فيَعْلَموا أن الذي فعل ذلك قادرٌ أن يُعيدَهم بعدَ فنائِهم خلقًا جديدًا، ثم يُجازىَ المحسنَ منهم بإحسانِه، والمسيءَ بإساءتِه، لا يَظْلِمُ أحدًا منهم فيُعَاقِبَه بجُرمِ غيرِه، ولا يَحرِمُ أحدًا منهم جزاءَ عملِه؛ لأنه العدلُ الذى لا يجورُ، {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} إلا بالعدلِ وإقامةِ الحقِّ
(4)
، {وَأَجَلٍ مُسَمًّى}. يقولُ: وبأجلٍ مُؤقَّتٍ مُسَمًّى، إذا بلَغَتْ ذلك الوقتَ، أفنَى ذلك كلَّه، وبدَّل الأرضَ غيرَ الأرضِ والسماواتِ، وبَرزوا للهِ الواحدِ القهَّارِ، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} جاحِدون مُنكِرون
(5)
-جهلًا منهم- بأن معادَهم إلى اللهِ بعدَ فنائِهم، وغفلةً منهم عن الآخرةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
(1)
في م، ف:"من".
(2)
في م: "يعقبه".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 8، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 163.
(4)
فى ت 2: "الحجة".
(5)
في ص، ت 1:"ينكرون".
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يَسِرْ
(1)
هؤلاء المكذِّبون باللهِ الغافِلون عن الآخرةِ من قريشٍ، في البلادِ التي يسلُكُونها
(2)
تَجْرًا
(3)
، فينظُروا إلى آثارِ اللهِ فِيمَن كان قبلَهم من الأممِ المكذبةِ، كيف كانت عاقبةُ أمرِها في تكذيبِها رسلَها؛ فقد كانوا أشدَّ منهم قوَّةً، {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ}. يقولُ: واستخرَجوا الأرضَ وحرَثوها، وعمَروها أكثرَ مما عمرَ هؤلاء، فأهلَكهم اللهُ بكفرِهم وتكذيبِهم رسلَهم، فلم يَقْدِروا على الامتناعِ، مع شدَّةِ قُواهم، مما نزَل بهم من عقابِ اللهِ، ولا نفَعَتهم عمارتُهم ما عمَروا من الأرضِ، إذ جاءتهم رسلُهم بالبيناتِ من الآياتِ، فكذبوهم، فأحلَّ اللهُ بهم بأسَه، فما كان اللهُ ليَظْلِمَهم بعقابِه إياهم على تكذيبِهم رسلَه وجحودِهم آياتِه، ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمون بمعصيتِهم ربَّهم.
وبنحوِ الذى قلنا في تأويلِ قولِه: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} .
(1)
في ت 1، ت 2:"ير".
(2)
في ت 2: "يسكنونها".
(3)
في ص، ت 1:"بحرا".
قال: مُلِّكوا الأرضَ وعمروها.
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} . قال: حرَّثوها
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ} . إلى قوله: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} ، كقوله: {وَآثَارًا فِي]
(2)
الْأَرْضِ} [غافر: 21]. وقولُه: {وَعَمَرُوهَا} : أكثَرَ مما عمَر هؤلاء، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} .
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)} .
يقول تعالى ذكرُه: ثم كان آخرَ أمرٍ مَن كفّر من هؤلاء الذين أثاروا الأرضَ وعمروها، وجاءتهم رسلهم بالبيناتِ، بالله وكذَّبوا رسلَه، فأساءوا بذلك من فعليهمِ {السُّوأَى}. يعنى: الخَلَّةُ التى هى أسوأُ من فعلِهم؛ أما في الدنيا فالبوارُ والهلاكُ، وأمَّا في الآخرة فالنارُ، لا يُخْرَجون منها ولا هم يُستعتَبون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ
(1)
تفسير مجاهد ص 538، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور 5/ 152 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 2: "وأثاروا".
الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى}: [الذين أشركوا، {السُّوأَى}]
(1)
. أي: النارُ
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن علي، عن ابن عباسٍ قوله:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} . يقولُ: الذين كفروا جزاؤهم العذاب
(3)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: السُّوأَى في هذا الموضع مصدرٌ، مثل: البُقْوَى
(4)
. وخالفه في ذلك غيرُه فقال: هي اسمٌ.
وقوله: {أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} . يقولُ: كانت لهم السُّوأَى؛ لأنهم كذَّبوا في الدنيا بآياتِ اللَّهِ، {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}. يقولُ: وكانوا بحُجَجِ اللَّهِ، وهم أنبياؤُه ورسله، يَسْخَرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدُؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: الله تعالى يَبْدَأُ إنشاءَ جميع الخلقِ مُنْفَرِدًا بإنشائه من غيرِ شريكٍ ولا ظهيرٍ، فيُحْدِثُه من غير شيءٍ، بل بقدرته عز وجل، ثم يُعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه
(5)
، كما بدأه خلقا سَوِيًّا ولم يك شيئًا، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يقولُ: ثم إليه من بعد إعادتهم خَلْقًا جديدًا يُرَدُّون، فيُحْشَرون لفصلِ القضاء بينَهم، و {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
(1)
سقط من: ت 1، ت 2.
(2)
ذكره ابن كثير 6/ 313 بنحوه.
(3)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 511، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 153 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في ت 1، ت 2:"التقوى". والسُّوأى والبُقْوى، بوزن فُعلى مثل الحسنى. اللسان (س و أ)، (ب ق ى).
(5)
في ت 2: "إبدائه".
بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)} .
يقول تعالى ذكرُه: ويومَ تجِيءُ الساعةُ التي فيها يفصِلُ الله بين خلقِه، ويَنْشُرُ فيها الموتَى من قبورهم، فيحشُرُهم إلى مَوْقِفِ الحسابِ، {يُلِسُ الْمُجْرِمُونَ}. يقولُ: يَيْأَسُ الذين أشركوا بالله، واكتسبوا في الدنيا مساوئَ الأعمال من كلِّ شَرٍّ
(1)
، ويكتئبون ويتندَّمون، كما قال العجاج
(2)
:
يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا
قال نَعَمْ أعْرِفُه وأبلَسا
(3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قوله:{يُبْلِسُ} . قال: يكتئِبُ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} : أي في النارِ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"خير".
(2)
ديوانه ص 123.
(3)
تقدم في 1/ 543.
(4)
تفسير مجاهد ص 538، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 153 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِ اللهِ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} . قال: المُبْلِسُ: الذي قد نزل به الشرُّ. إذا أبلَس الرجلُ، فقد نزل به بلاءٌ.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} . يقول تعالى ذكرُه: ويوم تقومُ الساعةُ لم
(1)
يكُنْ لهؤلاء المجرمين الذين وصف جلَّ ثناؤه صفتهم، من شركائهم الذين كانوا يتَّبِعونَهم، على ما دَعوهم إليه من الضلالة، فيُشاركونهم في الكفرِ بالله، والمعاونة على أذَى رُسُلِه، {شُفَعَاءُ} يشفعون لهم عندَ اللهِ، فيستنقذوهم من عذابه، {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)}. يقولُ: وكانوا بشركائهم في الضلالة، والمعاونة في الدنيا على أولياء الله، كافرين؛ يجحدون ولايتهم، ويتبرعون منهم، كما قال جل ثناؤه:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة: 166، 167].
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويوم تجيءُ الساعةُ التي يُحشَرُ فيها الخلق إلى اللَّهِ، {يَوْمَئِذٍ}. يقولُ: في ذلك اليوم {يَتَفَرَّقُونَ} . يعنى: يتفرَّقُ أهلُ الإيمان بالله، وأهل الكفر به؛ فأما أهل الإيمان، فيُؤخَذُ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأما أهل الكفر فيُؤخَذُ ذاتَ الشمال إلى النارِ، فهنالك يَميزُ اللَّهُ الخَبيثَ من الطيب.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"ولم".
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} . قال: فُرقة والله لا اجتماع بعدها
(1)
.
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله ورسوله، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه، {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}. يقولُ: فهم في الرياحين والنباتات
(2)
الملتفَّةِ، وبين أنواع الزهرِ في الجنانِ، يُسَرُّون، ويُلَذَّذون بالسماع، وطيب العيش الهنيِّ. وإنما خَصَّ جلَّ ثناؤه ذكرَ الروضة في هذا الموضع؛ لأنَّه لم يكن عند الطرفين أحسنُ منظرًا، ولا أطيبُ نَشْرًا
(3)
من الرياض، ويدلُّ على أن ذلك كذلك، قولُ أعشَى بنى ثعلبة
(4)
:
ما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ
(5)
مُعْشِبَةٌ
…
خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
(6)
يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ
…
مُؤَذِّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
(7)
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 313، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 165، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 153 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"النبات".
(3)
النشر: الريح الطيبة؛ القاموس المحيط (ن ش ر).
(4)
ديوانه ص 57.
(5)
في م، ت 2، ف:"الحسن". والحزن: ما غلظ من الأرض في ارتفاع. اللسان (ح ز ن).
(6)
السبل بالتحريك: المطر، وقيل: المطر المسبل. اللسان (س ب ل) والهطل: تتابع المطر والدمع وسيلانه. ومطر هطل: كثير الهطلان. الصحاح (هـ ط ل).
(7)
قال صاحب اللسان: وقول الأعشى: يضاحك الشمس. معناه: يدور معها، ومضاحكته إياها حسن له ونضرة، والكوكب: معظم النبات، والشرق: الريان الممتلئ ماء، والمؤزر: الذي صار النبات كالإزار له، والعميم: النبت الكثيف الحسن وهو أكثر من الجميم. يقال: نبت عميم ومعتم وعمم. واكتهلت الروضة: إذا عمها نبتها. اللسان (ك هـ ل).
يَوْمًا بأطْيَبَ مِنْها نَشْرَ رائحَةٍ
…
ولَا بِأَحْسَنَ مِنْها إِذ دَنا الأُصُلُ
(1)
فأعلمهم بذلك تعالى، أن الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، من المنظر الأنيقِ، واللذيذِ من الأرابيح، والعيشِ الهنيِّ، فيما يُحبون، ويُسَرُّون به، ويُغبَطون عليه. والحَبَّرةُ عند العرب: السرورُ والغبْطَةُ. قال العجاج
(2)
:
فالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْطَى الخَبَرْ
…
مَوالِىَ الحَقِّ إن المَوْلى شَكَرْ
(3)
واختلَف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فهُم في روضة يُكرمون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} . قال: يُكرمون
(4)
.
وقال آخرون: معناه: يُنعَّمون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
الأصل: جمع أصيل، وهو العشى. اللسان (أ ص ل).
(2)
ديوانه ص 4.
(3)
قال شارحه: الحبر: السرور، وقوله:"موالى الحق": أي أولياء الحق. وقوله: "إن المولى شكر". قال: هذا بمنزلة قولك: قد أعطاك الله خيرا إن شكرت، أي فاشكر. الديوان الموضع السابق.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 12، والبغوى 6/ 264، وأبو حيان 7/ 165.
في قوله: {يُحْبَرُونَ} . قال: يُنعَّمون
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} . قال: يُنعَّمون
(2)
.
وقال آخرون: يُلذَّذون بالسماعِ والغناءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ موسى الحَرَشِيُّ
(3)
، قال: ثنى عامرُ بنُ يِسافٍ، قال: سألتُ يحيَى بن أبي كثير عن قولِ اللَّهِ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} . قال: الحَبْرَةُ: اللَّذَّة والسماعُ
(4)
.
حدَّثنا عبيد الله بن محمد الفريابيُّ، قال: ثنا ضَمْرةُ بن ربيعةَ، عن الأوزاعيِّ، عن يحيى بن أبى كثير في قوله:{يُحْبَرُونَ} . قال: السماعُ في الجنةِ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا عيسى بنُ يونُسَ، عن الأوزاعي، عن يحيى بنِ أبى كثيرٍ مثلَه.
(1)
تفسير مجاهد ص 538.
وأخرجه الفريابي عن ورقاء به، كما في تعليق التعليق 4/ 279، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 153 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره أبو حيان 7/ 165.
(3)
في م: "الحرسى". وينظر تهذيب الكمال 26/ 532.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 96 من طريق عامر بن يساف به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 122، وهناد في الزهد (4) عن عيسى بن يونس به، وأخرجه ابن المبارك (234) - زوائد نعيم)، والترمذى (2565)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 69، والبيهقي في البعث (419) من طريق الأوزاعي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 153 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن عامرِ بنِ يسافٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ مثله
(1)
.
وكلُّ هذه الألفاظ التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه، تعود إلى معنى ما قلنا.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأما الذين جحَدوا توحيدَ اللَّهِ، وكذَّبوا رسلَه، وأنكروا البعثَ بعدَ المماتِ، والنشور للدار الآخرة، فأولئك في عذابِ اللَّهِ مُحضَرونَ، وقد أحضَرهم الله إياها، فجمعهم فيها، ليَذُوقوا العذاب، الذي كانوا به
(2)
في الدنيا يكذِّبون.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} .
يقول تعالى ذكرُه: فسبِّحوا الله أيها الناسُ: أي صَلُّوا له حين تُمْسون؛ وذلك صلاة المغرب، وحين تُصبحون؛ وذلك صلاة الصبح، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. يقولُ: وله الحمدُ من جميع خلْقِه، دونَ غيره، في السماوات؛ من سكَّانها من الملائكة، والأرض؛ من أهلها من جميع أصناف خلقه فيها، {وَعَشِيًّا}. يقولُ: وسَبْحوه أيضًا عشيًّا، وذلك صلاة العصرٍ، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}. يقول: وحين تَدْخُلون في وقتِ الظهْرِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه الخطيب في تاريخه 7/ 149 من طريق عامر بن يساف به.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن أبى رَزين، قال: سأل نافعُ بنُ الأَزرَقِ ابن عباسٍ: [هل تجِدُ]
(1)
ميقاتَ الصلواتِ
(2)
الخمس في كتابِ اللَّهِ؟ قال: نعم؛ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} : المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الفجرُ، {وَعَشِيًّا}: العصرُ، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}: الظهر. قال: {وَمِن بَعدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتِ لَكُمْ}
(3)
[النور: 58].
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزينٍ، قال: سأل نافع بنُ الأَزرَقِ ابن عباس عن الصلوات الخمس في القرآن، قال: نعَم. فقرأ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} . قال: صلاة المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}. قال: صلاة الصبحِ، {وَعَشِيًّا}. قال: صلاة العصرِ، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}: صلاة الظهر. ثم قرأ: {وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}
(4)
.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ليثٍ، عن الحكمِ عن
(5)
أبي عياضٍ، عن ابن عباس، قال: جمَعتْ هاتان الآيتان مواقيت الصلاةِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} . قال: المغربُ والعشاءُ، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الفجرُ،
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، وليس في عبد الرزاق والطبراني.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"الصلاة".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1772)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط 2/ 321 (932)، والفريابي -كما في الدر المنثور 5/ 154 - ومن طريقه الطبراني (10596) عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 154 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه الحاكم 2/ 410، 411، وعنه البيهقي 1/ 359، من طريق عبد الرحمن بن مهدى به.
(5)
في م: "بن".
{وَعَشِيًّا} : العصرُ، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}: الظهرُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن الحكمٍ، عن أبى عياض، عن ابنِ عباسٍ بنحوِه.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ليث، عن الحكمِ، عن أبى عياضٍ، عن ابن عباس في قوله:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى قوله: {وَحِينَ تُظهِرُونَ} . قال: جمعت الصلواتِ؛ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} : المغربُ والعشاءُ، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: صلاةُ الصبحِ، {وَعَشِيًّا}: صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: صلاة الظهر
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا إسحاق بن سليمان الرازيُّ، عن أبي سنانٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} : المغرب والعشاء، {وحين تُصْبِحُونَ}: الفجرُ، {وَعَشِيًّا}: العصر، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}: الظهرُ، وكلُّ سجَدة في القرآن فهي صلاةٌ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} : الصلاةِ المغربِ، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الصلاة الصبح، {وَعَشِيًّا}: لصلاةِ العصرِ، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}: صلاة الظهرِ، أربعُ صلواتٍ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِ اللَّهِ: {سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة -كما في الدر المنثور 5/ 154 - ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط 2/ 322 (933) عن ابن إدريس به.
(2)
ينظر ما سبق.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 154 إلى المصنف وابن أبى شيبة وابن المنذر، وذكره الطوسى 8/ 214.
(4)
أخرجه البيهقي 1/ 359 من طريق سعيد به.
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظهِرُونَ}. قال: {حِينَ تُمْسُونَ} : صلاة المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: صلاةُ الصبح، {وَعَشِيًّا}: صلاة العصر، {وَحِينَ تُظهِرُونَ}: صلاةُ الظهرِ.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: صَلُّوا في هذه الأوقاتِ التي أمركم بالصلاة فيها، أيها الناسُ للَّهِ الذى يُخرج الحيَّ من الميِّتِ؛ وهو الإنسان الحى من الماء الميت، ويُخْرِجُ الماء الميِّتَ من الإنسانِ الحيِّ، {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ؛ فيُنبتُها، ويُخرِجُ زَرْعَها بعدَ خرابها وجدوبها، {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. يقولُ: كما يُحيى الأرض بعدَ موتِها، فيُخرِجُ نباتها وزَرْعَها، كذلك يُحييكم من بعد مماتكم، فيُخرِجُكم أحياءً من قبورِكم، إلى مَوْقِفِ الحسابِ.
وقد بيَّنا فيما مضى قبل تأويل قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . وذكرنا اختلاف أهلِ التأويل فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضعِ
(1)
، غيرَ أنا نذكُرُ بعضَ ما لم نذكُرْ من الخبرِ هنالِك إن شاءَ اللهُ.
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . قال: يُخْرِجُ من الإنسانِ ماءً مَيِّتًا، فيخلُقُ منه بشرًا، فذلك الميت من الحيِّ، ويُخرِج الحيَّ من الميِّت، فيعنى بذلك أنه يخلُقُ من الماء بشرًا، فذلك الحى من الميِّتِ
(2)
.
(1)
تقدم في 5/ 307.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 2/ 626 (3363) من طريق السدى عمن حدثه عن ابن عباس بنحوه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قولَه:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} : المؤمنَ من الكافر، والكافرَ من المؤمن
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير وأبو معاويةَ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله:{ويُخرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . قال: النُّطْفَةَ مِنْ
(2)
الرجل مَيِّتةً وهو حتى، ويُخْرِجُ الرجل منها حَيًّا وهي ميتةٌ
(3)
.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} .
يقول تعالى ذكرُه: ومن حُجَجه على أنه القادِرُ على ما يشاءُ أيها الناسُ، من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدامٍ، وأن كلَّ موجود فخلقُه- [خَلْقُهُ إِيَّاكم]
(4)
من تراب. يعنى بذلك خَلْقَ آدم [من ترابٍ]
(5)
، فوصَفهم بأنه خلَقهم من ترابٍ، إذ كان ذلك فِعله بأبيهم آدم، كنحوِ الذى قد بينا فيما مضى من خطاب العربِ مَن خَاطَبَتْ بما فعلت بسلفه؛ من قولهم: فعلنا بكم وفعلنا
(6)
.
وقوله: {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} . يقولُ: ثم إذا أنتم معشرَ ذُريَّةِ من خلَقناه مِنْ ترابٍ، {بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}. يقولُ: تتصرّفون.
(1)
تقدم تخريجه في 5/ 310.
(2)
في م: "ماء".
(3)
تقدم تخريجه في 5/ 307.
(4)
في م: "خلقة أبيكم".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(6)
تقدم في 1/ 642.
وبنحوِ الذى قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} : خلق آدم صلى الله عليه وسلم مع من ترابٍ، {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} . يعني ذُريَّتَه
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} .
يقول تعالى ذكرُه: ومِن حُجَجه وأدلته على ذلك أيضًا خَلْقُه لأبيكم آدمَ مِن نفسه زوجةً؛ ليسكُن إليها. وذلك أنه خلق حوّاءَ مِن ضِلَعِ مِن أضلاعِ آدم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجًا} : خلقها لكم مِن ضِلَعِ مِن أضلاعه
(2)
.
وقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} . يقولُ: وجعل بينكم بالمصاهرة والخُتونةِ مودّةً تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، ورحمة رحمكم بها، فعطَّف بعضكم بذلك على بعض، {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. يقول تعالى ذكرُه: إن في فعلِه ذلك لعِبرًا وعظاتٍ لقوم يتفكرون
(3)
في حجج الله وأدلتِه، فيعلمون أنه الإله الذى لا يُعجزه شيء أرادَه، ولا يتعذَّرُ عليه فعلُ شيءٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 154 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 154 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "يتذكرون".
شاءَه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} .
يقولُ تعالَى ذِكرُه: ومِن حُججِه أيضًا وأدلتِه على أنه لا يُعجزه شيءٌ، وأنَّه إذا شاء أمات من كان حيًّا من خلقه، ثم إذا شاء أنشَره وأعادَه، كما كان قبل إماتتِه إياه - خَلْقُه السماوات والأرضَ مِن غير شيءٍ أحدث ذلك منه، بل بقدرته التي لا يمتنع معها عليه شيءٌ أَرادَه، {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ}. يقولُ: واختلافُ منطق ألسنتكم ولغاتها، {وَأَلْوَنكُمْ}. يقولُ: واختلافُ ألوان أجسامِكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}. يقول: إن في فعله ذلك كذلك لعبرًا وأدلةً لخلقه الذين يعقلون أنه لا يُعييه إعادتُهم لهيئتهم التي كانوا بها قبلَ مماتِهم، من بعدِ فنائِهم.
وقد بيَّنا معنى العالمين فيما مضَى قبلُ
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن حُججِه عليكم، أيُّها القومُ، تقديرُه الساعاتِ والأوقاتِ، ومخالفتُه بينَ الليلِ والنهارِ، فجعل الليل لكم سَكَنا تسكُنون فيه، وتنامون فيه
(2)
، وجعَل النهار مضيئًا لتصرُّفكم في معايشِكم والتماسِكم فيه من رزقِ ربِّكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. يقول تعالى ذكرُه: إِنَّ في فعل الله ذلك كذلك، لَعِبرًا وذكرًا
(3)
وأدلةً على أن فاعلَ ذلك لا يُعجزه شيءٌ أَرادَه،
(1)
تقدم في ص 407.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"وبالنهار".
(3)
في م: "ذكرى".
لقوم يسمعون مواعظَ الله، فيتعظون بها ويعتبرون، فيفهمون حجج الله عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} .
يقول تعالى ذكرُه: ومِن حُجَجه {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} لكم إذا كنتم سَفْرًا، أن تُمطروا فتتأذَّوا به، {وَطَمَعًا} لكم إذا كنتم في إقامةٍ، أن تُمْطَروا، فتحيوا وتُخْصِبوا، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاءً}. يقولُ: وينزِّلُ مِن السماء مطرًا، فيُحيى بذلك الماءِ الأرض الميتةَ، فتنبت ويخرُجُ زرعُها {بَعْدَ مَوْتِهَا}. يعنى: بعد جُدوبِها ودروسها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}. يقولُ: إن في فعله ذلك كذلك لعبرًا وأدلةً {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} عن اللهِ حججَه وأدلتَه.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} له قال أهلُ التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} . قال: خوفًا للمسافرِ، وطمعًا للمقيمِ
(1)
.
واختلَف أهلُ العربية في وجهِ سقوطِ "أن" في قوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرة: لم يذكرْ هاهنا "أنْ"؛ لأنَّ هذا يدلُّ على المعنى، وقال الشاعرُ
(2)
:
(1)
تقدم تخريجه في 13/ 475.
(2)
تقدم في 2/ 189.
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِى أَحْضُرُ الوَغَى
…
وأنْ أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَل أَنْتَ مُخْلِدى
قال: وقال آخرُ
(1)
:
لَوْ قُلْتَ ما في قَوْمِها لَمْ تِيثَمِ
(2)
…
يَفْضُلُها في حَسَبٍ وميسَم
(3)
وقال: يريدُ: ما في قومِها أحدٌ.
وقال بعضُ نحويِّي الكوفيين
(4)
: إذا أظهرت "أن" فهي في موضع رفعٍ؛ كما قال: {وَمِنْ ءَايَاتْهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ} ، و {مَنَامُكُم} . فإذا حذفت جُعِلت {مِن} مؤدّية عن اسم متروكٍ، يكون الفعل صلة له
(5)
، كقولِ الشاعرِ
(6)
:
ومَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتانِ فَمِنْهُما
…
أموتُ وأُخْرَى أَبْتَغى العَيْشَ أَكْدَحُ
كأنه أراد: فمنهما ساعةٌ أموتُها، وساعة أعيشُها، وكذلك: ومن آياته يُريكم آية للبرقِ
(7)
، وآيةً لكذا. وإن شئتَ أردتَ: ويُريكم من آياتِه البرقَ. فلا تُضْمَرُ "أنْ" ولا غيرُه.
وقال بعضُ مَن أنكر قولَ البصريِّ: إنما ينبغى أن تُحذفَ "أنْ" من الموضعِ الذى يدلُّ على حذفِها، فأما في كلِّ موضعٍ فلا، فأما مع:"أَحْضُرَ الوغى"
(8)
، فلما
(1)
سقط من: ص، م، ت 1. والقائل هو حكيم بن مُعَيةَ الرَّبَعى. والبيت في معانى القرآن للفراء 1/ 271، والكتاب لسيبويه 2/ 345، وخزانة الأدب 5/ 62.
(2)
أي: تأثم. على لغة بني أسد؛ يكسرون حروف المضارعة إلا الياء للكراهة، تم تحولت الألف بعد تخفيف همزها إلى ياء المناسبة كسرة حروف المضارعة. وينظر خزانة الأدب 5/ 63.
(3)
الحسب: ما يعده الإنسان من مفاخره، وأراد به الشرف النسبى وهو شرف الآباء وأراد بالميسم الشرف الذاتي، فإن الميسم الحسن والجمال، من الوسم وهو الحسن. ا هـ خزانة الأدب 5/ 64.
(4)
معانى القرآن للفراء 2/ 323.
(5)
سقط من: م، ت 2.
(6)
هو تميم بن أبي بن مقبل، والبيت في ديوانه ص 24.
(7)
في النسخ: "البرق". وأثبتناه كالفراء فهذا نص كلامه، وقد قيل بعد:"وآية لكذا". فلينتبه.
(8)
بعده في ت 2: "فلا".
كان: زجرتُك أن تَقُومَ. و: زجَرتُك لأنْ تَقُومَ. يدلُّ على الاستقبالِ، جاز حذفُ "أنْ"؛ لأن الموضعَ معروفٌ، لا يقعُ في كلِّ الكلام، فأما قوله: ومن آياته أنك قائمٌ. و: أنك تقوم. و: أن تقومَ. فهذا الموضعُ لا يُحذف؛ لأنَّه لا يدلُّ على شيء واحدٍ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك: أن "مِنْ" في قوله: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ} ، تدلُّ على المحذوفِ، وذلك أنها تأتى بمعنى التبعيض، [وإذا كانت]
(1)
كذلك، كان معلومًا أنها تقتضى البعض، فلذلك تَحذِفُ العربُ معها الاسم لدلالتها عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} .
يقول تعالى ذكرُه: ومِن حُججه أيُّها القومُ، على قدرته على ما يشاءُ -قيامُ السماء والأرض بأمره، خضوعا له بالطاعة، بغيرِ عَمَدٍ تُرى، {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}. يقولُ: إذا أنتم تَخْرجون من الأرضِ إذا دعاكم دعوةً، مستجيبين لدعوتِه إياكم.
وبنحو الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} : قامتا بأمره بغير عمدٍ، {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}. قال: دعاهم فخرجوا من الأرض
(2)
.
(1)
في ت 2: "ولما كان ذلك".
(2)
أخرج ابن أبي الدنيا شطره الثانى في الأهوال (100) من طريق سعيد به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 154 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيد، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِذا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} . يقولُ: مِن الأَرضِ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} .
يقول تعالى ذكرُه: وللَّهِ مَنْ في السماواتِ والأَرض؛ مِن مَلَكِ وجنٍّ وإِنسٍ، عبيدٍ ومُلَّكٍ، {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}. يقولُ: كلُّهم
(1)
له مطيعون. فيقول قائلٌ: وكيف قيل: {كُلٌّ لَّهُ قَاِنتُونَ} . وقد علِم أن أكثرَ الإنس والجنِّ له عاصون؟ فنقولُ: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فنذكُرُ اختلافهم، ثم تُبَيِّنُ الصوابَ عندَنا في ذلك مِن القولِ؛ فقال بعضُهم: ذلك كلامٌ مَخْرِجُه مَخْرِجُ العموم، والمراد به الخصوص، ومعناه: كلّ له قانتون في الحياة والبقاءِ والموتِ، والفناءِ والبعثِ والنشور، لا يمتنع عليه شيءٌ من ذلك، وإن عصاه بعضُهم في غيرِ ذلك.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس / قولَه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} إلى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} . يقولُ: مطيعون، يعنى الحياةَ والنشورَ والموتَ، وهم عاصون له فيما سوى ذلك مِن العبادةِ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كلٌّ له قانتون بإقرارهم بأنه ربهم وخالقُهم.
(1)
في م، ت 2:"كل".
(2)
تقدم تخريجه في 4/ 377.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} : مطيعٌ مقرٌّ بأن الله ربُّه وخالقُه
(1)
.
وقال آخرون: هو على الخصوصِ، والمعنى: وله مَن في السماواتِ والأرضِ؛ مِن مَلِكٍ وعبدٍ مؤمنٍ للهِ مطيع دونَ غيرِهم.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {كُلُّ لَّهُ قَانِتُونَ} . قال: كلٌّ له مطيعون، المطيعُ: القانتُ. قال: وليس شيءٌ إلا وهو مطيع، إلا ابنَ آدمَ، وكان أحقَّهم أن يكون أطوعَهم لله. وفى قوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. قال: هذا في الصلاة، لا تتكلموا في الصلاة كما يتكلمُ أهلُ الكتاب في الصلاةِ. قال: وأهل الكتابِ يمشى بعضُهم إلى بعض في الصلاة. قال: ويتقاتلون
(2)
في الصلاة، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: لكي تذهب الشحناءُ من قلوبنا، و
(3)
تَسْلَمَ قلوبُ بعضنا لبعضٍ، فقال الله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} لا تزولا كما يزولون، {قَانِتِينَ}: لا تتكلَّموا كما يتكلَّمون. قال: فأما ما سِوى هذا كلِّه في القرآنِ مِن القنوتِ، فهو الطاعةُ، إلا هذه الواحدة
(4)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ القولُ الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أنَّ
(1)
تقدم تخريجه في 4/ 378.
(2)
في م: "يتقابلون".
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 306 إلى المصنف بمعناه مختصرا.
كلَّ مَن في السماوات والأرض من خلقٍ للَّهِ، مطبع في تصرفه فيما أراد تعالى ذِكرُه من حياةٍ وموتٍ، وما أشبه ذلك، [وإن عصاه فيما [يكتسبه بقواه]
(1)
، وفيما له السبيلُ إلى اختياره، وإيثاره على خلافه.
وإنما قلتُ: ذلك]
(2)
أولى بالصواب في تأويل ذلك؛ لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيلُ إلى اكتسابه كثيرٌ عددُهم، وقد أخبر تعالى ذكرُه عن جميعهم أنهم له قانتون، فغير جائزٍ أن يُخبِرَ عمَّن هو عاصٍ، أنه له قانتٌ فيما هو له عاصٍ. وإذا كان ذلك كذلك، فالذى فيه عاصٍ هو ما وصَفتُ، والذى هو له قانتٌ ما بينتُ.
وقولُه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذى له هذه الصفاتُ تبارك وتعالى، هو الذى يبدأُ الخلقَ مِن غير أصل، فينشتُه ويُوجِدُه، بعد أن لم يكن شيئًا، ثم يُفْنيه بعد ذلك، ثم يعيده؛ كما بدأه بعدَ فنائِه، وهو أهونُ عليه.
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وهو هيِّنٌ عليه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطارُ، عن سفيانَ، عمَّن ذكره، عن منذرٍ الثوريِّ، عن الربيع بن حُثَيْمٍ
(3)
: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . قال: ما شيءٌ عليه بعزيز
(4)
.
(1)
في م: "يكسبه بقوله".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في م، ت 1:"خيثم". وينظر تهذيب الكمال 9/ 70.
(4)
ذكره الحافظ في التغليق 3/ 486 عن المصنف، وذكره القرطبي 14/ 21، 22، وابن كثير 6/ 318.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . يقولُ: كلُّ شيءٍ عليه هينٌ
(1)
.
وقال آخرون: معناه: وإعادةُ الخلقِ بعد فنائهم أهون عليه من ابتداء خلقهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علي، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . قال: يقولُ: أيسرُ عليه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . قال: الإعادة أهونُ عليه من البداءة، والبَداءةُ عليه هينٌ
(3)
.
حدَّثنى ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، عن عكرِمةَ قرأ هذا الحرفَ:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . قال: تعجَّبَ الكفارُ مِن إحياءِ اللَّهِ الموتى. قال: فنزلت هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : إعادةُ الخَلقِ أهونُ عليه
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 21، وابن كثير في تفسيره 6/ 318 عن العوفي.
(2)
ذكره الحافظ في الفتح 6/ 287، وابن كثير في تفسيره 6/ 318، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 538، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (1065). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى الفريابي وابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنبارى في المصاحف.
من إبداء الخلقِ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا غندرٌ، عن شعبةَ، عن سماكٍ، عن عكرمة بنحوِه، إلا أنه قال: إعادةُ الخَلْقِ أهون عليه من ابتدائِه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . يقولُ: إعادتُه أهون عليه من بديه، وكلٌّ على الله هينٌ
(2)
.
[وفي بعض القراءةِ: (وكلٌّ على الله هينٌ)]
(3)
.
وقد يحتمل هذا الكلام وجهين غير القولين اللذين ذكرتُ، وهو أن يكون معناه: وهو الذى يبدأُ الخلق ثم يعيده، وهو أهون على الخلقِ. أي إعادة الشيءِ أهون على الخلقِ مِن ابتدائه. والذى ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدَّثني به ابنُ سعدٍ، قول أيضًا له وجهٌ.
وقد وجَّه غيرُ واحدٍ من أهل العربية قولَ ذي الرُّمةِ
(4)
:
أخى قَفَرَاتٍ دَبَّبَتْ فِي عِظامِه
…
شُفافاتُ أعْجازِ الكَرَى فهُوَ أَخْضَعُ
إلى أنه بمعنى: خاضعٌ. وقولَ الآخرِ:
لَعَمرُكَ إِنَّ الزِّبرقانَ لبَاذِلٌ
…
لِمَعْرُوفِه عِنْدَ السِّنِينَ وأَفْضَلُ
كَرِيمٌ لَهُ عَنْ كُلِّ ذَمٍّ تَأْخُرٌ
…
وفِي كُلِّ أَسْبابِ المَكارِمِ أَوَّلُ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 21، وابن كثير في تفسيره 6/ 318. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.
(2)
ذكره الحافظ في التغليق 3/ 486 عن المصنف.
(3)
سقط من: ت 2. الظاهر أن ذلك في مصحف عبد الله. وينظر البحر المحيط 7/ 169.
(4)
ديوانه 2/ 736.
إلى أنه بمعنى: وفاضلٌ. وقولَ مَعْنٍ
(1)
.
لَعَمْرُكَ ما أَدْرِى وَإِنِّي لَأَوْجَلُ
…
على أيِّنا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
إلى أنه بمعنى: وإني لوَجِلٌ. وقول الآخرِ
(2)
:
تَمَنَّى مُرَئُ القَيْسِ مَوْتى وإِنْ أُمُتْ
…
فتَلكَ سَبِيلٌ لستُ فيها بأَوْحَدِ
إلى أنه بمعنى: لستُ فيها بواحدٍ. وقول الفرزدق
(3)
:
إنَّ الَّذى سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنا
…
بَيْتًا دَعائمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
إلى أنه بمعنى: عزيزةٌ طويلةٌ. قالوا: ومنه قولُهم في الأذانِ: الله أكبرُ. بمعنى: الله كبيرٌ. وقالوا: إنْ قال قائلٌ: إنَّ اللَّهَ لا يُوصَفُ بهذا، وإنما يُوصَفُ به الخلقُ. فزعَم أنه: وهو أهون على الخلق - فإن الحجةَ عليه قولُ اللَّهِ: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30]. وقوله: {وَلَا يَئُوَدُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]: أي لا يُثْقِلُه حفظُهما.
وقولُه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . يقولُ: ولله المثل الأعلى في السماواتِ والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء، فذلك المثلُ الأعلى، تعالى ربُّنا وتقدَّسَ.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس
(1)
ديوانه ص 93.
(2)
تقدم في 16/ 16 وصدره هناك: تمنى رجال أن أموت.
(3)
ديوانه ص 714.
قولَه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ} . يقولُ: ليس كمثله شيءٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مَثَلُه أنه لا إله إلا هو، ولا ربَّ غيره
(2)
.
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقول تعالى ذكرُه: وهو العزيز في انتقامه من أعدائِه، الحكيمُ في تدبيره خلقَه، وتصريفهم فيما أراد؛ من إحياء وإماتةٍ، وبعث ونشرٍ، وما شاء.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: مَثْل لكم أيُّها القومُ ربُّكم مَثَلًا من أنفسكم؛ {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم} . يقولُ: مِن مماليككم {مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} مِن مالٍ، {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} وهم. يقولُ: فإذا لم ترضّوْا بذلك لأنفسِكم، فكيف رضيتُم أن تكونَ آلهتكم التى تعبدونها لي شركاءَ في عبادتِكم إياى، وأنتم وهم عبيدى ومماليكي، وأنا مالكُ جميعِكم.
وبنحو الذى قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بِشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: عن قتادة قوله: {ضَرَبَ لَكُم
(1)
أخرجه البيهقي في الاعتقاد 1/ 45 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره البغوى في تفسيره 6/ 268، والطوسى في التبيان 8/ 221، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن أبي حاتم.
مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}. قال: مثلٌ ضرَبه الله لمن عدّل به شيئًا من خلقه، يقولُ: أكان أحدكم مشاركًا مملوكه في فراشه وزوجته؟! فكذلكم الله لا يرضَى أَن يُعْدِّل به أحدٌ مِن خلقه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} . قال
(2)
: تجدُ أحدًا يجعلُ عبده هكذا في ماله؟! فكيف تعمدُ أنت، وأنت تشهَدُ أنهم عبيدى وخَلْقى، وتجعلُ لهم نصيبا في عبادتي، كيف يكونُ هذا؟! قال: وهذا مَثَلٌ ضرَبه الله لهم. وقرَأ: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم، أن يرِثُوكم أموالكم من بعد وفاتكم، كما يرِثُ بعضُكم بعضًا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدِّثت عن حجاجٍ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: في الآلهة، وفيه يقولُ: تخافونهم أن يرِثوكم كما يرِثُ بعضُكم بعضًا
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تخافون هؤلاء الشركاءَ مما ملَكت أيمانُكم،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 102 عن معمر عن قتادة بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم
(2)
بعده في م: "هل".
(3)
ذكره البغوى في تفسيره 6/ 268، والطوسي في التبيان 8/ 222.
أن يقاسموكم أموالَكم، كما يقاسِمُ بعضُكم بعضًا.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمعتُ عمرانَ قال: قال أبو مِجْلَرٍ: إن مملوكَك لا تخافُ أن يقاسمك مالك، وليس له ذلك، كذلك الله لا شريك له.
وأولى القولين بالصوابِ في تأويل ذلك هذا
(1)
القول الثاني؛ لأنَّه أشبهُهما بما دلَّ عليه ظاهرُ الكلامِ، وذلك أنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤُه وبَّخ هؤلاء المشركين في
(2)
الذين جعلوا
(3)
له من خلقه آلهةً يعبدونها، وأشركوهم في عبادتهم إياه
(4)
، وهم مع ذلك يُقِرُّون بأنَّها خلقُه وهم عبيدهُ، وعيَّرهم بفعلهم ذلك، فقال لهم: هل لكم من عبيدكم
(5)
شركاء فيما خوَّلناكم من نعمنا، فهم سواءٌ وأنتم في ذلك، تخافون أن يقاسموكم ذلك المالَ الذى هو بينَكم وبينَهم، كخيفة بعضكم بعضًا أن يقاسمه ما بينه وبينَه مِن المال شركةً؟! فالخيفةُ التى ذكرها تعالى ذكرُه بأن تكونَ خيفةً مما يخافُ الشريكُ من مقاسمة شريكه المال الذي بينهما إياه، أشبه من أن تكون خيفةً منه بأن يرِثَه؛ لأن ذكرَ الشركة لا يدلُّ على خيفة الوراثة، وقد يدلُّ على خيفةِ الفراقِ والمقاسمةِ.
وقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . يقول تعالى ذكرُه:
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "يجعلون"، وفي ت 2:"يجعلوا".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"إياها".
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"عبيدي".
كما بيَّنا لكم أيها القومُ، حججنا في هذه الآياتِ مِن هذه السورة على قدرتنا على ما نشاءُ؛ مِن إنشاء ما نشاء وإفناء ما نحبُّ وإعادةِ ما نريد إعادته بعد فنائه، ودلَّلنا على أنه لا تصلحُ العبادة إلا للواحد القهار، الذى بيده ملكوت كلِّ شيءٍ - كذلك نبين حججنا في كلِّ حقٍّ لقومٍ يعقلون، فيتدبَّرونها إذا سمعوها، ويعتبرون فيتعظون بها.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)} .
يقول تعالى ذكرُه: ما ذلك كذلك، ولا أشرَك هؤلاء المشركون في عبادة الله الآلهة والأوثان لأنَّ لهم شركًا فيما رزقهم اللهُ مِن مِلْكِ أيمانهم، فهم وعبيدهم فيه سواءٌ، يخافونهم
(1)
أن يقاسِموهم ما هم شركاؤُهم فيه، فرضُوا اللَّهِ مِن أجل ذلك بما رضُوا به لأنفسهم، فأشركوهم في عبادته، ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفَروا باللَّهِ اتبعوا أهواءَهم؛ جهلًا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته، {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}. يقولُ: فمن يُسَدِّدُ للصواب من الطرق؟! يعنى بذلك: مَن يُوَفِّقُ للإسلام مَن أَضلَّ اللَّهُ الاستقامة والرشادِ؟! {وَمَا هُم مِّن نَاصِرِينَ} . يقولُ: وما لمن أضلَّ اللَّهُ مِن ناصرين ينصرونه فينقذونه من الضلال الذى يبتليه به تعالى ذكرُه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} .
يقول تعالى ذكرُه: فسدِّد وجهَك نحوَ الوجهِ الذى وجَّهك إليه ربُّك
(1)
في م: "يخافون".
يا محمدُ، لطاعته -وهى الدينُ- {حَنِيفاً}. يقول: مستقيمًا لدينه وطاعته، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. يقولُ: صنعةَ اللهِ التي خلق الناس عليها. ونُصبت {فِطْرَتَ} على المصدرِ من معنى قولِه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} . وذلك أن معنى ذلك: فطَر الله الناس على ذلك فطرةً.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، قال: الإسلامُ، مذْخلَقهم اللَّهُ مِن آدمَ جميعًا يُقِرُّون بذلك. وقرَأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
(1)
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدنَا} [الأعراف: 172]. قال: فهذا قولُ اللهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213] بعدُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . قال: الإسلامُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا يونسُ بن أبي صالح
(3)
، عن يزيد بن أبي مريمَ، قال: مرَّ عمرُ بمُعاذ بن جَبَلٍ فقال: ما قوام هذه الأُمَّةِ؟ قال معاذٌ: ثلاثٌ، وهنَّ المنجياتُ: الإخلاص، وهو الفطرةُ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
(1)
في ت 1، ت 2:"ذرياتهم"، وهى قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر. ينظر التيسير ص 94.
(2)
تفسير مجاهد ص 539.
(3)
في تفسير ابن كثير 6/ 322: "إسحاق". والظاهر أنه الصواب. ينظر تهذيب الكمال 32/ 488.
عَلَيْها}، والصلاةُ، وهى الملةُ، والطاعةُ، وهى العصمةُ. فقال عمرُ: صدقت
(1)
.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنى ابنُ عُلَيةَ، قال: ثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، أن عمرَ قال لمعاذٍ: ما قوامُ هذه الأمة؟ ثم ذكر نحوَه
(2)
.
وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . يقولُ: لا تغيير لدينِ اللهِ. أي لا يصلُحُ ذلك، ولا ينبغى أن يُفْعَلَ.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم نحو الذي قلنا في ذلك.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . قال: لدينِه
(3)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: أرسل مجاهدٌ رجلا يقال له: قاسم. إلى عكرمة يسأله عن قولِ اللَّهِ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} : إنما هو الدين. وقرأ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ، عن حسين بن واقدٍ، عن يزيدَ النحويِّ، عن عكرمة:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . قال: الإسلامُ.
قال: ثنا أبي، عن نضر بن عربيٍّ، عن عكرمةَ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} .
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 322 نقلًا عن المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 323 نقلًا عن المصنف.
(3)
تفسير مجاهد ص 539. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن أبى شيبة وابن المنذر.
قال: لدينِ اللهِ.
قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهدٍ، قال: لدينِ الله
(1)
.
قال: ثنا أبي، عن عبدِ الجبارِ بن الوردِ، عن القاسم بن أبي بزَّةَ، قال: قال مجاهد: فسلْ عنها عكرمةَ. فسألته، فقال عكرمةُ: دينُ اللهِ تعالى
(2)
، ما له أخزاه الله، ألم يسمع إلى قوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}
(3)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} : أي لدينِ اللَّهِ
(4)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفصُ بن غياثٍ، عن ليثٍ، عن عكرمة، قال: لدينِ اللَّهِ.
قال: ثنا ابن عيينةَ، عن حُمَيْدِ الأعرجِ، قال: قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: {لَا تَبَدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . قال: لدينِ اللّهِ
(5)
.
قال: ثنا المحاربيُّ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . قال: لدين الله
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {لَا تَبْدِيلَ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 31، وابن كثير في تفسيره 6/ 320، والطوسي في التبيان 8/ 223.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"فقال".
(3)
تقدم في 7/ 495، 496 بأتم من هذا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى المصنف.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى ابن أبي حاتم.
لِخَلْقِ اللَّهِ}. قال: دينِ اللَّهِ
(1)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن مسْعَرٍ وسفيانَ، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيمَ، قال:{لَا تَبَدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . قال: لدينِ اللَّهِ.
قال: ثنا أبى، عن جعفر الرازي، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لدينِ اللهِ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تغييرَ الخلقِ اللَّهِ مِن البهائم، بأن يُخْصَى الفحولُ منها.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فُضَيْل، عن مُطَرِّفٍ، عن رجلٍ، سأَل ابنَ عباسٍ، عن خِصاءِ البهائم، فكرِهه، وقال:{لَا تَبَدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}
(2)
.
قال: ثنا ابن عُيَيْنةَ، عن حميد الأعرجِ، قال: قال عكرمة: الإخصاء
(3)
.
قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن مجاهد، قال: الإخصاءُ
(4)
.
وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . يقول تعالى ذكرُه: إِنَّ إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدَّلٍ هو الدِّينُ القيم، يعنى: المستقيم، الذي لا عِوَجَ فيه عن الاستقامة، من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الضلالات والبدعِ المحدثة.
وقد وجَّه بعضُهم معنى الدين في هذا الموضعِ إلى الحساب.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 155 إلى المصنف.
(2)
الأثر في تفسير مجاهد ص 539 من طريق مغيرة به.
(3)
تقدم نحوه في 7/ 495، وينظر تفسير القرطبي 14/ 31.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8445) من طريق ليث به.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمارةَ، قال: ثنا عبيدُ
(1)
اللَّهِ بن موسى، قال: أخبرنا أبو لَيْلَى، عن بُريدةَ:{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . قال: الحساب القيمُ، {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يقول تعالى ذكرُه: ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمَرتُك يا محمد به بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} . هو الدين الحقُّ، دونَ سائرِ الأديانِ غيرِه.
القول في تأويل قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} .
يعنى تعالى ذكره بقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} : تائبين راجعين إلى الله مقبلين.
كما حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} . قال: المنيبُ إلى اللَّهِ: المطيعُ للَّهِ، الذي أناب إلى طاعةِ اللَّهِ وأمره، ورجع عن الأمور التي كان عليها قبل ذلك؛ كان القومُ كفارًا، فنزَعوا ورجعوا إلى الإسلام
(2)
.
وتأويل الكلام: فأقم وجهَك يا محمد للدين حنيفًا، {مُنيبِينَ إِلَيْهِ}: إلى اللَّهِ. فالمنيبون حالٌ مِن الكاف التي في {وَجْهَكَ} .
فإن قال قائل: وكيفَ يكونُ حالا منها، والكاف كنايةٌ عن واحد، والمنيبون صفة لجماعةٍ؟ قيل: لأن الأمر لمنِ
(3)
الكافُ كنايةُ اسمِه مِن اللَّه في هذا الموضعِ، أمرٌ
(1)
في م: "عبد".
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 320.
(3)
في م: "من".
منه له ولأمتِه، فكأنه قيل له: فأقم وجهك أنت وأمتُك للدين حنيفًا لله، منيبين إليه.
وقوله: {وَاتَّقُوهُ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: وخافوا الله وراقبوه أن تُفرِّطوا في طاعتِه، وتركبوا معصيتهِ، {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. يقولُ: ولا تكونوا من أهل الشرك بالله بتضييعكم، فرائضَه، وركوبكم معاصيه، وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} . يقولُ: ولا تكونوا مِن المشركين الذين بدلوا دينهم وخالفوه ففارقوه، {وَكَانُوا شِيَعًا}. يقولُ: وكانوا أحزابا فِرَقًا كاليهود والنصارى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} : وهم اليهودُ والنصارى
(1)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} إلى آخر الآية. قال: هؤلاء يهود.
فلو وجه قوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} . إلى أنه خبر مستأنف منقطعٌ عن قوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وأن معناه: من الذين فرَّقوا دِينَهُم وكانُوا شِيَعًا أحزابًا، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} - كان وجهًا يحتمله الكلام.
وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . يقولُ: كل طائفة وفرقةٍ مِن هؤلاء
(1)
تقدم تخريجه في 8/ 105.
الذين فارقوا دينهم الحقَّ، فأحدثوا البدع التي أحدثوا، {بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. يقولُ: بما هم به متمسكون من المذهب فرحون مسرورون، يحسبون أن الصوابَ معهم دون غيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)} .
يقولُ تعالى ذكره: وإذا مسَّ هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلهًا آخرَ - ضرٌّ، فأصابتهم شدَّةٌ وجُدوبٌ وقُحوطٌ، {دَعَوْا رَبَّهُم}. يقولُ: أخلصوا لربهم التوحيدَ، وأفردوه بالدعاء والتضرع إليه، واستغاثوا به {منِيبِينَ إِلَيْهِ}: تائبين إليه من شركهم وكفرهم، {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مَّنْهُ رَحْمَةً}. يقولُ: ثم إذا كشف ربُّهم تعالى ذكره عنهم ذلك الضرَّ، وفرَّجه عنهم، وأصابَهم برخاء وخضبٍ وسَعَةٍ؛ {إِذَا فَرِيقٌ مَّنهُم}. يقول: إذا جماعة منهم {بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} . يقول: يعبدون معه الآلهة والأوثانَ.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)} .
يقولُ تعالى ذكره متوعدًا لهؤلاء المشركين الذين أخبر عنهم أنه إذا كشَف الضر كفَروا به: {لِيَكْفُرُوا} بما أعطيناهم
(1)
. يقول: إذا هم بربهم يشركون، كى يكفروا، أي يجحدوا النعمةَ التي أنعمتها عليهم، بكشفى عنهم الضرَّ الذي كانوا فيه، وإبدالي ذلك لهم بالرخاء والخصبِ والعافية. وذلك الرخاء والسعة هو الذي أتاهم تعالى ذكره، الذي قال:{بِمَا آتَيْنَاهُمْ} . وقوله: {فَتَمَتَّعُوا} . يقولُ: فتمتعوا أيها القومُ، بالذي آتيناكم من الرخاءِ والسَّعةِ في هذه
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"أعطاهم".
الدنيا، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إذا ورَدتُّم على ربِّكم ما تلقون من عذابه، وعظيم عقابه، علي كفركم به في الدنيا. وقد قرأ بعضُهم
(1)
: (فَسَوْفَ يَعْلَمُون) بالياء، بمعنى: ليكفروا بما آتيناهم، فقد تمتعوا - على وجه الخبر - فسوف يعلمون.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} .
يقول تعالى ذكره: أم أنزلنا على هؤلاء الذين يُشركون في عبادتنا الآلهة والأوثان، كتابًا بتصديق ما يقولون*، وبحقيقة ما يفعلون، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}. يقولُ: فذلك الكتاب ينطقُ بصحة شركهم. وإنما يعنى جلَّ ثناؤه بذلك أنه لم يُنْزِل بما يقولون ويفعلون كتابًا، ولا أرْسَل به رسولا، وإنما هو شيءٌ افتعلوه واختلقوه؛ اتباعًا منهم لأهوائهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} . يقولُ: أمْ أنزَلنا عليهم كتابا فهو ينطقُ بشركهم
(2)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)} .
(1)
هو أبو العالية، ينظر البحر المحيط 7/ 173.
*من هنا خرم في المخطوطة ت 2 ينتهي في ص 508.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 272، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156 إلى ابن أبي حاتم.
يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الناسَ منا خصب ورخاء، وعافية في الأبدان والأموال، فرحوا بذلك، وإن تُصِبهم منا شدَّةٌ من جَدْب وقحط وبلاء في الأموال والأبدان، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}. يقولُ: بما أسلفوا من سيِّيء الأعمال بينهم وبين الله، وركبوا من المعاصى، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}. يقول: إذا هم ييأسون من الفرح. والقنوط هو الإياسُ؛ ومنه قول حميد الأرقط
(1)
.
قَدْ وَجَدُوا الحَجَّاج غير قانِطِ
وقوله: {إذا هُمْ يَقْنَطُونَ} . هو جوابُ الجزاء؛ لأنَّ "إذا" نابت عن الفعل بدلالتها عليه، فكأنَّه قيل: وإن تصبهم سيئة بما قدَّمتْ أيديهم وجدتهم يقنطون. أو: تجدهم. أو: رأيتهم. أو: تَرَهم
(2)
.
وقد كان بعض نحويى البصرة
(3)
يقول
(4)
: كانت "إذا" جوابا؛ لأنها متعلقة
(5)
بالكلام الأوَّلِ، بمنزلة الفاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)} .
يقول تعالى ذكره: أولم يرَ هؤلاء الذين يفرحون عند الرخاء يُصيبهم والخصبُ، وييأسون من الفرج عند شدَّةٍ تنالهم - بعيون قلوبهم، فيعلموا أنَّ الشدة والرخاء بيد الله، وأنَّ الله يبسُطُ الرزق
(6)
لمن يشاء من عباده فيوسعه عليه،
(1)
البيت في مجاز القرآن 2/ 122، وجمهرة اللغة 3/ 115.
(2)
في م: "تراهم".
(3)
هو الخليل بن أحمد. ينظر الكتاب 3/ 63، 64.
(4)
بعده في ص، ت 1:"إذا".
(5)
في ص، ت 1:"معلقة".
(6)
في ص، ت 1:"رزقه".
ويَقْدِرُ على من أراد فيضيقه عليه؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يقولُ: إنَّ في بسطه ذلك على من بسطه عليه، وقَدْرِه على من قدره عليه، ومخالفته بينَ مَنْ خالف بينه من عباده في الغنى والفقر - لدلالةً واضحةً لمن صدَّق حججَ اللَّهِ، وأقرَّ بها إذا عاينها ورآها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فأَعْطِ يا محمد ذا القرابة منك حقه عليك من الصلة والبرّ، والمسكين وابن السبيل ما فرض الله لهما في ذلك.
كما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن عوف، عن الحسنِ:{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} . قال: هو أن تُوفِّيهم حقَّهم إن كان عندك يسرٌ، وإن لم يكن عندك فقل لهم قولا ميسورًا؛ قُلْ لهم الخير
(1)
.
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} . يقول تعالى ذكرُه: إيتاءُ هؤلاء حقوقهم التي أَلزمها الله عباده خير للذين يريدون الله بإتيانهم ذلك، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)}. يقولُ: ومَنْ يفعل ذلك مبتغيا وجه الله به، فأولئك هم المنجحون، المدركون طلباتهم عند الله، الفائزون بما ابتغوا والتمسوا بإبتائهم
(2)
إياهم ما آتوا.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} .
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 35.
(2)
في ت 1: "بإتيانهم".
يقول تعالى ذكره: وما أعطيتم أيها الناسُ بعضُكم بعضا من عطية؛ لتزداد في أموال الناس، برجوع ثوابها إليه، ممن أعطاه ذلك، {فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ}. يقولُ: فلا يزدادُ ذلك عندَ اللَّهِ؛ لأنَّ صاحبَه لم يُعطِه مَنْ أعطاه مبتغيا به وجهَه. {وَمَا آتَيْتُم مَّن ذَكَاةٍ} . يقولُ: وما أعطيتم من صدقة تريدون بها وجه الله. {فَأُولَئِكَ} ، يعنى الذين يتصدَّقُون بأموالهم ملتمسين بذلك وجه الله، {هُمُ الْمُضْعِفُونَ}. يقولُ: هم الذين لهم الضِّعفُ من الأجر والثواب. من قول العرب: أصبح القومُ مُسمِنين مُعْطِشين. إذا سمنت إبلهم وعطشتْ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . قال: هو ما يُعْطى الناسُ بينهم بعضُهم بعضًا، يُعْطى الرجلُ الرجل العطية، يُريدُ أن يُعْطَى أكثرَ منها
(1)
.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور بن صفية، عن سعيد بن جبير:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} . قال: هو الرجل يُعْطى الرجل العطية ليثيبه
(2)
.
قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن منصور ابن صَفِيَّةَ، عن سعيد بن جبيرٍ مثله.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 103 من طريق قتادة عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156 إلى ابن أبي حاتم مطولًا، وينظر تفسير القرطبي 14/ 36، وتفسير ابن كثير 6/ 324.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 273، وينظر تفسير القرطبي 14/ 36.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنى أبي، عن سفيان، عن منصور ابن صفية، عن سعيد بن جبير:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . قال: الرجلُ يُعْطِى ليُثاب عليه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيدٍ، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} . قال: الهدايا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنى أبي، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد، قال: هي الهدايا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} . قال: يُعْطِى مالَه يَبْتَغِي أفضل منه
(1)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن ابن أبي خالد، عن إبراهيم، قال: هو الرجلُ يُهْدِى إلى الرجل الهدية، ليثيبه أفضل منها
(2)
.
قال: ثنا محمد بن حميد المعمريُّ، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: هو الرجلُ يُعْطِى العطية ويُهْدِى الهديةَ؛ ليثابَ أفضل من ذلك، ليس فيه أجرٌ ولا وِزْرٌ
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 539، وذكره الحافظ في التغليق 4/ 279 عن المصنف، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 104 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 36.
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 229 عن ابن طاوس عن أبيه، وينظر تفسير القرطبي 14/ 36.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . قال: ما أَعْطَيْتَ مِن شَيْءٍ تُرِيدُ مَثَابَةَ الدنيا، ومجازاة الناسِ، ذاك الربا الذي لا يَقْبَلُه الله، ولا يَجزِى به
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعْتُ أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيد، قال: سَمِعْتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} . فهو ما يَتعاطى الناسُ بينهم ويَتَهادَوْن؛ يُعْطِى الرجل العطية؛ ليُصِيبَ منه أفضل منها، وهذا للناس عامة، وأما قوله:{وَلَا تَمتُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. فهذا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصةً، لم يَكُن له أن يُعْطى إلا لله، ولم يَكُنْ يُعْطِى ليُعْطَى أكثرَ منه
(2)
.
وقال آخرون: إنما عُنى بهذا الرجلُ يُعْطِى ماله الرجلَ ليُعِينَه بنفسه، ويَخْدُمَه ويعود عليه نفعُه، لا لطلب أجرٍ من الله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى ومحمد بنُ فُضَيْلٍ، عن زكريا، عن عامرٍ:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} . قال: هو الرجلُ يَلتزِقُ
(3)
بالرجل، فيَخِفُّ له، ويَخْدُمُه، ويسافر معه، فيَجْعَلُ له ربح بعض ماله؛ ليَجْزِيَه، وإنما أعطاه التماس عونه، ولم يُرِدْ وجه الله
(4)
.
وقال آخرون: هو إعطاء الرجل ماله؛ ليُكثِّرَ به مالَ مَن أعطاه ذلك، لا لطلب
(1)
ينظر تفسير البغوي 6/ 273، وتفسير ابن كثير 6/ 324.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 104 عن عبد العزيز بن أبى رواد عن الضحاك، وينظر تفسير البغوي 6/ 273، وتفسير ابن كثير 6/ 324.
(3)
في ص، م:"يلزق". وينظر تفسير البغوي 6/ 273.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 273 عن الشعبى. وينظر تفسير ابن كثير 6/ 324.
ثواب الله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةً، عن أبي حصين، عن ابن عباسٍ:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} . قال: ألم تر إلى الرجل يقولُ للرجلِ: لأمَوِّلَنَّك. فيُعْطِيه، فهذا لا يَرْبو عندَ اللَّهِ؛ لأنَّه يُعْطِيه لغيرِ اللَّهِ، ليُثْرِيَ مالَه
(1)
.
قال: ثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الأمليُّ، قال: ثنا مروان بن معاويةَ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، قال: سمعتُ إبراهيم النخعيَّ يقولُ في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . قال: كان هذا في الجاهلية، يُعْطى أحدهم ذا القرابة المال يُكثرُ به ماله
(2)
.
وقال آخرون: ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً، وأما لغيره فحلالٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن ابن
(3)
أبي رَوَّادٍ، عن الضحاكِ:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . قال: هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا الربا الحلالُ
(4)
.
وإنما اخْتَرْنا القولَ الذي اخْتَرْناه في ذلك؛ لأنَّه أظهر معانيه.
(1)
ينظر تفسير القرطبي 14/ 37.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 273، وينظر تفسير القرطبي 14/ 37.
(3)
سقط من: م. وينظر تهذيب الكمال 18/ 136.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 104 عن عبد العزيز بن أبي رواد عن الضحاك.
واختَلَفَت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعضُ أهل مكةَ: {لَيَرْبُوَا} . بفتح الياء من "يربو"، بمعنى: وما آتَيْتُم مِن ربًا لِيَرْبُوَ ذلك الربا في أموال الناسِ
(1)
.
وقرأ ذلك عامة قرأةِ أهل المدينة: (لتُربُوا). بالتاءِ مِن "تُربو" وضمِّها، بمعنى: وما آتَيْتُم من ربًا لتُرْبوا أنتم في أموال الناسِ
(2)
.
والصوابُ مِن القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصار، مع تقارب معنيتهما؛ لأن أرباب المال إذا أَرْبَوْا رَبا المالُ، وإذا رَبَا المالُ فبإرباء أربابه إياه ربا. فإذ كان ذلك
(3)
، فبأى القراءتين قرأ القارئ فمصيبٌ.
وأما قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} . فإِنَّ أهلَ التأويل قالوا في تأويله نحو الذي قلنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} . قال: هذا الذي يَقْبَلُه اللَّهُ ويُضْعِفُه لهم عشر أمثالها، وأكثرَ مِن ذلك
(4)
.
حُدِّثْتُ عن عبد الرزاقِ، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، قال: قال ابن عباس قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . قال: هي
(1)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 507.
(2)
هي قراءة نافع. السبعة ص 507.
(3)
بعده في م: "كذلك".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الهبةُ، يَهَبُ الشيءَ، يُرِيدُ أن يُثابَ عليه أفضلَ منه، فذلك الذي لا يربو عندَ اللَّهِ، لا يُؤْجَرُ فيه صاحبه، ولا إثم عليه، {وَمَا آتَيتُم مَّن ذَكَاةٍ}. قال: هي الصدقةُ، {تُرِيدُونَ وَجَهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
(1)
.
قال معمر: قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثل ذلك
(2)
.
القول في تأويل قوله تعالى*: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} .
يقول تعالى ذكره للمشركين به، مُعَرِّفَهم قُبْحَ فعلهم، وخُبثَ صنيعهم: اللَّهُ، أيُّها القومُ، الذي لا تَصْلُحُ العبادةُ إلا له، ولا يَنْبَغى أن تكون لغيرِه، هو الذي خلَقَكم ولم تكونوا شيئًا، ثم رزَقَكم وخؤلكم، ولم تكونوا تَمْلِكون قبل ذلك، ثم هو يُميتكم من بعد أن خلقكم أحياءً، ثم يُحْيِيكم مِن بعدِ مماتِكم لبعثِ القيامة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث بعد الموت
(3)
.
وقوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} . يقول تعالى ذكره: هل من آلهتكم وأوثانكم التي تجعلونهم لله في عبادتكم إياه شركاءَ مَن يَفْعَلُ مِن ذلكم من شيءٍ، فيَخْلُقُ، أو يَرْزُقُ، أو يُميتُ، أو يَنْشُرُ؟ وهذا مِن اللَّهِ
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 103، 104، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 104.
(*) إلى هنا ينتهى الخرم الذي في ت 2 والمشار إلى بدايته في ص 500.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 446.
تَقْريعٌ لهؤلاء المشركين.
وإنما معنى الكلام أن شركاءَهم لا تَفْعَلُ شيئًا من ذلك، فكيف يَعْبُدُونَ
(1)
مِن دونِ اللَّهِ مَن
(2)
لا يَفْعَلُ شيئًا من ذلك؟!
ثم برَّأ نفسه تعالى ذكره عن الفِرْية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه، بزعمِهم أن آلهتَهم له شركاء، فقال جلَّ ثناؤُه:{سُبْحَانَهُ} . أي: تنزيهًا للَّهِ وتَبْرِئةً، {وَتَعَالَى}. يقولُ: وعُلُوًّا له {عَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقولُ: عن شركِ هؤلاء المشركين به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} : لا واللهِ، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، يُسَبِّحُ نفسَه إذ قيل عليه البهتان
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} .
يقول تعالى ذكره: ظَهرَت المعاصى في برِّ الأرضِ وبحرِها بكسب أيدى الناس ما نهاهم الله عنه.
واختَلَف أهل التأويل في المرادِ مِن قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرَّ وَالْبَحْرِ} ؛
(1)
في ص، م:"يعبد"، وفي ت 1:"تعبد".
(2)
في ت 2: "ما".
(3)
تقدم تخريجه في 14/ 604.
فقال بعضُهم: عُنِى بالبرِّ الفَلَواتُ، وبالبحرِ الأمصار والقرى التي على المياهِ والأنهار.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَثَّامٌ، قال: ثنا النضر بن عربيٍّ، عن مجاهدٍ:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} الآيةَ، قال: إذا ولَّى سعَى بالعداءِ
(1)
والظلم، فيَحْبِسُ اللَّهُ بذلك القَطْرَ، فَيُهْلِكُ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205]. قال: ثم قرَأ مجاهدٌ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرَّ وَالْبَحْرِ} الآية. قال: ثم قال: أمَا والله ما هو بحرَكم هذا، ولكن كل قريةٍ على ماء جارٍ فهو بحرٌ
(2)
.
حدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . قال: أما إنى لا أقولُ بحرُكم هذا، ولكن كل قريةٍ على ماءٍ جارٍ
(3)
.
قال
(4)
: ثنا يزيد بن هارونَ، عن عمرو بن فَرُّوحَ، عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . قال: إن العرب تُسَمِّى الأمصارَ بحرًا
(5)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي
(1)
في م: "بالتعدى".
(2)
تقدم تخريجه في 3/ 583.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 325.
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر تفسير البغوي 6/ 274.
البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}. قال: هذا قبل أن يَبْعَثَ اللَّهُ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، امتلأت
(1)
ضلالة وظلما، فلما بعث الله نبيه رجع راجعون من الناس
(2)
.
قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ؛ أما البر فأهل العمود
(3)
، وأما البحرُ فأهل القرى والريف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . قال: الذنوبُ. وقرأ: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قُرَّةُ، عن الحسن في قوله:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ} . قال: أَفْسَدَهم الله بذنوبهم، في بحر الأرض وبرِّها، بأعمالهم الخبيثة
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنى بالبَرِّ ظَهْرُ الأَرض؛ الأمصار وغيرها، وبالبحر البحرُ المعروف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . قال: في البر: ابن آدم الذي قتل أخاه، وفي البحر: الذي
(1)
بعده في تفسير البغوي: "الأرض".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 104 عن معمر عن قتادة مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وينظر التبيان 8/ 231.
(3)
العماد والعمود: الخشبة التي يقوم عليها البيت، وقال الليث: يقال لأصحاب الأخبية الذين لا ينزلون غيرها: هم أهل محمود وأهل عماد. ينظر اللسان (ع م د).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 13/ 502 من طريق قرة به.
كان يَأْخُذُ كل سفينةٍ غَصْبًا
(1)
.
حدثني يعقوب، قال: قال أبو بشر، يعنى ابنَ عُلَيَّةَ، قال: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نجيح يقولُ في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} .
قال: بقتل ابن آدم، والذي كان يَأْخُذُ كلَّ سفينة غصبًا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارونَ، عن فُضَيْلِ بن مرزوق، عن عطيةَ:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . قال: قلتُ: هذا البرُّ، والبحرُ أي فسادٍ فيه؟ قال: فقال: إذا قل المطرُ، قلَّ الغَوْصُ
(2)
.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرَّ} . قال: قتلُ ابن آدمَ أخاه، {وَالْبَحْرِ}. قال: أخذُ الملِكِ السفنَ غَصْبًا
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أنَّ الله تعالى ذكرُه أَخبر أنَّ الفساد قد ظهَر في البرِّ والبحرِ. والبرُّ
(4)
عند العرب
(5)
: الأرضُ القفارُ، والبحر بحران؛ بحرٌ مِلْحٌ، وبحرٌ عَذْبٌ، وهما جميعًا عندهم بحرٌ، ولم يَخْصُص جلَّ ثناؤه الخبرَ عن ظهورِ ذلك في بحر دون بحر، فذلك على ما وقع عليه اسم بحرٍ؛ عذبًا كان أو مِلْحًا. وإذا كان
(6)
كذلك، دخل القرى التي على الأنهار والبحار.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 9/ 364 عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 156، 157 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1، ت 2:"العوض". والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 40، وينظر تفسير البغوي 6/ 274.
(3)
تفسير مجاهد ص 539.
(4)
سقط من: م.
(5)
بعده في م: "في".
(6)
بعده في م: "ذلك".
فتأويلُ الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفتُ: ظهرت معاصى اللهِ في كلِّ مكانٍ؛ من برٍّ وبحر {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} ، أي: بذنوبِ الناسِ، وانْتَشَر الظلم فيهما
(1)
.
وقوله: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} . يقولُ جلَّ ثناؤه: ليُصيبهم بعقوبةِ بعضِ أعمالهم التي عملوا، ومعصيتهم التي عَصَوْا، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. يقولُ: كي يُنيبوا إلى الحقِّ، ويرجعوا إلى التوبة، ويتركوا معاصيَ الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فُضَيْلٍ، عن أشعثَ، عن الحسنِ:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قال: يتوبون.
قال: ثنا ابن مهديٍّ، عن سفيان، عن السديِّ، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله:{لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ} : يوم بدرٍ، لعلهم يتوبون
(2)
.
قال: ثنا أبو أسامة، عن، زائدةَ، من منصور، عن إبراهيمَ:{لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ} . قال: إلى الحقِّ
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لعلَّ راجعًا أنه يرجِع، لعلَّ تائبًا أنْ يتوبَ، لعلَّ مستعتِبًا أَنْ يَسْتَعتِبَ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"فيها".
(2)
أخرجه الحاكم 4/ 253 من طريق سفيان به.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 553، 554 عن أبي أسامة به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرةُ، عن الحسنِ:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قال: يرجعُ مَنْ بعدهم
(1)
.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {لِيُذِيقَهُم} ، فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصارِ:{لِيُذِيقَهُم} . بالياء، بمعنى: ليذيقَهم الله بعض الذي عملوا
(2)
. وذُكِرَ أنَّ أبا عبدِ الرحمنِ السُّلَميَّ قرأ ذلك بالنونِ على وجه الخبرِ من الله عن نفسه بذلك
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: سيروا في البلاد، فانْظُروا إلى مساكن الذين كفروا باللَّهِ مِن قبلكم وكذَّبوا رسلَه، كيف كان آخرُ أمرهم، وعاقبة تكذيبهم رسل الله وكفرهم، ألم نُهْلِكهم بعذابٍ منَّا، ونَجْعَلهم عبرةً لمن بعدهم؟ {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}. يقولُ: فَعَلْنا ذلك بهم؛ لأنَّ أكثرهم كانوا مشركين باللَّهِ مثلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)} .
يقول تعالى ذكرُه: فوجِّهْ وجهك يا محمد نحو الوجه الذي وجهك إليه ربُّكَ، {لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}: لطاعةِ ربِّك والملة المستقيمة التي لا اعوجاج فيها عن الحقِّ، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}. يقول تعالى ذكره: من قبل مجيءِ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 13/ 502 من طريق قرة به.
(2)
هي قراءة نافع وأبى عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 507.
(3)
ينظر البحر المحيط 7/ 176. وهى أيضا قراءة ابن كثير. السبعة ص 507.
يوم
(1)
من أيام الله، لا مرد
(2)
لمجيئه؛ لأن الله قد قضى بمجيئِه، فهو لا محالة جاءٍ. {يَوْمَيذٍ يَصَدَّعُونَ}. يقولُ: يومَ يَجِيءُ ذلك اليومُ يَصَّدَّعُ الناسُ. يقولُ: يَتَفَرَّقُ الناسُ فرقتين - من قولهم: صدَعْتُ الغنم صِدْعَتَيْن
(3)
. إذا فرقتها فرقتين - فريقٌ في الجنةِ، وفريقٌ في السعيرِ
(4)
.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدَّينِ الْقَيمِ} : الإسلام، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} ؛ فريقٌ في الجنةِ، وفريق في السعيرِ
(5)
.
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} . [يقولُ: يَتَفَرَّقون
(6)
.
حدثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {يَصَّدَّعُونَ} ]
(7)
. قال: يَتَفَرَّقون؛ إلى الجنة وإلى النار
(8)
.
(1)
بعده في ت 2: "من الله".
(2)
بعده في ص، م:"له".
(3)
في ت 1: "فرقتين".
(4)
ينظر معاني القرآن 2/ 325.
(5)
ذكره الطوسى في تفسيره 8/ 232، 233، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 279، والإتقان للسيوطى 2/ 26 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى ابن المنذر.
(7)
سقط من: ت 2.
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى ابن أبي حاتم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} .
يقول تعالى ذكره: مَن كفر بالله فعليه أوزارُ كفرِه، وأنام جحوده نِعَمَ ربِّه، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}. يقولُ: ومَن أطاعَ اللَّهَ، فعمل بما أمره به في الدنيا، وانتهى عما نهاه عنه فيها؛ {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. يقولُ: فلأنفسهم يَسْتَعِدُّون، ويُسَرُّون المضجع؛ ليَسْلَموا من عقابِ ربِّهم، ويَنْجُوا مِن عذابِه؛ كما قال الشاعر
(1)
:
امْهَدْ لنفسك حانَ السُّقْمُ والتَّلَفُ
…
ولا تُضِيعَنَّ نفسا ما لها خَلَفُ
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ
(2)
، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . قال: يُسَؤُّون المضاجع
(3)
.
حدثنا ابن المثنى والحسين
(4)
بن يزيدَ الطَّحَّانُ وابن وكيع وأبو عبدِ الرحمنِ العلائيُّ، قالوا: ثنا يحيى بن سُلَيم الطائفيُّ، عن بنُ سُلَيْم الطائفى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . قال: في القبرِ
(5)
.
(1)
هو سليمان بن يزيد العدوى. والبيت منسوب إليه في مجاز القرآن 2/ 124.
(2)
بعده في ت 2: "جميعا".
(3)
تفسير مجاهد ص 540، وأخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 279 - عن ورقاء به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(4)
في ت 1: "الحسن". وينظر تهذيب الكمال 6/ 501.
(5)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 297، والبيهقى في عذاب القبر (155) من طريق يحيى بن سليم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 107 إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن المنذر.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجَوْهَريُّ، قال: ثنا يحيى بن سُلَيْمٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . قال: للقبرِ.
حدثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا يحيى بن سُلَيْمٍ، قال: ثنا ابن أبي نَجيحٍ، قال: سمعت مجاهدًا يقولُ في قوله: {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . قال: في القبرِ.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)} .
يقول تعالى ذكره: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} ؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} بِاللَّهِ ورسوله، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: وعملوا بما أَمَرَهم الله - {مِن فَضْلِهِ} الذي وعَد من أطاعه في الدنيا أن يَجْزِيَه يوم القيامة، {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. يقولُ تعالى ذكره: إنما خص بجزائِه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ دونَ مَن كفَر بالله؛ إنه لا يُحِبُّ أهل الكفر به. واسْتأنف الخبر بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، وفيه المعنى الذي وصفتُ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)} .
يقول تعالى ذكره: ومن أدلته على وحدانيته، وحججه عليكم على أنه إلهُ كلِّ شيءٍ - {أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} بالغَيْثِ والرحمة، {وَلِيُذِيقَكُم من رَحْمَتِهِ}. يقولُ: ولِيُنَزِّلَ عليكم من رحمتِه - وهى الغيثُ الذي يُحْيى به البلاد - ولِتَجْرِيَ السفنُ في البحار بها بأمره إياها، {وَلَتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ}. يقولُ: ولِتَلْتَمِسوا من أرزاقه ومَعايشِكم التي قسمَها بينكم، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. يقولُ: ولِتَشْكُرُوا
ربَّكم على ذلك
(1)
؛ أرْسَل هذه الرياح مُبَشِّراتٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} . قال: بالمطر
(2)
.
وقالوا في قوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، مثل الذي قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قوله:{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} . قال: المطرِ
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} : المطرِ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} .
يقولُ تعالى ذكره مُسَلِّيًّا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم، فيما يَلْقى من قومِه مِن الأذى
(1)
بعده في ت 1: "الذي".
(2)
تفسير مجاهد ص 540، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
فيه، بما لَقِى مَنْ قبله من رسله من قومهم، ومعلِّمَه
(1)
سُنتَه فيهم وفي قومهم، وأنَّه سالكٌ به وبقومه سنته فيهم وفى أممِهم: ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك رسلا إلى قومهم الكفرة، كما أرسلناك إلى قومك العابدى الأوثان من دونِ الله، {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ، يعني: بالواضحات من الحُجَجِ على صدقهم وأنهم للَّهِ رسلٌ، كما جئتَ أنت قومك بالبينات، فكذبوهم كما كذبك قومُك، وردُّوا عليهم ما جاءوهم به من عندِ اللهِ، كما ردُّوا عليك ما جئتَهم به من عندِ ربِّكَ، {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}. [يقولُ: فانتقمنا من الذين أَجْرموا]
(2)
الآثامَ، واكتسبوا السيئات من قومهم، ونحن فاعلو ذلك كذلك بمجرمي قومك، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. يقولُ: ونجَّيْنا الذين آمنوا بالله وصدقوا رسلَه، إذ جاءهم بأسُنا، وكذلك نفعلُ بك وبمن آمن بك من قومك، وكان حقا علينا نصرُ المؤمنين على الكافرين، ونحن ناصروك ومن آمن بك على مَنْ كفَر بك، ومُظْفِرُوك
(3)
بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)} .
يقول تعالى ذكره: الله يرسل الرياح {فَتُثِيرُ سَحَابًا} . يقولُ: فتُنشئُ الرياحُ سحابًا. وهي جمع سحابةٍ، {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}. يقولُ: فيَنشُره اللَّهُ، ويَجمَعُه في السماء كيف يشاءُ. وقال:{فَيَبْسُطُه} . فوحَّد الهاءَ،
(1)
في ت 2: "معلمهم".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"مظفرك".
وأَخْرَجها
(1)
مُخرَجَ كناية المذكرِ، والسحابُ جمع كما وصفت، ردًّا على لفظِ السحابِ، لا على معناه، كما يقال: هذا تمرٌ جيدٌ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: {فَيَبْسُطُهُ} . قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}
(2)
: يجمَعُه
(3)
.
وقوله: {وَيَجْعَلهُ كِسَفًا} . يقولُ: ويجعل السحابَ قِطعًا متفرِّقةً.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} . أي: قطعًا
(3)
.
وقوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ} . يعنى: المطرَ، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، يعني: من بين السحاب.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن فِطْرٍ
(4)
، عن حبيب، عن عبيد بن عميرٍ:{يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} . [قال: الرياحُ أربعٌ؛ يبعث الله ريحًا، فتَقُمُّ الأرض قَمًّا، ثم يبعث الريحَ الثانية فتثير سحابًا]
(5)
، فيجعله في السماءِ كِسَفًا، ثم يَبْعثُ الريحَ
(1)
في م، ت 1:"أخرج".
(2)
بعده في م: "و".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 157 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وذكره الحافظ في الفتح 8/ 602 وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في النسخ: "قطن". وقد تقدم على الصواب في 17/ 335.
(5)
سقط من: ت 2.
الثالثةَ، فتؤلِّفُ بينَه فيجعله ركامًا، ثم يَبْعَثُ الريحَ الرابعة فتُمطِرُ
(1)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{فَتَرَى الْوَدْقَ} . قال: القَطْرَ
(2)
.
وقوله: {فَإذا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . يقولُ: فإذا صرَف ذلك الودْقَ إلى أرض مَنْ أراد صرْفَه إلى أرضه من خلقه، رأيتهم يَستبشرون بأنَّه صرف ذلك إليهم، ويفرحون.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)} .
يقول تعالى ذكره: و
(3)
كان هؤلاء الذين أصابهم الله بهذا الغيثِ من عباده، من قبل أنْ يُنَزَّلَ عليهم هذا الغيث، من قبل هذا الغيثِ - {لَمُبْلِسِينَ}. يقولُ: المُكتئبين حزِنين
(4)
باحتباسه عنهم.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مَّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} . أي: قانطين.
واختلف أهل العربية في وجه تكرير {من قَبْلِهِ} ، وقد تقدم قبل ذلك قوله:{مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرة
(5)
: ردَّ {من قَبْلِهِ}
(1)
تقدم تخريجه في 17/ 335، 336.
(2)
تفسير مجاهد ص 540، وأخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 279 - عن ورقاء به.
(3)
بعده في ت 2: "إن".
(4)
في ت 1، ت 2:"حزينين".
(5)
هو الأخفش. ينظر البحر المحيط 7/ 178.
على التوكيدِ، نحو قوله:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. وقال غيره
(1)
: ليس ذلك كذلك؛ لأن مع: {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} حرفًا ليس مع الثانيةِ. قال: فكأنه قال: من قبل التنزيل، من قبل المطر. فقد اختلفتا، وأما:{كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ، وُكِّد بأجمعين؛ لأن "كلًّا"، يكونُ اسمًا ويكون توكيدا، وهو قوله:{أَجْمَعُونَ} .
والقولُ عندى في قوله: {من قَبْلِهِ} : على وجه التوكيد.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} .
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} ؛ فقرأته عامةُ قرأة أهلِ المدينة والبصرة وبعضُ الكوفيين: (إلى أثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ). على التوحيد، بمعنى: فانظر يا محمد، إلى أثر الغيثِ الذي أصاب اللَّهُ به مَنْ أصاب من عبادِه، كيف يُحْيى ذلك الغيثُ الأرضَ من بعد موتها
(2)
. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفةِ: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} . على الجِمَاعِ، بمعنى: فانظر إلى آثار الغيثِ الذي أصاب الله به مَنْ أصاب، كيف يُحيى الله الأرضَ بعد موتها
(3)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك: أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأةِ الأمصارِ، متقاربتا المعنى؛ وذلك أنَّ الله إذا أحيا الأرضَ بغيث أنزله عليها، فإنَّ الغيثَ أحياها بإحياء الله إياها به، وإذا أحياها الغيثُ، فإن الله هو المحيى به، فبأيِّ القراءتين قرأ
(1)
هو قطرب. المصدر السابق 7/ 179.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة ص 508.
(3)
هي قراءة حمزة والكسائى وحفص عن عاصم. المصدر السابق، الموضع السابق.
القارئ فمصيبٌ.
فتأويل الكلام إذن: فانظرْ يا محمد، إلى آثارِ الغيثِ الذي يُنَزِّلُ اللَّهُ من السحابِ، كيف يُحيى الله به الأرضَ الميتةَ، فيُنبتُها ويُعشِبُها، من بعد موتها ودثورها.
{إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} . يقولُ جلَّ ذكره: إن الذي يُحيى هذه الأرضَ بعد موتها بهذا الغيثِ، لَمُحيي الموتى من بعد موتهم، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} ، مع قدرته على إحياء الموتى، {قَدِيرٌ} ، لا يعزُّ عليه شيءٌ أراده، ولا يمتنع عليه فعلُ شيءٍ شاءه، سبحانَه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)} .
يَكْفُرُونَ الله يقول تعالى ذكره: ولئن أرسَلْنا ريحًا، مفسدةً ما أنبته الغيثُ الذي أنزلناه من السماء، فرأى هؤلاء الذين أصابهم الله بذلك الغيث الذي
(1)
حَبِيتْ
(2)
به أَرَضُوهم، وأعشَبَتْ ونبَتتْ به زروعُهم - ما أنبتَتْه أَرَضوهم بذلك الغيث من الزرعِ مُصْفَرًّا، قد فسَد بتلك الريح التي أرسلناها، فصار من بعدِ خُضْرته مصفرًّا؛ لظلُّوا من بعدِ استبشارهم وفرحهم به، يكفرون بربِّهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)} .
(1)
في ص، ت 1:"حتى".
(2)
في ت 1: "أحييت".
يقولُ تعالى ذكره: {فَإِنَّكَ} يا محمد {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} . يقولُ: لا تجعلُ لهم أسماعًا يفهمون بها عنك ما تقولُ لهم. وإنما هذا مثلٌ، ومعناه: فإنك لا تقدِرُ أن تُفهِمَ هؤلاء المشركين الذين قد ختَم الله على أسماعهم، فسلبهم فَهْمَ ما يُتلى عليهم من مواعظِ تنزيلِه، كما لا تَقدِرُ أن تُفهِمَ الموتى الذين [قد سلَبهم الله أسماعَهم، بأن تجعلَ لهم أسماعًا.
وقوله: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} . يقولُ: وكما لا تَقدرُ أَنْ تُسمِعَ الصُّمَّ - الذين]
(1)
قد سُلِبوا السمعَ - الدعاءَ، إذا هم وَلَّوا عنك مُدْبرين، كذلك لا تَقِدرُ أنْ تُوفِّقَ هؤلاء الذين قد سلبهم اللَّهُ فَهُمَ آيَاتِ كتابه، لسماعِ ذلك وفهمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} : هذا مَثَلٌ ضرَبه الله للكافر، فكما لا يَسمَعُ الميتُ الدعاءَ، كذلك لا يَسمَعُ الكافرُ، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَوْا مُدْبِرِينَ}. يقولُ: لو أَنَّ أَصمَّ ولَّى مُدبرًا ثم ناديته لم يَسمَعْ، كذلك الكافرُ لا يَسْمَعُ ولا يَنتفِعُ بما يَسْمَعُ
(2)
.
وقوله: {وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما أنت يا محمدُ، بمسدِّدِ من أعماه الله عن الاستقامةِ، ومَحَجة الحقِّ، فلم يُوفِّقه لإصابةِ
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2921 من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 114، 115 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الرشدِ، فصارِفِه عن ضلالته التي هو عليها، وركوبِه الجائرَ من الطرق، إلى سبيل
(1)
الرشادِ. يقولُ: ليس ذلك بيدك ولا إليك، ولا يقدر على ذلك أحدٌ غيرى؛ لأنى القادرُ على كلِّ شيءٍ. وقيل:{بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} . [ولم يُقل: من ضلالتهم]
(2)
. لأن معنى الكلام ما وَصَفْتُ، من أنه: وما أنت بصارفهم عنه. فحُمِل على المعنى، ولو قيل: من ضلالتهم. كان صوابًا، وكان معناه: ما أنت بمانعهم من ضلالتهم.
وقوله: {إن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} . يقول تعالى ذكره لنبيه: ما تُسْمِعُ السماعَ الذي ينتفِعُ به سامعُه فيعقِلَه، إلا من يؤمنُ بآياتنا؛ لأن الذي يُؤْمِنُ بِآيَاتِنا إذا سمع كتابَ الله، تدبَّره وفهمه وعقَله، وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدودِ اللهِ التي حدَّ فيه، فهو الذي يَسمَعُ السماع النافعَ.
وقوله: {فَهُم مُسْلِمُونَ} . يقولُ: فهم خاضعون لله بطاعته، متذلِّلون لمواعظ كتابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذِّبين بالبعث من مشركي قريش، محتجًّا عليهم بأنه القادرُ على ذلك، وعلى ما يشاءُ:{الَّذِى خَلَقَكُم} أَيُّهَا النَّاسُ، {من ضَعْفٍ}. يقولُ: من نُطْفَةٍ وماءٍ مَهِينٍ، فأنشأكم بَشَرًا سَوِيًّا، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
(1)
في ص، ت 2:"سبل".
(2)
سقط من: ت 2.
ضَعْفٍ قُوَّةً}. يقولُ: ثم جعَل لكم قوَّةً على التصرُّفِ، من بعدِ خلقِه إياكم من ضَعْفٍ، ومن بعدِ ضعفِكم بالصغرِ والطفولةِ، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}. يقولُ: ثم أحدَث لكم الضعفَ بالهَرَمِ والكبرِ عما كنتم عليه أقوياءَ في شبابِكم، وشيبةً.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} . أي: مِن نُطْفَةٍ، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا}: الهَرَمَ، {وَشَيْبَةً}: الشَّمَطَ
(1)
.
وقولُه: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يَخلُقُ مَا يَشَاءُ مِن ضَعْفٍ وقُوَّةٍ وشبابٍ وشَيْبٍ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتَدْبيرِ خلقِه، {الْقَدِيرُ} على ما يشاءُ، لا يَمتنِعُ عليه شيءٌ أرادَه، فكما فعَل هذه الأشياءَ، فكذلك يُميتُ خلقَه ويُحْيِيهم إذا شاء. يقولُ: واعلَموا أن الذي فعَل هذه الأفعالَ بقُدْرته يُحيى الموتى إذا شاء.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ تجيءُ ساعةُ البعثِ، فيُبْعَثُ الخلقُ مِن قبورِهم {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} ، وهم الذين كانوا يكفُرون بالله في الدنيا، ويكتسِبون فيها الآثامَ، وإقسامُهم: حَلِفُهم باللهِ. {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} . يقولُ: يُقْسِمون بأنهم لم يَلْبَثُوا في قبورِهم غيرَ ساعةٍ واحدةٍ. يقولُ الله جلَّ ثناؤُه: {كَذَلِكَ} في
(1)
الشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده. اللسان (ش م ط). والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 158 إلى ابن أبي حاتم.
الدنيا {كَانُوا يُؤْفَكُونَ} . يقولُ: كَذَبوا في قيلِهم وقَسَمِهم: ما لَبِثْنا غيرَ ساعةٍ.
كما كانوا في الدنيا يَكْذِبون ويَحْلِفون على الكذبِ وهم يعلَمون.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} . أي: يكذِبون في الدنيا. وإنما يعنى بقولِه: {يُؤْفَكُونَ} : عن الصدقِ، ويُصَدُّون عنه إلى الكذبِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)} .
كان قتادةُ يقولُ: هذا مِن المُقَدَّمِ الذي معناه التأخيرُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} . قال: هذا مِن مَقاديمِ الكلامِ، وتأويلُها: وقال الذين أُوتوا الإيمانَ والعلمَ: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(2)
.
وذُكر عن ابن جُرَيجٍ أنه كان يقولُ: معنى ذلك: وقال الذين أوتُوا العلمَ بكتابِ الله، والإيمانَ بالله وكتابهِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 158 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر تفسير البغوي 6/ 278، والقرطبي 14/ 48. والكلام فيهما على غير ما ذكر المصنف إذ فيهما: وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم.
وقولُه: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} . يقولُ: فيما كتَب الله مما سبَق في علمِه أنكم تَلْبَثونه
(1)
. {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} . يقولُ: فهذا يومُ يُبْعَثُ الناسُ مِن قبورِهم، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. [يقولُ: ولكنكم كنتم لا تعلمون]
(2)
في الدنيا أنه يكونُ، وأنكم مبعوثون مِن بعدِ الموت، فلذلك كنتم تكذِّبون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فيومَ يُبْعَثون مِن قبورِهم {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} . يعنى المُكذِّبين بالبعثِ في الدنيا، {مَعْذِرَتُهُمْ}: وهو قولُهم: ما علِمْنا أنه يكونُ، ولا أنَّا نُبْعَثُ. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. يقولُ: ولا هؤلاء الظُّلَمةُ يُسْتَرْجَعون يومَئذٍ عما كانوا يكذِّبون به في الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد مَثَّلْنا للناسِ في هذا القرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ؛ احتجاجًا عليهم، وتَنْبيهًا لهم على وحدانيةِ الله. وقولُه:{وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} . يقولُ: ولئن
(3)
جئتَ يا محمدُ، هؤلاء القومَ {بِآيَةٍ}. يقولُ: بدَلالةٍ على صدقِ ما تقولُ - {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} . [يقولُ: ليَقولَنَّ الذين جحَدوا رسالتَك، وأنكَروا نُبُوَّتَك: إن أنتم أيُّها المُصَدِّقون محمدًا فيما أتاكم به {إِلَّا مُبْطِلُونَ}](2) فيما تَجيِئوننا به مِن هذه الأمورِ.
(1)
في ت 1، ت 2:"تكتبونه".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ت 2: "لو".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: كذلك يختِمُ اللهُ على قلوبِ الذين لا يعلَمون حقيقةَ ما تأتيهم به يا محمدُ، مِن عندِ اللَّهِ، مِن هذه العِبَر والعظاتِ، والآياتِ البَيِّنَاتِ، فلا يفقَهون عن اللَّهِ حُجَّةً
(1)
، ولا يفهَمون عنه ما يَتْلُو عليهم مِن آى كتابه، فهم لذلك في طُغْيانِهم يَتَردُّدون.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فاصبرْ يا محمدُ، لِما ينالُك من أَذاهم، وبلِّغْهم رسالةَ ربِّك، فإن وعد الله الذي وعَدك، مِن النصِر عليهم، والظَّفَرِ بهم، وتَمْكينِك وتمكينِ أصحابِك وتُبَّاعِك في الأرض - حقٌّ، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}. يقولُ: ولا يَسْتَخِفَّنَّ حِلْمَك ورأيك هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدِّقون بالبعث بعد المماتِ، فيثَبِّطوك عن أمر الله، والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن عليّ بن ربيعةً، أن رجلًا من الخوارج قرأ خلفَ عليٍّ، رضي الله عنه:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. فقال عليٌّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .
(1)
في ت 1: "حججه".
قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن شَرِيكٍ، عن عثمان بن أبي زُرْعَةَ، عن عليٍّ بن
(1)
ربيعة، قال: نادى رجلٌ مِن الخوارج عليًّا، رضي الله عنه، وهو في صلاة الفجرِ فقال:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . فأجابه عليٌّ، رضي الله عنه، وهو في الصلاةِ:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} . قال: قال رجلٌ من الخوارج خلف عليٍّ في صلاةِ الغَداة: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . فأنْصَتَ له عليٌّ، رضي الله عنه، حتى فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاةِ:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}
(3)
.
آخر تفسير سورة "الروم"
(1)
بعده في ت 1: "أبى".
(2)
نقله ابن كثير في تفسيره 6/ 332 عن المصنف.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 332 عن سعيد به، وعزاه إلى المصنف ابن أبي حاتم.
تفسير سورة لقمان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(4)}.
وقد تقدَّم بيانُنا تأويل قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: {الم}
(1)
.
وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} . يقول جل ثناؤه: هذه آياتُ الكتاب الحكيم بيانًا وتفصيلًا.
وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} . يقولُ: هذه آياتُ الكتاب بيانًا ورحمةً من اللهِ، رَحِم به مَن اتَّبعه، وعمل به من خلقه.
وبنصب الهدى والرحمة على القطع من آياتِ الكتاب قرأت قرأة الأمصار غير حمزة، فإنه قرأ ذلك رفعًا على وجه الاستئناف، إذ كان منقطعًا عن الآية التي قبله؛ بأنه ابتداء آيةٍ، وأنه مدحٌ
(2)
. والعرب تفعل ذلك فيما
(3)
كان من نعوتِ المعارف وقع موقع الحال، إذا كان فيه معنى مَدْحٍ أو ذَمٍّ.
وكلتا القراءتين صوابٌ عندى، وإن كنتُ إلى النصب أَمْيَلُ؛ لكثرة القرأة به.
وقوله: {لِلْمُحْسِنِينَ} . وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنزل الله في هذا
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 204 - 227.
(2)
ينظر السبعة ص 512.
(3)
في ص، م:"مما".
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} القرآن
(1)
، يقول تعالى ذكرُه: هذا الكتاب الحكيمُ هدًى ورحمة للذين أحسنوا، فعملوا بما فيه من أمرِ اللهِ ونَهْيِه، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}. يقولُ: الذين يُقيمون الصَّلاةَ المفروضة بحدودها، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} مَنْ جَعَلها الله له، المفروضة في أموالهم، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. يقولُ: يفعلون
(2)
ذلك، وهم بجزاء الله وثوابه لِمَنْ فعل ذلك في الآخرة يُوقنون.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين وصَفْتُ صفتهم على بيانٍ مِن رَبِّهم ونورٍ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. يقولُ: وهؤلاء هم المنجحون المدركون ما رَجَوا وأَمَّلوا من ثوابِ رَبِّهم يومَ القيامةِ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)} .
اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ؛ فقال بعضُهم: مَن يشتَرى الشِّراء المعروف بالثمن، ورَوَوْا بذلك خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن خَلَّادٍ الصَّفَّارِ، عن عبيدِ اللَّهِ بن زَحْرٍ، عن عليِّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَّاتِ، ولا شِراؤُهُنَّ، ولا التِّجارَةُ فِيهِنَّ، ولا أثمانُهُنَّ، وفيهنَّ نزلت هذه الآيةُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ} "
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنى أبى، عن خَلَّادٍ الصَّفَّارِ، عن عبيدِ اللَّهِ بن زَحْرٍ، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، إلا أنه قال:"أَكُلُ ثَمَنِهِنَّ حَرَامٌ". وقال أيضًا: "وفيهنَّ أَنْزَلَ اللهُ على هذه الآيَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ".
حدَّثى عبيد بن آدم بن أبى إياسٍ العسقلانيُّ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا سليمانُ بن حيَّانَ، عن عمرو بن قيس الكُلابيِّ، عن أبي المهلَّبِ، عن عبيدِ اللَّهِ بن زَحْرٍ، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة. قال: وثنا إسماعيل بن عياشٍ، عن مُطَرِّحِ بن يزيد، عن عُبيدِ اللهِ بن زَحْرٍ، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة الباهليِّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا يحِلُّ تَعْليمُ المُغَنِّيَاتِ، ولا يَيْعُهُنَّ ولا شراؤُهُنَّ، وثمَنْهُنَّ حَرامٌ، وقَدْ نَزَل تَصْدِيقُ ذلك في كتابِ اللهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}. إلى آخر الآية"
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مَن يختارُ لهو الحديثِ ويَستحِبُّه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
(1)
أخرجه أحمد 5/ 525 (الميمنية)، والطبرانى (7862)، والبيهقى 6/ 14، 15 من طريق وكيع به، وأخرجه الحميدى (910)، والترمذى (1282، 3195)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (24) - ومن طريقه ابن الجوزى في العلل المتناهية 2/ 298 - والطبرانى (7755)، والبيهقى 6/ 14، والواحدى في أسباب النزول ص 260، والبغوى في تفسيره 6/ 284 من طريق عبيد الله بن زحر به، وأخرجه ابن مردويه - كما في تخريج الكشاف للزيلعى 3/ 68 من طريق على بن يزيد به، وأخرجه الطبراني أيضًا (7753)، وابن عدي في الكامل 6/ 2315 من طريق القاسم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. وسقط من عند الحميدى وابن أبي الدنيا وابن الجوزي ذكر على بن يزيد.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2168) من طريق أبى المهلب عن عبيد الله عن أبي أمامة.
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: والله لعله أن لا يُنفِقَ فيه مالًا؛ ولكن اشتراؤُه استحبابُه، بِحَسْبِ المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقِّ، وما يضُرُّ على ما ينفَعُ
(1)
.
حدَّثني محمد بن خلف العسقلانيُّ، قال: ثنا أيوب بن سويدٍ، قال: ثنا ابن شَوذَب، عن مَطَرٍ في قولِ اللَّهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: اشتراؤُه: استحبابه
(2)
.
وأوْلَى التأويلين عندى بالصواب تأويلُ مَن قال: معناه الشراء الذي هو بالثَّمَنِ، وذلك أن ذلك هو أظهرُ معنَيَيْه.
فإن قال قائلٌ: وكيف يشترى لهو الحديث؟ قيل: يشترى ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديثِ، فيكونُ مشتَريًا لهو الحديثِ.
وأما الحديثُ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو الغناءُ والاستماعُ له.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يزيدُ بنُ يونس، عن أبي صخرٍ، عن أبي معاوية البجليِّ، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن أبي الصَّهْبَاءِ البكريِّ، أنه سمع عبد الله بن مسعودٍ وهو يُسأَلُ عن هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . فقال عبدُ اللَّهِ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 105 عن معمر عن قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 158 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 53 وفيه: مطرف.
الغناءُ والذي لا إله إلا هو. يُردِّدُها ثلاثَ مرَّاتٍ
(1)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا صفوانُ بن عيسى، قال: أخبرنا حميدٌ الخراطُ. عن عمارٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن أبي الصَّهباء، أنه سأل ابن مسعودٍ عن قولِ اللَّهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغناء
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عليُّ بن عابسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغِناءُ.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عمران بن عيينة، قال: ثنا عطاءُ بن السائب، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغناء وأشباهه
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيع والفضلُ بن الصبَّاح، قالا: ثنا محمدُ بنُ فُضيلٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: هو الغناءُ ونحوُه
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامُ بنُ سَلمٍ، عن عمرو بن أبي قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ مثله.
حدَّثنا الحسينُ بن عبد الرحمن الأنماطيُّ، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا ابن أبي
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 333 عن المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 334 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (26)، والحاكم 2/ 411، والبيهقى 10/ 223، وفى الشعب (5096) من طريق صفوان به، وأخرجه ابن أبي شيبة 6/ 309 - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 9/ 708، 709 من طريق حميد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه البخارى في الأدب المفرد (786، 1265)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهى (27)، والبيهقى 10/ 223 من طريق عطاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 310 - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 9/ 709 - من طريق محمد بن فضيل به.
ليلى، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، قال: هو الغناءُ والاستماع له. يعنى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} .
حدَّثنا الحسنُ بن عبد الرحيم، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا سفيانُ، عن قابوسَ بن أبي ظَبْيان، عن أبيه، عن جابر في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: هو الغناء والاستماع له.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم أو
(1)
مقسمٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: شراء المغنِّية
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا حفصٌ والمحاربيُّ، عن ليثٍ، عن الحكم، عن ابن عباسٍ، قال: الغناءُ.
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: باطِلُ الحديث؛ هو الغناء ونحوه
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن حبيبٍ، عن مجاهد:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغِناءُ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ وعبد الرحمن بن مهديٍّ، عن شُعبةَ، عن الحكم، عن مجاهدٍ، أنه قال في هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغِناءُ.
(1)
في ت 2: "و"، وفى ت 3:"عن". وينظر الأثر قبل السابق، وترجمة الحكم في تهذيب الكمال 7/ 114.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 309 - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 9/ 709 - عن وكيع، عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى الفريابى وابن مردويه.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيان، عن حبيب، عن مجاهد، قال: الغناءُ
(1)
.
قال: ثنا أبى، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ مثله
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا الأشجعيُّ، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن مجاهدٍ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: هو الغناء، وكلُّ لَعِبٍ لهوٌ
(2)
.
حدَّثنا الحسينُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأنماطيُّ، قال: ثنا عليُّ بن حفصٍ الهَمْدانيُّ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغناءُ، والاستماعُ له، وكُلُّ لهوٍ.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: المغنِّى والمغنِّيةُ بالمال الكثير، أو استماعٌ إليه أو إلى مثله من الباطل
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ وابن وكيعٍ قالا: ثنا ابن عليةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: هو الغناءُ، أو الغناءُ منه، أو الاستماع له
(4)
.
(1)
تفسير سفيان ص 238، وأخرجه ابن أبي شيبة 6/ 310، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (13) عن وكيع به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"ولهو"، والأثر في تفسير سفيان ص 238، وعنه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 105، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 إلى الفريابى وسعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
تفسير مجاهد ص 541، ومن طريقه البيهقى 10/ 225، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 160 إلى المصنف وآدم بن أبى إياس.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 309 عن ابن علية به، وأخرجه الفراء في معاني القرآن 2/ 327 من طريق ليث به.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عَثّامُ بنُ عليٍّ، عن إسماعيل بن أبى خالدٍ، عن شعيبِ بن يسارٍ، عن عكرمةَ، قال: لهوُ الحديث: الغناءُ
(1)
.
حدَّثني عبيدُ بنُ إسماعيلَ الهَبَّاريُّ، قال: ثنا عَثّامٌ، عن إسماعيل بن أبى خالدٍ، عن شُعيب بن يسارٍ: هكذا قال عكرمةُ، عن عبيدٍ مثله.
حدَّثنا الحسنُ
(2)
بن الزِّبرقان النخعيُّ، قال: ثنا أبو أسامة وعبيد الله، عن أسامة، عن عكرمة في قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} . قال: الغناءُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن أسامة بن زيدٍ، عن عكرمة، قال: الغناء
(3)
.
وقال آخرون: عنى باللهو الطَّبل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عباسُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا حجاجٌ الأعورُ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: اللهوُ: الطبلُ
(4)
.
وقال آخرون: عنى بلهو الحديث الشركَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 310 - ومن طريقه ابن حزم في المحلى 9/ 709 - من طريق إسماعيل به السيوطي في الدر المنثور 5/ 159 إلى ابن أبي الدنيا.
(2)
في ص، م، ت 1:"الحسين"، وفى ت 2:"عبيد"، وتقدم على الصواب في 1/ 714، 717. وينظر الجرح والتعديل 3/ 15.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 6/ 310 عن وكيع به.
(4)
ذكره البغوي 6/ 285 من قول ابن جريج.
الضحاك يقولُ في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} : يعنى الشرك
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} . قال: هؤلاء أهلُ الكفر، ألا ترى إلى قوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} ، فليس هكذا أهلُ الإسلام. قال: وناسٌ يقولون: هي فيكم. وليس كذلك. قال: وهو
(2)
الحديثُ الباطلٌ الذي كانوا يلغُون فيه
(3)
.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلَّ ما كان من الحديثِ مُلْهيًا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسولُه؛ لأن الله تعالى ذكرُه عَمَّ بقوله:{لَهْوَ الْحَدِيثِ} ، ولم يخصص بعضًا دونَ بعضٍ، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدلُّ على خصوصه، والغناء والشركُ من ذلك.
وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . يقولُ: ليصُدَّ ذلك الذي يَشترِى مِن لهوِ الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرِّبُ إليه؛ من قراءة قرآنٍ، وذكرِ اللهِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: سبيلُ اللَّهِ: قراءةُ القرآنِ،
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 285، وابن كثير في تفسيره 6/ 334.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"أهل".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 334 مختصرًا.
وذكر الله إذا ذكره، وهو رجلٌ من قريشٍ اشتَرى جاريةً مُغَنِّيةً
(1)
.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} . يقولُ: فعل ما فعل من اشترائه لهوَ الحديثِ، جهلًا منه بما له في العاقبة عندَ اللهِ من وِزْرِ ذلك وإثْمِه.
وقوله: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} . اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينة والبصرة، وبعضُ أهل الكوفة:(ويَتَّخِذُها) رفعًا
(2)
، عطفًا به على قوله:{يَشْتَرِي} ، كأن معناه عندهم: ومن الناس من يشترى لهوَ الحديثِ، ويتَّخِذُ آيات الله هزوًا. وقرأَ ذلك عامةُ قرأة الكوفة:{وَيَتَّخِذَهَا} نصبًا
(3)
؛ عطفًا على "يُضِلَّ"، بمعنى: ليُضِلَّ عن سبيل الله، وليتخِذَها هُزُوًا.
والصوابُ من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصواب في قراءته.
والهاءُ والألفُ في قوله: {وَيَتَّخِذَهَا} من ذكرِ {سَبِيلِ اللَّهِ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} . قال: سبيلُ اللَّهِ
(4)
.
وقال آخرون: بل ذلك من ذكر آيات الكتاب.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 109 إلى المصنف والفريابى وابن مردويه.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 512.
(3)
هي قراءة حمزة والكسائى وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
(4)
تفسير مجاهد ص 541، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 158، 159 إلى الفريابى وابن المنذر وابن أبى حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: بحَسْبِ المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديثِ الحقِّ، وما يضرُّ على ما ينفَعُ
(1)
.
{وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} : يستهزِئُ بها ويكذِّبُ بها. وهما من أن يكونا من ذكرِ سَبِيلِ الله أشبه عندى؛ لقُربهما منها، وإن كان القولُ الآخرُ غير بعيدٍ من الصواب. واتخاذُه ذلك هُزُوًا هو استهزاؤُه به.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليُضِلُّوا عن سبيل الله، لهم يومَ القيامةِ عذابٌ مُذِلٌّ مُخْزٍ في نَارِ جَهَنَّمَ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} .
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على هذا الذي اشترى لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله، آيات كتابِ اللهِ، فقُرِئت عليه، {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا}. يقولُ: أدبر عنها
(2)
، و [أغرض استكبارًا]
(3)
عن سماع الحقِّ والإجابة عنه، كأن لم يسمعها، {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}. يقولُ: ثِقْلًا، فلا يُطِيقُ من أجلِه سماعه.
كما حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} . قال: ثِقلًا
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه في ص 534.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"عنه".
(3)
في ص، ت 2:"أعرض استكبار وأعرض"، وفى م:"استكبر استكبارا وأعرض".
(4)
تفسير مجاهد ص 541.
وقوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فبَشِّرْ هذا المعرِضَ عن آياتِ اللَّهِ إذا تُلِيَتْ عليه استكبارًا - بعذابٍ له من الله يومَ القيامةِ مُوجع، وذلك عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} .
يقول تعالى ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله فوحَّدُوه، وصدَّقوا رسوله واتَّبعوه، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: فأطاعوا الله، فعملوا بما أمرهم في كتابه وعلى لسان رسوله، وانتهوا عما نهاهم عنه، {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}. يقول: لهؤلاء بساتين النعيم.
{خَالِدِينَ فِيهَا} . يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية، {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}. يقولُ: وعدهم الله وغدًا حقًّا، لا شكَّ فيه، ولا خُلْفٌ له، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}. يقولُ: وهو الشديدُ في انتقامه من أهل الشرك به، والصادِّين عن سبيله، {الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} .
يقول تعالى ذكره: ومن حكمته أنه خلق السماوات السبع {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} . وقد ذكرتُ فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، وبيَّنا الصواب من القول في ذلك عندنا
(1)
.
وقد حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا معاذُ بن معاذٍ، عن عمران بن حديرٍ، عن
(1)
ينظر ما تقدم في 13/ 408.
عكرمة، عن ابن عباسٍ:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} . قال: لعلَّها بِعَمَدٍ لا تَروْنَها
(1)
.
وقال: ثنا العلاء بنُ عبدِ الجبارِ، عن حماد بن سلمة، عن حميدٍ، عن الحسن بن مسلمٍ، عن مجاهد، قال: إنها بعمَدٍ لا تَرَوْنَها
(2)
.
قال: ثنا يحيى بنُ آدم، عن شَرِيكٍ، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لعلَّها بعمدٍ لا تَروْنَها
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدٌ، عن سماكٍ، عن عكرمة في هذا الحرف:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} . قال: تَرَونَها بغير عمدٍ، وهى بعَمَدٍ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} . قال: قال الحسن وقتادةُ: إنها بغير عمدٍ تَرَوْنَها، ليس لها عمدٌ
(5)
. وقال ابن عباسٍ: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} . قال: لها عمَدٌ لا تَروْنَها.
وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . يقولُ: وجعل على ظهرِ الأرض رواسي، وهى ثوابتُ الجبالِ، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: أن لا تميد بكم. يقولُ: أن لا تضطرب بكم، ولا تتحرَّك يمنةً ولا يسرةً، ولكن تستقرُّ بكم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} : أي: جبالًا، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: أثبتها بالجبال، ولولا ذلك ما
(1)
تقدم في 13/ 408، 409.
(2)
تقدم في 13/ 409.
(3)
تقدم في 13/ 410.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 335.
(5)
تقدم قول قتادة وحده في 13/ 411.
أقرَّت عليها خَلْقًا
(1)
.
وذلك كما قال الراجِزُ
(2)
.
والمُهرُ يَأْتِي أَنْ يَزَالَ مُلْهِبَا
بمعنى: لا يزالُ.
وقولُه: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} . يقولُ: وفرَّق في الأرضِ من كلِّ أنواعِ الدوابِّ. وقيل: الدوابُّ اسمٌ لكلِّ ما أكَل وشرِب. وهو عندِى لكلِّ ما دَبَّ على الأرضِ.
وقولُه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأنزلنا من السماءِ مطرًا، فأنبتنا بذلك المطرِ في الأرضِ {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}. يعني: من كلِّ نوعٍ من النباتِ، {كَرِيمٍ} ، وهو الحَسَنُ النِّبْتةِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . أي: حسَن
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي عَدَّدتُ عليكم أيها الناسُ أنى خلَقْتُه في هذه الآيةِ، {خَلْقُ اللَّهِ} الذي له أُلوهةُ كلِّ شيءٍ، وعبادةُ كلِّ خَلْقٍ، الذي لا تصلُحُ العبادةُ لغيرِه، ولا تنبَغِى لشيءٍ سواه، {فَأَرُونِي} أيها المشركون في عبادتِكم إياه
(1)
تقدم تخريجه في 14/ 33، 34 مطولًا.
(2)
الرجز في معاني القرآن للفراء 2/ 327 غير منسوب.
(3)
تقدم تخريجه في 17/ 120، 19/ 63.
مَنْ دونَه مِن الآلهةِ والأوثانِ، أيَّ شيءٍ خلَق الذين مِن دونِه من آلهتِكم وأصنامِكم، حتى استَحَقَّت عليكم العبادةُ فعبَدتُموها من دونِه، كما استحَقَّ ذلك عليكم خالِقُكم وخالقُ هذه الأشياءِ التي عدَّدتُها عليكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} : ما ذكَر من خلْقِ السماواتِ والأرضِ، وما بثَّ من الدوابِّ، وما أنبَت من كلِّ زوجٍ كريمٍ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: الأصنامُ الذين تدعون من دونِه
(1)
.
وقولُه: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يقولُ تعالَى ذكرُه: ما عبَد هؤلاءِ المشركون الأوثانَ والأصنامَ من أجلِ أنها تخلُقُ شيئًا، ولكنهم دعاهم إلى عبادتِها ضَلالُهم، وذَهابُهم عن سبيلِ الحقِّ، فهم {فِي ضَلَالٍ}. يقولُ: فهم في جَوْرٍ عن الحقِّ، وذَهابٍ عن الاستقامةِ، {مُبِينٍ}. يقولُ: يُبِينُ لَمَنْ تأَمَّلَه، ونظَر فيه، وفكَّر بعَقْلٍ، أنه ضلالٌ لا هدًى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقْد آتينا لقمانَ الفقهَ في الدينِ، والعقلَ، والإصابةَ في القولِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 160 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} . قال: الفقهَ والعقلَ والإصابةَ في القولِ، من غيرِ نُبوَّةٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} . أي: الفقهَ في الإسلامِ. قال قَتادةُ: ولم يكُنْ نبيًّا، ولم يُوْحَ إليه
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا يونُسُ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} . قال: الحكمةُ: الصوابُ
(3)
. وقال غيرُ أبى بشرٍ: الصوابُ، في غيرِ النبوَّةِ.
حدَّثنا ابن المثنى، ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ، أنه قال: كان لقمانُ رجلًا صالحًا، ولم يكُنْ نبيًّا
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 541، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 105، وأحمد في الزهد ص 48، 49 من طريق آخر عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 161 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 338، والحافظ في الفتح 6/ 466 عن سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 161 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
تقدم تخريجه في 5/ 10.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 336، وابن حجر في الفتح 6/ 466 عن شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 162 إلى المصنف.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدِيُّ وابنُ حميدٍ، قالا: ثنا حَكّامٌ، عن سعيدٍ الزُّبَيْدِيِّ، عن مجاهدٍ، قال: كان لقمانُ الحكيمُ عبدًا حَبشيًّا، غليظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصفَّحَ
(1)
القدمَيْنِ، قاضيًا على بني إسرائيلَ
(2)
.
حدَّثني عيسى بنُ عثمانَ بن عيسى الرمليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ، قال: كان لقمانُ عبدًا أسودَ، عظيمَ الشفتَيْنِ، مُشقَّقَ القَدَمَيْنِ
(3)
.
حدَّثني عباسُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: ثنا سليمانُ بنُ بلالٍ، قال: ثني يحيى بنُ سعيدٍ، قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ المسيِّبِ يقولُ: كان لقمانُ الحكيمُ أسودَ من سودانِ مصرَ
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن أشعثَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كان لقمانُ عبدًا حبشيًّا
(5)
.
حدَّثنا العباسُ بنُ الوليدِ، قال: أخبَرنا أبى، قال: ثنا الأوزاعيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ حَرْملَةَ، قال: جاء أسودُ إلى سعيدِ بن المسيِّبِ يسأَلُ، فقال له سعيدٌ: لا تحزَنْ من أجلِ أنك أسودُ، فإنه كان مِن خيرِ الناسِ ثلاثةٌ من السودانِ؛ بلالٌ، ومِهْجَعٌ مولَى عمرَ بن الخطابِ، ولُقمانُ الحكيمُ، كان أسودَ نوبيًّا ذا
(1)
تصفيح الشيء: جعله عريضًا، ومنه قولهم: رجل مصفح الرأس. أي: عريضها. اللسان (ص ف ح).
(2)
أخرجه أحمد في الزهد ص 48 عن حكام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 161 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 213 عن يحيى به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 336، والحافظ في الفتح 6/ 466 عن يحيى بن سعيد به، وعزاه الحافظ إلى المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 161 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه الثورى في تفسيره - كما في الفتح 6/ 466، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 336 عن الثوري به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 160 إلى ابن أبي الدنيا في المملوكين وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مَشافِرَ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن أبي الأشهَبِ، عن خالدٍ الرَّبَعِيِّ، قال: كان لقمانُ عبدًا حبشيًّا نجَّارًا، فقال له مَوْلَاه: اذبَحْ لنا هذه الشاةَ. فذبَحها، قال: أخرِجْ أطيبَ مُضْغَتَين فيها. فأخرَج اللسانَ والقلْبَ، ثم مكَث ما شاء الله، ثم قال: اذبَحْ لنا هذه الشاةَ. فذبَحها، فقال: أخرِجْ أخبَثَ مُضْغَتَين فيها. فأخرَج اللسانَ والقلْبَ، فقال له مَوْلاه: أَمَرْتُك أن تُخْرِجَ أطيبَ مُضْعَتين فيها فأخرَجْتَهما، وأمرْتُك أن تُخرِجَ أَخبَثَ مُضْعَتين فيها فأخرَجْتَهما! فقال له لقمانُ: إنه ليس من شيءٍ أطيبَ منهما إذا طابا، ولا أخبَثَ منهما إذا خبُثا
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكَمُ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، قال: كان لقمانُ عبدًا أسودَ، غليظَ الشفتَين، مُصفَّحَ القدمَينِ، فأتاه رجُلٌ وهو في مجلِسِ أُناسٍ يُحدِّثُهم، فقال له: ألسْتَ الذي كنتَ ترْعَى معى الغنمَ في مكانِ كذا وكذا؟ قال: نعَم. قال: فما بلَغ بك ما أرى؟ قال: صِدْقُ الحديثِ، والصَّمْتُ عما لا يَعْنِيني
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} . قال: القرآنَ
(4)
.
(1)
المِشْفَر والمَشفَر للبعير كالشفة للإنسان، وقد يقال: للإنسان مشافر، على الاستعارة. اللسان (ش ف ر). والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 336 عن الأوزاعى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 161 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 336 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 13/ 124، وأحمد في الزهد ص 49، من طريق أبي الأشهب به.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 337 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (116، 675) من طريق أبي شهاب عن عمرو بن قيس.
(4)
ينظر تفسير مجاهد ص 245.
قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الحكمةُ الأمانةُ.
وقال آخرون: كان نبيًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ، قال: كان لقمانُ نبيًّا
(1)
.
وقولُه: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد آتينا لقمانَ الحكمةَ، أنِ احمَدِ الله على ما آتاكَ من فَضْلِه. وجعَل قولَه:{أَنِ اشْكُرْ} ترجمةً عن الحكمةِ؛ لأن مِن الحكمةِ التي كان أوتِيَها، كان شُكْرُه الله على ما آتاه.
وقولُه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} . يقولُ: ومَن يشكرِ الله على نِعَمِه عندَه فإنما يشكُرُ لنفسِه؛ لأن الله يُجزِلُ له على شُكرِه إياه الثوابَ، ويُنقِذُه به من الهَلَكةِ، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. يقولُ: ومن كفَر نعمةَ اللهِ عليه، إلى نفسِه أساء؛ لأن الله معاقِبُه على كفرانِه إياه، والله غنيٌّ عن شكرِه إياه على نِعَمِه، لا حاجةَ به إليه؛ لأن شكرَه إياه لا يَزيدُ في سلطانِه، ولا يُنْقِصُ كفرانُه إياه من مُلكِه. ويعنى بقولِه:{حَمِيدٌ} : مَحْمودٌ على كلِّ حالٍ، له الحمدُ على نعَمِه؛ كفَر العبدُ نعمتَه أو شكَره عليها. وهو مصروفٌ من مفعولٍ إلى فَعِيلٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ يا محمدُ {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 6/ 337 من طريق وكيع به.
وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. يقولُ: الخطأٌ من القولِ عظيمٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأمَرْنا الإنسانَ ببرِّ والدَيه، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}. يقولُ: ضَعْفًا على ضعفٍ، وشدةً على شدةٍ. ومنه قولُ زُهيرٍ
(1)
:
فلن يقولوا بحبلٍ واهنٍ خَلَقٍ
…
لو كان قومُكَ في أسبابِه هلَكوا
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، غيرَ أنهم اختلَفوا في المعنيِّ بذلك؛ فقال بعضُهم: عُنِىَ به الحَمْلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} . يقولُ: شدةً بعدَ شدةٍ، وخلْقًا بعدَ خَلْقٍ
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} . يقولُ: ضَعْفًا على ضَعْفٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
(1)
شرح ديوان زهير ص 180. والبيت في مجاز القرآن 2/ 127.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 287، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى المصنف.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 287، والطوسي في التبيان 8/ 248.
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}. أي: جَهْدًا على جَهْدِ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِىَ بذلك وَهْنُ الولدِ وضَعْفُه على وَهْنِ
(2)
الأمِّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ.
{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} . قال: وَهْنُ الولدِ على وَهْنِ الوالدةِ وضَعْفِها
(3)
.
وقولُه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} . يقولُ: وفِطامُه في انقضاءِ عامَين.
وقيل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} . وتُرِك ذكرُ "انقضاء"؛ اكتفاءً بدَلالةِ الكلامِ عليه، كما قيل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]، يُرادُ به: أهلُ القريةِ.
وقولُه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} . يقولُ: وعهِدْنا إليه أنِ اشْكُرْ لى على نِعَمى عليك، ولوالدَيك تربيتَهما إياك، وعلاجَهما فيك ما عالجا مِن المشقةِ، حتى استَحكَم قُوَاك.
وقولُه: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} . يقولُ: إلى الله مصيرُك أيُّها الإنسانُ، وهو سائلُك عما كان من شُكرِك له على نعمِه عليك، وعما كان من شكرِك لوالدَيك، وبِرِّك بهما على ما لقِيا منك من العناءِ والمشقةِ في حالِ طفولتِك وصِباك، وما اصطَنعا إليك في برِّهما بك، وتَحَنُّنِهما عليك.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 106 عن معمر عن قتادة.
(2)
في ص، م، ت 1:"ضعف".
(3)
تفسير مجاهد ص 541، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى ابن أبي حاتم.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت في شأنِ سعدِ بن أبى وقَّاصٍ وأمِّه.
ذكرُ الروايةِ الواردةِ في ذلك
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكِ بن حربٍ، عن مصعبِ بن سعدٍ، قال: حلَفتْ أمُّ سعدٍ ألّا تَأْكُلَ ولا تَشْرَبَ حتى يَتَحَوَّلَ سعدٌ عن دينِه. قال: فأبى عليها، فلم تَزَلْ كذلك حتى غُشِىَ عليها. قال: فأتاها بَنوها فسَقَوها. قال: فلما أفاقت دعَتِ الله عليه، فنزَلت هذه الآيةُ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قولِه: {فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} .
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكِ بن حربٍ، عن مصعبِ بن سعدٍ، عن أبيه، قال: قالت أمُّ سعدٍ لسعدٍ: أليس الله قد أمَر بالبرِّ؟ فواللهِ لا أَطْعَمُ طعامًا ولا أَشْرَبُ شرابًا حتى أَمُوتَ أو تَكْفُرَ، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يُطعِموها شَجَروا فاها
(1)
بعصًا، ثم أَوْجَروها
(2)
، فنزَلت هذه الآيةُ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن سماكِ بن حربٍ، قال: قال سعدُ بنُ مالكٍ: نزَلت فيَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . قال: لما أَسلَمتُ حلَفت أمى
(1)
شجروا فاها: أي أدخلوا في شَجْره - وهو مفتح الفم، وقيل: الذقنُ - عودًا حتى يفتحوه به. النهاية 2/ 446.
(2)
أوجروها: أكرهوها على الشرب. ينظر اللسان (و ج ر).
(3)
أخرجه مسلم (44/ 1748)، والترمذى (3189)، والبزار (1149) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 3/ 163 (1614) عن محمد بن جعفر، وأخرجه الطيالسي (205)، وأحمد 3/ 136 (1567)، وعبد بن حميد (132)، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 3036، والبيهقى 9/ 26، وفي الشعب (7932) من طريق شعبة به، وأخرجه البخارى في الأدب المفرد (24)، ومسلم (1748) / 43، وأبو يعلى (782) من طريق سماك به.
لا تَأْكُلُ طعامًا ولا تَشْرَبُ شرابًا. قال: فناشَدتُها أولَ يومٍ فأبت وصبَرت، فلما كان اليومُ الثاني ناشَدتُها فأَبَت، فلما كان اليومُ الثالثُ ناشَدتُها فأبَت، فقلتُ: واللهِ لو كانت لكِ مِائَةُ نَفْسٍ، لخرَجت قبلَ أن أَدَعَ دينى هذا. فلما رأَت ذلك وعرَفت أنى لستُ فاعلًا، أكَلت
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، قال: سمِعتُ هُبَيرةَ
(2)
قال: نزَلت هذه الآيةُ في سعدِ بن أَبي وقّاصٍ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} الآية.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} أيُّها الإنسانُ والداك {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} في عبادتِك إياىَ معى غيرِى، مما لا تَعْلَمُ أنه لى شريكٌ - ولا شريكَ له، تعالى ذكرُه علوًّا كبيرًا - فلا تُطِعْهما فيما أراداك عليه من الشركِ بى، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. يقولُ: وصاحِبْهما في الدنيا بالطاعةِ لهما، فيما لا تَبِعةَ عليك فيه فيما بينَك وبيَن ربِّك، ولا إثمَ.
وقولُه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} . يقولُ: واسلُكْ طريقَ مَن تاب مِن شركِه، ورجَع إلى الإسلامِ، واتَّبَعَ محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه الطبراني في كتاب العشرة - كما في تفسير ابن كثير 6/ 339، 340 من طريق داود به، وأخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 257 من طريق داود عن أبي عثمان النهدى عن سعد به نحوه، وينظر علل الدارقطني 4/ 311، 312.
(2)
بعده في م، ت 2:"يقول".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} . أي: مَن أقبَل إليَّ
(1)
.
وقولُه: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : فإن إليَّ مصيرَكم ومعادَكم بعدَ مماتِكم، فأُخبِرُكم بجميعِ ما كنتم في الدنيا تَعْمَلون من خيرٍ وشرٍّ، ثم أُجازِيكم على أعمالِكم، المحسنَ منكم بإحسانِه، والمسيءَ بإساءتِه.
فإن قال لنا قائلٌ: ما وجهُ اعتراضِ هذا الكلامِ بينَ الخبرِ عن وصيَّتَىْ لقمانَ ابنَه؟ قيل: ذلك أيضًا، وإن كان خبرًا مِن الله تعالى ذكرُه عن وصيتِه عبادَه به، [وأنه]
(2)
إنما أوصَى به لقمانُ ابنَه، فكان معنى الكلامِ:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، ولا تُطِعْ في الشرِكِ به والدَيك، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فإن الله وصَّى بهما، فاستُؤْنِف الكلامُ على وجهِ الخبرِ الله، وفيه هذا المعنى، فذلك وجهُ اعتراضِ ذلك بينَ الخبرَينِ عن وصيتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} .
اختلَف أهلُ العربيةِ في معنى الهاءِ والألفِ اللتين في قولِه: {إِنَّهَا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: ذلك كنايةٌ عن المعصيةِ والخطيئةِ. ومعنى الكلامِ عندَه: يا بُنيَّ، إن المعصيةَ إن تكُ مثقالَ حبةٍ من خردلٍ، أو: إن الخطيئةَ.
(1)
تقدم تخريجه بنحوه في 13/ 518.
(2)
كذا في النسخ، ولعله:"فإنه"، فهو أنسب للسياق.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(1)
: هذه الهاءُ عمادٌ. وقال: أنَّت {تَكُ} ؛ لأنه يُرادُ بها الحبةُ، فذهَب بالتأنيثِ إليها، كما قال الشاعرُ
(2)
:
وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَهُ
…
كما شَرِقَت صَدْرُ القَناةِ من الدمِ
وقال صاحبُ هذه المقالةِ: يجوزُ نصبُ المثقالِ ورفعُه. قال: فمن رفَع رفعَه بـ "تَكنُ"، واحتمَلت النكرةُ ألَّا يكونَ لها فعلٌ في "كان" و "ليس" وأخواتِها، ومن نصَب جعَل في "تكن" اسمًا مضمرًا مجهولًا، مثلَ الهاءِ التي في قولِه:{إِنَّهَا إِنْ تَكُ} قال: ومثلُه قولُه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]. قال: ولو كان: إن يكُ
(3)
مثقالَ حبةٍ. كان صوابًا، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحبُ المقالةِ الأولى فإن نَصْبَ {مِثْقَالَ} في قولِه؛ على أنه خبرٌ وتمامُ "كان"، وقال: رفَع بعضُهم فجعَلها "كان" التي لا تحتاجُ إلى خبر.
وأولى القولين بالصوابِ عندِى القولُ الثاني؛ لأنَّ الله تعالى ذكرُه لم يَعِدْ عبادَه أن يُوفِّيَهم جزاءَ سيئاتِهم دونَ جزاءِ حسناتِهم، فيقالَ: إن المعصيةَ إن تكُ مثقالَ حبةٍ من خردلٍ يأتِ بها الله. بل وعَد كِلا العامِلَين أن يُوفِّيِه جزاءَ أعمالِهما. فإذا كان ذلك كذلك كانت الهاءُ في قولِه: {إِنَّهَا} بأن تَكونَ عمادًا أشبهَ منها بأن تكونَ كنايةً عن الخطيئةِ والمعصيةِ. وأما النصبُ في "المثقالِ"، فعلى أن في {تَكُ} مجهولًا، والرفعُ فيه على أن الخبرَ مضمرٌ، كأنه قيل: إن تكُ في موضعٍ مثقالُ حبةٍ. لأن النكراتِ تُضْمَرُ أخبارُها، ثم يُترجَمُ عن المكانِ الذي فيه مثقالُ الحبةِ.
وعَنَى بقولِه: {مِثْقَالَ حَبَّةٍ} : زِنةَ حبةٍ. فتأويلُ الكلامِ إذن: إِنَّ الأمرَ إن يكُ زِنةَ حبةٍ من خردلٍ من خيرٍ أو شرٍّ عمِلتَه، {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ
(1)
معاني القرآن 2/ 328.
(2)
هو الأعشى ميمون بن قيس، ديوانه ص 123.
(3)
في ص، ت 1:"تك"، وفي ت 2:"تكن".
فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يومَ القيامةِ، حتى يوفِّيَك جزاءَه. وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} : من خيرٍ أو شرٍّ
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} ؛ فقال بعضُهم: عنى بها الصخرة التي عليها الأرضُ. وذلك قولٌ رُوى عن ابن عباس وغيره، وقالوا: هي صخرةٌ خضراءُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسِ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن عبدِ اللهِ بن الحارثِ قال: الصخرةُ خضراءُ على ظهرٍ حُوتٍ.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في خبرٍ ذكَره عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: خلَق اللهُ الأرضَ على حوتٍ، والحوتُ هو النونُ الذي ذكَر الله في القرآنِ:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، والحوتُ في الماءِ، والماءُ على ظهرِ صفاةٍ، والصفاةُ على ظهرِ مَلَكٍ، والملَكُ على صخرةٍ، والصخرةُ في الريحِ، وهي الصخرةُ التي ذكَر لقمانُ، ليست في السماءِ ولا في الأرضِ
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 52.
وقال آخرون: عنَى بها الجبالَ. قالوا: ومعنى الكلامِ: فتَكُنْ في جبلٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} . أي: جبلٍ
(1)
.
وقولُه: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} . كان بعضُهم يوجِّهُ معناه إلى: يَعْلَمُه اللهُ. ولا أعرفُ "يَأْتى به" بمعنى "يَعْلَمُه" إلَّا أن يكون قائلُ ذلك أراد أنَّ لقمانَ إنما وصف اللَّهَ بذلك؛ لأنَّ الله يَعْلَمُ أماكنَه، لا يَخفَى عليه مكانُ شيءٍ منه، فيكونَ وجْهًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ ويحيى، قالا: ثنا أبو سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ:{فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} . قال: يَعْلَمُها اللهُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا ابن مهديٍّ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ مثلَه.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} . يقولُ: إن الله لطيفٌ باستخراجِ الحبة من موضعِها حيث كانت، خبيرٌ بموضعِها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
خَبِيرٌ}. أي: لطيفٌ باستخراجِها، خبيرٌ بمستقرِّها
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخبرًا عن قيلِ لقمانَ لابنِه: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} . بحدودها، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ}. يقولُ: وأْمرِ الناسَ بطاعةِ اللهِ واتباعِ أمرِه، {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. يقولُ: وانْهَ الناسَ عن معاصى اللهِ ومُواقَعةِ محارمِه، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}. يقولُ: واصبِرْ على ما أصابك من الناسِ في ذاتِ اللهِ، إذا أنت أمَرتَهم بالمعروفِ ونهَيتَهم عن المنكرِ، ولا يَصُدَّنَّك عن ذلك ما نالك منهم، {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. يقولُ: إن ذلك مما أمَر اللهُ به من الأمورِ عزمًا منه. وبنحوِ ما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
[حدَّثني القاسمُ، قال: ثنا الحسينُ، قال]
(2)
: حدَّثني حجاجٌ، عن ابن جُريجٍ في قولِه:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} . قال: اصبِرْ على ما أصابك من الأذى في ذلك، {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} قال: إن ذلك مما عزَم اللهُ عليه {مِنْ الْأُمُورِ} . يقولُ: مما أمرَ اللهُ به من الأمورِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من النسخ، وهو إسناد دائر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى ابن أبي حاتم.
اختلَفت القرأَةُ في قراءةِ قوله: {وَلَا تُصَعِّرْ
(1)
}؛ فقرَأه بعضُ قرأَةِ الكوفةِ والمدنيِّين والكوفيِّين
(2)
: {وَلَا تُصَعِّرْ} على مثالِ "تُفَعِّل"
(3)
. وقرَأ ذلك بعضُ المكيِّين وعامةُ قَرَأَةِ المدينةِ والكوفةِ والبصرةِ: (ولا تُصاعِرْ) على مثالِ "تُفاعِل".
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يُقال: إنهما قراءَتان قد قرَأ بكلِّ واحدةً منهما علماءُ من القرأَةِ، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ. وتأويلُ الكلامِ: ولا تُعْرِضْ بوجهِك عمن كلَّمتَه؛ تكبُّرًا واستحقارًا لمن تُكَلِّمُه. وأصلُ الصَّعَر: داءٌ يَأْخُذُ الإبلَ في أعناقِها أو رءوسِها، حتى تَلْفِتَ أعناقَها عن رءوسِها، فيُشَبَّه به الرجلُ المتكبرُ على الناسِ، ومنه قولُ عمرِو بن [حُنَيٍّ التَّغْلِبيِّ]
(4)
:
وكُنَّا إِذا الجبَّارُ صعَّر خَدَّهُ
…
أَقَمْنا له من مَيلِه فَتَقَوَّما
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم نحوَ الذي قلْنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباسٍ:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . يقولُ: لا تتكبَّر، فتَحْقِرَ عبادَ اللَّهِ، وتُعْرِضَ عنهم بوجهِك إذا كلَّموك
(5)
.
(1)
في ت 2: "تصاعر". وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 513، والتيسير ص 143.
(2)
كذا في النسخ، وهو تكرار، ولعله:"المكيين"؛ فإن ابن كثير - وهو مكى - قرَأ: {تُصَعِّرْ} . ينظر السبعة ص 513.
(3)
وهى قراءة ابن كثير وابن عامر وعاصم. السبعة ص 513، والتيسير ص 143.
(4)
في ص: "حبى الثعلبي"، وفى م:"خيى التغلبى"، وفى ت 1:"حيى الثعلبي"، وفي ت 2:"حبى الثعلبي". والمثبت من معجم الشعراء، والبيت فيه في ص 13، وفى مجاز القرآن 2/ 127 ونسبه لعمرو بن حنى، وهو في اللسان والتاج (ص ع ر) منسوبا للمتلمس.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 36 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166 إلى ابن المنذر.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . يقولُ: ولا تُعرِضْ بوجهِك عن الناسِ تكبُّرًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . قال: الصدودُ والإعراضُ بالوجهِ عن الناسِ
(2)
.
حدَّثني عليٌّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ أبى الزرقاءِ، عن جعفرٍ بن بُرقانَ، عن يزيدَ في هذه الآيةِ:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . قال: إذا كلَّمك الإنسانُ لَوَيْتَ وجْهَك وأعرَضتَ عنه، مَحْقَرَةً له.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ حيانَ الرقيُّ، عن جعفرٍ، عن
(3)
ميمونِ بن مهرانَ، قال: هو الرجل يُكَلِّمُ الرجلَ، فيلوى وجهَه.
حدَّثنا عبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ، قال: ثنا محمدُ بنُ ربيعةَ، قال: ثنا أبو مَكينٍ، عن عكرمةَ في قولَه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . قال: لا تُعْرِضُ بوجهِك
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولَه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . يقولُ: لا تُعرِضْ عن الناسِ. يقولُ: أقبل على الناس بوجهِك وحُسنِ خُلُقِك
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 341 عن العوفى به.
(2)
تفسير مجاهد ص 542، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 661 إلى الفريابي
(3)
في م، ت 2:"بن". وينظر تهذيب الكمال 5/ 11، 12، 29/ 210.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 341.
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}. قال: تصعير الخدِّ: التجبُّرُ والتكبُّرُ على الناسِ ومَحْقَرَتُهم.
حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبي، عن أبي مَكِينٍ، عن عكرمةَ، قال: الإعراضُ.
وقال آخرون: إنما نهاه عن ذلك أن يَفْعَلَه لمن بينه وبينَه صَعَرٌ، لا على وجهِ التكبُّرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ وابنُ حميدٍ، قالا: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . قال: الرجلُ يكون بينَه وبينَ أخيه الحِنَةُ
(1)
، فيراه فيُعْرِضُ عنه
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} . قال: هو الرجلُ بينَه وبينَ أخيه جنَّةٌ، فيُعْرِضُ عنه.
وقال آخرون: هو التشديقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن أبي
(3)
جعفرٍ الرازيِّ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: هو التشديقُ
(4)
.
(1)
الحنة: العداوة. النهاية 1/ 453.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 289.
(3)
سقط من: م. وينظر تهذيب الكمال 33/ 192.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 341.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن المغيرةِ، عن إبراهيمَ، قال: هو التشديقُ أو التشدُّقُ. الطبريُّ يَشُكُّ.
حدَّثنا يحيى بن طلحةَ، قال: ثنا فُضيل بن عياضٍ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ بمثلِه.
وقولُه: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} يقولُ: ولا تَمْشِ في الأرضِ مُختالًا.
كما حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} يقولُ: بالخُيَلاءِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . قال: نهاه عن التكبُّرِ
(1)
.
قولُه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} : مُتَكبرٍ ذى فَخْرٍ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . قال: متكبرٍ. وقولَه: {فَخُورٍ} . قال: يُعَدِّدُ ما أَعْطَى اللَّهُ، وهو لا يَشْكُرُ الله
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} .
(1)
تقدم تخريجه بنحوه في 14/ 985.
(2)
تفسير مجاهد ص 542.
يقولُ: وتواضَعْ في مشيِك إذا مَشَيْتَ، ولا تَسْتَكبِرْ ولا تَستعجِلْ، ولكن اتَّئدْ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، غيرَ أن منهم من قال: أمَره بالتواضُعِ في مَشيه، ومنهم مَن قال: أمَره بتركِ السُّرْعةِ فيه.
ذكرُ مَن قال: أمَره بالتواضُعِ في مشيِه
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو حمزةَ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} . قال: التواضُعُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} . قال: نهاهُ عن الخُيَلاءِ
(2)
.
ذكرُ مَن قال: نهاه عن السُّرْعةِ
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن عبدِ اللَّهِ بن عُقبةَ، عن يزيدَ بن أبى حبيبٍ في قولِه:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} . قال: من السرعةِ
(3)
.
قولَه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} . يقولُ: واخفِضْ من صوتِك، فاجعَلْه قَصْدًا إذا تكلَّمتَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَاغْضُضْ مِنْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 166، 167 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا.
(3)
الزهد لابن المبارك (835)، ومن طريقه البيهقى في الشعب (8168)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
صَوْتِكَ}. قال: أمَره بالاقتصادِ في صوتِه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيد في قولِه: وَ {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} . قال: اخفِضْ من صوتِك.
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: إِنَّ أقبحَ الأصواتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ وابن المثنى، قالا: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن شعبةَ وأبانِ بن تغلبَ، قالا: ثنا أبو معاويةَ، عن جوبيرٍ، عن الضحَّاك:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} . قال: إن أقبحَ الأصواتِ، {لَصَوْتُ الْحَمِير} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . أي: أقبحَ الأصواتِ لصوتُ الحميرِ؛ أوله زفيرٌ، وآخرُه شهيقٌ، أمَره بالاقتصاد في صوته
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، قال: سمعتُ الأعمشَ يقولُ: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} صوتُ الحميرِ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن أشرَّ الأصواتِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 106 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا.
(2)
أخرج آخره عبد الرزاق في تفسيره 2/ 106، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا.
(3)
تفسير سفيان ص 238 بلفظ: "أقبح الأصوات".
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن يحيى بن واضحِ، عن أبي حمزةَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ والحكمِ ابن عتيبةَ:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} . قالا
(1)
: أشرَّ الأصواتِ.
قال جابرٌ: وقال الحسنُ بنُ مسلمٍ: أشدَّ
(2)
الأصواتِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . قال: لو كان رفعُ الصوتِ هو خيرًا ما جعَله للحميرِ
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: إِنَّ أقبحَ أو أشرَّ
(4)
الأصواتِ، وذلك نظيرُ قولِهم إذا رأَوا وجهًا قبيحًا أو منظرًا شنيعًا: ما أنكَر وجهَ فلانٍ، وما أنكرَ منظرَه!
وأما قولُه: {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . فأُضِيف الصوتُ وهو واحدٌ إلى الحميرِ وهى جماعةٌ؛ فإن بذلك وجهين؛ إن شِئْتَ قلْتَ: الصوتُ بمعنى الجمعِ، كما قيل:{لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]. وإن شِئْتَ قلْتَ: معنى الحميرِ معنى الواحدِ؛ لأن الواحدَ في مثل هذا الموضِعِ يُؤَدِّي عما يُؤَدِّي عنه الجمعُ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا
(1)
في م: "قال".
(2)
في ت 2: "أشر".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"أشد".
كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَلَمْ تَرَوْا} أيُّها الناسُ، {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ؛ من شمسٍ وقمرٍ ونَجمٍ وسَحابٍ، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} ؛ من دابةٍ وشجرٍ وماءٍ وبحرٍ [وفُلكٍ]
(1)
وغير ذلك من المنافع، يُجْرَى ذلك كُلُّه لمنافِعكم ومصالِحكم؛ لغذائِكم وأقواتِكم وأرزاقِكم ومَلاذِّكم، تتَمتعون ببعضِ ذلك كلِّه، وتنتفِعون بجميعِه، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} .
واختلفتِ القرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُ المكيِّين وعامةُ الكوفيِّين: (وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً) على الواحدةِ، ووجَّهوا معناها إلى أنه الإسلامُ، أو إلى أنها شهادةُ أن لا إله إلا اللهُ. وقرَأتْه عامةُ قرأَةِ المدينةِ والبصرةِ:{نِعَمَهُ} على الجماعِ
(2)
، ووجَّهوا معنى ذلك، إلى أنها النِّعمُ التي سخَّرها اللهُ للعبادِ، مما في السماواتِ والأرضِ، واستشهَدوا الصحةِ قراءتِهم ذلك كذلك بقولِه:{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 121]. قالوا: فهذا جمعُ النِّعم.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا: أنهما قراءتان مشهورتان في قرَأةِ الأمصارِ، متقاربِتا المعنى، وذلك أن النعمةَ قد تكونُ بمعنى الواحدةِ، ومعنى الجماعِ، وقد يَدخلُ في الجماعِ الواحدةَ. وقد قال جل ثناؤُه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فمعلومٌ أنه لم يَعْنِ بذلك نعمةً واحدةً. وقال في موضعٍ آخَرَ:{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:120، 121]، فجمَعها، فبأيِّ القراءتين قرَأ القارئ ذلك فمصيبٌ.
(1)
سقط من: ص، ت 2.
(2)
قراءة التوحيد والتأنيث هي قراءة ابن كثير وابن عامر وعاصم - في رواية أبي بكر - وحمزة الكسائي، وقراءة الجمع والتذكير هي قراءة نافع وأبى عمرو وحفص. السبعة ص 513، والتيسير ص 143.
ذِكرُ بعضِ مَن قرَأ ذلك على التوحيدِ، وفسَّره على ما ذكَرنا عن قارئيه أنهم يفسرونه.
حدَّثني أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ بنُ سلَّامٍ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنى [مَسْتُورٌ الهنائيُّ]
(1)
، عن حميدٍ الأعرجِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، أنه قرَأها: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
(2)
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. وفسَّرها؛ الإسلامَ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الفرَّاءِ، قال: ثنى شَرِيكُ بنُ عبدِ اللَّهِ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس، أنه قرَأ:(نِعْمَةً) واحدةً. قال: ولو كانت نِعَمَه، لكانت نِعمَةً دونَ نعمَةٍ، أو نِعمةً فوقَ نِعمةٍ - الشكُّ مِن الفرّاءِ
(4)
.
حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الزهريُّ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنا حميدٌ، قال: قرَأ مجاهد: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ (2) ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ
(5)
.
حدَّثني العباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا ابن أبي بَكَيرٍ، عن شِبْلٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ (2) ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} . قال: كان يقولُ: هي لا إلهَ إلا اللهُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن حميدٍ الأعرجِ، عن مجاهدٍ:
(1)
في ص: "مسور الهنائي"، وفى ت 1، ت 2:"مسور الهباى". وينظر تهذيب الكمال 27/ 435.
(2)
في م: "نعمته".
(3)
أخرجه البيهقي في الشعب (4505) من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا.
(4)
معاني القرآن 2/ 329، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
تفسير سفيان ص 238، ومن طريقه البيهقى في الشعب (4502)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم مطولًا.
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَةً
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً). قال: لا إلهَ إِلا اللَّهُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَينةَ، عن حميدٍ الأعرجِ، عن مجاهدٍ، قال: لا إلهَ إلا اللَّهُ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدَمَ، عن سفيانَ، عن عيسى، عن قَيْسٍ، عن ابن عباسٍ:(نِعَمَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً). قال: لا إلهَ إلا اللهُ
(2)
.
وقولُه: {ظَاهِرَةً} . يقولُ: ظاهرةً على الألسُنِ قولًا، وعلى الأبدانِ وجوارحِ الجسدِ عملًا.
وقولُه: {وَبَاطِنَةً} . يقولُ: وباطنةً في القلوبِ اعتقادًا ومعرفةً.
وقولُه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى} . يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن الناسِ مَن يُخاصِمُ في توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ الطاعةِ والعبادةِ له بغيرِ علمٍ عندَه بما يُخاصِمُ، {وَلَا هُدًى}. يقولُ: ولا بيانٍ يُبَيِّنُ به صحةَ ما يقولُ، {وَلَا كِتَابٍ مُنِير}. يقولُ: ولا بِتنزيلٍ من اللَّهِ جَاء بِما يَدَّعِي، يُبَيِّنُ حَقِّيةَ دَعواه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} : ليس معه من اللهِ برهانٌ ولا كتابٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} .
في م: " نعمته".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1)
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا قيل لهؤلاء الذين يُجادِلون في توحيدِ اللَّهِ، جهلًا منهم بعظمةِ اللَّهِ: اتَّبعوا أيُّها القومُ ما أنزَل اللهُ على رسولِه، وصَدَّقوا به، فإنه يَفْرُقُ بينَ المحقِّ منا والمبطِلِ، ويَفْصِلُ بَينَ الضالِّ والمهندى. فقالوا: بل نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عليه آباءَنا من الأديانِ؛ فإنهم كانوا أهلَ حقٍّ. قال اللهُ تعالى ذكرُه: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} بتزيِينِه لهم سوءَ أعمالِهم، واتِّباعِهم إياه على ضلالتِهم، وكفرِهم باللهِ، وتركهم اتِّباعَ ما أنزَل اللهُ من كتابِه على نبيِّه - {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}. يعني: عذابِ النارِ التي تَتَسَعَّرُ وتَلْتَهِبُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يُعَبِّدُ وَجْهَهُ مُتَذلِّلًا بالعبودةِ، مُقِرًّا له بالألوهةِ، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يقولُ: وهو مُطيعٌ الله في أمَره ونهِيه {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . يقولُ: فقد تمسَّك بالطَّرَفِ الأوثقِ الذي لا يخافُ انقطاعَه مَن تَمَسَّك به، وهذا مَثَلٌ. وإنما يعنى بذلك أنه قد تمسَّك مِن رضا اللهِ يإسلامِه وجهَه إليه وهو مُحسِنٌ - ما لا يَخافُ معه عذابَ الله يومَ القيامةِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن أبي السَّوداء، عن جعفرٍ بن أبى المغيرةِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه في 4/ 564، 565 حاشية (4)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 330.
وقولُه: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . يقولُ: وإلى اللَّهِ مَرْجِعُ عاقبةِ
(1)
كلِّ أمرٍ؛ خيرِه وشرِّه، وهو المُسائِلُ أهلَه عنه، ومُجازِيهم عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن كفر بالله فلا يَحْزُنُك كفرُه، ولا تَذْهَبْ نفسُك عليهم حَسْرةً؛ فإنَّ مرجِعَهم ومصيرَهم يومَ القيامةِ إلينا، ونحن نُخْبِرُهم بأعمالِهم الخبيثةِ التي عمِلوها في الدنيا، ثم نُجازِيهم عليها جزاءَهم؛ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. يقولُ: إن الله ذو علمٍ بما تُكِنُّه صدورُهم مِن الكفرِ باللهِ وإيثارِ طاعةِ الشيطانِ.
وقولُه: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} . يقولُ: نُمْهِلُهم في هذه الدنيا مَهْلًا قَلِيلًا يَتَمَتَّعون فيها. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} . يقولُ: ثم نُورِدُهم على كُرْهٍ منهم عذابًا غليظًا، وذلك عذابُ النارِ، نعوذُ باللهِ منها ومن عملٍ يُقَرِّبُ منها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولئن سألتَ يا محمدُ هؤلاء المشرِكين باللهِ مِن قومِك: {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ: فإذا قالوا ذلك، فقُل لهم: الحمدُ للهِ الذي خلَق ذلك، لا لمن لا يَخْلُقُ شيئًا
(1)
في ص، ت 1:"آخر".
وهم يُخلقون.
ثم قال تعالى ذكرُه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ: بل أكثرُ هؤلاء المشركين لا يَعْلَمون من الذي له الحمدُ، وأين موضِعُ الشكرِ.
وقولُه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: للهِ كلُّ ما في السماواتِ والأرضِ من شيءٍ، مُلْكًا كائنًا ما كان ذلك الشيءُ؛ من وَثنٍ وصنمٍ وغيرِ ذلك مما يُعْبَدُ أو لا يُعْبَدُ. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. يقولُ: إن الله هو الغنيُّ عن عبادِة هؤلاء المشركين به الأوثانَ والأندادَ، وغيرِ ذلك منهم ومن جميعِ خلقِه؛ لأنهم مِلْكٌ له، وبهم الحاجةُ إليه، {الْحَمِيدُ}. يعني: المحمودُ على نعمِه التي أنعَمها على خلقِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولو أن شجرَ الأرضِ كلِّها بُرِيَت أقلامًا، {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ}. يقولُ: والبحرُ له مدادٌ. والهاءُ في قولَه: {يَمُدُّهُ} . عائدةٌ على البحرِ. وقولُه: {مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} . وفي هذا الكلامِ محذوفٌ استغنى بدَلالةِ الظاهرِ عليه منه، وهو: يُكْتَبُ كلامُ اللهِ بتلك الأقلامِ، وبذلك المِدادِ، لتكسَّرت تلك الأقلامُ، ولنفِد ذلك المدادُ، ولم تَنْقَدْ كلماتُ اللَّهِ وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن أبي رجاءٍ، قال: سألتُ الحسنُ عن هذه الآيةِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ} . قال: لو جَعَل شجرَ الأَرضِ
أقلامًا، وجعَل البحورَ مدادًا. وقال اللهُ: إن مِن أمرى كذا، ومن أمرى كذا، لنَفِد ماءُ البحورِ، وتكسَّرتِ الأقلام
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرٌو في قولِه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} . قال: لو بُرِيت أقلامًا والبحرُ مدادًا، فكُتِب بتلك الأقلامِ منه، {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ولو مدَّه سبعةُ أبحرٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} . قال: قال المشركون: إنما هذا كلامٌ يُوشِكُ أَن يَنْفَدَ. قال: لو كان شجرُ البرِّ
(2)
أقلامًا، ومع البحرِ سبعةُ أبحرٍ ما كان لِتَنْفَدَ عجائبُ ربِّي وحكمتُه وخَلْقُه وعلمُه
(3)
.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سببِ مجادلةٍ كانت من اليهودِ له.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريب، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا ابن إسحاقَ، قال: ثنى رجلٌ من أهلِ مكةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ: أن أحبارَ يهودَ قالوا لرسوِل
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 351.
(2)
في ص، ت 2:"البحر".
(3)
تقدم تخريجه بنحوه في 15/ 439، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (79) من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 106 عن معمر عن قتادة، مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نصر السجزي في الإبانة.
اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمدُ أرأَيتَ قولَك
(1)
: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. إيَّانا تُريدُ أم قومك؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلًّا". فقالوا: ألستَ تَتْلُو فيما جاءك: أنَّا قد أُوتينا التوراةَ فيها تبيانُ كلِّ شيءٍ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنها في علمِ اللهِ قليلٌ، وعندَكم من ذلك ما يَكْفيكم". فأنزَل اللهُ عليه فيما سأَلوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} : أي أن التوراةَ في هذا من علمِ الله قليلٌ
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنى ابن
(3)
عبدِ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عكرمةَ، قال: سأَل أهلُ الكتابِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الروحِ، فأَنزَلَ اللَّهُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. فقالوا: تَزْعُم أَنَّا لم نُؤْتَ من العلمِ إلا قليلًا، وقد أُوتينا التوراةَ وهى الحكمةُ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. قال: فنزَلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} . قال: "ما أُوتِيتُم من علم فنجَّاكم اللهُ به من النارِ وأدخَلكم الجنةَ، فهو كثيرٌ طيبٌ، وهو في علمِ اللهِ قليلٌ"
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن بعضِ أصحابِه، عن عطاءِ بن يسارٍ، قال: لما نزَلتْ بمكةَ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} : يعنى اليهود؛ فلما هاجر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، أتاه أحبارُ يهودَ،
(1)
في م: "قوله".
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 76، وابن كثير في تفسيره 6/ 352 عن ابن إسحاق وسمى الرجل المجهول ابن أبي محمد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 167 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2. وهو عبد الأعلى بن عبد الأعلى.
(4)
تقدم تخريجه في 15/ 68 حاشية (2).
فقالوا: يا محمدُ ألم يَبْلُغْنا أنك تقولُ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أفعنَيتَنا أم قومَك؟ قال: "كُلًّا قد عَنَيْتُ". قالوا: فإنك تَتْلُو أَنَّا قد أُوتينا التوراةَ وفيها تبيانُ كلَّ شيءٍ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هي في عالمِ اللهِ قليلٌ، وقد آتاكم اللهُ ما إن عمِلْتم به انتفعتُم". فأنزَل الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} إلى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
(1)
.
واختلَفت القرَأَةُ في قراءةِ قولَه: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} ؛ فقرَأته عامةُ قرَأةِ المدينةِ والكوفة: {وَالْبَحْرُ} رفعًا على الابتداءِ، وقرأته قرأَةُ البصرةِ نصبًا، عطفًا به على "ما" في قولِه:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ}
(2)
. وبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ عندى.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . يقولُ: إن الله ذو عزَّةٍ في انتقامِه ممن أشرَك به، وادَّعى معه إلهًا غيرَه، حكيمٌ في تدبيرِه خلقَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ما خلقُكم أيُّها الناسُ ولا بعثُكم على اللَّهِ إلا كخلقِ نفسٍ واحدةٍ وبعثِها، وذلك أن الله لا يتعذَّرُ عليه شيءٌ أرادَه، ولا يَمْتَنِعُ منه شيءٌ شاءه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. فسواءٌ خَلْقُ واحدٍ وبعثه، وخلقُ الجميعِ وبعثُهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تقدم تخريجه في 15/ 72 حاشية (4).
(2)
قراءة نصب الراء هي قراءة أبي عمرو، وقراءة ضم الراء هي قراءة الباقين وهم نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة ص 513، والتيسير ص 143.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثني أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . يقولُ: كُنْ فَيَكُونُ للقليلِ والكثيرِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، قال: يقولُ: إنما خَلْقُ اللهِ الناسَ كلَّهم وبَعْتُهم كخلقِ نفسٍ واحدةٍ وبعثِها
(2)
.
وإنما صلَح أن يُقال: إلَّا كنفسٍ واحدةٍ، والمعنى: إلا كخلقِ نفسٍ واحدةٍ؛ لأن المحذوفَ فعلٌ يَدُلُّ عليه قولُه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ} . والعربُ تَفْعَلُ ذلك في المصادرِ، ومنه قولُ اللَّهِ:{تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19]. والمعنى: كدورانِ عين الذي يُغْشَى عليه من الموتِ، فلم يَذْكُرِ الدورانَ والعينَ لما وَصَفتُ.
وقولُه: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله سميعٌ لما يَقولُ هؤلاء المشرِكون ويَفْتَرونه على ربِّهم، من ادِّعائهم له الشركاءَ والأندادَ، وغيرِ ذلك من كلامِهم وكلامِ غيرِهم، بصيرٌ بما يَعْمَلونه وغيرُهم من الأعمالِ، وهو مُجازِيهم على ذلك جزاءَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
(1)
تفسير مجاهد ص 543، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {أَلَمْ تَرَ} يا محمدُ بعينِك {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} . يقولُ: يزيدُ من نقصانِ ساعاتِ الليلِ في ساعاتِ النهارِ {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . يقولُ: يَزِيدُ ما نقَص من ساعاتِ النهارِ في ساعاتِ اللَّيلِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} : نُقصانُ الليل في زيادةِ النهارِ، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: نقصان النهار في زيادة الليل
(1)
.
وقولُه: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . يقولُ تعالى ذكرُه: وسخَّر الشمسَ والقمرَ لمصالحِ خلقِه ومنافعِهم، {كُلٌّ يَجْرِي}. يقولُ: كلُّ ذلك يَجْرِى بأمرِه إلى وقتٍ معلومٍ وأجلٍ محدودٍ إذا بلغه كُوِّرَت الشمسُ والقمرُ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . يقولُ: لذلك كلِّه وقتٌ وحدٌ معلومُ لا يُجاوِزُه ولا يَعْدُوه
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه في 5/ 306 حاشية (2).
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 78، 79، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . يقولُ: وأن الله بأعمالكم، أيُّها الناسُ، من خيرٍ أو شرٍّ ذو خبرة وعلم، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ، وهو مُجازيكم على جميعِ ذلك. وخرَج هذا الكلامُ خِطابًا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمعنيُّ به المشرِكون، وذلك أنه تعالى ذكرُه نبَّه بقولَه:{أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} على موضع حُجَّتِه - مَن جَهل عظمتَه، وأشرَك في عبادتِه معه غيرَه، يَدُلُّ على ذلك قولُه تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} .
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي أخبَرتُك، يا محمدُ، أن الله فعَله من إيلاجِه الليلَ في النهارِ والنهارَ في الليلِ، وغيرِ ذلك من عظيمِ قُدرَتِه، إنما فعَله بأنه هو اللَّهُ حقًّا، دونَ ما يدعوه هؤلاء المشرِكون به، وأنه لا يَقْدِرُ على فعلِ ذلك سِواه، ولا تَصْلُحُ الألوهةُ إلا لمن فعَل ذلك بقُدْرِته.
وقولُه: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وبأن الذي يَعْبُدُ هؤلاء المشركون من دونِ اللهِ - الباطلُ الذي يَضْمَحِلُّ، فَيَبِيدُ ويَفْنى، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وبأن الله هو العليُّ، يقولُ: هو ذو العُلوِّ على كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما دونَه فله مُتذلِلٌ منقادٌ، الكبيرُ الذي كلُّ شيءٍ دونَه فله مُتَصَاغِرُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم تَرَ، يا محمدُ، أن السفنَ تَجْرِى في
البحرِ نعمةً من اللهِ على خلقِه؛ {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} . يقولُ: ليُرِيَكم من عبرِه وحُجَجِه عليكم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . يقولُ: إن في جَرْيِ الفلكِ في البحرِ دَلالة على أن الله الذي أجرَاها هو الحقُّ، وأن ما يدعون من دونِه الباطلُ، {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. يقولُ: لكلِّ مَن صبَّر نفسَه عن محارمِ اللهِ، وشكَره على نعمِه فلم يَكْفُرْه.
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان مطرِّفٌ يقولُ: إن من أحبِّ عباد الله إليه الصبَّارَ الشَّكورَ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ عن مغيرة قال: الصبرُ نصفُ الإيمان، والشكرُ نصفُ الإيمانِ، واليقينُ الإيمانُ كلُّه، ألم تَرَ أَن
(2)
قولَه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} : إِنَّ في ذلك لآياتٍ للموقنين، إنَّ في ذلك لآياتٍ للمؤمنين.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن مغيرةَ، عن الشعبيِّ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . قال: الصبرُ نصفُ الإيمانِ، واليقينُ الإيمانُ كلُّه
(3)
.
إن قال قائلٌ: وكيفَ خصَّ هذه الدَّلالةَ بأنها دَلالةٌ للصبَّارِ الشَّكورِ، دونَ سائرِ الخلقِ؟ قيل: لأن الصبرَ والشكرَ من أفعالِ ذوى الحِجا والعقولِ، فأخبَر: إن في ذلك لآياتٍ لكلٍّ ذى عقلٍ؛ لأن الآياتِ جعَلها اللهُ عِبرًا لذوى العقولِ والتمييزِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م، ت 2:"إلى".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 259، والقرطبي في تفسيره 14/ 79.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا غَشِى هؤلاء الذين يَدْعون من دونِ اللهِ الآلهة والأوثانَ في البحرِ إذا ركِبوا في الفُلْكِ - موج كالظُّلَل، وهى جمعُ ظُلَّةٍ، شبَّه بها الموجَ في شدةِ سوادِ كثرةِ الماءِ؛ قال نابغةُ بنى جَعْدَةَ في صفةِ بحرٍ
(1)
:
يُماشِيهِنَّ
(2)
أخضرُ ذو ظِلالٍ
…
على حافاتِه فِلَقُ الدِّنَانِ
وشبَّه الموجَ وهو واحدٌ بالظُّلَلِ، وهى جماعٌ؛ لأن الموجَ يأتي شيءٌ منه بعدَ شيءٍ، ويَرْكَبُ بعضه بعضا كهيئةِ الظُّلَلِ.
وقولُه: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا غَشِى هؤلاء موجٌ كالظُّلَل، فخافوا الغرَقَ، فزِعوا إلى اللهِ بالدعاءِ مخلصين له الطاعةَ، لا يُشْرِكون به هنالك شيئًا، ولا يدعون معه أحدًا سِواه، ولا يَسْتَغيثون بغيرِه قولَه:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} الله مما كانوا يَخافونه في البحرِ من الغرقِ والهلاكِ، إلى البِّرِ [والحدِّ]
(3)
، {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}. يقولُ: فمنهم مقتصدٌ في قولِه وإقرارِه بربِّه، وهو مع ذلك مُضْمِرٌ الكفرَ به.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
البيت في ديوانه ص 163.
(2)
في الديوان: "يعارضهن".
(3)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} . قال: المقتصدُ في القولُ وهو كافرٌ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولَه: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} . قال: المقتصِدُ الذي على صلاحٍ من الأمرِ.
وقولُه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما يَكْفُرُ بأدلتِنا وحُجَجنا إلا كلُّ غدَّارٍ بعهده. والخَيَّرُ عند العربِ: أقبحُ الغدرِ، ومنه قولُ عمرِو بن معدِيكَرِبَ
(2)
وإنك لو رأيت أبا عُمَيرٍ
…
ملأت يَدَيكَ من غَدْرٍ وخَتْرٍ
وقولُه: {كَفُورٍ} . يعني: جَحودٍ للنِّعمِ، غيرِ شاكرٍ ما أُسْدِى إليه من نعمةٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى الختارِ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عنبسةَ، عن ليثِ، عن مجاهدٍ:{كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . قال: كلُّ غدَّارٍ
(3)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 294، والقرطبي في تفسيره 14/ 80، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 193، وابن كثير في تفسيره 6/ 353، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى المصنف وابن أبي شيبة والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
البيت في ديوانه 105.
(3)
ينظر الأثر التالي.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كُلُّ خَتَّارٍ} . قال: غدَّارٍ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ وابنُ وكيعٍ قالا: ثنا ابن عُليَّةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . قال: غدَّارٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . الختارُ: الغَدَّارُ، كلُّ غَدَّارٍ بذِمَّتِه كفورٍ بربِّه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . قال: كلُّ جحادٍ كَفورٍ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . قال: الختَّارُ: الغدَّارُ، كما تقولُ: غدَرني
(5)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن مِسْعَرٍ، قال: سمِعتُ قتادة، قال: الذي يَغْدِرُ بعهدِه
(6)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 543، وذكره الطوسى في التبيان 8/ 260، وابن كثير في تفسيره 6/ 354، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 260، وابن كثير في تفسيره 6/ 354.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 106 عن معمر عن قتادةَ بنحوه، وذكره الطوسي في التبيان 8/ 260، وابن كثير في تفسيره 6/ 354، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 168 إلى المصنف.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 260.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 461 عن وكيع به.
قال: ثنا المحارِبيُّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحَّاكِ، قال: الغدَّارُ
(1)
.
قال: ثنا أبي، عن الأعمشِ، عن شِمْرِ بن عطيةَ الكاهليِّ، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: المكرُ غدرٌ، والغدرُ كفرُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أيُّها المشرِكون من قريشٍ، اتَّقوا الله وخافوا أن يَحِلَّ بكم سخَطُه في يومٍ لا يُغنى والدٌ عن ولدِه، ولا مولودٌ هو مُغْنٍ عن والده شيئًا؛ لأنَّ الأمرَ يَصيرُ هنالك بيدِ مَن لا يُغالَبُ، ولا تَنْفَعُ عندَه الشفاعةُ والوسائلُ إلا وسيلةٌ من صالِحاتِ الأعمالِ التي أسلفَها في الدنيا.
وقولُه: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} . يقولُ: اعلَموا أن مجئَ هذا اليوم حقٌّ، وذلك أن الله قد وعَده عباده ولا خُلْفَ لوعدِه. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. يقولُ: فلا تَخْدَعَنَّكم زينة الحياةِ الدنيا ولذَّاتُها، فتَمِيلوا إليها، وتَدَعُوا الاستعدادَ لما فيه خلاصُكم مِن عقابِ اللَّهِ ذلك اليومَ.
وقولُه: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . يقولُ: ولا يَخْدَعَنَّكم باللَّهِ خادعٌ. والغَرُورُ بفتح الغَينِ، هو ما غرَّ الإنسانَ من شيءٍ، كائنًا ما كان، شيطانًا
(3)
كان أو إنسانًا أو دُنيا.
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 260.
(2)
تقدم تخريجه في 19/ 173.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"سلطانا".
وأما الغُرورُ بضمِّ الغَيْنِ، فهو مصدرٌ من قول القائل: غَرَرْتُه غُرُورًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى قولَه: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور} . قال أهلُ التأويل.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الْغَرُورُ} . قال: الشيطانُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} : ذاكم الشيطانُ
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ الفضلَ بن خالدٍ المَرْوَزِيَّ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولَه: {الْغَرُورُ} . قال: الشيطان
(3)
.
وكان بعضهم يتأولُ الغَرور بما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن ابن لهيعةَ، عن عطاءِ بن دينار، عن سعيدِ بن جبيرٍ قولَه:{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . قال: أن تَعْمَلَ بالمعصية، وتَتَمَنَّى المغفرةَ
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 543، وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 81، وابن كثير في تفسيره 6/ 354.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 134 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 169 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 194، وابن كثير في تفسيره 6/ 354.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 81، والبغوى في تفسيره 6/ 294، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 169 إلى عبد بن حميد.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} - هو آتيكم، عِلمُ إتيانه إيَّاكم عندَ ربِّكم، لا يَعْلَمُ أحدٌ متى هو جائيكم، لا يَأْتيكم إلا بغتةً، فاتَّقُوه أن يَفْجَأَكم بغتةً وأنتم على ضلالِتكم لم تُنِيبوا منها، فتصيروا من عذابِ اللهِ وعقابِه إلى ما لا قِبَلَ لكم به، وابتَدَأ تعالى ذكرُه الخبرَ عن علمه بمجيءِ الساعةِ - والمعنى ما ذكَرتُ لدَلالةِ الكلامِ على المرادِ منه - فقال:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} التي تَقومُ فيها القيامة، لا يَعْلَمُ ذلك أحدٌ غيره، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماءِ، لا يَقْدِرُ على ذلك أحدٌ غيرُه، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}: أرحامِ الإناثِ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. يقولُ: وما تَعْلَمُ نفسُ حيٍّ ماذا تَعْمَلُ في غدٍ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} . يقولُ: وما تَعْلَمُ نفس حيٍّ بأى أرضٍ تكونُ مَنيَّتُها، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. يقولُ: إن الذي
(1)
يَعْلَمُ ذلك كلَّه، هو اللهُ دونَ كلَّ أحدٍ سِواه، إنه ذو علم بكل شيءٍ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ، خبيرٌ بما هو كائنٌ، وما قد كان.
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"الله".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . قال: جاءَ رجلٌ - قال أبو جعفرٍ: أَحْسَبُه قال: إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي حُبْلَى، فَأَخْبِرْني ماذا تَلِدُ؟ وبلادُنا مَحْلٌ جَدْبَةٌ، فأخبِرْني متى يَنْزِلُ الغَيْثُ؟ وقد علِمتُ متى وُلِدْتُ، فأخبِرْني متى أموتُ؟ فأنزَل الله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى آخرِ السورةِ، قال: فكان مجاهدٌ يقولُ: هنَّ مفاتح الغيب التي قال اللهُ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}
(1)
[الأنعام: 59].
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. أشياءُ من الغيبِ، استَأْثَر اللهُ بِهِنَّ، فلم يُطْلِعْ عَليهِنَّ مَلَكًا مُقَرَّبًا، ولا نَبِيًّا مُرْسلًا؛ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}: فلا يَدْرى أحدٌ من الناس متى تَقومُ الساعةُ؟ في أيِّ سنةٍ؟ أو في أيِّ شهرٍ؟ أو ليلٍ؟ أو نهارٍ؟ {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} : فلا يَعْلَمُ أَحدٌ متى يَنْزِلُ الغيثُ، ليلًا أو نهارًا يَنْزِلُ؟ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}: فلا يَعْلَمُ أحدٌ ما في الأرحامِ؛ أذكرٌ أو أنثى، أحمرُ أو أسودُ، وما هو؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}: خيرٌ أم شرٌّ، ولا تَدْرِى يا بنَ آدَمَ متى تَموتُ، لعلك الميت غدًا، لعلك المصاب غدًا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}: ليس أحدٌ من الناسِ يَدْرى أين مَضْجَعُه من الأرضِ؛ في بحرٍ أو برٍّ أو سهلٍ أو جبلٍ، تعالى وتبارَكَ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ عن مغيرةَ، عن الشعبيِّ، قال: قالت عائشةُ: مَن قال إن أحدًا يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلا اللَّهَ فقد كذَب، وأعظَم الفِرْيَةَ على اللَّهِ،
(1)
تفسير مجاهد ص 543، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 357، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 169 إلى الفريابي وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 357، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 169 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
قال اللهُ: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
(1)
[النمل: 65].
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن يونسَ بن عبيدٍ، عن عمرِو بن شُعيبٍ، أن رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، هل من العلمِ علمٌ لم تُؤْته؟ قال:"لَقَدْ أُوتِيتُ عِلمًا كَثِيرًا، وَعِلْمًا حَسَنًا". أو كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم تلا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى: " {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. لا يَعْلَمُهن إلا اللهُ تبارك وتعالى".
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثني عمر
(2)
بنُ محمدٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ بن عمرَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"مَفاتحُ الغيبِ خَمْسةٌ". ثم قرَأ هؤلاء الآياتِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخرِها
(3)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ اللَّهِ بن دينارٍ، أنه سمِع ابنَ عمرَ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَفاتِحُ الغَيْبِ خمسٌ لا يَعْلَمُهن إلا اللهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية، ثم قال: ولا يعلم ما في غدٍ إلا اللهُ، ولا يعلم أحدٌ متى يَنزِلُ الغيثُ إلا اللهُ، ولا يعلمُ أحدٌ متى قِيامُ الساعةِ إلا اللهُ، ولا يعلمُ أحدٌ ما في الأرْحامِ إلا الله، ولَا تَدْرِى نَفْسٌ بأيِّ أَرْضٍ تَموتُ".
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بن دينارٍ، عن ابن
(1)
أخرجه أحمد 6/ 241 (ميمنية)، والبخارى (7380، 7531، 3235)، ومسلم 287/ 177، والنسائي في الكبرى (11532)، والترمذى (3068) من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة. وهو جزء من حديث طويل تقدم مرات.
(2)
في النسخ: "عمرو". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 21/ 500.
(3)
أخرجه البخارى (4778) من طريق ابن وهب به، وأخرجه أحمد 9/ 412 (5579)، والطبراني (13344) من طريق عمر بن محمد به.
عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَفاتِحُ الغَيْبِ خمس، لا يَعْلَمُها إِلا اللَّهُ، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن مِسْعَرٍ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ بن سلمةَ عن ابن مسعودٍ، قال: كلُّ شيءٍ أُوتِيَه نبيُّكم صلى الله عليه وسلم، إلا علمَ الغيبِ الخمسِ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن عامرٍ، عن مسروقٍ، عن عائشةَ، قالت: من حدَّثكَ أنه يَعْلَمُ ما في غدٍ فقد كذَب. ثم قرَأتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}
(3)
.
قال: ثنا جريرٌ وابنُ عُلَيةَ، عن أبي حَيَّانَ
(4)
، عن أبي زرعةً، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَمْسٌ لا يَعْلَمُهن إلا اللهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ
(1)
تفسير سفيان ص 239، وأخرجه أحمد 8/ 386، 9/ 184، 185 (4766، 5226) عن وكيع به، وأخرجه أيضًا في 5/ 136 (5133)، والبخارى (1039)، وابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1304 (7367) من طريق سفيان به، وأخرجه ابن حبان (70، 71، 6134) من طريق عبد الله بن دينار به.
(2)
أخرجه أحمد (4253) عن وكيع به، وأخرجه الحميدى (124)، وابن أبي شيبة 11/ 477 من طريق مسعر به، وأخرجه الطيالسي (385)، وأحمد (3659، 4167) من طريق عمرو بن مرة به، وأخرجه ابن مردويه كما في الفتح 8/ 514 من طريق عبد الله بن سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 169 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه البخارى (4855) من طريق وكيع به، وأخرجه أحمد 6/ 49 (ميمنية) من طريق إسماعيل به، وأخرجه أيضًا في 6/ 236 (ميمنية)، ومسلم (287/ 177)، والنسائى في الكبرى (11048، 11409) من طريق عامر به.
(4)
في ص: "حبان"، وفى م:"خباب"، وفى ت 1:"حباب"، وفى ت 2:"جاب". والمثبت من مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 31/ 323.
الْغَيْثَ} " الآية
(1)
حدَّثني أبو شُرَحْبيلَ، قال: ثنا أبو اليمانِ، قال: ثنا إسماعيلُ، عن جعفرٍ، [عن الأعمشِ]
(2)
، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن سلمةَ، عن ابن مسعودٍ، قال: كلُّ شيءٍ قد أُوتِىَ نبيُّكم، غيرَ مفاتيحِ الغيبِ الخمسِ. ثم قرَأ هذه الآيةَ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخرِها
(3)
.
وقيل: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ، وفيه لغةٌ أخرى (بأيَّةِ أَرْضٍ)
(4)
، فمن قال:{بِأَيِّ أَرْضٍ} اجتزأ بتأنيثِ الأرضِ من أن يَظْهَرَ في "أيِّ" تأنيثٌ آخَرُ، ومَن قال:(بأيَّةِ أرْضٍ) فأَنَّث "أيِّ"، قال: قد تَجْتَزِيء بـ "أيٍّ" مما أضيف إليه، فلابدَّ من التأنيثِ؛ كقولِ القائلِ: مررْتُ بامرأةٍ. فيُقَال له: بأيةٍ؟ ومرَرتُ برجلٍ. فيُقالُ له: بأيٍّ؟ ويُقالُ: أيُّ امرأةٍ جاءتْك وجاءَك؟ وأيةُ امرأةٍ جاءتك؟
آخر تفسيرِ سورة "لقمانَ".
(1)
أخرجه البخارى (4777)، وابن خزيمة (2244) من طريق جرير به، وأخرجه أحمد 15/ 304 (9501)، والبخارى (50)، ومسلم (9)، وابن ماجه (64، 4044)، وابن خزيمة (2244) وغيرهم من طريق أبي حيان به، وأخرجه ابن مردويه - كما في الفتح 2/ 525 كما في الفتح 2/ 525 من طريق أبي زرعة به.
(2)
سقط من: م، وفى ص:"الأعمش". وينظر تهذيب الكمال 12/ 76.
(3)
أخرجه أبو يعلى (5153) من طريق الأعمش به
(4)
وهى قراءة موسى الأسوارى وابن أبي عبلة، وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 7/ 194، 195.
تفسيرُ سورةِ السجدةِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
(3)}.
قال أبو جعفرٍ: قد مضى البيانُ عن تأويلِ قولِه: {الم} بما فيه الكفايةُ
(1)
.
وقولُه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تنزيلُ الكتابِ الذي نُزِّل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لا شكَّ فيه، {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. يقولُ: من ربِّ الثقلينِ؛ الجنِ والإنسِ.
كما حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا شكَّ فيه
(2)
.
وإنما معنى الكلام: إن هذا القرآنَ الذي أُنزل على محمدٍ لا شكَّ فيه أنه مِن عندِ اللهِ، وليس بشعرٍ ولا سَجْعِ كاهنٍ، ولا هو مما تَخَرَّصَه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإنما كذَّب جلَّ ثناؤُه بذلك قولَ الذين قالُوا:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. وقولَ الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4].
(1)
تقدم في: 1/ 204 وما بعدها.
(2)
تقدم تخريجه في: 1/ 233.
وقولُه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يقولُ المشركون باللهِ: اختَلَق هذا الكتابَ محمدٌ مِن قِبَل نفسِه، وتَكَذَّبَه. و "أم" هذه تقريرٌ، وقد بَيَّنَّا في غيرِ موضعٍ من كتابنا أن العربَ إذا اعتَرضَت بالاستفهامِ في أضعافِ كلامٍ قد تقدَّم بعضُه، [أنها تستفهم]
(1)
بـ "أم"
(2)
. وقد زعمَ بعضُهم أن معنى ذلك: ويقولون. وقال: "أم" بمعنى الواوِ، و
(3)
بمعنى "بل" في مثل هذا الموضعِ.
ثم أكْذَبهم تعالى ذكرُه فقال: ما هو كما تزعُمون وتقولون مِن أن محمدًا افتَراه، بل هو الحقُّ والصدقُ مِن عندِ ربِّك يا محمدُ، أنزله إليك؛ لتُنذِرَ قومًا بأسَ اللهِ وسَطوته، أن يَحِلَّ بهم على كفرِهم به، {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}. يقولُ: لم يأتِ هؤلاء القومَ الذين أرسَلك ربُّك يا محمدُ إليهم، وهم قومَه من قريشٍ، نذيرٌ ينذرُهم بأسَ اللهِ على كفرِهم قَبْلَك. وقولُه:{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} . يقولُ: ليتَبَيَّنوا سبيلَ الحقِّ، فيعرِفوه ويؤمِنوا به.
وبمثلِ الذي قلْنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} . قال: كانوا أُمَّةً أُمَّيَّةً، لم يَأْتِهم نذيرٌ قبلَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
(1)
في م: "أنه يستفهم".
(2)
تقدم في 2/ 412، 413.
(3)
سقط من: م.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 299.
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: المعبودُ الذي لا تصلُحُ العبادةُ إِلَّا له، أيُّها الناسُ، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} مِن خَلْقٍ {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، ثم استَوى على عرشِه في اليومِ السابعِ، بعدَ خلقهِ السماواتِ والأرضِ وما بينَهما.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في اليومِ السابعِ.
يقولُ: ما لكم أيُّها الناسُ إله إلا مَن فعَل هذا الفعلَ، وخلَق هذا الخَلْقَ العجيبَ في ستةِ أيامٍ.
وقولُه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} . يقولُ: ما لكم أيُّها الناسُ دونَه وليٌّ يَلِى أمرَكم، وينصُرُكم منه إن أرادَ بكم ضَرًّا، ولا شفيعٌ يشفعُ لكم عندَه إن هو عاقَبكم على معصيتِكم إياه. يقولُ: فإياه فاتَّخِذوا وليًّا، وبه وبطاعته فاسْتَعِينوا على أمورِكم، فإنه يَمْنَعُكم إذا أراد منعَكم ممن أرادكم بسوءٍ، ولا يَقْدِرُ أحدٌ على دفعِه عما أراد بكم هو؛ لأنه لا يَظْهَرُه قاهرٌ، ولا يَغْلِبُه غالبٌ، {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: أفلا تَعْتَبِرون وتَتَفَكَّرون أيُّها الناسُ، فتَعْلَموا أنه ليس لكم دونَه وليٌّ ولا شفيعٌ، فتُفْرِدوا له الأُلُوهة، وتُخلصوا له العبادةَ، وتَخْلعوا ما دونَه مِن الأندادِ والآلهةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: الله هو الذي يُدَبِّرُ الأمرَ مِن أمرِ خلقِه، مِن السماءِ إلى الأرضِ، ثم يَعْرُج إليه.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في المعنى بقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: إن الأمرَ يَنْزِلُ مِن السماءِ إلى الأرضِ، ويَصْعَدُ مِن الأرضِ إلى السماءِ في يومٍ واحدٍ، وقَدْرُ ذلك ألفُ سنةٍ مما تَعُدُّون مِن أيامِ الدنيا؛ لأن ما بينَ الأرضِ إلى السماءِ خمُسمائةِ عامِ، وما بين السماءِ إلى الأرضِ مثل ذلك، فذلك ألفُ سنةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عمرِو بن معروفٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} . يعني بذلك نزولَ الأمرِ من السماءِ إلى الأرضِ، ومن الأرضِ إلى السماءِ في يومٍ واحدٍ، وذلك مقدارُه ألفُ سنةٍ؛ لأن ما بين السماءِ إلى الأرضِ مَسيرةُ خمسِمائةِ عامٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} مِن أيامِكم {كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . يقولُ: مقدارُ مسيرِه في ذلك اليومِ ألفُ سنةٍ مما تَعُدُّون من أيامِكم من أيامِ الدنيا؛ خمسُمائِة سنةٍ نزولُه، وخمسُمائةٍ صعودُه، فذلك ألفُ سنةٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضحاكِ: {ثُمَّ يَعْرُجُ
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 300، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف.
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. قال: [تَعْرُجُ الملائكةُ]
(1)
إلى السماءِ ثم تَنْزِلُ في يومٍ مِن أيامِكم هذه، وهو مسيرة ألفِ سنةٍ
(2)
.
قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ:{أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: مِن أيامِ الدنيا
(3)
.
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِى، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن أبي الحارثِ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسِ في قوله:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} مِن أيامِكم هذه، و
(4)
مسيرةُ ما بين السماءِ إلى الأرضِ خمسُمائةِ عامٍ
(5)
.
وذُكر عن عبدِ الرزاقِ، قال: أخبَرنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ، قال: تنحدرُ الأمور وتَصْعَدُ إلى
(6)
السماءِ من
(7)
الأرضِ في يومٍ واحدٍ، مقداره ألفُ سنةٍ، خمسُمائةٍ حين [ينزلُ، وخمسُمائةٍ حين]
(8)
يعرُجُ
(9)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يُدبِّرُ الأمر من السماءِ إلى الأرضِ، ثم يعرُجُ إليه، في يومٍ مِن الأيامِ الستةِ، التي خلَق اللهُ فيهنَّ الخلقَ، كان مقدارُ ذلك اليومِ ألفَ سنةٍ مما تعدُّون مِن أيَّامكم.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"يعرج الملك".
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 265.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف.
(4)
سقط من: م.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 171 إلى المصنف.
(6)
في م: "من".
(7)
في م: "إلى".
(8)
في م، ت 1:"حتى"، والمثبت من مصادر التخريج.
(9)
تفسير عبد الرزاق 2/ 108، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 171 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: ذلك مقدارُ المسيرِ. قولُه: {كَأَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: خلَق السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ، وكلُّ يومٍ مِن هذه كألفُ سنةٍ مما تَعُدُّون أنتم
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: الستةُ الأيامُ التي خلق اللهُ فيها السماواتِ والأرضَ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} : يعنى هذا اليومَ مِن الأيامِ الستةِ التي خلَق اللهُ فيهن السماواتِ والأرض وما بينَهما
(3)
.
وقال آخرون: بل معني ذلك: يدبِّرُ الأمرَ مِن السماءِ إلى الأرضِ بالملائكةِ، ثم تعرُجُ إليه الملائكةُ في يومٍ كان مقدارهُ ألفُ سنةٍ مِن أيامِ الدنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: هذا
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه في 1/ 59.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 59، وأخرجه الحاكم 2/ 412 من طريق إسرائيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 171 إلى الفريابي.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 59 ثنا عبدة ثني الحسين به.
في الدنيا، تعرُجُ الملائكةُ إليه في يومٍ كان
(1)
مقداره ألفُ سنةٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا غُنْدَرٌ، عن شعبةَ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: ما بينَ السماءِ والأرضِ مسيرةُ ألفُ سنةٍ {مِمَّا تَعُدُّونَ} مِن أيامِ الدُّنيا
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ أنه قال في هذه الآيةِ:{يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: ما بينَ السماءِ والأرضِ مسيرةُ ألفُ سنةٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبِّرُ الأمرَ مِن السماءِ إلى الأرضِ في يومٍ، كان مقدارُ ذلك التَّدْبِيرِ ألفَ سنةٍ {مِمَّا تَعُدُّونَ} مِن أيامِ الدنيا، ثم يعرُجُ إليه ذلك التدبيرُ
(4)
الذي دبَّره.
ذكرُ مَن قال ذلك
ذُكر عن حجاجٍ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ، أنه قال: يُقْضَى أمرُ كلِّ شيءٍ ألفُ سنةٍ إلى الملائكة، ثم كذلك حتى تمضىَ ألفُ سنةٍ، ثم يُقْضَى أمرُ كلِّ شيءٍ ألفًا، ثم كذلك أبدًا، قال:{يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} . قال: "اليومُ" أن يقالَ لِما يُقْضَى إلى الملائكةِ ألفُ سنةٍ: كُن فيكونُ. ولكن سمَّاه يوما، سَمَّاه كما بَيَّنَّا كلَّ ذلك عن مجاهدٍ. قال: وقولُه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. قال: هو هو سواءٌ
(5)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 171 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
في النسخ "الآخرة". والمثبت موافق لكلام المصنف السابق.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 25، 26 ثنى القاسم عن الحسين عن الحجاج به.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يُدَبِّرُ الأمر من السماءِ إلى الأرضِ، ثم يعرُجُ إلى اللهِ في يومٍ كان [مقدارُه ألفُ سنةٍ
(1)
، مقدارُ العُرُوج ألفُ سنةٍ مما تعدُّون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . قال: قال
(2)
بعضُ أهلِ العلمِ: مقدارُ ما بينَ الأرضِ حينَ يَعْرُجُ إليه، إلى أن يَبْلُغَ عُرُوجَه - ألفُ سنةٍ، هذا مقدارُ ذلك المِعْراجِ في ذلك اليومِ حينَ يعرُجُ فيه.
وأَولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: يُدَبِّرُ الأمرَ مِن السماءِ إلى الأرضِ، ثم يعرُجُ إليه في يومٍ كان مقدارُ ذلك اليومِ في عُرُوجِ ذلك الأمرِ إليه، ونزولِه إلى الأرضِ، ألفَ سنةٍ مما تَعُدُّون مِن أيامِكم؛ خمسُمائةٍ في النزولِ، وخمسُمائةٍ في الصعودِ؛ لأن ذلك أظهرُ معانيه، وأَشْبَهها بظاهر التنزيل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي يفعلُ ما وصفتُ لكم في هذه الآياتِ هو {عَالِمُ الْغَيْبِ} : يعنى: عالمُ ما يغيبُ عن أبصارِكم، أيُّها الناسُ، فلا تُبْصِرونه، مما تُكِنُّه الصدورُ، وتُخْفِيه النفوسُ، وما لم يَكُنْ بعدُ مما هو كائنٌ. {وَالشَّهَادَةِ}: يعني: ما شاهَدَتْه الأبصارُ فأبصَرَته وعاينَته، وما هو موجودٌ، {الْعَزِيزُ}. يقولُ:
(1)
سقط من: ص، ت 2.
(2)
سقط من: م.
الشديدُ في انْتقامِه مِمَّن كفَر به، وأشْرَك معه غيره، وكَذَّب رُسُلَه، {الرَّحِيمُ} بمن تابَ مِن ضلالتِه، ورجَع إلى الإيمانِ به وبرسولِه، والعملِ بطاعتِه؛ أن يُعَذِّبَه بعدَ التوبةِ.
وقولُه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} ، اختلفَتِ القرأةِ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأه بعضُ قرأةِ مكةَ والمدينةِ والبصرةِ:{أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بسكونِ اللامِ
(1)
. وقرَأه بعضُ المدنيين وعامةُ الكوفيِّين: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بفتحِ اللامِ
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يقال: إنهما قِراءتان مشهورتان قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرأةِ، صَحيحتا المعنى، وذلك أن اللَّهَ أَحْكَم خَلْقَه، وأحْكَم كلِّ شيءٍ خَلَقَه، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
واختَلف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: وأَتْقَن كلَّ شيءٍ وأحْكَمه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني العباسُ بنُ أبي طالبٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ إبراهيمَ إشْكابُ
(3)
، قال: ثنا شَرِيكٌ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . قال: أمَا إِنَّ اسْتَ القردِ ليست بحَسَنةٍ، ولكنه
(4)
أحكَم خَلْقَها
(5)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو النضر، قال: ثنا أبو سعيدٍ المؤدِّبُ، عن
(1)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. ينظر حجة القراءات ص 567.
(2)
هي قراءة نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف. ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 216.
(3)
في ص، ت 1:"شكاب"، وفى ت 2:"سكاف". ينظر تهذيب الكمال 6/ 350.
(4)
في م: "لكن".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى ابن أبي حاتم.
خُصَيفٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، أنه كان يقرؤُها:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . قال: أمَا إِنَّ اسْتَ القردِ ليست بحسنةٍ، ولكنه أحكَمها
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . قال: أَتقَنَ كُلَّ شيءٍ خَلَقه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بن موسى، قال: ثنا إسرائيلُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]: أحْصَى كلَّ شيءٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذي حَسَّنَ
(3)
خَلْقَ كلِّ شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . حَسَّن على نحو ما خَلق
(4)
.
وذُكِر عن الحجَّاج، عن ابن مُجريج، عن الأعْرجِ، عن مجاهدٍ، قال: هو مثلُ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}
(5)
[طه: 50]، فلم يجعلْ خلقَ البهائمِ في خلقِ الناسِ، ولا خلقَ الناسِ في خلقِ البهائمِ، ولكن خلَق كلّ شيءٍ فقَدَّره تقديرًا
(6)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعلْمَ كلَّ شيءٍ خلْقَه. كأنهم وجَّهوا تأويلِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف وابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 544.
(3)
في ت 1، ت 2:"أحسن".
(4)
أخرجه عبد الرزاقِ في تفسيره 2/ 109 عن معمر عن قتادة بمعناه.
(5)
بعده في م: "قال".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الكلامِ إلى أنه ألْهَمَ خلْقَه ما يَحْتاجون إليه، وأن قولَه:{أَحْسَنَ} . إنما هو مِن قولِ القائلِ: فلانٌ يُحْسِنُ كذا. إذا كان يَعْلَمُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن شَرِيك، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ:(أحسن كل شيءٍ خَلْقَه). قال: أعطَى كلَّ شيءٍ خَلْقَه؛ قال: الإنسانُ للإنسان
(1)
، والفرسُ للفرس، والحمارُ للحمار.
وعلى هذا القولُ، "الخَلْقُ" و "الكلُّ" منصوبان بوقوعِ "أحسنَ" عليهما.
وأَولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ على قراءةِ مَن قَرأه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . بفتحِ اللامِ قولُ مَن قال: معناه أحْكَم وأتقَن؛ لأنه لا معنَى لذلك إذ قُرِئ كذلك إلا أحدُ وجهَين؛ إمَّا هذا الذي قلْنا من معنى الإحكامِ والإتقان، أو معنى التَّحْسين الذي هو في معنى الجمالِ والحُسْنِ، فلما كان في خَلْقِه ما لا يُشَكُّ في قُبْحِه وسَمَاجَتِه، عُلِم أنه لم يَعْنِ به أنه حَسَّن
(2)
كلَّ ما خلَق، ولكن معناه أنه أحكَمه وأتقَن صنعتَه. وأما على القراءةِ الأخرى التي هي بتَسْكينِ اللامِ، فإن أَولى تأويلاتِه به قولُ مَن قال: معنى ذلك: أعلَم [وألْهم]
(3)
كلِّ شيءٍ خلْقَه هو أحسَنَهم، كما قال:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]؛ لأن ذلك أظهرُ معانيه.
وأمَّا الذي وجَّهَ تأويلَ ذلك إلى أنه بمعنى: الذي أحسَن خَلْقَ كلِّ شيءٍ. فإنه
(1)
في ص، م:"إلى الإنسان".
(2)
في ص، م:"أحسن".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"أولهم".
جَعَل الخَلْقَ نَصْبًا، بمعنى التفسيرِ، كأنه قال: الذي أحسَن كلَّ شيءٍ خَلْقًا منه. وقد كان بعضُهم يقولُ: هو من المُقَدَّمِ الذي معناه التأخيرُ. ويُوجِّهه إلى أنه نظيرُ قولِ الشاعرِ
(1)
:
وَظَعْنى إليك الليل حِضْنَيه إنَّني
…
لتلك إذا هابَ الهدانُ فَعُولُ
يعنى: وظَعْنى حِضْنى الليلِ إليك.
ونظيرُ قولِ الآخرِ
(2)
:
كأن هندًا ثَناياها وبَهْجَتَها
…
يومَ التَقَيْنا على أدْحالِ
(3)
دَبَّابٍ
أي كأن ثَنايا هندٍ وبَهْجتَها.
وقولُه: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وبدأ خلقَ آدمَ مِن طينٍ، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ}. يعني: ذرِّيتَه مِن سُلالةٍ. يقولُ: من الماءِ الذي انسَلَّ فخرج منه. وإنما يعنى: مِن إراقةٍ من مائه؛ كما قال الشاعرُ
(4)
:
فجاءتْ به عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَرًا
…
سُلالَةَ فَرْجٍ كان غيرَ حَصِينِ
وقولُه: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} . يقولُ: مِن نُطْفَةٍ ضعيفةٍ رقيقةٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ
(1)
البيت لحميد بن ثور، وهو في ديوانه ص 116.
(2)
البيت للراعى النميرى، وهو في ديوانه ص 42.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"أرحال". والأدحال: جمع دَحْل، وهو نقب ضيق فمُه، ثم يتسع أسفله حتى يمشى فيه، والدباب: رمل بالخلصاء يقال له: دباب. اللسان (د ح ل، د ب ب. د ب ب).
(4)
البيت لحسان بن ثابت، وهو في ديوانه ص 396.
مِنْ طِينٍ}. وهو خلق آدم، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ}: أي: ذرِّيتَه، {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ، والسُّلالة: هي الماءُ المَهِينُ الضعيفُ
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو مُعاويةَ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن أبي يحيى الأعْرجِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{مِنْ سُلَالَةٍ} . قال: صَفْو الماءِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}. قال: ضعيفٍ؛ نُطفةِ الرجلِ
(2)
.
{مَهِينٍ} . فَعِيلٍ مِن قولِ القائلِ: مَهُنَ فلانٌ. وذلك إِذا زَلَّ وضَعُفَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ثم سوَّى الإنسانَ الذي بدَأ خلقَه مِن طينٍ خلقًا سويًا معتدِلًا، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} ، فصار حيًّا ناطقًا، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. يقولُ: وأنْعَم عليكم أيُّها الناسُ ربُّكم؛ بأن أعطاكم السمعَ تَسْمَعون به الأصواتَ، والأبصارَ تُبْصِرون بها الأشخاصَ. والأفئدةَ تعقِلون بها الخيرَ من السُّوءِ؛ لتشكُروه على ما وهَب لكم مِن ذلك. وقولُه:{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} . يقولُ: وأنتم تشكُرون قليلًا من الشكرِ ربَّكم على ما أنعَم عليكم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم بمعناه.
(2)
تفسير مجاهد ص 544، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 172 إلى المصنف والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر بمعناه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال المشركون باللهِ، المكذِّبون بالبَعْثِ:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} : أي: صارت لحومُنا وعظامُنا ترابًا في الأرضِ. وفيها لغتان: ضَلَلْنا، وضَلِلْنا، بفتحِ اللامِ وكسرِها والقراءةُ على فتحِها، وهى الجَوداءُ، وبها نقرأُ
(1)
.
وذُكر عن الحسنِ أنه كان يقرأُ: (أئِذَا صَلَلْنا) بالصادِ
(2)
، بمعنى: أَنْتَنَّا، مِن قولِهم: صَلَّ اللحمُ وأصَلَّ، إذا أنْتَنَ.
وإنما عَنَى هؤلاء المشركون بقولِهم: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} . أي: إذا هلكَت أجسادُنا في الأرضِ. لأن كلَّ شيءٍ غَلَب عليه غيره حتى خفى فيما غلَب، فإنه قد ضَلَّ فيه. تقولُ العربُ: قد ضَلَّ الماءُ في اللبن. إذا غَلَب اللبنُ
(3)
عليه حتى لا يَتَبَيَّنَ فيه
(4)
، ومنه قولُ الأخطلِ الجريرٍ
(5)
:
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجٍ أَكْدَرَ مُزيدٍ
…
قَذَفَ الأَتِيُّ بهِ فَضَلَّ ضَلَالًا
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
قرأ يحيى بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء وطلحة وابن وثاب: (ضَلِلْنا)، وهي قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 7/ 200.
(2)
هي قراءة على وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد بن العاص. ينظر البحر المحيط 7/ 200.
(3)
سقط من: م.
(4)
بعده في ت 1، ت 2:"الماء".
(5)
ديوانه ص 392.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَامٌ، عن عَنْبسةَ، عن لَيْثٍ
(1)
، عن مجاهدٍ:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: أَئذا هَلَكْنا.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ
(2)
، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} : هَلكْنا
(3)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أَخبرنا عُبَيدٌ: قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: أَئذا كُنَّا عِظَامًا ورُفاتًا أنُبْعَثُ خلقًا جديدًا؟ يكفرون بالبَعْثِ!!.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . قال: قالوا: أئذا كُنَّا عِظَامًا ورُفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا
(4)
؟
وقولُه: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما بهؤلاء المشركين جُحُودُ قُدرة الله على ما يشاءُ، بل هم بلقاءِ ربِّهم كافرون؛ حذرًا لعقابه، وخوفَ مُجازاتِه إيَّاهم على معصيتِهم إيَّاه، فهم من أجلِ ذلك يجحَدون لقاءَ ربِّهم في المعادِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ
(1)
سقط من: ت 2، وقد تقدم في 3/ 484. ينظر تهذيب الكمال 24/ 279، 27/ 228
(2)
بعده في ت 2: "جميعا".
(3)
تفسير مجاهد ص 544، وأخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 280 عن ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 173 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 269 بمعناه.
إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يا محمدُ لهؤلاء المشركين باللَّهِ: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} . يقولُ: يَسْتوفى عددكم بقَبْضِ أرواحكِم ملكِ الموتِ الذي وُكِّل بقَبْضِ أرواحِكم، ومنه قولُ الراجزِ
(1)
إِنَّ بَنِي الأَدْرَم ليسوا مِن أَحَدٌ
…
ولا تَوَفَّاهُمْ قُرَيْشٌ في العَدَدْ
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} . يقولُ: ثم
(2)
من بعدِ قبْضِ مَلَكِ الموتِ أرواحَكم، إلى ربِّكم يوم القيامةِ تُرَدُّون أحياءً كهيئتكم قبلَ وفاتِكم، فيُجازى المحسنَ منكم بإحْسانِه، والمُسيء بإساءتِه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} . قال: مَلَكُ الموتِ يتوفّاكم
(3)
ومعه أعوانٌ من الملائكةِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} . قال: حُوِيَت له الأرضُ، فجُعِلَت له مثلَ الطَّسْتِ، يَتَناول منها حيثُ يَشاءُ
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكّام، عن عنبسةَ، عن محمدُ بنُ عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
(1)
البيت في مجاز القرآن 2/ 132 لمنظور الزبيري، وفي اللسان مادة (و ف ى) لمنظور الوبرى.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
في ص، ت 1:"يتوفاهم".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 174 إلى المصنف.
(5)
تفسير مجاهد ص 544.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ تَرَى} يا محمد هؤلاء القائلين: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ} . إذ
(1)
هم {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} حَياءً [من ربِّهم]
(2)
للذى سلَف منهم مِن مَعاصِيه في الدنيا، يقولون: يا {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} ما كنا نُكَذِّبُ به من عقابِك أهلَ مَعاصِيك، {وَسَمِعْنَا} منك تصديقَ ما كانت رسلُك تَأْمُرُنا به في الدنيا، {فَارْجِعْنَا}. يقولُ: فَارْدُدْنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ} فيها بطاعتِك، وذلك العملُ الصالحُ؛ {إِنَّا مُوقِنُونَ}. يقولُ: إنا قد أيْقَنَّا الآنَ
(3)
ما كنا به في الدنيا جُهَّالًا مِن وَحْدانيتك، وأنه لا يَصْلُحُ أَن يُعْبَدَ سِواك، ولا يَنْبَغى أن يكونَ ربٌّ سِواك، وأنك تَحْيى وتُميتُ، وتَبْعَثُ مَن في القبورِ بعدَ المَماتِ والفَناءِ، وتَفْعَلُ مَا تَشاءُ.
وبنحوِ ما قلْنا في قولِه: {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في
(4)
قولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . قال: قد حزنوا واسْتَحْيَوْا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} .
(1)
في ت 2: "إذا".
(2)
في ت 2: "لربهم".
(3)
في ت 2: "اليوم".
(4)
سقط من: م.
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَوْ شِئْنَا} يا محمدُ، {لَآتَيْنَا} هؤلاء المشركين باللَّهِ مِن قومِك، وغيرَهم مِن أهل الكفرِ باللهِ - {هُدَاهَا} .. يعنى: رُشْدَها وتوفيقَها للإيمانِ باللهِ، {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}. يقولُ: وجَب العذابُ منى لهم.
وقولُه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . يعنى: مِن أهلِ المعاصى والكفرِ باللهِ منهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . قال: لو شاء اللهُ لهَدَى الناسَ جميعًا لو شاء اللهُ لأَنزل عليهم
(1)
من السماءِ آيةً فظلَّت أعناقُهم لها خاضِعين، {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}: حقَّ القولُ عليهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يقال لهؤلاء المشركين باللَّهِ، إذا هم دخَلوا النار: ذُوقوا عذابَ اللهِ بما نسِيتُم لقاء يومِكم هذا في الدنيا، {إِنَّا نَسِينَاكُمْ}. يقولُ: إنا ترَكْناكم اليومَ في النارِ.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 174 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} . يقولُ: يقالُ
(1)
لهم أيضًا: ذُوقوا عذابًا تُخَلَّدون فيه إلى غير نهايةٍ {بِمَا كُنْتُمْ} في الدنيا {تَعْمَلُونَ} مِن مَعاصِي اللَّهِ.
وبنحوِ ما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه
(2)
: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} . قال: نُسُوا مِن كلِّ خيرٍ، وأما الشرُّ فلم يُنْسَوْا منه.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} . يقولُ: تَرَكْناكم
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ما يُصَدِّقُ بحججنا وآياتِ كتابِنا إلا القومُ الذين إذا ذُكِّروا بها ووُعِظوا {خَرُّوا} للهِ {سُجَّدًا} لوجوههم؛ تَذَلُّلًا له
(4)
، واستكانةً لعظمتِه، وإقرارًا له بالعبوديةِ، {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}. يقولُ: وسبَّحوا الله في
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"قال".
(2)
سقط من: م، ص، ت 1.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 174 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 1، وفى ت 2:"لجلاله".
سجودِهم بحمدِه، فيُبَرِّئُونه مما
(1)
يَصِفُه أهلُ الكفرِ به، ويُضيفون إليه من الصاحبةِ والأولادِ والشركاءِ والأندادِ، {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. يقولُ: يَفْعَلون ذلك، وهم لا يَسْتَكْبِرون عن
(2)
السجودِ له والتسبيحِ، و
(3)
لا يَسْتَنْكفون عن التذلُّلِ له والاستكانة.
وقيل: إن هذه الآيةَ نزلت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأن قومًا من المنافقين كانوا اللَّهِ يَخْرُجون من المسجِد إذا أُقيمت الصلاةُ. ذُكر ذلك عن حجاجٍ، عن ابن جريجٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: تَتَنَحَّى جُنوبُ هؤلاء الذين [يُؤْمِنون بآياتِ اللَّهِ، الذين]
(4)
وُصِفَت صفتُهم، وتَرْتَفِعُ عن
(5)
مضاجعِهم التي يَضْطَجِعون لمنامِهم، ولا يَنامون، {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} في عفوِه عنهم، وتفضُّلِه عليهم برحمتِه ومغفرته، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في سبيلِ اللَّهِ، ويُؤَدُّون منه
(6)
حقوقَ اللَّهِ التي أَوْجَبها عليهم فيه.
وتتجافى: تَتَفاعَلُ، مِن الجَفَاءِ، والجَفاءُ: النُّبُوُّ
(7)
، كما قال الراجزُ
(8)
(1)
في ت 2، ت 3:"بما".
(2)
في ص، ت 2:"علي".
(3)
سقط من: م، ت 1، وفي ت 2:"وهم".
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في م: "من".
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
في ت 1: "العتو"، وفى ت 2:"العتق".
(8)
الرجز نسبه أبو عبيد في مجاز القرآن 2/ 132، 133 للزفيان.
وصاحِبِي ذاتُ هِبابٍ دَمْشَقُ
(1)
…
وابنُ مِلاطٍ مُتَجَافٍ أَرْفَقُ
يعنى: أن كرمَها سَجِيَّةٌ عن ابن ملاطٍ، وإنما وصَفهم تعالى ذكرُه بجفاءِ
(2)
. جُنُوبهم عن المضاجعِ؛ لتركهم الاضْطجاعَ للنومِ، شُغُلًا بالصلاة.
واختَلف أهلُ التأويلِ في الصلاةِ التي وصفهم جلَّ ثناؤُه أن جُنُوبهم تَتَجَافَى لها
(3)
عن المضطجعِ
(4)
؛ فقال بعضُهم: هي الصلاةُ بينَ المغربِ والعشاءِ. وقال: نزلَت هذه الآيةَ في قومٍ كانوا يُصَلُّون في ذلك الوقتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن
(5)
أبي عَروبةَ، قال: قال قتادةُ: قال أنسٌ في قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]. قال: كانوا يَتَنَفَّلون فيما بينَ المغربِ والعشاءِ، وكذلك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}
(6)
.
قال: ثنا ابن أَبي عَدِيٌّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن أنسِ في قولِه:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: يُصَلُّون ما بينَ هاتين الصلاتَين
(7)
.
(1)
في ت 1: "هبات".
(2)
في م: "تتجافى".
(3)
في ت 2: "لهم".
(4)
في ص: "المضجع".
(5)
سقط من: م، ت 1، والمثبت من مصادر التخريج. ينظر تهذيب الكمال 11/ 5.
(6)
أخرجه أبو داود (1322) من طريق يحيى بن سعيد به، وأخرجه الحاكم 2/ 467 - ومن طريقه البيهقي في الشعب (3110) - من طريق سعيد بن أبي عروبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 175 إلى محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(7)
أخرجه أبو داود (1322) من طريق ابن أبي عدى به.
حدَّثني عليُّ بنُ سعيدٍ الكِنْديُّ، قال: ثنا حفصُ
(1)
بنُ غِياثٍ، عن سعيدِ، عن قتادةَ، عن أنسٍ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: ما بينَ المغربِ والعشاءِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ
(3)
بنُ خَلَفٍ، قال: ثنا [زيدُ بنُ الحَبابِ]
(4)
، قال: ثنا الحارثُ بنُ [وَجِيهٍ الرَّاسِبيُّ]
(5)
، قال: ثنا مالكُ بنُ دينارٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، أن هذه الآيةَ نزلَت في رجالٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كانوا يُصَلُّون فيما بينَ المغربِ والعشاءِ، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}
(6)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٍ، عن سعيدِ بن أبي عُرُوبة، عن قتادةَ، عن أنسٍ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: كانوا يتطوَّعون فيما بينَ المغربِ والعشاءِ
(7)
.
قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن أنسٍ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: ما بينَ المغربِ والعشاءِ
(8)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، [عن أنسٍ]
(9)
:
(1)
في ت 2: "جعفر". ينظر تهذيب الكمال 7/ 56.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في قيام الليل (492) من طريق حفص بن غياث به، وأخرجه أيضا في (306) من طريق سعيد به بنحوه.
(3)
في ت 2: "على". ينظر تهذيب الكمال 25/ 162.
(4)
في م: "يزيد بن حيان".
(5)
في ت 2: "رحبه الراسى". ينظر تهذيب الكمال 5/ 304.
(6)
أخرجه ابن مردويه في تفسيره - كما في تخريج الكشاف للزيلعي 3/ 86 من طريق الحارث بن وجيه به.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 197، 198 عن محمد بن بشر به.
(8)
تفسير الثورى ص 240 عن أبان بن أبي عياش عن أنس.
(9)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: كانوا يَتَيقظون
(1)
ما بينَ صلاةِ المغربِ وصلاةِ العشاءِ
(2)
.
وقال آخرون: عُنى بها صلاة المغربِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن طلحةَ، عن عطاءٍ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: عن العَتَمةِ.
وذُكر عن حجاجٍ، عن ابن جريجٍ، قال: قال يحيى بنُ صَيْفِيٍّ، عن أبي سَلَمةَ، قال: العَتَمةُ
(3)
.
وقال آخرون: لانْتظارِ صلاةِ العَتَمةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبد الله بن أبي زيادٍ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ
(4)
، عن سليمانَ بن بلالٍ، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالكٍ، أن هذه الآيةَ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} نزلَت في انتظارِ الصلاةِ التي تُدْعَى العَتَمَةَ
(5)
.
وقال آخرون: عُنِى بها قيامُ الليلِ.
(1)
في م، ت 2:"يتنفلون".
(2)
أخرجه أبو داود (1321) من طريق يزيد بن زريع به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 174 إلى المصنف ومحمد بن نصر.
(4)
سقط من: ت 1. ينظر تهذيب الكمال 18/ 160.
(5)
أخرجه الترمذى (3196) عن عبد الله بن أبي زياد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 174 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: قيامُ الليلِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: هؤلاء المُتَهَجِّدون لصلاةِ الليلِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} : يقومُون يُصَلُّون مِن الليلِ
(2)
.
وقال آخرون: إنما هذه صفةُ قومٍ لا تَخْلو ألسنتُهم من ذكرِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن الحسينِ بن الفرجِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أَخبرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضَّحَّاكَ يقولُ في قولِه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} : وهم قومٌ لا يزالون يذكُرون الله؛ إما في صلاةٍ، وإما قيامًا، وإما قُعُودًا، وإما إذا استيقَظوا مِن مَنامِهم، هم قومٌ لا يَزالون يذكُرون الله
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود (1321) من طريق يزيد بن زريع به، وأخرجه عبد الرزاقِ في تفسيره 2/ 110 من طريق قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 175 إلى ابن نصر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 175 إلى المصنف والفريابي وابن أبي شيبة ومحمد بن نصر وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 109 من طريق جويبر عن الضحاك، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 176 إلى المصنف ومحمد بن نصر.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إلى آخرِ الآيةِ. يقولُ: تتجافَى لذكرِ اللهِ، كلما استيَقَظوا ذكَروا الله؛ إما في الصلاةِ، وإما في قيامٍ، [وإما]
(1)
في قُعُودٍ، أو على جُنُوبهم، فهم لا يَزالون يذكُرون الله
(2)
.
والصوابُ من القولُ في ذلك أن يقالَ: إن الله وصف هؤلاء القومَ بأن جُنُوبهم تَنْبُو عن مضاجعِهم، شُغُلًا منهم [بدُعاءِ ربِّهم، وعبادتِه]
(3)
خوفًا وطمعًا، وذلك نُبُوُّ جُنُوبِهم عن المضاجعِ ليلًا؛ لأن المعروفَ مِن وَصْفِ الواصفِ رجلًا بأن جنبَه
(4)
نَبَا عن مَضْجعِه، إنما هو وصفٌ منه له بأنه جَفا عن النومِ في وقتِ مَنامِ الناسِ المعروفِ، وذلك الليلُ دونَ النهار، وكذلك تَصِفُ العربُ الرجلَ إذا وصفَته بذلك، يدلُّ على ذلك قولُ عبدِ اللهِ بن رَوَاحةَ الأنصاريِّ
(5)
رضي الله عنه في صفةِ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَه عن فِراشِه
…
إذا اسْتَثْقَلَت بالمُشرِكين المَضَاجِعُ
فإذ كان ذلك كذلك، وكان اللهُ تعالى ذكرُه لم يَخْصُصْ في وصفِه هؤلاء القومَ بالذي وصَفهم به؛ مِن جَفاءِ جُنُوبِهم عن مَضاجعهم، مِن أحوالِ الليلِ وأوقاتِه، حالًا ووقتًا دونَ حالٍ ووقتٍ، كان واجبًا أن يكونَ ذلك على كلِّ آناء الليل وأوقاته.
(1)
في م، ص:"أو".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 176 إلى المصنف.
(3)
في ت 2: "به، عادتهم وعبادتهم".
(4)
بعده في ت 2: "وصف".
(5)
ديوان عبد الله بن رواحة (مجموع) ص 162.
وإذا كان
(1)
كذلك كان مَن صلَّى ما بينَ المغربِ والعشاءِ، أو انتَظر العشاءَ الآخرة، أو قامَ الليلَ أو بعضَه، أو ذكَر اللهِ في ساعاتِ الليلِ، أو صلَّى العَتَمةَ، ممن دخَل في ظاهرِ قولِه:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ؛ لأن جنبَه قد جَفا عن مضجعِه، في الحالِ التي قامَ فيها للصلاةِ؛ قائما صلَّى، أو ذكَر الله، أو قاعدًا، بعدَ ألّا يكونَ مضطجعًا، وهو على القيامِ أو القعودِ قادرٌ، غيرَ أن الأمرَ وإن كان كذلك، فإن توجيهَ الكلامِ إلى أنه معنيٌّ به قيامُ الليلِ أعجبُ إليَّ؛ لأن ذلك أظهرُ مَعانيه، والأغلبُ على ظاهرِ الكلامِ، وبه جاء الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وذلك ما حدَّثنا به ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، قال: سَمِعتُ عُروةَ بنَ النَّزَّالِ
(2)
يحدِّثُ عن مُعاذِ بن جبلٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال له:"أَلَا أَدُلُّك على أبوابِ الخيرِ؟ الصومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تُكَفِّرُ الخطيئة، وقيامُ العبدِ في جوفِ الليلِ". وتَلا هذه الآيةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} "
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ حمادٍ، قال: ثنا أبو عَوانةَ
(4)
، عن سليمانَ، عن
(5)
حبيبِ بن أبي ثابتٍ والحكمِ، عن ميمونِ بن أبي شبيبٍ
(6)
، عن
(1)
بعده في ت 2: "ذلك".
(2)
في م: "الزبير"، وفى ت 2:"البراك". ينظر تهذيب الكمال 20/ 39.
(3)
أخرجه النسائي (2225) عن ابن المثنى به مختصرًا، وأخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (1)، ومن طريقه الطبراني 20/ 148 (305)، وأحمد 5/ 233، وابن نصر في مختصر قيام الليل ص 8 من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه الطيالسي (561)، وأحمد 5/ 233، والطبراني 20/ 147 (304)، والبيهقى في الشعب (2806، 3349) من طريق شعبة به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 109، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، والبيهقى في الشعب (3350) من طريق أبي وائل عن معاذ به.
(4)
في النسخ: "أسامة"، والمثبت من مصادر التخريج. ينظر تهذيب الكمال 30/ 441.
(5)
في ت 1: "بن". ينظر تهذيب الكمال 5/ 358.
(6)
في ت 2: "شيب". ينظر تهذيب الكمال 29/ 206.
مُعاذِ بن جبلٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ خَلَفٍ العَسْقَلانيُّ، قال: ثنا آدمُ، قال: ثنا شيبانُ
(2)
، قال: ثنا منصورُ بنُ المعتمرِ، عن الحكمِ بن عُتَيبةَ
(3)
، عن ميمونِ بن [أبي شبيبٍ]
(4)
، عن مُعاذِ بن جبلٍ، قال: قال لى
(5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شِئْتَ أنْبأتُك بأبوابِ الخيرِ؛ الصومُ
(6)
جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخطِيئةَ، وقيامُ الرجلِ في جوفِ الليلِ". ثم قَرأ رسول الله:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} "
(7)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا [زيدُ بنُ الحَبابِ]
(8)
، عن حمادِ بن سَلَمةَ، قال: ثنا عاصمُ بنُ أبي النَّجُودِ، عَن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ، عن مُعاذِ بن جبلٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قولِه:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . قال: "قِيامُ العَبْدِ مِن الليلِ"
(9)
.
حدَّثنا أبو همامٍ الوليد بن شُجاع، قال: ثنى أبي، قال: ثني زيادُ بن خَيْثمةَ،
(1)
أخرجه النسائي (2224)، وفى الكبرى (2535) عن ابن المثنى به، وأخرجه البيهقي في الشعب (4958) من طريق الأعمش به.
(2)
في م، ص، ت 1:"سفيان". وينظر تهذيب الكمال 12/ 592.
(3)
في ت 1، ت 2:"عيينة". ينظر تهذيب الكمال 7/ 114.
(4)
في ص، ت 1:"شبيب"، وفى ت 2:"شيب"، وقد تقدم في الصفحة السابقة.
(5)
سقط من: ت 1.
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"الصيام".
(7)
أخرجه البيهقى 9/ 20 من طريق شيبان به مختصرًا، وأخرجه ابن نصر في كتاب الصلاة (197)، والطبراني 20/ 142 - 144 (291 - 293)، والبيهقى في الشعب (4959) من طريق الحكم به، وينظر علل الدارقطني 6/ 74.
(8)
تقدم تصويبه في ص 610.
(9)
أخرجه أحمد 5/ 232 من طريق زيد بن الحباب به، وأخرجه أحمد 5/ 242، 248 (الميمنية)، وابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل (248)، والطبراني 20/ 103 (200) وابن مردويه - كما في تخريج الكشاف للزيلعي 3/ 84 - من طرق عن حماد به.
عن أبي يحيى، بائعِ
(1)
القَتِّ، عن مجاهد، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل. ففاضت عيناه، حتى تحادَرَت دموعُه، فقال:" {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} "
(2)
.
وأما قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} الآية، فإن بنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . قال: خوفًا من عذاب الله، وطمعًا في رحمة الله، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في طاعة الله وفى سبيله.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} .
يقول تعالى ذكره: فلا تعلم نفس ذى نَفْسٍ ما أخفَى اللَّهُ لهؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هاتين الآيتين، مما تَقَرُّ به أعينهم في جنانِه يوم القيامةِ؛ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يقولُ: ثوابًا لهم على أعمالهم التي كانوا في الدنيا يعملون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن
(1)
في ت 1، ت 2:"تابع". وينظر تهذيب الكمال 34/ 401.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 175 إلى المصنف.
أبي عبيدة، قال: قال عبدُ اللَّهِ: إن في التوراة مكتوبًا: لقد أعدَّ اللهُ للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تَرَ عينٌ، ولم يخطر على قلب بشرٍ، ولم تسمع أذنٌ، وما لا
(1)
يسمعُه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ. قال: ونحن نقرؤُها: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
(2)
.
حدثنا خلادٌ، [قال: أخبرنا النضر بن شميلٍ]
(3)
، قال: أخبرنا إسرائيل، قال: أخبرنا أبو إسحاق، عن عُبيدة بن ربيعةَ، عن ابن مسعودٍ، قال: مكتوب في التوراة: على الله للذين تتجافَى جُنُوبُهم عن المضاجع ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ. و
(4)
في القرآن: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} .
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدةَ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: خُبِيءَ لهم ما لا عين رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعت، ولا خطر على قلب بشر. قال سفيان: فيما علمتُ، على غير وجهِ الشكِّ.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت أبا عُبَيدةَ، قال: قال عبد الله، قال: قال
(5)
- يعنى الله -: "أعددت لعبادي الصالحين ما لم تَرَ عينٌ، ولم تسمَعْ أُذُنٌ، ولم يخطر على قلب ناظرٍ؛
(1)
في م: "لم".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 112، والحاكم 2/ 414 من طريق أبى الأحوص به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 176 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ت 2. وينظر تهذيب الكمال 29/ 379.
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
سقط من: م.
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن صلتٍ، عن قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن عبيدة بن ربيعة الحارثي، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، قال: إن في التوراة: للذين تتجافى جُنُوبُهم عن المضاجع من الكرامة، ما لم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر، ولم تسمع أذنٌ، وإنه لفى القرآن:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
(1)
.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الأشجعى، عن ابن أبجر، قال: سمعتُ الشعبى يقولُ: سمعتُ المغيرة [بن شعبة]
(2)
يقول على المنبر: إن موسى صلى الله عليه وسلم سأل عن أخسِّ
(3)
ما أهل الجنة فيها حَظًّا، فقيل له: رجلٌ يُؤْتَى به وقد دخل أهل الجنة الجنةَ. قال: فيقال له: ادخُلْ. فيقولُ: أين وقد أخذ الناسُ أَخَذاتهم؟ فيقالُ: اعْدُدْ أربعة ملوك من ملوكِ الدنيا، فيكون لك مثلُ الذي كان لهم، ولك أخرى؛ شهوة نفسك. فيقولُ: أَشْتَهى كذا وكذا وأشتهي كذا. ويقالُ: لك أخرى؛ لك لَذَّةُ عينك. فيقولُ: أَلَذُّ كذا وكذا. فيقال: لك عشَرَةُ أضعاف مثل ذلك. وسأله عن أعظم أهل الجنة فيها حَظًّا، فقال: ذاك شيءٌ خَتَمْتُ عليه يوم خلقتُ السماوات والأرضَ. قال الشعبي: فإنها في القرآن: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني (9039) من طريق قيس به.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"أحسن"، وفى م:"أبخس"، والمثبت من مصادر التخريج. قال النووى: هكذا ضبطناه بالخاء المعجمة وبعدها السين المشددة، وهكذا رواه جميع الرواة، ومعناه أدناهم. صحيح مسلم بشرح النووى 3/ 47.
(4)
أخرجه مسلم (189) / 313 عن أبي كريب به، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (227) زيادات نعيم، وابن أبي شيبة 13/ 120، 121، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (35) من طريق الشعبى به.
حدثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطُّوسِيُّ، قال: ثنا الحميديُّ، قال: ثنا ابن عُيَينةَ، وحدثني به القَرْقَسَانى، عن ابن عُيَينةَ، عن مُطَرِّفِ بن طَرِيفٍ وابن أَبْجَرَ: سمعنا الشعبيَّ يقولُ: سمعتُ المغيرة بن شعبة على المنبر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن موسى سأل ربَّه: أَيْ ربِّ، أيُّ أهل الجنةِ أدْنَى منزلةً؟ قال: رجلٌ يَجِيءُ بعد ما دخل أهلُ الجنة الجنة
(1)
، فيقال له: ادْخُلْ. فيقولُ: كيف أدخُلُ وقد نزلوا منازلهم؟ فيقال له: أَتَرْضَى أن يكونَ لك مثلُ ما كان لملك مِن مُلُوكِ الدنيا؟ فيقولُ: بَخٍ، أي ربِّ، قد رَضِيتُ. فيقال له: إن لك هذا ومِثْلَه ومِثْلَه ومِثْلَه. فيقولُ: رَضِيتُ، أَي ربِّ رضيتُ. فيقال له: إن لك هذا وعشَرَةَ أَمْثالِه معه. فيقولُ: رَضِيتُ أي ربِّ. فيقالُ له: فإن لك مع هذا ما اشْتَهَتْ نفسك، ولَذَّتْ عَيْنُك. قال: فقال موسى: أي ربِّ، وأى أهل الجنة أرفعُ منزلةً؟ قال: إيَّاها أردتَ
(2)
، وسأحدثك عنهم؛ غَرَسْتُ لهم كرامتي بيدي، وخَتَمْتُ عليها
(3)
، فلا عين رأتْ، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر". قال: ومصداق ذلك في كتاب الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(4)
.
حدثنا محمد بن منصور الطَّوسى، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، قال: ثنا عمرُو بنُ أَبي قَيْسٍ، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عباس في قوله:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]: وكان عرش الله على الماء، ثم اتَّخَذ لنفسه جنةً، ثم اتَّخَذ دونَها أخرى، ثم أطْبَقَها بلؤلؤة
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"أي رب".
(3)
في ص، ت 2:"لها".
(4)
الحميدى (761)، ومن طريقه الطبراني 20/ 412 (989)، وأخرجه مسلم (312/ 189). والترمذى (3198)، والطبراني 20/ 412 (989)، وأبو الشيخ في العظمة (613)، والبيهقي في الأسماء والصفات (690) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 177 إلى ابن أبي شيبة وابن مردويه.
واحدةٍ، قال:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} [الرحمن: 62]. قال: وهى التي لا تعلم نفسٌ - [أو قال: هما التي لا تعلم نفسٌ]
(1)
- ما أُخفى لهم مِن قُرَّةِ أَعْيُنُ جزاءً بما كانوا يعملون. قال: وهى التي لا تعلم الخلائق ما فيها، أو ما فيهما، يأتيهم كل يومٍ منها أو منهما تحفةٌ
(2)
.
حدثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يعقوب، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَيرٍ بنحوه.
حدثنا سهل بن موسى الرازيُّ، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أبي اليَمانِ الهَوْزَنيِّ أو غيره، قال
(3)
: الجنة مائة درجةٍ؛ أوَّلُها درجةً فضةٌ، أرضُها
(4)
فضةٌ، ومساكنها فضةٌ، [وآنيتها فضةٌ]
(5)
، وترابها المسك، والثانية ذهبٌ، وأرضُها ذهبٌ، ومساكنها ذهبٌ، وآنيتها
(6)
ذهبٌ، وترابها المسْكُ، والثالثة لؤلؤٌ، وأرضُها لؤلؤ، ومساكنها لؤلؤ، وآنيتها لؤلؤٌ، وترابها المسك، وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت
(7)
، ولا أذن سمعت
(8)
، ولا خطر على قلب بشر. وتلا هذه الآية:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
(9)
.
(1)
سقط من: ت 1، ت 2.
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 475 من طريق إسحاق بن سليمان به، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (228) من طريق ابن أبي ليلى به، وذكره محمد بن نصر المروزى في مختصر قيام الليل ص 9، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 176 إلى الفريابي وعبد بن حميد ومحمد بن نصر في قيام الليل، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.
(3)
بعده في ت 2: "أهل".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"وآخرها".
(5)
سقط من: ت 2، وفى ص:"أبنيتها".
(6)
في ت 2: "أبنيتها".
(7)
في ص، م، ت 1:"رأته".
(8)
في ص، م، ت 1 "سمعته".
(9)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 177 إلى المصنف، وفيه عن "الهذلى"، والمثبت هو الصواب. ينظر تهذيب الكمال 14/ 60.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: أَعْدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بَشَرٍ". واقْرَءُوا إن شئتم
(1)
: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(2)
.
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو معاوية وابن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعْدَدْتُ لعِبادِيَ الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعتْ، ولا خَطَر على قلب بشر". قال أبو هريرةَ: ومِن بَلْه
(3)
ما أَطْلَعَكم عليه، اقْرَءُوا إِن شئتُم:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال أبو هريرةَ: نقرؤُها: (قُرَّاتِ أَعْيُنٍ)
(4)
.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا معتمرُ
(5)
بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الروح الأمين، قال: "يُؤْتَى بحسناتِ العبد وسيئاته، فيَقْتَصُّ
(6)
بعضُها مِن بعضٍ، فإِن بَقِيَتْ حسنةٌ
(1)
بعده في م، ص، ت 1:"قال الله"، وليست في مصادر التخريج.
(2)
أخرجه الترمذى (3292) عن أبي كريب عن عبدة بن سليمان، وعبد الرحيم بن سليمان به. وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 101، 102، وأحمد 15/ 407، (9649)، والدارمي (2828)، والترمذى (3013)، والنسائى في الكبرى (11085) من طرق عن محمد بن عمرو به.
(3)
في ص: "من"، وفى ت 1:"نية"، وفى ت 2:"مه"، والمثبت من مصادر التخريج.
ومن بَلْه: أي من غير. ينظر مسلم بشرح النووى 17/ 166، وفتح الباري 8/ 516، 517.
(4)
هي قراءة أبي الدرداء وعبد الله وعوف العقيلي. ينظر البحر المحيط 7/ 202، وينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 119، والحديث أخرجه مسلم (2824) عن أبي كريب به، وأخرجه أحمد 16/ 265 (10423) عن ابن نمير وحده به، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 109، وهناد في الزهد (1)، وابن ماجه (4328)، والبيهقى في الشعب (382) من طريق أبى معاوية وحده به، وأخرجه البخارى (4780) من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 176 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن الأنبارى.
(5)
في ت 2: "معمر"، والصواب هو المثبت، وقد تقدم مرارًا.
(6)
في ص: "فتنفص" بدون نقط، وفى م:"فينقص"، وفى ت 1:"فينقض"، والمثبت من مصادر =
واحدةٌ، وَسَّع الله له في الجنة". قال: فدخلتُ على يَزْدَادَ، فحدث بمثل هذا. قال: قلتُ: فأين ذهبت الحسنةُ؟ قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)} [الأحقاف: 16]. قلت: قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ؟ قال: العبد يعملُ سِرًّا أسرَّه إلى اللَّهِ لم يُعْلِمُ به الناسَ، فأسرَّ اللَّهُ له يومَ القيامةِ قُرَّةَ عَينٍ
(1)
.
حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا مُعَلَّى بن أسدٍ، قال: ثنا سلام بن أبي مُطِيعٍ، عن قتادة، عن عُقْبَةَ بن عبدِ الغافِرِ، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يروى عن ربه، قال:"أَعْدَدْتُ لعِبادى الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلبِ بَشَرٍ"
(2)
.
حدثني أبو السائب، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: ثني أبو صخرٍ، أن أبا حازمٍ حدثه، قال: سمعتُ سهل بن سعد يقولُ: شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا وصف فيه الجنةَ حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه:"فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمِعتُ، ولا خَطَر على قلب بَشَرٍ"
(3)
. ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إلى قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(4)
.
= التخريج، وفى بعض المصادر:"فيقص".
(1)
أخرجه البخارى في التاريخ الكبير 7/ 113، والطبراني (12832)، والحاكم 4/ 252، وأبو نعيم في الحلية 3/ 91، والبيهقى في الشعب 5/ 354 من طريق معتمر به، وأخرجه الذهبي في السير 12/ 340 من طريق الحكم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 177 إلى ابن مردويه، الروايات مطولة ومختصرة.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 368 عن المصنف، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 262 من طريق معلى بن أسد به.
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
أخرجه أحمد 5/ 334 (ميمنية)، ومسلم (2825)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (3)، والطبراني (6002) من طريق ابن وهب به، وأخرجه الطبراني أيضًا (6003)، والحاكم 2/ 413 من طريق أبي صخر به، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 101 من طريق أبي حازم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 177 إلى ابن نصر وابن مردويه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدى، عن عوف
(1)
، عن الحسن، قال: بلغنى أن رسول الله قال: "قال ربُّكم: أعْدَدْتُ لعبادي الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يروى ذلك عن ربِّه:"قال ربُّكم: أعْدَدْتُ لعِبادى الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعت، ولا خطر على قلبٍ بَشَرٍ"
(2)
.
حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسنِ:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . قال: أخْفَوا عملًا في الدنيا، فأثابهم الله بأعمالهم.
حدثني القاسم بن بشر، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حمادُ بنُ سَلَمةَ، عن ثابتٍ، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال حمادٌ: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن يدخُل الجنةَ يَنْعَمْ ولا يَبْؤُسٌ، لا تَبْلَى ثيابه، ولا يَفْنَى شَبابُه، في الجنةِ ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلبِ بَشَرٍ"
(3)
.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ؛ فقرأ ذلك بعضُ المدنيين والبصريين، وبعضُ الكوفيين:{أُخْفِيَ} بضمِّ الألفِ، وفتح الياء
(4)
، بمعنى "فُعِلَ". وقرأ بعضُ الكوفيين:(أُخْفِى لَهُمْ) بضمِّ الألف
(1)
في ت 2: "عرفه"، والمثبت هو الصواب. ينظر تهذيب الكمال 24/ 321.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 110 عن معمر عن قتادة به.
(3)
أخرجه أحمد 14/ 421 (8827)، 15/ 159 (9279)، 15/ 229 (9391)، 16/ 39 (9957)، والحسين المروزى في زيادته على زهد ابن المبارك (1456)، والدارمي (2819)، ومسلم (2836)، وأبو الشيخ في العظمة (607)، من طريق حماد بن سلمة به.
(4)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 516، والبحر المحيط 7/ 202.
وإرسال الياءِ
(1)
، بمعنى "أُفْعِل"؛ أُخْفِى لهم أنا.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان، متقاربتا المعنى؛ لأن الله إذا أخفاه فهو مَخْفِيٌّ، وإذا أُخْفِيَ فليس له مُخْفٍ غيرُه.
و {ما}
(2)
في قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} ؛ فإنها إذا جعلت بمعنى "الذي"، كانت نصبًا بوقوع {تَعْلَمُ} عليها، كيف قرأ القارئ:{أُخْفِيَ} ، وإذا وجِّهت إلى معنى "أي"، كانت رفعًا، إذا قُرِئ {أُخْفِيَ} بنصب الياءِ، وضمِّ الألف، لأنه لم يُسمَّ فاعله، وإذا قرئ:(أُخْفِى) بإرسال الياءِ، كانت نصبًا بوقوع (أُخْفى) عليها.
يقول تعالى ذكره: أفهذا الكافرُ المُكذِّبُ بوعدِ اللهِ ووعيده، المخالفُ أمرَ اللَّهِ ونهيه، كهذا المؤمن بالله، المصدِّق بوعده ووعيده، المطيع له في أمره ونهيه؟ كلا
(3)
، لا يستوون عندَ اللَّهِ. يقولُ: لا يَعتدِلُ الكفار بالله، والمؤمنون به عنده، فيما هو فاعل بهم يوم القيامة.
وقال: {لَا يَسْتَوُونَ} فجمَع، وإنما ذكر قبل ذلك اثنين؛ مؤمنًا، وفاسقا؛ لأنه لم يُرِدْ بالمؤمن مؤمنًا واحدًا، وبالفاسق فاسفًا واحدًا، وإنما أُريد به
(4)
جميعُ
(1)
هي قراءة حمزة والأعمش ويعقوب. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 516. والبحر المحيط 7/ 202.
(2)
في ص، ت 1:"أما".
(3)
في ت 1: "فلا".
(4)
سقط من: ت 1، ت 2.
الفُسَّاقِ، وجميع المؤمنين باللَّهِ. فإذا كان الاثنانِ غير مصمودٍ لهما، ذهَبتْ بهما العرب مذهب الجمع.
وذكر أن هذه الآية نزلت في عليّ بن أبى طالب رضوان الله عليه، والوليد بن عقبة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يَسارٍ، قال: نزَلتْ بالمدينة في عليّ بن أبى طالب، والوليدِ بن عُقبة بن أبى مُعَيْطٍ، كان بين الوليد وبين عليٍّ كلامٌ، فقال الوليدُ بنُ عُقْبَةَ: أنا أبسط منك لسانًا، وأحدٌ منك سنانًا، وأردُّ منك للكتيبة. فقال عليٌّ: اسكتْ، فإنك
(1)
فاسق. فأنزَل الله فيهما: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} إلى قوله: {بِهِ تُكَذِّبُونَ}
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} . قال: لا والله ما استَوَوْا
(3)
في الدنيا، ولا عند الموتِ، ولا في الآخرة
(4)
.
وقوله: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} . يقولُ تعالى ذكره: أما الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله ورسوله، {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى}. يعنى: بساتين [المساكن التي]
(5)
يسكنونها في الآخرة، ويأوون
(1)
في ت 2: "أنت"، والمثبت من مصادر التخريج.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى المصنف وابن إسحاق، وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 105، وابن كثير في تفسيره 6/ 370 مقتصرًا على أوله.
(3)
في ت 2: "استوى".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: ت 1.
إليها.
وقوله: {نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . يقولُ
(1)
: نزلًا أَنزَلهُموها
(2)
؛ جزاءً منه لهم بما كانوا في الدنيا يعملون بطاعته.
وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} . يقول تعالى ذكره: وأما الذين كفروا بالله، وفارقوا طاعته، {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}. يقولُ: فمساكنهم التي يأوون إليها في الآخرةِ النارُ، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ [الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ} ]
(3)
[في الدنيا]
(4)
، {تُكَذِّبُونَ} أن الله أعدّها لأهل الشرك به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا}
(5)
: أشْرَكوا، {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . والقومُ مُكَذِّبون كما ترون
(6)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} .
اختلف أهل التأويل في معنى العذاب الأدنى، الذي وعد اللَّهُ أَن يُذِيقَه هؤلاء
(1)
بعده في م: "بما".
(2)
بعده في ت 1، ت 2:"الله".
(3)
في ت 1: "التي كنتم بها". وهى بعض الآية 42 من سورة النمل.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
بعده في ت 1: "فمأواهم النار".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الفَسَقةَ؛ فقال بعضُهم: ذلك مصائب الدنيا في الأنفسِ والأموال.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . يقولُ: مصائب الدنيا وأسقامها وبلائِها، مما يبتلى الله بها
(1)
العبادَ حتى يتوبوا
(2)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قال: العذاب الأدنى بلاء الدنيا. قيل
(3)
: هي المصائب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن عَزْرة
(4)
، عن الحسن العرني
(5)
، عن ابن أبي ليلى، عن أبيِّ بن كعب:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . قال: المصيبات في الدنيا. قال: والدخانُ قد مضى، والبطشة، واللِّزامِ.
قال أبو موسى: تركُ يحيى بن سعيد، يحيى بنَ الجَزَّارِ
(6)
- نقصان رجلٍ.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عَزْرةَ (4)، عن الحسنِ العُرَنيِّ، عن يحيى
(7)
بن الجزَّار، عن ابن
(1)
في ت 1: "به".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 370، والقرطبي في تفسيره 14/ 107، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ت 1، ت 2:"يقال".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"عروة". وينظر تهذيب الكمال 20/ 51.
(5)
سقط من: ت 1. وفى ت 2: "العربي".
(6)
في ت 1، ت 2:"المحرار".
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"بحر".
أبي ليلى، عن أبيِّ بن كعب، أنه قال في هذه الآية:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: مصيبات الدنيا، واللزوم، والبطشة، أو الدخان. شكَّ شعبةُ في البطشة أو الدخان
(1)
.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عزرة
(2)
، عن الحسن العُرَنى، عن يحيى بن الجَزَّارِ، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب بنحوه، إلا أنه قال: المصيبات، واللُّزومِ، والبطشة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيدُ بنُ حُباب، عن شعبة، عن قتادةً، عن عزرة
(3)
، عن الحسن العُرَني، عن يحيى
(4)
بن الجزَّار، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: المصيباتِ يُصابون بها في الدنيا؛ البَطْشةِ، والدخانِ، واللُّزوم
(5)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . قال: المصائب [في الدنيا
(6)
.
قال: ثنا أبو خالد الأحمرُ، عن جويبر، عن الضحاك:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: المصائب
(7)
في]
(8)
دنياهم وأموالهم
(9)
.
(1)
أخرجه مسلم (2799) عن ابن بشار وابن المثنى به، وأخرجه عبد الله بن أحمد في الزوائد 5/ 128 (ميمنية)، والحاكم 4/ 428، والبيهقى (9821) من طريق شعبة به وعند بعضهم بلفظ "الروم"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى النسائي وأبي عوانة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"عروة": وينظر تهذيب الكمال 20/ 51.
(3)
في م، ت 2:"عروة".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"بحر".
(5)
في ت 1، ت 2:"الردم".
(6)
أخرجه البيهقى في الشعب (9822) من طريق وكيع به مطولًا.
(7)
في م، ت 2:"المصيبات".
(8)
سقط من: ت 2.
(9)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 370. والقرطبي 6/ 107.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، حدثه
(1)
عن الحسن قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . أي: مصيبات
(2)
الدنيا
(3)
.
حدثنا ابن وكيع قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيمَ:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . قال: أشياء يُصابون بها في الدنيا
(4)
.
وقال آخرون: عُنى بها الحدود.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب
(5)
، عن عكرمة، عن ابن عباس:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: الحدود
(6)
.
وقال آخرون: عُنى بها القتل بالسيف. قال: وقُتلوا يوم بدر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبدِ اللهِ:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . قال: يوم بدر
(7)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"حدث".
(2)
في ت 2: "مصائب".
(3)
ينظر تفسير القرطبي 14/ 107، والبغوى 6/ 308.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 522، وأبو نعيم في الحلية 4/ 231 من طريق جرير به.
(5)
في ت 2: "شيب".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا. وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 370، والبغوى 6/ 308.
(7)
تفسير الثورى ص 240. وأخرجه ابن المقرئ في معجمه (742) من طريق عبد الرحمن به. وأخرجه الطبراني (9038) من طريق سفيان به، وأخرجه الحاكم 2/ 414 من طريق سفيان عن الأعمش عن =
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السدى، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن عبدِ اللهِ مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن السُّديِّ، عن مسروق، عن عبدِ اللهِ مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوفٌ عمَّن حدثه، عن الحسن بن علي، أنه قال:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: القتل بالسيف صبرًا
(1)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: القتل بالسيف، كلُّ شيءٍ وعَد الله هذه الأمةَ مِن العذاب الأدنى، إنما هو السيف
(2)
.
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: القتل والجوع لقريش في الدنيا
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: كان مجاهدٌ
= أبى الضحى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى الفريابي وابن منيع وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب والبيهقي في الدلائل.
(1)
ينظر تفسير القرطبي 14/ 107. ولفظه هو: "القتل بالسيف يوم بدر". وفيه عن "الحسين". بدلًا من "الحسن".
(2)
ينظر تفسير القرطبي 14/ 107.
(3)
تفسير مجاهد ص 545. وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 107. وعزاه السيوطي في الدر المنثور =
يحدِّثُ عن أُبيِّ بن كعب، أنه كان يقولُ:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} : [يوم بدر]
(1)
(2)
.
وقال آخرون: عُنى بذلك سنونَ أصابتهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، [قال: ثنا سفيان، عن منصور] (1)، عن إبراهيمَ:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: سِنونَ أصابتهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
وقال آخرون: عُنى بذلك عذاب القبر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيدُ
(3)
اللهِ، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: الأدْنى؛ في القبورِ، وعذاب الدنيا
(4)
.
وقال آخرون: ذلك عذاب الدنيا.
= 5/ 178 إلى الفريابي.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 110 عن معمر عن قتادة قال، قال أبي بن كعب.
(3)
في ت 1: "عبد".
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 107، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 370.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} . [قال: العذاب الأدنى]
(1)
عذاب الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك أن يُقال: إن الله وعَد هؤلاء الفسقة المكذبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى؛ أن يُذِيقَهموه دونَ العذاب الأكبر. والعذابُ: هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم؛ إما شدة من مجاعة، أو قتل، أو مصائب يُصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى. ولم يخصص الله تعالى ذكره، إذ وعدهم ذلك، أن يعذِّبَهم
(2)
بنوعٍ من ذلك [دون نوع]
(3)
، وقد عذَّبَهم بكلِّ ذلك في الدنيا؛ بالقتل، والجوع، والشدائد، والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم.
وقوله: {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . يَقُولُ: قبل العذابِ الأكبر، وذلك عذاب يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبدِ اللَّهِ:{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . قال: يومَ القيامة
(4)
.
(1)
بعده في ت 1: "دون العذاب الأكبر".
(2)
في ت 2: "يعدهم".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى المصنف والفريابي وابن منيع وابن المنذر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن السديِّ، عن مسروق، عن عبدِ اللهِ مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} : يوم القيامة في الآخرة
(1)
.
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثنا عبيد
(2)
الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد:{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} : يومَ القيامةِ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} : يومَ القيامة، حدَّث به قتادةُ، عن الحسن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} . [قال: العذاب الأكبرُ]
(3)
: عذاب الآخرة
(4)
.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . يقولُ: كى يرجعوا ويتوبوا بتعذيبهم
(5)
العذاب الأدنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
تفسير مجاهد ص 545، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى الفريابي.
(2)
في ت 2: "عبد".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
ينظر التبيان 8/ 277.
(5)
في ص، ت 2:"يعذبهم".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قال: يَتُوبون
(1)
.
حدثنا ابن وكيعٍ، قال ثنا: أبي، عن أبي جعفر الرازي، [عن الربيع]
(2)
، عن أبي العالية:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قال: يتُوبون (1).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . أي: يتوبون (1).
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)} .
يقول تعالى ذكره: وأيُّ الناسِ أظلم لنفسه ممن وعظه الله بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كلّه، فلم يتَّعظ بمواعظه، ولكنه استكبر عنها.
وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . يقولُ: إنا من
(3)
الذين اكتسبوا الآثام، واجترحوا السيئات - منتقمون.
وكان بعضُهم يقولُ: عُنِي بالمجرمين في هذا الموضع أهلُ القدَرِ.
(1)
أخرجه الطبراني (9038) من طريق سفيان بمعناه مطولًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى الفريابي وابن منيع وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والخطيب والبيهقى في الدلائل.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
بعده في ت 2: "المجرمين".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يعقوب [بن إبراهيم]
(1)
، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: أخبرنا وائل بن داودَ، عن مَرْوانَ بن سفيحٍ، [عن يزيد بن رُفَيْعٍ، قال: إن قولَ اللهِ في القرآنِ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . هم أصحابُ القدَرِ. ثم قرأ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} إلى قوله: {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
(2)
[القمر: 47 - 49].
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا مروان، قال: أخبرنا [وائل بن داودَ، عن ابن]
(3)
سفيح]
(4)
، عن يزيد بن رفيع بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: ثم قرأ وائل بن داود هؤلاء الآيات: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] إلى آخر الآياتِ.
وقال آخرون في ذلك، بما حدثني به عمران بنُ بَكَّارٍ الكلاعيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ المبارك، قال: ثنا إسماعيل بن عياش
(5)
، قال: ثنا عبد العزيز بنُ عبيدِ
(6)
اللهِ، عن عُبادةَ بن نُسَيٍّ، عن جُنادةَ بن أبي أُمَيَّةَ، عن معاذ بن جبل، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثَلاثٌ مَن فعَلهن فقد أجرَم؛ مَنِ اعتقد لواءً في غير حقٍّ، أو عقَّ والديه، أو مشى مع ظالمٍ ينصره فقد أجرم، يقولُ اللَّهُ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} "
(7)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ
(1)
سقط من ص، ت 1.
(2)
ينظر البحر المحيط 7/ 204.
(3)
غير واضح في ص.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في ت 2: "عباس".
(6)
في ت 1: "عبد".
(7)
أخرجه الطبراني 20/ 61 (112) من طريق إسماعيل بن عياش به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى ابن منيع وابن أبي حاتم وابن مردويه.
لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)}.
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى التوراة، كما آتيناك الفرقان [يا محمد]
(1)
، {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}. يقولُ: فلا تكن في شكٍّ [من لقائه، فكان قتادة [يقولُ: معنى ذلك]
(2)
: فلا تكن في شكٍّ]
(3)
من أنك لقيته، أو تلقاه ليلةَ أُسرى بك، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن أبي العالية الرِّياحيِّ، قال: حدثنا ابن عمِّ نبيِّكم - يعنى ابن عباسٍ - قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ ليلةَ أُسرى بي موسى بن عمران رجلا آدَمَ طُوَالًا جَعْدًا، كأَنه مِن رجالِ شَنُوءَةً، ورأيتُ عيسى رجلًا مَرْبُوعَ الخَلْقِ، إلى الحُمْرَةِ والبَياضِ، سَبْطَ الرأْسِ، ورأَيْتُ مالِكًا خَازِنَ النارِ، والدَّجَّالَ". في آياتٍ أراهنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} أنه قد رأى موسى، ولقى موسى ليلةَ أُسرى به
(4)
.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} . [يقول تعالى ذكره: وجعلنا موسى هدى لبنى إسرائيل](1). يعنى: رشادًا لهم يرشدون باتِّباعه، ويُصيبون الحقَّ بالاقتداء به، والائتمام
(5)
بقوله.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
في ت 2: "معناه".
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
أخرجه البخاري (3239)، والطبراني (12749) من طريق يزيد بن زريع به. وأخرجه عبد بن حميد، وعنه مسلم (165)، والبيهقى في الدلائل 2/ 386، من طريق قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 178 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5)
في ت 1: "الائتمار".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: جعَل الله موسى هدًى لبنى إسرائيل
(1)
.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} . يقول تعالى ذكره: وجعلنا من بنى إسرائيل أئمة. وهى: جمعُ إمام، والإمام الذي يُؤتم به في خير أو شر، وأريد بذلك هذا الموضع أنه جعل منهم قادةً في الخيرِ، يُؤتم بهم، ويُهْتَدى بهديهم
(2)
.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} . قال: رؤساء في الخيرِ
(3)
.
وقوله: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} . يقول تعالى ذكره: يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك، وتقويَتِنا إياهم عليه.
وقوله: {لَمَّا صَبَرُوا} . اختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأةِ المدينة والبصرة، وبعضُ أهل الكوفة:{لَمَّا صَبَرُوا} . بفتح اللام وتشديد الميم
(4)
. بمعنى: إذ صبروا، وحين صبروا.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (لِما) بكسر اللام وتخفيف الميم
(5)
. بمعنى: لصبرهم
(6)
عن الدنيا وشهواتها، واجتهادهم في طاعتنا، والعمل بأمرنا. وذُكرَ أن
(1)
جزء من الحديث المتقدم ص 636 ح 4.
(2)
في ت 1: "بهم".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 277، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 179 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. السبعة ص 516.
(5)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(6)
في ت 2: "بصبرهم".
ذلك في قراءة ابن مسعودٍ: (بما صبروا)
(1)
. و "ما" إذا كُسرت اللام [من (لِمَا) في موضع خفضٍ، وإذا فتحت اللام]
(2)
وشدّدت الميم، فلا موضع لها؛ لأنها حينئذٍ أداة.
والقولُ عندى في ذلك: أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما عامةٌ من القرأة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
وتأويل الكلام [إذا قُرِئ]
(2)
ذلك بفتح اللام وتشديد الميم: وجعلنا منهم أئمةً يهدون أتباعهم
(3)
بإذننا إياهم، [وتقويتنا إياهم]
(4)
على الهداية، إذ صبروا على طاعتنا، وعزفوا
(5)
أنفسهم عن لَذَّاتِ الدنيا وشهواتها، وإذا قُرِئ
(6)
بكسر اللام على ما قد
(7)
وصفنا.
وقد حدثنا ابن وكيع، قال: قال أبي: سمعنا
(8)
في: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} . قال: عن الدنيا
(9)
.
وقوله: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . يقولُ: وكانوا أهلَ يقين بما دلَّهم عليه حججنا
(10)
، وأهل تصديق بما تبين لهم من الحق، وإيمانٍ برسلنا، وآيات كتابنا
(11)
(1)
ينظر البحر المحيط 7/ 205.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ت 2: "أتباعنا".
(4)
في ت 1، ت 2:"تقويتناهم".
(5)
في ت 1: "صرفوا".
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"قرئت".
(7)
سقط من: ت 1، ت 2.
(8)
في ت 2: "سمعان".
(9)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 372 عن سفيان به.
(10)
في ت 2: "بحججنا".
(11)
في ص، ت 1، ت 2:"كتبنا".
وتنزيلنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)} .
يقول تعالى ذكره: إن ربَّك، يا محمد هو يبيِّن
(1)
جميع خلقه
(2)
يوم القيامةِ فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون؛ من أمور الدين والبعث والثواب والعقاب، وغير ذلك من أسباب دينهم، فيَفْرِقُ بينَهم بقضاءٍ فاصلٍ؛ بإيجابه لأهل الحق الجنةَ، ولأهل الباطل النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} .
يقول تعالى ذكره: أولم يُبين لهم؟!
كما حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} . يقولُ: أولم يُبين لهم.
وعلى القراءة بالياء في ذلك قرأة الأمصار، وكذلك القراءة عندنا؛ لإجماع الحجة من القرأة، بمعنى: أولم يُبَيِّن لهم إهلا كُنا القرون الخالية من قبلهم سنتنا فيمن سلك [سبيلهم من]
(3)
الكفر بآياتنا، فيتَّعظوا وينزجروا.
وقوله: {كَمْ} . إذا قرئ: {يَهْدِ} . بالياء: في موضع رفع بـ "يَهْدِ". وأما إذا قُرِئ ذلك بالنونِ: (أَوَلَمْ نَهْدِ)
(4)
. فإنَّ موضع "كم" وما بعدها نصبٌ.
(1)
في ص: "س"، وفى ت 1:"بين".
(2)
بعده في ت 1: "يفصل".
(3)
في ت 2: "سبيل".
(4)
هي قراءة ابن عباس والسلمى. البحر المحيط 6/ 288.
وقوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} . يقول تعالى ذكره: أولم يُبَيِّن لهم كثرةُ إهلاكنا القرون الماضية من قبلهم يمشون في بلادهم وأرضهم، كعادٍ وثمودَ.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} . عادًا وثمود، وأنهم إليهم لا يرجعون
(1)
.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} . يقول تعالى ذكره: إن في خَلاء مساكن القرونِ الذين أهلكناهم من قبل هؤلاء المكذبين بآياتِ اللَّهِ مِن قُريش، من أهلها الذين كانوا سكانها وعُمَّارَها، بإهلاكنا إياهم لما كذَّبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا
(2)
، وعبدوا
(3)
من دونِ اللهِ آلهة غيره، التي يمرون بها فيعاينونها
(4)
- لآيات لهم
(5)
، وعظات يتَّعظون بها، لو كانوا أولى حِجا وعقولٍ. يقولُ اللَّهُ:{أَفَلَا يَسْمَعُونَ} عظاتِ اللهِ، وتذكيره
(6)
إياهم آياته، وتعريفهم مواضِعَ
(7)
حُجَجه؟!
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)} .
يقول تعالى ذكره: أولم ير هؤلاء المكذِّبون بالبعث بعد الموت، والنشر بعد الفناء، أنا بقدرتنا نسوقُ الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة، التي لا نبات فيها. وأصله
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 418.
(2)
في ت 1: "آياتنا".
(3)
في ت 1: "عدوا".
(4)
في ت 1: "فيعاينوها".
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
في ت 1، ت 2:"تذكره".
(7)
في ت 1: "مواعظ صنع الله".
من قولهم: ناقةٌ جرزٌ
(1)
: إذا كانت تأكل كلّ شيءٍ. وكذلك الأرضُ الجروزُ: التي لا يبقى على ظهرها شيءٌ إلا أفسدته، نظير أكل
(2)
الناقة الجرازِ [كلَّ ما]
(3)
وجدته. ومنه قولهم
(4)
للإنسان
(5)
الأكول: جَرُوزٌ. كما قال الراجز:
* خبٌّ
(6)
جَرُوزٌ وَإِذَا ....
(7)
*
ومنه قيل للسيفِ إذا كان لا يُبقى شيئًا إلا قطعه: سيفٌ جُرَازٌ. وفيه لغاتٌ أربعُ: أرضٌ جُرُزٌ، و
(8)
جَرْزٌ، وجَرَزٌ وجُرزٌ، والفتح لبنى تميمٍ فيما بلغنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عباس:{الْأَرْضِ الْجُرُزِ} : أرض باليمن
(9)
.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان بن عيينةً، عن عمرو
(1)
في ت 1: "جراز"، وفى ت 2:"جرزا".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ت 1، ت 2:"كلما".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"قول".
(5)
في ت 1، ت 2:"الإنسان".
(6)
في ت 1: "حب"، وفى ت 2:"وحب".
(7)
البيت في ديوان الشماخ 380، 381 برواية، خب جبان. وعليه فلا شاهد فيه. أما رواية: خب جروز. فذكرها صاحب اللسان في (ج ر ز)، والقرطبي في تفسيره 14/ 111.
(8)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"أرض".
(9)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 309، والقرطبي في تفسيره 14/ 110. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 179 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ابن دينار، عن ابن عباس، قال: أرض باليمن.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} . قال: أَبْيَنَ ونحوها
(1)
.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا عبد الرزاق بن عمر، عن ابن المبارك، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: ونحوها من الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح
(2)
، عن رجلٍ، عن ابن عباس في قوله:{إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} . قال: الجُرُزُ: التي لا تمطر إلا مطرا لا يُغنى عنها شيئًا، إلا ما يأتيها من السيول
(3)
.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاك:{إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} : ليس فيها نبتٌ
(4)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} : المُغْبَرَّةِ
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 110 عن معمر به بنحوه.
(2)
بعده في ت 1، ت 2:"عن مجاهد".
(3)
تفسير مجاهد ص 545، عن ابن أبي نجيح عمن حدثه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 179 إلى الفريابي وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 374، وينظر تفسير القرطبي 14/ 110.
(5)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 374.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} . قال: الأرضُ الجُرُزُ: التي ليس فيها شيء؛ ليس فيها نباتٌ. وفى قوله: {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]. قال: ليس عليها شيء، وليس فيها نبات ولا شيء
(1)
.
{فَنُخْرِجُ
(2)
بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ}. يقول تعالى ذكره: فتخرج
(2)
بذلك الماء الذي نسوقه إليها، على يُبْسِها وغِلَظها، وطول عهدِها بالماء، زرعًا خَضِرًا تأكل منه مواشيهم، وتتغذَّى به أبدانهم وأجسامهم، فيعيشون به، {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}. يقول تعالى ذكره: أفلا يرون ذلك بأعينهم، فيعلموا برؤيتهموه
(3)
أن القدرة التي بها فعَلتُ ذلك، لا يتعذَّرُ عليَّ أن أحيى بها الأموات، وأَنْشِرَهم من قبورهم، وأعيدهم بهيئاتهم
(4)
التي كانوا بها قبل وفاتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)} .
يقول تعالى ذكره: ويقولُ
(5)
هؤلاء المشركون بالله [لك، يا محمد]
(6)
واختلف
(7)
في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: متى يجيءُ هذا
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 374.
(2)
في ت 2: "فيخرج".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
في ت 1: "كهيئتهم". وفى ت 2: "كهيئاتهم".
(5)
في م، ت 2:"يقولون".
(6)
في ص، م، ت 2:"يا محمد لك".
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"فاختلف".
الحكم بيننا وبينكم، ومتى يكون هذا الثواب والعقاب
(1)
؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال: قال أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن لنا يومًا أوشك أن نستريح فيه، وننعم فيه. فقال المشركون:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك فتح مكة.
والصوابُ من القول في ذلك: قولُ مَن قال: معناه: ويقولون متى يجيءُ هذا الحكم بيننا وبينكم؟ يعنون العذاب. يدلُّ على أن ذلك معناه قوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} . ولا شك أن الكفار قد
(3)
جعل الله التوبة قبل فتح مكة وبعده، ولو كان معنى قوله:{مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} على ما قاله من قال: يعني به فتح مكة - لكان لا توبةَ لمن أسلم من المشركين بعد فتح مكة، [ولا شك أن الله قد تاب على بشَرٍ كثيرٍ من المشركين بعد فتح مكة]
(4)
، ونفعهم بالإيمان به وبرسوله؛ فمعلومٌ بذلك صحة ما قلنا من التأويل وفساد ما خالفه. وقوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . يعني: إن كنتم صادقين في
(5)
الذي تقولون من أنَّا معاقبون على تكذيبنا محمدًا، وعبادتنا الآلهة والأوثان.
(1)
في ت 2: "العذاب".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 179 إلى المصنف وابن أبي حاتم. وذكره البغوي في تفسيره 6/ 310.
(3)
بعده في ص، م، ت 1:"كان".
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"أن".
وقوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ [لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ]
(1)
}. يقولُ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم يوم الحكم ومجيء العذابِ: لا ينفعُ مَن كفر بالله وبآياته إيمانهم الذي يُحدِثونه في ذلك الوقتِ.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} . قال: يوم الفتح، إذا جاء العذاب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{يَوْمَ الْفَتْحِ} : يومَ القيامة
(2)
.
ونُصِب اليوم في قوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} . ردًّا على "متى"، وذلك أن "متى" في موضع نصب. ومعنى الكلام: أنَّى حين هذا الفتح إن كنتم صادقين؟! ثم قيل: يوم كذا وبه قرأ القرأة.
وقوله: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} . يقولُ: ولا هم يُؤخَّرون للتوبة والمراجعة.
وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} . يقولُ لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَأَعْرِضْ} يا محمد عن هؤلاء المشركين بالله، القائلين لك: متى هذا الفتح؟ المستعجليك بالعذاب، {وَانْتَظِرْ} ما الله صانع بهم، {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}. يقولُ: إن المشركين منتظرون
(3)
ما تعِدُهم
(4)
من العذاب ومجيء الساعة.
(1)
سقط من: ص، م، ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 179 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره الطوسي في التبيان 8/ 280، والقرطبي في تفسيره 14/ 111.
(3)
في ت 2: "ينتظرون".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"يعدهم".
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} . يعنى: يومَ القيامةِ
(1)
.
[آخرُ تفسيرِ سورةِ السجدةِ، وللهِ الحمدُ والمنةُ]
(2)
.
(1)
جزء من حديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 179 إلى المصنف وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص: "تمت سورة السجدة والحمد لله رب العالمين يتلوه سورة الأحزاب وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم. وفى ت 1: "هو الله سبحانه وتعالى أعلم آخر تفسير سورة السجدة والحمد لله وحده وصلاته وسلامه على محمد عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأهل بيته وسلم. يتلوه تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم وهو حسبنا وحده.